اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

ويكون : «يخرجون» ابتداء كلام ، وعن الثالث (١) أنه لا منافاة بين القراءتين وخاشعا نصب على الحال أو على أنه مفعول يدعو كأنه يقول : يدعو الداعي قوما خاشعا (٢) أبصارهم.

(والخشوع) (٣) السكون كما قال تعالى : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ) [طه : ١٠٨] ، وخشوع الأبصار سكونها على حال لا تتلفّت يمنة ولا يسرة كما قال تعالى : (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ)(٤) [إبراهيم : ٤٣]. وقيل : خاشعة أي ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب.

قوله : (يخرجون) يجوز أن يكون حالا من الضمير في : (أبصارهم) وأن يكون مستأنفا. والأجداث القبور وقد تقدم في يس.

وقوله : (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ) هذه الجملة يجوز أن تكون حالا من فاعل «يخرجون» أو مستأنفة. ومثلهم بالجراد المنتشر في الكثرة والتّموج. وقيل : معنى منتشر أي منبث حيارى (٥).

ونظيره قوله تعالى : (كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) [القارعة : ٤]. والمعنى : أنهم يخرجون فزعين لا جهة لأحد منهم يقصدها كالجراد ولا جهة تكون مختلطة بعضها في بعض (٦) ، وذكر المنتشر على لفظ الجراد (٧).

قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يقال : المنتشر مطاوع نشره إذا أحياه ، قال تعالى : (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) [الروم : ٢٠] فكأنهم جراد متحرك من الأرض (و) يدب إشارة إلى كيفية خروجهم من الأجداث وضعفهم (٨).

وقال القرطبي : قوله (تعالى) (٩) : (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى) الداعي وقال في موضع آخر : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) فهما صفتان في وقتين مختلفين أحدهما عند الخروج من القبور يخرجون فزعين لا يهتدون (إلى) (١٠) أين يتجهون فيدخل بعضهم في بعض فهم حينئذ كالفراش المبثوث بعضهم في بعض لا جهة له يقصدها فإذا سمعوا المنادي قصدوه فصاروا كالجراد المنتشر ، لأن الجراد المنتشر لها جهة يقصدها (١١).

قوله : «مهطعين» حال أيضا من اسم كان ، أو من فاعل «يخرجون» عند من يرى تعدّد الحال. قال أبو البقاء : و «مهطعين» حال من الضمير في «منتشر» عند قوم ، وهو

__________________

(١) في (ب) الثاني.

(٢) في الرازي : خاشعة.

(٣) سقط من (أ).

(٤) وانظر هذا كله في الرازي ١٥ / ٣٥ و ٣٤.

(٥) وهو رأي البغوي ٦ / ٢٧٤.

(٦) البغوي السابق والقرطبي ١٧ / ١٣٠.

(٧) في الكثرة والتموج.

(٨) تفسير الرازي ١٥ / ٣٥.

(٩) زيادة من (أ).

(١٠) زيادة من النسختين عن القرطبي.

(١١) قاله في الجامع له ١٧ / ١٣٠ المرجع السابق.

٢٤١

بعيد ؛ لأن الضمير في منتشر للجراد وإنما هو حال من فاعل «يخرجون» أو من الضمير المحذوف. انتهى (١).

وهو اعتراض حسن على هذا القول.

والإهطاع الإسراع وأنشد :

٤٥٩٠ ـ بدجلة دارهم ولقد أراهم

بدجلة مهطعين إلى السّماع (٢)

وقيل : الإسراع مع مد العنق. وقيل : النظر. قاله ابن عباس وأنشدوا (ـ رحمة الله على (٣) من قال ـ) :

٤٥٩١ ـ تعبّدني نمر بن سعد وقد أرى

ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع (٤)

وقد تقدم الكلام على هذه المادة في سورة إبراهيم (٥).

قال الضحاك : مضلين. وقال قتادة : عامدين. وقال عكرمة : فاتحين آذانهم إلى المصوت(٦).

قوله : (يَقُولُ الْكافِرُونَ) قال أبو البقاء : حال من الضمير في «مهطعين» (٧).

وفيه نظر من حيث خلوّ الجملة من رابط يربطها بذي الحال ، وقد يجاب بأن الكافرين هم الضمير في المعنى فيكون من باب الربط بالاسم الظاهر عند من يرى ذلك (٨) كأنه قيل : يقولون هذا. وإنما أبرزهم تشنيعا عليهم بهذه الصفة القبيحة.

وقولهم : (هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) أي صعب شديد.

قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤)

__________________

(١) التبيان ١١٩٣.

(٢) من الوافر ولم أقف على قائله وفي اللسان : «أهلها» بدل «دارهم». واستشهد به على الإهطاع بمعنى الإسراع. وانظر القرطبي ١٧ / ١٣٠ والبحر ٨ / ١٧٦ ، واللسان «هطع» ٤٧٦٤.

(٣) زيادة من (أ).

(٤) من الطويل لتبّع. والشاهد : أن الإهطاع بمعنى الإسراع مع مدّ العنق وتصويب الرأس. وانظر اللّسان السابق «هطع» والبحر ٨ / ١٧٦ ، والقرطبي ١٧ / ١٣٠ ، والكشاف ٤ / ٣٧ ، وشرح شواهده ٤٥٤ ، والدر المنثور ٢٧ / ٢٦٤ ، وروح المعاني ٢٧ / ٨١.

(٥) عند قوله : «مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ» ٤٣. ومعناه أقبل ببصره على الشيء فلم يرفعه عنه وهطع وأهطع أقبل مسرعا خائفا ، ولا يكون إلا مع خوف. وانظر اللسان «هطع» ٤٦٧٤.

(٦) الجامع ١٧ / ١٣٠.

(٧) التبيان : ١١٩٣.

(٨) رجعت إلى كتب النحو بما فيهم المغني فلم أجد رابطا من روابط الجملة الخبرية أو الحالية اسما ظاهرا وانظر المغني ٤٩٨ : ٥٠٣ و ٥٠٥.

٢٤٢

وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)(١٧)

قوله : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) مفعوله محذوف أي كذبت الرّسل (١) ؛ لأنهم لما كذبوا نوحا فقد كذبوا جميع الرسل. ولا يجوز أن تكون المسألة من باب التنازع ؛ إذ لو كانت منه لكان التقدير: كذبت قبلهم قوم نوح عبدنا فكذبوه ولو لفظ بهذا لكان تأكيدا ؛ إذ لم يفد غير الأول ، وشرط التنازع أن لا يكون الثاني تأكيدا ، ولذلك منعوا أن يكون قوله :

٤٥٩٢ ـ ..........

أتاك أتاك اللّاحقون احبس احبس (٢)

من ذلك.

وفي كلام الزمخشري ما يجوزه ، فإنه أخرجه عن التأكيد ، فقال : فإن قلت : ما معنى قوله «فكذّبوا» بعد قوله : «كذّبت»؟

قلت : معناه كذبوا فكذبوا عبدنا أي كذبوا تكذيبا عقب (٣) تكذيب كلما مضى منهم قرن مكذّب تبعه قرن مكذّب (٤). هذا معنى حسن يسوغ معه التنازع (٥).

فصل

لما فرغ من حكاية كلام الكافر ، ومن ذكر علامات الساعة أعاد ذكر بعض الأنبياء فقال: كذبت قبلهم قوم نوح أي قبل أهل مكة. واعلم أن إلحاق ضمير المؤنث بالفعل قبل ذكر الفاعل جائز وحسن بالاتفاق وإلحاق ضمير الجمع بالفعل قبيح عند أكثرهم ، فلا يجوزون : كذّبوا قوم نوح ويجوزون : كذّبت فما الفرق؟

__________________

(١) قاله أبو حيان في البحر ٨ / ١٧٦.

(٢) عجز بيت من الطويل مجهول قائله ، وصدره :

فأين إلى أين النّجاء ببغلة

 ..........

والفاء للعطف ، و «أين» للاستفهام متعلق بمحذوف ، أي فأين تذهب والنّجاء بالمد الإسراع وهو مبتدأ وخبره : إلى أين مقدما. والشاهد في : أتاك أتاك اللاحقون فإنهما عاملان في اللفظ ولكن الثاني منهما لا يقتضي إلا التأكيد ، إذ لو كان عاملا لقيل : أتوك أتاك ، أو أتاك أتوك. وهذا البيت يشبه في عدم التنازع قوله :

 ..........

كفاني ولم أطلب قليل من المال

فإن الثاني لم يطلب «قليل» ؛ إذ المراد كفاني قليل من المال ، وانظر حاشية الصبان على الأشموني ٢ / ٩٨ والتصريح ١ / ٣١٨ والهمع ٢ / ١١١ و ١٢٥ والدرر ٢ / ١٤٥ و ١٩٨ وشرح الشواهد على الأشموني ٢ / ٩٨ وأمالي الشجري ١ / ٢٤٣.

(٣) في الكشاف : على عقب.

(٤) قال : أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا أي لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوة رأسا كذبوا نوحا ، لأنه من جملة الرسل.

(٥) حيث قال : كذبوا فكذبوا عبدنا.

٢٤٣

قال ابن الخطيب : لأن التأنيث قبل الجمع ، لأن الأنوثة والذكورة للفاعل أمر لا يتبدل ، ولم تحصل الأنوثة للفاعل بسبب فعله بخلاف الجمع ، لأن الجمع للفاعلين بسبب فعلهم.

فإن قيل : ما الفائدة في قوله تعالى : (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) بعد قوله : «كذّبت»؟

قال ابن الخطيب : الجواب عنه من وجوه :

الأول : أن قوله (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ) أي بآياته فكذب هؤلاء عبدنا بآية الانشقاق فكذّبوك.

الثاني : كذبت قوم نوح المرسلين وقالوا لم يبعث الله رسولا وكذبوهم في التوحيد فكذبوا عبدنا كما كذبوا غيره ؛ وذلك لأن قوم نوح كانوا مشركين يعبدون الأصنام ومن يعبد الأصنام يكذب كلّ رسول ، وينكر الرسالة ، لأنّه يقول : لا تعلق لله بالعالم السّفليّ ، وإنما أمره إلى الكواكب فكان مذهبهم التكذيب فكذّبوك.

الثالث : أن قوله تعالى : (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) للتصديق والرد عليهم تقديره : كذبت قوم نوح فكان تكذيبهم تكذيب عبدنا أي لم يكن تكذيبا بحق.

فإن قيل : لو قال : فكذبوا رسولنا كان أدلّ على قبح فعلهم فما الفائدة في اختيار لفظ العبد؟

فالجواب : أن قوله : عبدنا أدلّ في صدقه وقبح تكذيبهم من قوله : «رسولنا» ؛ لأن العبد أخوف وأقلّ تحريفا لكلام السيّد من الرسول فيكون كقوله : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ)(١) [الحاقة : ٤٤ ـ ٤٦].

قوله : (وَقالُوا مَجْنُونٌ) مجنون خبر ابتداء مضمر أي هو مجنون ، وهذا إشارة إلى أنه أتى بالآيات الدالة على صدقه حيث رأوا ما عجزوا عنه ، وقالوا مصاب الجن أو زيادة بيان لقبح صنيعهم حيث لم يقنعوا (٢) بتكذيبهم بل قالوا : مجنون أي تقوّل ما لا يقبله عاقل والكاذب العاقل يقول ما يظن به صدقه ، فيكون قولهم : مجنون مبالغة في التّكذيب (٣).

قوله : (وَازْدُجِرَ) الدال في «ازدجر» بدل من تاء لما تقدّم.

وهل هو من مقولهم أي قالوا إنه ازدجر أي ازدجرته الجنّ وذهبت بلبّه ـ قاله مجاهد ـ أو هو من كلام الله تعالى أخبر عنه بأنه انتهر وزجر بالسبّ وأنواع الأذى؟ وقالوا (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ). قال ابن الخطيب : وهذا أصح ؛ لأن المقصود تقوية قلب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بذكر من تقدمه ، وأيضا ترتب عليه قوله تعالى : (فَدَعا رَبَّهُ) ، وهذا الترتب في غاية

__________________

(١) وانظر تفسير الإمام ١٥ / ٣٥ و ٣٦.

(٢) كذا في الرازي وفي (أ) وفي (ب) ينتفعوا.

(٣) الرازي المرجع السابق.

٢٤٤

الحسن ، لأنهم لمّا زجروه وانزجر هو عن دعائهم دعا ربه أنّي مغلوب (١).

قوله : (أَنِّي مَغْلُوبٌ) العامة على فتح الهمزة ؛ أي دعا بأنّي مغلوب ، وجاء بهذا على حكاية المعنى ولو جاء على حكاية اللفظ لقال : إنّي مغلوب وهما جائزان.

وعن ابن أبي إسحاق والأعمش ـ ورويت عن عاصم (٢) ـ بالكسر إما على إضمار القول(٣) ، أي فقال فسّر به الدعاء ، وهو مذهب البصريّين ، وإما إجراء للدعاء مجرى القول. وهو مذهب الكوفيين (٤).

فصل

في معنى مغلوب وجوه :

أحدها : غلبني الكفار فانتصر لي منهم.

ثانيها : غلبتني نفسي وحملتني على الدعاء عليهم ، فانتصر لي من نفسي. قاله ابن عطية. وهو ضعيف (٥).

ثالثها : أن يقال : إنّ النبي لا يدعو على قومه ما دام في نفسه احتمال وحلم ، واحتمال نفسه يمتد ما دام الإيمان منهم محتملا ، ثم إنّ يأسه يحصل والاحتمال والحلم يفر الناس (٦) مدة بدليل قوله لمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) [الشعراء : ٣] (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨] وقال لنوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) [هود : ٣٧] و [المؤمنون : ٢٧] فقال نوح : يا إلهي إن نفسي غلبتني وقد أمرتني بالدّعاء عليهم فأهلكتهم فيكون معناه مغلوب بحكم البشرية أي غلبت وعيل صبري فانتصر لي منهم لا من نفسي.

قال ابن الخطيب : وهذا الوجه مركّب من الوجهين. وهو أحسنهما.

وقوله : (فَانْتَصِرْ) أي فانتصر لي أو لنفسك ، فإنهم كفروا بك ، أو انتصر للحقّ (٧).

قوله : (ففتحنا) تقدم الخلاف في فتحنا في الأنعام (٨). والمراد من الفتح والأبواب والسماء حقائقها وأن للسماء أبواب تفتح وتغلق.

__________________

(١) السابق أيضا وانظر البغوي ٦ / ٢٧٤ والقرطبي ١٧ / ١٣١.

(٢) ولم ترو عنه في المتواتر ، وهي قراءة شاذة ذكرها صاحب البحر ٨ / ١٧٦ ، وصاحب الكشاف ٤ / ٣٧.

(٣) قاله الزمخشري وأبو حيان في مرجعيهما السابقين.

(٤) وقال بهذه التوجيهات ناقلا رأي البصرة والكوفة أبو حيان في بحره السابق.

(٥) لما فيه من الضعف والخور من نبيّ كنوح ـ عليه‌السلام ـ. وانظر رأي ابن عطيّة في الرازي ١٥ / ٣٧.

(٦) كذا في النسختين وفي الرازي : والاحتمال يفر بعد اليأس بمدّة.

(٧) وانظر كل هذا في تفسير الإمام الفخر الرازي ١٥ / ٣٧.

(٨) من الآية ٤٤ من الأنعام «فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ». فقد قرأ ابن عامر وأبو جعفر والأعرج ويعقوب «فتّحنا» والجمهور مخففا وعلى كلتا القراءتين فهما متواترتان.

٢٤٥

قال علي ـ رضي الله عنه ـ : هي المجرّة وهي شرع السماء ومنها فتحت بماء منهمر. وقيل: هذا على سبيل الاستعارة ؛ فإن الظاهر أن الماء كان من السحاب فهو كقول القائل في المطر الوابل : «جرت ميازيب السّماء».

وفي قوله : «ففتحنا» بيان بأن الله انتصر منهم ، وانتقم بماء لا بجند أنزله ومن العجب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين ، فأهلكهم الله بمطلوبهم (١).

قوله : (بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) في الباء وجهان :

أظهرهما : أنها للتعدية ، ويكون ذلك على المبالغة في أنه جعل الماء كالآلة المفتتح بها ، كما تقول فتحت بالمفاتيح (٢).

والثاني : أنها للحال أي فتحناها ملتبسة بهذا الماء (٣) والمنهمر : الغزير النازل بقوة. وأنشد امرؤ القيس :

٤٥٩٣ ـ راح تمريه الصّبا ثمّ انتحى

فيه شؤبوب جنوب منهمر (٤)

واستعير ذلك في قولهم : همر الرّجل في كلامه إذا أكثر الكلام وأسرع ، وفلان يهامر الشيء أي يحرفه ، وهمّر له من ماله أعطاه بكثرة (٥).

والمنهمر الكثير قاله السّدّيّ (رحمة الله عليه) (٦) قال الشاعر :

٤٥٩٤ ـ أعينيّ جودا بالدّموع الهوامر

على خير باد من معدّ وحاضر (٧)

قال المفسرون : معنى منهمر أي منصب انصبابا شديدا. قال ابن عباس : منهمر من غير سحاب لم ينقطع أربعين يوما. وقيل : ثمان.

قوله : (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ) قرأ عبد الله وأبو حيوة وعاصم ـ في رواية ـ وفجرنا مخففا (٨). والباقون مثقلا.

__________________

(١) الرازي ١٥ / ٣٧ و ٣٨.

(٢) فجعل المقصود وهو الماء مقدما في الوجود على فتح الباب المغلق. وهذا رأي أبي حيان في البحر المحيط ٨ / ١٧٧.

(٣) المرجع السابق.

(٤) من الرمل ونسب لامرىء القيس ولم أجده بديوانه هكذا ، وإنما ما به :

وللسّوط فيها مجال كما

تنزل ذو برد منهمر

وراح أي عاد في الرّواح كأن المطر كان في أول النهار ثم عاد في آخره. و «تمريه» تستدره وأصله من مري الضّرع وهو مسحه فيدر ، والشّؤبوب الدّفعة من المطر. وانظر القرطبي ١٧ / ١٣٢ ، والبحر ٨ / ١٧٢ ، وفتح القدير ٥ / ١٢٢ ، والطبري ٢٧ / ٥٤ ، والديوان ١٦٦ ، ومجمع البيان ٩ / ٢٨٥.

(٥) وانظر اللسان «همر» ٤٦٩٧.

(٦) زيادة من (أ). وانظر القرطبي ١٧ / ١٣١.

(٧) من الطويل وهو مجهول قائله والهوامر الكثيرة وهو محل الشاهد. وانظر البحر ٨ / ١٧٧ والقرطبي ١٧ / ١٣١ وفتح القدير ٥ / ١٢٣ وروح المعاني ٢٧ / ٨١.

(٨) البحر المحيط ٨ / ١٧٧ وهي شاذة.

٢٤٦

وقوله : (عُيُوناً) فيه أوجه :

أشهرها : أنه تمييز أي فجّرنا عيون الأرض ، فنقله من المفعولية إلى التمييز كما نقل من (١) الفاعلية. ومنعه بعضهم على ما سيأتي.

وقوله : (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) أبلغ من فجّرنا عيون الأرض ، لما ذكر في نظيره مرارا(٢).

الثاني : أنه منصوب على البدل من الأرض ، ويضعف هذا خلوّه من الضمير ، فإنه بدل بعض من كل ويجاب عنه بأنه محذوف أي عيونا منها كقوله : (الْأُخْدُودِ النَّارِ) ، فالنار بدل اشتمال ولا ضمير فهو مقدر.

الثالث : أنه مفعول ثان ؛ لأنه ضمن فجّرنا معنى صيّرناها بالتفجير عيونا.

الرابع : أنها (٣) حال ، وفيه تجوز حذف مضاف أي ذات عيون ، وكونها حالا مقدرة (٤) لا مقارنة (٥). قال ابن الخطيب : قوله (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) فيه من البلاغة ما ليس في قول القائل : وفجّرنا من الأرض عيونا.

وقال : وفجرنا الأرض عيونا ، ولم يقل : ففتحنا السّماء أبوابا ؛ لأن السماء أعظم من الأرض وهي للمبالغة ، وقال : أبواب السماء ولم يقل : أنابيب ولا منافذ ولا مجاري. أما قوله تعالى: (فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) فلا غنى عنه لأن قول القائل : فجرنا من الأرض عيونا يكون حقيقة لا مبالغة فيه ويكون في صحة ذلك القول أن يحصل في الأرض عيون ثلاث ولا يصلح مع هذا في السّماء ومياهها (٦).

فصل

قال ابن الخطيب : العيون جمع عين وهي حقيقة في العين التي هي آلة الإبصار ومجاز في غيرها أما في عيون الماء فلأنها تشبه العين الناظرة التي يخرج منها الدمع ، لأن الماء الذي في العين كالدمع الذي في العين وهو مجاز مشهور صار غالبا حتى لا يفتقر

__________________

(١) كقول الله عزوجل في سورة مريم : «وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً» من الآية ٤ منها.

(٢) لأنه يكون حقيقة لا مبالغة فيه ، ويكفي في صحة ذلك القول أن يجعل في الأرض عيونا ثلاثة ، ولا يصح مع هذا في السماء إلا قول القائل : فأنزلنا من السماء ماء أو مياها. وانظر تفسير الإمام ١٥ / ٣٨.

(٣) وقال بهذه الأوجه الإعرابية ناقلا إياها أبو حيّان في البحر ٨ / ١٧٧ عدا وجه البدل.

(٤) والحال المقدرة هي المستقبلة كمررت برجل معه صقر صائدا به غدا أي مقدّرا ذلك. وهذا لا يصح مع الآية الكريمة.

(٥) أما المقارنة وهي الغالبة في أقسام الحال باعتبار الزمان ك «وَهذا بَعْلِي شَيْخاً». والمحلية ؛ وهي الماضية كجاء زيد أمس راكبا.

(٦) بالمعنى من تفسير الرازي ١٥ / ٣٨.

٢٤٧

إلى قرينة عند الاستعمال فكما لا يحمل اللفظ على العين الناظرة إلا بقرينة كذلك لا يحمل على الفوّارة (١) إلا بقرينة ، مثل شربت من العين واغتسلت منها ونحوه.

فإن قيل : من أين علمت أن العين حقيقة في الناظرة؟.

قلنا : لأن الأفعال أخذت منه ، ولم تؤخذ من الينبوع ، فيقال : عانه يعينه إذا أصابه بالعين وعاينه معاينة وعيانا (٢).

قال عبيد بن عمير : أوحى الله تعالى إلى الأرض أن تخرج ماءها فتفجرت بالعيون وأي عين تأخرت غضب عليها فجعل ماءها مرّا إلى يوم القيامة.

قوله : (فَالْتَقَى الْماءُ) لما كان المراد بالماء الجنس صحّ أن يقال : فالتقى الماء كأنه قال : فالتقى ماء السماء وماء الأرض. وهذه قراءة العامة. وقرأ الحسن والجحدريّ ومحمّد بن كعب وتروى عن أمير المؤمنين أيضا (٣) : «الماءان» تثنية والهمزة سالمة أي النوعان منه ماء السماء وماء الأرض ؛ لأن الالتقاء إنما يكون بين اثنين. وقرأ الحسن أيضا : «الماوان» بقلبها واوا ، وهي لغة طيّىء (٤). قال الزمخشري كقولهم : علباوان (٥) ، يعني أنه شبه الهمزة المنقلبة عن هاء بهمزة الإلحاق.

وروي عنه أيضا المايان (٦) بقلبها ياء ، وهي أشدّ مما قبلها (٧).

قوله : (قَدْ قُدِرَ) العامة على التخفيف. وقرأ ابن مقسم وأبو حيوة بالتشديد. وهما لغتان قرىء بهما في قوله : (قَدَّرَ فَهَدى) [الأعلى : ٣] (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) [الفجر : ١٦] كما سيأتي.

فصل

قيل : معنى قد قدر أي حال قدرها الله كما شاء قضى عليهم في أمّ الكتاب. وقال مقاتل: قدّر الله أن يكون الماءان سواء ، فكانا على ما قدّره. وقيل : على مقادير ؛ وذلك لأن المفسّرين اختلفوا ، فمنهم من قال كان ماء السماء أكثر ، ومنهم من قال : ماء الأرض. ومنهم من قال : كانا متساويين ، فقال على مقدار كان وقال قتادة : قدر لهم إذا كفروا أن يغرقوا.

__________________

(١) أي التي تفور.

(٢) بالمعنى من الرازي ١٥ / ٣٩.

(٣) لعله عليّ كرم الله وجهه. وانظر البحر ٨ / ١٧٧ ، والقرطبي ١٧ / ١٣٢ وابن خالويه ١٤٧ ، والكشاف ٤ / ٣٧ وهي قراءات شاذة غير متواترة.

(٤) الكشاف المرجع السابق.

(٥) الكشاف المرجع السّابق.

(٦) المراجع السابقة عدا القرطبي والكشاف.

(٧) فالمعروف أن الهمزة المنقلبة عن أصل في التثنية والجمع السالم تبقى أو تقلب واوا فقط كما يقال : بناءان وبناوان وعلباءان وعلباوان في همزة الإلحاق أيضا.

٢٤٨

قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يقال : التقى الماء أي اجتمع على أمر هلاكهم وهو كأنه مقدور (مقدر) (١). وفيه رد على المنجّمين الذين يقولون : إن الطوفان كان بسبب اجتماع الكواكب السبعة في برج مائيّ والغرق لم يكن مقصودا بالذات وإنما ذلك أمر لزم من الطوفان الواجب وقوعه ، فرد الله عليهم بأنه لم يكن ذلك إلا لأمر قد قدر ، ويدل عليه أن الله تعالى أوحى إلى نوح بأنهم مغرقون (٢).

قوله : (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) أي سفينة ذات ألواح. قال الزمخشري : وهي من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات فتنوب منابها وتؤدي مؤدّاها بحيث لا يفصل بينها وبينها(٣) ونحوه :

٤٥٩٥ ـ ..........

ولكن قميصي مسرودة من حديد (٤)

أراد ولكن قميصي درع ، وكذلك :

٤٥٩٦ ـ ..........

ولو في عيون النّازيات بأكرع (٥)

أراد ولو في عيون الجرار ، ألا ترى أنك لو جمعت بين الصفة وبين هذه الصفة ، أو بين الجرار والدرع وهاتين الصفتين لم يصح. وهذا من فصيح الكلام وبديعه (٦).

والدّسر ، قيل : المسامير جمع دسار ، نحو كتب في جمع كتاب وقال الزمخشري : جمع دسارة ، وهو المسمار فعالة من دسره إذا دفعه ، لأنه يدسر به منفذه (٧). وقال الراغب : الواحد دسر فيكون مثل سقف وسقف (٨) وقال البغوي : واحدها دسار ودسير (٩).

__________________

(١) زيادة من (أ).

(٢) وانظر تفسير الفخر الرازي ١٥ / ٣٩.

(٣) أي بين الموصوفات وبين الصفات. وانظر كشافه ٤ / ٣٨.

(٤) هو عجز بيت من الخفيف صدره :

مفرشي صهوة الحصان ولكن

ولم أعرف قائله. والشاهد : حذف الموصوف وإنابة الصفة منابه وهي من الصفات الملازمة فتنوب من الموصوف وتؤدي مؤداه ، بحيث لا يفصل بينه وبينها. وانظر الكشاف ٤ / ٣٨ وشرح شواهده ٤ / ٣٨٨ و ٣٨٩. وصهوة كل شيء : أعلاه والصّهوة من الفرس موضع اللبد من ظهره. وقيل غير ذلك.

انظر اللسان صها ٣٥١٨.

(٥) عجز بيت من الطويل مجهول القائل وشاهده كسابقه أيضا ، وصدره :

وإنّي لأستوفي حقوقي جاهدا

ومعناه في الوصول إلى الغرض والنزو والوثبان. والكراع من البقر والغنم بمنزلة الوظيف من الخيل والإبل والحمر وهو مستدقّ الساق العاري من اللحم ويذكر ويؤنث والجمع أكرع ثم أكارع. وانظر البيت في الكشاف ٤ / ٣٨.

(٦) وانظر الكشاف المرجع السابق.

(٧) السابق أيضا.

(٨) مفردات الراغب «دسر».

(٩) معالم التنزيل ٦ / ٢٧٥.

٢٤٩

وأصل الدسر الدفع الشديد بقهر (و) دسره بالرمح. ومدسر مثل مطعن وروي : ليس في العنبر زكاة إنّما هو شيء دسره (١) البحر أي دفعه.

وقيل : إنها الخيوط التي تشد بها السفن. وقيل : هي عراض السفينة وقيل : أضلاعها (٢). وقال الحسن الدسر صدر السفينة ، سميت بذلك لأنها تدسر الماء بجؤجؤها أي تدفع. وقال الضحاك : الدسر ألواح جانبيها.

قوله : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) أي بمرأى منّا. وقال مقاتل : بأعيننا أي بحفظنا ، لقولك : اجعل هذا نصب عينك. وقيل : بالأعين النابعة من الأرض. وقيل : بأعين أوليائنا من الملائكة. فقوله : بأعيننا أي ملتبسة بحفظنا (٣) ، وهو في المعنى كقوله تعالى : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) [طه: ٣٩].

وقرأ زيد (بن) (٤) علي وأبو السّمّال بأعينّا بالإدغام (٥). وقال سفيان (٦) : معناه بأمرنا.

قوله : (جزاء) منصوب على المفعول له ، ناصبه (ففتّحنا) وما بعده.

وقيل : منصوب على المصدر إما بفعل مقدر أي جازيناهم جزاء ، وإما على التجوز بأن معنى الأفعال المتقدمة جازيناهم بها جزاء.

قوله : (لِمَنْ كانَ كُفِرَ) العامة على كفر مبنيّا للمفعول ، والمراد بمن كفر : نوح ـ ـ عليه الصلاة والسلام ـ أو الباري تعالى.

وقرأ مسيلمة (٧) بن محارب كفر بإسكان الفاء ، كقوله :

٤٥٩٧ ـ لو عصر منه المسك والبان انعصر (٨)

__________________

(١) في القرطبي : يدسره.

(٢) وانظر اللسان دسر ١٣٧٢.

(٣) وانظر تلك الأقوال في القرطبي ١٧ / ١٣٣.

(٤) سقطت كلمة ابن من (أ).

(٥) قراءات شاذة ذكرها صاحب البحر المحيط ٨ / ١٧٨ ، وابن خالويه في المختصر ١٤٧ ورواها صاحب الاتحاف عن المطوّعي وانظر الإتحاف ٤٠٤.

(٦) بتوضيح لما في التبيان ١١٩٤. واختار الزمخشري المفعول لأجله كما في الكشاف ٤ / ٣٨.

(٧) كذا في النسختين وفي البحر : مسلمة وقد عرّف به.

(٨) بيت من مشطور الرجز لأبي النجم العجلي وقبله :

هيّجها نضح من الطّلّ سحر

وهزّت الرّيح الندى حين قطر

والشاهد في «عصر» فإنه أراد عصر. وانظر البحر ٨ / ١٧٨ ، والإنصاف ١٢٤ والمنصف ١ / ٢٤ و ٢ / ١٢٤ وشرح الشافية ١٥ والتصريح ١ / ٢٩٤ ، واللسان ٢٩٧١ «عصر».

٢٥٠

وقرأ يزيد بن رومان (١) وعيسى وقتادة : كفر ، مبنيا للفاعل (٢).

والمراد ب «من» حينئذ قوم نوح. و «كفر» خبر كان. وفيه دليل على وقوع خبر كان ماضيا من غير قد (٣). وبعضهم (٤) يقول : لا بد من (قد) ظاهرة أو مضمرة (٥).

ويجوز أن تكون كان مزيدة ، وأما كفرهم ففيه وجهان :

أحدهما : أن يكون «كفر» مثل شكر تعدى بحرف وبغير حرف ، يقال : شكرته وشكرت له ، قال تعالى : (وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) [البقرة : ١٥٢].

وقال : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) [البقرة : ٢٥٦].

الثاني : أن يكون من الكفر لا من الكفران أي جزاء لمن ستر أمره وأنكر شأنه ، أو جزاء لمن كفر به (٦).

فصل

المعنى فعلنا به من إنجاء نوح وإغراق قومه ثوابا لمن كفر به وجحد أمره وهو نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ. وقيل : «من» بمعنى «ما» أي جزاء لما كان كفر من أيادي ونقمة عند الذين غرقهم ، وجزاء لما صنع بنوح وأصحابه (٧).

واللام في «لمن» لام المفعول له. والجزاء هنا بمعنى العقاب أي عقابا لكفرهم.

قوله : (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً) ضمير تركناها إمّا للقصة أو للفعلة التي فعلناها آية يعتبر بها ، أو السفينة. وهو الظاهر. والمعنى تركناها أي أبقاها الله بباقردى من أرض الجزيرة آية أي عبرة حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة ، وكانت على الجوديّ. وقيل : بأرض الهند ، ومعنى تركناها أي جعلناها ، لأنها بعد الفراغ منها صارت متروكة ومجعولة (٨).

__________________

(١) هو يزيد بن رومان أبو روح المدني مولى الزبير ، ثقة ، ثبت ، فقيه ، قارىء ، محدث عرض على عبد الله بن عياش وروى القراءات عنه عرضا نافع وأبو عمرو. مات سنة ١٢٠ ، انظر طبقات ابن الجزري ٢ / ٣٨١.

(٢) شاذة. وانظر المحتسب ٢ / ٢٩٨.

(٣) وهو مذهب البصريين والصحيح جوازه مطلقا بكثرته في كلامهم نظما ونثرا كثرة توجب القياس ، قال تعالى : «إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ* إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ* أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ» وقال الشاعر :

 ..........

وقد كانوا فأمسى الحيّ ساروا

وحكى الكسائي : أصبحت نظرت إلى ذات التّنانير.

(٤) وهم الكوفيون.

(٥) وحجتهم أن كان وأخواتها إنما دخلت على الجمل لتدل على الزمان ، فإذا كان الخبر يعطي الزمان لم يحتج إليها ، ألا ترى أن المفهوم من : «زيد قام» ومن : «كان زيد قائما» شيء واحد ، واشتراط «قد» لأنها تقرب الماضي من الحال. وانظر الهمع ١ / ١١٣.

(٦) قاله الرازي في التفسير الكبير ١٥ / ١٤١.

(٧) البغوي ٦ / ٢٧٥.

(٨) القرطبي ١٧ / ١٢٣ والمرجع السابق أيضا.

٢٥١

قوله : (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أصله «مدتكر» فأبدلت التاء دالا مهملة ، ثم أبدلت المعجمة (١) مهملة لمقارنتها وقد تقدم هذا في قوله : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) [يوسف : ٤٥]. وقد قرىء «مدتكر» بهذا الأصل (٢).

وقرأ قتادة فيما نقل عنه أبو الفضل ـ مدكّر (٣) ـ بفتح الدال مخففة وبتشديد الكاف ، من دكّر بالتشديد أي دكّر نفسه أو غيره بما بمضى من قصص الأولين.

ونقل عنه ابن عطية كالجماعة إلا أنه بالذّال المعجمة ، وهو شاذ لأن الأوّل يقلب للثّاني ، لا الثاني للأول.

روى زهير عن أبي إسحاق أنه سمع رجلا يسأل الأسود : فهل من مدّكر أو من مذّكر ، قال : سمعت عبد الله يقرأها : (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) دالا (٤).

فصل

وهذه الآية إشارة إلى أن الأمر من جانب الرسل قد تمّ ، ولم يبق إلا جانب المرسل إليهم بإن يتفكروا ويهتدوا. وهذا الكلام يصلح أن يكون حثا وأن يكون تخويفا وزجرا ، وقال ابن الخطيب : مدّكر مفتعل من ذكر يذكر وأصله مذتكر. وقرأ بعضهم بهذا الأصل. ومنهم من يقلب التاء دالا. وفي قوله : مدّكر إشارة إلى قوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) أي هل ممن يتذكر تلك الحالة؟ وإما إلى وضوح الأمر كأنه جعل (٥) للكل آيات الله فنسوها ، فهل من متذكر (٦) يتذكر شيئا منها؟.

قوله : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) كان الظاهر فيها أنها ناقصة (و) «فكيف» خبر مقدم. وقيل : يجوز أن تكون تامة ، فتكون «كيف» في محل نصب إما على الظرف (٧) وإمّا على الحال كما تقدم تحقيقه في البقرة (٨).

__________________

(١) وهي التاء.

(٢) كذا في النسختين نقلا عن البحر المحيط ٨ / ١٧٨ ، ولم يحدد أبو حيان من قرأ بتلك القراءة وفي الكشاف : مدتكر على الأصل ومدكر دونما تحديد أيضا لقارئهما.

(٣) كذا بالدال في النسختين وما في البحر نقلا عن أبي الفضل الرازي بالذال. وهو الصحيح. وانظر البحر المرجع السابق ٨ / ١٧٨.

(٤) نقل هذا الإمام البغوي في معالم التنزيل ٦ / ٢٧٥ وابن منظور في اللسان «ذكر» ١٤٠٣.

(٥) في الرازي : حصل.

(٦) وفيه «مدّكر».

(٧) الغالب في كيف أن تكون استفهاما إما حقيقيّا أو غيره ، وأن تكون شرطا وتسميتها بالظرف عن سيبويه وعن الأخفش والسّيرافي أنها اسم غير ظرف وبنوا على هذا الخلاف أمورا ذكرها ابن هشام في المغني. وانظر المغني ٢٠٥ و ٢٠٦.

(٨) عند الآية الشهيرة ٢٨٠ : «وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ» ، ولعل المؤلف يقصد قوله : «قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ» من الآية ٩٧ من نفس السورة ففيه الشبه والتركيب اللذان في تلك الآية.

٢٥٢

فصل

وحذفت ياء الإضافة من «نذر» كما حذفت ياء «يسر» في قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) [الفجر : ٤] ؛ وذلك عند الوقف ، ومثله كثير ، كقوله : (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) [العنكبوت : ٥٦] (وَلا يُنْقِذُونِ) [يس : ٢٣] (يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) [الزمر : ١٦] (وَلا تَكْفُرُونِ) [البقرة : ١٥٢] وقرىء بإثبات الياء في : (عَذابِي) ونذري» (١).

قوله : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ) هيأناه «للذّكر» من قولهم : «يسّر فرسه» أي هيّأه للركوب بإلجامه ، قال :

٤٥٩٨ ـ فقمت إليه باللّجام ميسّرا

هنالك يجزيني الّذي كنت أصنع (٢)

وقيل : سهلنا القرآن ليتذكر ويعتبر به. وقال سعيد بن جبير : يسرناه للحفظ والقراءة ، وليس شيء من كتب الله يقرأ كله ظاهرا إلا القرآن.

وقوله : (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) متّعظ بمواعظه.

قوله تعالى : (كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)(٢٢)

ذكر ههنا : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) مرتين ، فالأول سؤال ، كقول المعلم للمتعلم: كيف المسألة الفلانيّة؟ ثم بين فقال : (إِنَّا أَرْسَلْنا) ، والثاني بمعنى التعظيم والتهويل.

فإن قيل : قال في قوم نوح : كذّبت قوم نوح ولم يقل في عاد : كذّبت قوم هود ؛ لأن التعريف كلما أمكن أن يؤتى به على وجه أبلغ فالأولى أن يؤتى به والتعريف بالاسم العلم أقوى من التعريف بالإضافة ؛ لأنك إذا قلت : «بيت الله» لا يفيد ما يفيد قولك : الكعبة ، وكذلك إذا قلت : رسول الله وقلت : محمد «فعاد» اسم علم للقوم.

ولا يقال : قوم هود أعرف لوجهين :

أحدهما : أن الله تعالى وصف عادا بقوم هود في قوله : (أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) [هود : ٠٦] ولا يوصف الأظهر بالأخفى ، والأخصّ بالأعمّ.

ثانيهما : أن قوم هو (واحد (٣) وعاد قيل :) إنه لفظ يقع على أقوام ، ولهذا قال

__________________

(١) ولم أعرف من قرأ بها ولا مرجعا أتى بها. وهي بلا شكّ شاذة.

(٢) من الطويل مجهول قائله واستشهد به على أن التيسير بمعنى التّهيىء كما أوضح أعلى. وانظر الكشاف ٤ / ٣٨ وشرح شواهده ٤٥٤ والبحر ٨ / ١٧٨ والقرطبي ١٧ / ١٣٤.

(٣) ما بين القوسين تكملة من الرازي مرجع المؤلف والمعتمد عليه دوما. ومن عجب أن يقول الناسخ في النسختين : بياض في الأصل.

٢٥٣

تعالى : (عاداً الْأُولى) [النجم : ٥] لأنا نقول : أما قوله تعالى : (لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) فليس ذلك صفة ، وإنما هو بدل ويجوز في البدل أن يكون دون المبدل (منه) (١) في المعرفة ، ويجوز أن يبدل من المعرفة بالنكرة. وأما عادا الأولى فهو لبيان تقدمهم أي (٢) عادا الذين تقدموا ، وليس ذلك للتمييز والتعريف كما تقول : محمّد النّبيّ شفيعي والله الكريم ربّي وربّ الكعبة المشرّفة ، لبيان الشرف ، لا لبيانها وتعريفها بالشرف كقولك : دخلت الدّار المعمورة من الدّارين ، وخدمت (٣) الرّجل الزّاهد من الرّجلين ؛ فتبين المقصود (٤) بالوصف.

فإن قيل : لم لم يقل : فكذبوا هودا كما قال فكذبوا عبدنا؟.

فالجواب : إما لأن تكذيب قوم نوح أبلغ لطول مقامه فيهم وكثرة عنادهم ، وإما لأن قصة عاد ذكرت مختصرة (٥).

قوله : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) الصّرصر الشّديدة الصّوت من صرصر الباب أو القلم إذا صوّت.

وقيل : الشديدة البرد من الصّرّ وهو البرد وهو كله أصول عند الجمهور.

وقال مكي : أصله «صرّرا» من صرّ الشيء إذا صوت ، لكن أبدلوا من الراء المشددة (٦) صادا ، وهذه أقوال الكوفيّين. ومثله : كبكب وكفكف. وتقدم هذا في فصّلت (٧) وغيرها.

وقال ابن الخطيب : الصرصر هو الدائمة الهبوب من أصرّ على الشّيء إذا دام وثبت.

فصل

(يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) شديد دائم الشّؤم استمر عليهم بنحوسه ، ولم يبق منهم أحدا إلا أهلكه. قيل : ذلك يوم الأربعاء في آخر الشهر.

فإن قيل : إذا كان يوم الأربعاء يوم نحس مستمر فكيف يستجاب فيه الدعاء؟! وقد جاء أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ استجيب له فيه فيما بين الظهر والعصر.

__________________

(١) زيادة للإيضاح.

(٢) في النسخة (أ) الأصل أن وفي (ب) والرازي «أي».

(٣) في الرازي : وخدمت. وفي النسختين : وجدت والتصحيح من الرازي.

(٤) كذا في الرازي وما في النسختين : المفعول.

(٥) وانظر كل هذا معنى في الرازي ١٥ / ٤٤ و ٤٥.

(٦) في مشكل الإعراب : «الثانية» بدل المشدّدة.

(٧) عند قوله : «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً» من الآية ١٦. كما تقدم في الذاريات عند : «فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ» من الآية ٢٩ ، وسيجيء في الحاقة عند قوله : «فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ» من الآية ٦ وانظر اللسان (صرصر) ٢٤٢٩ ، وغريب القرآن ٤٣٢ ، ومجاز القرآن ٢ / ٢٤٠.

٢٥٤

فالجواب : أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : أتاني جبريل فقال : «إنّ الله يأمرك أن تقضي مع الشاهد» وقال : يوم الأربعاء يوم نحس مستمرّ. ومعلوم أنه لم يرد أنه نحس على المصلحين بل على المفسدين ، كما كانت الأيام النحسات على الكفار ، لا على نبيهم والمؤمنين.

واعلم أنه تعالى قال ههنا : إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا وقال في الذاريات : (إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) [الذاريات : ٤١] فعرّف الريح هناك ، ونكّرها ههنا ؛ لأن العقم في الريح أظهر من البرد الذي يضرّ النبات أو الشدة التي تعصف الأشجار ، لأن الريح العقيم هي التي لا تنشىء سحابا ، ولا تلقّح شجرا وهي كثيرة الوقوع ، وأما الريح المهلكة الباردة فقلما توجد فقال : الريح العقيم أي هذا الجنس المعروف (١).

ثم زاده بيانا بقوله : (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) فتميزت عن الريح العقيم ، وأما الصرصر فقليلة الوقوع فلا تكون مشهورة فنكّرها (٢).

قوله : (فِي يَوْمِ نَحْسٍ) العامة على إضافة يوم إلى نحس ـ بسكون الحاء ـ وفيه وجهان: أحدهما : أنه من إضافة الموصوف إلى صفته.

والثاني ـ وهو قول البصريين (٣) ـ أنه صفة لموصوف محذوف أي يوم عذاب نحس.

وقرأ الحسن ـ (رضي الله عنه) (٤) بتنوينه ووصفه بنحس (٥) ولم يقيّده الزمخشري بكسر الحاء (٦). وقيده أبو حيان (٧). وقد قرىء قوله : (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) [فصلت : ١٦] بسكون الحاء وكسرها ، وتنوين «أيام» عند الجميع كما تقدم تقريره ، و «مستمرّ» صفة «ليوم» أو «نحس». ومعناه كما تقدم أي عليهم حتى أهلكهم ، أو من المرارة. قال الضحاك : كان مرا عليهم وكذا حكى الكسائي أن قوما قالوا هو من المرارة يقال : مرّ الشّيء ، وأمرّ أي كان كالشيء المر تكرهه النفوس ، وقد قال : (فَذُوقُوا) [آل عمران : ١٠٦] والذي يذاق قد يكون مرّا (٨).

__________________

(١) وانظر الرازي ١٥ / ٤٥ و ٤٦.

(٢) السابق ٤٦ و ٤٧ ج ١٥.

(٣) وسبق هذا الرأي رأي البصرة والكوفة في مثل هذا.

(٤) زيادة من (أ) الأصل.

(٥) قال القرطبي في الجامع : وقرأ هارون الأعور نحس بكسر الحاء. الجامع ١٧ / ١٣٥. ولم يبين ما إذا كان صفة أم لا. وقد نقل المؤلف قراءة الحسن من البحر لأبي حيان ٨ / ١٧٩.

(٦) الكشاف ٤ / ٣٩.

(٧) البحر المرجع السابق.

(٨) وانظر جامع القرطبي ١٧ / ١٣٥.

٢٥٥

قوله : (تَنْزِعُ النَّاسَ) في موضع نصب إما نعتا ل «ريحا» وإما حالا منها لتخصصها بالصفة ؛ ويجوز أن تكون مستأنفة (١). وقال : «الناس» ليعم ذكرهم وأنثاهم ، فأوقع الظاهر موقع المضمر لذلك فالأصل تنزعهم (٢).

فصل

قال تعالى هنا : (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) وقال في السجدة (٣) : (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) وقال في الحاقة : (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) [الحاقة : ٧]. والمراد من اليوم هنا الوقت والزمان كما في قوله : (يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) [مريم : ٣٣]. وقوله «مستمرّ» يفيد ما يفيده الأيام ؛ لأن الاستمرار ينبىء عن امتداد الزمان كما تنبىء عنه الأيام. والحكاية هنا مذكورة على سبيل الاختصار فذكر الزمان ولم يذكر مقداره على سبيل الإيجاز (٤).

قوله : (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ) حال من الناس مقدرة (٥) ، و «منقعر» صفة للنّخل باعتبار الجنس ، ولو أنث لاعتبر معنى الجماعة كقوله : (نَخْلٍ خاوِيَةٍ) [الحاقة : ٧]. وقد مضى تحقيق (٦) اللغتين فيه.

وإنما ذكر هنا وأنث في الحاقة مراعاة للفواصل في الموضعين. وقرأ أبو نهيك : «أعجز» على وزن أفعل نحو : ضبع وأضبع (٧).

وقيل : الكاف في موضع نصب بفعل مقدر تقديره : تتركهم كأنّهم أعجاز. قاله مكّي (٨).

ولو جعل مفعولا ثانيا على التضمين أي تصيرهم بالنزع كأنهم لكان أقرب.

والأعجاز جمع عجز (٩) وهو مؤخر الشيء ، ومنه العجز ، لأنه يؤدي إلى تأخر الأمور. والمنقعر : المنقلع من أصله (يقال) قعرت النّخلة قلعتها من أصلها فانقعرت.

__________________

(١) قاله أبو حيان في بحره ٨ / ١٧٩.

(٢) انظر السابق أيضا ، قال : «إذ لو عاد بضمير المذكورين لتوهم أنه خاصّ بهم».

(٣) أي في فصّلت الآية سابقة الذكر.

(٤) الرازي ١٥ / ٤٧.

(٥) قاله أبو حيان في مرجعه السابق.

(٦) حيث قال في الأنعام من الآية ٩٩ : «وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ». وقال في نفس السورة عند الآية ١٤١ : «وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ». بالإضافة إلى الآيات الواردة في القرآن من سور الشعراء ، والرحمن ، والحاقة ، و «ق» وهي شبيهة بتلك الآيات.

(٧) وهي شاذة. وانظر البحر المرجع السابق.

(٨) مشكل الإعراب ٢ / ٣٣٨.

(٩) قال في اللسان : عجز الشيء وعجزه وعجزه وعجزه : آخره ، ويذكّر ويؤنّث. وانظر اللسان «عجز» ٢٨١٧.

٢٥٦

وقعرت البئر : وصلت إلى قعرها وقعرت الإناء شربت ما فيه حتى وصلت إلى قعره ، وأقعرت البئر أي جعلت له قعرا (١).

فصل

تنزع الناس تقلعهم ثمّ ترمي بهم على رؤوسهم فتدق رقابهم. وروي : أنها كانت تنزع الناس من قبورهم كأنهم أعجاز نخل. قال ابن عباس (رضي الله عنهما) أصولها. وقال الضحاك : أوراك نخل منقعر منقلع من مكانه ساقط على الأرض (٢) وقال : أعجاز نخل وهي أصولها التي قلعت فروعها ، لأن الكفّار تبين رؤوسهم من أجسادهم فتبقى أجسادهم بلا رؤوس. قال ابن الخطيب : تنزعهم نزعا بعنف كأنهم أعجاز نخل منقعر (٣) فينقعروا.

وهذا إشارة إلى قوتهم وثباتهم على الأرض ، ويكون ذلك إشارة إلى عظم أجسادهم أو إلى ثباتهم في الأرض فكأنهم كانوا يجعلون أرجلهم في الأرض ويقصدون المنع به على الرّيح (٤).

قال ابن إسحاق : لما هاجت الريح قام سبعة نفر من عاد من أقواهم وأحسمهم منهم عمرو بن الحليّ ، والحارث بن شدّاد والهلقام وابنا تقن وخلجان بن سعد فألجأوا (٥) العيال في شعب بين جبلين ثم اصطفّوا على جانبي الشّعب ليردّوا الريح عمن في الشّعب من العيال فجعلت الريح تجعفهم (٦) رجلا بعد رجل ، فقالت امرأة عاد :

٤٥٩٩ ـ ذهب الدّهر بعمرو ب

ن حليّ والهنيّات

ثمّ بالحارث والهل

لقام طلّاع الثّنيّات

والّذي سدّ مهبّ الر

ريح أيّام البليّات (٧)

أو يكون إشارة إلى يبسهم وجفافهم بالريح ، فهي كانت تقتلهم وتحرقهم ببردها المفرط فيقعون كأنهم أخشاب يابسة.

فصل

(قال) المفسرون : ذكر النخل هنا ، وقال : «منقعر» وأنثه في الحاقّة ، وقال : أعجاز

__________________

(١) السابق «قعر» ٣٦٩١.

(٢) وانظر هذا في البغوي والخازن ٦ / ٢٧٥ و ٢٧٦.

(٣) في كتابه : «التفسير الكبير» تقعرهم وكذا في ب.

(٤) السابق ١٥ / ٤٨.

(٥) في القرطبي : فأولجوا.

(٦) تصرعهم وتضربهم في الأرض.

(٧) من مجزوء الرمل مسبّع الضرب. وانظر تلك القصة في القرطبي ١٧ / ١٣٦ ، وجامع البيان لابن جرير الطّبريّ ١٧ / ٥٨.

٢٥٧

نخل خاوية لأجل الفواصل كقوله : مستمرّ ، ومنهمر ، ومنتشر.

وقيل : إن النّخل لفظه لفظ واحد ، ومعناه الجمع ، فيقال : نخل منقعر ، ومنقعرة ومنقعرات ، ونخل خاو وخاوية وخاويات ونخل باسق وباسقة وباسقات.

فإذا قيل : «منقعر أو خاو أو باسق» فبالنظر إلى اللفظ ، وإذا قيل : منقعرات أو خاويات أو باسقات فلأجل المعنى (١).

قال أبو بكر بن الأنباري : سئل المبرّد بحضرة القاضي إسرفيل (٢) عن ألف مسألة هذه من جملتها فقال : ما الفرق بين قوله تعالى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً) [الأنبياء : ٨١] وقال: (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ) [يونس : ٢٢] ، وقوله ، (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) [الحاقة : ٧] و (أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ)؟ فقال : كلّ ما ورد عليك من هذا القرآن ، فإن شئت رددته إلى اللفظ تذكيرا أو إلى المعنى تأنيثا (٣).

قال ابن الخطيب : ذكر الله لفظ النخل في مواضع ثلاثة ووصفها على الأوجه الثلاثة ، قال: (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) [ق : ١٠] وذلك حال عنها وهي كالوصف وقال : (نَخْلٍ خاوِيَةٍ) و (نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) فحيث قال : «منقعر» كان المختار ذلك ، لأن المنقعر في حقيقة الأمر كالمفعول ؛ لأنه ورد عليه القعر ، فهو مقعور ، و «الخاوي والباسق» فاعل وإخلاء المفعول من علامة التأنيث أولى ، تقول : امرأة قتيل (٤). وأما الباسقات فهي فاعلات حقيقة ، لأن البسوق اسم قام بها ، وأما الخاوية فهو من باب «حسن الوجه» ؛ لأن الخاوي موضعها فكأنه قال : نخل خاوية المواضع ، وهذا غاية الإعجاز حيث أتى بلفظ مناسب للألفاظ السابقة واللاحقة من حيث اللفظ (٥).

قوله : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) قال أكثر المفسرين :

إن «النّذر» ههنا جمع «نذير» الذي هو مصدر بمعنى الإنذار فما الحكمة في توحيد العذاب حيث لم يقال : فكيف أنواع عذابي وقال (٦) : إنذاري؟!.

قال ابن الخطيب : هذا إشارة إلى غلبة الرحمة ، لأن الإنذار إشفاق ورحمة فقال :

__________________

(١) الرازي ١٥ / ٤٨.

(٢) كذا في النسختين وفي تفسير القرطبي : إسماعيل القاضي. وهو الصحيح.

(٣) نقله الإمام القرطبي في جامعه ١٧ / ١٣٧.

(٤) في الرازي : امرأة كفيل ، وامرأة كفيلة ، وامرأة كبير ، وامرأة كبيرة.

(٥) قاله العلامة الفخر الرازي في تفسيره الكبير ١٥ / ٤٨ و ٤٩ واختتم كلامه بقوله : «فكان الدليل يقتضي ذلك ، بخلاف الشاعر الذي يختار اللفظ على المذهب الضعيف لأجل الوزن والقافية».

(٦) الصحيح كما عبارة الرازي : ووبال إنذاري.

٢٥٨

الإنذارات التي هي نعم ورحمة تواترت ، فلما لم ينفع (١) وقع العذاب دفعة واحدة فكانت النعم كثيرة والنقمة واحدة.

قوله تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)(٣٢)

قوله : (كَذَّبَتْ (ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) اعلم أنّه تعالى لم يقل في قوم نوح : كذّبت قوم نوح) (٢) بالنذر» وكذلك في قصة عاد. لأن المراد بقوله : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) أن عادتهم إنكار الرسل وتكذيبهم فكذبوا نوحا على مذهبهم وعادتهم.

وإنما صرح ههنا ، لأن كل قوم يأتون بعد قوم ، فالمكذّب المتأخر يكذب المرسلين جميعا حقيقة ، والأولون يكذبون رسولا واحدا حقيقة ويلزم منه تكذيب من بعده تبعا ، ولهذا المعنى قال في قوم نوح : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء : ١٠٥] وقال في عاد : (وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ) [هود : ٥٩] فذكر بلفظ الجمع المستغرق ثم إنه تعالى قال عن نوح : (رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ) [الشعراء : ١١٧] ولم يقل : كذّبوا رسلك إشارة إلى ما صدر منهم حقيقة لا إلى ما لزم منه ، وقوله تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) إن قلنا : إن النذر هم الرسل فهو كما تقدم ، وإن قلنا : إن النذر هي الإنذارات فنقول (٣) : قوم نوح وعاد لم تستمر المعجزات التي ظهرت في زمانهم.

وأما ثمود فأنذروا وأخرج لهم ناقة من صخرة وكانت تدور بينهم وكذبوا فكان تكذيبهم بإنذارات وآيات ظاهرة فصرّح بها (٤).

قوله : (أَبَشَراً) منصوب على الاشتغال وهو الراجح ، لتقدم أداة (٥) هي بالفعل أولى. و «منّا» نعت له. و «واحدا» فيه وجهان :

أظهرهما : أنه نعت «لبشرا» إلا أنه يشكل عليه تقديم الصفة المؤولة (٦) على

__________________

(١) في ب يقع.

(٢) ما بين القوسين سقط من أالأصل ؛ بسبب انتقال النظر.

(٣) في ب فيقولون.

(٤) قال بهذه الإعمالات العقلية الاجتهادية فخر الدين الرازي في مرجعه السابق.

(٥) وهي أداة الاستفهام. والتقدير : أنتّبع بشرا نتّبعه؟

(٦) وهي منّا أي كائنا منّا فإن الجار والمجرور والظرف لهما متعلّق دوما.

٢٥٩

الصريحة (١). ويجاب : بأن «منّا» حينئذ ليس وصفا بل حال من «واحدا» قدّم عليه.

والثاني : أنه نصب على الحال من هاء «نتّبعه» (٢). وهو يخلص من الإعراب المتقدم ، إلا أنّ المرجع لكونه صفة قراءتهما مرفوعين : «أبشر منّا واحد نتّبعه» على ما سيأتي ، فهذا يرجّح كون «واحدا» نعتا «لبشر» لا حالا.

وقرأ أبو السّمّال فيما نقل الهذليّ (٣) والدّانيّ (٤) برفعهما (٥) على الابتداء ، و «واحد» صفته و «نتّبعه» خبره (٦).

وقرأ أبو السّمّال أيضا فيما نقل ابن خالويه (٧) ، وأبو الفضل وابن عطية (٨) : برفع «بشر» ونصب «واحدا» وفيه أوجه :

أحدها : أن يكون «أبشر» مبتدأ وخبره مضمر تقديره : أبشر منا يبعث إلينا أو يرسل.

وأما انتصاب «واحدا» ففيه وجهان :

أحدهما : أنه حال من الضمير المستتر في (منّا) لأنه وقع نعتا.

الثاني : أنه حال من هاء «نتّبعه» (٩). وهذا كله تخريج أبي الفضل الرّازيّ (١٠).

والثاني : أنه مرفوع بالابتداء أيضا ، والخبر «نتّبعه» و «واحدا» حال على الوجهين المذكورين آنفا.

الثالث : أنه مرفوع بفعل مضمر مبني للمفعول تقديره : أينبّأ بشر. و (منّا) نعت و (واحدا) حال أيضا على الوجهين المذكورين آنفا. وإليه ذهب ابن عطية (١١).

فصل

قال ابن الخطيب : والحكمة في تأخير الفعل في الظاهر أن البليغ يقدّم في الكلام ما يكون تعلق غرضه به أكثر والقوم كانوا يريدون بيان كونهم محقّين في ترك الاتّباع ، فلو

__________________

(١) ذكر كل هذا صاحب التبيان ١١٩٤ ، وقد ذكر القرطبي في الجامع ١٧ / ١٣٧ و ١٣٨ إعراب «واحدا» و «بشرا» بالنسبة للاشتغال والحال فقط. ولم يذكر في «واحدا» جواز كونه نعتا.

(٢) التبيان السابق.

(٣) صاحب القراءات الخمسين.

(٤) وهو أبو عمرو الداني وقد مرّ ترجمته.

(٥) وهي شاذة وانظر المحتسب ٢ / ٢٩٨ و ٢٩٩ والبحر ٨ / ١٧٩.

(٦) البحر المحيط السابق.

(٧) قال في المختصر : «أبشر منا من غير تنوين أبو السّمّال». ١٤٧ و ١٤٨ ولم يذكر غير هذا.

(٨) البحر المرجع السابق أيضا.

(٩) قال بوجهي النصب في «واحدا» أيضا ابن جني في المحتسب ٢ / ٢٩٨ و ٢٩٩.

(١٠) البحر المحيط المرجع السابق.

(١١) البحر أيضا السابق وهو اختيار أبي الفتح في محتسبه ٢ / ٢٩٩.

٢٦٠