اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

والسلام ـ. وقال ابن إسحاق (١) : هما عادان ، فالأولى أهلكت بالريح الصرصر ، ثم كانت الآخرة وأهلكت بصيحة. وقيل : عاد الأولى هي عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح وعاد الثانية من ولد عاد الأولى ، والمعنى متقارب. وقيل : إن عادا الآخرة هم الجبّارون.

وهم قوم هود (٢).

قوله : (وَثَمُودَ فَما أَبْقى) قد تقدم الخلاف في «ثمود» بالنسبة إلى الصرف وعدمه في سورة «هود» (٣). وفي انتصابه هنا وجهان :

أحدهما : أنه معطوف على «عادا».

والثاني : أنه منصوب بالفعل المقدر أي «وأهلك». قاله أبو البقاء ، وبه بدأ. ولا يجوز أن ينتصب ب «أبقى» لأن ما بعد «ما» الثانية لا يعمل فيها قبلها (٤) ، والظاهر أنّ متعلق «أبقى» عائد على من تقدم من عاد وثمود أي فما أبقى عليهم ـ أي على عاد وثمود ـ أو يكون التقدير : فما أبقى منهم أحدا ، ولا عينا تطرف. ويؤيد هذا قوله : (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) [الحاقة : ٨].

قوله : (وَقَوْمَ نُوحٍ) كالذي قبله و (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل عاد وثمود.

وقوله : (إِنَّهُمْ) يحتمل أن يكون الضمير لقوم نوح خاصة ، وأن يكون لجميع من تقدم من الأمم الثلاثة.

قوله : (كانُوا هُمْ) يجوز في «هم» أن يكون تأكيدا (٥) ، وأن يكون (٦) فصلا. ويضعف أن يكون بدلا. والمفضل عليه محذوف تقديره : من عاد وثمود على قولنا : إن الضمير لقوم نوح خاصة ، وعلى القول بأن الضمير للكل يكون التقدير : من غيرهم من مشركي العرب ، وإن قلنا : إن الضمير لقوم نوح خاصة والمعنى أهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود إنّهم كانوا هم أظلم وأطغى لطول دعوة نوح إياهم وعتوّهم على الله بالمعصية والتكذيب وهم الباقون بالظلم والمتقدمون فيه ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها والبادىء أظلم وأما أطغى فلأنهم سمعوا المواعظ وطال عليهم الأمد ولم يرتدعوا حتى دعا عليهم نبيهم ولا يدعو نبي على قومه إلا بعد الإصرار العظيم والظالم

__________________

(١) تقدم التعريف به.

(٢) القرطبي ١٧ / ١٢٠.

(٣) من الآية ٦١ من سورة هود قوله : «وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً». وقد قرأ الجمهور بالصرف وقرأ عاصم والحسن وعصمة دون الصرف.

(٤) التبيان ١١٩١.

(٥) للواو من كانوا.

(٦) مع أن جماعة ذكروا أن من فائدة ضمير الفصل التوكيد المعنوي وبنوا عليه أنه لا يجامع التوكيد فلا يقال زيد نفسه هو الفاضل وعلى ذلك سماه بعض الكوفيين دعامة ، لأنه يدعم به الكلام أي يقوى ويؤكد فقوله أعلى : تأكيدا لعله يقصد التوكيد غير المعنوي وهذا بعيد. وانظر المغني ٤٩٦ بتصرف.

٢٢١

واضع الشيء في غير موضعه ، والطّاغي المجاوز للحدّ.

فإن قيل : المراد من الآية تخويف الظالم بالهلاك ، فإذا قيل : إنهم كانوا في غاية الظلم والطّغيان فأهلكوا (ويقول الظالم : هم كانوا أظلم فأهلكوا) (١) لمبالغتهم في الظلم ونحن ما بالغنا ، فلا نهلك ، فلو قال : أهلكوا لظلمهم لخاف كل ظالم فما الفائدة في قوله : أظلم؟

فالجواب : أن المقصود بيان (شدّتهم) وقوة أجسامهم ، فإنهم لم يقدموا على الظلم والطّغيان الشديد إلا بتماديهم وطول أعمارهم ومع ذلك ما نجا أحد منهم فما حال من هو دونهم في العمر (٢). روي أن الرجل منهم كان يأخذ بيد ابنه ينطلق به إلى قوم نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقول : احذر هذا فإنه كذاب ، وإن أبي قد مشى بي إلى هذا ، وقال لي ما قلت لك فيموت الكبير على الكفر وينشأ الصغير على وصية أبيه (٣).

قوله : (وَالْمُؤْتَفِكَةَ) منصوب ب (أَهْوى) ؛ وقدم لأجل الفواصل. والمراد بالمؤتفكة قرى قوم لوط «أهوى» أسقط ، أي أهواها جبريل ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعد ما رفعها إلى السماء.

قوله : (فَغَشَّاها) أي ألبسها الله «ما غشى» يعني الحجارة المصورة المسوّمة (٤). وقوله (ما غَشَّى) كقوله (ما أَوْحى) في الإبهام (٥) وهو المفعول الثاني إن قلنا : إن التضعيف للتعدية ، وإن قلنا : إنه للمبالغة والتكثير فتكون «ما» فاعله كقوله : (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) [طه : ٧٨] والمؤتفكة المنقلبة. وقرىء : والمؤتفكات (٦).

فإن قيل : إذا كان معنى «المؤتفكة» المنقلبة ومعنى «أهوى» قلبها فيكون المعنى والمنقلبة قلبها وقلب المنقلبة تحصيل حاصل.

فالجواب : أن معناه المنقلبة ما انقلبت بنفسها بل الله قلبها فانقلبت (٧).

قوله : (فَبِأَيِّ) متعلق ب (تَتَمارى) والباء ظرفية بمعنى «في» والآلاء النعم واحدها إلي وإلى وألا.

والمعنى فبأي نعم ربك تشك ، وقرأ ابن محيصن ويعقوب : «تمارى» بالحذف (٨) كقوله : «تذكّرون».

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) وانظر تفسير الرازي ١٥ / ٢٤ و ٢٥.

(٣) القرطبي ١٧ / ١٢٠.

(٤) القرطبي المرجع السابق.

(٥) والتفخيم. وهو غرض بلاغيّ من إقامة اسم الموصول مقام الظاهر.

(٦) ونسبها أبو حيان للحسن. انظر البحر ٨ / ١٧٠ والكشاف ٤ / ٣٤.

(٧) وهو رأي الإمام الفخر الرازي ١٥ / ٢٥.

(٨) الذي في القرطبي ١٧ / ١٢١ والبحر ٨ / ١٧٠ : أنه بتاء واحدة مشددة.

٢٢٢

فصل

قيل : هذا أيضا مما في الصحف. وقيل : هو ابتداء لكلام ، والخطاب عام ، والمعنى فبأي آلاء أي نعم ربك أيها الإنسان تتمارى تشك وتجادل. وقال ابن عباس (رضي الله عنهما) (١) : تكذب. وقيل : هذا خطاب مع الكافر.

قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يقال : خطاب مع النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولا يقال : كيف يجوز أن يقول للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تتمارى؟ لأنا نقول : هو من باب : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] يعني لم يبق فيه إمكان الشك حتى أنّ فارضا لو فرض النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ممن يشك أو يجادل في بعض الأمور الخفية لما كان يمكنه المراء في نعم الله تعالى. والصحيح العموم كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الانفطار : ٦] وقوله : (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) [الكهف : ٥٤].

قوله تعالى : (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ)(٥٨)

قوله : (هذا نَذِيرٌ) إشارة إلى ما تقدم من الآي ، وأخبار المهلكين. وقيل : أي القرآن. قال ابن الخطيب : وهذا بعيد لفظا ومعنى ؛ أما معنى فلأن القرآن ليس من جنس الصحف الأولى ، لأنه معجزة ، وتلك لم تكن معجزة ، وأما لفظا فلأن النذير إن كان كاملا فما ذكره من حكاية المهلكين أولى لأنه أقرب ويكون هذا يبقى على حقيقة التبعيض (٢) ، أي هذا الذي ذكرناه بعض ما جرى أو يكون لابتداء الغاية أي هذا إنذار من المنذرين المتقدمين ؛ يقال : هذا الكتاب وهذا الكلام من فلان.

وقيل : إشارة إلى الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أي هذا النذير من جنس النذر الأولى أي رسول من الرسل إليكم كما أرسلوا إلى أقوامهم (٣).

وقوله : «نذير» يجوز أن يكون مصدرا ، وأن يكون اسم فاعل وكلاهما لا ينقاس ، بل القياس في مصدره إنذار (٤) ، وفي اسم فاعله منذر. والنّذر يجوز أن يكون جمعا لنذير بمعنييه المذكورين ، و «الأولى» صفة حملا على معنى الجماعة كقوله : (مَآرِبُ أُخْرى)(٥) [طه : ١٨].

__________________

(١) زيادة من أ.

(٢) لعله يقصد «من» وعبارة الرازي : ويكون على هذا «من» بقي على حقيقة التبعيض أي هذا الذي ذكرنا بعض ما جرى ونبذ مما وقع.

(٣) وانظر الرازي ١٥ / ٢٦ و ٢٧ بالمعنى منه.

(٤) لأنه من الماضي الرباعي أنذر فيتحتم قياسا إنذارا.

(٥) وانظر الرازي ١٥ / ٢٦ والبحر ٨ / ١٧٠. أقول : وقوله : بل القياس في مصدره إنذار فهو حينئذ على ـ

٢٢٣

قوله : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) دنت القيامة ، واقتربت ، والتقدير : الساعة الآزفة ، كقوله : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) [القمر : ١] ويجوز أن تكون الآزفة على القيامة بالغلبة.

قال ابن الخطيب : قوله (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) كقوله تعالى : (وَقَعَتِ الْواقِعَةُ). ويقال : كانت الكائنة. وهذا الاستعمال على وجهين :

الأول : إذا كان الفاعل صار فاعلا لمثل ذلك الفعل من قبل ، ثم فعله مرة أخرى ، يقال : فعله الفاعل كقوله : حاكه الحائك أي من شغله ذلك من قبل فعله.

الثاني : أن يصير الفاعل فاعلا بذلك الفعل ، يقال : إذا مات الميّت انقطع عمله ، وإذا غصب العين غاصب ضمنه ، فقوله : أزفت الآزفة يحتمل أن يكون من الأول أي قربت الساعة التي كل يوم تزداد قربا فهي كائنة قريبة وزادت في القرب ، ويحتمل أن يكون من الثاني كقوله : (وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي قرب وقوعها. وفاعل أزفت في الحقيقة القيامة أو الساعة فكأنه قال : أزفت القيامة الآزفة أو السّاعة الآزفة (١).

قال أبو زيد (٢) : قلت لأعرابيّ : ما المحبنطىء؟ قال : المتكأكىء ، قلت : ما المتكأكىء؟ قال : المتآزف؟ قلت : ما المتآزف؟ قال : أنت أحمق وتركني ومرّ (٣).

قوله : (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) يجوز أن يكون «كاشفة» وصفا (٤) وأن يكون مصدرا (٥) ، فإن كانت وصفا احتمل أن يكون التأنيث لأجل أنه صفة لمؤنث محذوف فقيل : تقديره : نفس كاشفة أو حال كاشفة.

فإن قيل : إذا قدرتها نفس كاشفة ، وقوله (مِنْ دُونِ اللهِ) استثناء على المشهور فيكون الله نفسا كاشفة؟ (٦)

__________________

ـ (نذير) اسم مصدر نحو اغتسل غسلا ، وأنبت نباتا وتوضأ وضوءا فاسم المصدر على الحدث كالمصدر ولكن حروفه نقصت عن حروفه لفظا وتقديرا دون تعويض وهذه التفرقة إنما هي في اصطلاح المتأخرين من النحاة أما المتقدمون منهم كسيبويه واللغويون فليس عندهم فرق بين مصدر واسم مصدر. انظر التبيان ٣٤.

(١) وقال بهذه الأشياء العقلية الامام الفخر الرازي كعادته في تفسيره الكبير ، وانظر تفسيره ١٥ / ٢٧.

(٢) سعيد بن أوس الأنصاري ، كان عالما بالنحو واللغة ، أخذ عن أبي عمرو وأخذ عنه أبو عبيد القاسم بن سلام ، وأبو حاتم ، وكان أعلم من الأصمعي وأبي عبيدة ، له من الكتب النوادر في اللغة وغيرها. مات سنة ٢١٥ ه‍ ، وانظر نزهة الألباء ص ٨٧ : ٩١.

(٣) نقله عنه البحر المحيط ٨ / ١٧٠ ، والدر المصون مخطوط بمكتبة الإسكندرية لوحة رقم ١١٩.

(٤) وهو رأي الزجاج فيما نقله عنه أبو حيان في البحر ٨ / ١٧٠.

(٥) وهو رأي الزمخشري في الكشاف ٤ / ٣٥ والرماني في البحر المرجع السابق على أن الرأي السابق هو رأي الزمخشري الأول ، وللرازي رأيه كما سيأتي الآن.

(٦) في الرازي : نفسا لها كاشفة.

٢٢٤

فالجواب من وجوه :

الأول : لا فساد في ذلك لقوله تعالى حكاية عن عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [المائدة : ١١٦].

الثاني : ليس صريحا في الاستثناء فيجوز أن لا يكون نفسا.

الثالث : الاستثناء الكاشف المبالغ (١) ويحتمل أن يكون التاء للمبالغة كرواية ، وعلّامة ونسّابة أي ليس لها إنسان كاشفة أي كثير الكشف.

وإن كانت مصدرا ، فهي كالخائنة والعافية والعاقبة ، والمعنى ليس لها من دون الله كشف أي لا يكشف عنها ، ولا يظهرها غيره ، فيكون من كشف الشيء أي عرف حقيقة (٢) ، كقوله : (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) [الأعراف : ١٨٧] وإما من كشف الضر أي أزاله. والمعنى ليس لها من يزيلها ويردها إذا غشيت الخلق أهوالها وشدائدها لم يكشفها أحد عنهم غيره. وهذا قول عطاء وقتادة والضحاك (٣). وتقدم الكلام على مادة «أزف» في غافر.

و «من» زائدة ، تقديره ليس لها غير الله كاشفة ، وهي تدخل على النفي فتؤكد معناه تقول : ما جاءني أحد ، وما جاءني من أحد ، وعلى هذا يحتمل أن يكون فيه تقديم وتأخير أي ليس لها من كاشفة دون الله فيكون نفيا عاما بالنسبة إلى الكواشف ، ويحتمل أن تكون غير زائدة ، والمعنى ليس لها في الوجود نفس تكشفها (٤) أي تخبر عنها كما هي من غير (٥) الله يعني من يكشفها فإنما يكشفها من الله لا من غير الله كقولك : كشفت الأمر من زيد. و «دون» يكون بمعنى غير كقوله تعالى : (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) [الصافات : ٨٦] أي غير الله.

قوله تعالى : (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا)(٦٢)

قوله : (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ) متعلق ب «تعجبون» ولا يجيء فيه الإعمال ، لأن من شرط الإعمال تأخير المعمول عن العوامل ، وهنا هو متقدم ، وفيه خلاف بعيد. وعليه تتخرج الآية الكريمة فإن كلّا من قوله : «تعجبون» و «تضحكون» و «لا تبكون» يطلب هذا الجار من حيث المعنى.

__________________

(١) اسما فاعل.

(٢) وهو رأى للرماني وجماعة كما أخبر بذلك صاحب البحر المحيط ٨ / ١٧٠.

(٣) البغوي والخازن في معالم التنزيل ولباب التأويل ٦ / ٢٧١.

(٤) في الرازي : تكتشفها.

(٥) وفيه : كما هي ومتى وقتها من غير الله.

٢٢٥

والعامة على فتح التاء والجيم من «تعجبون» و «تضحكون». والحسن بضم التاء وكسر الجيم والحاء من غير واو عاطفة بين الفعلين (١). وهي أبلغ من حيث إنهم إذا أضحكوا غيرهم كان تجرؤهم أكثر.

وقرأ أبيّ وعبد الله كالجماعة ، إلا أنهما بلا واو (٢) عاطفة كالحسن ، فيحتمل أن يكون يضحكون حالا ، وأن يكون استثناء كالتي قبلها.

فصل

قال المفسرون : المراد بالحديث القرآن. قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يكون إشارة إلى حديث أزفت الآزفة ، فإنهم كانوا يتعجبون من حشر الأجساد ، والعظام البالية. وقوله : (وَتَضْحَكُونَ) أي استهزاء من هذا الحديث كقوله تعالى في حق موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) [الزخرف : ٤٧].

ويحتمل أن يكون إنكارا على مطلق الضحك مع سماع حديث القيامة أي أتضحكون وقد سمعتم أن القيامة قربت فكان حقا أن لا تضحكوا حينئذ (٣).

وقوله : (وَلا تَبْكُونَ) مما تسمعون من الوعيد ، روي أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما رؤي بعد هذه الآية ضاحكا إلا تبسما. وقال أبو هريرة : لما نزل قوله (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ) الآية قال أهل الصفة : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ثم بكوا حتى جرت دموعهم على خدودهم ، فلما سمع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بكاءهم بكى معهم فبكينا لبكائه ، فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : لا يلج النّار من بكى من خشية الله ، ولا يدخل الجنّة مصرّ على معصية الله ، ولو لم تذنبوا لذهب الله بكم ، وأتى بقوم يذنبون فيغفر لهم ويرحمهم إنّه هو الغفور الرّحيم (٤).

قوله : (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) أي غافلون لاهون. وهذه الجملة يحتمل أن تكون مستأنفة ، أخبر الله عنهم بذلك ، ويحتمل أن تكون حالا أي انتفى عنكم البكاء في حال كونكم سامدين (٥). والسمود ، قيل : الإعراض والغفلة عن الشيء ، وقيل : اللهو ، يقال : دع عنّا سمودك أي لهوك. رواه الوالبيّ والعوفيّ عن ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) (٦) ـ وقال الشاعر :

__________________

(١) وهي شاذة ، وانظر البحر المحيط لأبي حيان ٨ / ١٧١ فتكون تعجبون تضحكون والمفعول محذوف.

(٢) المرجع السابق.

(٣) تفسير الإمام الرازي ١٥ / ٢٨.

(٤) ذكره الإمام القرطبي في الجامع ١٧ / ١٢٢ و ١٢٣.

(٥) في النسختين (سامدون) والتصحيح ما كتبت أعلى.

(٦) زيادة من أ.

٢٢٦

٤٥٧٨ ـ ألا أيّها الإنسان إنّك سامد

كأنّك لا تفنى ولا أنت هالك (١)

فهذا بمعنى لاه لاعب. وقيل : الخمود. وقيل : الاستنكار ، قال (رحمه‌الله) (٢) :

٤٥٧٩ ـ رمى الحدثان نسوة آل سعد

بمقدار سمدن له سمودا

فردّ شعورهنّ السّود بيضا

وردّ وجوههنّ البيض سودا (٣)

فهذا بمعنى الخمود والخشوع ، وقال عكرمة وأبو هريرة : السمود القيامة بلغة حمير ، يقولون: يا جارية اسمدي لنا أي غنّي ، فكانوا إذا سمعوا القرآن تغنّوا ولعبوا (٤). وقال الضحاك : أشرون. وقال مجاهد غضاب يتبرطعون. وقال الراغب : السامد اللاهي الرافع رأسه من قولهم : بعير سامد في سيره (٥). وقيل : سمد رأسه وسبده أي استأصل شعره.

وذكر باسم الفاعل لأن الغفلة دائمة وأما الضحك والعجب فهما أمران يتجددان ويعدمان. وقال الحسن سامدون أي واقفون للصلاة قبل وقوف الإمام ، لما روي عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه خرج والناس ينتظرونه قياما فقال : ما لي أراكم سامدين. حكاه الماوردي. وروى المهدويّ عن علي أنه خرج إلى الصلاة فرأى الناس قياما فقال : ما لي أراكم (٦) سامدين. وروي عن علي أن معنى «سامدون» أن يجلسوا غير مصلين ولا منتظرين الصلاة. وتسميد الأرض أن يجعل فيها السماد وهو سرجين ورماد. واسمأدّ الرجال اسمئدادا أي ورم غضبا.

قوله : (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) هذا الأمر يحتمل أن يكون عاما ، ويحتمل أن يكون التفاتا أي اشتغلوا بالعبادة ، ولم يقل : واعبدوا الله إما لكونه معلوما من قوله : (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ) وإما لأن العبادة في الحقيقة لا تكون إلّا لله.

وروى عكرمة عن (ابن (٧) عباس رضي الله عنهما) أن ـ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجنّ والإنس. وروي عن عبد الله ـ (رضي الله (٨) عنه) ـ قال: أول سورة أنزلت فيها السجدة النّجم ، فسجد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وسجد من

__________________

(١) من الطويل ولم أعثر على قائله. وانظر السراج المنير ٤ / ١٤١. وقد نقل القرطبي عن ابن عباس : أن سامدون معناها معرضون لاهون. انظر الجامع ١٧ / ١٢٣.

(٢) زيادة من أ.

(٣) بيتان من الوافر مجهول قائلهما. وهما في اللسان سمد ٢٠٨٩.

(٤) اللسان سمد السابق.

(٥) المفردات سمد ٢٤٠.

(٦) في القرطبي : «ما لكم سامدون». وانظر القرطبي ١٧ / ١٢٣ واللّسان سمد ٢٠٨٩ و ٢٠٩٠.

(٧) ما بين القوسين سقط من ب بسبب انتقال النظر.

(٨) زيادة من أ.

٢٢٧

خلفه إلا رجلا رأيته أخذ كفّا من تراب ، فسجد عليه فرأيته بعد ذلك قتل كافرا وهو أمية بن خلف.

وروى زيد بن ثابت ـ (رضي الله (١) عنه) ـ قال : قرأت على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والنّجم فلم يسجد فيها ، وهذا يدل على أن سجود التلاوة غير واجب ، قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ : إن (٢) الله لم يكتبها علينا إلا أن يشاء وهو قول الشّافعيّ وأحمد.

وذهب قوم إلى أنه واجب على القارىء والمستمع جميعا. وهو قول سفيان الثوريّ وأصحاب الرأي (٣).

وروى الثعلبي في تفسيره عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من قرأ سورة النجم أعطي من الأجر (عشر حسنات) (٤) بعدد من صدّق بمحمّد (٥) وكذّبه (انتهى) (٦).

__________________

(١) سقط من ب كذلك.

(٢) في ب إنه لم ....

(٣) وانظر في هذا كله تفسير البغوي والخازن ٦ / ٢٧٢ والقرطبي ١٧ / ١٢٤.

(٤) ما بين القوسين سقط من ب.

(٥) في الكشاف : بعدد من صدق بمحمد وجحد به بمكة. وقد رواه الزمخشري في الكشاف دون سند وانظر الكشاف ٤ / ٣٥.

(٦) ما بين القوسين زيادة من ب فقط.

٢٢٨

سورة القمر

مكية في قول الجمهور. وقال مقاتل : مكية إلا ثلاث آيات : (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) إلى قوله : (وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) [القمر : ٤٤ ـ ٤٦]. والصحيح الأول ، وهي خمس وخمسون آية ، وثلاثمائة واثنتان وأربعون كلمة وألف وأربعمائة وثلاثة وعشرون حرفا(١).

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ)(٣)

قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) أول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها ، وهو قوله تعالى : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) ، فكأنه أعاد ذلك مستدلا عليه بقوله تعالى : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) ، وهو حقّ ؛ إذ القمر انشق بقوله : (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) ماض على حقيقته ، وهو قول عامة المسلمين إلا من لا يلتفت إلى قوله. وقد صح في الأخبار أن القمر انشق على عهده ـ عليه الصلاة والسلام ـ مرتين. روى أنس بن مالك ـ (رضي الله عنه) ـ أن أهل مكة سألوا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يريهم آية ، فأراهم القمر شقّتين حتى رأوا حراء بينهما ، وقال سنان عن قتادة : فأراهم انشقاق القمر مرتين. وعن ابن مسعود ـ (رضي الله عنه) (٢) ـ قال : انشق القمر على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فرقتين فرقة فوق الجبل ، وفرقة دونه ، فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «اشهدوا». وقال أبو الضحى عن مسروق عن عبد الله : لم ينشق بمكة. وقال مقاتل : انشق القمر ، ثم التأم بعد ذلك.

وروى أبو الضحى عن مسروق عن عبد الله قال : انشق القمر على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقالت قريش : سحركم ابن أبي كبشة فقدموا السّفار فسألوهم قالوا : نعم قد رأينا ، فأنزل الله عزوجل : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)(٣). وقيل : انشق بمعنى سينشق يوم

__________________

(١) وانظر القرطبي ١٧ / ١٢٥.

(٢) ما بين الأقواس زيادة من (أ).

(٣) وانظر البغوي والخازن ٦ / ٢٧٣ والقرطبي ١٧ / ١٢٦.

٢٢٩

القيامة ، فأوقع الماضي موقع المستقبل لتحققه وهو خلاف الإجماع (١). وقيل : انشق بمعنى انفلق عنه الظلام عند طلوعه كما يسمى الصبح فلقا (٢) وأنشد للنابغة :

٤٥٨٠ ـ فلمّا أدبروا ولهم دويّ

دعانا عند شقّ الصّبح داعي (٣)

وإنما ذكرنا ذلك تنبيها على ضعفه.

قوله : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) ، أي ذاهب سوف يذهب ويبطل من قولهم : مرّ الشّيء واستمرّ إذا ذهب مثل قولهم : قرّ واستقرّ. قال مجاهد وقتادة : منّوا أنفسهم بذلك. وقيل : مستمر أي دائم ؛ فإن محمدا ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يأتي كل زمان ومكان بمعجزة فقالوا هذا سحر مستمر دائم ، لا يختلف بالنسبة إلى شيء بخلاف سحر السّحرة ، فإن بعضهم يقدر على أمر وأمرين ، وثلاثة ، ويعجز عن غيرها وهو قادر على الكل. قاله الزمخشري (٤). ومنه قول الشاعر :

٤٥٨١ ـ ألا إنّما الدّنيا ليال وأعصر

وليس على شيء قويم بمستمر (٥)

أي بدائم باق. وقيل : معناه شديد المرارة. قال الزمخشري : أي مستبشع عندنا مرّ على لهواتنا لا نقدر أن نسيغه كما لا نسيغ (٦) المرّ. انتهى.

يقال : مرّ الشّيء بنفسه ومرّه غيره ؛ فيكون متعديا ولازما ، ويقال : أمرّه أيضا.

وقال أبو العالية والضحاك : مستمر أي قويّ شديد ، من قولهم : مرّ الحبل إذا صلب واشتد ، وأمررته إذا أحكمت فتله ، واستمرّ الشيء إذا قوي واستحكم ، قال لقيط ـ (رحمة الله(٧) عليه ـ) :

٤٥٨٢ ـ حتّى استمرّت على شزر مريرته

صدق (٨) العزيمة لا رتّا ولا ضرعا (٩)

__________________

(١) نقل القرطبي أنه رأي القشيري ـ رحمه‌الله ـ.

(٢) المرجع السابق دونما تحديد وتعيين لأحد.

(٣) من الوافر من تمامه وهو للنابغة. وأتى بهذا البيت دلالة على أن الشق بمعنى الفلق وهو خطأ ، لما تظاهرت الروايات على أن القمر انشق فرقتين بمكة. وانظر هذا البيت في تفسير القرطبي ١٧ / ١٢٦ والبحر المحيط ٨ / ١٧٣ ولم أجده بديوانه.

(٤) قال : مستمر دائم مطرد وكل شيء قد انقادت طريقته ودامت حاله قيل فيه : قد استمر ؛ لما رأوا تتابع المعجزات وترادف الآيات قالوا هذا سحر مستمر. وقيل : مستمر : قوي محكم من قوله : استمر مريره وانظر الكشاف ٤ / ٣٦.

(٥) من الطويل لامرىء القيس. وأتى به شاهدا على أن المستمر بمعنى الدائم والباقي. وانظر القرطبي ١٧ / ١٢٧ والبحر ٨ / ١٧٤ وفتح القدير ٥ / ١٢٠ والديوان ١٠٩.

(٦) في الكشاف : كما لا يساغ المر الممقر. وانظر الكشاف ٤ / ٣٦.

(٧) زيادة من (أ) وانظر اللسان مرر ٤١٧٦.

(٨) كذا في البحر وفي القرطبي : مر.

(٩) من البسيط وروي «قحما» بدل رتّا. والرّتة ردة قبيحة في اللسان من العيب ، والقحم الشيخ الهرم يعتريه خرق وخرف والضرع اللين الذليل. ـ

٢٣٠

والمراد بقوله : «آية» هي اقتراب الساعة ، فإن انشقاق القمر من آياته ، وقد رأوه (١) وكذبوا فإن يروا غيرها أيضا يعرضون ، أو آية (٢) النبوة فإنه معجزة. أما كونه معجزة ففي غاية الظهور ، وأما كونه آية فلأن منكر خراب العالم ينكر انشقاق السماء ، وانفطارها ، وكل كوكب ، فإذا انشق بعضها كان ذلك مخالفا لقوله بجواز خراب العالم (٣) والمراد بهؤلاء القائلين المعرضين هم الكفار. والتنكير في قوله (آية) للتعظيم أي آية قوية أو عظيمة يعرضوا.

قال أبو حيان : ومعنى مستمر أي يشبه بعضه بعضا أي اشتهرت أفعاله على هذا الحال (٤). وهذا راجع إلى الدوام المتقدم. وأتى بهذه الجملة الشرطية تنبيها على أن حالهم في المستقبل كحالهم في الماضي.

وقرىء : يروا مبنيّا للمفعول من أرى (٥).

قوله : (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي كذبوا النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وما عاينوه من قدرة الله عزوجل ، واتبعوا ما زين لهم الشيطان من الباطل وكذبوا بالآية وهي انشقاق القمر ، (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) في أنه سحر القمر ، وأنه خسوف في القمر ، وظهور شيء في جانب آخر من الجو يشبه نصف القمر ، وأنه سحر أعيننا والقمر لم يصبه شيء ، فهذه أهواؤهم.

قوله : (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) العامة على كسر القاف ، ورفع الراء اسم فاعل ، ورفعه خبرا «لكل» الواقع مبتدأ. وقرأ شيبة بفتح القاف وتروى عن نافع (٦).

قال أبو حاتم : لا وجه لها ، وقد وجهها غيره على حذف مضاف أي وكل أمر ذو استقرار ، وزمان استقرار ، أو مكان استقرار (٧) ، فجاز أن يكون مصدرا (٨) ، وأن يكون ظرفا زمانيا أو مكانيا (٩) قال معناه الزمخشري (١٠). وقرأ أبو جعفر وزيد بن علي بكسر (١١) القاف وجر الراء. وفيها أوجه :

__________________

ـ وجاء بالبيت ليبين أن المراد من المستمر القوة والاستحكام من المره وهي القوة. وقد سبق هذا البيت أول النجم. وانظر القرطبي ١٧ / ٨٦ ، و ١٢٧ والبحر ٨ / ١٧٤ وفتح القدير ٥ / ١٢٠.

(١) في الرازي : وقد ردوا وكذبوا.

(٢) وفيه : آية الانشقاق.

(٣) انظر الرازي ١٥ / ٣٠.

(٤) في البحر : على هذا الوجه. وهو رأي نقله في كتابه فقد أقر بأن معنى مستمر دائم ، وانظر البحر ٨ / ١٧٣ و ١٧٤.

(٥) لم تتعين في المرجع السابق.

(٦) المرجع السابق وهي شاذة ولم ترو عن نافع في المتواتر.

(٧) البحر المحيط المرجع السابق والكشاف ٤ / ٣٦.

(٨) أي ميميّا من غير الثلاثي.

(٩) أو اسم مكان أو زمان ويكونان من غير الثلاثي أيضا.

(١٠) الكشاف ٤ / ٣٦.

(١١) وقد نقلها صاحب الإتحاف ٤٠٤ والبحر والكشاف المرجعان السابقان كما نقلها صاحب المحتسب ٢ / ٢٩٧.

٢٣١

أحدها ـ ولم يذكر الزمخشري غيره ـ : أن تكون صفة لأمر ، ويرتفع «كلّ» حينئذ بالعطف على «الساعة» فيكون فاعلا أي اقتربت الساعة وكل أمر مستقر.

قال أبو حيان : وهذا بعيد لوجود الفصل بجمل ثلاث ، وبعيد أن يوجد مثل هذا التركيب في كلام العرب ، نحو : «أكلت خبزا ، وضربت خالدا» (١) وأن يجيء : زيدا أكرمه ورحل إلى بني فلان ولحما فيكون «ولحما» معطوفا على «خبزا» بل لا يوجد مثله في كلام العرب. انتهى(٢).

قال شهاب الدين (٣) : وإذا دل دليل على المعنى فلا يبالى بالفواصل ، وأين فصاحة القرآن من هذا التركيب الذي ركبه هو حتى يقيسه عليه في المنع؟

الثاني : أن تكون «مستقرا» خبرا «لكلّ أمر». وهو مرفوع ، إلا أنه خفض على الجوار. قاله أبو الفضل الرازي (٤).

وهذا لا يجوز ، لأن الجوار إنما جاء في النعت أو العطف على خلاف في إتيانه كما تقدم في سورة المائدة فكيف يقال به في خبر المبتدأ؟ هذا ما لا يجوز (٥).

الثالث : أن خبر المبتدأ قوله : (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) أخبر عن (كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) بأنه حكمة بالغة ويكون قوله : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) جملة اعتراض بين المبتدأ أو خبره (٦).

الرابع : أن الخبر مقدر (٧) ؛ فقدره أبو البقاء : معمول به أو أتى (٨) وقدره غيره : بالغوه (٩) ؛ لأن قبله (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي وكل أمر مستقر ، أي لكل أمر حقيقة ما كان منه في الدنيا (١٠) فسيظهر وما كان منه في الآخرة فسيعرف. وقال قتادة : وكل أمر مستقر فالخير مستقر بأهل الخير ، والشر بأهل الشر. وقيل : كل أمر من خير أو شر مستقر قراره ، فالخير مستقر بأهله في الجنة والشر مستقر بأهله في النار. وقيل : مستقر قول المصدقين والمكذبين حتى يعرفوا حقيقته بالثواب والعذاب ، وقال مقاتل : لكل

__________________

(١) في البحر : وضربت زيدا.

(٢) وانظر البحر ٨ / ١٧٤ وقد وافق الزمخشريّ ابن جني في المحتسب فقال : «رفعه عندي عطف على الساعة أي اقتربت الساعة وكل أمر أي اقترب استقرار الأمور في يوم القيامة ...» ثم قال «هذا وجه رفعه والله أعلم» المحتسب ٢ / ٢٩٧.

(٣) الدر المصون مخطوط بمكتبة الإسكندرية لوحة رقم ١٢٠.

(٤) البحر المرجع السابق.

(٥) السابق أيضا.

(٦) نقله أبو حيان في البحر المحيط ٨ / ١٧٤.

(٧) وهو اختيار أبي حيان السابق والقرطبي في الجامع ١٧ / ١٢٨ ، وأوّل وجهي أبي البقاء في التبيان.

(٨) التبيان ١١٩٢.

(٩) وهو تقدير أبي حيان السابق.

(١٠) وهذا رأي الكلبي.

٢٣٢

حديث منتهى. وقيل : ما قدر كائن لا محالة (١) وقيل كل أمر مستقر على سنن الحق يثبت ، والباطل يزهق فيكون ذلك تهديدا لهم وتسلية للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو كقوله تعالى : (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزمر : ٧].

وقيل : كل أمر مستقر في علم الله تعالى لا يخفى عليه شيء ، فهم كذبوا واتبعوا أهواءهم ، والأنبياء صدقوا وبلغوا ، كقوله تعالى : (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) [غافر : ١٦] وكقوله: (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) [القمر : ٥٢ ـ ٥٣].

وقيل : هو جواب لقوله : (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) أي بل كل أمره مستقر (٢).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ)(٥)

قوله : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ) يعني أهل مكة من أخبار الأمم المكذبة والقرآن (ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) أي مناهي.

قوله : «مزدجر» يجوز أن يكون فاعلا ب «فيه» (٣) لأن «فيه» وقع صلة وأن يكون مبتدأ ، و «فيه» الخبر. و «الدال» بدل من تاء الافتعال ، وأصله مزتجر ، فقلبت التاء دالا. وقد تقدم أن تاء الافتعال تقلب دالّا بعد الزاي ، والدال ، والذال ؛ لأن الزاي حرف مجهور والتاء حرف مهموس ، فأبدلوها إلى حرف مجهور قريب من التاء ، وهو الدال. و «مزدجر» هنا اسم (٤) مصدر أي ازدجارا ، أو اسم مكان أي موضع ازدجار. ومعناه فيه نهي وعظة ، يقال : زجرته وازدجرته إذا نهيته عن السوء. وقرىء : مزّجر بقلب تاء الافتعال زايا ثم أدغم (٥). وزيد بن علي : مزجر (٦) اسم فاعل من أزجر صار ذا زجر ، كأعشب أي صار ذا عشب.

والأنباء هي الأخبار العظام التي لها وقع كقول الهدهد (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) [النمل : ٢٢] ، لأنه كان خبرا عظيما له وقع وخبر ، وقال تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) [الحجرات : ٦] أي بأمر غريب. وإنما يجب التثبّت فيما يتعلق به حكم ويترتب عليه أمر ذو بال ، وقال تعالى : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ) [هود : ٤٩]. والمراد بالأنباء هنا أخبار المهلكين المكذّبين (٧).

__________________

(١) وانظر هذه الأقوال في القرطبي ١٧ / ١٢٨ ، والبغوي والخازن ٦ / ٢٧٣ و ٢٧٤.

(٢) وانظر الرازي ١٥ / ٣٢.

(٣) أي بمتعلق الجار والمجرور.

(٤) التعبير القريب : مصدر ميميّ.

(٥) الزايان في بعضهما ، ولم يحدد أبو حيان ولا الزمخشري في البحر المحيط والكشاف من قرأ بتلك القراءة. وانظر البحر ٨ / ١٧٤ والكشاف ٤ / ٣٦.

(٦) ذكرها صاحب البحر المرجع السابق.

(٧) وانظر تفسير الإمام الفخر ١٥ / ٣٢.

٢٣٣

وقيل : المراد القرآن (١).

قال ابن الخطيب : وفي (ما) وجهان :

الأول : أنها موصولة أي جاءكم الذي فيه مزدجر.

الثاني : أنها نكرة موصوفة أي جاءكم من الأنباء شيء موصوف بأن فيه مزدجر (٢).

قوله : «حكمة» فيه وجهان :

أحدهما : أنه بدل من (ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) كأنه قيل : ولقد جاءهم حكمة بالغة من الأنباء ، وحينئذ يكون بدل كل من كل ، أو بدل اشتمال.

الثاني : أن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي هو حكمة بالغة (٣) ، أي ذلك الذي جاءهم من إرسال الرسل وإيضاح الدلائل ، والإنذار لمن مضى ، أو إشارة لما فيه الأنباء أنه حكمة ، أو إشارة إلى الساعة المقتربة. وقد تقدم أنه يجوز على قراءة أبي جعفر وزيد أن يكون خبرا ل (كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ). وقرىء «حكمة» بالنصب حالا من «ما» (٤).

قال الزمخشري : فإن قلت : إن كانت «ما» موصولة ساغ لك أن تنصب «حكمة» حالا فكيف تعمل إن كانت موصوفة وهو الظاهر؟

قلت : تخصّصها بالصفة فيحسن نصب الحال عنها. انتهى (٥).

وهو سؤال واضح ؛ لأنه يصير التقدير : جاءهم من الأنباء شيء فيه ازدجار فيكون منكرا ، وتنكير ذي (٦) الحال قبيح.

قوله : (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) يجوز في «ما» أن تكون استفهامية ، وتكون في محل نصب مفعولا مقدما أي أيّ شيء تغني النذر؟ وأن تكون نافية أي لم تغن النذر شيئا (٧).

والنذر جمع نذير ؛ والمراد به المصدر أو اسم الفاعل كما تقدم في آخر النجم (٨). وكتب «تغن» إتباعا للفظ الوصل ، فإنها ساقطة لالتقاء الساكنين (٩).

قال بعض النحويين : وإنما حذفت الياء من «تغني» حملا لها على «لم» فجزمت

__________________

(١) وتقديره جاء فيه الأنباء.

(٢) قال : وهذا أظهر. وقد قال بالمصدرية والمكانية في «مزدجر» : الرازي أيضا نقلا عن الزمخشري وأبو حيان نقلا عنهما معا. وانظر الرازي والكشاف والبحر المراجع السابقة.

(٣) قال بهذين الوجهين الإعرابيين مكي في المشكل ٢ / ٣٣٥ والزمخشري في الكشاف ٤ / ٣٦ وأبو البقاء في التبيان ١١٩٢ ، وأبو حيان في البحر ١٧٤.

(٤) ونسبها أبو حيان لليماني. انظر المرجع السابق والكشاف أيضا.

(٥) الكشاف المرجع السابق.

(٦) أي صاحب الحال.

(٧) أخذه من الكشاف للزمخشري السابق أيضا.

(٨) في قوله : «هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى».

(٩) الياء وهمزة الوصل.

٢٣٤

كما تجزم «لم». قال مكي : وهذا خطأ ، لأن «لم» تنفي الماضي وتردّ المستقبل ماضيا ، و «ما» تنفي الحال ، فلا يجوز أن يقع إحداهما موقع الأخرى لاختلاف معنييهما (١).

فصل

المعنى أن القرآن حكمة بالغة تامة قد بلغت الغاية. وقوله : (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) إن كانت «ما» نافية فالمعنى أن النذر لم يبعثوا ليغنوا ويلجئوا قومهم إلى الإيمان ، وإنما أرسلوا مبلغين كقوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ)(٢) [الشورى : ٤٨] ويؤيد هذا قوله : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) وإن كانت استفهامية فالمعنى : وأي شيء تغني النذر إذا خالفوهم وكذبوهم؟ كقوله : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) أي إنك أتيت بما عليك من الدعوى فكذبوا بها وأنذرتهم بما جرى على المكذبين ، فلم يفدهم فهذه حكمة بالغة وما الذي تغني النذر غير هذا فلم يبق عليك شيء آخر؟ فتول عنهم.

قوله تعالى : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) (٨)

قوله : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي أعرض عنهم. قال أكثر المفسرين : نسختها آية السيف.

قال ابن الخطيب إن قول المفسرين في قوله : «فتولّ» منسوخ ليس كذلك ، بل المراد منه لا تناظرهم بالكلام (٣).

قوله : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) «يوم» منصوب إما ب «اذكر» مضمرة وهو أقربها. وإليه ذهب الرّمّانيّ (٤) ، والزمخشري (٥) وإما ب «يخرجون» بعده. وإليه ذهب الزمخشري أيضا (٦) ، وإما بقوله : (فَما تُغْنِ) ويكون قوله : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) اعتراضا ، وإما منصوبا بقوله : (يَقُولُ الْكافِرُونَ). وفيه بعد لبعده عنه (٧).

وقيل : تم الكلام عند قوله : (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) ويبتدأ بقوله : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) فيكون منصوبا بقوله : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ). وهو ضعيف جدا ؛ لأن المعنى ليس أمره بالتولية عنهم في يوم النفخ في الصور ، وإمّا منصوب بحذف الخافض أي فتول عنهم إلى يوم. قاله الحسين (٨) وضعف من حيث اللّفظ ومن حيث المعنى أما اللفظ ، فلأن إسقاط الخافض غير

__________________

(١) قاله في مشكل الإعراب له ٢ / ٣٣٦ و ٣٣٥.

(٢) وانظر هذا كله في تفسير الإمام الفخر الرازي ١٥ / ٣٣.

(٣) وانظر هذا كله في تفسير الإمام الفخر الرازي ١٥ / ٣٣ والآيات ٤٨ من الشورى و ١٠١ من يونس.

(٤) نقله عن صاحب البحر ٨ / ١٧٥.

(٥) الكشاف ٤ / ٣٦.

(٦) المرجع السابق.

(٧) قال بهذين الوجهين ناقلا في كتابه صاحب البحر المرجع السابق.

(٨) كذا في (أ) وفي البحر و (ب) الحسن. وهو الأصح فهو الحسن البصري.

٢٣٥

منقاس ، وأما المعنى فليس تولّيه عنهم مغيّا بذلك الزمان ، وإما بانتظر مضمرا ، فهذه سبعة أوجه في ناصب «يوم» (١). قال القرطبي : أو منصوب ب «خشّعا» أو على حذف حرف الفاء وما عملت فيه من جواب الأمر تقديره : فتول عنهم فإن لهم يوم يدع الدّاع. وقيل : أي تول عنهم يا محمد فقد أقمت الحجة ، وأبصرتهم يوم يدع الداع (٢). وقيل : أعرض عنهم يوم القيامة ولا تسأل عنهم وعن أحوالهم فإنهم يدعون إلى شيء نكر وينالهم عذاب شديد كقولك : لا تسل ما جرى على فلان إذا أخبرته بأمر عظيم.

وقيل : أي وكل أمر مستقر يوم يدع الداعي. وحذفت الواو من «يدع» خطّا اتباعا للفظ كما تقدم في «تغن» و (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) [الشورى : ٢٤] وشبهه (٣). والياء (٤) من «الدّاع» مبالغة في التخفيف إجراء «لأل» مجرى ما عاقبها وهو التنوين ، فكما تحذف الياء مع التنوين كذلك مع ما عاقبها (٥).

قوله : (الدَّاعِيَ) معرف كالمنادي في قوله : (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ) [ق : ٤١] ؛ لأنه معلوم قد أخبر عنه فقيل : إن مناديا ينادي وداعيا يدعو (٦).

قيل : الداعي : إسرافيل ينفخ قائما على صخرة بيت المقدس ، قاله مقاتل.

وقيل : جبريل.

وقيل : ملك يوكّل بذلك. والتعريف حينئذ لا يقطع حدّ العلمية ويكون كقولنا : جاء رجل فقال الرّجل. قاله ابن الخطيب (٧).

قوله : (إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) العامة على ضم الكاف ، وهو صفة على فعل ، وفعل (٨) في الصّفات عزيز منه : أمر نكر ، ورجل شلل (٩) وناقة أجد (١٠) ، وروضة أنف (١١) ومشية سجح(١٢).

__________________

(١) وقد ذكرها مجتمعة أبو حيان في مرجعه السابق ، فضلا عن وجود بعضها متناثرة في الكشاف والقرطبي وغيرهما.

(٢) في القرطبي : «يوم يدعو الدّاعي» في العبارتين. وانظر هذه الأقوال الأخيرة في تفسير العلامة القرطبي الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٢٩.

(٣) لأن المصحف كتب بلفظ الإدراج ووصل الكلام ولم يكتب على حكم الوصل والوقف. وانظر المشكل ٢ / ٣٣٦.

(٤) أي وحذفت الياء فهو عطف على الواو.

(٥) قاله في البحر المرجع السابق.

(٦) قاله الرازي ١٥ / ٣٤.

(٧) تفسير الرازي ١٥ / ٣٤.

(٨) وهو من الأوزان المتفق عليها ضمن عشرة.

(٩) هو الخفيف السريع ، يقال : رجل مشلّ ، وشلول ، وشلول ، وشلشل. وانظر اللسان شلل ٢٣١٧.

(١٠) قوية موثقة الخلق. واشتقاقه من الإجاد والإجاد كالطاق القصير. وانظر اللسان أجد ٣١.

(١١) التي لم يرعها أحد. وانظر اللسان أنف ١٥٣.

(١٢) أي سهلة. اللسان سجح ١٩٣٩.

٢٣٦

وقرأ ابن كثير بسكون القاف ، فيحتمل أن يكون أصلا ، وأن يكون مخففا من قراءة الجماعة (١). وقد تقدم ذلك محررا في العسر واليسر في سورة المائدة.

وسمي الشديد نكرا ، لأن النفوس تنكره ، قال مالك بن عوف :

٤٥٨٣ ـ أقدم نجاح إنّه يوم نكر

مثلي على مثلك يحمي ويكر (٢)

وقرأ زيد بن علي والجحدري وأبو قلابة : نكر فعلا ماضيا مبنيا للمفعول ، لأن «نكر» يتعدى ؛ قال تعالى : (نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً)(٣) [هود : ٧٠].

فصل

المعنى إلى شيء منكر فظيع ، لم ير مثله فينكرونه استعظاما ، قال ابن الخطيب : وهو يحتمل وجهين :

أحدهما : أن المعنى إلى شيء نكر في يومنا هذا ، لأنهم أنكروه أي يوم يدع الداعي إلى الشيء الذي أنكروه يخرجون.

الثاني : أن المعنى منكر أي يقول القائل كان ينبغي أن لا يقع ولا يكون لأن المنكر من شأنه أن لا يوجد يقال : فلان ينهى عن المنكر ، وعلى هذا فهو عندهم كان ينبغي أن لا يقع ، لأنه يرديهم في الهاوية.

فإن قيل : ما ذلك الشيء النكر؟

فأجيب : بأنه الحساب ، أو الجمع له ، أو النشر للجمع.

فإن قيل : النشر لا يكون منكرا ، فإنه إحياء ، لأن الكافر من أين يعرف وقت النشر ما يجري عليه لينكره.

فالجواب : أنه يعلم ذلك لقوله تعالى عنهم : (يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا)(٤) [يس: ٥٢].

قوله : «خاشعا أبصارهم» قرأ أبو عمرو والأخوان (٥) خاشعا ، وباقي السبعة (خُشَّعاً) ، فالقراءة الأولى جارية على اللغة الفصحى من حيث إنّ الفعل وما جرى مجراه إذا قدم على الفاعل وحّد تقول : تخشع أبصارهم ، ولا تقول : يخشعن أبصارهم ، وأنشد (ـ رحمة الله عليه ـ (٦) :

__________________

(١) وقد قال مكي : إنهما لغتان. وانظر تلك القراءة المتواترة في الكشف ٢ / ٢٩٧ والسبعة ٦١٧.

(٢) من البسيط لمالك بن عوف النضري وجاء به في كلمة «نكر» المنكرة للتفخيم والتهويل ، فالنفوس تنكره دائما وانظر البحر المحيط ٨ / ١٧٥.

(٣) وهذه القراءة شاذة ذكرها أبو الفتح في المحتسب ٢ / ٢٩٨ ، وابن خالويه في المختصر ١٤٧.

(٤) وانظر تفسير الإمام الرازي ١٥ / ٣٤.

(٥) حمزة والكسائي. وانظر الكشف ٢ / ٢٩٧ والسبعة ٦١٧. وهي متواترة.

(٦) ما بين القوسين جملة مزيدة من (أ).

٢٣٧

٤٥٨٤ ـ وشباب حسن أوجههم

من إياد بن نزار بن معد (١)

وقال آخر :

٤٥٨٥ ـ تلقى الفجاج بها الرّكبان معترضا

أعناق بزّلها مرخى لها الجدل (٢)

وأما الثانية فجاءت على لغة طيّىء ، يقولون : أكلوني البراغيث ، وقد تقدم القول على ذلك في المائدة والأنبياء ومثله قوله :

٤٥٨٦ ـ بمطّرد لدن صحاح كعوبه

وذي رونق عضب يقدّ القوانسا (٣)

قيل : وجمع التكسير في اللغة في مثل هذا أكثر من الإفراد. وقرأ أبيّ وعبد الله : خاشعة على تخشع هي (٤).

وقال الزمخشري : و «خشّعا» على يخشعن أبصارهم (٥). وهي لغة من يقول : أكلوني البراغيث وهي طيىء (٦).

قال أبو حيان : ولا يجري جمع التكسير مجرى جمع السلامة فيكون على تلك اللغة النادرة القليلة. وقد نص سيبويه على أن جمع التكسير أكثر في كلام العرب فكيف يكون أكثر ويكون على تلك اللغة القليلة؟ (٧) وكذا قال الفراء حين ذكر الإفراد مذكرا

__________________

(١) قائله الحرث بن روس الإيادي ، ويروى : لأبي دؤاد الإيادي. وهو من بحر الرمل. وهذا البيت يظهر حقيقة وقاعدة هي : أنه إذا تقدم الفعل أو اسم الفاعل أو شبهه على الجماعة جاز تأنيثه ، وتوحيده ، وجمعه ، والبيت جاء على التوحيد ، وهو الأفصح كما أخبر أعلى ، والشاهد على هذا. وانظر معاني القرآن للفراء ٣ / ١٠٥ والقرطبي ١٧ / ١٢٩ والبحر ٨ / ١٧٥ والطبري ٢٧ / ٥٣ وروح المعاني ٨٠ / ٢٧ وحجة ابن خالويه ٣٣٨ ومجمع البيان ٩ / ٢٨٠ وفتح القدير ٥ / ١٢١ وتفسير البغوي ٦ / ٢٧٤ ومعاني القرآن وإعرابه ٥ / ٨٦.

(٢) من البسيط ولم ينسبه الفرّاء ولا أبو حيان في المعاني والبحر المحيط. والشاهد فيه كسابقه من توحيد المشتق اسم الفاعل واسم المفعول مقدمين على الجماعة قال الفراء : الجدل جمع الجديل وهو الزّمام فلو قال : معترضات أو معترضة لكان صوابا (وكذلك) مرخاة ومرخيات. وقد روي : «يرمي» في المعاني للفراء. وفي البحر : «ترمي» وفي (أ) أعلى تلقي ، وفي (ب) رمى ، وفي البحر: «به» بدل «بها». وانظر المعاني ٣ / ١٠٥ والبحر ٨ / ١٧٥ وجامع البيان للطبري ٢٧ / ٥٣.

(٣) من الطويل وهو مجهول قائله ، والمطرد : المستقيم على جهته ، ويقصد السيف ، واللّدن : اللّين من كل شيء ، والعضب : السيف القاطع ، والقوانس : جمع قونس وهو أعلى بيضة الحديد. والشاهد في : «صحاح كعوبه» حيث جمع الصّحاح «ك خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ» وهو جائز كما قال الفراء ، ولكن على لغة «أكلوني البراغيث» الطيئية فلم يقل : «صحيحة كعوبه» على الأفصح. وانظر البحر المحيط ٨ / ١٨٥ ، وروح المعاني للألوسي ٢٧ / ٨٠ وشرح المفصل لابن يعيش ٦ / ١٠٧.

(٤) شاذة ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٤٧ ، والبحر المحيط ٨ / ١٧٥.

(٥) في الكشاف : على تخشع أبصارهم وخشعا على «يخشعن» ....

(٦) الكشاف ٤ / ٣٦.

(٧) في البحر ٨ / ١٧٥ و ١٧٦ وفيه : النادرة القليلة.

٢٣٨

ومؤنثا وجمع التكسير ، قال : لأن الصّفة متى تقدمت على الجماعة جاز فيها ذلك ، والجمع موافق للفظها فكان أشبه (١).

قال أبو حيان : وإنما يخرج على تلك اللغة إذا كان الجمع جمع سلامة (٢) نحو : مررت بقوم كريمين آباؤهم والزمخشري قاس جمع التكسير على جمع السلامة وهو قياس فاسد يرده النقل عن العرب أن جمع التكسير أجود من الإفراد كما ذكره سيبويه (٣) ودل عليه كلام الفراء (٤).

قال شهاب الدين : وقد خرج الناس قول امرىء القيس :

٤٥٨٧ ـ وقوفا بها صحبي على مطيّهم

يقولون : لا تهلك أسى وتجمّل (٥)

على أن صحبي فاعل ب «وقوفا» وهو جمع «واقف» في أحد القولين في «وقوفا».

وفي انتصاب «خاشعا وخشعا وخاشعة» أوجه :

أحدها : أنه مفعول به وناصبه (يَدْعُ الدَّاعِ)(٦). وهو في الحقيقة (صفة) لموصوف محذوف تقديره فريقا خاشعا أو فوجا خاشعا.

والثاني : أنه حال من فاعل (يخرجون) المتأخر عنه (٧) ، ولما كان العامل متصرفا جاز تقدم الحال عليه ، وهو رد على الجرمي ، حيث زعم أنه لا يجوز ، ورد عليه أيضا بقول العرب : (شتّى تؤوب الحلبة) «فشتى» حال من الحلبة ، وقال الشاعر :

٤٥٨٨ ـ سريعا يهون الصّعب عند أولي النّهى

إذا برجاء صادق قابلوا البأسا (٨)

__________________

(١) وقد قال الفراء في المعاني ٣ / ١٠٥ : «إذا تقدم الفعل قبل اسم مؤنث وهو له أو قبل جمع مؤنث مثل الأنصار ، والأعمار وما أشبههما جاز تأنيث الفعل وتذكيره وجمعه. وقد أتى بذلك في هذا الحرف يقصد خاشعا أبصارهم» ، وانظر المعاني السابق.

(٢) في البحر : الجمع مجموعا بالواو والنون.

(٣) قال : واعلم أن ما كان يجمع بغير الواو والنون نحو : حسن وحسان فإن الأجود فيه أن تقول : مررت برجل حسان قومه ، وما كان يجمع بالواو والنون نحو منطلق ومنطلقين فإن الأجود فيه أن يجعل بمنزلة الفعل المتقدم فتقول : مررت برجل منطلق قومه. وانظر الكتاب ٢ / ٤٣ ، ٤١.

(٤) البحر ٨ / ١٧٦.

(٥) من الطويل ، ونسب إلى امرىء القيس وليس في ديوانه وإنما هو في ديوان طرفة ١٩ دار صادر ، وروح المعاني ٢٧ / ٨٠ ، وفتح القدير ٥ / ١٢١ ، والشاهد : جمع الواقف جمعا تكسيريّا ورفعه لما بعده فهو «خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ». وهو موافق لما ذهب إليه الزمخشري ومناقض لأبي حيان من أن جمع التكسير لا يجري مجرى جمع السلامة.

(٦) وهو رأي الإمام الرازي في تفسيره ١٥ / ٣٤. وانظر البحر ٨ / ١٧٥.

(٧) مشكل القرآن ٢ / ٣٣٧ والتبيان ١١٩٣ والبحر السابق.

(٨) هو من الطويل ولم أقف على قائله. وشاهده : تقدم الحال «سريعا» على عاملها «يهون» لأنه فعل متصرف وهو رد على مذهب الجرمي الذي لا يجيز ذلك وإن كان العامل متصرفا. وانظر البحر ٨ / ١٧٥.

٢٣٩

الثالث : أنه حال من الضمير في (عنهم). ولم يذكر مكّيّ غيره (١).

الرابع : أنه حال من مفعول (يدعو) المحذوف تقديره : يوم يدعوهم الدّاعي خشّعا ؛ فالعامل فيها (يدعو). قاله أبو البقاء. وارتفع أبصارهم على وجهين :

أظهرهما : الفاعلية بالصفة قبله.

الثاني : على البدل من الضمير المستتر في (خشّعا) (٢) ؛ لأن التقدير خشّعا هم ، وهذا إنما يأتي على قراءة خشعا فقط.

وقرىء خشّع أبصارهم على أن «خشعا» خبر مقدم ، و «أبصارهم» مبتدأ ، والجملة في محل نصب على الحال (٣) وفيه الخلاف المذكور من قبل كقوله :

٤٥٨٩ ـ ..........

وجدته حاضراه الجود والكرم (٤)

فصل

قال ابن الخطيب ، لما حكى نصب «خاشعا» ، قال : إنه منصوب على أنه مفعول بقوله : «يدعو» أي يوم يدعو الدّاعي خشّعا.

فإن قيل : هذا فاسد من وجوه :

أحدها : أن الشخص لا فائدة فيه ؛ لأن الداعي يدعو كل أحد.

ثانيها : قوله : (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) بعد الدعاء فيكونون خشعا قبل الخروج وهو باطل.

ثالثهما : قراءة خاشعة (٥) تبطل هذا!

نقول : أما الجواب عن الأول فإن قوله : (إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) يدفع ذلك ، لأن كل أحد لا يدعى إلى شيء نكر ، وعن الثاني المراد من الشيء النكر الحساب العسير يوم يدع الداعي إلى الحساب العسير (٦) خشعا ولا يكون العامل في (يوم) يدعو «يخرجون» بل «اذكروا» و (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) كقوله تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر : ٤٨]

__________________

(١) مشكل الإعراب ٢ / ٣٣٦.

(٢) التبيان ١١٩٣.

(٣) وانظر البحر ٨ / ١٧٦ ، والقرطبي ١٧ / ١٣٠.

(٤) عجز بيت من البسيط لجرير صدره :

إنّ الّذي كنت أرجو فضل نائله

 ..........

وهو من قصيدته المشهورة في معرض العتاب. والشاهد : الجود والكرم فهذه جملة حالية في محل نصب على الحال من حاضراه كقوله الله : (خشع أبصارهم). وانظر القرطبي ١٧ / ١٣ ، والكشاف ٤ / ٣٦ وشرح شواهد الكشاف ٤ / ٥٤١.

(٥) في الرازي : خاشعا.

(٦) وفيه العسر.

٢٤٠