اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

فصل

قال قتادة : مناة صخرة كانت لخزاعة بقديد. وقالت عائشة (رضي الله عنها) (١) في الأنصار كانوا يصلون لمناة فكانت حذو قديد. وقال ابن زيد : بيت كان بالمشلل تعبده بنو كعب. وقال الضحاك مناة صنم لهذيل وخزاعة تعبده أهل مكة. وقيل : اللّات والعزّى ومناة أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها.

قوله : (الأخرى) صفة لمناة (٢). قال أبو البقاء : و «الأخرى» توكيد لأن الثالثة لا تكون إلا أخرى (٣).

وقال الزمخشري : والأخرى ذم وهي المتأخّرة الوضيعة المقدار ، كقوله (٤) : (قالَتْ أُخْراهُمْ) [الأعراف : ٣٨] أي وضعاؤهم لأشرافهم (٥). ويجوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم للّات والعزّى (٦). انتهى.

وفيه نظر ، لأن «الأخرى» إنما تدل على الغيرية ، وليس فيها تعرض لمدح ولا ذمّ ، فإن جاء شيء فلقرينة خارجيّة.

وقيل : الأخرى صفة للعزّى ؛ لأن الثانية أخرى بالنسبة إلى الأولى (٧). وقال الحسين بن الفضل : فيه تقديم وتأخير أي العزّى الأخرى ، ومناة الثالثة. ولا حاجة إلى ذلك ؛ لأن الأصل عدمه (٨).

فصل

قال ابن الخطيب : فإن قيل : إنما يقال : أخّروا «أخرى» إذا (تقدم) (٩) أول مشارك للثاني فلا يقال جاءني رجل وامرأة أخرى فيلزم أن تكون العزّى ثالثة!

فالجواب : قد يستعمل الآخر والأخرى للذّمّ ، فالمراد بالأخرى المتأخرة الذليلة. واللات على صورة آدمّي (١٠). والعزّى شجرة وهي نبات. وقيل : صخرة جماد وهي متأخرة عنهما. أو في الكلام حذف أي اللات والعزى المعبودين بالباطل ومناة الثالثة الأخرى. أو المعنى ومناة الأخرى الثالثة على التقديم والتأخير (١١). ومعنى الآية هل

__________________

(١) زيادة من (أ).

(٢) وانظر البغوي والخازن ٦ / ٢٦٣.

(٣) التبيان ١١٨٨.

(٤) في (أ) كقولك. وفي الكشاف : كقوله تعالى.

(٥) وفيه لرؤسائهم وأشرافهم.

(٦) وانظر الكشاف ٤ / ٣٠.

(٧) نقله القرطبي في تفسيره ولم يحدّد من قال به ، انظر القرطبي ١٧ / ١٠٢.

(٨) وانظر المرجع السابق.

(٩) سقط من (ب) وقال الناسخ : كذا بياض من الأصل.

(١٠) بالمعنى من الرازي ٢٨ / ٢٩٦.

(١١) الرازي والقرطبي السابقين.

١٨١

رأيتم هذه الأصنام حقّ الرؤية فإن رأيتموها علمتم أنها لا تصلح للإلهيّة. والمقصود إبطال الشركاء وإثبات التوحيد.

فصل

«أرأيت» بمعنى أخبرني فيتعدى لاثنين أولهما اللات وما عطف عليه ، والثاني : الجملة الاستفهامية من قوله : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ).

فإن قيل : لم يعد من هذه الجملة ضمير على المفعول الأول.

فالجواب : أن قوله (وَلَهُ الْأُنْثى) في قوة : له هذه الأصنام وإن كان أصل التركيب ألكم الذكر وله هنّ أي تلك الأصنام. وإنما أوثر هذا الاسم الظاهر لوقوعه رأس فاصلة (١).

وقد جعل الزجاج المفعول الثّاني محذوفا ، فإنّه قال : وجه تلفيق هذه الآية مع ما قبلها فيقول أخبروني عن آلهتكم هل لها شيء من القدرة والعظمة التي وصف بها ربّ العزة في الآي السالفة. انتهى (٢).

فعلى هذا يكون قوله (أَلَكُمُ الذَّكَرُ) متعلّقا بما قبله من حيث المعنى لا من حيث الإعراب (٣).

وجعل ابن عطية الرؤية هنا بصرية فقال : وهي من رؤية العين ، لأنه أحال على أجرام مرئيّة ، ولو كانت «أرأيت» التي هي استفتاء لم يتعد (٤). وقد تقدم الكلام على ذلك في الأنعام وغيرها.

فإن قيل : ما فائدة الفاء في قوله : (أَفَرَأَيْتُمُ) وقد وردت في مواضع بغير فاء ، كقوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [الزمر : ٣٨] (و) (أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ) [فاطر : ٤٠].

فالجواب : لما تقدم عظمة الله في ملكوته وأن رسوله إلى الرسل يسد الآفاق ببعض أجنحته ويهلك المدائن بشدته وقوته ولا يمكنه مع هذا أن يتعدى السدرة في مقام جلال الله وعزته قال : أفرأيتم هذه الأصنام مع ذلتها وحقارتها شركاء لله مع ما تقدم فقال بالفاء

__________________

(١) بالمعنى من البحر ٨ / ١٦١.

(٢) اللفظ لفظ أبي حيان في البحر ٨ / ١٦١ فقد قال في إعراب القرآن ٥ / ٧٢ : كأن المعنى ـ والله أعلم ـ أخبرونا عن هذه الآلهة التي لكم تعبدونها من دون الله عزوجل ، هل لها من هذه القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة ـ جل وعزّ ـ شيء؟.

(٣) البحر السابق.

(٤) البحر المحيط السابق أيضا وقد هاجم أبو حيان ابن عطية قائلا : «ودل كلام ابن عطية على أنه لم يطالع ما قاله الناس في «أرأيت إذا كان استفتاء» على اصطلاحه وهي التي بمعنى أخبرني». ويقصد بآية الأنعام قوله : «قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ» من الآية ٤٠ منها.

١٨٢

أي عقيب ما سمعتم من عظمة آيات الله الكبرى ونفاد أمره في الملأ الأعلى وما تحت الثّرى انظروا إلى اللات والعزى تعلموا فساد ما ذهبتم إليه (١).

قوله تعالى : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) قال الكلبي : كان المشركون بمكة يقولون للأصنام والملائكة بنات الله.

قال ابن الخطيب : معناه كيف جعلتم لله البنات وقد اعترفتم في أنفسكم أن البنات ناقصات والبنون كاملون والله كامل العظمة فكيف نسبتم إليه الناقص وهو في غاية الذلة والحقارة حيث عبدتم الجماد من الحجارة والشجر ثم نسبتم إليكم الكامل فهذه قسمة جائرة على زعمكم وعادتكم لأنه كان ينبغي أن تجعلوا الأعظم للعظيم والأنقص للحقير فخالفتم النقل والعقل والعادة؟(٢)

قوله : (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) ، «تلك» إشارة إلى محذوف تقديره تلك القسمة قسمة غير عادلة. ويحتمل أن يقال : تلك النسبة ؛ أي التي نسبوها إلى الله بأنّ له البنات. وقوله (إذن) جواب نسبتهم البنات إلى الله (٣).

وقوله : (ضِيزى) قرأ ابن كثير ضئزى بهمزة ساكنة والباقون بياء ساكنة (٤). وزيد بن عليّ ضيزى ، بفتح الضاد والياء الساكنة. فأما قراءة العامة فيحتمل أن تكون من ضازه يضيزه إذا ضامه وجار عليه فمعنى ضيزى أي جائرة (٥). وقال مجاهد ومقاتل : قسمة عوجاء.

وقال الحسن : غير معتدلة ، قال الشاعر :

٤٥٦٠ ـ ضازت بنو أسد بحكمهم

إذ يجعلون الرّأس كالذّنب (٦)

وعلى هذا فيحتمل وجهين :

أحدهما : أن تكون صفة على «فعلى» ـ بضم الفاء ـ وإنما كسرت الفاء لتصحّ الياء «كبيض». فإن قيل : وأي ضرورة إلى أن يقدر أصلها ضمّ الفاء؟ ولم لا قيل : إنّها فعلى بالكسر؟.

__________________

(١) الرازي ٢٨ / ٢٩٦ و ٢٩٧.

(٢) بالمعنى من التفسير الكبير للرازي ٢٨ / ٢٩٧.

(٣) المرجع السابق أيضا.

(٤) قال مكي في الكشف : وهما لغتان وهي قراءة متواترة. وانظر الكشف ٢ / ٢٩٥ والسبعة ٦١٥ والإتحاف ٤٠٣.

(٥) البغوي ٦ / ٢٦٣.

(٦) نسب لامرىء القيس وهو من الكامل ولم أجده في الديوان. وشاهده أن ضاز بمعنى ظلم واعوجّ.

وانظر القرطبي ١٧ / ١٠٢ ، والبحر ٨ / ٥٤ وفتح القدير ٥ / ١٠٩ ، والدر المنثور ٧ / ١٥٤ ، وروح المعاني ٢٧ / ٥٧.

١٨٣

فالجواب : أن سيبويه حكى أنه لم يرد في الصفات فعلى ـ بكسر الفاء ـ إنما ورد بضمّها ، نحو : حبلى وأنثى وربّى وما أشبهه إلا أنه قد حكى غيره في الصّفات ذلك (١) ؛ حكى ثعلب : مشية حيكى (٢). ورجل كيصى (٣) ، وحكى غيره : امرأة عزهى (٤) ، وامرأة سعلى (٥). وهذا لا ينقض ، لأن سيبويه يقول في حيكى وكيصى كقوله في ضيزى : لتصحّ الياء.

وأما عزهى وسعلى فالمشهور فيهما عزهاة وسعلاة. وقال البغوي : ليس في كلام العرب فعلى بكسر الفاء في النعوت إنما يكون في الأسماء مثل ذكرى ، وشعرى (٦).

والوجه الثاني : أن تكون مصدرا كذكرى.

قال الكسائي : يقال ضاز يضيز كذكر يذكر ، ويحتمل أن يكون من ضأزه بالهمز ـ كقراءة ابن كثير ، إلا أنه خفف همزها وإن لم يكن من أصول القراء كلهم إبدال مثل هذه الهمزة ياء لكنها لغة التزمت فقرأوا بها (٧).

ومعنى ضأزه يضأزه بالهمز نقصه ظلما وجورا.

وممن جوز أن تكون الياء بدلا من همزة أبو عبيدة وأن يكون أصلها ضوزى بالواو ، لأنه سمع ضازه يضوزه ضوزى وضازه يضيزه ضيزى وضأزه يضأزه ضأزا ، حكى ذلك كله الكسائي (٨). وحكى أبو عبيد : ضزته (٩) وضزته (١٠) بكسر الفاء وضمها فكسرت

__________________

(١) قال في الكتاب ٤ / ٣٦٤ : «وهذا باب ما تقلب فيه الياء واوا ، وذلك فعلى إذا كانت اسما ، وذلك الطّوبى والكوسى لأنها لا تكون وصفا بغير ألف ولام فأجريت مجرى الأسماء التي لا تكون وصفا».

انظر الكتاب السابق ، والمزهر ٢ / ٥٣.

(٢) مدح في النّساء ذم في الرجال ، لأن المرأة تمشي هذه المشية من عظم فخذيها والرجل يمشي هذه المشية إذا كان أفحج. وانظر اللسان «حيك» ١٠٧٢.

(٣) رجل كيصى وكيص (عن ابن الأعرابي) متفرّد في طعامه لا يؤاكل أحدا. وانظر اللسان السابق كيص ٣٩٦٧.

(٤) رجل عزهاة وعنزهوة وعزهاءة وعزهى لئيم اللسان عزه ٢٩٣٣.

(٥) استسعلت المرأة صارت كالسّعلاة خبثا وسلاطة ؛ يقال ذلك للمرأة الصّحابة البذيّة. وانظر اللّسان سعل ٢٠١٨.

(٦) معالم التنزيل ٦ / ٢٦٣.

(٧) البحر المحيط ٨ / ١٦٢ والقرطبي ١٧ / ١٠٣ ومعاني الفراء ٣ / ٩٨ و ٩٩.

(٨) نقله عنه صاحب «الجامع» الإمام القرطبيّ في تفسيره ١٧ / ١٠٢ ، كما نقل هذا صاحب اللّسان والصّحاح (ضوز وضأز وضيز).

(٩) نقلها ابن منظور في اللسان ضيز ، قال : «وضزت فلانا أضيزه ضيزا جرت عليه».

(١٠) قال أيضا في اللسان ضوز : ويقال : ضزته حقه أي نقصته وضازني يضوزني (عن كراع). إلّا أن صاحب اللسان ضبطها بالكسر. ولعل ذلك من المحقق.

١٨٤

الضاد من ضوزى ، لأن الضمة ثقيلة مع الواو. وفعلوا ذلك ليتوصّلوا به إلى قلب الواو ياء (١) وأنشد الأخضر على لغة الهمز :

٤٥٦١ ـ فإن تنأ عنها تنتقصك وإن تغب

فسهمك مضئوز وأنفك راغم (٢)

وضيزى في قراءة ابن كثير مصدر وصف به ، ولا يكون وصفا أصليا لما تقدم عن سيبويه. فإن قيل : لم لا قيل في ضيزى بالكسر والهمز إنّ أصله ضيزى بالضم فكسرت الفاء كما قيل فيها مع ألفها؟

فالجواب : أنه لا موجب هنا للتغيير ، إذ الضم مع الهمز لا يستثقل استثقاله مع الياء الساكنة.

وسمع منهم : ضؤزى بضمّ الضاد مع الواو والهمز (٣).

وأمّا قراءة زيد (٤) فيحتمل أن تكون مصدرا وصف به كدعوى وأن تكون صفة كسكرى وعطشى وغضبى (٥).

قوله : (إِنْ هِيَ) في (هي) وجهان :

أحدهما : أنها ضمير الأصنام أي وما هي إلا أسماء ليس تحتها في الحقيقة مسميات لأنكم تدعون الإلهية لما هو أبعد شيء منها ، وأشد منافاة لها. وهذا على سبيل المبالغة والتجوز ، كما يقال لتحقير إنسان : ما زيد إلا اسم إذا لم يكن مشتملا على صفة معتبرة كقوله : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها).

الثاني : أن يكون ضمير الأسماء وهي اللّات والعزّى ومناة ، وهم يقصدون بها أسماء الآلهة يعني وما هذه الأسماء إلا سمّيتموها بهواكم وشهوتكم ليس لكم على صحة تسميتها برهان تتعلقون به (٦).

قال أبو البقاء : «أسماء» يجب أن يكون المعنى ذوات أسماء ، لقوله : «سمّيتموها» ؛ لأن الاسم لا يسمى (٧).

__________________

(١) اللسان ضيز ٢٦٢٤ ، والقرطبي ١٧ / ١٠٣ ، ومعاني الفراء ٣ / ٩٨.

(٢) من الطويل وهو مجهول القائل وفي اللّسان والصّحاح : وإن تغب وفي القرطبيّ : وإن تقم. وروي البيت فحظّك وقسمك بدل «فسهمك». والشاهد مضئوز فهو مفعول من ضأز مهموزا. وانظر القرطبي ١٧ / ١٠٠٢ وفتح القدير ٥ / ١٠٩ واللسان والصحاح ضأز ، وروح المعاني ٢٧ / ٥٧ ، والبحر المحيط ٨ / ١٦٢.

(٣) نقلها صاحب اللسان عن ابن الأعرابي ضأز ٢٥٤٠.

(٤) وهي شاذة ذكرها صاحب البحر المحيط ٨ / ١٦٢.

(٥) قال بهذين التخريجين صاحب البحر في المرجع السابق.

(٦) بالمعنى من الكشاف له ٤ / ٣١.

(٧) التبيان ١١٨٨.

١٨٥

فإن قيل : كيف قال : سميتموها أنتم مع أن هذه الأسماء موضوعة قبلنا؟

فالجواب : أن كل من نطق بهذه الألفاظ فهو كالمبتدىء الواضع ؛ لأن الواضع الأول لهذه الأسماء لما لم يكن واضعا بدليل نقلي أو عقلي لم يجب اتباعه ولا يجوز فصار هو كالمبتدىء ؛ إذ لا مقتدى له.

فإن قيل : الأسماء لا تسمّى وإنما يسمى بها فكيف قال : أسماء سميتموها؟

فالجواب من وجهين :

الأول : أن التسمية وضع الاسم فكأنه قال : أسماء وضعتموها ، فاستعمل سمّيتموها استعمال وضعتموها.

الثاني : لو قال : أسماء سمّيتم بها لكان هناك غير الاسم شيء يتعلّق به الباء في قولك بها ؛ لأن قول القائل : سميت به يستدعي دخولا آخر ، تقول : سميت بزيد ابني أو عبدي أو غير ذلك فيكون قد جعل للأصنام اعتبارا.

فإن قيل : هذا باطل بقوله تعالى : (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) [آل عمران : ٣٦] حيث لم يقل : وإنّي سمّيتها بمريم ولم يكن ما ذكرت مقصودا وإلا لكانت مريم غير ملتفت إليها كما قلت في الأصنام.

فالجواب : بينهما بون عظيم ؛ لأن هناك قال : سمّيتها مريم فذكر المفعولين فاعتبر حقيقة مريم بقوله : سميتها واسمها بقوله : مريم ، وأما ههنا فقال : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ) موضوعة فلم تعتبر الحقيقة ههنا واعتبرها في مريم (١).

قوله : (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) أي حجة بما يقولون : إنها آلهة. واستعملت الباء في قوله (بها) كقولك : ارتحل فلان بأهله ومتاعه أي ارتحل ومعه الأهل والمتاع. كذلك ههنا (٢) قوله : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) هذا رجوع إلى الخبر بعد المخاطبة فقال : إن يتّبعون إلّا الظّنّ في قولهم : إنها آلهة.

قرأها العامة على الغيبة التفاتا من خطابهم إلى الغيبة عنهم تحقيرا لهم ، كأنه قطع الكلام معهم وقال لنبيّه : إنهم لا يتبعون إلا الظن فلا تلتفت إلى قولهم.

ويحتمل أن يكون المراد غيرهم ، وفيه وجهان :

الأول : أن يكون المراد آباءهم كأنه تعالى قال : سمّيتموها أنتم وآباؤكم فكأنهم قالوا : هذه الأسماء لم نضعها نحن ، وإنّما تلقيناها من آبائنا فقال : وسمّاها آباؤكم وما يتبعون إلّا الظّنّ (٣).

__________________

(١) وانظر تفسير الإمام ٢٨ / ٢٩٩ و ٣٠٠.

(٢) المرجع السابق.

(٣) ذكر هذه التحليلات والتوجيهات الإمام فخر الدين في مرجعه السّابق أيضا.

١٨٦

فإن قيل : كان ينبغي أن يكون بصيغة الماضي.

فالجواب : وبصيغة المستقبل أيضا كأنه يفرض الزمان (بعد) (١) زمان الكلام كقوله تعالى: (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ) [الكهف : ١٨].

الثاني : أن يكون المراد عامة الكفار.

وقرأ عبد الله وابن عباس وطلحة وعيسى بن عمر وابن وثاب : بالخطاب (٢). وهو حسن موافق.

فإن قيل : كيف ذمهم على اتّباع الظّنّ ونحن مأمورون باتباعه في الفقه ، وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ حكاية عن الله تعالى أنه قال : أنا عند ظنّ عبدي؟

فالجواب : أن الظن خلاف العلم وقد استعمل مجازا مكان العلم والعلم مكانه وأصل العلم الظهور ومنه العالم. وحروف العلم في تقاليبها فيها معنى الظهور منها لمع البرق إذا ظهر ، ولمع الغزال إذا عدا ، وكذلك علمت.

والظن إذا كان في مقابلة العلم ففيه الخفاء ومنه بئر ظنون لا يدرى أفيه (٣) ماء أم لا ؛ لخفاء الأمر فيه ودين ظنون (٤) يخفى الأمر فيه فنقول : يجوز بناء الأمر على الظن عند العجز عن درك اليقين ، وأما الاعتقاد فليس كذلك ، لأن اليقين لم يتعذّر علينا. وإلى هذا أشار بقوله : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) أي اتبعوا الظن وقد أمكنهم الأخذ باليقين. وفي العمل يمتنع ذلك أيضا. والله أعلم (٥).

قوله : (وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) نسق على (الظّن) و «ما» مصدرية ، أو بمعنى الذي.

والمراد بما تهوى الأنفس هو ما زين لهم الشيطان.

قوله : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) يجوز أن يكون حالا من فاعل (يتّبعون) أي يتّبعون الظنّ وهوى النفس في حال تنافي ذلك وهي مجيء الهدى من عند ربهم. ويجوز أن يكون اعتراضا فإن قوله : (أَمْ لِلْإِنْسانِ) متصل بقوله : (وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) ، وهي أم المنقطعة ، فتقدر ببل والهمزة على الصّحيح (٦).

قال الزمخشري : ومعنى الهمزة فيها الإنكار أي ليس للإنسان (٧) ما تمنى.

__________________

(١) زيادة من الرازي وساقطة من النسختين.

(٢) هذه القراءات شاذة غير متواترة ذكرها أبو حيان في البحر ٨ / ١٦٢ و ١٦٣ والزمخشري في الكشاف دون نسبة ٤ / ٣١ والقرطبي في الجامع ١٧ / ١٠٣ و ١٠٤ ونسبها لأيوب وابن السميقع أيضا ١٧ / ١٠٣ و ١٠٤.

(٣) كذا في النسختين وفي الرازي : أفيها بتأنيث البئر.

(٤) وانظر اللسان ظنن وكذلك المحكم. اللسان ٢٧٦٤.

(٥) وانظر الرازي ٢٨ / ٣٠١.

(٦) بالمعنى من الرازي ٢٨ / ٣٠١ و ٣٠٢.

(٧) الكشاف ٤ / ٣١.

١٨٧

فصل

المعنى ولقد جاءهم من ربهم البيان بالكتاب والرسول أنها ليست بآلهة وأن العبادة لا تصلح إلّا لله الواحد القهار.

(أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) أيظن أن له ما يتمنى ويشتهي من شفاعة الأصنام. ويحتمل أن يكون معناه : هل للإنسان أن يعبد بالتمني والاشتهاء ما تهوى نفسه.

قوله (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) أي ليس كما ظن وتمنى بل لله الآخرة والأولى لا يملك فيها أحد شيئا إلّا بإذنه.

قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى)(٣٠)

قوله : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ) «كم» هنا خبرية تفيد التكثير ، ومحلها الرفع على الابتداء. و (لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ) هو الخبر. والعامة على إفراد الشفاعة. وجمع الضمير اعتبارا بمعنى «ملك» وبمعنى «كم». وزيد بن عليّ شفاعته بإفرادها اعتبر لفظ «كم وملك». وابن مقسم شفاعاتهم بجمعها (١). و «شيئا» (٢) مصدر أي شيئا من الإغناء.

فصل

المعنى وكم من ملك في السموات ممن يعبدهم هؤلاء الكفار ويرجون شفاعتهم عند الله لا تغني شفاعتهم شيئا إلّا من بعد أن يأذن الله في الشفاعة (لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) أي من أهل التوحيد.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ يريد لا تشفع الملائكة إلا لمن رضي الله عنه. وجمع الكناية في قوله : (شَفاعَتُهُمْ) والملك واحد ؛ لأن المراد من قوله : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ) الكثرة ، فهو كقوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ)(٣) [الحاقة : ٤٧].

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) اعلم أن المراد بالذين لا يؤمنون بالآخرة هم الذين لا يؤمنون بالرسل ، لأن كل من آمن بالرسل

__________________

(١) وهو اختيار صاحب الكامل في القراءات الخمسين للهذلي فيما نقله صاحب البحر المحيط ٨ / ١٦٣.

(٢) فليست مفعولا به وهي نائب عن المفعول المطلق (المصدر السابق).

(٣) وانظر تفسير البغوي ٦ / ٢٦٤.

١٨٨

اعترف بالحشر ، وذلك أنهم كانوا يقولون : الملائكة وجدوا من الله فهم أولاده بمعنى الإيجاد ، ثم رأوا في الملائكة تاء التأنيث ، وصحّ عندهم أن يقال : سجدت الملائكة ، فقالوا : بنات الله فسمّوهم تسمية الإناث.

فإن قيل : كيف يصح أن يقال : إنهم لا يؤمنون بالآخرة مع أنهم كانوا يقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله وكان من عادتهم أن يربطوا مركوبا على قبر من يموت ، ويعتقدون أنه يحشر عليه؟

فالجواب من وجهين :

أحدهما : أنهم ما كانوا يجزمون به ، بل كانوا يقولون : إنه لا حشر ، فإن كان فلنا شفعاء

بدليل ما حكى الله عنهم (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) [فصلت : ٥٠].

الثاني : أنهم ما كانوا يعترفون بالآخرة على الوجه الذي ورد به الرسل.

فصل

وأما مناسبة هذه الآية لما قبلها فهي أنهم لما قيل لهم : إنّ الصّنم جماد لا يشفع ، وبين لهم أن أعظم أجناس الخلق لا شفاعة لهم إلا بالإذن قالوا : نحن لا نعبد الأصنام لأنها جمادات وإنما نعبد الملائكة بعبادتها فإنها على صورها ونضعها (١) بين أيدينا لنذكر بالشاهد الغائب فنعظم الملك المقرب فرد الله عليهم بهذه الآية أي كيف تعظموهم وأنتم تسموهم تسمية الإناث؟ (٢)

فإن قيل : كيف قال تسمية الأنثى ولم يقل : تسمية الإناث؟

فالجواب : أن المراد بيان الجنس وهذا اللفظ أليق بهذا الموضع لمؤاخاة رؤوس الآي. أو يقال: إنه لو قال الإناث لأوهم أعلام الإناث ، كعائشة وفاطمة. والمراد إنما هو البنات (٣). وقد تقدمت شبهتهم.

قوله : (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) قال الزمخشري : الضمير في (به) يعود إلى ما كانوا يقولون (٤). وقيل يعود إلى ما تقدّم من عدم قبول الشفاعة.

وقيل : يعود إلى الله أي ما لهم بالله من علم فيشركون (٥). وقال مكي : الهاء تعود على الاسم لأن التسمية والاسم بمعنى (٦). وقرأ أبيّ : بها (٧) أي بالآخرة أي ما لهم بالآخرة من علم.

__________________

(١) في الرازي : وتنصبها.

(٢) وانظر الرازي ٢٨ / ٣٠٨ بالمعنى.

(٣) المرجع السابق.

(٤) الكشاف ٤ / ٣٢.

(٥) الرازي ٢٨ / ٣١٠.

(٦) قال في المشكل : «الهاء تعود على الأسماء ؛ لأن التسمية والأسماء بمعنى واحد». وانظر المشكل ٢ / ٣٣١.

(٧) شاذة غير متواترة انظر الرازي السابق والكشاف ٤ / ٣٢.

١٨٩

وقيل : بالملائكة. وقيل : بالتسمية. وهذا يقوّي قول مكّيّ. فإن قلنا : ما لهم بالآخرة فهو جواب كما قلنا : إنهم وإن كانوا يقولون : إن الأصنام شفعاؤنا عند الله ، وكانوا يربطون الإبل على قبور الموتى ليركبوها لكن ما كانوا يقولون به عن علم.

وإن قلنا بالتسمية ففيه إشكال ، وهو أن العلم بالتسمية حاصل لهم فإنهم يعلمون أنّهم (ليسوا (١) في شكّ).

والجواب : أن التسمية قد يكون واضعها الأول عالما بأنه وضع ، وقد يكون استعمالا معنويا يتطرق إليه الصدق والكذب والعلم. فمثال الصدق من وضع أولا اسم السماء لموضوعها وقال : هذا سماء ، ومثال الكذب إذا قلنا بعد ذلك للماء والحجر : هذا سماء ، فإنه كذب ومن اعتقد فهو جاهل وكذلك قولهم في الملائكة : إنّهم بنات الله لم تكن تسمية وضعية ، وإنما أرادوا به أنهم موصوفون باسم يجب به استعمال لفظ البنات فيهم ، وذلك كذب ومعتقده جاهل ، فالمراد التسمية التي هي عن وصف حقيقي لا التسمية الوضعيّة ؛ لأنهم عالمون بها فهذا هو المراد. قاله ابن الخطيب (٢).

وقوله : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) تقدم الكلام عليه.

وقوله : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) قيل : الحق بمعنى العلم أي لا يقوم الظنّ مقام العلم. وقيل : الحق بمعنى العذاب ، أي إنّ ظنهم لا ينقذهم من العذاب.

قال ابن الخطيب : المراد منه أن الظن لا يغني في الاعتقادات شيئا وأما الأفعال العرفية أو الشرعية فإنه يتبع عند عدم الوصول إلى اليقين. ويحتمل أن يقال : المراد من الحق هو الله والمعنى أن الظن لا يفيد شيئا من الله أي أن الأوصاف الإلهيّة لا تستخرج بالظنون بدليل قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ).

فإن قيل : أليس الظن قد يصيب فكيف يحكم عليه بأنه لا يغني أصلا؟

فالجواب : أن المكلف لا يحتاج إلى مميز يميّز الحقّ من الباطل ؛ ليعتقد الحق ويميز الخير من الشر ليفعل الخير لكن في الحق ينبغي أن يكون جازما لاعتقاد مطابقته ، والظّانّ لا يكون جازما وفي الخير ربما يعتبر الظن في مواضع.

فصل

اعلم أن الله تعالى منع من الظن في ثلاثة مواضع :

أحدها : قوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ).

__________________

(١) زيادة من الرازي.

(٢) بالمعنى ٢٨ / ٣١٠.

١٩٠

وثانيها : هذه الآية.

ثالثها : في الحجرات وهي قوله تعالى : (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) إلى قوله : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) [الحجرات: ١٢] فالأول : كان المنع عقيب التسمية ، والثاني : عقيب الدعاء بالألقاب وكل ذلك دليل على أن حفظ اللسان أولى من حفظ غيره من الأركان وأن الكذب أقبح من السيئات الظاهرة من الأيدي والأرجل. فهذه المواضع الثلاثة دلت على أن الظن فيها مذموم أحدها : مدح ما لا يستحق المدح كاللّات والعزّى من العزة ، وثانيها : ذمّ من لا يستحق الذم وهم الملائكة الذين هم عباد الرّحمن يسمّونهم تسمية الأنثى ، وثالثها : ذمّ من لم يعلم حاله ، وأما مدح من يعلم حاله فلم يقل فيه : لا يتبعون الظن بل الظن معتبر فيه والأخذ بظاهر حال العاقل واجب (١).

قوله : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) يعني القرآن. وقيل : الإيمان ؛ أي اترك مجادلتهم فقد بلّغت وأتيت بما عليك.

قال ابن الخطيب : وأكثر المفسرين يقولون : كل ما في القرآن من قوله تعالى : (فَأَعْرِضْ) منسوخ بآية القتال ، وهو باطل ؛ لأن الأمر بالإعراض موافق لآية القتال فكيف ينسخ به؟ وذلك لأن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في الأول كان مأمورا بالدعاء بالحكمة والموعظة الحسنة فلما عارضوه بأباطيلهم أمر بإزالة شبههم والجواب عن أباطيلهم ، وقيل له : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ثم لمّا لم ينفع قال له ربه : أعرض عنهم ولا تقل لهم (٢) بالدليل والبرهان فإنهم لا ينتفعون به ولا يتبعون الحق وقاتلهم ، فالإعراض عن المناظرة شرط لجواز المقاتلة فكيف يكون منسوخا بها؟ (٣)

قوله : (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) إشارة إلى إنكارهم الحشر كقوله تعالى عنهم : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) [الأنعام : ٢٩] وقوله : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا) [التوبة : ٣٨] وذلك أنه إذا ترك النظر في آلاء الله لا يعرفه فلا يتبع رسوله فلا ينفعه كلامه ، وإذا لم يقل بالحشر والحساب لا يخاف فلا يرجع عما هو عليه فلا يبقى في الدعاء فائدة.

واعلم أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان كالطبيب للقلوب ، فأتى على ترتيب الأطبّاء في أن المرض إذا أمكن إصلاحه بالغذاء لا يستعملون الدواء القوي ، ثم إذا عجز (٤) عن المداواة بالمشروبات وغيرها عدلوا إلى الحديد والكيّ كما قيل : «آخر الدّواء الكيّ» ، فالنبي ـ

__________________

(١) وانظر تفسير الإمام ٢٨ / ٣١٠ ، ٣١١.

(٢) كذا في النسختين وفي الرازي : ولا تقاتلهم.

(٣) المرجع السابق.

(٤) في الرازي : عجزوا. وفيه إذا أمكن إصلاحه بالغذاء لا يستعملون الدواء وما أمكن إصلاحه بالدواء الضعيف لا يستعملون الدواء القوي.

١٩١

عليه الصلاة والسلام ـ أولا أمر القلوب بذكر الله حسب ، فإن بذكر الله تطمئن القلوب ، كما أن بالغذاء تطمئن النفوس فالذكر غذاء القلب ولهذا قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ أولا : «قولوا لا إله إلّا الله» أمر بالذكر ، فانتفع مثل أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ ومن لم ينتفع ذكر لهم الدليل وقال (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) [الأعراف : ١٨٤] (قُلِ انْظُرُوا) [يونس : ١٠١] (أَفَلا يَنْظُرُونَ) [الغاشية : ١٧] إلى غير ذلك فلما لم ينتفعوا أتى بالوعيد والتهديد فلما لم ينتفعوا قال : أعرض عن المعالجة واقطع الفاسد لئلا يفسد الصّالح (١).

قوله : (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ) قال الزمخشري : هو اعتراض (أي (٢) فأعرض عنه ولا تعامله(٣) إنّ ربّك هو أعلم.

قال أبو حيّان : كأنه يقول : هو اعتراض) بين (فَأَعْرِضْ) وبين : (إِنَّ رَبَّكَ) ولا يظهر هذا الذي يقوله من الاعتراض (٤).

قال شهاب الدين : كيف يقول : كأنه يقول : هو اعتراض وما معنى الشبيه وهو قد نصّ عليه وصرح به فقال : أي فأعرض عنه ولا تعامله (٥) إنّ ربّك. وقوله «ولا يظهر» ما أدري عدم الظهر مع ظهور أن هذا علة لذاك أي قوله : (إِنَّ رَبَّكَ) علة لقوله (فَأَعْرِضْ) والاعتراض بين العلّة والمعلول ظاهر وإذا كانوا يقولون : هذا معترض فيما يجيء في أثناء قصّة فكيف بما بين علة ومعلول؟ (٦)

فصل

«ذلك» إشارة إلى نهاية علمهم وقدر عقولهم إن آثروا الدنيا على الآخرة (٧). وقيل : إشارة إلى الظن أي لم يبلغوا من العلم إلا ظنهم أن الملائكة بنات الله وأنها تشفع لهم ، واعتمدوا على ذلك وأعرضوا عن القرآن. وقيل : إشارة إلى الإعراض أي فأعرض عمّن تولى ؛ وذلك لأن الإعراض غاية ما بلغوه من العلم وعلى هذا يكون المراد من العلم المعلوم وتكون الألف واللام للتعريف والعلم المعلوم هو ما في القرآن (٨).

فإن قيل : إنّ الله تعالى بين أن غايتهم ذلك في العلم ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها والمجنون الذي لا علم له أو الصبي لا يؤمر بما فوق احتماله فكيف يعاقبهم الله؟

فالجواب : أنه ذكر قبل ذلك أنهم تولّوا عن ذكر الله فكان عدم علمهم لعدم قبولهم

__________________

(١) وانظر تفسير الرازي ٢٨ / ٣١٢.

(٢) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٣) في الكشاف : ولا تقابله.

(٤) البحر المحيط ٨ / ١٦٤.

(٥) كذا في (أ) وفي (ب) تقاتله وفي الدر تقابله.

(٦) وهو يؤيد تماما ما ذهب إليه جار الله الزمخشري في رأيه هذا ، وانظر الدر المصون مخطوط بلدية إسكندرية.

(٧) قال بذلك الفراء في المعاني ٣ / ١٠٠ والقرطبي في الجامع ١٧ / ١٠٥ وأبو حيان في البحر ٨ / ١٦٤.

(٨) انظر المرجع الأخير السابق.

١٩٢

العلم وإنما قدر الله توليهم ليضاف الجهل إلى ذلك فيتحقق العقاب.

قوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ) جوز مكيّ أن يكون على بابه من التفضيل أي هو أعلم من كل أحد بهذين الوصفين وبغيرهما ، وأن يكون (١) بمعنى عالم ، وتقدم ذلك مرارا.

فصل

المعنى أن الله عالم بالفريقين فيجازيهم. ووجه المناسبة أن الله تعالى لمّا قال للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أعرض وكان النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ شديد الميل إلى إيمان قومه كأنه هجس في خاطره أن في ذكراهم منفعة ، وربما يؤمن من الكفار قوم آخرون من غير قتال ، فقال له : (رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) أي لا يؤمن بمجرد الدعاء أحد المتخلفين وإنما ينفع فيهم وقع السيف والقتال فأعرض عن الجدال ، وأقبل على القتال. وعلى هذا فقوله : (بِمَنِ اهْتَدى) أي علم في الأزل من ضل ومن اهتدى فلا يشتبه عليه الأمر ، ولا بأس في الإعراض.

فإن قيل : قال في الضلال عن سبيله ولم يقل في الاهتداء إلى سبيله.

فالجواب : أنّ الضلال عن السبيل هو الضلال وهو كاف في الضّلال ، لأن الضّلال لا يكون إلّا في السبيل وأما بعد الوصول فلا ضلال ، أو لأن من ضلّ عن سبيله لا يصل إلى المقصود سواء سلك سبيلا أو لم يسلكه وأما من اهتدى إلى سبيل فلا وصول له إن لم يسلكه فقال من اهتدى إلى السبيل وسلوكه.

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى)(٣٢)

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) وهذا معترض بين الآية الأولى وبين قوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا)(٢).

واللام في قوله : «ليجزي» فيها أوجه :

أحدها : أن يتعلق بقوله : (لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ) ذكره مكّي (٣). وهو بعيد من حيث اللّفظ ومن حيث المعنى.

__________________

(١) في المشكل ٢ / ٣٣١ و ٣٣٢ : ويجوز أن يكونا بألف التشبيه فهو يقصد أعلم مكررة من قوله : «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى».

(٢) والمعنى : إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ليجزي. الجامع ١٧ / ١٠٥.

(٣) قاله في مشكل الإعراب ٢ / ٢٣٢.

١٩٣

الثاني : أن يتعلق بما دل عليه قوله : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ) أي له ملكهما يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء ليجزي المحسن والمسيء (١).

الثالث : أن يتعلق بقوله : (بِمَنْ ضَلَ) ، و (بِمَنِ اهْتَدى) واللام للصيرورة أي عاقبة أمرهم جميعا للجزاء بما عملوا (٢). قال معناه الزمخشري (٣).

الرابع : أن يتعلق بما دل عليه قوله : (أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ)(٤) أي حفظ ذلك ليجزي. قاله أبو البقاء (٥).

وقرأ زيد بن علي : لنجزي بنون العظمة (٦) والباقون بياء الغيبة. وقوله : (الَّذِينَ أَحْسَنُوا) وحّدوا ربهم (بِالْحُسْنَى) بالجنّة. وإنما يقدر على مجازاة المحسن والمسيء إذا كان مالكا فلذلك قال تعالى : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

قوله : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ) يجوز أن يكون منصوبا بدلا أو بيانا أو نعتا «للذين [(أحسنوا) (٧).

فإن قيل : إذا كان بدلا عن (الَّذِينَ] (٨) أَحْسَنُوا) فلم خالف ما بعده بالمضيّ والاستقبال حيث قال (الَّذِينَ أَحْسَنُوا) وقال : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ) ولم يقل : اجتنبوا؟

فالجواب : هو كقول القائل : الّذين سألوني أعطيتهم الذين يترددون إليّ سائلين أي الذين عادتهم التّرداد (٩) للسؤال سألوني وأعطيتهم فكذلك ههنا أي الذين عادتهم ودأبهم الاجتناب لا الذين اجتنبوا مرة واحدة (١٠). ويجوز أن يكون الموصول منصوبا بإضمار «أعني» ، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر أي هم الذين (١١) ، وهذا نعت للمحسنين (١٢).

وقد تقدم الكلام في كبائر وكبير (١٣) الإثم.

قوله : (إِلَّا اللَّمَمَ) فيه أوجه :

__________________

(١) وهو رأى مكيّ في مرجعه السابق ، والقرطبي في الجامع ١٧ / ١٠٥.

(٢) نقله أبو حيان في بحره ٨ / ١٦٤ بصيغة المجهول.

(٣) قال الزمخشري : ومعناه أن الله عزوجل إنما خلق العالم وسوى هذا الملكوت لهذا الغرض ثم قال ويجوز أن يتعلق بقوله : هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى.

(٤) وهو رأي الزمخشري السابق ، انظر الكشاف ٤ / ٣٢.

(٥) التبيان ١١٨٩.

(٦) شاذة انظر البحر ٨ / ١٦٤ والكشاف السابق.

(٧) وهو رأي التبيان والجامع الأول ١١٨٩ والثاني ١٧ / ١٠٦.

(٨) ما بين القوسين سقط من (ب) بسبب انتقال النظر.

(٩) في (ب) التردّد.

(١٠) وقد قال بالبدلية مكي في المشكل ٢ / ٣٣٢.

(١١) قال بذلك أبو البقاء في التبيان ١١٨٩.

(١٢) أي الذين أحسنوا والجملة في محل نصب صفة لهؤلاء.

(١٣) تقدم ذلك في سورة الشورى من الآية ٣٧ وقبل في سورة النساء من الآية ٣١.

١٩٤

أحدها : أنه استثناء (١) منقطع ؛ لأن اللمم الصغائر فلم يندرج فيما قبلها. وهذا هو المشهور.

الثاني : أنه صفة ، و «إلّا» بمنزلة غير كقوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) أي كبائر الإثم والفواحش غير اللّمم (٢).

الثالث : أنه متصل (٣). وهذا عند من يفسر اللّمم بغير الصغائر ، قالوا : إن اللّمم من الكبائر والفواحش قالوا : معنى الآية إلا أن يلم بالفاحشة مرة ثم يتوب وتقع الواقعة ثم ينتهي. وهو قول أبي هريرة ومجاهد والحسن ورواية عطاء عن ابن عبّاس ، قال عبد الله بن عمرو بن العاص : اللّمم ما دون الشرك.

قال السدي : قال أبو صالح : سئلت عن قول الله عزوجل : إلّا اللّمم فقلت : هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده ، فذكرت ذلك لابن عباس فقال : أعانك عليها ملك كريم.

وروى ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) (٤) في قوله : إلّا اللمم قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ :

٤٥٦٢ ـ إن تغفر اللهم تغفر جمّا

وأيّ عبد لك لا ألمّا؟ (٥)

وأصل اللمم ما قلّ وصغر ، ومنه اللّمم وهو المسّ من الجنون وألمّ بالمكان قلّ لبثه فيه ، وألمّ بالطعام أي قل أكله منه.

وقال أبو العباس (٦) : أصل اللّمم أن يلمّ بالشيء من غير أن يركبه فقال : ألمّ بكذا إذا قاربه ، ولم يخالطه. وقال الأزهري : العرب تستعمل الإلمام في معنى الدّنوّ

__________________

(١) مشكل الإعراب ٢ / ٣٣٢ والقرطبي ١٧ / ١٠٦ والكشاف ٤ / ٣٢ والبحر ٨ / ١٦٤ وبالمعنى من معاني الفراء ٣ / ١٠٠ ومعاني الزجاج ٥ / ٧٤.

(٢) وهو رأي الزمخشري في الكشاف ٤ / ٣٢ وأبي حيان في البحر ٨ / ١٦٤. والآية ٢٣ من الأنبياء.

(٣) البحر المحيط السابق.

(٤) زيادة من (أ.

(٥) كذا في النسختين كما في البغوي والخازن ٦ / ٢٦٥ وفي القرطبي :

إن يغفر الله يغفر جما ...

والبيت الأعلى نسبه القرطبي لأمية بن أبي الصلت وانظر القرطبي ١٧ / ١٠٧ ورواية القرطبي : وقال ابن عباس أيضا : هو الرجل يلمّ بذنب ثم يتوب. قال : تسمع النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يقول :

إن يغفر الله يغفر جمّا

وأيّ عبد لك لا ألمّا

ثم قال : رواه عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس. ثم قال أيضا : وروى شعبة عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس في قول الله عزوجل : إِلَّا اللَّمَمَ قال : هو أن يلم العبد بالذنب ثم لا يعاوده قال الشاعر ؛ وأنشد البيت. وكذلك نسبه صاحب اللسان لأمية وهو من مشطور الرجز كما كتبه صاحب اللسان.

(٦) هو المبرد وقد ترجم له. وانظر الكامل.

١٩٥

والقرب (١) ، وقال جرير : (رضي الله عنه وأرضاه) (٢) :

٤٥٦٣ ـ بنفسي من تجنّيه عزيز

عليّ ومن زيارته لمام (٣)

وقال آخر :

٤٥٦٤ ـ متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا

تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا (٤)

وقال آخر :

٤٥٦٥ ـ لقاء أخلاء الصّفا لمام

 .......... (٥)

ومنه أيضا لمّة الشعر لما دون الوفرة.

فصل

قال ابن الخطيب : الكبائر إشارة لما فيها من مقدار السيئة.

والفواحش في اللغة مختصة بالقبح الخارج قبحه عن حد الخفاء وتركيب الحروف في التأليف يدل عليه ، فإنك إذا قلبتها وقلت : حشف كان فيه معنى الزيادة الخارجة عن الحد ، فإن الحشف أرذل التّمر (٦) ، وكذلك فشح (٧) يدلّ على حالة رديئة ، يقال : فشحت (٨) النّاقة إذا وقفت على هيئة مخصوصة للبول فالفحش يلازمه القبح ، ولهذا لم يقل الفواحش من الإثم ، وقال في الكبائر من الإثم ؛ لأن الكبائر إن لم يميزها بالإضافة في قوله : كبائر الإثم لما حصل المقصود بخلاف الفواحش.

واختلفوا في الكبائر والفواحش ، فقيل : الكبائر ما وعد الله عليه بالنار صريحا

__________________

(١) نقله في التهذيب «لمم»

(٢) تلك العبارة زيادة من (أ.

(٣) من الوافر له في هجو الأخطل وبني التغلب. والشاهد على أن اللّمام بمعنى القرب. والبيت بديوانه ٦١٣ دار الكتب اللبنانية إيليا الحاوي ، والبحر ٨ / ١٥٥ ، وفتح القدير ٥ / ١١٣.

(٤) من الطويل لعبيد الله بن الحر أو الحطيئة ، وليس في ديوانه. والشاهد في تلمم فإنه بمعنى المقاربة والدنو ، وانظر الإنصاف ٥٨٣ وابن يعيش ٧ / ٥٣ و ١٠ / ٢٠ والهمع ٢ / ١٢٨ والأشموني ٣ / ١٣١ ، وليس ٢ / ١٦٢ والكتاب ٣ / ٨٦.

(٥) صدر بيت من الطويل عجزه :

وكلّ وصال الغانيات ذمام

والشاهد فيه إن اللمام بمعنى القلة فهو يقول : إن لقاء أخلاء الصفا وإن تواتر قليل ، والإلمام زيارة لا لبث فيها ووصال الغانيات وإن دام شرب غير مرو لأن أيام السرور قصار وإن طالت. وانظر الكشاف ٤ / ٣٢ وشرح شواهده ٥٤٠ ، والبحر المحيط ٨ / ١٥٤ و ١٥٥ ، وانظر اللسان لمم ٤٠٧٧ و ٤٠٧٩ ومعاني القرآن للفراء ٣ / ١٠٠ ومعاني القرآن وإعرابه للزجّاج ٥ / ٧٤.

(٦) اللسان حشف ٨٨٧.

(٧) وروى ثعلب عن ابن الأعرابي : فشح وفشح وفشّح وفشّح إذا فرج ما بين رجليه بالحاء والجيم.

انظر السابق فشح وفشج ٣٤١٦.

(٨) وفشجت ـ بالجيم ـ أيضا ـ كما في اللسان.

١٩٦

وظاهرا والفواحش ما أوجب عليه حدّا في الدنيا. وقيل : الكبائر : ما يكفّر مستحلّها. وقيل : الكبائر ما لا يغفر الله لفاعله إلا بعد التوبة وهو مذهب المعتزلة.

قال ابن الخطيب : كل هذه التعريفات تعريف للشيء بما هو مثله في الخفاء أو فوقه. وقد ذكرنا أن الكبائر هي التي مقدارها عظيم والفواحش هي التي قبحها واضح ، فالكبيرة صفة عائدة إلى المقدار والفاحشة صفة عائدة إلى الكيفية (١).

فصل

اختلفوا في معنى الآية ، فقال بعضهم : ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم الله به وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين : إنهم كانوا بالأمس يعملون معا فأنزل الله هذه الآية. وهذا قول زيد بن ثابت وزيد بن أسلم.

وقيل : هو صغار الذنوب كالنّظرة والغمزة ، والقبلة وما كان دون الزنا. وهذا قول ابن مسعود وأبي هريرة ومسروق ، والشّعبي (٢) ورواية طاوس عن ابن عباس قال : ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «إنّ الله كتب على ابن آدم حظّه من الزّنا أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النّظر ، وزنا اللّسان النّطق ، والنّفس تتمنّى وتشتهي والفرج يصدّق ذلك ويكذّبه». وفي رواية : «والأذنان زناهما الاستماع (٣) ، واليد زناها البطش والرّجل زناها الخطى».

وقال الكلبي : اللمم على وجهين :

[الأوّل] : كل ذنب لم يذكر الله عليه حدا في الدنيا ولا عذابا في الآخرة فذلك الذي تكفره الصلوات الخمس ما لم يبلغ الكبائر والفواحش.

والوجه الآخر : هو الذنب العظيم يلمّ به المسلم المرة بعد المرة فيتوب منه.

وقال سعيد بن المسيب : هو ما لمّ على القلب أي خطر. وقال الحسين بن الفضل : اللّمم النظرة عن غير تعمد فهو مغفور ، فإن أعاد النظر فليس بلمم بل هو ذنب.

قوله : (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) ، قال ابن عباس ـ (رضي الله عنه) (٤) ـ لمن يفعل ذلك وتاب. وههنا تمّ الكلام (٥).

قوله : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) في تعلق الآية وجوه :

__________________

(١) وانظر الرازي ج ١٥ دار الفكر ص ٨ و ٩.

(٢) وانظر تفسير العلامة القرطبي ١٧ / ١٠٦ و ١٠٧ والبغوي والخازن ٦ / ٢٦٥ و ٢٦٦.

(٣) في البغوي : والعينان زناهما النّظر والأذنان ....

(٤) زياد من (أ).

(٥) في (أ) الكتاب بدل الكلام. تحريف. وانظر البغوي والخازن السابقين.

١٩٧

أحدها : هو تصوير (١) لما قال من قبل ، فإنه لو قال : هو أعلم بمن فعل (٢) كان القائل(٣) من الكفار يقول : نحن نعلم (٤) أمورا في جوف الليل المظلم ، وفي البيت الخالي فكيف يعلمه الله؟ قال : ليس علمكم أخفى من أحوالكم وأنتم أجنّة في بطون أمهاتكم ، فإنّ الله عالم بتلك الأحوال.

الثاني : أنه إشارة إلى أن الضالّ والمهتدي حصلا على ما هما عليه بتقدير الله فإنه علم الحق وأنتم في بطون الأمهات فكتب على البعض أنه ضال ، وكتب على البعض أنه مهتد.

الثالث : أنه تأكيد لبيان الجزاء ، لأنه لما قال : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) قال الكافرون هذا الجزاء لا يستحق إلا بالحشر وجمع الأجزاء بعد تفرقها وإعادة ما كان لزيد من الأجزاء في بدنه من غير اختلاط ، وذلك غير ممكن فقال تعالى هو عالم مماذا (٥) أنشأكم فيجمعها بعد ذلك على وفق علمه كما أنشأكم.

فصل

العامل في (قوله) (٦) : «إذ» يحتمل أن يكون «اذكر» فيكون هذا تقريرا لكونه عالما ويكون تقديره هو أعلم بكم. وقد تم الكلام ثم يقول : إن كنتم في شك من علمه بكم فاذكروا حال إنشائكم من التراب. وقد تقدم الكلام على قوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) بأن كل أحد أصله من التراب ، فإنّه يصير غذاء ، ثم يصير دما ثم يصير نطفة.

فإن قيل : لا بدّ من صرف قوله (إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) إلى آدم ، لأن قوله : (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) عائد إلى غيره ، فإنه لم يكن جنينا. وإن قلت بأن قوله تعالى : (إِذْ أَنْشَأَكُمْ) عائد إلى جميع الناس فينبغي أن يكون جميع الناس أجنة في بطون الأمهات وهو قول الفلاسفة؟

فالجواب : ليس كذلك ، لأنا نقول : الخطاب مع الموجودين حالة الخطاب ، فقوله : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) خطاب مع من حضر (وقت) (٧) الإنزال وهم كانوا أجنّة ، وخلقوا من الأرض على ما قررناه.

قوله : «أجنة» جمع جنين وهو الحمل في البطن لاستتاره. و «جنين ، وأجنّة» كسرير وأسرّة.

__________________

(١) في (ب) والرازي : تقرير وليس تصوير.

(٢) في (ب) ضل.

(٣) وفيها : فإن القائل. وفي الرازي : العامل.

(٤) في (ب) لا نعلم. وفي الرازي : نعمل.

(٥) في (ب) عالم ماذا أنشأكم وفي الرازي : «هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ» وانظر الرازي بالمعنى ١٥ / ١٠.

(٦) كلمة قوله سقطت من (أ).

(٧) زيادة للسياق.

١٩٨

فإن قيل : الأجنة هم الذين في بطون الأمهات وبعد الخروج لا يسمى إلا ولدا أو سقطا ، فما فائدة قوله تعالى : (فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ)؟

فالجواب : أن ذلك تنبيه على كمال العلم والقدرة ، فإن بطون الأمهات في غاية الظّلمة ومن علم حال الجنين فيها لا يخفى عليه ما يظهر من حال العباد (١).

قوله : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) قال ابن عباس ـ (رضي (٢) الله عنهما) ـ : لا تمدحوها. وقال الحسن : علم الله من كل نفس ما هي صانعة ، وإلى ما هي صائرة (فَلا تُزَكُّوا(٣)أَنْفُسَكُمْ) تبرّئوها عن الآثام ولا تمدحوها بحسن أعمالها. وقال الكلبي ومقاتل : كان الناس يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون : صلاتنا وصيامنا وحجّنا فأنزل الله هذه الآية. ثم قال : (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) أي برّ وأطاع وأخلص العمل (٣).

فصل

يحتمل أن يكون هذا خطابا (٤) مع الكفار ، فإنهم قالوا : كيف يعلمنا (٥) الله؟ فرد عليهم قولهم ويحتمل أن يكون خطابا مع كل من كان في زمن الخطاب وبعده من المؤمنين والكفار ، ويحتمل أن يكون خطابا مع المؤمنين وتقريره (٦) أن الله تعالى لما قال فأعرض عمّن تولّى عن ذكرنا قال لنبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قد علم كونك ومن تبعك (٧) على الحق وكون الكفار على الباطل فأعرض عنهم ولا تقولوا (٨) نحن على الحق وأنتم على الضلال ؛ لأنهم يقابلونكم بمثل ذلك وفوض الأمر إلى الله ، فهو أعلم بمن اتقى ومن طغى.

وعلى هذا قول من قال : «فأعرض» منسوخ أظهر ، وهو كقوله تعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٢٤] يعني الله أعلم بجملة الأمر.

قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى

__________________

(١) وانظر تفسير الإمام الرازي المرجع السابق.

(٢) زيادة من (أ).

(٣) البغوي والخازن ٦ / ٢٦٧ والقرطبي ١٧ / ١١٠.

(٤) في النسختين خطاب. وهو تحريف نحوي.

(٥) كذا في النسختين وفي الرازي : يعلمه ـ عائد على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٦) كذا في الرازي وفي النسختين تقديره.

(٧) كذا في (أ) وفي (ب) والرازي معك.

(٨) في (ب) يقولون.

١٩٩

(٤٧) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى)(٥٥)

قوله : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) لما بين جهل المشركين في عبادة الأصنام ذكر واحدا منهم معينا بسوء فعله (١).

قال مجاهد وابن زيد ومقاتل : نزلت في الوليد بن المغيرة كان قد اتبع النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على دينه فعيّره بعض المشركين وقالوا له : تركت دين الأشياخ وضللتهم فقال : إنّي خشيت عذاب الله فضمن الذي عاتبه إن هو أعطاه كذا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله ، فرجع الوليد إلى الشرك وأعطى الذي عيره بعض ذلك المال الذي ضمن ومنعه تمامه ، فأنزل الله (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) أي أدبر عن الإيمان (وَأَعْطى) صاحبه (قَلِيلاً وَأَكْدى) بخل بالباقي. وقال السدي : نزلت في العاص بن وائل السّهمّي ، وذلك أنه ربما وافق النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في بعض الأمور. وقال محمد بن كعب القرظي : نزلت في أبي جهل وذلك أنه قال : والله ما يأمرنا محمد إلا بمكارم الأخلاق فذلك قوله (وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى) أي لم يؤمن به (٢). ومعنى «أكدى» أي قطع.

قوله : (وَأَكْدى) أصله من أكدى الحافر إذا حفر (٣) شيئا فصادف كدية منعته من الحفر ، ومثله : أجبل أي صادف جبلا منعه من الحفر ، وكديت أصابعه كلّت من الحفر ، ثم استعمل في كل من طلب شيئا فلم يصل إليه أو لم يتمّمه ولمن طلب شيئا ولم يبلغ آخره (٤). قال الحطيئة :

٤٥٦٠ ـ فأعطى قليلا ثمّ أكدى عطاؤه

ومن يبذل المعروف في النّاس يحمد (٥)

ويقال : كدى (٦) النبت إذا قلّ ريعه ، وكدت الأرض تكدو كدّوا فهي كادية إذا أبطأ نباتها. عن أبي زيد (٧).

__________________

(١) الرازي المرجع السابق.

(٢) وانظر البغوي والخازن ٦ / ٢٦٧.

(٣) قال في اللسان : إذا حفر فبلغ الكدى.

(٤) وانظر اللسان «كدا» ٣٨٣٩ وانظر غريب القرآن ٤٢٩ والمجاز لأبي عبيدة ٢ / ٢٣٨.

(٥) من الطويل له ولم أجده بديوانه. والشاهد في «أكدى» أي قطع القليل. وانظر القرطبي ١٧ / ١١٢ وفتح القدير ٥ / ١١٤ والبحر ٨ / ١٥٥ والدر المنثور ٧ / ٦٥٩ والإتقان للإمام السيوطي ١ / ١٦٥ ، والسراج المنير ٤ / ١٣٤.

(٦) في اللسان : أكدى.

(٧) وأنشد :

عقر العقيلة من مالي إذا أمنت

عقائل المال عقل المصرخ الكادي

وانظر النوادر له.

٢٠٠