اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

فعلت كذا وكذا (وقوله) : (مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) لغير شيء (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) لأنفسهم فلا يجب عليهم لله أمر (١).

وقيل : معناه أخلقوا من غير أب وأمّ (٢).

قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يقال : أم خلقوا من غير شيء أي ألم يخلقوا من تراب أو من ماء لقوله تعالى : (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) [المرسلات : ٢٠] ويحتمل أن يقال : الإستفهام ليس بنفي بل هو بمعنى الإثبات كقوله تعالى : (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) و (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) و (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) [الواقعة: ٥٩ و ٦٤ و ٧٢] كل ذلك في الأول منفي وفي الثاني مثبت كذلك ههنا قال تعالى : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) أي إنّ الصادق هو الثاني وهذا حينئذ كقوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) [الإنسان : ١].

فإن قيل : كيف يكون ذلك الإثبات والآدمي خلق من تراب؟

نقول : والتراب خلق من غير شيء ، فالإنسان إذا نظرت إلى خلقه ونظرت إلى ابتداء أمره تجده مخلوقا من غير شيء.

أو نقول : المراد أم خلقوا من غير شيء مذكورا أو متغيرا وهو الماء المهين؟ (٣)

قوله : (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) قال الزمخشري : «لا يوقنون بأنهم خلقوا» (٤) وهو في معنى قوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) أي هم معترفون بأنه خلق الله وليس خلق أنفسهم.

وقيل : بل لا يوقنون بأن الله خالق واحد أي ليس الأمر كذلك وما خلقوا وإنما لا يوقنون بوحدة الله. وقيل المعنى لا يوقنون أصلا من غير ذكر مفعول كقولك : فلان ليس بمؤمن وفلان كافر (٥) لبيان مذهبه وإن لم ينو مفعولا. والمعنى أنهم ما خلقوا السموات والأرض ولا يوقنون بهذه الدلائل ، بل لا يوقنون أصلا وإن جئتهم بكل آية بدليل قوله تعالى بعد ذلك : (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ). وهذه الآية دليل الآفاق وقوله من قبل (٦) دليل الأنفس (٧).

__________________

ـ لغيره قال : «معناه بل أخلقوا من غير شيء» وفي المعاني له : «لا يؤمرون» بدل يؤمنون. وانظر المعاني ٥ / ٦٥.

(١) وانظر هذه الأقوال والمعاني مجتمعة في البغوي ٦ / ٢٥٢ ، وانظر أيضا القرطبي ١٧ / ٧٤.

(٢) السابق والرازي ٢٨ / ٢٦٠.

(٣) الرازي السابق.

(٤) بالمعنى من الكشاف ٤ / ٢٦ وباللفظ من الرازي السابق.

(٥) في الرازي : ليس بكافر.

(٦) وهو : «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ» الآية ٣٥ من نفس السورة.

(٧) وانظر الرازي السابق ٢٨ / ٢٦١.

١٤١

قوله : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) قال عكرمة : يعني النبوة ، وقال مقاتل : أبأيديهم مفاتيح ربك بالرسالة فيضعونها حيث شاؤوا؟ وقال الكلبي : خزائن المطر والرّزق (١). وقيل : خزائن الرحمة.

قوله : (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) وهذه تتمّة الردّ عليهم ؛ لأنه لما (قا) (٢) ل : «أم عندهم خزائن ربّك» أشار على أنهم ليسوا بخزنة الله فعلموا خزائن الله لكن بمجرد (٣) انتفاء كونهم خزنة (لا) (٤) ينتفي العلم لجواز أن يكون مشرفا على الخزنة (٥) ، فإن العلم بالخزائن عند الخازن والكاتب بالخزانة (٦) فقال : لستم بخزنة ولا بكتبة الخزانة المسلطين عليها.

قال ابن الخطيب : ولا يبعد تفسير : «المسيطرين» بكتبة الخزائن ؛ لأن التركيب يدل على السّطر وهو يستعمل في الكتابة (٧).

قال أهل اللغة : المسيطر الغالب القاهر من سيطر عليه إذا راقبه وحفظه أو قهره (٨). قال المفسرون : المسيطرون المسلطون الجبّارون. وقال عطاء : أرباب قاهرون ، فلا يكونوا تحت أمر أو نهي يفعلون ما شاؤوا. ويجوز بالسين والصاد جميعا.

وقرأ العامة : المصيطرون بصاد خالصة من غير إشمامها زايا لأجل الطاء كما تقدم في : «صراط» (٩) [الفاتحة : ٧].

وقرأ هشام وقنبل من غير خلاف عنهما بالسين الخالصة التي هي الأصل وحفص بخلاف عنه (١٠).

وقرأ خلّاد (١١) بصاد مشمّة زايا من غير خلاف (١٢) عنه. وقرأ خلاد (١٣) بالوجهين أعني كخلف والعامّة. وتوجيه (١٤) هذه القراءات واضح مما تقدم في أول الفاتحة ، ولم

__________________

(١) ذكر تلك الأقوال العلماء البغوي والخازن في تفسيريهما ٦ / ٢٥٣ والقرطبي في الجامع ٢٧ / ٧٤ و ٧٥.

(٢) ذلك المقطع سقط من نسخة أ.

(٣) في الرازي : وليس بمجرّد.

(٤) زيادة من النسختين على الرازي.

(٥) وفيه الخزانة لا الخزنة.

(٦) وفيه : في الخزانة.

(٧) وانظر الرازي ٢٨ / ٢٦١.

(٨) اللسان «سطر» ٢٠٠٧.

(٩) وهذه القراءة للعامة ليعمل اللسان عملا واحدا في الإطباق والاستعلاء.

(١٠) وانظر الكشف ٢ / ٢٩٢ والإتحاف ١٩٩ وانظر أيضا السبعة ٦١٣.

(١١) هو هكذا في الإتحاف وفي البحر : وأشمّ خلف عن حمزة وخلّاد عنه بخلاف عنه الزّاي. وفي الكشف لمكّيّ : وقرأ حمزة بين الصاد والزاي على اللّغة.

(١٢) في الإتحاف المرجع السابق ، قال : وأثبت له الخلاف في التيسير وتبعه الشاطبيّ.

(١٣) وفي الإتحاف أيضا : والصاد الخالصة هي رواية الحلوانيّ والبزّار عن خلّاد. وبه قرأ الباقون.

(١٤) السين على الأصل من سطر. والصاد لأجل الطاء حيث يعمل اللسان عملا واحدا في الإطباق والاستعلاء. وقراءة الإشمام بين الصّاد والزاي لغة. وانظر الكشف ٢ / ٢٩٢ ، وحجة ابن خالويه ٦٢ و ٣٢٥.

١٤٢

يأت على «مفيعل» إلا خمسة ألفاظ ، أربعة صفة اسم فاعل نحن مهيمن ومبيقر (١) ، ومسيطر ومبيطر (٢) وواحد اسم جبل ـ وقيل : اسم أرض لبني فزارة ـ وهو المجيمر (٣) قال امرؤ القيس :

٤٥٣٧ ـ كأنّ ذرى رأس المجيمر غدوة

من السّيل والغثّاء فلكة مغزل (٤)

قوله : (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ) أي مرقاة ومصعد إلى السماء «يستمعون فيه». وهذا أيضا تتميم الدليل ، فإن من لا يكون خازنا ولا كاتبا قد يطلع على الأمر بالسماع من الخازن أو الكاتب فقال : أنتم لستم بخزنة ولا كتبة ولا اجتمعتم بهم ، لأنهم ملائكة ولا صعود لكم.

قوله : (يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) صفة «لسلّم» و «فيه» على بابه من الظرفية. وقيل : هي بمعنى «على». قاله الواحدي (٥) ، كقوله تعالى : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه : ٧١]. ولا حاجة إليه (٦).

وقدّره الزمخشري متعلقا بحال محذوفة تقديرها : صاعدين فيه. ومفعول «يستمعون» محذوف فقدره الزمخشري يستمعون ما يوحى إلى الملائكة من علم الغيب (٧). وقدره غيره (٨) يستمعون الخبر بصحة ما يدعون من أنه شاعر ، وأنّ لله شركاء.

والظاهر أنه لا يقدر له مفعول بل المعنى يوقعون الاستماع أي هل لهم قوة الاستماع من السماء حتى يعلموا أنه ليس (٩) برسول.

قوله : (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ) إن ادّعوا ذلك (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي حجة وبينة.

فإن قيل كيف قال : (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ) ولم يقل : فليأتوا كما قال تعالى : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) [الطور : ٣٤]؟

__________________

(١) كذا ذكرها ابن خالويه في الحجة في القراءات السبع ولم أعرف معناها بعد طول بحث.

(٢) ذكر ابن منظور في اللسان أنه معالج الدّوابّ. انظر اللسان «بطر» ٣٠١.

(٣) ذكر السيوطي في المزهر عن ابن قتيبة عن أبي عبيدة ثلاث كلمات مهيمن ومسيطر ومبيطر. انظر المزهر ٢ / ٩٣ ، بينما ذكر ابن خالويه في الحجة الأربعة الأول. انظر الحجّة ٣٣٥.

(٤) من الطويل له ، والذّروة أعلى الشيء والمجيمر : أكمة والغثاء ما جاء به السيل من الحشيش والشجر والكلأ والتراب وغير ذلك والجمع الأغثاء. يقول : كأنّ هذه الأكمة غدوة مما أحاط بها من أغثاء السيل فلكة مغزل فهو شبه استدارة هذه الأكمة بما أحاط بها من الأغثاء باستدارة فلكة المغزل.

وانظر شرح المعلقات السبع للزوزني ٤٧ (معلقة امرىء القيس) واللسان «غزل» العجز فقط ٣٢٥٢.

(٥) تفسير الفخر الرازي ٢٨ / ٢٦٢.

(٦) لما فيه من التّغيير.

(٧) الكشاف ٤ / ٢٦.

(٨) هو أبو حيان في البحر ٨ / ١٥٢.

(٩) وهو رأي الإمام الرازي في تفسيره ٢٨ / ٢٦٢.

١٤٣

فالجواب : أنه طلب منهم الأهون على تقدير صدقهم ليكون امتناعه عليهم (١) أدلّ على بطلان قولهم ، وقال هناك : فليأتوا أي اجتمعوا عليه وتعاونوا وأتوا بمثله ، فإن ذلك عند الاجتماع أهون وأما الارتقاء في السلم بالاجتماع فمتعذّر ، لأنه يرتقي واحد بعد واحد فلا يحصل في الدرجة العليا إلا واحد فقال : فليأت ذلك الواحد بما سمعه. وفيه لطيفة وهي أنه لو طلب منهم ما سمعوه لكان لواحد أن يفتري ويقول : سمعت كذا فقال : لا بل الواجب أن يأتي بدليل يدلّ عليه (٢).

قوله : (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) وهذا إنكار عليهم حين جعلوا لله ما يكرهون كقوله تعالى : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ) [الصافات : ١٤٩].

(أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) جعلا على ما جئتهم به ودعوتهم إليه (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أي أثقلهم ذلك المغرم الذي يسألهم ، فيمنعهم ذلك عن الإسلام.

فإن قيل : ما الفائدة في سؤال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (٣) حيث قال : أم تسألهم ولم يقل : أم تسألون أجرا كما قال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ) (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) إلى غير ذلك؟

فالجواب : أنّ فيه فائدتين :

إحداهما (٤) : تسلية قلب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأنهم لما امتنعوا عن الاستماع صعب على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال له ربه : أنت أتيت بما عليك فلا يضيق صدرك حيث لم يؤمنوا ، فأنت غير ملزم ، وإنما كنت تلام إن كنت طلبت منهم أجرا فهل طلبت ذلك فأثقلتهم فلا حرج عليك إذن.

الثانية : لو قال : أم تسألون ففي طلب الأجر مطلقا وليس كذلك لأنهم كانوا مشركين مطالبين بالأجر من رؤسائهم وأما النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (٥) فقال : أنت لا تسألهم أجرا فهم لا يتّبعونك وغيرهم يسألهم وهم يسألون ويتّبعون السائلين هذا غاية الضّلال.

قوله : (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) أي علم ما غاب عنهم حتى علموا أن ما يخبرهم من أمر القيامة والبعث باطل. قال قتادة : هذا جواب لقوله : (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) يقول : أعندهم الغيب حتى علموا أن محمدا يموت قبلهم فهم يكتبون.

قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف لبعد ذكره ، أو لأن قوله تعالى : (قُلْ تَرَبَّصُوا) متصل به وذلك يمنع اتصال هذا بذاك (٦).

__________________

(١) كذا في النسختين وفي الرازي : اجتماعهم عليه.

(٢) وانظر الرازي المرجع السابق.

(٣) في ب ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

(٤) في النسختين أحدهما. وهو خطأ نحويّ.

(٥) في ب ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

(٦) وانظر في هذا كله تفسير الإمام ٢٨ / ٢٦٤.

١٤٤

قال القتيبيّ : أي يحكمون (١) والكتاب الحكم قال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ للرجلين اللذين تخاصما إليه : أقضي بينكما بكتاب الله أي بحكم الله.

وقال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) (٢) ـ معناه : أم عندهم اللّوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويخبرون الناس به (٣).

والألف واللام في (الْغَيْبُ) لا للعهد ولا لتعريف الجنس بل المراد نوع الغيب ، كما تقول : اشتر اللّحم تريد بيان الحقيقة لا كلّ لحم ولا لحما معينا (٤).

قوله (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) أي مكرا بك (فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) أي المخزيّون(٥) بكيدهم ، أي إن ضرر ذلك يعود عليهم ويحيق مكرهم بهم لأنهم مكروا به في دار الندوة فقتلوا يوم بدر (٦).

فصل

وجه التعلق إذا قيل بأن قوله : (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) متصل بقوله تعالى : (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) فالمعنى أنهم لما قالوا : نتربص به ريب المنون قيل لهم : أتعلمون الغيب فتعلمون أنه يموت قبلكم أم تريدون كيدا فتقولون نقتله فيموت فقيل لهم : إن كنتم تدعون الغيب فأنتم كاذبون وإن كنتم تظنّون أنّكم تقدرون عليه فأنتم غالطون فإن الله يصونه وينصره عليكم.

وإن قيل بأن المراد أنه عليه الصلاة والسلام لا يسألكم عن الهداية مالا وأنتم لا تعلمون ما جاء به لكونه من الغيوب ففي المراد بقوله : (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) وجهان :

الأول : أن المعنى أم يريدون أي من الشيطان فكأنه تعالى قال : أنت لا تسألهم أجرا وهم لا يعلمون الغيب فهم محتاجون إليك وأعرضوا فقد اختاروا كيد الشيطان ، وارتضوا بإزاغته.

والإرادة بمعنى الاختيار كقوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) [الشورى : ٢٠] وقوله : (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) [الصافات : ٨٦] وقوله : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) [المائدة : ٢٩.]

الثاني : أن المراد أم يريدون كيدا ، فهو واصل إليهم وهم عن قريب مكيدون والمعنى

__________________

(١) لم أجد نصه هذا في كتابه غريب القرآن عند هذه الآية ؛ وإنما نقله عنه البغوي في معالم التنزيل ٦ / ٢٥٣.

(٢) زيادة من أ.

(٣) وانظر البغوي السابق ٦ / ٢٥٣.

(٤) قاله الرازي في مرجعه السّابق.

(٥) جمع مخزيّ من الخزي. وانظر هذا المعنى في البغوي ٦ / ٢٥٣.

(٦) السابق.

١٤٥

أنه لم يبق لهم حجة في الإعراض فهم يريدون نزول العذاب والله أرسل إليهم رسولا لا يسألهم أجرا ويهديهم إلى ما لا علم لهم به ولا كتاب عندهم وهم معرضون فهم يريدون إذن أن يهلكهم ويكيدهم ، لأن الاستدراج كيد ، والإملاء لازدياد الإثم كذلك ولا يقال : هذا فاسد ، لأن الكيد والإساءة لا تطلق على فعل الله تعالى إلا بطريق المقابلة وكذلك المكر فلا يقال : أساء الله إلى الكافر ولا اعتدى الله إلا إذا ذكر أولا منهم (١) شيء من ذلك ، ثم يقال بعده مثله لفظا في حق الله تعالى ، كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] ، (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [البقرة : ١٩٤] (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) [آل عمران : ٥٤] (يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً) [الطارق : ١٥ ـ ١٦] ؛ لأنا نقول : الكيد (ما) (٢) يسوء من نزل به ، وإن حسن ممن وجد منه كقول (٣) إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ (لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) [الأنبياء : ٥٧] من غير مقابلة. ونكر الكيد ، إشارة إلى وقوع العذاب من حيث لا يشعرون ، فكأنه قال : يأتيهم بغتة ولا يكون لهم علم بعظمه (٤).

قوله : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) هذا من وقوع الظاهر موقع المضمر تنبيها على اتّصافهم بهذه الصفة القبيحة ، والأصل أم يريدون كيدا فهم المكيدون ، أو حكم على جنس هم نوع منه فيندرجون اندراجا أوّليّا لتوغلهم في هذه الصفة (٥).

قوله : (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) يرزقهم وينصرهم (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

قال الخليل : ما في هذه السورة من ذكر «أم» كلمة استفهام وليس بعطف (٦).

فصل

قال أهل اللّغة : «سبحان الله» اسم علم على التسبيح ، و «ما» في قوله (عَمَّا يُشْرِكُونَ) يحتمل أن تكون مصدرية أي عن إشراكهم ، ويحتمل أن تكون خبرية أي عن الذين يشركون. وعلى هذا يحتمل أن يكون عن الولد (٧) لأنهم كانوا يقولون : له البنات فقال : «سبحان الله عن البنات والبنين». ويحتمل أن يكون عن مثل الآلهة أي سبحانه الله عن مثل ما يعبدونه(٨).

قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً) «إن» هذه شرطية على بابها. وقيل : هي بمعنى «لو» (٩). وليس بشيء.

__________________

(١) كذا في النسختين وفي الرازي : فيهم لا منهم.

(٢) سقط من ب.

(٣) في ب لقول.

(٤) وانظر الرازي ٢٨ / ٢٦٦.

(٥) قال بتلك العلتين أبو حيان في البحر ٨ / ١٥٣.

(٦) سبق هذا القول في السورة نفسها.

(٧) في ب عن الواو وهو تحريف من الناسخ.

(٨) قال بهذا الاحتمالات إمامنا الفخر الرازي في تفسيره ٢٨ / ٢٦٧.

(٩) ذكرهما دون نسبة القول الثاني لقائله أبو البقاء في التبيان ١١٨٥.

١٤٦

وقوله : (سَحابٌ) خبر مبتدأ مضمر أي هذا سحاب ، والجملة نصب بالقول.

فصل

لما بين فساد أقوالهم وسقوطها أشار إلى أنه لم يبق لهم عذر ، فإن الآيات والحجج قد ظهرت ولم يؤمنوا فبعد ذلك (إِنْ يَرَوْا كِسْفاً) أي قطعة (مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ) أي ينكرون كونه آية. ومعنى الآية لو عذبناهم بسقوط بعض من السماء عليهم لم ينتهوا عن كفرهم ويقولوا لمعاندتهم : هذا سحاب مركوم أي بعضه على بعض.

قوله : (ساقِطاً) يحتمل أن يكون مفعولا ثانيا كقولك : رأيت زيدا عالما ، وأن يكون حالا كقولك : ضربته قائما.

والثاني أولى ؛ لأن الرؤية عند التعدي إلى مفعولين في أكثر الأمر تكون بمعنى العلم ، تقول: رأيت هذا المذهب صحيحا وهذا الوجه ظاهرا وعند التعدي إلى واحد تكون بمعنى «رأي العين» في الأكثر ، تقول : رأيت زيدا ؛ قال تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) [غافر : ٨٥] وقال : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) [مريم : ٢٦].

والمراد من الآية رؤية العين (١).

فصل

قولهم : (سَحابٌ مَرْكُومٌ) إشارة إلى أنهم حين يعجزون عن التكذيب ولا يمكنهم أن يعقلوا وقوع شيء على الأرض يرجعون إلى التأويل والتّخييل ، وقالوا : سحاب ولم يقولوا : هذا سحاب إشارة إلى وضوح الأمر وظهور العناد فأتوا بما لا شك فيه. وقالوا : (سَحابٌ مَرْكُومٌ) وحذفوا المبتدأ ليبقى للقائل فيه مجال فيقولون عند تكذيب الخلق إيّاهم : قلنا سحاب مركوم شبهة أو مثلة. وإن مشى الأمر على (٢) عوامّهم استمروا. وهذه طريق من يخاف من كلام لا يعلم هل يقبل منه أم لا فيجعل كلامه ذا وجهين (٣). فإن رأى القبول صرح بمراده ، وإن أنكر عليه أحدهما فسّره بالآخر (٤).

قوله تعالى : (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ)(٤٩)

قوله : (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ) «يومهم» مفعول به لا ظرف. وقرأ أبو حيوة :

__________________

(١) وانظر الرازي ٢٨ / ٢٦٩ و ٢٦٨.

(٢) في ب مع وهو ما وافق الرازي.

(٣) في النسختين «ذو» والصحيح ما أثبته أعلى.

(٤) بالمعنى من الرازي ٢٨ / ٢٦٩.

١٤٧

يلقوا (١) مضارع لقي ويضعف أن يكون المفعول محذوفا و «يومهم» ظرف أي يلاقوا أو يلقوا جزاء أعمالهم في يومهم (٢).

فصل

قوله : (فَذَرْهُمْ) كقوله : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) [الأنعام : ٦٨] ، (وَتَوَلَّ عَنْهُمْ) [الصافات : ١٧٨] إلى غير ذلك. فقيل : كلها منسوخة بآية القتال. وهو ضعيف. وإنما المراد التهديد كقول السيد لعبده الجاني لمن ينصحه : دعه فإنه سينال جنايته (٣).

قوله : (الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) قرأ ابن عامر وعاصم بضم ياء يصعقون مبنيا للمجهول. وباقي السبعة بفتحها مبنيا للفاعل (٤). وقرأ أبو عبد الرّحمن : بضم الياء وكسر العين.

فأما الأولى : فيحتمل أن تكون من صعق فهو مصعوق مبنيا للمفعول. وهو ثلاثي حكاه الأخفش (٥) ، فيكون مثل سعدوا وأن يكون من أصعق رباعيّا ، يقال : أصعق فهو مصعق. قاله الفارسي. والمعنى أن غيرهم أصعقهم (٦).

وقراءة السلمي (٧) تؤذن أن أفعل بمعنى فعل. ومعنى يصعقون أي يموتون أي حتى يعاينوا الموت.

وقوله : (يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ) يوم بدل من «يومهم» (٨).

وقيل : ظرف «يلاقوا» (٩).

فإن قيل : يلزم منه أن يكون اليوم في يوم فيكون اليوم ظرف اليوم؟

فالجواب : هو على حدّ قولك : يأتي يوم قتل (١٠) فلان يوم تبين جرائمه. قاله ابن الخطيب(١١). وقوله (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي لا ينفعهم كيدهم يوم الموت ولا يمنعهم من العذاب مانع.

قوله : (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) يجوز أن يكون من إتباع الظاهر موقع المضمر وأن لا يكون كما تقدم. والمعنى وإن للذين ظلموا أي كفروا (عَذاباً دُونَ ذلِكَ) أي عذابا في

__________________

(١) وهي شاذة. انظر البحر ٨ / ١٥٣ والكشّاف ٤ / ٢٦.

(٢) فما لا حذف فيه أولى ممّا فيه حذف.

(٣) تفسير الرازي ٢٨ / ٢٧٠.

(٤) قراءة سبعية متواترة ذكرها صاحب الكشف ٢ / ٢٩٢ وصاحب الإتحاف ٤٠١.

(٥) نقله صاحب الكشف السابق قال : وقد حكى الأخفش «صعق» كسعد لغة مشهورة فعلى هذا يجوز أن يكون من الثلاثي غير منقول لغة لا قياس عليها.

(٦) قال بهذا الوجه صاحب الإتحاف ٤٠١.

(٧) وقد ذكرها صاحب البحر ٨ / ١٥٣. وهي شاذة.

(٨) التبيان ١١٨٥.

(٩) قاله الرازي في تفسيره ٢٨ / ٢٧١.

(١٠) في النسختين : قيل. وفي الرازي ما أثبت أعلى.

(١١) الرازي السابق.

١٤٨

الدنيا قبل عذاب الآخرة. قال ابن عباس ـ (رضي الله (١) عنهما) ـ يعني القتل يوم بدر.

وقال الضحاك : هو الجوع والقحط سبع سنين. وقال البراء بن عازب : عذاب القبر.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن العذاب نازل بهم (٢).

والمراد بالظلم هنا هو كيدهم نبيّهم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهم أهل مكة. وقيل : ظلموا بعبادة غير الله فيكون عاما في كل ظالم. والإشارة بقوله : «ذلك» إلى اليوم الذي فيه يصعقون.

ومقعول «يعلمون» يجوز أن يكون ما تقدم (٣) ، ويجوز أن يكون لا مفعول له أي أكثرهم غافلون جاهلون (٤).

قوله تعالى : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ). أي إلى أن يقع بهم العذاب الذي حكمت عليهم (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) قراءة العامة بالفك ، وأبو السّمّال بإدغام النون فيما بعدها (٥). وناسب جمع الضمير هنا جمع العين ألا تراه أفرد حيث أفردها في قوله : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) [طه : ٣٩]. قاله الزمخشري (٦). والمعنى : فإنك بمرأى منّا.

قال ابن عباس : نرى ما يعمل بك. وقال الزجاج : إنك بحيث نراك ونحفظك فلا يصلون إلى مكروهك (٧).

قال ابن الخطيب : اللام في قوله (لِحُكْمِ رَبِّكَ) تحتمل وجوها :

أحدها : هي بمعنى «إلى» أي اصبر إلى أن يحكم الله.

الثاني : أن الصبر فيه معنى الثبات أي تثبّت لحكم ربك واحتمله.

الثالث : هي اللام التي للسبب ، يقال : لم خرجت؟ فتقول : لحكم فلان عليّ بالخروج ، فقال : فاصبر واجعل سبب الصبر امتثال الأمر ، أي فاصبر لهذا الحكم عليك لا لشيء آخر (٨).

قوله : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) تقدم الكلام على نظيره (٩) وقوله : (حِينَ تَقُومُ) قال سعيد بن جبير وعطاء : أي قل حين تقوم من مجلسك : سبحانك اللهم وبحمدك ، فإن

__________________

(١) زياد من أ.

(٢) وانظر البغوي ٦ / ٢٥٤.

(٣) من الأمر وهو أن لهم عذابا دون ذلك.

(٤) وانظر في هذا كله تفسير الإمام ٢٨ / ٢٧٤.

(٥) فتكون هكذا : بأعينّا. وهي شاذة. انظر الكشاف ٤ / ٢٦ و ٢٧ ، والبحر ٨ / ١٥٣.

(٦) الكشاف المرجع السابق.

(٧) معاني القرآن وإعرابه له ٥ / ٦٨.

(٨) بالمعنى من تفسير الإمام ٢٨ / ٢٧٤ و ٢٧٥.

(٩) في سورة «ق» من قوله : «فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ».

١٤٩

كان المجلس خيرا ازددت إحسانا وإن كان غير ذلك كان كفارة له.

وروى أبو هريرة قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : من جلس مجلسا وكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم : سبحانك الله وبحمدك أشهد أن لا إله إلّا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلّا كان كفّارة لما بينهما. وقال ابن عباس (ـ رضي الله (١) عنهما ـ) : معناه : صلّ لله حين تقوم من مقامك. وقال الضحاك والربيع : إذا قمت إلى الصلاة فقل : سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك ولا إله غيرك. وقال الكلبي : هو ذكر الله باللسان (حِينَ تَقُومُ) من الفراش إلى أن تدخل في الصلاة ، لما روى عاصم بن حميد قال : سألت عائشة بأيّ شيء كان يفتتح رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قيام الليل؟ فقالت : كان إذا قام كبّر عشرا ، وحمد الله عشرا وهلّل عشرا واستغفر عشرا وقال : اللهم اغفر لي واهدني وارزقني وعافني ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة. وقيل : حين تقوم لأمر ما ولا سيما إذا كنت تنتصب لمجاهدة قومك ومعاداتهم والدعاء عليهم (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) وبدل قيامك بالمناداة ، وانتصابك للانتقام بقيامك بذكر الله وتسبيحه (٢).

قوله : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) أي صلّ له ، قال مقاتل : حتّى صلاة المغرب والعشاء (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) يعني الركعتين قبل صلاة الفجر وذلك حين تدبر النجوم أي تغيب بضوء الصبح.

هذا قول أكثر المفسرين. وقال الضحاك : هي فريضة صلاة الصبح.

قوله : (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) العامة على كسر الهمزة مصدرا ، بخلاف التي في آخر «ق» (٣) كما تقدم ، فإنّ الفتح هناك لائق لأنه يراد به الجمع (٤) لدبر السجود أي أعقابه.

على أنه قرأ سالم الجعديّ ويعقوب ، والمنهال بن عمرو بفتحها (٥) هنا ؛ أي أعقاب النجوم وآثارها إذا غربت.

فصل

هذه الآية نظير قوله : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) [الروم : ١٧] وقد تقدم الكلام عليها.

قال ابن الخطيب : قال ههنا : (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) وقال في «ق» (وَأَدْبارَ السُّجُودِ)

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) وانظر البغوي والخازن في معالم التنزيل ولباب التأويل ٦ / ٢٥٤.

(٣) وهي قوله تعالى : «وَأَدْبارَ السُّجُودِ» من الآية ٤٠.

(٤) وانظر البحر ٨ / ١٥٣ والإتحاف ٤٠١ و ٤٠٢.

(٥) البحر المرجع السابق وذكر في الإتحاف الفتح عن المطوّعي. انظر الإتحاف المرجع السابق وهي من الأربع فوق العشر المتواترة.

١٥٠

فيحتمل أن يكون المعنى واحدا (١) ، والمراد من السجود جمع ساجد ، والنّجوم سجود قال تعالى : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) [الرحمن : ٦].

وقيل : المراد من النجوم نجوم السماء. وقيل : النجم : ما لا ساق له من النبات قال تعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ....) [الرعد : ١٥]. والمراد من النجوم الوظائف وكل وظيفة نجم في اللغة إذا فرغت من وظائف الصلاة (٢) فقل : سبحان الله كما تقدم.

روى أبيّ بن كعب ـ (رضي الله عنه وأرضاه) (٣) ـ قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : من قرأ سورة «والطّور» كان حقّا على الله ـ عزوجل ـ أن يؤمّنه من عذاب القبر وأن يدخله بنعمته في جنّته (٤).

(والله ـ سبحانه وتعالى ـ) أعلم.

__________________

(١) عبارة الرازي : ويحتمل أن يقال : المعنى واحد وفي النسختين : أن يكون المعنى واحد.

(٢) في ب الصلاة وفي أالله. والتصحيح من ب.

(٣) ما بين الأقواس زيادة من أ.

(٤) وانظر الكشاف دون سند لأحد ٤ / ٢٧ وانظر الكلام قبل في الفخر الرازي ٢٨ / ٢٧٦.

١٥١

سورة النجم

مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة : إلا آية وهي قوله تعالى : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) الآية. وهي إحدى وستون آية. وقيل : إن السورة مدنية. والصحيح أنها مكية لقول ابن مسعود : هي أول سورة أعلنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة. وقيل : اثنتان وستون آية وثلاثمائة وستون كلمة وألف وأربعمائة وخمسة أحرف (١).

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى)(١٢)

قوله تعالى : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) قال ابن عباس (رضي الله عنهما) (٢) في رواية الوالبيّ العوفيّ يعني الثّريّا إذا سقطت وغابت. وهويّه مغيبه (٣). والعرب تسمي «الثّريّا» نجما قال قائلهم:

٤٥٣٨ ـ إذا طلع النّجم عشاءا

ابتغى الرّاعي كساءا (٤)

وجاء في الحديث عن أبي هريرة مرفوعا : ما طلع النّجم قطّ وفي الأرض من العاهة شيء إلّا رفع (٥).

وأراد بالنجم الثريا. قال شهاب الدين : وهذا هو الصحيح لأن هذا صار علما بالغلبة ومنه قول العرب :

__________________

(١) وانظر هذا كله في تفسيري البغوي والخازن ٦ / ٢٥٥ ، والقرطبي في الجامع ١٧ / ٨١.

(٢) زيادة من (أ).

(٣) البغوي المرجع السابق.

(٤) نقل في البحر لأبي حيان ٨ / ١٥٧.

(٥) لم أجده في كتب الحديث الصحاح وقد نقله البغوي في تفسيره ، المرجع السابق.

١٥٢

٤٥٣٩ ـ طلع النّجم غديّه

فابتغى الرّاعي كسيّه (١)

وقال عمر بن أبي ربيعة :

٤٥٤٠ ـ أحسن النّجم في السّماء الثّريّا

والثّريّا في الأرض زين النّساء (٢)

يقال : إنها سبعة أنجم ستة منها ظاهرة وواحد خفي يمتحن الناس به أبصارهم. وروى القاضي عياض في «الشّفا» أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يرى الثريا أحد عشر نجما. وقال مجاهد : هي نجوم السماء كلها حين تغرب. لفظه واحد ومعناه الجمع. سمي الكوكب نجما لطلوعه ، وكل طالع نجم ، يقال : نجم السّنّ والقرن والنّبت إذا طلع. وروى عكرمة عن ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) (٣) ـ أنها ما يرمى به الشياطين عند استراقهم السمع. وقال أبو حمزة (٤) الثّماليّ : هي النجوم إذا استترت يوم القيامة. وقيل المراد بالنجم هنا الجنس.

قال الشاعر ـ (رحمة الله (٥) عليه ـ) :

٤٥٤١ ـ فباتت تعدّ النّجم في مستحيرة

سريع بأيدي الآكلين جمودها (٦)

أي تعدّ النجوم. وهذا هو معنى قول مجاهد المتقدم. وقيل : المراد بالنجم الشّعرى ؛ لقوله : (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى). وقيل : الزهرة ؛ لأنها كانت تعبد. وقيل : أراد بالنجم القرآن ، لأنه نزل نجوما متفرقا في عشرين سنة. وسمي التفريق تنجيما والمفرق منجما. قاله الكلبي ورواه عطاء عن ابن عباس. والهويّ النزول من أعلى إلى أسفل. وقال الأخفش : النجم هو النبت الذي لا ساق له(٧) ومنه قوله ـ عزوجل ـ (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ). وهويّه سقوطه على الأرض. وقال جعفر الصادق : يعني محمدا ـ

__________________

(١) أبو حيان ، المرجع السابق. وهو من الرّمل مجهول قائله.

(٢) من الخفيف له. والشاهد فيه أن الثريا تطلق على النجم فالنجم لفظ مفرد ومعناه جمع. والبيت لم أجده بديوان عمر. وانظر القرطبي ١٧ / ٨٢ وفتح القدير ٥ / ١٠٤.

(٣) زيادة من (أ).

(٤) ثابت بن أبي صفية الثّماليّ أبو حمزة رافضيّ من الخامسة. مات في خلافة أبي جعفر. وانظر تقريب التهذيب ١ / ١١٦.

(٥) زيادة من (أ).

(٦) من الطويل للراعي. والمستحيرة الجفنة الممتلئة وقوله : «سريع» يريد أن الوقت كان وقت الشتاء فكان يجمد دسمه على أيدي الآكلين وهو يقول : نظرت في هذه الجفنة فرأيت فيها النجوم لعظمها.

والشاهد في النجم وهو يريد جنس النجوم. وانظر البحر ٨ / ١٥٧ والقرطبي ١٧ / ٨٢ والكشاف ٤ / ٢٧ وشرح شواهده ٣٨٨ وروح المعاني ٢٧ / ٤٤ ومجمع البيان ٩ / ٢٦٠ واللسان «نجم» ، والديوان ٩٢.

(٧) لم أجده في المعاني له عند هذه الآية ونقله عنه البغوي في تفسيره ٦ / ٢٥٥ والقرطبي أيضا ١٧ / ٨٣.

١٥٣

صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إذ نزل من السماء ليلة المعراج. والهويّ النزول ، يقال هوى يهوي هويّا (١). والكلام في قوله : (وَالنَّجْمِ) كالكلام في قوله : (وَالطُّورِ) حيث لم يقل : والنّجوم (٢) ولا الأطوار وقال : (وَالذَّارِياتِ) [الذاريات : ١] (وَالْمُرْسَلاتِ)(٣) [المرسلات : ١] كما تقدم.

فصل

السور التي تقدمت وافتتاحها بالقسم بالأشياء دون الحروف هي «الصّافّات» ، و «الذّاريات» و «الطّور» وهذه السورة بعدها فالأولى أن يقسم لإثبات الوحدانية كما قال : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) [الصافات : ٤] وفي الثانية أقسم لوقوع الحشر والجزاء كما قال تعالى : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) [الذاريات : ٥ و ٦] وفي الثالثة لدوام العذاب بعد وقوعه كما قال تعالى : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) [الطور : ٧ و ٨] وفي هذه أقسم لإثبات النبوة لتكمل الأصول الثلاثة الوحدانية ، والحشر ، والنبوة.

واعلم أنه تعالى لم يقسم على الوحدانية ولا على النبوة كثيرا ، لأنه أقسم على الوحدانية في سورة واحدة وهي «والصّافّات» ، وأما النبوة فأقسم عليها بأمر واحد في هذه السورة وبأمرين في سورة (والضّحى) وأكثر من القسم على الحشر وما يتعلق به فقال : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) [الليل : ١] (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) [الشمس : ١] (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) [البروج : ١] إلى غير ذلك وكلها في الحشر أو ما يتعلق به ، وذلك لأن دلائل الوحدانية كثيرة كلها عقلية كما قيل :

٤٥٤٢ ـ وفي كلّ شيء له آية

تدلّ على أنّه الواحد

ودلائل النبوة أيضا كثيرة وهي المعجزات المشهورة وأما الحشر ووقوعه فلا يمكن إثباته إلّا بالسمع فأكثر فيه القسم ليقطع بها المكلف ويعتقده اعتقادا جازما.

فصل

قال ابن الخطيب : والفائدة في تقييد القسم به بوقت هويه إذا كان في وسط السماء بعيدا عن الأرض لا يهتدي إليه (٤) السّاري لأنه لا يعلم به المشرق من المغرب ولا الجنوب من الشّمال. فإذا زال عن وسط السماء تبين بزواله جانب المغرب من المشرق والجنوب عن الشمال. وخص الهويّ دون الطلوع لعموم الاهتداء به في الدين والدنيا كما قال الخليل ـ عليه الصلاة والسلام ـ (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) [الأنعام : ٧٦]. وفيه لطيفة وهي أن القسم بالنجم يقتضي تعظيمه وقد كان منهم من يعبده فنبه بهويّه على عدم صلاحيته للإلهيّة بأفوله.

__________________

(١) البغوي والقرطبي السابقين أيضا.

(٢) حيث أراد الجنس.

(٣) انظر البغوي السابق ثم الرازي ٢٨ / ٢٧٩.

(٤) في (ب) به.

١٥٤

فصل

أول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها لفظا ومعنى ، أما لفظا فقوله : (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) وافتتح هذه بالنجم مع واو القسم ، وأما معنّى فلأنه تعالى لما قال لنبيه : «ومن اللّيل فسبّحه وإدبار النّجوم» بين له أنه (جزأه في أجزاء (١) مكابدة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالنجم) وبعده (عما لا يجوز له) (٢) فقال : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى)(٣).

قوله : (إِذا هَوى) في العامل في هذا الظرف أوجه وعلى كل منها إشكال.

أحدها : أنه منصوب بفعل القسم المحذوف تقديره : أقسم بالنجم وقت هويه. قاله أبو البقاء (٤). وهو مشكل ؛ فإن فعل القسم إنشاء والإنشاء حال و «إذا» لما يستقبل من الزمان فكيف يتلاقيان؟!.

الثاني : أن العامل فيه مقدر على أنه حال من (النّجم) أقسم به حال كونه مستقرا في زمان هويّه. وهو مشكل من وجهين :

أحدهما : أن النجم جثّة والزمان لا يكون حالا كما لا يكون خبرا.

والثاني : أن (إذا) للمستقبل فيكف يكون حالا؟!.

وقد أجيب عن الأول بأن المراد بالنّجم القطعة من القرآن والقرآن قد نزل منجما في عشرين سنة. وهذا تفسير عن ابن عباس وعن غيره.

وعن الثاني بأنها حال مقدرة.

الثالث : أن العامل فيه نفس النجم إذا أريد به القرآن. قاله أبو البقاء (٥). وفيه نظر ؛ لأن القرآن لا يعمل في الظرف إذا أريد أنه اسم لهذا الكتاب المخصوص. وقد يقال : إنّ النجم بمعنى المنجّم كأنه قيل والقرآن المنجّم في هذا الوقت.

وهذا البحث وارد في مواضع منها : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) وما بعده [الشمس : ١ ـ ٥] وقوله : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) [الليل : ١] (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) [الضحى: ١ و ٢] وسيأتي في الشمس بحث أخص من هذا إن شاء الله تعالى (٦). والهويّ (٧) قال الراغب : سقوط

__________________

(١) ما بين القوسين بياض في النسختين وتكملة من الرازي.

(٢) ما بين القوسين هذين وجد في النسختين ولم يوجد في الرازي.

(٣) وانظر تفسير الرازي ٢٨ / ٢٧٧ ، ٢٧٩.

(٤) التبيان ١١٨٦.

(٥) التبيان المرجع السابق.

(٦) عند قوله تعالى : «وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها» من الآية الثانية من الشمس. وقد استقى المؤلف ذلك من كلام أبي حيان في البحر ٨ / ٤٨٠ ، إلا أنه برّر وخرج قول أبي البقاء وهو قوله : إن العامل فيه نفس النجم إذا أريد به القرآن.

(٧) ضبطها ابن بري نقلا عن صاحب اللسان بالفتح فقط ـ فتح الهاء بينما أجيز فيها الفتح والضمّ عن كثير وانظر اللسان هوى ٤٧٢٧.

١٥٥

من علوّ ثم قال : «والهويّ ذهاب في انحدار والهويّ ذهاب في ارتفاع» (١) ، وأنشد :

٤٥٤٣ ـ ..........

يهوي مخارمها هويّ الأجدل (٢)

وقيل : هوى في اللغة خرق الهواء ، ومقصده السّفل أو مصيره إليه وإن لم يقصده قال ـ (رحمة الله عليه (٣) ـ) :

٤٥٤٤ ـ ..........

هويّ الدّلو أسلمها الرّشاء (٤)

وقال أهل اللغة : هوى يهوي هويّا أي سقط من علوّ ، وهوي يهوى هوى أي صبا. وقد تقدم الكلام في هذا مشبعا.

قوله : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ) هذا جواب القسم ، والمعنى : ما ضل صاحبكم يعني محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما ضل عن طريق الهدى (وَما غَوى) ذهب أكثر المفسرين إلى أن الضلال والغي بمعنى واحد. وفرق بعضهم بينهما قال : الضلال في مقابلة الهدى والغي في مقابلة الرشد ، قال تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) [الأعراف : ١٤٦] وقال تعالى : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) [البقرة : ٢٥٦].

قال ابن الخطيب : وتحقيق القول فيه أن الضلال أعمّ استعمالا في الوضع ، تقول : ضلّ بعيري ورحلي ولا تقول غيّ (٥) ؛ فالمراد من الضلال أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقا أصلا ، والغواية أن لا يكون له طريق إلى القصد مستقيم ، ومما يدل على هذا قولك للمؤمن الذي ليس على طريق السداد : إنّه سفيه غير رشيد ولا تقول : إنه ضال فالضال كالكافر والغاوي كالفاسق فكأنه تعالى قال : ما ضلّ أي ما كفر ولا أقلّ من ذلك فما فسق أو يقال : الضلال كالعدم والغواية كالوجود الفاسد في الدرجة والمرتبة.

__________________

(١) المفردات له (هوى) ٥٤٨.

(٢) عجز بيت من الكامل لأحد الهذليّين صدره :

وإذا رأيت به الفجاج رأيته

والفجاج جمع الفجّ وهو الطريق الواسع الواضح بين جبلين ، والأجدل الصّقر ، والمخارم جمع مخرم أفواه الفجاج وهو يشبه فرسا بالصقر أي إذا سرت به في فجاج الأرض رأيته يهوي ـ وهو محل الشاهد ـ أي يسقط من أفواه الفجاج هويّ الصقر أي سقوطه. وانظر مجمع البيان للطبرسي ٩ / ٢٥٩.

والمفردات السابق ٥٤٨.

(٣) زيادة من (أ).

(٤) عجز بيت من الوافر لزهير صدره :

فشجّ بها الأماعز وهي تهوي

وشج : علا. والبيت في وصف عير وأقته. يقول : لما وجد العير أن قد انقطع ماؤها انتقل عنها إلى غيرها فجعل يعلو بالأتن الأماعز وهي حزون الأرض الكثيرة الحصى. وشاهده في أن الهوي هو خرق الهواء ، وانظر اللسان «هوى» ٤٧٢٧ والقرطبي ١٧ / ٨٣.

(٥) كذا في النسختين وفي الرازي : «غوى».

١٥٦

قال : ويحتمل أن يكون المراد معنى قوله : (ما ضَلَّ) أي ما جنّ فإنّ المجنون ضالّ وعلى هذا فهو كقوله : (وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) [القلم : ١ و ٢]. ومعنى صاحبكم إما سيدكم أو صاحبكم (ما غَوى) أي ما تكلم بالباطل (١). وقيل : ما خاب والغيّ الخيبة (٢).

قوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) أي ما يصدر عن الهوى نطقه (فعن) على بابها. وقيل: بمعنى الباء (٣) ، أي ما ينطق بالهوى يريد لا يتكلم بالباطل ، وذلك أنهم قالوا : إنّ محمدا يقول القرآن من تلقاء نفسه.

وفي فاعل (ينطق) وجهان :

أحدهما : هو ضمير النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو الظاهر.

والثاني : أنه ضمير القرآن كقوله تعالى : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) [الجاثية : ٢٩].

واعلم أن في قوله تعالى : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) بصيغة الماضي وفي قوله : (وَما يَنْطِقُ) بصيغة المستقبل ترتيب في غاية الحسن أي ما ضل حين اعتزلكم وما تعبدون في صغره (وَما غَوى) حين اختلى بنفسه ورأى في منامه ما رأى وما ينطق عن الهوى الآن حيث أرسل إليكم وجعل رسولا شاهدا عليكم فلم يكن أولا ضالا ولا غاويا وصار الآن منقذا من الضلالة مرشدا وهاديا (٤).

قوله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) إن هو أي إن الذي ينطق به. وقيل : إن القرآن إلا وحي من الله. وقوله : «يوحى» صفة لوحي. وفائدة المجيء بهذا الوصف أنه ينفي المجاز أي هو وحي حقيقة لا بمجرد تسمية كقولك : هذا قول يقال. وقيل : تقديره يوحى إليه. ففيه مزيد فائدة (٥).

نقل القرطبيّ (٦) عن السّجستانيّ (٧) أنه قال : إن شئت أبدلت (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) من (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ). قال ابن الأنباريّ (٨) : وهذا غلط ، لأن «إن» الحقيقة لا تكون مبدلة من «ما» ؛ بدليل أنك لا تقول والله ما قمت إن أنا لقاعد (٩).

__________________

(١) وانظر تفسير الرازي ٢٨ / ٢٨٠.

(٢) نقله إمام قرطبة في الجامع له ولم يحدده. انظر الجامع للقرطبي ١٧ / ٨٤.

(٣) ونسبه القرطبي لأبي عبيدة وهو له كما في المجاز ٢ / ٣٤٦. ومعظم المفسرين على أن (عن) على بابها.

(٤) الرازي السابق ٢٨ / ٢٨٠ و ٢٨١.

(٥) بالمعنى من الرازي ٢٨ / ٢٨٤.

(٦) الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي صاحب الجامع لأحكام القرآن التفسير الشهير والمعتمد عليه في بحثنا هذا وصاحب كتاب التذكرة والمتوفى سنة ٦٧١ ه‍.

(٧) هو أبو حاتم وقد مر ترجمته وذكره مرارا.

(٨) الإمام أبو بكر الكوفيّ الشهير. وقد مرّ أيضا ترجمته.

(٩) نقل تلك العبارات في الجامع القرطبي ١٧ / ٨٥.

١٥٧

فصل

والوحي قد يكون اسما ومعناه الكتاب ، وقد يكون مصدرا وله معان منها الإرسال والإلهام والكتابة والكلام والإشارة والإفهام ، وهذه الآية تدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يجتهد ، وهو خلاف الظّاهر فإنّه اجتهد في الحروب وأيضا حرم في قوله تعالى : (لِمَ تُحَرِّمُ)(١) وأذن قال تعالى: (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [التوبة : ٤٣]. قوله (عَلَّمَهُ) يجوز أن تكون هذه الهاء للرسول وهو الظاهر فيكون المفعول الثاني محذوفا أي علّم الرسول الوحي أي الموحى ، ويجوز أن يكون للقرآن والوحي فيكون المفعول الأول محذوفا أي علمه الرسول ، والوحي إن كان هو الكتاب فظاهر وإن كان الإلهام فهو كقوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ)(٢) [الشعراء : ١٩٣ و ١٩٤].

وقوله : (شَدِيدُ الْقُوى) قيل : هو جبريل ، وهو الظاهر. وقيل : الباري تعالى لقوله : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) [الرحمن : ١ و ٢] و (شَدِيدُ الْقُوى) من إضافة الصفة المشبهة لمرفوعها فهي غير حقيقية (٣). والقوى جمع القوّة.

قوله : (ذُو مِرَّةٍ) المرة القوة والشدة. ومنه : أمررت الحبل أي أحكمت فتله. والمرير : الحبل ، وكذلك الممرّ كأنه كرّر فتله مرة بعد أخرى.

وقال قطرب ـ (رحمه‌الله (٤)) ـ : «العرب تقول لكل جزل الرأي حصيف العقل : ذو مرّة» وأنشد ـ (رحمه‌الله (٥)) ـ :

٤٥٤٥ ـ وإنّي لذو مرّة مرّة

إذا ركبت خالة خالها (٦)

وقال :

٤٥٤٦ ـ قد كنت قبل لقائكم ذو مرّة

عندي لكلّ مخاصم ميزانه (٧)

__________________

(١) عبارة الرازي : وحرم ما قال الله لم يحرم وأذن لمن قال تعالى : «عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ» نقول : على ما ثبت لا تدل عليه الآية.

(٢) قال بهذه الإعرابات الرازي في تفسيره ٢٨ / ٢٨٤.

(٣) أي ليست محضة فهي في تقدير الانفصال ، كما تسمى إضافة لفظية والإضافة تلك المضاف فيها صفة تشبه المضارع في كونها مرادا بها الحال أو الاستقبال. وهذه الإضافة لا تفيد المضاف تعريفا وتسمى تلك الإضافة لفظية لأنها أفادت أمرا لفظيا وهو التخفيف بحذف التنوين وغير محضة كما سبق لأنها في تقدير الانفصال فإن المضاف فيها لا بد أن يكون وصفا عاملا وكثيرا ما يرفع ضميرا مستترا. بتصرف من «ضياء السّالك إلى أوضح المسالك» ٢ / ٣٢٤ إلى ٣٢٨.

(٤) زيادة من (أ) الأصل.

(٥) كذلك.

(٦) هذا البيت من المتقارب وأنشده قطرب فيما نقله أبو حيان في البحر ٨ / ١٥٤. والشاهد في «مرّة» حيث معناها العقل الممتاز والقطع بالرأي القوي كما أوضح.

(٧) من الكامل ، ولم أعرف قائله ، وشاهده : في «مرّة» معناها حصافة العقل ورجاحته. انظر القرطبي ١٧ / ٨٦ ، وفتح القدير ٥ / ١٠٥.

١٥٨

وقال الجوهري : والمّرة أحد الطبائع الأربع. والمرّة : القوة وشدة العقل أيضا. ورجل مرير أي قريب ذو مرة قال :

٤٥٤٧ ـ ترى الرّجل النّحيف فتزدريه

وحشو ثيابه أسد مرير (١)

وقال لقيط :

٤٥٤٨ ـ حتّى استمرّت على شزر مريرته

مرّ العزيمة لا رتّا ولا ضرعا (٢)

فصل

ذو مرة ذو قوة وشدة في خلقه يعني جبريل قال ابن عباس : ذو مرّة أي ذو منظر حسن. وقال مقاتل : وقيل : ذو كمال في العقل والدين ذو خلق طويل حسن. وقيل : ذو كمال في العقل والدين جميعا. وقيل : ذو منظر وهيئة عظيمة. فإن قيل : قد تبين كونه ذا قوة بقوله : (شَدِيدُ الْقُوى) فكيف قال بعده : ذو مرة إذا فسرنا المرّة بالقوة؟!.

قال ابن الخطيب : وقوله هنا : ذو قوة بدل من (شَدِيدُ الْقُوى) وليس وصفا له تقديره: ذو قوة عظيمة. ووجه آخر وهو أن إفراد «قوى» بالذكر ربّما يكون لبيان أن قواه المشهورة شديدة وله قوة أخرى خصّه الله بها ، يقال فلان كثير المال وله مال لا يعرفه أحد أي أمواله الظاهرة كثيرة وله مال باطن. ثم قال : على أنّا نقول : المراد ذو شدة وهي غير القوة وتقديره علمه من قواه شديدة وفي ذاته أيضا شدة فإن الإنسان ربّما تكون قواه شديدة وفي جسمه حقارة. ويحتمل أن يكون المراد بقوله : (شَدِيدُ الْقُوى) قوته في العلم وبقوله : (ذُو مِرَّةٍ) أي شدة في جسمه فقدم العلميّة على الجسميّة كقوله تعالى : (وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ)(٣) [البقرة : ٢٤٧].

وقوله : (فَاسْتَوى) يعني جبريل في خلقه. قال مكي (٤) : استوى يقع للواحد وأكثر ما يقع من اثنين ولذلك جعل الفرّاء الضمير لاثنين (٥).

قوله : (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) في الضمير وجهان :

__________________

(١) من الوافر للعباس بن مرادس وفي تاج العروس : وفي أثوابه رجل مزير. ويروى : أسد مزير. والمزير : شديد القلب القوي النافذ في الأمور. وعلى الروايتين الأخيرتين لا شاهد ، فالشاهد على الرواية الأولى حيث يراد بالمرير القوي ، وانظر التاج «مرر» والقرطبي ١٧ / ٨٦ ، والصّحاح (م ر ر). (٢) من البسيط للقيط بن زرارة. والرّتة ردة قبيحة في اللسان من العيب وما في الديوان : «لا قحما» والقحم الشيخ الهرم يعتريه خرق وخرف ، والضّرع اللين الذليل والبيت بعد واضح. وانظر اللغة في اللسان والصحاح «مرر» والشاهد كسابقه في المريرة حيث أن معناها القوة وانظر القرطبي ١٧ / ٨٦.

(٣) انظر تفسير الرازي ٢٨ / ٢٨٥.

(٤) مشكل الإعراب له ٢ / ٣٣٠.

(٥) من بقية كلامه وانظر معاني القرآن للفراء ٣ / ٩٥ والقرطبي ١٧ / ٨٥.

١٥٩

أظهرهما : أنه مبتدأ و «بالأفق» خبره (١). والضمير لجبريل أو للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ. ثم في هذه الجملة وجهان :

أحدهما : أن هذه الجملة حال من فاعل «استوى» (٢). قاله مكي (٣).

والثاني : أنها مستأنفة. أخبر الله تعالى بذلك.

والثالث : أن «وهو» معطوف على الضمير المستتر في «استوى» (٤) وضمير «استوى» و «هو» إما أن يكونا لله تعالى. وهو قول الحسن (٥). وقيل : ضمير استوى لجبريل و «هو» لمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (٦). قال البغوي في توجيه هذا القول : أكثر كلام العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا أن يظهروا كناية المعطوف فيه فيقولون : استوى هو وفلان وقلّ ما يقولون : استوى وفلان. ونظير هذا قوله عزوجل : (أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا) [النمل : ٦٧] عطف «الآباء» على المكنيّ في «كنّا» من غير إظهار «نحن». ومعنى الآية استوى جبريل ومحمد ـ عليهما الصلاة والسلام ـ ليلة المعراج (بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) ، وهو أقصى الدنيا عند مطلع الشمس (٧).

وقيل : ضمير «استوى» لمحمد و «هو» لجبريل (٨). وهذا الوجه الثاني يتمشى على قول الكوفيين (٩) لأن فيه العطف على الضمير المرفوع المتصل من غير تأكيد ، ولا فاصل. وهذا الوجه منقول عن الفراء (١٠) والطبري (١١).

وإذا قيل : بأن الضميرين أعني «استوى» و «هو» لجبريل فمعناه قام في صورته التي خلقه الله فيها (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) ، وذلك أن جبريل كان يأتي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في صورة الآدميين كما كان يأتي النبيين ، فسأله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يريه نفسه في صورته التي جبل عليها فأراه نفسه مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى وهو جانب المشرق وذلك أن محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان بحراء فطلع له جبريل من المشرق فسدّ الأرض من المغرب ، فخر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مغشيّا عليه فنزل جبريل في

__________________

(١) والجملة حال من فاعل «استوى». وانظر التبيان ١١٨٦ والمشكل ٢ / ٣٣٠.

(٢) وهو قول أبي البقاء السابق أيضا.

(٣) مشكل الإعراب ٢ / ٣٣٠.

(٤) وضعف هذا أبو البقاء في التبيان السابق قال : إذ لو كان كذلك لقال تعالى : فاستوى هو وهو.

(٥) البحر المحيط ٨ / ١٥٧.

(٦) وهو مذهب الجمهور. وانظر البحر والكشف والتبيان المراجع السابقة.

(٧) معالم التنزيل للبغوي ٦ / ٢٥٦. وهذا الوجه جائز ولكنه قليل ، وانظر معاني القرآن للفراء ٣ / ٩٥.

(٨) نقله في البحر ٨ / ١٥٨.

(٩) رجح الفراء في المعاني القول الأكثر مجئيا حيث يقول : «وأكثر كلام العرب أن يقولوا : استوى هو وأبوه ولا يكادون يقولون : استوى وأبوه. وهو جائز لأن في الفعل مضمرا». انظر المعاني ٣ / ٩٥.

(١٠) معاني القرآن له ٣ / ٩٥.

(١١) جامع البيان له سورة النجم.

١٦٠