اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

والعامة على فتح الدال وتشديد العين من دعّه يدعّه أي دفعه في صدره بعنف وشدّة. قال الراغب : وأصله أن يقال للعاثر : دع كما يقال له لعا (١).

وهذا بعيد من معنى هذه اللفظة (٢).

وقرأ علي ـ رضي الله عنه ـ والسّلمي وأبو رجاء وزيد بن علي بسكون الدال وتخفيف العين مفتوحة (٣) من الدّعاء أي يدعون إليها فيقال لهم : هلمّوا فادخلوها (٤).

قوله : دعّا مصدر معناه تدفعهم الملائكة دفعا على وجوههم بعنف أي يدفعون إلى النار ، فإذا دنوا منها قال لهم خزنتها : هذه النّار التي كنتم بها تكذبون في الدنيا.

فإن قيل : قوله تعالى : (يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ) يدل على أن خزنتها يقذفونهم في النار وهم بعيدا (٥) عنها وقوله تعالى : (يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) [القمر : ٤٨] يدلّ على أنهم فيها.

فالجواب من وجوه :

الأول : أن الملائكة يسحبونهم في النار ، ثم إذا قربوا من نار مخصوصة وهي نار جهنم يقذفونهم فيها من بعيد فيكون السحب في نار ، والدفع في نار أشد وأقوى ، بدليل قوله : (يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) [غافر : ٧١ و ٧٢]. أي يسحبون في حموة النار ، ثم بعد ذلك يكون لهم إدخال.

الثاني : يجوز أن يكون في كل زمان يتولى أمرهم ملائكة فإلى (٦) النار يدفعهم ملك وفي النار يسحبهم آخر.

الثالث : أن يكون السحب بسلاسل أي يسحبون في النار ، والساحب خارج النار.

الرابع : أن يكون الملائكة يدفعونهم إلى النار إهانة لهم ، واستخفافا بهم ويدخلون معهم النار ويسحبونهم (٧).

قوله : «أفسحر» خبر مقدم و «هذا» مبتدأ مؤخر.

__________________

(١) نقله الراغب في المفردات «د ع ع» كما نقله ابن منظور في اللسان أيضا «د ع ع». انظر اللسان ١٣٨٢.

(٢) فاللفظة هذه المراد منها الدفع ، بخلاف تلك.

(٣) على البناء للمفعول أي يدعون إليها كما أوضحه أعلى.

(٤) كذا أورد هذا القراءة أبو حيان في البحر ٨ / ١٤٧ والزمخشري في الكشاف ٤ / ٢٣ ، بينما سكت عنها أبو الفتح في المحتسب عند التعرض لهذه الصورة وقال ابن خالويه : يوم تدعون علي والسلمي ، فرواها بتاء المضارع لا يائه وعلى كلّ فهي شاذة. وانظر المختصر ١٤٥.

(٥) كذا في النسختين وفي الرازي : بعداء.

(٦) في (ب) وإلى ـ بالواو ـ.

(٧) بالمعنى من الرازي ٢٨ / ٢٤٦.

١٢١

ودخلت الفاء قال الزمخشري : بمعنى كنتم تقولون للوحي : هذا سحر فسحر هذا يريد (١) هذا المصداق أيضا سحر (٢) ؛ ودخلت الفاء لهذا المعنى ، وهذا تحقيق للأمر ؛ لأن من يرى شيئا ولا يكون الأمر على ما يراه فذلك الخطأ يكون لأجل أحد أمرين : إما لأمر عائد إلى المرئيّ ، وإمّا لأمر عائد إلى الرائي ، فقوله : (أَفَسِحْرٌ هذا) أي هل في الموت (٣) شكّ أم هل في بصركم خلل؟! فهو استفهام إنكار أي لا أمر منهما ثابت فالذي ترونه حق وقد كنتم تقولون : إنه ليس بحق (٤) ، وذلك أنهم كانوا ينسبون محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى السحر ، وأنه يغطي الأبصار بالسّحر ، وانشقاق القمر وأمثاله سحر ، فوبخوا به ، وقيل لهم : أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون (٥).

قوله : اصلو (ها) (٦) أي إذ لم يمكنكم إنكارها ، وتحقق أنه ليس بسحر ولا خلل في أبصاركم فاصلوها (٧) ؛ أي قاسوا (٨) شدتها. (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا) أي الصبر وعدمه سواء ، وهذا بيان لعدم الخلاص.

قوله : «سواء» فيه وجهان :

أحدهما : أنه خبر مبتدأ محذوف أي صبركم وتركه سواء. قاله أبو البقاء (٩).

والثاني : أنه مبتدأ والخبر محذوف أي سواء الصبر والجزع ، قاله أبو حيان (١٠).

قال شهاب الدّين : والأول أحسن ، لأن جعل النكرة خبرا أولى من جعلها مبتدأ وجعل المعرفة خبرا.

ونحا الزمخشري منحى الوجه الثاني فقال : «سواء» خبره محذوف أي سواء عليكم الصّبرانه الصبر وعدمه (١١).

قوله : (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فيه لطيفة ، وهي أن المؤمن بإيمانه استفاد أن الخير الذي ينويه يثاب عليه ، والشّرّ الذي يقصده ولا يقع منه لا يعاقب عليه ولا ظلم ، فإن الله تعالى أخبره به وهو اختار ذلك ودخل (فيه) (١٢) باختياره ، فإن الله تعالى قال بأن من كفر ومات كافرا عذبته أبدا فاحذروا ، ومن آمن أثبته دائما فمن ارتكب الكفر ودام عليه بعد ما سمع ذلك فإذا عوقب دائما فهو تحقيق لما أوعد به (١٣) فلا يكون ظلما.

__________________

(١) في (ب) يريد هذا مصداق.

(٢) بالمعنى من الكشاف ٤ / ٢٣.

(٣) في الرازي : المرئيّ.

(٤) الرازي ٢٨ / ٢٤٧.

(٥) قال بتلك العلة الإمام البغويّ وتبعه الخازن في مرجعيهما معالم التّنزيل ولباب التأويل ٦ / ٢٥٠.

(٦) لفظة (ها) ساقطة من (أ) الأصل.

(٧) قال بهذا المعنى الرازي في مرجعه السابق.

(٨) بينما قال بهذا المعنى البغوي في مرجعه السابق أيضا.

(٩) التبيان ١١٨٣.

(١٠) البحر المحيط ٨ / ١٤٨.

(١١) الكشاف ٤ / ٢٣.

(١٢) ما بين القوسين سقط من (ب).

(١٣) في (ب) وعده. والصحيح من (أ) كما في الرازي فإن معنى الوعد والوعيد والسياق تحتّم أصحيّة (أ).

١٢٢

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ)(٢٤)

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) يجوز أن يكون مستأنفا ، أخبر الله تعالى بذلك بشارة ، ويجوز أن يكون من جملة المقول للكفار زيادة في غمّهم وتحسّرهم. والجنة هي موضع السرور لكن الناطور قد يكون في البستان الذي هو في غاية الطيبة ، فلما قال : (وَنَعِيمٍ) أفاد أنهم فيها متنعمون كما يكون المتفرج لا كما يكون الناطور والعمال (١).

وقوله : (فاكِهِينَ) يريد (٢) في ذلك ، لأن المتنعم قد يكون آثار النعيم عليه ظاهرة وقلبه مشغول ، فلما قال : (فاكِهِينَ) دل على غاية الطيبة (٣).

قوله : (فاكِهِينَ) هذه قراءة العامة نصب على الحال ، والخبر الظرف ، وصاحب الحال الضمير المستتر في الظرف.

وقرأ خالد : «فاكهون» (٤) بالرفع ، فيجوز أن يكون الظرف لغوا ، متعلقا بالخبر (٥) ويجوز أن يكون خبرا (٦) آخر عند من يجيز تعداد الخبر (٧).

وقرىء فكهين مقصورا ، وسيأتي أنه قرأ به في المطفّفين في المتواتر حفص عن عاصم.

__________________

(١) بالمعنى من تفسير الرازي ٢٨ / ٢٤٧ و ٢٤٨.

(٢) كذا في النسختين : يريد. وفي الرازي : يزيد ، وهو المراد.

(٣) المرجع السابق.

(٤) وهي شاذة. وانظر البحر ٨ / ١٤٨ والكشاف ٤ / ٢٣.

(٥) وانظر الكشاف السابق والبحر السابق أيضا.

(٦) البحر المحيط السابق.

(٧) في جواز تعدد الخبر لمبتدأ واحد أقوال :

أحدها : وهو الأصح وعليه الجمهور الجواز ، كما في النعوت ، سواء اقترن بعاطف أم لا مثل : «وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ» [البروج : ١٤ ـ ١٦].

الثاني : المنع وهو اختيار ابن عصفور وكثير من المغاربة ، وقد جعلوا المتعدد إما صفة للخبر أو خبرا لمبتدأ مقدر.

الثالث : الجواز إن اتحدا في الإفراد والجملة والمنع إن كان أحدهما مفردا والآخر جملة.

الرابع : قصر الجواز على ما كان المعنى منها واحدا نحو : الرّمّان حلو حامض أي مزّ. وانظر الهمع ١ / ١٠٨. والأشموني على الألفية ١ / ٢٢١ إلى ٢٢٣.

١٢٣

قوله : (بِما آتاهُمْ) يجوز أن تكون الباء على أصلها وتكون : «ما» حينئذ واقعة على «الفواكه» التي هي في الجنة أي متلذذين بفاكهة الجنة ، ويجوز أن تكون بمعنى في أي فيما آتاهم من الثمار وغير ذلك (١). ويجوز أن تكون «ما» مصدرية أيضا.

قوله : (وَوَقاهُمْ) يجوز فيه أوجه :

أظهرها : أنه معطوف على الصلة أي فكهين بإيتائهم ربّهم وبوقايته لهم عذاب الجحيم.

والثاني : أن الجملة حال فتكون «قد» مقدرة (٢) عند من يشترط اقترانها بالماضي الواقع(٣) حالا.

الثالث : أن يكون معطوفا على : (فِي جَنَّاتٍ). قاله الزمخشري (٤) يعني فيكون مخبرا به عن المتقين أيضا فيكون المراد أنهم فاكهون بأمرين : أحدهما : بما آتاهم ، والثاني : بأنه وقاهم.

والعامة على تخفيف القاف من الوقاية. وأبو حيوة بتشديدها (٥).

قوله : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) أي يقال لهم كلوا واشربوا هنيئا. وقد تقدم الكلام في : «هنيئا» في النّساء.

قال الزمخشري : هنا يقال لهم كلوا واشربوا أكلا وشربا هنيئا أو طعاما وشربا هنيئا. وهو الذي لا تنغيص فيه.

ويجوز أن يكون مثله في قوله :

٤٥٣٣ ـ هنيئا مريئا غير داء مخامر

لعزّة من أعراضنا ما استحلّت (٦)

أعني صفة استعملت استعمال المصدر القائم مقام الفعل ، مرتفعا به «ما استحلّت» كما يرتفع بالفعل كأنه قيل هنّأ عزّة المستحلّ من أعراضنا ، فكذلك (٧) معنى «هنيئا» هنا (٨) هنّأكم الأكل والشّرب ، أو هنّأكم ما كنتم تعملون (٩) والباء مزيدة كما في (كَفى بِاللهِ)

__________________

(١) بالتوضيح لما في التبيان للعكبري ١١٨٣.

(٢) قاله في البحر ٨ / ١٤٨.

(٣) قال في الهمع ١ / ٢٤٧ : «ويجب في الماضي المثبت المتصرف غير التالي «إلّا» والمتلوّ بأو العاري من الضمير «قد» مع الواو ، فإن كان جامدا كليس أو منفيا فلا. هذا ما جزم به المتأخرون كابن عصفور والابذيّ والجزوليّ تبعا للمبرد والفارسيّ. قال أبو حيان : والصحيح وقوع الماضي حالا بدون قد. ولا يحتاج إلى تقديرها للكثرة». انظر همع الهوامع المرجع السابق.

(٤) الكشاف ٤ / ٢٣.

(٥) البحر ٨ / ١٤٨ شاذة.

(٦) من الطويل وهو لكثير وهو بالديوان. والشاهد قد أوضحه أعلى وهو وقوع «هنيئا» صفة استعملت استعمال المصدر كما أوضحه أعلى وانظر الكشاف ٤ / ٢٤ ، وشرح شواهده ٣٥٤ والبحر ٨ / ١٤٨ ، وديوانه ١ / ٤٩ الجزائر ١٩٢٨.

(٧) في الكشاف : وكذلك.

(٨) وفيه : ههنا.

(٩) وانظر الكشاف ٤ / ٢٣ و ٢٤.

١٢٤

والباء متعلقة بكلوا واشربوا إذا جعلت الفاعل الأكل والشرب (١). وهذا من محاسن كلامه.

قال أبو حيان : أما تجويزه زيادة الباب فليست بمقيسة في الفاعل إلا في فاعل «كفى» على خلاف (٢) فيها فتجويزها هنا لا يسوغ.

وأما قوله : إنّها تتعلق ب (كُلُوا وَاشْرَبُوا) فلا يصح إلا على الإعمال فهي تتعلق بأحدهما. انتهى (٣). وهذا قريب.

قوله : (مُتَّكِئِينَ) فيه أوجه :

أحدها : أنه حال من فاعل : «كلوا».

الثاني : أنه حال من فاعل : «أتاهم».

الثالث : أنه حال من فاعل : «وقاهم».

الرابع : أنه حال من الضمير المستكنّ في الظرف.

الخامس : أنه حال من الضمير في : «فاكهين» (٤).

وأحسنها أن يكون حالا من ضمير الظرف (٥) لكونه عمدة.

وقوله : (عَلى سُرُرٍ) متعلق ب (مُتَّكِئِينَ).

وقراءة العامة بضم الراء الأولى. وأبو السّمّال بفتحها (٦). وقد تقدم أنها لغة لكلب في المضعف يفرون من توالي ضمتين في المضعف.

قوله : (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) قرأ عكرمة بحور عين (٧) بإضافة الموصوف إلى صفته على التأويل المشهور (٨).

فصل

اعلم أنه تعالى بين أسباب التنعيم على الترتيب ، فأول ما يكون المسكن وهو الجنّات ثم الأكل والشرب ، ثم الفرش والبسط ثم الأزواج ، فهذه أمور أربعة ذكرها الله

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) زيادة الباء في كفى غالبة وواجبة ، وضرورة ، فالغالبة كما هنا في : «كفى بالله» ، وقال الزجاج : دخلت الباء لتضمن كفى معنى اكتف. وقال ابن السّرّاج : الفاعل ضمير الاكتفاء وصحة قوله موقوفة على جواز تعلق الجار بضمير المصدر. وهو قول الفارسيّ والرّمانيّ أجازوا : «مروري بزيد حسن وهو بعمرو قبيح». وانظر المغني في حرف «الباء» ص ١٠٦ و ١٠٧ إلى ١١١.

(٣) البحر ٨ / ١٤٨.

(٤) قاله بهذه الأوجه العكبريّ في التبيان ١١٨٤.

(٥) البحر السابق.

(٦) على وزن فعل.

(٧) وقد ذكر هاتين القراءتين أبو حيان في البحر المحيط ٨ / ١٤٨ وكلتاهما شاذّة.

(٨) أي بزوجات حور عين.

١٢٥

على الترتيب ، وذكر في كل واحد منها ما يدل على كماله ، فقوله : «جنّات» إشارة إلى المسكن وقال : «فاكهين» إشارة إلى عدم التّنغّص وعلو المرتبة بكونه مما آتاهم الله ، وقال : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً) أي مأمون العاقبة من التّخم والسّقم ، وترك ذكر المأكول والمشروب دلالة على تنوعهما وكثرتهما ، وقوله : (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) إشارة إلى أنه تعالى يقول : إني مع كوني ربكم وخالقكم وأدخلتكم الجنة بفضلي فلا منّة لي عليكم اليوم وإنما منّتي عليكم كان في الدنيا هديتكم ووفقتكم للأعمال الصالحة كما قال : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) [الحجرات : ١٧] وأما اليوم فلا منّة عليكم لأن هذا إنجاز الوعد (١).

فإن قيل : قال في حقّ الكفار : (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وقال في حق المؤمنين : (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فما الفرق بينهما؟.

فالجواب من وجوه :

الأول : أن كلمة «إنّما» للحصر ، أي لا يجزون إلا ذلك ، ولم يذكر هذا في حق المؤمن ، لأنه يجزيه أضعاف ما عمل ، ويزيده من فضله.

الثاني : قال هنا : (بِما كُنْتُمْ) وقال هناك : (ما كُنْتُمْ) [النمل : ٩٠] أي تجزون عن أعمالكم. وهذا إشارة إلى المبالغة في المماثلة ، كأنه يقول : هذا عين ما عملت. وقوله في حق المؤمن : بما كنتم كأنّ ذلك أمر ثابت مستمرّ يفيدكم هذا.

الثالث : أنه ذكر الجزاء هناك ، وقال هنا : (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) لأنّ الجزاء ينبىء عن الانقطاع ، فإن من أحسن إلى أحد فأتى بجزائه لا يتوقع المحسن منه شيئا آخر.

فإن قيل : فالله تعالى قال في موضع آخر : (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [المرسلات : ٤٣] في الثواب.

فالجواب : أنه في تلك المواضع لمّا لم يخاطب المجزيّ ولم يقل : بما كنت تفعل أتى بما يفيد العلم بالدوام وعدم الانقطاع. وأما في السرر فذكر أمورا :

أحدها : الاتّكاء فإنه هيئة مختصّة بالمنعم والفارغ الذي لا كلفة عليه. وجمع السرر لأمرين :

أظهرهما : أن يكون لكل واحد سرر ؛ لأنه قوله : «مصفوفة» يدل على أنها لواحد ، لأن سرر الكل لا تكون في موضع واحد مصطفّة ، ولفظ السّرير فيه حروف السّرور ، بخلاف التّخت وغيره ، وقوله : «مصفوفة» أي منتظمة بعضها (٢) إلى جنب بعض فإنها لو كانت متفرقة لقيل في كل موضع واحد يتكىء عليه صاحبه إذا حضر هذا الموضع. وقوله

__________________

(١) وانظر الرازي بالمعنى منه ٢٨ / ٢٤٨ و ٢٤٩.

(٢) في (ب) بعضا.

١٢٦

تعالى : (وَزَوَّجْناهُمْ) إشارة إلى النّعمة الرابعة ، وفيها ما يدل على كمال الحال من وجوه :

الأول : أنه هو المزوج وهو الولي الذي يلي الطرفين يزوج عباده بإمائه ومن يكون كذلك لا يفعل إلا ما فيه راحة العباد والإماء.

الثاني : قال : (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ) ولم يقل : وزوّجناهم حورا مع أن لفظ التزويج يتعدى فعله إلى مفعولين بغير حرف ، تقول زوّجتكها ، قال الله تعالى : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها) [الأحزاب : ٣٧] وذلك إشارة إلى أن المنفعة في التزويج لهم ، وإنما زوجوا للذتهم بالحور لا للذّة الحور بهم.

الثالث : عدم الاقتصار على الزوجات بل وصفهن بالحسن واختار الأحسن من الأحسن ، فإنّ أحسن ما في صورة الآدميّ وجهه ، وأحسن ما في الوجه العين (١).

قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مبتدأ ، والخبر الجملة من قوله : (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) ، والذّرّيّات هنا يصدق على الآباء ، وعلى الأبناء ، أي أن المؤمن إذا كان عمله أكثر ألحق به من دونه في العمل ابنا كان أو أبا. وهو منقول عن ابن عبّاس وغيره.

الثاني : أنه منصوب بفعل مقدر ، قال أبو البقاء على تقدير : وأكرمنا الّذين آمنوا (٢). قال شهاب الدين : فيجوز أن يريد أنه من باب الاشتغال ، وأن قوله : (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) مفسر لذلك الفعل من حيث المعنى وأن يريد أنه مضمر لدلالة السّياق عليه ، فلا تكون المسألة من الاشتغال في شيء (٣).

الثالث : قال ابن الخطيب : إنه معطوف على : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ) ثم قال : فإذا كان كذلك فلم أعاد لفظ (الَّذِينَ آمَنُوا) وكان المقصود يحصل بقوله تعالى : (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) بعد قوله (وَزَوَّجْناهُمْ) كان يصير التقدير : وزوّجناهم وألحقنا بهم؟ نقول : فيه فائدة وهي أن المتقين هم الذين اتقوا الشرك والمعصية وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فقال ههنا : الذين آمنوا بمجرد الإيمان يصير ولده من أهل الجنة ، ثم إن ارتكب الأب كبيرة أو صغيرة لا يعاقب به ولده بل الوالد ، وربما يدخل الجنة الابن قبل الأب ، وقد ورد في الخبر أن الولد الصغير يشفع لأبيه ، وذلك إشارة إلى الجزاء (٤).

__________________

(١) وانظر هذا في المرجع السابق ٢٨ / ٢٤٩.

(٢) قال بهذين الوجهين العكبري في التبيان ١١٨٤ وأبو حيان في البحر ٨ / ١٤٨ وقد اختار الأول أبو حيان.

(٣) الدر المصون مخطوط بمكتبة الاسكندرية لوحة رقم ١١٣.

(٤) قاله الإمام الفخر في مرجعه السابق ٢٨ / ٢٥١.

١٢٧

وذكر الزمخشري أنه مجرور عطفا على «حور عين» قال الزمخشري : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) معطوف على «حور عين» أي قرنّاهم بالحور وبالذين آمنوا أي بالرفقاء والجلساء منهم كقوله : (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) [الحجر : ٤٧] فيتمتعون تارة بملاعبة الحور ، وتارة بمؤانسة الإخوان (١).

ثم قال الزمخشري : ثم قال : «بإيمان ألحقنا بهم ذرّيّاتهم» أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجتهم ذرّيّتهم وإن كانوا لا يستأهلونها تفضلا عليهم (٢).

قال أبو حيان : ولا يتخيل أحد أن (وَالَّذِينَ آمَنُوا) معطوف على (بِحُورٍ عِينٍ) غير هذا الرجل. وهو تخيّل أعجميّ ، مخالف لفهم العربي القحّ ابن عباس وغيره (٣).

قال شهاب الدين : أما ما ذكره أبو القاسم من المعنى فلا شك في حسنه ونضارته ، وليس في كلام العربي القحّ ما يدفعه بل لو عرض على ابن عباس وغيره لأعجبهم ، وأيّ مانع معنويّ أو صناعيّ يمنعه؟! (٤).

قوله : (وَأَتْبَعْناهُمْ) يجوز أن يكون عطفا على الصلة ، ويكون (وَالَّذِينَ آمَنُوا)(٥) مبتدأ ويتعلق «بإيمان» بالاتّباع (٦) ، بمعنى أن الله تعالى يلحق الأولاد الصّغار وإن لم يبلغوا الإيمان بأحكام الآباء المؤمنين. وهذا المعنى منقول عن ابن عباس والضّحّاك (٧). ويجوز أن يكون معترضا بين المبتدأ والخبر. قال الزمخشري (٨) ويجوز أن يتعلق «بإيمان» ب «ألحقنا» كما تقدم (٩).

فإن قيل : قوله : أتبعناهم ذرّيّاتهم يفيد فائدة قوله : «ألحقنا بهم ذرّيّاتهم».

فالجواب : أن قوله : (أَلْحَقْنا بِهِمْ) أي في الدرجات والاتّباع إنما هو في حكم الإيمان وإن لم يبلغوه كما تقدم (١٠).

وقرأ أو عمرو : (وَأَتْبَعْناهُمْ) بإسناد الفعل إلى المتكلم نفسه. والباقون واتّبعتهم

__________________

(١) في الكشاف : الإخوان المؤمنين.

(٢) وفيه أيضا : تفضلا عليهم وعلى آبائهم. وانظر الكشاف ٤ / ٢٤.

(٣) وكلام ابن عباس حديث رواه عن الرسول (ص) «إنّ الله يرفع ذرّيّة المؤمن في درجته وإن كانوا دونه لتقرّ بهم عينه». وانظر البحر المحيط ٨ / ٢٤.

(٤) وهذا اعتراض نقله المؤلف عن السمين الحلبي في الدر المصون على أبي حيان أستاذه في تعقبه لكلام الزمخشري. أقول : وأنا لا أرى أيضا أيّ مانع عن عطف «الَّذِينَ آمَنُوا» على «حور عين» وهو كلام جميل ومقبول من الزمخشري ـ رحمه‌الله ـ.

(٥) الواو سقط من (ب) من قوله : «والذين».

(٦) من قوله : «واتّبعتهم».

(٧) بالمعنى من تفسير البحر المحيط ٨ / ١٤٨.

(٨) الكشاف ٤ / ٢٤.

(٩) البحر المرجع السابق.

(١٠) الرازي ٢٨ / ٢٥١.

١٢٨

بإسناد الفعل إلى الذرية وإلحاق تاء التأنيث (١). وقد تقدم الخلاف في إفراد ذرياتهم وجمعه في سورة الأعراف (٢).

فصل

اختلفوا في معنى الآية ، فقيل معناها : والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان يعني أولادهم الصغار والكبار فالكبار بإيمانهم بأنفسهم ، والصغار بإيمان آبائهم ، فإن الولد الصغير يحكم بإسلامه تبعا لأحد الأبوين.

وقوله : ألحقنا بهم ذرّيّاتهم ، أي المؤمنين في الجنة بدرجاتهم وإن لم يبلغوا بأعمالهم درجات آبائهم تكرمة لآبائهم ، لتقرّ بذلك أعينهم. وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس. وقيل : معناه (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ) البالغون «بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم» الصّغار الذين لم يبلغوا الإيمان بإيمان آبائهم. وهو قول الضّحّاك في رواية (٣) العوفيّ عن ابن عباس. أخبر الله عزوجل أنه يجمع لعبده ذرّيته في الجنة كما كان يحب في الدنيا أن يجتمعوا إليه يدخلهم الجنة بفضله ويلحقهم بدرجته بعمل أيديهم من غير أن ينقص الآباء من أعمالهم شيئا فذلك قوله : (وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ).

روي عن عليّ ـ رضي الله عنه ـ قال : سألت خديجة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن ولدين لها ماتا في الجاهلية فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : هما في النار ، فلما رأى الكراهية في وجهها قال : لو رأيت مكانهما لأبغضتهما. قالت يا رسول الله : فولدي منك قال : في الجنة. ثم قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إنّ المؤمنين وأولادهم في الجنّة وإنّ المشركين وأولادهم في النّار» ثم قرأ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «والّذين آمنوا وأتبعناهم ذرّيّاتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرّيّاتهم» (٤).

قوله : (وَما أَلَتْناهُمْ) قرأ ابن كثير ألتناهم بكسر (٥) اللام. والباقون بفتحها (٦).

فأما الأولى فمن ألت يألت بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع كعلم يعلم. وأما الثانية : فيحتمل أن تكون من ألت يألت كضرب يضرب ، وأن يكون من ألات يليت كأمات يميت فألتناهم كأمتناهم.

وقرأ ابن هرمز آلتناهم (٧) ـ بألف بعد الهمزة ـ على وزن أفعلناهم ، يقال : آلت

__________________

(١) الكشف ٢ / ٢٩٠ وحجة ابن خالويه ٣٣٣ وهي قراءة سبعية متواترة.

(٢) عند قوله : «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ ذُرِّيَّتَهُمْ»[الأعراف : ١٧٢].

(٣) في (ب): «ورواية». وهو المناسب والموافق لما في البغوي.

(٤) وانظر تفسيري البغوي والخازن ٦ / ٢٥٠ و ٢٥١.

(٥) وهي لغة فيه.

(٦) وهي لغة أيضا. وانظر الكشف والحجة لابن خالويه السابقين. وانظر أيضا السبعة ٦١٢.

(٧) وهي قراءة شاذة غير متواترة. ذكرها أبو الفتح في المحتسب ٢ / ٢٩٠ وابن خالويه في المختصر ١٤٦ وانظر أيضا الكشاف ٤ / ٢٤ والبحر ٨ / ١٤٩.

١٢٩

يؤلت كآمن يؤمن. وعبد الله وأبيّ والأعمش وطلحة ـ وتروى (١) عن ابن كثير ـ لتناهم بكسر اللام (٢).

قال سهل (٣) : لا يجوز فتح اللام من غير ألف بحال ، ولذلك أنكر آلتناهم بالمد وقال : لا يدل عليها لغة ولا تفسير.

وليس كما زعم ، بل نقل أهل اللغة آلت يؤلت.

وقرىء : ـ ولتناهم ـ بالواو ـ كوعدناهم نقلها هارون (٤). قال ابن خالويه : فيكون هذا الحرف من لات يليت وولت يليت (٥) وألت يألت وألت يألت (٦) وألات يليت ، وكلها بمعنى نقص.

ويقال : ألت بمعنى غلّظ وقام رجل إلى (أمير المؤمنين) عمر يعظه فقال له رجل : لا تألت أمير المؤمنين ، أي لا تغلّظ عليه (٧).

قال شهاب الدّين : ويجوز أن يكون هذا الأثر على حاله والمعنى لا تنقص أمير المؤمنين حقه ؛ لأنه إذا أغلظ القول نقصه حقه.

وفي الضمير في «ألتناهم» وجهان :

أظهرهما : أنه عائد على «أمير المؤمنين» (٨).

الثاني : أنه عائد على «ألتناهم». قيل : ويقويه قوله تعالى : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ)(٩).

قوله : (مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) من شيء مفعول ثان ل «ألتناهم» و «من» مزيدة ؛ والأولى في محل نصب على الحال من (شيء) ؛ لأنها في الأصل صفة له ، فلما قدمت

__________________

(١) قال في البحر : ورويت عن شبل وابن كثير. ورواها عن ابن كثير صاحب الكشف ٢ / ٢٩١ وابن مجاهد في السبعة ٦١٢.

(٢) وانظر المحتسب والبحر وابن خالويه في المختصر والكشاف المراجع السابقة.

(٣) سهل هو أبو حاتم السّجستانيّ. وقد تقدم التعريف به.

(٤) ابن خالويه في المختصر ، والزمخشري في الكشاف وأبو حيان في البحر السابقة. وهي شاذة.

(٥) في (ب) يولت و (أ) و (ب) كلتاهما خطأ. والصحيح يلت كما في المختصر وكما هو العرف النحويّ.

(٦) هذا الفعلان الثلاثيان مفتوحا العين ومضمومهما في المضارع ليسا في المختصر.

(٧) وانظر المختصر السابق وانظر اللغة في الألت ومادته المختلفة في اللّسان والصّحاح «ألت» والمجاز لأبي عبيدة ٢ / ٢٣٢. والقرطبي ١٧ / ٦٧ و ٦٨.

(٨) وهو اختيار أبي حيّان قال : والظاهر أنّ الضمير في «ألتناهم» عائد على المؤمنين والمعنى أنه تعالى يلحق المقصّر بالمحسن ولا ينقص المحسن من أجره شيئا. وهذا تأويل ابن عباس وابن جبير والجمهور.

(٩) وقد نقل أبو حيان في البحر أنه رأي ابن زيد. وانظر البحر ٨ / ١٤٩.

١٣٠

نصبت حالا. وجوز أبو البقاء أن يتعلق بألتناهم (١).

فصل

في قوله : (وَما أَلَتْناهُمْ) تطييب لقلبهم ، وإزالة وهم المتوهّم أن ثواب عمل الأب يوزع على الوالد والولد بل للوالد أجر عمله ، ولأولاده مثل ذلك فضلا من الله ورحمة. وقال : (مِنْ عَمَلِهِمْ) ولم يقل : من أجرهم لأن قوله : وما ألتناهم من عملهم دليل على بقاء عملهم كما كان ، والأجر على العمل مع الزيادة فيكون فيه إشارة إلى بقاء العمل الذي له الأجر الكبير الزائد عليه العظيم العائد إليه ، ولو قال : وما ألتناهم من أجرهم لكان ذلك حاصلا بأدنى شيء ، لأن كل ما يعطي الله عبده على عمله فهو أجر كامل ، ولأنه لو قال : ما ألتناهم من أجرهم كان مع ذلك يحتمل أن يقال : إن الله تعالى يفضل عليه بالأجر الكامل على العمل الناقص ، وأعطاه الأجر الجزيل مع أن عمله كان له ولولده جميعا (٢).

فإن قيل : ما الفائدة في تنكير الإيمان في قوله : «وأتبعناهم ذرّيّاتهم بإيمان ألحقنا»؟.

فالجواب : (هو) (٣) إما للتحقير أو للتكثير كأنه يقول أتبعناهم ذرياتهم بإيمان مخلص كامل. أو نقول : أتبعناهم بإيمان ما أي شيء منه ، فإن الإيمان كاملا لا يوجد في الولد ، بدليل أنّ من آمن له ولد صغير حكم بإيمانه ، فإذا بلغ وصرح بالكفر وأنكر التّبعيّة (٤) قيل : بأنه لا يكون مرتدا وتبيين بقوله أنه لم يتبع. وقيل : بأنه يكون مرتدا ؛ لأنه كفر بعد ما حكم بإيمانه كولد المسلم الأصلي. فإذن تبين بهذا الخلاف أنّ إيمانه ليس بقويّ. ذكر هذين الوجهين الزمخشري (٥).

ويحتمل أن يكون المراد أن يكون التنوين للتعويض عن المضاف إليه كقوله تعالى :(بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ) [الإسراء : ٨٨] و [الزخرف : ٦٧] (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) [الحديد : ١٠] لأن التقدير : أتبعناهم ذرياتهم بإيمان أي بسبب إيمانهم لأن الإتباع ليس بإيمان كيف كان وممّن كان وإنما هو إيمان الآباء ، لكن الإضافة تنبىء عن تقييد ، وعدم كون الإيمان إيمانا على الإطلاق ، فإن قول القائل : ماء الشجر وماء الرمان فيصحّ ، وإطلاق اسم «ماء» من غير إضافة لا يصح ، فقوله «بإيمانهم» يوهم أنه إيمان مضاف إليهم كقوله تعالى : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) [غافر : ٨٥] حيث أثبت الإيمان المضاف فلم يكن إيمانا فقطع (٦) الإضافة مع إردتها ليعلم أنه إيمان صحيح وعوض التنوين ليعلم أنه مضاف لا

__________________

(١) التبيان ١١٨٤.

(٢) وانظر تفسير الرازي ٢٨ / ٢٥٠.

(٣) لفظ «هو» سقط من (ب).

(٤) في (ب) البعثة. وهو خطأ وتحريف.

(٥) باللفظ من الرازي ٢٨ / ٢٥٢ ، وبالمعنى من الكشاف ٤ / ٢٤.

(٦) في (ب) لقطع.

١٣١

يوجب الإيمان (١) في الدنيا إلا إيمان الآباء. قال ابن الخطيب : وهذا وجه حسن (٢).

قوله : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) قال مقاتل : كل امرىء كافر بما عمل من الشرك فهو مرتهن في النار والمؤمن لا يكون مرتهنا لقوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) [المدثر : ٣٨ ـ ٣٩]. قال الواحدي : هذا يعود إلى ذكر أهل النار. وهو قول مجاهد أيضا (٣).

وقال الزمخشري : هذا عام في كل واحد أنه يكون مرهونا عند الله بالكسب فإن كسب خيرا فك رقبته وإلا أغلق (٤) الرهن.

قال ابن الخطيب : وفيه وجه آخر وهو أن يكون الرهين فعيلا بمعنى الفاعل فيكون المعنى : كل امرىء بما كسب راهن أي دائم إن أحسن ففي الجنة مؤبدا ، وإن أساء ففي النار مخلدا ؛ لأن في الدنيا دوام الأعمال بدوام الأعيان فإن العرض لا يبقى إلا في جوهر فلا يوجد إلا فيه ، وفي الآخرة دوام الأعيان بدوام الأعمال فإن الله يبقي أعمالهم لكونها عند الله تعالى من الباقيات الصالحات ، وما عند الله باق والباقي يبقى مع عمله (٥).

قوله تعالى : (وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ) ، زيادة على ما كان لهم (وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) من أنواع اللّحمان. والمعنى زدناهم مأكولا ومشروبا فالمأكول الفاكهة والّلحم ، والمشروب الكأس. وفي هذا لطيفة وهي أنه لما قال : ما ألتناهم ونفي النقصان يصدق بحصول المساوىء ، فقال : ليس عدم النقصان باقتصار على المساوىء ؛ بل بالزيادة والإمداد (٦).

قوله : (يَتَنازَعُونَ) في موضع نصب على الحال من مفعول : (أَمْدَدْناهُمْ)(٧) ويجوز أن يكون مستأنفا.

وتقدم الخلاف في قوله : (لا لَغْوٌ فِيها) في البقرة (٨). والجملة في موضع نصب صفة لكأس. وقوله : فيها أي في شرابها. وقيل : في الجنّة. ومعنى يتنازعون أي يتعاطون. ويحتمل أن يقال : التنازع التجاذب ويكون تجاذبهم تجاذب ملاعبة لا تجاذب منازعة. وفيه نوع لذّة ، قال الشاعر :

__________________

(١) كذا في (ب) أيضا وفي الرازي : الأمان.

(٢) وانظر تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٨ / ٢٥٢.

(٣) وانظر الرازي المرجع السابق.

(٤) في (ب) أعلق والصحيح «أوبق» كما في الرّازيّ والكشاف وكما يقتضيه المعنى. وعبارة الكشاف : «أي مرهون كأن نفس العبد رهن عند الله بالعمل الصالح الذي هو مطالب به كما يرهن الرجل عبده بدين عليه ، فإن عمل صالحا فكّها وخلّصها وإلّا أوبقها». وانظر الكشاف ٤ / ٢٤.

(٥) في الرازي : مع عامله. وانظر الرازي ٢٨ / ٢٥٢ و ٢٥٣.

(٦) السابق أيضا.

(٧) وهو قول أبي البقاء في التّبيان ١١٨٤.

(٨) عند قوله : «لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ» من الآية ٢٢٥.

١٣٢

٤٥٣٤ ـ نازعته طيّب الرّاح الشّمول وقد

صاح الدّجاج وحانت وقعة السّاري (١)

وقوله : (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) قال قتادة : اللّغو : الباطل. وقال مقاتل بن حيّان : لا فضول فيها. وقال سعيد بن المسيب : لا رفث فيها. وقال ابن زيد : لا سباب ولا تخاصم فيها(٢).

وقال القتيبيّ : لا يذهب عقولهم فيلغوا أو يرفثوا (وَلا تَأْثِيمٌ) أي لا يكون منهم ما يؤثمهم (٣). قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يكون المراد من التأثيم السّكر (٤). وقال الزجاج : لا يجري منهم ما يلغى ولا ما فيه إثم كما يجري في الدنيا لشربة الخمر (٥).

وقيل : لا يأثمون في شربها.

قوله تعالى : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ) أي يطوف عليهم بالخدمة غلمان لهم «كأنّهم» في الحسن والبياض والصّفاء.

قوله : (كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) صفة ثانية «لغلمان». والمعنى يطوف عليهم بالكؤوس غلمان لهم. وهم الولدان المخلّدون (كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) أي مخزون مصون لم تمسّه الأيدي.

قال سعيد بن جبير : يعني في الصّدق ، وقال عبد الله بن عمر : ما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام وكل غلام على عمل ما عليه صاحبه. وروي عن الحسن أنه لما تلا هذه الآية قال : قالوا يا رسول الله : الخادم كاللؤلؤ المكنون فكيف المخدوم؟ قال : فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب.

قوله تعالى : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)(٢٨)

قوله تعالى : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) يسأل بعضهم بعضا في الجنة. قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ : يتذاكرون ما كانوا فيه من التّعب والخوف في الدنيا ؛ فقوله : «يتساءلون» جملة حالية من «بعضهم».

__________________

(١) من البسيط وهو للأخطل. والساري هو السائر بالليل ويروى وقفة الساري. وانظر الديوان ٧٩ و ٨٠.

وشاهده : أن «نازعته» بمعنى جاذبته بلذة وملاعبة. وانظر البحر ٨ / ١٤٩ ، والقرطبي ١٧ / ٦٨ ، وحجة ابن خالويه ٣٣٤ والشعر والشعراء ٤٨٣.

(٢) وانظر هذه الأقوال في البغوي والخازن ٦ / ٢٥١.

(٣) غريب القرآن له ٤٢٥.

(٤) الرازي ٢٨ / ٢٥٤.

(٥) معاني القرآن له ٥ / ٦٣.

١٣٣

قوله : (قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) أي خائفين. والمعنى أنهم يسألون عن سبب ما وصلوا إليه فيقولون : خشية الله أي كنا نخاف الله (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ). قال الكلبي : عذاب النار. وقال الحسن : (ـ رضي الله عنه ـ) (١) : السموم اسم من أسماء جهنم. والسّموم في الأصل الرّيح الحارّة التي تتخلّل المسامّ ، والجمع سمائم. وسمّ يومنا أي اشتد حرّه (٢). وقال ثعلب : السموم شدة الحر أو شدة البرد في النّهار (٣) وقال أبو عبيدة : السموم بالنهار وقد يكون بالليل والحرور بالليل وقد يكون بالنهار وقد يستعمل السموم في لفح البرد وهو في لفح الحر والشمس أكثر (٤). وقد تقدم شيء من ذلك في سورة «فاطر».

وقرأ العامة : ووقانا بالتخفيف ، وأبو حيوة بالتّشديد (٥) وقد تقدم. قوله : (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ) أي في الدنيا «ندعوه» نخلص له العبادة.

وقوله : (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ) قرأ نافع والكسائيّ بفتح الهمزة على التعليل أي لأنّه والباقون بالكسر على الاستئناف (٦) الذي فيه معنى العلة فيتحد معنى القراءتين.

وقوله : (هُوَ الْبَرُّ). قال ابن عباس : اللطيف. وقال الضحاك : الصادق فيما وعد الرحيم بعباده ، (الّلهمّ ارحمنا) (٧).

قوله تعالى : (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ

__________________

(١) ما بين الأقواس سقط من (ب). وانظر هذه الأقوال في تفاسير البغوي والخازن ٦ / ٢٥١ والقرطبي ١٧ / ٧٠.

(٢) وانظر القرطبي المرجع السابق.

(٣) ينظر فصيح الإمام ثعلب واللسان «س م م» ٢١٠٣.

(٤) كذا نسبه أيضا القرطبي في الجامع ١٧ / ٧٠ وصاحب اللسان «سمم» لأبي عبيدة ولم أجده في مجازه عند التحدث عن تلك الآية. وانظر اللسان «سمم» ٢١٠٣.

(٥) ذكرها أبو حيان في البحر المحيط ٨ / ١٥٠ وهي شاذة.

(٦) من القراءة السبعية المتواترة وانظر الكشف ٢ / ٢٩١.

(٧) هذه الجملة الدعائية زيادة من أ.

١٣٤

الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ)(٤٤)

قوله تعالى : (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) لما بين تعالى أن في الوجود قوما يخافون الله ، ويشفقون في أهلهم والنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ مأمور بتذكير من يخاف الله تعالى لقوله تعالى : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) [ق : ٤٥] فوجب التذكير فلذلك ذكره بالفاء(١).

قوله : (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مقسم به متوسط بين اسم «ما» وخبرها. ويكون الجواب حينئذ محذوفا لدلالة هذا المذكور عليه والتقدير : «ونعمة ربّك ما أنت بكاهن ولا مجنون» (٢).

الثاني : أن الباء في موضع نصب على الحال ، والعامل فيها : (بِكاهِنٍ) أو (مَجْنُونٍ) والتقدير : ما أنت كاهنا ولا مجنونا ملتبسا بنعمة ربك. قاله أبو البقاء (٣). وعلى هذا فهي حال لازمة ؛ لأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يفارق هذه الحال.

الثالث : أن الباء متعلقة بما دل عليه الكلام وهو اعتراض بين اسم «ما» وخبرها والتقدير : ما أنت في حال أذكارك بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون. قاله الحوفيّ (٤). قال شهاب الدين : ويظهر وجه رابع وهو أن تكون الباء سببية وتتعلق حينئذ بمضمون الجملة المنفية. وهذا هو مقصود الآية الكريمة. والمعنى انتفى عنك الكهانة والجنون بسبب نعمة الله عليك كما تقول : ما أنت بمعسر بحمد الله وغنائه (٥).

فصل

المعنى «فذكّر» يا محمد أهل مكة بالقرآن (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) أي برحمته وعصمته «بكاهن» مبتدع القول ومخبر بما في غد من غير وحي «ولا مجنون» نزلت في الذين اقتسموا عقاب (٦) مكة يرمون رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالكهانة والسّحر والجنون والشّعر (٧).

__________________

(١) بالمعنى من كلام الرّازيّ ٢٨ / ٢٥٥.

(٢) وهو قول أبي حيان في البحر ٨ / ١٥١ وفي البحر : ما أنت كاهن.

(٣) التبيان ١١٨٤.

(٤) نقله عنه أستاذنا أبو حيان في بحره ، المرجع السابق.

(٥) ذكره في الدر المصون له مخطوط بمكتبة الإسكندرية لوحة رقم ١١٣.

(٦) في البغوي : عقبات وفي الخازن : أعقاب. والعقاب واحدتها عقبة طريق في الجبل وعقاب التي هي أعلى جمع أيضا لعقبة وعقبات جمع أيضا لها ، فلا تعارض بين روايات الكتب. وانظر اللسان «عقب» ٣٠٢٨.

(٧) وانظر البغوي والخازن ٦ / ٢٥٢.

١٣٥

قوله : (أَمْ يَقُولُونَ) قال الثعلبي : قال الخليل : كل ما في سورة الطور من «أم» فاستفهام وليس بعطف (١).

وقال أبو البقاء : «أم» في هذه الآيات منقطعة (٢). وتقدم الخلاف في المنقطعة هل تقدر ببل وحدها أو ببل والهمزة أو بالهمزة وحدها. والصحيح الثاني.

وقال مجاهد في قوله : «إن (تَأْمُرُهُمْ) تقديره بل تأمرهم. وقرأ : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) يدل : أم هم قوم.

قوله : «نتربّص» في موضع رفع صفة ل «شاعر» والعامة على «نتربّص» بإسناد الفعل لجماعة المتكلمين «ريب» بالنصب.

وزيد بن علي : يتربّص ـ بالياء من تحت ـ على البناء للمفعول «ريب» بالرفع (٣).

و (رَيْبَ الْمَنُونِ) : حوادث الدّهر ، وتقلّبات الزّمان ؛ لأنها لا تدوم على حال كالريب وهو الشك فإنه لا يبقى بل هو متزلزل. قال الشاعر :

٤٥٣٥ ـ تربّص بها ريب المنون لعلّها

تطلّق يوما أو يموت خليلها (٤)

وقال أبو ذؤيب :

٤٥٣٦ ـ أمن المنون وريبة تتوجّع

والدّهر ليس بمعتب من يجزع (٥)

والمنون في الأصل الدهر. وقال الراغب : المنون المنيّة ؛ لأنها تنقص العدد ، وتقطع المدد ، وجعل من ذلك قوله : (أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)(٦) أي غير منقطع (٧). وقال الزمخشري : وهو في الأصل : فعول من منه إذا قطعه لأن الموت قطوع ، ولذلك سميت شعوب (٨). و «ريب» وريبة مفعول به أي ننتظر به حوادث الدهر أو المنية.

فصل

المعنى : بل يقولون يعني هؤلاء المقتسمين الخرّاصين شاعر نتربّص به ريب المنون

__________________

(١) نقله في كتابه أبو حيان في البحر ٨ / ١٥١ و ١٥٢.

(٢) التبيان ١١٨٤.

(٣) قراءة شاذة ذكرها صاحب البحر ٨ / ١٥١ والكشاف ٤ / ٢٥.

(٤) من الطويل وجيء به على أن «رَيْبَ الْمَنُونِ» معناه حوادث الدهر كما أوضح أعلى. وانظر القرطبي ١٧ / ٧٢ وفتح القدير ٥ / ٩٩ وروح المعاني ١٧ / ٣٦ ومجمع البيان ٩ / ٢٥٣ وقد روي عجزه : سيهلك عنها بعلها أو سيجنح.

(٥) من الكامل لأبي ذؤيب ، وشاهده كالبيت السابق. وانظر القرطبي ١٧ / ٧٢ والبحر ٨ / ١٥١ والكشاف ٤ / ٢٥ وشرح شواهده ٥ / ٤٤٢.

(٦) الآية ٣ من القلم ، و ٢٥ من الانشقاق ، و ٦ من التين ، و ٨ من فصّلت.

(٧) وانظر المفردات للراغب ٤٧٤.

(٨) الكشاف ٤ / ٢٥.

١٣٦

حوادث الدهر وصروفه وذلك أن العرب كانت تحترز عن إيذاء الشعراء ، فإن الشعر كان عندهم يحفظ ويدون فقالوا : لا نعارضه في الحال مخافة أن يغلبنا بقوة شعره وإنما نصبر ونتربّص موته ويهلك كما هلك من قبله من الشعراء ويتفرق أصحابه وإنّ أباه مات شابا ونحن نرجو أن يكون موته كموت أبيه. والمنون يكون بمعنى الدهر فيكون بمعنى الموت سمّيا بذلك لأنّهما يقطعان الأجل. أو يقال : إنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يقول : إن الحقّ دين الله ، وإنّ الشرع الذي أتيت به يبقى أبد الدهر ، وكتابي يملى إلى قيام الساعة فقالوا : ليس كذلك إنما هو شاعر والذي يذكره شعر ولا ناصر له وسيصيبه من بعض آلهتنا الهلاك فنتربص به ذلك. وريب المنون : هو اسم للموت فعول من المنّ ، وهو القطع.

ويحتمل وجها آخر وهو أن يكون المراد أنه إذا كان شاعرا فصروف الزمان ربما تضعف ذهنه وتورث وهنه فيتبين لكل أحد فساد أمره وكساد شعره.

قوله : (قُلْ تَرَبَّصُوا) أي انتظروا بي الموت.

فإن قيل : هذا أمر للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) ـ ولفظ الأمر يوجب المأمور به أو يبيحه ويجوزه وتربصتم (٢) كان حراما.

فالجواب : ليس ذلك بأمر وإنما هو تهديد أي تربصوا فإني متربصّ الهلاك بكم كقول الغضبان لعبده : افعل ما شئت فإني لست عنك بغافل.

فإن قيل : لو كان كذلك لقال : تربّصوا أو لا تتربّصوا كما قال : (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا).

فالجواب : ليس كذلك ، لأن ذلك يفيد عدم الخوف أكثر (٣).

قوله : (فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) أي أتربص هلاككم ، وقد أهلكوا يوم بدر وغيره من الأيّام. قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يكون معناه إذا قلنا : (إن) (٤) ريب المنون صروف الدهر فمعناه إنكار كون صروف الدهر مؤثرة فكأنه يقول : أنا من المتربّصين حتى أبصر ماذا يأتي به الذي تجعلونه مهلكا وماذا يصيبني منه.

قوله : (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ) عقولهم (بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) والإشارة بقوله : «بهذا» إلى ما ظهر منهم عقلا ونقلا. وهو عبادة الأوثان وقولهم (٥) الهذيان. وقيل : إشارة إلى قولهم : كاهن وشاعر ومجنون. وقيل إشارة إلى التربص وذلك أن الأشياء إما أن

__________________

(١) في ب ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

(٢) في ب وهو الأقرب تربصهم.

(٣) وانظر المعني أعلى في تفسير البغوي والخازن ٦ / ٢٥٢ وهذان القيلان وجوابهما في تفسير الرازي ٢٨ / ٢٥٥ و ٢٥٦.

(٤) سقط من ب.

(٥) في ب وقوله على الرسول.

١٣٧

تثبت بعقل أو نقل فقال : هل ورد أمر سمعيّ أم عقولهم (١) تأمرهم بما كانوا يقولون أم هم قوم طاغون مفترون ويقولون ما لا دليل عليه سمعا ولا مقتضى له عقلا؟ والطّغيان مجاوزة الحدّ في العصيان وكذلك كل شيء مكروه ظاهر ، قال تعالى : (لَمَّا طَغَى الْماءُ) [الحاقة : ١١].

واعلم أن قوله : (أَمْ تَأْمُرُهُمْ) متصل تقديره : أنزل عليهم ذكر أم تأمرهم أحلامهم بهذا. وفي هذه الآية إشارة إلى أن كل ما لا يكون على وفق العقل لا ينبغي أن يقال ؛ وإنما ينبغي أن يقال ما يجب قوله عقلا.

والأحلام جمع حلم وهو العقل فهما من باب واحد من حيث المعنى لأن العقل يضبط المرء فيكون كالبعير المعقول لا يتحرك عن مكانه والحلم من الاحتلام ، وهو أيضا سبب وقار المرء وثباته لأن الحلم في أصل اللغة هو ما يراه النائم فينزل ويلزمه الغسل الذي هو سبب البلوغ وعنده يصير الإنسان مكلّفا ، فالله تعالى من لطيف حكمته قرن الشهوة بالعقل وعند ظهور الشهوة يكمل العقل ويكلف صاحبه فأشار تعالى إلى العقل بالإشارة إلى ما يقارنه وهو الحلم ليعلم أنه يريد به كمال العقل (٢).

قوله : (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) أي يخلق القرآن من تلقاء نفسه ، والتّقوّل تكلّف القول ولا يستعمل إلا في الكذب وهذا أيضا متصل بقوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ) تقديره : كاهن أم يقولون تقوله بالمعنى ليس الأمر كما زعموا بل لا يؤمنون بالقرآن استكبارا.

ثم ألزمهم الحجّة وأبطل جميع الأقسام فقال : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) أي القرآن ونظمه (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) أنّ محمدا تقوّله من قبل نفسه ، ولما امتنع ذلك كذّبوا في الكلّ.

قوله : (فَلْيَأْتُوا) الفاء للتعقيب أي إذا كان كذلك فيجب عليهم أن يأتوا بمثل ما أتى به ليصحّ (٣) كلامهم ويبطل كلامه. قال بعض العلماء : وهذا أمر تعجيز (٤) قال ابن الخطيب : والظاهر أن الأمر ههنا على حقيقته لأنه لم يقل : إيتوا مطلقا بل قال : إيتوا إن كنتم صادقين فهو أمر معلق على شرط إذا وجد ذلك الشرط يجب الإتيان به وأمر التعجيز كقوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) [البقرة : ٢٥٨] وليس هذا بحثا يورث خللا في كلامهم (٥).

__________________

(١) في ب عقليّ.

(٢) وانظر في هذا كله تفسير الرازي ٢٨ / ٢٥٦ و ٢٥٧.

(٣) كذا في النسختين وفي الرازي : ليصحّح أي الآتون به. وقد نقل هذا الرأي في معنى الفاء فخر الدين الرازي في تفسيره السابق.

(٤) فيراد به المجاز.

(٥) من اللطائف التي تكثر في تفسير الإمام الرازي والتي تدل على تميّز كتابه دون كتب التّفاسير الأخرى باللّطائف وإعمال العقل. وانظر المرجع السابق.

١٣٨

قوله : (بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) العامة على تنوين «حديث» ووصفه ب «مثله». والجحدريّ وأبو السّمّال (بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ)(١) بإضافة حديث إلى «المثل» على حذف موصوف أي بحديث رجل مثله من جنسه.

فصل

قالت المعتزلة : الحديث محدث ، والقرآن سماه حديثا فيكون محدثا.

وأجيبوا : بأن الحديث اسم مشترك يقال للمحدث (٢) والمنقول وهذا يصح أن يقال : هذا حديث قديم أي متقادم العهد ، لا بمعنى سبب الأزلية وذلك لا نزاع فيه.

فإن قيل : الصّفة تتبع الموصوف في التعريف والتنكير والموصوف هنا : «حديث» وهو منكّر ، و «مثله» مضاف إلى «القرآن» والمضاف إلى القرآن معرّف فكيف هذا؟

فالجواب : أن «مثلا» و «غيرا» لا يتعرّفان بالإضافة (٣) ، وكذلك كل ما هو مثله كشبه ، وذلك أن «غيرا ومثلا» وأمثالهما في غاية التنكير ؛ لأنك إذا قلت : «مثل زيد» يتناول كل شيء ، فإن كل شيء مثل زيد في شيء (٤) فالحمار مثله في الجسم والحجم والإمكان والنبات مثله في النّشوء والنّماء والذّبول والفناء ، والحيوان مثله في الحركة والإدراك وغيرها من الأوصاف. وأما «غير» فهو عند الإضافة ينكّر وعند قطع الإضافة ربّما يتعرّف (٥) ؛ فإنك إذا قلت : غير زيد صار في غاية الإبهام ، فإنه يتناول أمورا لا حصر لها ، وأما إذا قطعت «غير» عن الإضافة فربّما يكون الغير والمغايرة من باب واحد وكذلك التّغيّر فتجعل الغير كأسماء الجنس وتجعله مبتدأ أو تريد به معنى معيّنا.

قوله : (أَمْ خُلِقُوا) لا خلاف أن «أم» هنا ليست بمعنى بل لكن أكثر المفسرين على

__________________

(١) وهي قراءة شاذة ذكرها صاحب البحر المحيط بنسبة ٧ / ١٥٢ بينما نسب الإمام القرطبي القراءة إلى الجحدري في ١٧ / ٧٣.

(٢) في ب للحدث وهو تحريف.

(٣) لشدة إبهامها كما سيأتي.

(٤) عبارة الرازي : فإنك إذا قلت : «ما رأيت شيئا مثل زيد» يتناول كل شيء فإن كل شيء مثل زيد في كونه شيئا.

(٥) «غير» اسم ملازم للإضافة في المعنى ، ويجوز أن يقطع عنها لفظا إن فهم المعنى وتقدمت عليها كلمة «ليس» وتستعمل غير المضافة لفظا على وجهين :

أحدهما : وهو الأصل : أن تكون صفة للنكرة نحو (نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) أو لمعرفة قريبة منها نحو : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ؛ لأن المعرف الجنسي قريب من النكرة ولأن «غيرا» إذا وقعت بين ضدّين ضعف إبهامها حتى زعم ابن السّراج أنها حينئذ تتعرف وترده الآية الأولى.

الثاني : أن تكون استثناء فتعرب إعراب الاسم التالي إلا في ذلك الكلام. وانظر المغني ١٥٨ و ١٥٧ والأشموني ٢ / ٢٦٦ و ٢٦٧.

١٣٩

أن المراد ما وقع في صدر الكلام من الاستفهام بالهمزة كأنه يقول : «أخلقوا من غير شيء»(١).

قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يقال : هو على أصل الوضع للاستفهام الذي يقع في أثناء الكلام وتقديره : أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون؟ (٢)

قوله : (مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) يجوز أن تكون «من» لابتداء الغاية على معنى : أم خلقوا من غير شيء حيّ كالجماد فهم لا يؤمرون ولا ينهون كما الجمادات ، وقيل : هي للسّببيّة على معنى من غير علّة (٣) ، ولا لغاية (٤) ثواب ولا عقاب.

فصل

وجه تعلق الآية بما قبلها أنهم لما كذبوا النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ونسبوه إلى الكهانة والشّعر والجنون وبرأه الله من ذلك ذكر الدليل على صدقه إبطالا لتكذيبهم وبدأ بأنفسهم فكأنه يقول : كيف تكذبونه (٥) وفي أنفسكم دليل صدقه ، لأن قوله كان في ثلاثة أشياء ، في التوحيد ، والحشر ، والرسالة ففي أنفسهم ما يعلم صدقه وهو أنهم خلقوا وذلك دليل التوحيد لما تقدم أنّ :

في كلّ شيء له آية

تدلّ على أنّه الواحد؟

وأما الحشر فلأن الخلق الأول دليل على جواز الخلق الثاني (٦).

فصل

قال المفسرون : معنى الآية : أم خلقوا من غير شيء فوجدوا بلا خالق وذلك مما لا يجوز أن يكون (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) لأنفسهم وذلك في البطلان أشدّ ؛ لأن ما لا وجود له كيف يخلق فإذا بطل الوجهان قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقا فليؤمنوا به. قال هذا المعنى أبو سليمان الخطّابيّ (٧). وقال الزجاج : معناه أخلقوا باطلا لا يحاسبون ولا يؤمنون (٨) وقال ابن كيسان : أخلقوا عبثا وتركوا سدى لا يؤمرون ولا ينهون كقول القائل

__________________

(١) أو هل. قاله الرازي في تفسيره ٢٨ / ٢٥٩ ، والقرطبي في الجامع ١٧ / ٧٤.

(٢) الرازي السابق. أقول : ويقصد «بأم» الثانية لا الأولى.

(٣) ذكر هذين الوجهين أبو حيان في البحر ٨ / ١٥٢.

(٤) في ب ولا لقاء ثواب ولا عقاب.

(٥) في ب والرازي يكذبونه بياء الغيبة.

(٦) وانظر تفسير الإمام ٢٨ / ٢٥٩.

(٧) انظر هذا القول في معالم التنزيل للبغوي ٦ / ٢٥٢. وأبو سليمان الخطّابيّ هو : حمد بن محمد بن إبراهيم أبو سليمان الخطّابي كان حجّة صدوقا ، له من التصانيف غريب الحديث ، شرح البخاري.

مات سنة ٣٨٨ ه‍ انظر بغية الوعاة ١ / ٥٤٧.

(٨) الصحيح أن الزجاج قال بمعنى آخر خلاف هذا المعنى وهذا المعنى المذكور هو رأي نقله في كتاب ـ

١٤٠