اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

قوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) هذا تسلية للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتيسير له بالفرج ، وسمّاهم ضيفا ، لأنه حسبهم كذلك ، ويقع على الواحد والجمع ، لأنه مصدر وسمّاهم مكرمين أي عند الله أو لأن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أكرمهم بأن عجّل قراهم ، وأجلسهم في أكرم المواضع واختار إبراهيم لكونه شيخ المرسلين ، وكون النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ مأمورا بأن يتبع ملته ، كما قال تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [النحل : ١٢٣]. وقيل : سماهم مكرمين لأنهم كانوا ضيف إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ (وكان (١) إبراهيم أكرم الخليقة ، وضيف الكرام مكرمون. وقال ابن أبي نجيح ـ عن مجاهد ـ : لأن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ خدمهم بنفسه) وعن ابن عباس : سماهم مكرمين لأنهم جاءوا غير مدعوّين ، وقال عليه الصلاة والسلام : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه (٢).

فإن قيل : إذا كان المراد من الآية التسلية والإنذار ، فأي فائدة في حكاية الضيافة؟

فالجواب : ليكون ذلك إشارة إلى أنّ الفرج في حق الأنبياء ، والبلاء على الجهلة يأتي من حيث لم يحتسبوا ، كقوله تعالى : (فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) [الزمر : ٢٥] ، فلم يكن عند إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ خبر من إنزال العذاب مع ارتفاع منزلته وقد تقدم عددهم في سورة هود (٣).

قوله تعالى : (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ) العامل في (إِذْ) أوجه :

أحدها : أنه (حَدِيثُ) أي هل أتاك حديثهم الواقع في وقت دخولهم عليه.

الثاني : أنه منصوب بما في (ضَيْفِ) من معنى الفعل ، لأنه في الأصل مصدر ، ولذلك استوى فيه الواحد المذكور (٤) وغيره ، كأنه قيل : الّذين أضافهم في وقت دخولهم عليه.

الثالث : أنه منصوب بالمكرمين إن أريد بإكرامهم أنّ إبراهيم أكرمهم بخدمته لهم كأنه تعالى يقول : أكرموا إذ دخلوا.

الرابع : أنه منصوب بإضمار «اذكر» ولا يجوز نصبه ب (أَتاكَ) لاختلاف الزّمانين(٥).

__________________

(١) ما بين القوسين ساقط من أوموجود في ب.

(٢) وانظر : البغوي والخازن السابقين والقرطبي ١٧ / ٤٤ و ٤٥.

(٣) من الآية ٦٩ منها. قيل : جاءه جبريل ومعه ملكان وهو مرويّ عن ابن عباس. وقيل : جبريل وميكائيل وإسرافيل. وقيل : كانوا تسعة ، وعن السدي : أحد عشر. وانظر اللباب ٤ / ٥٧ ب والكشاف ٢ / ٢٨٠.

(٤) في ب المذكر.

(٥) زمان الأتي والدخول. وانظر : البحر ٨ / ١٣٨ والكشاف ٤ / ١٧ والتبيان ١١٨١.

٨١

وقرأ العامة المكرمين ـ بتخفيف الراء ـ من أكرم ، وعكرمة : بالتشديد (١).

فإن قيل : أرسلوا بالعذاب بدليل قولهم : (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) [الذاريات : ٣٢] فما الحكمة في مجيئهم إلى إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ؟

فالجواب من وجهين :

الأول : أن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ شيخ المرسلين ، ولوط من قومه ، ومن عادة الملك إذا أرسل رسولا لملك وفي طريقه من هو أكبر منه يقول له : اعبر على فلان الملك ، وأخبره برسالتك وخذ فيها رأيه.

الثاني : أن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان شديد الشفقة حليما فكان يشق عليه إهلاك أمة عظيمة وكان ذلك مما يحزن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ شفقة منه على العباد فقال (لهم) (٢) بشّروه بغلام يخرج من صلبه أضعاف من (٣) يهلك ، ويكون من صلبه خروج الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ (٤).

قوله : (فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) العامة على نصب (سَلاماً) الأول ، ورفع الثاني.

فأما نصب الأول فالمشهور أن السلام التحية أي نسلّم سلاما (٥). ويحتمل أن (سَلاماً) معناه حسنا أي قالوا كلاما حسنا ؛ لأنه كلام سلم به المتكلم من أن يلغو أو يأثم فكأنهم قالوا قولا حسنا سلموا به من الإثم فيكون مفعولا به لأنه في معنى القول (٦) ، كما قيل في قوله تعالى : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان : ٦٣] ، أو هو مفعول بفعل محذوف ، أي نبلّغك سلاما (٧).

ولم يقولوا من الله شفقة على قلب إبراهيم فأتوا به مجملا ، ثم فسروه بعد ذلك.

وأما رفع الثاني فالمشهور أنه التحية ، فهو مبتدأ ، وخبره محذوف أي عليكم ، ويحتمل أنه السلامة ، أي أمري سلام لأني لا أعرفكم ، أو قولكم سلام (٨) ، أي ينبىء عن السلامة وأنتم قوم منكرون فما خطبكم؟

__________________

(١) البحر المرجع السابق وهي شاذة.

(٢) سقط من ب.

(٣) في الرازي : ما.

(٤) وانظر : تفسير الرازي ٢٨ / ٢١٠ و ٢١١.

(٥) قال بذلك مكي في المشكل ٢ / ٣٢٤ والرازي ٢٨ / ٢١١ والزمخشري في الكشاف ٤ / ١٧ والزجاج في المعاني ٥ / ٥٥ والقرطبي ١٧ / ٣٤ والتبيان ٧٠٥.

(٦) وهو قول الإمام الرازي في تفسيره السابق وهو قول مكي أيضا في المشكل حيث قال : «أو بوقوع القول عليه» وانظر المشكل السابق أيضا.

(٧) قاله الرازي أيضا وهو نفس رأي ابن عطية فيما نقله عنه أبو حيان في البحر ٨ / ١١٩ لكنه جعل سلاما بمعنى قولا ويكون المعنى أنهم قالوا تحية وقولا معناه سلاما. وانظر البحر السابق.

(٨) المشكل والرازي السابقين والقرطبي ١٧ / ٤٥.

٨٢

وأما الفرق بين النصب والرفع ، فإن حملنا السلام على التّحية ، فإنه مبتدأ مع أنه نكرة تنبيها على أصله ، لأنه النصب ، لأن المعنى أسلّم سلاما و «عليكم» لبيان المسلّم عليه ، لا حظّ له في الإعراب (١).

وأصل الكلام أسلم سلاما ، فالنصب أصل ، فقدم على الرفع الذي هو فرع ، وأيضا فرد (إبراهيم) (٢) أبلع لأنه أتى بالجملة الاسمية الدالة على الثبات بخلاف الفعلية ، فإنها تدل على التّجدّد والحدوث ، ولهذا يستقيم قولنا : الله موجود الآن ، ولا يستقيم قولنا : الله وجد الآن.

وأما إن قلنا : معناه حسنا ، أو ذا سلامة ، فمعناه قلتم حسنا وأنتم منكرون فالتبس الأمر عليّ (٣).

وأما إن قلنا معناه المتاركة فمعناه سلّمتم عليّ ، وأنا أمري متاركة لأني لا أعلم حالكم ، ومنه : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) وقال تعالى : (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ) [الزخرف : ٨٩] لأن سلامتهم عن الجاهلين لا يمنع التعرض لهم ، بخلاف النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فمعناه سلم أمري متاركة إلى أن يأتي أمر الله (٤). وتقدم تحرير نظير هذه الآية في سورة هود (٥).

وتقدم أيضا خلاف القراء في سلام (٦) بالنسبة إلى فتح سينه وكسرها ، وإلى سكون لامه وفتحها.

وقرئا مرفوعين (٧). وقرىء سلاما قالوا سلما بكسر سين الثاني ونصبه (٨) ، ولا

__________________

(١) في الرازي : في المعنى غير ذلك البيان.

(٢) سقط من ب.

(٣) وهذه التفصيلات كلها نقلها المؤلف بالمعنى عن الرازي ٢٨ / ٢١٢.

(٤) بالمعنى من الرازي السابق ، فقد قال : وأما النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لو سلم عليهم لصار ذلك سببا لحرمة التعرض إليهم فقال : قل سلام أي أمري معكم متاركة تركناه إلى أن يأتي أمر الله بأمر. وانظر : الرازي ٢٨ / ٢١٣ و ٢١٢.

(٥) اللباب الأسبق.

(٦) قراءة ابن وثاب والنّخعيّ وابن جبير وطلحة قال : سلم بكسر السّين وإسكان اللام ، والمعنى نحن سلم ، أو أنتم سلم وتلك قراءة كوفية وهي من الأربع عشرة فوق المتواترة وانظر الإتحاف ٣٩٩ وقد نسبت لحمزة والكسائي في الإتحاف.

(٧) لم أعرف من قرأ هكذا وانظر : البحر ٨ / ١٣٩ والكشاف ٤ / ١٧ ، وهي شاذة وحينئذ يكون الرفع على ما مرّ من رفع «سلام» والثانية فمن الإمكان أن تكون ابتداء والخبر محذوف أي سلام عليك أو خبرا لابتداء محذوف معناه قالوا أمرنا سلام.

(٨) البحر والكشاف السابقين. ولم يحدّدا من قرأ بها.

٨٣

يخفى توجيه ذلك بما تقدم في هود ودخلت الفاء ههنا إشارة إلى أنهم لم يخلوا بأدب الدخول ، بل جعلوا السلام عقيب الدخول.

قوله : (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) خبر مبتدأ مضمر ، فقدّروه أنتم قوم ، ولم يستحسنه بعضهم (١) ؛ لأن فيه عدم أنس فمثله لا يقع من إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، فالأولى أن يقدر هؤلاء قوم ، أو هم قوم (٢) ، وتكون مقالته هذه مع أهل بيته وخاصته ، لا لنفس الملائكة لأن ذلك يوحشهم (٣).

وقال المفسرون : قوم منكرون أي غرباء ولا نعرفكم.

قال ابن عباس ـ (رضي الله (٤) عنهما ـ) قال في نفسه : هؤلاء قوم لا نعرفهم. وقيل : إنما أنكر أمرهم ، لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان. وقال أبو العالية : أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض (٥).

فإن قيل : قال في سورة هود : (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ) فدل على أن إنكاره حصل بعد تقريب العجل إليهم وههنا قال : (فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) ، ثم قال : (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ) بفاء التعقيب ، وذلك يدل على أن تقريب الطعام منهم بعد حصول إنكاره فما وجهه؟

فالجواب : أن يقال : لعلهم كانوا مخالفين لصفة الناس في الشكل والهيئة ، ولذلك قال : (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) ، (أي) عند كل أحد (منا) ، ثم لمّا امتنعوا عن الطعام تأكد الإنكار ، لأن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ تفرّد بمشاهدة إمساكهم فنكرهم فوق الإنكار الأول (٦).

وحكاية الحال في سورة «هود» أبسط مما ذكره ههنا ، فإن ههنا لم يبين المبشّر به ، وهناك ذكره باسمه وهو إسحاق وههنا لم يقل إن القوم قوم من ، وهناك قال : قوم لوط (٧).

فصل

ذكر ههنا من آداب الضيافة تسليم المضيف على الضّيف ، ولقاءه بالوجه الحسن ، والمبالغة في الإكرام بقوله : (سَلامٌ) ، وهو آكد ، وسلامهم بالمصدر ، وفي قوله : سلام بالرفع زيادة على ذلك ولم يقل سلام عليكم ؛ لأن الامتناع من الطعام يدل على أن العداوة لا تليق بالأنبياء فقال : سلام أي أمري مسالمة ، ثم فيها من أدب الضيف تعجيل

__________________

(١) لعله أبو حيان فتلك العبارات عباراته في البحر ٨ / ١٣٩.

(٢) المرجع السابق.

(٣) المرجع السابق بالمعنى.

(٤) زيادة من أ.

(٥) البغوي ٦ / ٢٤٤ و ٢٤٥.

(٦ و ٧) المرجع السابق.

٨٤

الضيافة ، فإن الفاء في قوله : (فَراغَ) يدل على التعقيب وإخفائها لأن الرّوغان يقتضي الإخفاء وغيبة المضيف عن الضّيف ليستريح ، ويأتي بما يمنعه الحياء منه ، ويخدم الضيف بنفسه ويختار الأجود لقوله : (سَمِينٍ) ويقدّم الطعام للضيف في مكانه لا ينقل الضيف للطعام لقوله : (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) ويعرض الأكل عليه لا يأمره لقوله : (أَلا تَأْكُلُونَ) ولم يقل : كلوا. وسروره بأكله كما يوجد في بعض البخلاء (١) الذين يحضرون طعاما كثيرا ، ويجعل نظره ونظر أهل بيته إلى الطعام حتى يمسك الضيف يده عنه ، لقوله : (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) بعدم أكلهم (٢).

ومن آداب الضيف إذا حضره الطعام ولم يكن يصلح له لكونه مضرا به ، أو يكون ضعيف القوة عن هضم ذلك الطعام فلا يقول : هذا طعام غليظ لا يصلح لي بل يأتي بعبارة حسنة ، ويقول : بي مانع من أكل الطعام ، لأنهم أجابوه بقولهم : لا تخف ، ولم يذكروا في الطعام شيئا ، ولا أنه يضّر بهم بل بشروه بالولد إشعارا بأنهم ملائكة ، وبشروه بالأشرف وهو الذكر حيث فهموه أنهم ليسوا ممن يأكلون.

ثم وصفوه بالعلم دون المال والجمال ، لأن العلم أشرف الصفات ثم أدب آخر في البشارة وهو أن لا يخبر الإنسان بما يسرّه دفعة واحدة ، لأنه يورث رضاهم (٣) ، لأنهم جلسوا ، واستأنس بهم إبراهيم ، ثم قالوا : نبشّرك. وتقدم الكلام على فائدة تقديم البشارة (٤).

قوله : (فَراغَ) أي عدل ومال (٥)(إِلى أَهْلِهِ) ، وقوله : (فَجاءَ) عطف على (فَراغَ) وتسببه عنه واضح (بِعِجْلٍ سَمِينٍ) أي مشويّ كقوله في مكان آخر : (بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) [هود : ٦٩]. (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) ليأكلوا ، فلم يأكلوا قال ألا تأكلون والهمزة في (أَلا تَأْكُلُونَ) للإنكار عليهم في عدم أكلهم ، أو للعرض ، أو للتحضيض (٦).

(فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ).

__________________

(١) العبارة هنا قلقة وعبارة الرازي ـ مصدر المؤلف ـ هي الأوضح حيث يقول : ثم كون المضيف مسرورا بأكلهم غير مسرور تبركهم الطعام كما يوجد في بعض البخلاء المتكلفين الذين ... الخ.

(٢) هذه كلها آداب المضيف.

(٣) في ب وهو كما في الرازي : مرضا بدل رضاهم وهو الأصح.

(٤) ليعلم أن الله تعالى يهلكهم إلى خلف ويأتي ببدلهم خيرا منهم. وانظر : الرازي المرجع السابق ٢٨ / ٢١٤ ، وهذا الذي ذكره المؤلف استقاه من تفسيره التفسير الكبير ٢٨ / ٢١٤ و ٢١٥ بالمعنى.

(٥) قاله أبو عبيدة في المجاز ٢ / ٢٢٦ ، وابن قتيبة في الغريب ٤٢١.

(٦) الكشاف ٤ / ١٨ والبحر ٨ / ١٣٩ وإذا كانت الهمزة للإنكار يفهم أن هناك محذوفا تقديره : فامتنعو عن الأكل فأنكر عليهم ذلك.

٨٥

قوله تعالى : (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ) قيل : (١) لم يكن ذلك إقبالا من مكان إلى مكان ، وإنما هو كقول القائل : أقبل يشتمني بمعنى أخذ في شتمي ، أي أخذت تولول ، لقوله : (قالَتْ يا وَيْلَتى) [هود : ٧٢] ، وذلك أنها كانت مع زوجها في خدمتهم ، فلما تكلموا مع زوجها بولادتها استحت وأعرضت عنهم ، فذكر الله تعالى ذلك بلفظ الإقبال على الأهل ، ولم يقل بلفظ الإدبار عن الملائكة (٢).

قوله : (فِي صَرَّةٍ) يجوز أن يكون حالا من الفاعل أي كائنة في صرّة (٣). والصّرة قيل : الصيحة ، قال امرؤ القيس :

٤٥٢٧ ـ فألحقنا بالهاديات ودونه

جواحرها في صرّة لم تزيّل (٤)

قال الزمخشري : من صرّ الجندب والباب والقلم (٥) ، أي فصاحت كما جرت عادة النساء إذا سمعن شيئا من أحوالهن يصحن صيحة معتادة لهن عند الاستحياء أو التعجب.

ويحتمل أن يقال : تلك الصيحة كانت بقولها : يا ويلتا ، ومحلّها النصب على الحال أي فجاءت صارة.

ويجوز أن يتعلق ب (فَأَقْبَلَتِ) أي أقبلت في جماعة نسوة (٦) كنّ معها ، والصّرة الجماعة من النساء.

قوله : (فَصَكَّتْ وَجْهَها) قال ابن عباس ـ (رضي (٧) الله عنهما) ـ : فلطمت (٨) وجهها. واختلف في صفته فقيل : هو الضرب باليد مبسوطة. وقيل : بل ضرب الوجه بأطراف الأصابع فعل المتعجّب ، وهو عادة النساء إذا أنكرن شيئا. وأصل الصكّ ضرب الشيء بالشيء العريض (٩).

قوله : (عَجُوزٌ) خبر مبتدأ مضمر أي أنا عجوز عقيم فكيف ألد؟ وتفسرها الآية الأخرى ، فاستبعدت ذلك ظنّا منها أن ذلك منهم على سبيل الدعاء ، فكأنها قالت : يا ليتكم دعوتم دعاء قريبا من الإجابة ، فأجابوها بأن ذلك من الله تعالى ، وأن هذا ليس

__________________

(١) ذكره البغوي دون ما تحديد لواحد معين. انظر : البغوي ٦ / ٢٤٥.

(٢) نقل تلك العلة الإمام الفخر الرازي في تفسيره ٢٨ / ٢١٤.

(٣) وهو قول أبي البقاء في التبيان ١١٨١.

(٤) من الطويل له وروي في القرطبي فألحقه. والهاديات : أوائل بقر الوحش ، وجوارحها : متخلفاتها ، ولم تزيّل : لم تتفرق. والمعنى لما لحق هذا الفرس أوائل بقر الوحش بقيت أواخرها لم تتفرق.

والشاهد : صرّة ومعناها صيحة وجماعة. والبيت في معلقته ، وقد تقدم.

(٥) يصرّ صريرا إذا امتد وكل صوت شبه ذلك. انظر : اللسان السابق وانظر الكشاف ٤ / ١٨.

(٦) قال بالوجه السابق الكشاف السابق.

(٧) زيادة من أ.

(٨) قاله ابن قتيبة في الغريب ٤٢١.

(٩) اللسان : «صكك» ٢٤٧٤.

٨٦

بدعاء ، وإنما هو قول الله (كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ) ثم دفعوا استبعادها بقولهم : (إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ).

قوله : (كَذلِكَ) منصوب على المصدر ب (قالَ)(١) الثانية أي مثل ذلك القول الذي أخبرناك (٢) به قال ربّك ، أي إنه من جهة الله فلا تعجبي منه.

قال ابن الخطيب : وقال ههنا : الحكيم العليم وفي سورة (هود) (٣) : إنّه حميد مجيد ؛ لأن الحكاية في هود أبسط فذكروا ما يدفع استبعادها (٤) بقولهم : (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) ، ثم أرشدوها إلى القيام بشكر نعم الله بقولهم : (حَمِيدٌ) فإن الحميد هو الذي يفعل الأفعال الحسنة ، والمجيد إشارة إلى أنه لا يحمد لفعله وإنما يحمد لذاته.

وههنا لما لم يقولوا : أتعجبين من أمر الله أشاروا إلى ما يدفع تعجبها بقولهم : «حكيم عليم». فالحميد يتعلق بالفعل ، والمجيد يتعلق بالذات ، وكذلك الحكيم هو الذي فعله قاصدا إليه ، فإن من يتقلب في النوم (٥) على حية فماتت لا يعد حكيما ، وأما إذا قصد قتلها بحيث يسلم من نهشها ، يقال : إنه حكيم والعليم صفة راجعة إلى الذات ، فقدم وصف الفعل وارتقى درجة إلى وصف الذات إشارة إلى أنه يستحق الحمد وإن لم يفعل فعلا (٦).

قوله تعالى : (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) هذا أيضا من آداب المضيف ، إذا بادر الضيف إلى الخروج قال له : ما هذه العجلة؟ وما شأنك؟ لأن في سكوته ما يوهم باستثقالهم (٧) ثم إنّهم (٨) أتوا بما هو من أدب الصديق الذي لا يسر عن الصديق شيئا ، وكان ذلك بإذن الله لهم في إطلاع إبراهيم على إهلاكهم وجبر قلبه بتقديم البشارة بأبي الأنبياء إسحاق ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

فإن قيل : فما الذي اقتضى ذكره بالفاء ولم لا قال : ما هذا (٩) الاستعجال؟ وما خطبكم المعجل لكم؟

فالجواب : أنه لما أوجس منهم خيفة أو خرجوا من غير بشارة وإيناس ما كان يقول شيئا فلما أنسوه قال : ما خطبكم أي بعد هذا الأنس العظيم ما هذا الإيحاش الأليم (١٠)!

__________________

(١) قاله صاحب التبيان ١١٨١.

(٢) الكشاف ٤ / ١٨.

(٣) لفظ هود ساقط من أالأصل.

(٤) في ب استبعاده وفي الرازي الاستبعاد.

(٥) في ب نومه وفي الرازي : جنبه.

(٦) وانظر تفسير العلامة الرازي ٢٨ / ١٥ بالمعنى قليلا.

(٧) في ب باشتغالهم والتصحيح من أ.

(٨) في ب وإنهم.

(٩) كذا ذلك الأسلوب في النسختين وفي الرازي : ولو كان كما ذكرتم لقال : ما هذا الاستعجال .. الخ.

(١٠) الرازي ٢٨ / ٢١٥ و ٢١٦.

٨٧

فصل

والخطب يستعمل في الأمر العظيم ، ولذلك قال : فما خطبكم أي لعظمتكم لا ترسلون إلّا في أمر عظيم ، ولو قال بلفظ مركب بأن يقول : ما شغلكم الخطير وأمركم العظيم للزم التطويل فالخطب أفاد التعظيم مع الإيجاز وعرف أنهم مرسلون بقولهم : (إِنَّا أُرْسِلْنا) أو بقولهم لامرأته : (كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ) لحكايتهم قول الله تعالى.

وقالوا في سورة هود : (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) [هود : ٧٠] وقالوا هنا : (إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) ، لأن الحكاية عن معنى قولهم.

ويحتمل أنهم قالوا الأمرين ولما حكى لفظهم في السلام أتى في الموضعين بصفة واحدة (١).

والمجرم قال ابن عباس ـ (رضي الله (٢) عنهما ـ) : هو المشرك ، لأن الشرك أسرف الذنوب وأعظمها.

قال ابن الخطيب : المجرم هو الآتي بالذنب العظيم ، لأن المجرم فيه دلالة على العظيم ومنه جرم الشيء لعظمه ومقداره (٣).

قوله : (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ) فيه دليل على رجم اللائط. والفائدة في إرسال جماعة من الملائكة لهذا الأمر وإن كان يكفي فيه الواحد منهم ، أنّ الملك العظيم قد يهلك بالأمر الحقير كما هلك النّمرود بالبعوض ، وكما أهلك بالقمّل والجراد بل بالرّيح التي بها الحياة إظهارا للقدرة ، وقد تكثر الأسباب كما في يوم بدر أمر خمسة آلاف من الملائكة بإهلاك أهل بدر مع قلتهم إظهارا لعظيم قدرته. وقوله : (مِنْ طِينٍ) أي ليست من البرد والفاعل لذلك هو الله تعالى لا كما يقول الحكماء فإنهم يقولون : إن البرد يسمى حجارة فقوله : (مِنْ طِينٍ) يدفع ذلك التّوهّم (٤).

قال ابن الخطيب : إن بعض من يدّعي العقل (٥) (يقول) (٦) : لا ينزل من السماء إلا حجارة من طين مدوّرات على هيئة البرد وهيئة البنادق التي يتخذها الرماة ، قالوا : وسبب ذلك أن الإعصار يصعد (٧) الغبار من الفلوات العظيمة التي لا عمارة فيها والرياح تسوقها إلى بعض البلاد ويتفق (وصول) (٨) ذلك إلى هواء نديّ فيصير طينا رطبا ، والرطب إذا نزل وتفرق استدار بدليل أنك إذا رميت الماء إلى فوق ثم نظرت إليه رأيته ينزل كرات

__________________

(١) الرازي المرجع السابق.

(٢) زيادة من «أ».

(٣) تفسيره ٢٨ / ٢١٨.

(٤) بالمعنى من المرجع السابق.

(٥) في الرازي : النظر.

(٦) سقط من أوكذا هو موجود في الرازي ك «ب».

(٧) في ب تصعد.

(٨) زيادة من الرازي للتوضيح.

٨٨

مدوّرات كاللآلىء الكبار ثم في النزول إذا اتفق أن تضربه النيران التي في الجو جعلته حجارة كالآجرّ(١) المطبوخ فينزل فيصيب من قدر الله هلاكه وقد ينزل كثيرا في المواضع التي لا عمارة بها ، فلا يرى ولا يدرى به فلهذا قال : (مِنْ طِينٍ) لأ (نّ) ما لا يكون من طين كالحجر الذي في الصواعق لا يكون كثيرا بحيث يمطر ، وهذا تعسّف ، لأن ذلك الإعصار لما وقع فإن وقع بحادث آخر لزم التسلسل ، ولا بدّ من الانتهاء إلى محدث ليس بحادث فذلك المحدث لا بدّ وأن يكون فاعلا مختارا ، والمختار له أن يفعل وله أن يخلق الحجارة من طين على وجه آخر من غير نار ولا غبار ، لكن العقل لا طريق له إلى الجزم بطريق إحداثه وما لا يصل العقل إليه فلا يؤخذ إلا بالنقل والنص ومن المعلوم أن نزول حجارة (٢) الطين من السماء أغرب وأعجب من غيرها (٣).

قوله : (مُسَوَّمَةً) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه منصوب على النّعت لحجارة.

الثاني : أنه حال من الضمير المستكنّ في الجارّ قبله (٤).

الثالث : أنه حال من (حِجارَةً) ، وحسّن ذلك كون النكرة وصفت بالجارّ بعدها.

ومعنى مسومة قيل : على كل حجر منها اسم صاحبه. وقيل : خلقت وأعدت لتعذيبهم. وقيل : مرسلة للمجرمين ؛ لأن الإرسال يقال في التسويم ، يقال أرسلها لترعى ، كما قيل في الخيل المسوّمة أي مستغنى عنها (٥).

قوله : (عِنْدَ رَبِّكَ) ظرف «ل (مُسَوَّمَةً)(٦) أي معلّمة عنده «والمسرف» المتمادي ولو في الصغائر فهم مجرمون مسرفون.

وهنا لطيفة وهي أن الحجارة سوّمت للمسرف المصرّ الذي لا يترك الذنب في المستقبل وذلك إنما يعلمه الله تعالى ، فلذلك قال : (عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) ولما كان الإجرام ظاهرا قالوا : (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) واللام في «المسرفين» لتعريف العهد ، أي لهؤلاء المسرفين؛ إذ ليس لكل مسرف حجارة مسوّمة.

وإسرافهم بأنهم أتوا بما لم يسبقهم به أحد من العالمين (٧).

قوله : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) هذه الآية تدل على بيان القدرة

__________________

(١) ويسمى : الأجور واليأجور والآجرون والآجر وكلها بمعنى طبيخ الطين. والبرد حبّ الغمام

(٢) في ب الحجارة الطين ، وفي الرازي : الحجارة التي من طين.

(٣) وانظر : تفسير الإمام الرازي ٢٨ / ٢١٨ و ٢١٧.

(٤) قال بهذين الوجهين العكبريّ في التبيان ١١٨١.

(٥) الرازي السابق.

(٦) التبيان السابق.

(٧) بالمعنى من تفسير الإمام ٢٨ / ٢١٨ السابق.

٨٩

والاختيار ، لأنه تعالى لما ميز المجرم عن المحسن يدل (١) على الاختيار وأيضا فيها بيان أن ببركة المحسن ينجو المسيء ، فإن القرية ما دام فيها المؤمنون لم تهلك. والضمير في (فِيها) عائد على القرية وهي معلومة وإن لم تكن مذكورة.

والمعنى : فأخرجنا من كان في قرى قوم لوط من المؤمنين ، وذلك قوله : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) [الحجر : ٦٥].

وقوله : (فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) يعني لوطا وابنتيه وصفهم الله تعالى بالإيمان والإسلام جميعا ، لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم ، وفيه إشارة إلى أن الكفر إذا غلب ، والفسق إذا فشا لا ينفع معه عبادة المؤمنين ، بخلاف ما لو كان (٢) أكثر الخلق على الطريقة المستقيمة ، وفيهم شرذمة يسيرة يسرقون ويزنون ، ومثاله أن العالم كالبدن ، ووجود الصالحين كالأغذية الباردة والحارة والسموم الواردة عليه الضارة ثم إن البدن إن خلا عن المنافع وفيه الضارّ هلك وإن خلا عن الضار وفيه النافع طاب ونما ، وإن وجدا فيه فالحكم للغالب.

وإذا علم أن إطلاق العامّ على الخاصّ لا مانع منه ، لأن المسلم أعمّ من المؤمن فإذا سمي (٣) المؤمن مسلما ، لا يدل على اتحاد مفهوميهما فكأنه تعالى قال : أخرجنا المؤمنين ، فما وجدنا الأعمّ منهم إلا بيتا من المسلمين ، ويلزم من هذا أن لا يكون هناك غيرهم من المؤمنين (٤).

قوله : (وَتَرَكْنا فِيها آيَةً) يجوز أن يعود الضمير على القرية ، أي تركنا في القرية علامة أي عبرة كالحجارة أو الماء المنتن ويجوز أن يعود على الإهلاكة (٥) المفهومة من السّياق (٦).

وقوله : (لِلَّذِينَ يَخافُونَ) أي ما ينتفع بها إلا الخائف ، كقوله تعالى في سورة العنكبوت: (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [العنكبوت : ٣٥] ومعنى الآية : أن «الآية» تدلهم على أن الله تعالى أهلكهم فيخافون مثل عذابهم (٧).

__________________

(١) كذا في النسختين بلفظ المضارع وفي الرازي : دل وهو الأقرب.

(٢) في ب فقط : ما لو كان معه.

(٣) في ب سلم وهو تحريف

(٤) بالمعنى من تفسير الرازي ٢٨ / ٢١٩.

(٥) وهو اسم مرة من غير الثلاثي كتقديسة وتبيينة وغيرهما.

(٦) وقد ذكر العلامة أبو حيان في البحر ٨ / ١٤٠ هذه الآراء دون نسبة لقائليها بينما ذكر القرطبي في الجامع ١٧ / ٤٩ الأول والثاني فقط عن مجهولين أيضا ، وذكر الرازي في مرجعه السابق الثاني والثالث.

(٧) وهو رأى البغوي في معالم التنزيل ٦ / ٢٤٥.

٩٠

قوله تعالى : (وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ) (٤٠)

قوله تعالى : (وَفِي مُوسى) فيه أوجه :

أظهرها : أنه عطف على قوله : (فِيها) بإعادة الجار ؛ لأنّ المعطوف عليه ضمير مجرور فيتعلق ب (تَرَكْنا) من حيث المعنى (١) ويكون التقدير : وتركنا في قصة موسى آية. وهذا واضح.

والثاني : أنه معطوف على قوله : (فِي الْأَرْضِ آياتٌ) أي وفي الأرض وفي موسى آيات للموقنين. قاله الزمخشري (٢) وابن عطية (٣).

قال أبو حيان : وهذا بعيد جدّا ينزّه القرآن عن (٤) مثله.

قال شهاب الدين : وجه استبعاده له بعد ما بينهما ، وقد فعل أهل العلم هذا في أكثر من ذلك (٥).

والثالث : أنه متعلق ب «جعلنا» مقدرة ، لدلالة : (وَتَرَكْنا) عليه.

قال الزمخشري : أو على قوله ـ يعني أو يعطف على قوله ـ : (وَتَرَكْنا فِيها آيَةً) على معنى وجعلنا في موسى آية (٦) كقوله :

٤٥٢٨ ـ علفتها تبنا وماء باردا

 ..........(٧)

قال أبو حيان : ولا حاجة إلى إضمار : «وجعلنا» لأنه قد أمكن أن يكون العامل في المجرور (وَتَرَكْنا).

__________________

(١) وهو ظاهر كلام أبي البقاء في التّبيان ١١٨١ وأبي حيّان في البحر المحيط ٨ / ١٤٠.

(٢) الكشاف ٤ / ١٩ وهو أحد قوليه والقول الأول السابق.

(٣) البحر المحيط ٨ / ١٤٠.

(٤) المرجع السابق.

(٥) الدر المصون مخطوط بمكتبة الإسكندرية لوحة رقم ١١٠.

(٦) الكشاف ٤ / ١٩.

(٧) صدر بيت من الرجز وعجزه :

 ..........

حتّى شتت همّالة عيناها

وهو لذي الرمة ، وهو من شواهد الخصائص ٢ / ٤٣١ والإنصاف ٦١٣ وابن يعيش ٢ / ٨ والمغني ٦٣٢ وشرح شواهده للسيوطي ٣١٤ وشذور الذهب ٢٩٩ والتصريح ١ / ٢٤٦ والهمع ٢ / ١٣٠ والأشموني ٢ / ١٤٠ واللسان : «ق ل د» وليس في ديوانه ولا في ملحقاته لكن صدره في الملحقات مع شطر آخر سابق له وقال البغدادي في الخزانة : ففتشت ديوانه فلم أجده فيه وهو في البحر المحيط ٨ / ١٤٠ والكشاف ٤ / ١٩ وفي تأويل المشكل ٢١٣.

وهمالة من قولهم : هملت عين فلان إذا أرسلت دمعها إرسالا. والشاهد : «وماء» فهو ليس معطوفا على تبنا لكون العامل في المعطوف عليه لا يصح تسليطه على المعطوف مع بقاء معنى هذا العامل على حاله.

٩١

قال شهاب الدين : والزمخشري إنما أراد الوجه الأول بدليل قوله : (وَفِي مُوسى) معطوف على «وفي الأرض» ، أو على قوله : (وَتَرَكْنا فِيها) وإنما قال : على جهة تفسير المعنى لا الإعراب. وإنما أظهر الفعل تنبيها على مغايرة الفعلين يعني أن هذا الترك غير ذاك الترك ، ولذلك أبرزه بمادة الجعل دون مادة الترك ليظهر (١) المخالفة.

الرابع (٢) : أن يعطف على (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) تقديره : وفي حديث موسى إذ أرسلناه. وهو مناسب ، لأن الله تعالى جمع كثيرا بين ذكر إبراهيم وموسى ـ عليهما الصلاة والسلام ـ (كقوله تعالى) (٣) : (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النجم : ٣٦ ـ ٣٧] ، وقال : (صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) [الأعلى : ١٩] قاله ابن الخطيب (٤).

فصل

المعنى : لك (٥) في إبراهيم تسلية وفي موسى ، أو لقومك في لوط وقومه عبرة ، وفي موسى وفرعون ، أو تفكّروا في إبراهيم ولوط وقومهما وفي موسى وفرعون. هذا إن عطفناه على (معلوم(٦) ، وإن عطفناه) على مذكور فقد تقدم آنفا. و «السلطان المبين» الحجة الظاهرة (٧).

قوله : (إِذْ أَرْسَلْناهُ) يجوز في هذا الظرف ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون منصوبا ب (آيَةً) على الوجه الأول ؛ أي تركنا في قصة موسى علامة في وقت إرسالنا إيّاه.

الثاني : أنه يتعلق بمحذوف لأنه نعت لآية ، أي آية كائنة في وقت إرسالنا.

الثالث : أنه منصوب ب (تَرَكْنا).

قوله : (بِسُلْطانٍ) يجوز أن يتعلق بنفس الإرسال ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال إما من موسى وإما من ضميره أي ملتبسا بسلطان وهو الحجّة (٨). و «المبين» الفارق بين سحر السّاحرين وأمر المرسلين.

ويحتمل أن يكون المراد بالمبين أي البراهين القاطعة التي حاجّ بها فرعون (٩).

__________________

(١) الدر المصون المرجع السابق.

(٢) قال بهذا الوجه ـ وبالأوجه السابقة أيضا ـ الإمام الرازي في تفسيره ٢٨ / ٢٢٠.

(٣) زيادة من ب.

(٤) المرجع السابق.

(٥) كذا في النسختين وفي الرازي : ذلك.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) وانظر : الرازي السابق ٢٨ / ٢٢٠.

(٨) نقل المؤلف هذه الإعرابات بتفصيل وتوضيح من أبي البقاء في التبيان ١١٨١.

(٩) الرازي المرجع السابق.

٩٢

قوله : (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) الجار والمجرور حال من فاعل «تولّى» (١) ومعنى «تولّى» أدبر عن الإيمان (٢). والباء للمصاحبة. والمراد بالركن أي بجمعه وجنوده الذين كان يتقوّى بهم كالرّكن الذي يتقوّى به البنيان ، كقوله تعالى : (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) [هود : ٨٠]. وقيل : الباء للتعدية فتكون بمعنى تقوى بجنده (٣). ويحتمل أن يكون المراد تولّى أمر موسى بقوّته ، كأنه قال : أقتل موسى لئلّا يبدّل دينكم ، فتولى أمره بنفسه ، فيكون المفعول غير مذكور وركنه هو نفسه القوية. ويحتمل أن يكون المراد بركنه هامان فإنه كان وزيره (٤).

قوله : (ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) «أو» هنا على بابها من الإبهام على السامع أو للشكّ نزّل نفسه مع أنه يعرفه بيّنا حقا منزلة الشاكّ في أمره تمويها على قومه. وقال أبو عبيدة (٥) : «أو» بمعنى الواو ، قال : لأنه قد قالهما (٦) ، قال تعالى : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) [الأعراف : ١٠٩] ، وقال تعالى في موضع آخر : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ)(٧) [الشعراء : ٢٧] ، وتجيء «أو» بمعنى الواو ، كقوله :

٤٥٢٩ ـ أثعلبة الفوارس أو رياحا

عدلت بهم طهيّة والخشابا (٨)

ورد الناس عليه (٩) هذا وقالوا : لا ضرورة تدعو إلى ذلك. وأما الآيتان فلا يدلّان على أنه قالهما معا ، وإنما يفيد أنه قالهما أعم (١٠) من أن يكونا معا أو هذه في وقت وهذه في آخر (١١).

قوله : (وَجُنُودَهُ) يجوز أن يكون معطوفا على مفعول «أخذناه» (١٢) وهو الظاهر ، وأن يكون مفعولا معه. (فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ) أغرقناهم في البحر.

قوله : (وَهُوَ مُلِيمٌ) جملة حالية ، فإن كانت حالا من مفعول «نبذناهم» فالواو لازمة؛

__________________

(١) قاله العكبري في المرجع السابق.

(٢) هذا قول البغوي والخازن في تفسيريهما ٦ / ٢٤٥. وقد قال بذلك كل المفسرين أيضا وانظر : القرطبي ١٧ / ٤٩.

(٣) أي اتخذ وليا.

(٤) قال بهذه المعاني والاحتمالات الإمام الفخر ٢٨ / ٢٢٠.

(٥) وهو قول أبي حيّان في البحر ٨ / ١٤٠.

(٦) في المجاز : لأنهم قد قالوهما جميعا له. وانظر : المجاز ١ / ٢٢٧.

(٧) أقول : ونفس رأي أبي عبيدة هو رأي الفراء والمؤرّج انظر : القرطبي ١٧ / ٥٠.

(٨) من الوافر لجرير ، وطهيّة كسميّة حيّ من تميم نسبوا إلى أمهم والخشاب من تميم أيضا وثعلبة ورياح من يربوع. والمعنى يحتم أن «أو» بمعنى «الواو». وقد تقدم.

(٩) أي على أبي عبيدة ومن حذا حذوه.

(١٠) كذا في أوفي ب أهم بالهاء.

(١١) بالمعنى من البحر ٨ / ١٤٠.

(١٢) وهو الهاء.

٩٣

إذ ليس فيها ذكر يعود على صاحب الحال (١) ، وإن كانت حالا من مفعول «أخذناه» فالواو ليست واجبة ؛ إذ في الجملة ذكر يعود عليه. وقد يقال : إنّ الضمير في «نبذناهم» يعود على (فِرْعَوْنَ) وعلى (جُنُودَهُ) فصار في الحال ذكر يعود على بعض (٢) ما شمله الضمير الأول. وفيه نظر ، إذ يصير نظير قولك : جاء السّلطان وجنوده فأكرمتهم راكبا فرسه ، فتجعل (مُتَراكِباً) حالا من بعض ما اشتمل عليه ضمير «أكرمتهم» (٣).

فصل

ومعنى (مُلِيمٌ) أي أتى بما يلام عليه (٤) من دعوى الربوبيّة وتكذيب الرسول.

قوله تعالى : (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ)(٤٢)

قوله تعالى : (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا) الكلام عليه قد تقدم على نظيره (٥).

واعلم أن المراد بهذه الحكايات تسلية قلب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتذكيره بحال الأنبياء.

فإن قيل : لم لم يذكر في «عاد» و «ثمود» أنبياءهم كما ذكر إبراهيم وموسى ولوطا ـ عليهم الصّلاة والسلام ـ؟!.

فالجواب : أنه ذكر ست حكايات ، حكاية إبراهيم وبشارته وحكاية قوم لوط ونجاة من كان فيها من المؤمنين وحكاية موسى ، ففي هذه الحكايات الثلاث ذكر الرسل والمؤمنين لأن الناجين منهم كانوا كثيرين ، فأما في حق إبراهيم وموسى فظاهر وأما في حق لوط فلأن الناجين وإن كانوا أهل بيت واحد لكن المهلكين أيضا كانوا أهل بقعة واحدة. وأما عاد وثمود وقوم نوح فكان عدد المهلكين بالنسبة إلى الناجين أضعاف المهلكين من قوم لوط عليه الصّلاة والسّلام ؛ فذكر الحكايات الثلاث الأول للتسلية بإهلاك العدو والكل مذكور للتسلية بدليل قوله تعالى في آخر هذه الآيات : (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) [الذاريات : ٥٢] إلى أن قال : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) [الذاريات : ٥٤] وقال في سورة هود بعد الحكايات : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) [هود : ١٠٠] إلى أن قال : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود : ١٠٢].

__________________

(١) وهو «هم» من نبذناهم.

(٢) ففرعون مشتمل في فنبذناهم الجمع.

(٣) ولا مانع من إجازة مثل هذا الأسلوب وإن كان نادرا.

(٤) وهذا معناه اللغوي كما قال الزجاج والفراء في معانيهما. الأول في ٥ / ٥٦ والثاني في ٣ / ٨٧.

(٥) في آية : «وَفِي مُوسى» ويقصد الكلام من ناحية اللفظ والإعراب.

٩٤

قوله : (إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) وهي التي لا خير فيها ولا بركة ، ولا تلقح شجرا ، ولا تحمل مطرا لأنها تكسر وتقلع فكيف تلقح؟! (١).

واعلم أن الفعيل (٢) لا يلحق به تاء التأنيث (إن كان (٣) بمعنى مفعول وكذلك) إذا كان بمعنى فاعل في بعض الصّور (٤). وقد تقدم ذكر سببه ، وهو أن فعيلا (٥) لما جاء للمفعول والفاعل جميعا ولم يتميز المفعول عن الفاعل فأولى أن لا يتميز المؤنث عن المذكر فيه لأنه (لو تميز) (٦) لتميّز (٧) الفاعل عن المفعول قبل تمييز المؤنث والمذكر ، لأن الفاعل جزء من الكلام محتاج إليه ، والمفعول فيه فائدة أكيدة وإن لم يكن جزءا من الكلام محتاجا إليه ، فأول ما يحصل في الفعل الفاعل ثم التذكير والتأنيث يصير كالصفة للفاعل (والمفعول) (٨) تقول : فاعل وفاعلة ، ومفعول ومفعولة ، ويدل على ذلك أيضا أن التمييز بين الفاعل والمفعول جعل بحرف ممازج للكلمة فقيل : فاعل بألف فاصلة بين الفاء والعين التي هي من أصل الكلمة ، وقيل : مفعول بواو فاصلة بين العين واللام والتأنيث كان بحرف في آخر الكلمة ، فالمميز فيهما (٩) غيّر نظم الكلمة لشدّة الحاجة (وفي (١٠) التأنيث) لم يؤثر ، ولأن التمييز في الفاعل والمفعول كان بأمرين يختص كلّ واحد منهما بأحدهما فالألف بعد الفاء يختص بالفاعل ، والميم والواو يختص بالمفعول والتمييز في التذكير والتأنيث بحرف (واحد (١١) عند) وجوده يميز المؤنث وعدمه يبقي اللفظ على أصل التذكير فإذا لم يكن «فعيل» يمتاز فيه الفاعل عن المفعول إلا بأمر منفصل كذلك (المؤنث (١٢) والمذكر لا يمتاز أحدهما عن الآخر إلا بحرف غير متصل به (١٣).

__________________

(١) وانظر في كل هذا تفسير العلامة الرازي ٢٨ / ٢٢١ و ٢٢٢.

(٢) كذا هو الأصح وفي النسختين الفعل وهو تحريف غير مقصود بل يقصد الفعيل وهو العقيم.

(٣) زيادة لا بدّ منها من الرازي والعرف اللّغوي فقد سقطت من النّسختين.

(٤) فعيل يستوي فيه المذكر والمؤنث إذا علم الموصوف ، تقول : امرأة جريح ورجل جريح ، وتلك الصيغة ـ هي وغيرها مما حدده أهل اللغة ـ ليست قياسية. وجعل بعض العلماء فعيلا لكثرتها قياسيا فيما ليس له فعيل بمعنى فاعل ، فإن كان قد ورد من المصدر فعيل بمعنى فاعل كحفيظ وقدير لا يأتي منه فعيل بمعنى مفعول قياسا خوف اللبس (بتصرف من التبيان ٧٠).

(٥) في النسختين فعل. والأصح ما أثبته صرفا ونحوا.

(٦) زيادة من الرازي عن النسختين لتوضيح السياق وبيان مراده.

(٧) في النسختين : لتمييز والصواب ما أثبت من لفظ الفعليّة.

(٨) زيادة من الرازي للسياق.

(٩) أي في فاعل ومفعول.

(١٠) زيادة من الرازي والسياق للتوضيح للمراد.

(١١) كلمة واحد وجدت في ب فقط وكلمة «عند» زيادة على النسختين من الرازي.

(١٢) ما بين القوسين كله سقط من أووجد في ب والرازي.

(١٣) وانظر بالمعنى قليلا تفسير الرازي ٢٨ / ٢٢٢.

٩٥

قوله : (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ) فيه وجهان) :

أحدهما : أنه نصب على أنه صفة للريح بعد صفة (الْعَقِيمَ). قاله الواحدي (١).

فإن قيل : كيف يكون وصفا والمعرف لا يوصف بالجمل؟ و (ما تَذَرُ) جملة فلا يوصف بها النكرات؟!.

فالجواب من وجهين :

الأول : أن يكون بإعادة الريح تقديرا ، كأنه يقول : وأرسلنا عليهم الرّيح العقيم ريحا ما تذر(٢).

الثاني : أنها لما لم تكن معهودة صارت منكّرة كأنه يقول : لم تكن من الرياح التي تقع ولا وقع مثلها ، فهي لشدتها منكرة ، ولهذا أكثر ما ذكرت في القرآن منكّرة ، ووصفت بالجملة كقوله تعالى : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) [الأحقاف : ٢٤] ، وقوله : (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ) [الحاقة : ٦ و ٧] إلى غير ذلك.

الوجه الثاني (٣) : أنه نصب على الحال ، تقول : جاءني ما يفهم شيئا فعلّمته وفهّمته أي حاله كذا.

فإن قيل : لم يكن حال الإرسال ما تذر والحال ينبغي أن يكون موجودا مع ذي الحال وقت الفعل فلا يجوز أن يقال : جاءني زيد أمس راكبا غدا ، والريح بعد ما أرسلت بزمان صارت ما تذر شيئا!

فالجواب : أن المراد بيان الصلاحية أي التي أرسلناها على قوة وصلاحيّة لا تذر ، وتقول لمن جاء وأقام عندك أياما ثم سألك شيئا : جئتني سائلا أي وقت السؤال بالصلاحية والإمكان.

هذا إن قيل : بأنه نصب على المشهور.

ويحتمل أنه رفع على خبر مبتدأ محذوف تقديره هي ما تذر (٤).

فإن قيل : (ما تَذَرُ) لنفي حال المتكلم ؛ يقال : ما خرج (٥) زيد إلى الآن ، وإذا أردت المستقبل تقول : لا يخرج أو لن يخرج. وتقول للماضي : ما خرج ولم يخرج ، والريح

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) وتكون ريحا المقدرة بدل من «الريح» الأولى.

(٣) وهو اختيار الإمام الرازي في تفسيره ٢٨ / ٢٢٢ فإنه رجحه بعد ما ذكر الوجه الأول.

(٤) وهذه الأشياء كلها تخريجات وتأويلات من الإمام الرازي على كلام الواحديّ بأن العقيم صفة للريح ، أقول : وجواب الرازي بالنسبة للوجه الأول يعتبر عرفا من حيث التأويل والتقدير ، أما الثاني ففيه العقلية البحتة الاجتهادية.

(٥) في الرازي : ما يخرج زيد أي الآن.

٩٦

حالة الكلام مع النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كانت ما تركت من شيء إلا جعلته كالرميم فكيف قال بلفظ الحال (١) : ما تذر؟!

فالجواب : أنّ الحكايات مقدرة على أنها محكية حال الوقوع ، كقوله تعالى : (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) [الكهف : ١٨] مع أن اسم الفاعل بمعنى الماضي لا يعمل ، وإنما يعمل ما كان منه بمعنى الحال والاستقبال.

فإن قيل : هل في قوله تعالى : (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ) تخصيص كما في قوله تعالى : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) [الأحقاف : ٢٥].

فالجواب : أن المراد به المبالغة ، لأن قوله : (أَتَتْ عَلَيْهِ) وصف لقوله : (شَيْءٍ) كأنه قال : كلّ شيء أتت عليه ، أو كل شيء تأتي عليه ، ولا يدخل فيه السموات ، لأنها ما أتت عليه (٢) ، وإنما يدخل فيه الأجسام التي تهبّ عليها الرّياح.

فإن قيل : فالجبال والصخور أتت عليه (٣) وما جعلته كالرّميم!.

فالجواب : أن المراد أتت عليه قاصدة له وهو عاد وأبنيتهم وعروشهم لأنها كانت مأمورة بأمر من عند الله فكأنها كانت قاصدة لهم ، فما تركت شيئا من تلك الأشياء إلا جعلته كالرميم(٤).

قوله : (إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) هذه الجملة في موضع المفعول الثاني ل (تَذَرُ) كأنه قيل: ما تترك من شيء إلا مجعولا نحو : ما تركت زيدا إلّا عالما. وأعربها أبو حيان (٥) : حالا. وليس بظاهر.

فصل

المعنى (ما تَذَرُ) ما تترك (مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ) من أنفسهم وأموالهم وأنعامهم (إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) أي كالشيء الهالك البالي ، وهو نبات الأرض إذا يبس وديس. قال مجاهد : كالتّبن اليابس.

وقال أبو العالية : كالتراب المدقوق. وقيل : أصله من العظم البالي (٦).

قوله تعالى : (وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) (٤٥)

قوله تعالى : (وَفِي ثَمُودَ) الكلام فيه كما تقدم في قوله : (وَفِي مُوسى)(٧) ، وقوله :

__________________

(١) كذا في النسختين وفي الرازي الحال.

(٢) في الرازي : عليها.

(٣) وكذلك تلك بلفظ عليها فيه أيضا.

(٤) وانظر : الرازي السابق ٢٨ / ٢٢٢ ، ٢٢٣.

(٥) البحر المحيط ٨ / ١٤١.

(٦) قال بهذه الأقوال البغوي في معالم التنزيل ٦ / ٢٤٦.

(٧) وفي قوله : وفي عاد.

٩٧

(إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ). قال بعض (١) المفسرين : المراد منه هو ما أمهلهم الله بعد عقرهم الناقة وهو ثلاثة أيام (كما) في قوله تعالى : (فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) [هود: ٦٥] وكان في تلك الأيام تغيير ألوانهم فتصفرّ وتحمرّ وتسودّ. قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف ؛ لأن قوله تعالى : (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) بحرف الفاء دليل على أن العتوّ كان بعد قوله : (تَمَتَّعُوا) ، فإذن الظاهر أن المراد هو ما قدر الله للناس من الآجال فما من أحد إلا وهو ممهل مدّة الأجل (٢).

قوله : (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) «عتا» يتعدى تارة «بعلى» ، كقوله تعالى : (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) [مريم : ٦٩] ، وههنا استعمل بعن ؛ لأن فيه معنى الاستكبار كقوله: (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) [الأنبياء : ١٩] وحيث استعمل بعلى ، فهو كقولك : فلان يتكبّر علينا (٣).

قوله : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) وهذه قراءة العامة. وقرأ الكسائي الصّعقة (٤). والحسن الصّاقعة (٥). وتقدم ذكره في البقرة (٦). وقوله : (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) جملة حالية من المفعول. و «ينظرون» قيل : من النّظر. وقيل : من الانتظار أي ينتظرون ما وعدوه من العذاب.

قوله (تعالى) (٧) : (فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ) أي فما قاموا بعد نزول العذاب ولا قدروا على دفعه.

قال قتادة : لم ينهضوا من تلك الصرعة.

وقوله : (مِنْ قِيامٍ) بدل قوله : من هرب ؛ لأن العاجز عن القيام أحرى أن يعجز عن الهرب. ويحتمل أن يكون المراد منه من القيام بالأمر أي ما استطاعوا من قيام به. (وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) أي منتقمين منا. قال قتادة : كان عندهم قوة من الله (٨).

__________________

(١) ذكر تلك الرازي ولم يحدد من قال بذلك ورجعت إلى البغوي والقرطبي والزمخشري والفراء وأبي حيان فوجدتهم قالوا مثل ما قال المؤلف أعلى وانظر : البغوي ٦ / ٢٤٦ والقرطبي ١٧ / ٥١ والكشاف ٤ / ١٩ والفراء ٣ / ٨٨ والبحر ٨ / ١٤١.

(٢) تفسيره ٢٨ / ٢٢٣ و ٢٢٤.

(٣) المرجع السابق.

(٤) شاذة وهي اسم مرة على فعلة. انظر : الجامع للقرطبي ١٧ / ٥١ والبحر المحيط ٨ / ١٤١ وهي نفس قراءة عمر بن الخطاب وابن محيصن وحميد ومجاهد.

(٥) كذا في البحر لأبي حيان السابق وفي ابن خالويه ١٤٥ الصواقع جمعا.

(٦) من الآية ١٩ من سورة «البقرة» :«يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ» والآية ٥٥ منها أيضا :«فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ». وفيها لغتان في الصاعقة التي تنزل وتحرق. وقيل : الصاعقة هي التي تنزل من السماء وتحرق والصعقة بغير ألف الزجرة. وقد روي : الصعقة بغير ألف عن عمر وعثمان. والصاقعة كالصاعقة.

(٧) زيادة من أ.

(٨) وانظر : البغوي ٦ / ٢٤٦ والقرطبي ١٧ / ٥٢.

٩٨

قوله تعالى : (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ)(٤٦)

قوله تعالى : (وَقَوْمَ نُوحٍ) قرأ الأخوان وأبو عمرو بجر الميم (١) ، والباقون بنصبها. وأبو السّمّال وابن مقسم وأبو عمرو في رواية الأصمعيّ : وقوم نوح بالرفع (٢).

فأما الخفض ففيه أربعة أوجه :

أحدها : أنه معطوف على (وَفِي الْأَرْضِ).

(الثاني (٣) : أنه معطوف على (وَفِي مُوسى).

الثالث : أنه معطوف على : (وَفِي عادٍ)).

الرابع : أنه معطوف على (وَفِي ثَمُودَ). وهو (٤) الظاهر ؛ لقربه ، وبعد غيره ، ولم يذكر الزمخشري غيره ، فإنه قال : قرىء بالجرّ على معنى وقوم نوح وتقوّيه قراءة عبد الله : وفي قوم نوح (٥) ؛ أي لكم عبرة. ولم يذكر أبو البقاء غير الوجه الأخير لظهوره.

وأما النصب ففيه ستة أوجه :

أحدها : أنه منصوب بفعل مضمر أي وأهلكنا قوم نوح (٦) ؛ لأن ما قبله يدل عليه.

الثاني : أنه منصوب ب «اذكر» مقدرا ، ولم يذكر الزمخشريّ غيره (٧).

الثالث : أنه منصوب عطفا على مفعول (فَأَخَذْناهُ).

الرابع : أنه معطوف على مفعول فنبذناهم في اليمّ أي أغرقناهم (٨) ، وناسب ذلك أن قوم نوح مغرقون من قبل لكن يشكل أنهم لم يغرقوا في اليمّ. وأصل العطف أن يقتضي التشريك في المتعلقات.

الخامس : أنه معطوف على مفعول (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ)(٩). وفيه إشكال لأنه لم تأخذهم الصاعقة وإنما أهلكوا إلا أن يراد بالصّاعقة الداهية والنازلة العظيمة من أي نوع كانت فيقرب ذلك.

السادس : أنه معطوف على محل : (وَفِي مُوسى)(١٠). نقله أبو البقاء. وهو ضعيف. وأما الرفع فعلى الابتداء والخبر مقدر أي أهلكناهم. وقال أبو البقاء : والخبر ما

__________________

(١) انظر : الكشف ٢ / ٢٨٦ والسبعة ٦٠٩ وحجة ابن خالويه ٣٣٢ وهي متواترة.

(٢) شاذة ذكرها البحر ٨ / ١٤١ ولم تزو في المتواتر عن أبي عمرو.

(٣) ما بين القوسين سقط من أكله.

(٤) التبيان ١١٨٢.

(٥) الكشاف ٤ / ١٩.

(٦) الكشاف السابق والبيان ١١٨٢.

(٧) بل ذكره غيره بتقدير : «أهلكنا». وانظر هذين الوجهين في البحر ٨ / ١٤١.

(٨) قال بهذا الوجه القرطبي في الجامع ١٧ / ٥٢ ، ومكي في المشكل ٢ / ٣٢٥ كما ذكر المرجعان الوجه الثالث قبله.

(٩) المرجعين السابقين.

(١٠) التبيان ١١٨٢ ومشكل الإعراب ٢ / ٣٢٥ وإن كان الظاهر عن مكّيّ الخفض.

٩٩

بعده (١) يعني من قوله : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) ولا يجوز أن يكون مراده قوله (مِنْ قَبْلُ) إذ الظرف ناقص فلا يخبر به.

قوله تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) (٥٣)

قوله : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) العامة على النصب على الاشتغال ، وكذلك قوله : (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها) والتقدير : وبنينا السّماء بنيناها. وقال أبو البقاء : أي ورفعنا السّماء بنيناها (٢) فقدر الناصب من غير لفظ الظاهر. وهذا إنما يصار إليه عند تعذر التقدير الموافق لفظا نحو : زيد مررت به ، وزيد ضربت غلامه وأما في نحو : زيدا ضربته ، فلا يقدر إلا ضربت زيدا.

وقرأ أبو السّمّال وابن مقسم برفعهما (٣) ؛ على الابتداء ، والخبر ما بعدهما. والنصب أرجح لعطف جملة الاشتغال على جملة فعلية قبلها.

قوله : (بِأَيْدٍ) يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال وفيها وجهان :

أحدهما : أنها حال من فاعل (بَنَيْناها) أي ملتبسين بأيد (٤) أي بقوة ؛ قال تعالى : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) [ص : ١٧].

الثاني : أنه حال من مفعوله أي ملتبسة بقوة. ويجوز أن تكون الباء للسبب أي بسبب قدرتنا. ويجوز أن تكون الباء معدّية مجازا على أن تجعل الأيدي كالآلة المبنيّ بها ، كقولك : بنيت بيتك بالآجرّ.

قوله : (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) يجوز أن تكون الجملة حالا من فاعل (بَنَيْناها). ويجوز أن تكون حالا من مفعوله ومفعول «موسعون» محذوف أي موسعون بناءها. ويجوز أن لا يقدر له مفعول ؛ لأن معناه : لقادرون كقولك : ما في وسعي كذا أي ما في طاقتي وقوّتي ؛ كقوله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] قاله ابن عبّاس وعنه أيضا : لموسعون الرزق على خلقنا.

وقيل : ذو سعة. وقال الضحاك : أغنياء ، دليله قوله تعالى : (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ)(٥) [البقرة : ٢٣٦].

__________________

(١) قال : أو على تقدير : أهلكوا. وانظر التبيان السابق.

(٢) السابق أيضا.

(٣) وهي شاذة انظر البحر المحيط ٨ / ١٤٢.

(٤) والفاعل هو «نا» من لفظ «بنيناها».

(٥) وانظر : البغوي ٦ / ٢٤٦.

١٠٠