اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٨٤

ثم قال : (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) والمعنى أنه تعالى لما ذكر انتقال الأجسام من كونها ترابا إلى أن بلغت الشيخوخة ، واستدل بهذه التغييرات على وجود الإله القادر قال بهده : (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي كما أن الانتقال من صفة إلى صفة أخرى من الصّفات المتقدمة يدل على الإله القادر فكذلك الانتقال من الحياة إلى الموت وبالعكس ، يدل على الإله القادر.

(و) (١) قوله : (فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فيه وجوه :

الأول : معناه أنه لم ينقل هذه الأجسام من صفة إلى صفة أخرى بآلة تعينه إنما يقول له كن فيكون.

الثاني : أنه عبر عن الإحياء والإماتة بقوله : (كُنْ فَيَكُونُ) فكأنه قيل : الانتقال من كونه ترابا إلى كونه نطفة إلى كونه علقة انتقالات تحصل على التدريج قليلا قليلا. وأما صيرورته حيّا فهي إنما تحصل بتعليق جوهر الرّوح ، وذلك يحدث دفعة واحدة فلهذا عبر عنه بقوله : (كُنْ فَيَكُونُ).

الثالث : أنّ من الناس من يقول : إن الإنسان إنما يتكون من المني والدّم في الرحم في مدة معينة بحسب الانتقالات من حال إلى حال ، فكأنه قيل : إنه (٢) يمتنع أن يكون (٣) كل إنسان عن إنسان آخر ؛ لأن التسلسل محال ، ووقوع الحادث في الأزل محال فلا بد من الاعتراف بإنسان هو الناس وحينئذ يكون حدوث ذلك الإنسان لا بواسطة المني والدم بل بإيجاد الله تعالى ، ابتداء ، فعبر الله تعالى عن هذا المعنى بقوله : (كُنْ فَيَكُونُ).

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)(٧٦)

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ ...) الآيات. اعلم أنه تعالى عاد إلى ذمّ الذين يجادلون في آيات الله ، أي في إنكار آيات الله ودفعها والتكذيب بها ، فعجّب تعالى منهم بقوله : (أَنَّى يُصْرَفُونَ)؟ كيف صرفوا عن دين الحق وهذا كما

__________________

(١) زيادة من ب.

(٢) تصحيح من الرازي عن النسختين ففيهما : له.

(٣) كذا في الرازي ، وفي ب يقول. وانظر تفسير الإمام الرازي ٢٧ / ٨٦ ، ٨٧.

٨١

يقول الرجل لمن لا يسمع نصحه : إلى أين يذهب بك؟! تعجبا من غفلته (١).

قوله : (الَّذِينَ كَذَّبُوا) ، يجوز فيه أوجه ، أن يكون بدلا من الموصول قبله ، أو بيانا له أو نعتا أو خبر مبتدأ محذوف ، أو منصوبا على الذم ، وعلى هذه الأوجه ، فقوله : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) جملة مستأنفة ، سيقت للتهديد.

ويجوز أن يكون مبتدأ والخبر الجملة من قوله : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(٢) ودخول الفاء فيه واضح (٣).

فصل

المعنى هم الذين كذبوا بالكتاب أي بالقرآن وبما أرسلنا به رسلنا من سائر الكتب ؛ قيل : هم المشركون. وعن محمد بن سيرين (٤) وجماعة : أنها نزلت في القدريّة (٥).

قوله : (إِذِ الْأَغْلالُ) فيه سؤال ، وهو أن «سوف» للاستقبال ، و «إذ» للماضي ، فقوله : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) مثل قولك : سوف أصوم أمس ، والجواب : جوزوا في «إذ» هذه أن تكون بمعنى «إذا» ؛ لأن العامل فيها محقق الاستقبال وهو فسوف يعلمون.

قالوا : وكما تقع «إذا» موضع إذ في قوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) كذلك تقع إذ موقعها.

وقد مضى نحو من هذا في البقرة عند قوله تعالى : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ) [البقرة : ١٦٥] قالوا : والذي حسن هذا تيقن وقوع الفعل ، فأخرج في صورة الماضي (٦).

قال شهاب الدين : ولا حاجة إلى إخراج «إذ» عن موضوعها ؛ بل هي باقية على دلالتها على المعنى ، وهي منصوبة بقوله : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) نصب المفعول به ، أي فسوف يعلمون يوم القيامة وقت الأغلال في أعناقهم أي وقت سبب الأغلال ، وهي المعاصي التي كانوا يفعلونها في الدنيا ، كأنه قيل : سيعرفون وقت معاصيهم التي تجعل الأغلال في أعناقهم وهو وجه واضح غاية ما فيه التصرف في إذ يجعلها. وهو وجه واضح غاية ما فيه التصرف في إذ يجعلها مفعولا بها (٧). ولا يضر ذلك ، فإن المعربين

__________________

(١) السابق.

(٢) قال بهذه الإعرابات أبو حيان في البحر ٧ / ٤٧٣ والسمين في الدر المصون ٤ / ٧٠٦.

(٣) فالفاء هنا رابطة للجواب حيث اقترنت بحرف استقبال ، ويجوز أن تكون للسببية.

(٤) هو محمد بن سيرين الأنصاري مولاهم أبو بكر البصري إمام وقته عن مولاه أنس ، وزيد بن ثابت ، وعنه الشعبيّ ، وثابت وقتادة وأيوب ، وابن دينار. مات سنة ١١٠ ه‍. وانظر خلاصة الكمال ٣٤٠.

(٥) البغوي ٦ / ١٠٢.

(٦) البحر المحيط ٧ / ٤٧٤ والكشاف ٣ / ٤٣٦ ، والتبيان ١٠٢٢ ، ١٣٥.

(٧) كذا في الدر المصون والأقرب مفعولا به.

٨٢

غالب أوقاتهم يقولون : منصوب «باذكر» مقدّرا ، أو لا يكون حينئذ إلا مفعولا به لاستحالة عمل المستقبل في الزمن الماضي.

وجوزوا أن يكون منصوبا باذكر مقدرا ، أي اذكر لهم وقت الإغلال ؛ ليخافوا وينزجروا ، فهذه ثلاثة أوجه خيرها أوسطها (١).

قوله : (وَالسَّلاسِلُ) العامة على رفعها ، وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه معطوف على الأغلال. وأخبر عن النوعين بالجار ، فالجال في نية التأخير والتقدير : إذ الأغلال والسّلاسل في أعناقهم (٢).

الثاني : أنه مبتدأ ، والخبر محذوف لدلالة خبر الأول عليه (٣).

الثالث : أنه مبتدأ أيضا ، وخبره الجملة (٤) من قوله : «يسحبون» ولا بدّ من ذكر ضمير يعود عليه منها ، والتقدير : والسلاسل يسحبون بها ، حذف لقوّة الدّلالة عليه.

«فيسحبون» مرفوع المحل على هذا الوجه. وأما في الوجهين المتقدمين فيجوز فيه النصب على الحال من المضير المنويّ في الجار ، ويجوز أن يكون مستأنفا (٥).

وقرأ ابن عبّاس وابن مسعود وزيد بن عليّ وابن وثّاب ، والحسن في اختياره (وَالسَّلاسِلُ) نصبا ـ يسحبون بفتح الياء (٦) ، مبنيا للفاعل ، فيكون السلاسل مفعولا مقدما ، ويكون قد عطف جملة فعلية على جملة اسمية (٧).

قال ابن عباس في معنى هذه القراءة : إذا كانوا يجرّونها فهو أشد عليهم يكلفون ذلك ولا يطيقونه (٨).

وقرأ ابن عباس وجماعة «والسّلاسل» بالجر (٩) يسحبون مبنيا للمفعول وفيها ثلاثة تأويلات :

أحدها : الحمل على المعنى وتقديره إذ أعناقهم في الأغلال والسلاسل فلما كان

__________________

(١) قاله الإمام شهاب الدين في الدر المصون ٤ / ٧٠٧.

(٢) قاله ابن الأنباري في البيان ٢ / ٣٣٤ والسمين في الدر ٤ / ٧٠٧ والزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٣٧٨ ، وأبو البقاء في التبيان ١٠٢٢ والنحّاس في الإعراب ٤ / ٤٢.

(٣) قاله العكبري في تبيانه السابق ١٠٢٢ وكذلك السمين في الدر.

(٤) البيان لابن الأنباري المرجع السابق قال : «ومنهم من وقف على أعناقهم وابتدأ : والسلاسل يسحبون في الجحيم».

(٥) التبيان لأبي البقاء والدر المصون للسمين المرجعين السابقين.

(٦) من الشاذات غير المتواترات ذكرها الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٣٦ وأبو الفتح في المحتسب ٢ / ٢٤٢ وابن خالويه في المختصر ٢٣٣.

(٧) الكشاف السابق.

(٨) القرطبي ١٥ / ٣٣٢ والبحر المحيط ٧ / ٤٧٥.

(٩) البحر والكشاف السابقين.

٨٣

معنى الكلام على ذلك حمل عليه في العطف (١).

قال الزمخشري : ووجهه أنه لو قيل : «إذ أعناقهم في الأغلال مكان قوله : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) لكان صحيحا مستقيما ، فلما كانتا عبارتين معتقبتين (٢) ، حمل قوله : «والسلاسل» (عليه) على العبارة الأخرى (٣). ونظيره :

٤٣٤٧ ـ مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة

ولا ناعب إلّا ببين غرابها (٤)

كأنه قيل : بمصلحين.

وقرىء : بالسّلاسل (٥). وقال ابن عطية : تقديره : إذا أعناقهم في الأغلال والسلاسل فعطف على المراد من الكلام لا على ترتيب اللفظ ؛ إذ ترتيبه فيه قلب ، وهو على حد قول العرب: أدخلت القلنسوة في رأسي (٦).

وفي مصحف أبيّ : وفي السلاسل يسحبونها. قال أبو حيان بعد قول ابن عطية والزمخشري المتقدم : ويسمى هذا العطف على التوهم ، إلا أن قولهم : إدخال حرف الجر على مصلحين أقرب من تغيير تركيب الجملة بأسرها ، والقراءة من تغيير تركيب الجملة السابقة بأسرها (٧) ، ونظير ذلك قوله :

٤٣٤٨ ـ أجدّك لن ترى بثعيلبات

ولا بيداء ناجية ذمولا

ولا متدارك واللّيل طفل

ببعض نواشغ الوادي حصولا (٨)

التقدير : لست براء ولا بمتدارك.

__________________

(١) وهو ما يسمى بالعطف على المعنى مع القرآن تأدبا ومع غيره بالعطف على التوهم.

(٢) في الكشاف متعقبتين.

(٣) الكشاف ٣ / ٤٣٦.

(٤) من الأبيات المشهورة في شواهد النحو وهو من الطويل ، ونسبه سيبويه في الكتاب إلى الأحوص الرّياحيّ مرة ، وإلى الفرزدق مرة أخرى ، وشاهده : عطف ولا ناعب ـ بالجر ـ على توهم دخول الباء في خبر ليس كأنه قيل : بمصلحين ، والباء تدخل في خب ر «ليس وما» كثيرا ، وهو ما يسمى بالعطف على التوهم. وانظر الكتاب ١ / ١٦٥ ، ٣٠٦ ، ٣ / ٢٩ ، والخصائص ٢ / ٣٥٤ ، والإنصاف ١٩٣ ، ٣٩٥ ، وابن يعيش ٧ / ٥٧ ، ٨ / ٦٩ والرضي على الكافية ٢ / ٢٦٩ ، والخزانة ٢ / ١٥٨ ، والكشاف ٣ / ٤٣٦ ، والمغني ٥٥٣ والأشموني ٢ / ٢٣٥ ، والبحر المحيط ٧ / ٤٧٥ ، والإفصاح ١٥٩ ، والدر المصون ٤ / ٧٠٨.

(٥) هي قراءة شاذة لم ينسبها جار الله الزمخشري وكذلك السمين إلى من قرأ بها. انظر الكشاف ٣ / ٤٣٦ ، والدر المصون ٤ / ٧٠٨.

(٦) البحر المحيط ٧ / ٤٧٥ وهو رأي وجيه.

(٧) وأبو حيان في هذا يرد على ابن عطية مفضلا إطلاق عطف التوهم في القرآن عن قلب الكلام كما قال ابن عطية بذلك.

(٨) من تمام الوافر ، للمرّار الفقعسي ، وقد تقدم.

٨٤

وهذا الذي قالاه سبقهما إليه الفرّاء فإنه قال : «من جر السلاسل حمله على المعنى» (١) ، إذ المعنى أعناقهم في الأغلال والسلاسل.

الوجه الثاني : أنه عطف على «الحميم» (٢) ، فقدم على المعطوف عليه وسيأتي تقرير ذلك.

الثالث : أن الجر على تقدير إضمار الخافض ، ويؤيده قراءة أبيّ : «وفي السّلاسل» وقرأ غيره : وبالسّلاسل وإلى هذا نحا الزجاج (٣) ، إلّا أنّ ابن الأنباريّ (٤) ردّه وقال : لو قلت : «زيد في الدار» لم يحسن أن تضمر «في» فتقول : زيد (في (٥)) الدار ثم ذكر تأويل الفراء وخرج القراءة عليه. ثم قال : كما تقول : «خاصم عبد الله زيدا العاقلين» ، بنصب «العاقلين» ورفعه (٦) ؛ لأن أحدهما إذا خاصم صاحبه فقد خاصمه الآخر (٧). وهذه المسألة ليست جارية على أصول البصريين ، ونصّوا على منعها وإنما قال بها من الكوفيين ابن (س) (٨) عدان.

وقال مكيّ : وقد قرىء : والسّلاسل بالخفض على العطف على الأعناق ، وهو غلط ؛ لأنه يصير الأغلال في الأعناق وفي السلاسل ولا معنى للأغلال في السّلاسل (٩).

قال شهاب الدين : وقوله : على العطف على الأعناق ممنوع بل خفضه على ما تقدم (١٠). وقال أيضا : وقيل : هو معطوف على «الحميم» وهو أيضا لا يجوز ؛ لأن المعطوف المخفوض ، لا يتقدم على المعطوف عليه لو قلت : «مررت وزيد بعمرو» لم يجز ، وفي المرفوع يجوز ، نحو : قام وزيد عمرو ، ويبعد في المنصوب لا يحسن رأيت وزيدا عمرا ، ولم يجزه في المخفوض أحد (١١).

قال شهاب الدين : وظاهر كلامه أنه يجوز في المرفوع منعه (١٢) ، وقد نصوا على أنه لا يجوز إلا ضرورة بثلاثة شروط :

__________________

(١) معاني الفراء ٣ / ١١.

(٢) الدر المصون ٤ / ٧٠٨.

(٣) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٣٧٨.

(٤) يبدو أنه ابن الأنباري الكوفي أبو بكر العالم الكبير الذي تبحر في علوم جمة ، وكان من أعلم الناس وأفضلهم في نحو الكوفيين. من مؤلفاته الأضداد وغيرها مات سنة ٣٣٦ وانظر نزهة الألباء ١٧٨ ـ ١٨٦.

(٥) سقط حرف (في) في القرطبي وهو المناسب للسياق.

(٦) في القرطبي ويجوز رفعهما.

(٧) وانظر القرطبي ١٥ / ٣٣٢ والبحر المحيط ٧ / ٤٧٥ ، والدر المصون ٤ / ٧٠٩.

(٨) زيادة عن النسختين وتصحيح لهما ففيهما ابن معدان ولكن الأصح أنه ابن سعدان أبو جعفر الضرير كان من أكابر الكوفيين ، محمد بن سعدان ، نشأ بالكوفة ، وأخذ عن أبي معاوية الضرير ، وغيره ، مات سنة ٢٣١ ه‍ وانظر إنباه الرواة للقفطي ٢ / ٣٥٨ ، ٣ / ١٠٢.

(٩) مشكل إعراب القرآن ٢ / ٢٦٨.

(١٠) الدر المصون ٤ / ٧٠٩.

(١١) مشكل الإعراب المرجع السابق.

(١٢) كذا في النسختين وفي الدر المصون له «يبعد» بدل «منعه».

٨٥

أن لا يقع حرف العطف صدرا ، وأن يكون العامل متصرفا ، وأن لا يكون المعطوف عليه مجرورا (١) وأنشدوا :

٤٣٤٩ ـ .........

عليك ورحمة الله السّلام (٢)

إلى غير ذلك من الشواهد مع تنصيصهم على أنه مختص (٣) بالضرورة. و «السّلاسل» معروفة ، قال الراغب : «وتسلسل الشيء اضطرب كأنه تصوّر منه تسلسل متردد فتردد لفظه تنبيها على تردد معناه. وماء سلسل متردد في مقره» (٤).

والسّحب : الجر بعنف ، والسّحاب من ذلك ؛ لأن الريح تجرّه ، أو لأنه يجر الماء (٥) ، وسجرت التّنّور أي ملأته نارا وهيجتها ، ومنه البحر المسجور ، أي المملوء ، وقيل : المضطرم نارا(٦) ، وقال الشاعر (ـ رحمة الله عليه ـ (٧)) :

٤٣٥٠ ـ إذا شاء طالع مسجورة

ترى حولها النّبع والشّوحطا (٨)

فمعنى قوله تعالى هنا : (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) أي يوقد بهم ، كقوله تعالى : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [التحريم : ٦] والسّجير : الخليل الذي يسجر في مودّة خليله ، كقولهم : فلان يحترق في مودّة فلان (٩).

__________________

(١) المرجع السابق وقد قال ابن الأنباري في البيان : «وقد يجيء التقديم للضرورة قليلا في المرفوع وفي المنصوب أقل منه ، ولم يجىء ذلك في المجرور ولم يجزه أحد البتة» البيان ٢ / ٣٣٤.

(٢) من تمام الوافر وينسب للأحوص ، وصدره :

ألا يا نخلة من ذات عرق

 .........

و «ذات عرق» : مكان بين نجد وتهامة ، والنخلة يكنى بها عن المرأة. وشاهده : تقديم المعطوف (رحمة الله) على المعطوف عليه (السلام) للضرورة الشعرية وينسب هذا للكوفيين ويروى الشطر الثاني :

برود الظلّ شاعكم السّلام

وعلى ذلك فلا شاهد حينئذ.

وانظر الخصائص ٢ / ٣٨٦ ، والخزانة ١ / ٣٩٩ ـ ٤٠١ والتصريح ١ / ٣٤٤ ، ٣٧٦ ومجالس ثعلب ٢٣٩ والرضي ٢ / ٩٣ ، والهمع ١ / ١٧٣ ، ٢٢٠ ، ٢ / ١٣٠ ، ١٤٠ ، وأمالي الزجاجي ٨١ ، والمغني ٧ / ٣٥ ، ٦٥٩ ، وشرح شواهده للسيوطي ٧٧٧ والدر المصون ٧١٠ / ٤.

(٣) انظر السيوطي في همعه ٢ / ١٤٠ ، ١٤١.

(٤) نقله في المفردات ٢٣٧.

(٥) السابق.

(٦) اللسان سحر ١٩٤٢.

(٧) ما بين القوسين زيادة من أ.

(٨) من المتقارب وقائله النمر بن تولب ، وصواب القافية كما في المرجع السابق : السّاسما. والمسجورة : الروضة المملوءة عشبا. والنّبع والسّاسم من شجر الجبال. والشّوحط : نوع من التبغ والاستشهاد بالبيت على أنّ المسجورة المملوءة وانظر ابن يعيش ٨ / ١٠٢ ، ومجاز القرآن ٢ / ٢٣٠ ، ٣١ ، والدر المصون ٤ / ٧١٠ وغريب القرآن ٤٢٣ ، ٤٢٤.

(٩) انظر اللسان السابق والدر المصون ٤ / ٧١٠.

٨٦

فصل

هذه كيفية عقابهم ، والمعنى أنه يكون في أعناقهم أغلال وسلاسل ثم يسحبون بتلك السلاسل في الماء المسخّن بنار جهنم ، ثم توقد بهم النار (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يعني الأصنام (قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) أي فقدناهم وغابوا عن عيوننا فلا نراهم ، ثم قالوا : (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) أنكروا ، كقولهم في سورة الأنعام : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] وقيل : معناه لم نكن ندعو من قبل شيئا يضر وينفع. وقال الحسين بن الفضل (١) : أي لم نكن نصنع من قبل شيئا أي ضاعت عبادتنا لها كما يقول من ضاع عمله : «ما كنت أعمل شيئا» (٢).

ثم قال تعالى : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) قال القاضي : معناه أنه يضلّهم عن طريق الجنة ، ولا يجوز أن يقال : يضلهم عن الحجة ، وقد هداهم في الدنيا ، وقال (يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلهم عن آلهتهم حتى أنهم لو طلبوا الآلهة ، أو طلبتهم الآلهة لم يجد أحدهما الآخر (٣).

قوله تعالى : (بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ) أي ذلك العذاب الذي نزل بكم (بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ) تبطرون وتأشرون (فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) تفرحون وتختالون (٤). وقيل (٥) : تفرحون وتمرحون من باب التجنيس المحرف ، وهو أن يقع الفرق بين اللفظين بحرف(٦).

قوله : (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) أي السبعة المقسومة لكم (خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) المخصوص بالذم محذوف ؛ أي جهنم أو مثواكم ، ولم يقل : فبئس مدخل ؛ لأن الدخول لا يدوم وإنما يدوم الثّواء ، فلذلك خصه بالذم ، وإن كان أيضا مذموما (٧).

قوله تعالى : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها

__________________

(١) هو الحسين بن الفضل بن عمير البجلي الكوفي ثم النيسابوري أبو علي المفسر ، الأديب ، إمام عصره في معاني القرآن سمع يزيد بن هارون وغيره وروى عنه محمد بن صالح وآخرون ، مات سنة ٢٨٢ ه‍ ينظر طبقات المفسرين للداودي ١ / ١٥٩ ، ١٦٠.

(٢) نقله البغوي ٦ / ١٠٣.

(٣) الرازي ٢٧ / ٨٧ ، ٨٨.

(٤) البغوي في المرجع السابق.

(٥) في ب : وقوله.

(٦) انظر بغية الإيضاح ٨٠ ، والإيضاح ٢٧٢ ، والمثل السائر ١٠١.

(٧) قاله السمين في الدر ٤ / ٧١١.

٨٧

وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ)(٨١)

قوله تعالى : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) لما زيّف طريقة المجادلين في آيات الله تعالى أمر في هذه الآية رسوله بأن يصبر على أذاهم بسبب جدالهم ، ثم قال : (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ). والمراد ما وعد الرسول نصرته ، ومن إنزال العذاب على أعدائه.

قوله : (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) قال الزمخشري : أصله : فإن نرك و «ما» مزيدة لتأكيد معنى الشرط ، ولذلك ألحقت النون بالفعل ، ألا تراك تقول : «إن تكرمنّي أكرمك ، ولكن إمّا تكرمنّي أكرمك» (١) قال أبو حيان : «وما ذكره (٢) من تلازم النون ، وما الزائدة ، ليس مذهب سيبويه ، إنما هو مذهب المبرد (٣) ، والزجاج (٤).

ونص سيبويه (٥) على التخيير ، وقد تقدمت هذه القواعد مستوفاة.

قوله : (فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) ليس جوابا للشرط الأول ، بل جوابا لما عطف عليه. وجواب الأول محذوف. (قال الزمخشري (٦) : «فإلينا» متعلق بقوله «نتوفّينّك» وجواب نرينك محذوف) تقديره : فإن نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب والقتل يوم بدر ، فذاك ؛ وإن «نتوفّينّك» قبل يوم بدر (فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) فننتقم منهم أشدّ الانتقام (٧). وقد تقدم مثل هذا في سورة يونس (٨). وبحث أبي حيّان معه.

وقال أبو حيان ههنا : وقال بعضهم (٩) : جواب «إما نرينك» محذوف ؛ لدلالة

__________________

(١) الكشاف ٣ / ٤٣٧.

(٢) بالمعنى في البحر المحيط ٧ / ٤٧٧.

(٣) لم أجد في المقتضب ما يخالف فيه المبرد سيبويه في هذه المسألة ، وكما أفهم بذلك محقق هذا الكتاب وقد قال في الكامل : «فتقول : إن تأتني آتك ، وإمّا تأتنّي آتك ..» الكامل ١ / ٢٨٩ ، وانظر المقتضب أيضا ٣ / ١٣ ، ١٤ ، ١٩.

(٤) ذكره السيوطي في الهمع ٢ / ٧٨ ، وقد قال الزجاج في معاني القرآن ١ / ٨٦ : «وإعراب إما في هذا الموضع إعراب حرف الشرط والجزاء ، إلا أن الجزاء إذا جاء في الفعل معه النون الثقيلة ، أو الخفيفة لزمتها ما». معاني القرآن له ٨٦١.

(٥) قال في الكتاب : «ومن مواضعها ـ أي النون ـ حرف الجزاء ، إذا وقعت بينها وبين الفعل «ما» للتوكيد وذلك لأنهم شبهوا «ما» باللام التي في لتفعلنّ لما وقع التوكيد قبل الفعل ألزموا النون آخره كما ألزموا هذه اللام وإن شئت لم تفخم النون ، كما أنك إن شئت لم تجىء بها» الكتاب ٣ / ٥١٤ ، ٥١٥.

(٦) ما بين القوسين سقط من أالأصل.

(٧) بالمعنى من الكشاف ٣ / ٤٣٨ قال : قلت : فإلينا يرجعون متعلق ب «نتوفينك» وجزاء «نرينّك» محذوف ... الخ.

(٨) يقصد الآية ٤٦ «وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ».

(٩) لعله الطبري فما في جامع البيان موافق لما نقله في البحر. انظر البحر ٧ / ٤٧٧ وجامع البيان للإمام ابن جرير الطبري ٢٥ / ٥٦.

٨٨

المعنى عليه أي فتقرّ عينك ، ولا يصح أن يكون (فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) جوابا للمعطوف عليه والمعطوف ، لأن تركي ب «فإما نرينك بعض الذي نعدهم في حياتك فإلينا يرجعون» ليس بظاهر ، وهو يصحّ أن يكون جواب (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) أي فإلينا يرجعون فننتقم منهم ونعذبهم ، لكونهم لم يتّبعوك (١).

ونظير هذه الآية قوله تعالى : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) [الزخرف : ٤١ و ٤٢]. إلا أنه هنا صرح بجواب الشرط ، قال شهاب الدين : وهذا (٢) بعينه هو قول الزمخشري (٣). وقرأ السّلميّ ويعقوب : يرجعون بفتح ياء الغيبة مبنيا للفاعل ، وابن مصرف ويعقوب أيضا بفتح الخطاب (٤).

قول : (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا) يجوز أن يكون «منهم» صفة «لرسلا» فيكون (مَنْ قَصَصْنا) فاعلا لاعتماده ويجوز أن يكون خبرا مقدما ، و «من» مبتدأ مؤخر.

ثم في الجملة وجهان :

أحدهما : الوصف «لرسلا» وهو الظاهر.

والثاني : الاستئناف (٥).

فصل

معنى الآية قال لمحمد (ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٦) ـ) ، أنت كالرسل من قبلك وقد ذكرنا حال بعضهم لك ولم نذكر حال الباقين وليس فيهم أحد أعطاه الله آيات ومعجزات ، إلا وقد جادله قومه فيها وكذّبوه فصبروا ، وكانوا أبدا يقترحون على الأنبياء إظهار المعجزات الزائدة على الحاجة عنادا وعبثا ، «وما كان لرسول أن يأتي بآية إلّا بإذن الله» ، والله تعالى علم الصلاح في إظهار ما أظهروه ، فلم يقدح ذلك في نبوّتهم ، فكذلك الحال في اقتراح قومك عليك المعجزات الزائدة لما لم يكن إظهارها صلاحا لا جرم ما أظهرناها (٧).

ثم قال : (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ) أي فإذا جاء قضاء الله بين الأنبياء والأمم قضي بالحق (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) وهم المعاندون الذين يجادلون في آيات الله فيقترحون المعجزات الزائدة على قدر الحاجة تعنتا وعبثا.

قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ ...) الآية. لما ذكر الوعيد عاد إلى ذكر

__________________

(١) البحر المحيط السابق.

(٢) الدر المصون ٤ / ٧١٢.

(٣) وأبو حيان قد نقل هذا القول أيضا في بحره السابق وانظر الكشاف ٣ / ٤٣٨.

(٤) لم أجد هاتين القراءتين في المتواتر ، فقد نقل الأولى صاحب الإتحاف ٣٨٠ فهي من الأربع فوق العشر ونقل الاثنتين أبو حيان في البحر ٧ / ٤٧٧.

(٥) ذكر هذه الإعرابات العكبري في التبيان ١١٢٢ والسمين في الدر ٤ / ٧١٢.

(٦) زيادة من أ.

(٧) الرازي ٢٧ / ٨٨ ، ٨٩.

٨٩

ما يدل على وجود الإله القادر الحكيم ، وإلى ذكر ما يصلح أن يعد إنعاما على العباد. قال الزجاج : «الأنعام الإبل (١) (خاصة)» ، وقال القاضي : هي الأزواج الثمانية (٢). قوله : «منها ... ومنها».

«من» الأولى يجوز أن تكون للتّبعيض (٣) ، إذ ليس كلّها تركب ، ويجوز أن تكون لابتداء الغاية إذ المراد بالأنعام شيء خاصّ هي الإبل ، قال الزجاج : «لأنه لم يعهد المركوب غيرها»(٤).

وأما الثانية فكالأولى. وقال ابن عطية : هي لبيان الجنس قال : لأن الخيل منها ولا تؤكل(٥).

فإن قيل : ما السّبب في إدخال لام العوض على قوله : «لتركبوا» وعلى قوله : «لتبلغوا» ولم يدخل على البواقي؟.

فالجواب : قال الزمخشري : الركوب في الحج والغزو إما أن يكون واجبا أو مندوبا ، وأيضا ركوبها لأجل حاجتهم ، وهي الانتقال من بلد إلى بلد آخر لطلب علم أو إقامة دين يكون إما واجبا أو مندوبا فهذان القسمان أغراض دينية ، فلا جرم أدخل عليها حرف التعليل نظيره قوله تعالى : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) فأدخل حرف التعليل على «الرّكوب» ولم يدخله على الزّينة (٦).

قوله (لِتَرْكَبُوا مِنْها) أي بعضها (وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) أي في أصوافها وأوبارها وأشعارها وألبانها (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) لحمل أثقالكم من بلد إلى بلد. قوله : (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) أي على الإبل في البرّ ، وعلى السفن في البحر.

فإن قيل : لم لم يقل : في الفلك ، كما قال : (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ)؟.

فالجواب : كلمة على للاستعلاء ، فالشيء الذي يوضع على الفلك كما صح أن يقال : وضع فيه صح أن يقال : وضع عليه ولما صح الوجهان كانت لفظة «على» أولى حتى يتم المزاوجة في قوله : (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ)(٧).

__________________

(١) معاني القرآن وإعرابه له ٤ / ٣٧٨.

(٢) الرازي ٢٧ / ٨٩.

(٣) ذكره أبو حيان في البحر المحيط ٧ / ٤٧٨.

(٤) لم أجد في معاني القرآن له هذا ، بل نقله عنه القرطبي في الجامع ١٥ / ٣٣٣٥ وأبو حيان في البحر ٧ / ٤٧٨.

(٥) البحر المحيط المرجع السابق وفيه أيض ا «لأن الجمل منها يؤكل».

(٦) المعنى من الكشاف لجار الله الزمخشري ٣ / ٤٣٨ ، ٤٣٩ ، وباللفظ من تفسير الإمام الرازي ٢٧ / ٨٩ والآية ٨ من النحل.

(٧) الزمخشري في الكشاف المرجع السابق والرازي السابق أيضا. والآية ٤٠ من هود.

٩٠

وقال بعضهم (١) : إن لفظة «في» هناك أليق ؛ لأن سفينة نوح على ما قيل كانت مطبقة عليهم وهي محيطة بهم كالوعاء ، وأما غيرها فالاستعلاء فيه واضح ، لأن الناس على ظهرها.

قوله : (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) دلائل قدرته ، وقوله : (فَأَيَّ آياتِ اللهِ) منصوب ب «تنكرون» وقدم وجوبا لأن له صدر الكلام. قال مكيّ : ولو كان مع الفعل هاء لكان الاختيار الرفع في أي بخلاف ألف الاستفهام تدخل على الاسم ، وبعدها فعل واقع على ضمير الاسم فالاختيار (٢) النصب نحو قولك : أزيدا ضربته ، هذا مذهب سيبويه فرق بين الألف وبين (٣) «أي» يعني أنك إذا قلت : أيّهم ضربت؟ كان الاختيار الرفع ؛ لأنه لا يحوج إلى إضمار مع أن الاستفهام موجود وفي : «أزيدا ضربته» يختار النصب لأجل الاستفهام فكان مقتضاه اختيار النصب أيضا فيما إذا كان الاستفهام بنفس الاسم ، والفرق عسر (٤).

وقال الزمخشري : (فَأَيَّ آياتِ) جاءت على اللغة المستفيضة وقولك : فأية آيات الله قليلة ؛ لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات ، نحو : حمار ، وحمارة غريب ، وهو في أي أغرب (لإبهامه (٥)) قال أبو حيان (رحمة (٦) الله عليه) : ومن قلة تأنيث أيّ قوله :

٤٣٥١ ـ بأيّ كتاب أم بأيّة سنّة

ترى حبّهم عارا عليّ وتحسب (٧)

وقوله : وهو في «أي» أغرب إن عنى «أيّا» على الإطلاق فليس بصحيح ؛ لأن المستفيض في النّداء أن يؤنث في نداء المؤنث كقوله تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) [الفجر : ٢٧] ولا نعلم أحدا ذكر تذكيرها فيه فيقول : يأيّها المرأة ، إلا صاحب (٨) البديع في النّحو. وإن

__________________

(١) هو السمين في الدر المصون ٤ / ٧١٢ قال : «ويظهر أن في هناك أليق .... الخ».

(٢) في المشكل : «هذا يختار فيها».

(٣) نقله في مشكل إعراب القرآن ٢ / ٢٦٨ ، وقد قال سيبويه في الكتاب : «وسألته (يقصد أبا الخطّاب) عن أيّهم ، لم لم يقولوا : أيهم مررت به ، فقال : لأن أيهم هو حرف استفهام لا تدخل عليه الألف ، وإنما تركت الألف استغناء فصار بمنزلة الابتداء ، ألا ترى أن حدّ الكلام أن تؤخر الفعل ، فتقول : أيهم رأيت كما تفعل ذلك بالألف فهي نفسها بمنزلة الابتداء». الكتاب ١ / ١٢٦.

(٤) هذا شرح وتعقيب السمين على كلام مكي في الدر ٤ / ٧١٣.

(٥) سقطت من أوانظر الكشاف ٣ / ٤٣٩.

(٦) زيادة من أالأصل.

(٧) من الطويل للكميت بن زيد في مدح آل البيت. والشاهد : «أم بأية سنة» حيث أنّث «أيّا» في الاستفهام وهو قليل كما قال أبو حيان وهي مضافة أيضا ، وقد ورد عن الأخفش جواز التأنيث لا على وجه القلة. وانظر البحر المحيط ٧ / ٤٧٨ ، وحاشية يس ١ / ٢٦١ وشرح الكافية للرضي ٢ / ٢٧٩ ، والخزانة ٩ / ١٣٧ ، والهمع ١ / ١٥٢ وتمهيد القواعد ٢ / ٢٨٩ ، ٢٩٨ وتوضيح المقاصد ١ / ٣٨٨ والأشموني ٢ / ٣٥ وديوانه ١٦.

(٨) هو محمد بن مسعود الغزني ، ذكره ابن هشام في المغني وسماه ابن الزّكي وقال : خالف النحاة وأكثر أبو حيان من النقل عنه ، مات سنة ٤٢١ ه‍ وانظر كشف الظنون ١ / ٢٢٤. وقال صاحب البديع : ـ

٩١

عنى غير المناداة فكلامه صحيح يقل تأنيثها في الاستفهام ، وموصولة شرطية.

قال شهاب الدين : أما إذا وقعت صفة لنكرة أو حالا لمعرفة فالذي ينبغي أن يجوز الوجهان كالموصولة (١) ويكون التأنيث أقلّ نحو : مررت بامرأة أيّة امرأة ، وجاءت هند أيّة امرأة وكان ينبغي لأبي حيّان (٢) أن ينبه على هذين الفرعين (٣).

فصل

معنى قوله (فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) أي هذه الآيات التي عددناها كلها ظاهرة باهرة ليس في شيء منها ما يمكن إنكاره.

قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ)(٨٥)

قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...) معناه أن هؤلاء الكفار الذين يجادلون في آيات الله وحصل الكبر العظيم في صدورهم ، إنما كان السبب في ذلك طلب الرياسة والتقديم على الغير في المال والجاه ومن ترك الانقياد على الحق طلبا لهذه الأشياء فقد باع الآخرة بالدنيا وهذه طريقة فاسدة ؛ لأن الدنيا ذاهبة واحتج بقوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ...) يعني لو ساروا في أطراف الأرض لعرفوا أن عاقبة المتكبرين والمتمردين ليس إلا الهلاك والبوار مع أنهم كانوا أكثر عددا وعددا ومالا من هؤلاء المتأخرين ، فلما لم تفدهم تلك المكنة العظيمة إلا الخيبة والخسار فكيف حال هؤلاء الفقراء المساكين؟!.

قوله : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ) يجوز في «ما» أن تكون نافية واستفهامية (٤) بمعنى النفي ، ولا حاجة إليه وقوله (ما كانُوا) يجوز أن يكون «ما» مصدرية ، ومحلها الرفع أي مكسوبهم أو كسبهم ويجوز أن يكون بمعنى الذي (٥) فلا عائد على الأول وعلى الثاني هو محذوف أي يكسبونه وهي فاعل «بأغنى» على التقديرين.

__________________

ـ الاختيار إثبات التاء ولا تثنى ولا تجمع. انظر شرح المرادي على الألفية ٣ / ٣١٠ والبحر المحيط ٧ / ٤٨٧.

(١) في ب : الموصول.

(٢) وفيها : على أبي حيان.

(٣) وانظر الدر المصون ٤ / ٧١٣.

(٤) قال بذلك الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٣٩.

(٥) المرجعين السابقين.

٩٢

قوله (بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) فيه أوجه :

أحدها : أنه تهكم بهم ، والمعنى ليس عندهم علم (١).

الثاني : أن ذلك جاء على زعمهم أنّ عندهم علما ينتفعون (٢) به.

الثالث : أن «من» بمعنى بدل أي بما عندهم من الدنيا بدل العلم.

الرابع : أن يكون الضمير للرسل ، أي فرح الرسل بما عندهم من العلم.

الخامس : أن الأول للكفار ، وأما الثاني للرسل ، ومعناه فرح الكفار فرح ضحك واستهزاء بما عند الرسل من العلم ؛ إذ لم يأخذوه بقبول ويمتثلوا أوامر الوحي ونواهيه (٣). وقال الزمخشري : ومنها ـ أي من الوجوه ـ أن يوضع قوله : فرحوا بما عندهم من العلم مبالغة في نفي فرحهم بالوحي الموجب لأقصى الفرح والمسرة مع تهكم بفرط خلوّهم من العلم (٤) وجهلهم.

قال أبو حيان : ولا يعبر بالجملة الظاهر كونها مثبتة عن الجملة المنفية إلا في قليل من الكلام ، نحو : «شرّ أهرّ ذا ناب» على خلاف فيه ، ولما آل أمره إلى الإثبات المحصور جاز. وأما في الآية فينبغي أن لا يحمل على القليل لأن في ذلك تخليطا لمعاني الجمل المتباينة (٥).

فصل

قال المفسرون (٦) : الضمير في قوله «فرحوا» يحتمل أن يكون عائدا على الكفار وأن يكون عائدا إلى الرسل فإن عاد إلى الكفار ، فذلك العلم الذي فرحوا به قيل : هو الأشياء التي كانوا يسمونها علما ، وهي الشبهات المحكيّة عنهم في القرآن ، كقولهم : (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية : ٢٤] وقولهم : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) [الأنعام : ١٨٤] وقولهم : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [يس : ٧٨] (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) [الكهف : ٣٦] وكانوا يفرحون بذلك ويدفعون به علوم الأنبياء ، كما قال : (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [المؤمنون : ٥٣] و [الروم : ٣٢] وقيل : المراد (٧) علوم الفلاسفة فإنهم كانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه وصغّروا علوم الأنبياء عن علومهم كما روي عن سقراط أن سمع بمجيء أحد الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فقيل له : لو هاجرت إليه فقال : نحن قوم مهتدون فلا حاجة بنا إلى من يهدينا. وقيل : المراد علمهم

__________________

(١) السابقين أيضا والأسبقية للزمخشري وعنه أخذ أبو حيان.

(٢) قال السمين في الدر ٤ / ٧١٤.

(٣) قال بهذين الوجهين أبو حيان في البحر ٧ / ٤٧٩.

(٤) في الكشاف العلماء وانظر الكشاف ٣ / ٤٣٩.

(٥) البحر المرجع السابق.

(٦) يعني بهم الرازي.

(٧) هذا هو رأي الزمخشري وممن نقله عنه الرازي في تفسيره ، انظر الكشاف ٣ / ٤٣٩ والرازي ٢٧ / ٩١.

٩٣

بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها (١) ، كقوله تعالى : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) [الروم : ٧] (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) فلما جاءت الرسل بعلوم الديانات ومعرفة الله تعالى ، ومعرفة المعاد وتطهير النفس من الرذائل لم يلتفتوا إليها واستهزأوا بها ، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفائدة من علمهم ففرحوا به.

وإن عاد الضمير إلى الأنبياء ففيه وجهان :

الأول : أن يفرح الرّسل إذا رأوا من قومهم جهلا كاملا وإعراضا عن الحقّ وعلموا سوء غفلتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم وإعراضهم يفرحوا بما أوتوا من العلم ، ويشكروا الله عليه «وحاق» بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم.

الثاني : أن المراد أن الرسل فرحوا بما عندهم من العلم فرح ضحك (٢) واستهزاء.

قوله : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أي عذابنا (قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) أي تبرأنا مما كنا نعدل بالله ، البأس : شدة العذاب ، ومنه قوله تعالى : (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) [الأعراف : ١٦٥]. قوله : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ) يجوز رفع «إيمانهم» اسما لكان ، و «ينفعهم» جملة خبرا مقدما ، ويجوز أن يرتفع بأنه فاعل ينفعهم ، وفي كان ضمير الشأن (٣).

وقد تقدم هذا محققا في قوله : (ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ) [الأعراف : ١٣٧] وأنه ليس من باب التنازع (٤). ودخل حرف النفي على الكون لا على النفي ؛ لأنه بمعنى لا يصح ولا ينبغي ، كقوله تعالى : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ)(٥).

واعلم أن المراد بالوقت الذي لا ينفع الإيمان فيه هو وقت معاينة نزول ملائكة الرحمة وملائكة العذاب لأن في ذلك الوقت يصير المرء ملجأ إلى الإيمان فذلك الإيمان لا ينفع.

قوله : (سُنَّتَ اللهِ) يجوز انتصابها على المصدر المؤكد لمضمون الجملة يعني إن الذي فعل الله بهم سنة سابقة من الله (٦) ، ويجوز انتصابها على التحذير ، أي احذروا (٧) سنة الله في المكذبين (الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) ، وتلك السنة أنهم إذا عاينوا العذاب آمنوا

__________________

(١) المرجعين السابقين.

(٢) الرازي في مرجعه السابق.

(٣) قاله أبو حيان في البحر المحيط ٧ / ٤٧٩.

(٤) والتنازع هنا في الآية الذي يقصده تنازع فرعون «لكان» على أنه اسمها مؤخر ، و «ليصنع» على أنه فاعل ، فالتنازع هنا معمول لعاملين.

(٥) الآية ٣٥ من مريم. وانظر البحر المحيط ٧ / ٤٧٩ والكشاف ٣ / ٤٤٠.

(٦) قاله الزمخشري في الكشاف المرجع السابق ونقله عنه أبو حيان في بحره ٧ / ٤٧٩.

(٧) حكاه أبو حيان في البحر بدون نسبة.

٩٤

ولا ينفعهم إيمانهم (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) «هنالك» في الأصل مكان. قيل : واستعير هنا للزمان (١) ، ولا حاجة له فالمكانية فيه ظاهرة (٢) ، أي وخسر هنالك الكافرون بذهاب الدارين(٣).

قال الزّجّاج : «الكافر خاسر في كل وقت ، وإنما يبيّن لهم خسرانهم إذا رأوا العذاب»(٤).

فصل

قال ابن سيرين : رأى رجل في المنام سبع جوار حسان في مكان واحد لم ير أحسن منهنّ فقال لهنّ : لمن أنتنّ؟ فقلن : لمن قرأ آل حم.

(اللهم وفّقنا لكتابك) (٥) (والله سبحانه وتعالى أعلم) (٦).

__________________

(١) سبق إلى هذا القول الزمخشري في كشافه ونقله عنه أبو حيان في بحره ، وانظر هذا في الدر المصون ٤ / ٧١٥.

(٢) هذا قول شهاب الدين السمين في الدر ٤ / ٧١٥.

(٣) قاله البغوي في معالم التنزيل ٦ / ١٠٤.

(٤) قال في معاني القرآن وإعرابه : «والكافرون والمبطلون خاسرون في ذلك الوقت وفي كل وقت خاسرون ولكنه تعالى بين لهم خسرانهم إذا رأوا العذاب». معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٣٧٨.

(٥) زيادة من أالأصل.

(٦) زيادة من ب.

٩٥

سورة فصلت

مكية (١) وهي أربع وخمسون (٢) آية ، وسبعمائة وتسعة وتسعون كلمة ، وثلاثة آلاف وثلثمائة وخمسون حرفا.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ)(٥)

قوله تعالى : حم تنزيل من الرحمن الرحيم يجوز أن يكون «تنزيل» خبر «حم» على القول بأنها اسم السورة (٣). ويجوز أن يكون تنزيل خبر ابتداء مضمر ، أي هذا تنزيل (٤). وقال الأخفش : تنزيل رفع بالابتداء و «كتاب» خبره (٥).

قوله : «كتاب» قد تقدم أنه يجوز أن يكون خبرا لتنزيل ، ويجوز أن يكون خبرا ثانيا ، وأن يكون بدلا من تنزيل (٦) ، وأن يكون فاعلا بالمصدر ، وهو تنزيل أي نزل الكتاب ، قاله أبو البقاء. و «فصّلت آياته» صفة «لكتاب» (٧).

قوله : «قرآنا» في نصبة ستة أوجه :

أحدها : هو حال بنفسه. و «عربيّا» صفته ، أو حال موطّئة (٨) ، والحال في الحقيقة

__________________

(١) في قول الجميع انظر القرطبي ١٥ / ٣٣٧.

(٢) وقيل : ثلاث وخمسون المرجع السابق.

(٣) هذا قول الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٤١ ، والرازي في التفسير الكبير ٢٧ / ٩٣.

(٤) الكشاف المرجع السابق ، وهو رأي الفراء في معاني القرآن ٣ / ١١.

(٥) قال في المعاني : «فالكتاب خبر المبتدأ أخبر به أن التنزيل كتاب» معاني القرآن له ٦٨٠.

(٦) التبيان ١٠٢٣.

(٧) ذكره الزجاج في معاني القرآن ٤ / ٣٧٩ وانظر الكشاف ٣ / ٤٤١ والقرطبي ١٥ / ٣٣٧.

(٨) قاله العكبري في التبيان ٢٣ / ١١.

٩٦

«عربيا» ، وهي حال غير منتقلة ، وصاحب الحال إما كتاب لوصفه بفصلت ، وإما «آياته» ، أو منصوب على المصدر (١) ، أي يقرأه قرآنا أو على الاختصاص والمدح (٢) ، أو مفعول ثان «لفصلت» (٣) ، أو منصوب بتقدير فعل ، أي فصّلناه قرآنا (٤).

قوله : «لقوم» فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يتعلق «بفصلت» أي فصلت لهؤلاء وبينت لهم ؛ لأنهم هم المنتفعون بها وإن كانت مفصلة في نفسها لجميع الناس.

الثاني أن يتعلق بمحذوف صفة «لقرآنا» ، أي كائنا لهؤلاء خاصة ؛ لما تقدم من المعنى.

الثالث : أن يتعلق بتنزيل. وهذا إذا لم تجعل (مِنَ الرَّحْمنِ) صفة له ؛ لأنك إن جعلت (مِنَ الرَّحْمنِ) صفة له ، فقد أعملت المصدر الموصوف وإذا لم يكن (كِتابٌ) خبرا عنه ، ولا بدلا منه ؛ لئلا يلزم الإخبار عن الموصول أو المبدل منه قبل تمام صلته ، ومن يتسع في الظرف وعديله لم يبال بشيء.

وأما إذا جعلت (مِنَ الرَّحْمنِ) متعلقا به و «كتاب» فاعلا به فلا يضرّ ذلك ؛ لأنه من تتماته وليس بأجنبي (٥).

فصل

اعلم أنه تعالى حكم على هذه السورة بأشياء :

أولها : كونها تنزيلا ، والمراد المنزل ، والتعبير عن المفعول بالمصدر مجاز مشهور ، كقوله : هذا بناء الأمير أي مبنيّه ، وهذا الدّرهم ضرب السّلطان (أي مضروبه) (٦) ومعنى كونه منزلا : أن الله تعالى كتبها في اللوح المحفوظ ، وأمر جبريل ، عليه (الصلاة) (٧) والسلام ـ أن يحفظ الكلمات ثم ينزل بها على النبي محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويؤدّيها إليه ، فلما حصل تفهيم هذه الكلمات بواسطة نزول جبريل ـ عليه (الصلاة) (٨) والسلام ـ سمي بذلك تنزيلا.

وثانيها : كون ذلك التنزيل من الرحمن الرحيم ، وذلك يدل على أن ذلك التنزيل نعمة عظيمة من الله تعالى ، لأن الفعل المقرون بالصفة لا بد وأن يكون مناسبا لتلك

__________________

(١) ذكره أبو حيان في البحر ١٥ / ٣٣٧.

(٢) قاله الأخفش في معانيه ٦٨٠.

(٣) السابق.

(٤) القرطبي ١٥ / ٣٣٧ ، والبحر المحيط ٧ / ٤٨٣ ، وانظر هذا الإعراب كله في الدر المصون ٤ / ٧١٦.

(٥) المرجع الأخير السابق ، وانظر هذا كله بالمعنى من الكشاف ٣ / ٤٤١ والبحر المحيط ٧ / ٤٨٣.

(٦) سقطت من الأصل أ.

(٧) زيادة من أ.

(٨) كذلك سقط من ب.

٩٧

الصفة ، فكونه تعالى رحمن (١) رحيما صفتان دالتان على كمال الرحمة ، فالتنزيل المضاف إلى هاتين الصفتين لا بدّ وأن يكون دالا على أعظم وجوه الرحمة والنعمة والأمر كذلك ؛ لأن الخلق في هذا العالم كالمرضى والمحتاجين ، والقرآن مشتمل على كل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية ، وعلى ما يحتاج إليه الأصحاء من الأغذية ، فكان أعظم النعم من الله تعالى على أهل هذا العالم إنزال القرآن عليهم.

وثالثها : كونه كتابا ، وتقدم أن هذا الاسم مشتق من الكتب وهو الجمع ، فسمي كتابا لأنه جمع فيه علم الأولين والآخرين.

ورابعها : قوله فصلت آياته ، أي ميزت وجعلت تفاصيل في معان مختلفة فبعضها وصف ذات الله ، وصفات التنزيه والتقديس وشرح كمال علمه وقدرته ورحمته وعجائب أصول خلقه من السماوات والكواكب وتعاقب الليل والنهار ، وعجائب أحوال النبات والحيوان وبعضها في المواعظ والنصائح ، وبعضها في تهذيب الأخلاق ورياضة النفس ، وبعضها في قصص الأنبياء وتواريخ الماضين ، وبالجملة فمن أنصف علم أنه ليس في بدء الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم المختلفة مثل ما في القرآن.

وخامسها : قوله : قرآنا وقد سبق توجيه هذا الاسم.

وسادسها : قوله عربيا أي إنما نزل بلغة العرب ، ويؤكده قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) [إبراهيم : ٥].

وسابعها : قوله : (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي جعلناه قرآنا لأجل أنا أنزلناه على قوم عرب بلغتهم ليفهموا منه المراد (٢).

وثامنها وتاسعها : قوله (بَشِيراً وَنَذِيراً) يجوز أن يكونا نعتين (٣) لقرآنا ، وأن يكونا حالين ؛ إما من كتاب وإما من آياته (٤) ، وإما من الضمير المنوي في قرآنا (٥). وقرأ زيد بن علي برفعهما (٦) على النعت لكتاب ، أو على خبر ابتداء مضمر ، أي هو بشير ونذير ، ومعناه بشيرا للمطيعين بالثواب ونذيرا للمجرمين بالعقاب.

قال ابن الخطيب : والحق أن القرآن بشارة ونذارة إلا أنه أطلق اسم الفاعل عليه للتنبيه على كونه كاملا في هذه الصفة كما يقال : شعر شاعر وكلام قائل (٧).

__________________

(١) في النسختين والرازي رحمانا منونا.

(٢) هذه الأوجه ذكرها الرازي في تفسيره ٢٧ / ٩٤.

(٣) ذكر هذا الأخفش في المعاني ٦٨٠ وأبو حيان في البحر ٧ / ٤٨٣.

(٤) قال بذلك ابن الأنباري في البيان ٢ / ٣٣٦.

(٥) السمين في الدر ٤ / ٧١٧.

(٦) من الشواذ غير المتواتر لم ينسبها الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٤١ ونسبها أبو حيان في البحر ٧ / ٤٨٣ وانظر القرطبي ١٥ / ٣٣٨ وشواذ القرآن ٢١٣.

(٧) الرازي ٢٧ / ٩٥.

٩٨

عاشرها : كونهم معرضين عنه لا يسمعونه ولا يتلفتون إليه ، فهذه الصفات العشرة التي وصف الله تعالى القرآن بها.

فصل

احتج القائلون بخلق القرآن بهذه الآية من وجوه :

الأول : أنه وصف القرآن بكونه منزّلا وتنزيلا ، والمنزّل والتنزيل مشعر بالتغيير من حال إلى حال فوجب أن يكون مخلوقا.

الثاني : أن التنزيل مصدر ، والمصدر هو المفعول المطلق باتفاق النحويين (١).

الثالث : أن المراد بالكتابة إما الكتابة ، وهي المصدر الذي هو المفعول المطلق وإما المكتوب الذي هو المفعول.

الرابع : أن قوله : (فُصِّلَتْ آياتُهُ) (بدل) (٢) على أن متصرفا يتصرف فيه بالتفصيل وذلك لا يليق بالقديم.

الخامس : أنه إنما سمي قرآنا ، لأنه قرن بعض أجزائه ببعض وذلك يدل على كونه مفعول فاعل ومجعول جاعل.

السادس : وصفه بكونه «عربيا» ، وإنما صحت هذه النسبة لأن هذه الألفاظ إنما دلت على هذه المعاني بحسب وضع العرب ، واصطلاحاتهم ، وما حصل بجعل جاعل وفعل فاعل فلا بد وأن يكون محدثا ومخلوقا (٣).

والجواب : أن كل هذه الوجوه المذكورة عائدة إلى اللغات وإلى الحروف والكلمات وهي حادثة (٤).

فصل

ذهب قوم إلى أن في القرآن من سائر اللغات كالإستبرق (٥) والسّجيل (٦) فإنهما فارسيان والمشكاة (٧) فإنها حبشية ، والقسطاس (٨) ، فإنه من لغة الروم ، وهذا فاسد لقوله

__________________

(١) يقصد من هذا أن المصدر هو المفعول حقيقة ، لأنه هو الذي يحدثه الفاعل ، وأما المفعول به فمحل الفعل والزمان وقت يقع فيه الفعل والمكان محل الفاعل والمفعول فما دام المصدر يدل على الحدث فإن هذا يؤيد وجهة نظر هؤلاء القائلين بخلق القرآن.

(٢) سقط من ب.

(٣) انظر الرازي ٢٧ / ٩٥.

(٤) هذا جواب يبطل آراء هؤلاء القائلين بخلق القرآن المرجع السابق.

(٥) من قوله : «مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ» [الكهف : ٣١].

(٦) من قوله : «تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ» [الفيل : ٤].

(٧) من قوله : «مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ» [النور : ٣٥].

(٨) من قوله :«وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ»[الشعراء : ١٨٢].

٩٩

تعالى (قُرْآناً عَرَبِيًّا) ، وقوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ).

فصل

قالت المعتزلة : الإيمان والكفارة والصلاة والزكاة والصوم والحج ، ألفاظ شرعية لا لغوية بمعنى أن الشرع نقل هذه الألفاظ عن مسمّياتها اللّغويّة الأصلية إلى مسميات أخرى (١). وهذا باطل ، وليس للشرع تصرف في هذه الألفاظ إلا من وجه واحد ، وهو أنه خصّص هذه الأسماء بنوع معيّن من أنواع مسمّياتها ، كما أن الإيمان عبارة عن التصديق والصلاة عبارة عن الدعاء ، فخصّصه الشرع بنوع معين من الدّعاء ، وكذا القول في البواقي.

فصل

تمسك القائلون بأن أفعال الله تعالى معلّلة بالمصالح والحكمة بهذه الآية فقالوا : إنها تدل على أنه إنما جعله قرآنا عربيا لأجل أن يعلموا المراد منه ، فدل على أنّ تعليل أفعال الله وأحكامه جائز (٢).

فصل

قال قوم : القرآن كله (٣) معلوم لقوله تعالى : قرآنا عربيا لقوم يعلمون يعني إنما جعلناه عربيا ليصير معلوما والقول بأنه غير معلوم يقدح فيه.

قوله : (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) لا يصغون تكبرا. وهذه الآية تدل على أنه لا مهتدي إلا من هداه الله ، ولا مضلّ إلا من أضله الله. ولما وصف الله تعالى القرآن بأنهم أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه بين أنهم صرحوا بهذه النفرة ، وذكروا ثلاثة أشياء :

أحدها : قوله : (فِي أَكِنَّةٍ) ، قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل : على قلوبنا أكنة، كما قيل : وفي آذاننا وقر ليكون الكلام على نمط واحد؟ قلت : هو على نمط واحد ؛ لأنه لا فرق في المعنى بين قولك : قلوبنا في أكنة ، وعلى قلوبنا أكنة ، والدليل عليه قوله تعالى : (إنّا) (٤) جعلنا على قلوبهم ، ولو قيل : جعلنا قلوبهم في أكنة لم يختلف المعنى ، وترى المطابيع منهم لا يرون (٥) الطباق (والملاحظة) (٦) إلا في المعاني.

قال أبو حيان : و «في» هنا أبلغ من على ، لأنهم قصدوا الإفراط في عدم القبول

__________________

(١) نقله عنهم الرازي في التفسير يالكبير ٢٧ / ٩٥ و ٩٦.

(٢) السابق ٩٧.

(٣) في ب كل.

(٤) سقط من النسختين والصواب إثباتها كما في الكشاف في الآية ٥٧ من الكهف.

(٥) في الكشاف لا يدعون بدل يرون.

(٦) تصحيح من الكشاف ففي النسخ : والملاحة وانظر الكشاف ٣ / ٤٤٣.

١٠٠