اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٨٤

وعلى هذا فهو مجاز ليس المراد نفس التقديم بل المراد لا تجعلوا لأنفسكم تقدما عند النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقال : لفلان تقدم من بين الناس إذا ارتفع أمره ، وعلا شأنه (١). وقرىء : لا تقدموا ـ بضم التاء وكسر الدال ـ من أقدم أي لا تقدموا على شيء (٢).

فصل

في بيان حسن الترتيب وجوه :

أحدها : أنهم في السورة المتقدمة (٣) لما جرى منهم ميل إلى الامتناع مما أجاز النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤) ـ من الصلح ، وألزمهم الله كلمة التقوى قال لهم على سبيل العموم : لا تقدموا بين يدي الله ورسوله أي لا تتجاوزوا ما أتى من الله تعالى ورسوله.

الثاني : أنه تعالى لما بين علو درجة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بكونه رسوله الذي يظهر دينه وأنه بالمؤمنين رحيم قال : لا تتركوا من احترامه شيئا لا بالفعل ولا بالقول وانظروا إلى رفعة درجته.

الثالث : أنه تعالى وصف المؤمنين بأنهم أشداء ورحماء فيما بينهم وبكونهم راكعين ساجدين (٥) وذكر أن لهم من الحرمة عند الله ما أورثهم حسن الثناء في الكتب المتقدمة بقوله : (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) ، فإن الملك العظيم لا يذكر أحدا في غيبته إلا إذا كان عنده محترما ووعدهم بالأجر العظيم فقال في هذه السورة لا تفعلوا ما يوجب انحطاط درجاتكم وإحباط حسناتكم (ولا تقدموا) (٦).

فصل في سبب النزول

روى الشعبي عن جابر أنه في الذبح يوم الأضحى قبل الصلاة وهو قول الحسن أي لا يذبحوا قيل أن يذبح النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وذلك أن ناسا ذبحوا قبل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأمرهم أن يعيدوا الذّبح ، وقال : «من ذبح قبل الصّلاة فإنّما هو لحم عجّله لأهله ليس من النّسك في شيء». وروي عن مسروق عن عائشة أنه في النهي عن صوم الشك أي لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم. وروى ابن الزبير أنه قدم ركب من بني تميم على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال أبو بكر : أمر القعقاع بن معبد بن زرارة. وقال عمر : بل أمر الأقرع بن حابس. قال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي ، قال عمر : ما أردت خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) ؛ قال (ابن (٧)) الزبير : فكان

__________________

(١) البحر والرازي ٢٨ / ١١٣.

(٢) ذكرها الإمام الفخر الرازي في تفسيره السابق دون نسبة وهي شاذة.

(٣) وهي سورة محمد.

(٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٥) في ب وساجدين.

(٦) زيادة من أكالرازي تماما.

(٧) سقطت من أالأصل.

٥٢١

عمر لا يسمع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (بعد (١) هذه الآية) حتى يستفهمه. وقيل : نزلت في جماعة أكثروا من السؤال. وقال مجاهد : لا تفتاتوا (٢) على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بشيء حتى يقضيه الله على لسانه. وقال الضحاك : يعني في القتال وشرائع الدين ، أي لا تقضوا أمرا دون الله ورسوله. قال ابن الخطيب : والأصحّ أنه إرشاد عام يشتمل الكل ومنع مطلق يدخل فيه كل افتيات وتقدّم واستبداد بالأمر وإقدام على فعل غير ضروري من غير مشاورة (٣).

فصل

ومعنى بين يدي الله ورسوله أي بحضرتهما ؛ لأن ما (٤) يحضره الإنسان فهو بين يديه ناظر إليه. وفي قوله : (بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) فوائد :

إحداها : أن قول الإنسان فلان بين يدي فلان إشارة إلى أن كل واحد منهما حاضر عند الآخر مع أن لأحدهما علو الشأن وللآخر درجة العبيد والغلمان ؛ لأن من يجلس بجنب الإنسان(٥) يكلفه تقليب الحدقة (٦) إليه وتحريك الرأس إليه عند الكلام ومن يجلس بين يديه لا يكلفه ذلك ولأن اليدين (٧) تنبىء عن القدرة لأن قول الإنسان : فلان بين يدي فلان أي يقلّبه كيف يشاء في أشغاله كما يفعل الإنسان بما يكون موضوعا بين يديه وذلك يفيد وجوب الاجتناب من التّقدّم.

وثانيها : ذكر الله إشارة إلى وجوب احترام الرسول والانقياد لأوامره ، لأن احترام الرسول احترام للمرسل ، لكن احترام الرسول قد يترك لأجل بعد المرسل وعدم اطّلاعه على ما يفعل برسوله فقوله : (بَيْنَ يَدَيِ اللهِ) أي أنتم بحضرة من الله وهو ناظر إليكم. وفي مثل هذه الحال يجب احترام رسوله.

وثالثها : أن العبارة (٨) كما تقرر النهي المتقدم تقرر الأمر المتأخّر ، وهو قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) لأن من يكون بين يدي الغير كالمتاع الموضوع بين يديه يقلبه كيف يشاء يكون جديرا بأن يتقيه (٩) ، وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي في تضييع حقه ، ومخالفة أمره (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم ، «عليم» بأفعالكم.

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من نسخة ب. وانظر الفقرة أو الفصل الأول في الرازي ٢٨ / ١١٠ والثاني في القرطبي ١٦ / ٣٠٠ و ٣٠١ والبغوي في معالم التنزيل ٦ / ٢١٨.

(٢) أي لا تبتدعوا من افتات الكلام ابتدعه.

(٣) الرازي السابق.

(٤) وفي ب من التي للعاقل وهو رأي الرازي في مرجعه السابق.

(٥) في ب إنسان منكرا.

(٦) وهي العين.

(٧) في ب إليه بدل اليدين.

(٨) في النسختين العادة وفي الرازي : العبادة.

(٩) وانظر هذا كله في تفسير الإمام ٢٨ / ١١٣.

٥٢٢

قوله (تعالى (١)) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) في إعادة النداء فوائد منها أن في ذلك بيان زيادة الشفقة على المسترشد ، كقول لقمان لابنه : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ) [لقمان : ١٣] (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) [لقمان : ١٦] (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) [لقمان : ١٧] ، لأن النداء تنبيه للمنادى ليقبل على استماع الكلام ويجعل باله منه ، فإعادته تفيد تجدد ذلك. ومنها : أن لا يتوهم متوهم أن المخاطب ثانيا غير المخاطب الأول ، فإن من الجائز أن يقول القائل : يا زيد افعل كذا وكذا يا عمرو ، فإذا أعاد مرة أخرى وقال : يا زيد قل كذا (يا زيد (٢) قل كذا (وقل كذا)) يعلم أن المخاطب أولا هو المخاطب ثانيا. ومنها أن يعلم أن كل واحد من الكلامين مقصود ، وليس الثاني تأكيدا للأول كقولك : يا زيد لا تنطق ولا تتكلّم إلا الحق فإنه لا يحسن أن تقول : يا زيد لا تنطق يا زيد لا تتكلّم كما يحسن عند اختلاف المطلوبين.

فصل

قوله : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) يحتمل أن يكون المراد حقيقة رفع الصوت ، لأن ذلك يدل على قلة الاحتشام ، وترك الاحترام ، وهو أن رفع الصوت يدل على عدم الخشية ؛ لأن من خشي قلبه ارتجف وضعفت حركته الدافعة فلا يخرج منه الصوت بقوة ، ومن لم يخف ثبت قلة الاحتشام ، وترك الاحترام ، وهو أن رفع الصوت يدل على عدم الخشية ؛ لأن من خشي قلبه ارتجف وضعفت حركته الدافعة فلا يخرج منه الصوت بقوة ، ومن لم يخف ثبت قلبه وقويت حركته الدافعة ، وذلك دليل على عدم الخشية. ويحتمل أن يكون المراد المنع من كثرة الكلام ، لأن من كثر كلامه يكون متكلما عند سكوت الغير فيبقى لصوته ارتفاع وإن كان خائفا فلا ينبغي أن يكون لأحد عند النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كلام كثير بالنسبة إلى كلام النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) ـ مبلّغ فالمتكلم عنده إن أراد الإخبار لا يجوز له ، وإن سأل فإن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤) ـ لمّا وجب عليه البيان فهو لا يسكت عما سئل ، وإن لم يسأل فربما يكون في الجواب تكليف لا يسهل على المكلف الإتيان به فيبقى في ورطة العقاب كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [المائدة : ١٠١].

ويحتمل أن يكون المراد رفع الكلام بالتعظيم ، أي لا تجعلوا لكلامكم ارتفاعا على كلام النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الخطاب. والأول أوضح والكل يدخل في المراد (٥). قال المفسرون : معناه بجّلوه وفخّموه ولا ترفعوا أصواتكم عنده ولا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضا (٦). وروى أنس بن مالك (رضي الله عنه (٧)) قال : لما نزل قوله

__________________

(١) زيادة من أ.

(٢) ما بين القوسين الكبيرين زيادة على الرازي وما بين القوسين الصغيرين هما اللذان في ب.

(٣) في ب عليه الصلاة والسلام.

(٤) في ب عليه الصلاة والسلام كذلك.

(٥) وانظر تفسير الإمام ٢٨ / ١١٢ و ١١٣.

(٦) قاله البغوي في تفسيره ٦ / ٢١٩.

(٧) زيادة من أ.

٥٢٣

تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) جلس ثابت بن قيس في بيته ، وقال : أنا من أهل النار واحتبس عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فسأل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سعد بن معاذ فقال : يا أبا عمرو ما شأن ثابت اشتكى؟ فقال سعد : إنه لجاري وما علمت له شكوى قال : فأتاه سعد فذكر له قول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال ثابت : أنزلت هذه الآية ولقد علمتم أنّي من أرفعكم صوتا على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأنا من أهل النار فذكر ذلك سعد للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : بل هو من أهل الجنة. وروي لما نزلت هذه الآية قعد ثابت في الطريق يبكي فمر به عاصم بن عديّ فقال : ما يبكيك يا ثابت؟ قال : هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت وأنا رفيع الصوت أخاف أن يحبط عملي وأكون من أهل النار فمضى عاصم إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وغلب ثابتا البكاء فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبيّ ابن سلول فقال لها : إذا دخلت فرسي فشدّي على الضّبّة بمسمار ، فضربت عليه بمسمار وقال : لا أخرج حتى يتوفّاني الله أو يرضى عنّي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأتى عاصم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأخبره خبره فقال : اذهب فادعه لي فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فيه فلم يجده ، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرس فقال له إن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يدعوك فقال له : اكسر الضّبة فأتى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال له رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما يبكيك يا ثابت؟ فقال : أنا صيت وأخاف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ ، فقال له رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أما ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة؟ فقال : رضيت ببشرى الله ورسوله ، لا أرفع صوتي أبدا على صوت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) الآية. قال أنس : فكنّا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بيننا فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة رأى ثابت من المسلمين بعض الانكسار فانهزمت طائفة منهم فقال : أفّ لهؤلاء ثم قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة : ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مثل هذا ثمّ ثبتا وقاتلا حتى قتلا واستشهد ثابت وعليه درع فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام قال له : اعلم أن فلانا رجل من المسلمين نزع درعي فذهب بها وهي في ناحية من المعسكر عند فرس يستن (به (١)) في طوله ، وقد وضع على درعي برمة ؛ فأت خالد بن الوليد وأخبره حتى يسترد درعي ، وأت أبا بكر خليفة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقل له : إن عليّ دينا حتى يقضيه (عنّي (٢)) ، وفلان (وفلان (٣)) من رقيقي عتيق. فأخبر الرجل خالدا فوجد درعه والفرس على ما وصفه فاستردّ الدرع وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤيا ، وأجاز أبو بكر وصيّته. قال مالك بن أنس (رضي الله عنه (٤)) : لا أعلم وصية أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه (٥).

__________________

(١ و ٢ و ٣) ما بين الأقواس زيادة من رواية البغوي والخازن. انظر معالم التنزيل ولباب التأويل لهما ٦ / ٢١٩.

(٤) زيادة من أ.

(٥) المرجعين السابقين.

٥٢٤

قوله : (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) قال ابن الخطيب : إن قلنا : (إن (١)) المراد من قوله : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ) أي لا تكثروا الكلام فقوله : (وَلا تَجْهَرُوا) يكون مجازا عن الإتيان بالكلام عند النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) ـ بقدر ما يؤتى به عند غيره أي لا تكثروا وقللوا غاية التقليل ، وإن قلنا : المراد بالرفع الخطاب فقوله : (لا تَجْهَرُوا) أي لا تخاطبوه كما تخاطبو (ن (٣)) غيره.

واعلم أن قوله تعالى : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ) لما كان من جنس لا تجهروا لم يستأنف النداء ، ولما كان مخالفا للتقدم لكون أحدهما فعلا والآخر قولا استأنف كقول لقمان لابنه : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ) ، وقوله : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) لكن الأول من عمل القلب والثاني من عمل الجوارح ، فقوله : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) من غير استئناف النداء لكون الكل من عمل الجوارح.

فإن قيل : ما الفائدة من قوله : (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) مع أن الجهر مستفاد من قوله: (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ)؟.

فالجواب : أن المنع من رفع الصوت هو أن لا يجعل كلامه أو صوته أعلى من كلام النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤) ـ أو صوته ، والنهي عن الجهر منع من المساواة ، أي لا تجهروا له بالقول كما تجّهرو (ن (٥)) لنظرائكم بل اجعلوا كلمته عليا (٦).

قوله : (أَنْ تَحْبَطَ) مفعول من أجله. والمسألة من التنازع لأن كلّا من قوله : (لا تَرْفَعُوا) و (لا تَجْهَرُوا لَهُ) يطلبه من حيث المعنى فيكون معمولا للثاني عند البصريين في اختيارهم ، وللأول عند الكوفيين. والأول أصح للحذف من الأول أي لأن تحبط (٧). وقال أبو البقاء : إنها لام الصّيرورة (٨) و (أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) حال.

فصل

معنى الكلام إنكم إن رفعتم أصواتكم وتقدمتم فذلك يؤدي إلى الاستحقار وهو يفضي إلى الارتداد والارتداد محبط. وقوله : (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) إشارة إلى أن الردّة تتمكن من النفس بحيث لا يشعر الإنسان فإن من ارتكب ذنبا لم يرتكبه في عمره تراه نادما غاية الندامة خائفا غاية(٩) الخوف ، فإذا ارتكبه مرارا قلّ خوفه وندامته ويصير عادة

__________________

(١) زيادة من أكالرازي تماما.

(٢) في ب عليه الصلاة والسلام.

(٣) النون ساقطة من النّسختين ولا بدّ منها.

(٤) في ب عليه الصلاة والسلام.

(٥) في ب تجهروا.

(٦) قال بهذا الإمام في تفسيره الكبير ٢٨ / ١١٣.

(٧) قاله أبو حيّان في البحر ٨ / ١٠٦.

(٨) وهي لام العاقبة قال : أو لأن تحبط على أن تكون اللام لا العاقبة. انظر التبيان ١١٧٠.

(٩) الرازي المرجع السابق. وفيه هكذا وفي ب عليه.

٥٢٥

من حيث لا يعلم متى تمكن هذا كان في المرة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو غيرها ، وهذا كما إذا بلغه خبر فإنه لا يقطع بالمخبر ، فإذا تكرر عليه ذلك وبلغ إلى حد التواتر حصل له اليقين وتمكن الاعتقاد ، ولا يدري متى كان ذلك وفي أي لمحة حصل هذا اليقين. فقوله : (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) تأكيد للمنع أي لا تقولوا بأن المرة الواحدة تغفر ولا توجب ردّة ؛ لأن الأمر غير معلوم بل احسموا الباب (١).

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) أي إجلالا له (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) اختبرها وأخلصها كما يمتحن الذهب بالنار فتخرج خالصة.

قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ) يجوز أن يكون «أولئك» مبتدأ و «الذين» خبره والجملة خبر «إنّ» ويكون (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) جملة أخرى إما مستأنفة وهو الظاهر وإما حالية. ويجوز أن يكون (الَّذِينَ امْتَحَنَ (اللهُ قُلُوبَهُمْ) صفة «لأولئك» أو بدلا منه أو بيانا و (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) جملة خبرية (٢).

ويجوز أن يكون «لهم» هو الخبر وحده و «مغفرة» فاعل به واللام في قوله : «للتّقوى» يحتمل أن يتعلق بمحذوف تقديره عرف الله قلوبهم صالحة أي كائنة للتقوى كقولك : أنت لكذا أي صالح أي كائن (٣) ويحتمل أن يكون للتعليل (٤). وهو يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون تعليلا يجري مجرى بيان السبب المتقدم ، كقولك : جئتك لإكرامك ابني (٥) أمس أي صار ذلك السبب السابق سبب المجيء.

والثاني : أن يكون تعليلا يجري مجرى بيان علّيّة (٦) المقصود المتوقع الذي يكون لاحقا لا سابقا ، كقولك : جئتك لأداء الواجب ، أي ليصير مجيئي سببا لأداء الواجب.

فعلى الأول فمعناه أن الله علم في قلوبهم تقواه (٧) فامتحن قلوبهم للتقوى التي كانت فيها ، ولولا أن قلوبهم كانت مملوءة من التقوى لما أمرهم بتعظيم رسوله وتقديم نبيه على أنفسهم. وعلى الثاني فمعناه أن الله تعالى امتحن قلوبهم بمعرفته ومعرفة رسوله

__________________

(١) الرازي السّابق.

(٢) أخذ المؤلف ـ رحمه‌الله ـ كل هذه الأوجه من كتاب التبيان لأبي البقاء العكبري ١١٧٠.

(٣) قاله جار الله الزمخشري في كشافه ٣ / ٥٥٧.

(٤) أحد قولي الزمخشري أيضا وعنه أخذ الإمام الرازي في تفسيره هذين الوجهين وفصل التفصيل المرئي أعلى كما نلمح.

(٥) في ب لي بدل من ابني.

(٦) في تفسير الرازي : غاية.

(٧) في ب : بقوله تحريف.

٥٢٦

بالتقوى أي ليرزقهم الله التقوى (١) ، ثم قال : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) وقد تقدم الكلام على ذلك.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٥)

قوله (تعالى) (٢) : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) هذا بيان لحال من كان في (مقابلة (٣) من تقدم ، فإن الأول غضّ صوته ، والآخر رفعه ، وفيه إشارة إلى ترك الأدب من وجوه :)

أحدها : النداء ، فإن نداء الرجل الكبير قبيح بل الأدب الحضور بين يديه وعرض الحاجة إليه.

الثاني : النداء من وراء الحجرات ، فإن من ينادي غيره ولا حائل بينهما لا يكلفه المشي والمجيء بل يجيئه من مكانه ويكلمه ومن ينادي غيره مع الحائل يريد منه حضوره.

الثالث : قوله : «الحجرات» يدل على كون (٤) النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في خلوته التي لا يمكن(٥) إتيان المحتاج إليه في حاجته (في) (٦) ذلك الوقت بل الأحسن التأخير وإن كان في ورطة الحاجة(٧).

قوله : «من وراء» «من» لابتداء الغاية. وفي كلام الزمخشري ما يمنع أن «من» (٨) يكون لابتداء الغاية وانتهائها قال : لأن الشيء الواحد لا يكون مبدأ للفعل ومنتهى له. وهذا الذي أثبته بعض الناس وزعم أنها تدل على ابتداء الفعل وانتهائه في جهة واحدة نحو : أخذت الدّرهم من الكيس (٩).

والعامة على الحجرات ـ بضمتين ـ وأبو جعفر وشيبة بفتحها (١٠). وابن أبي عبلة

__________________

(١) بالمعنى من الرازي ٢٨ / ١١٥. فالمغفرة إزالة السيئات التي هي في الدنيا لازمة للنفس ، والأجر العظيم إشارة إلى الحياة التي هي بعد مفارقة الدنيا عن النفس فيزيل الله عنه القبائح البهيمية ويلبسه المحاسن الملكية. انظر الرازي المرجع السابق.

(٢) زيادة من أالأصل.

(٣) ما بين القوسين كله سقط من ب.

(٤) كذا في النسختين وفي الرازي المصدر السابق : قول وليس كون.

(٥) في ب والرازي : التي لا يحسن.

(٦) زيادة للسياق.

(٧) قاله الرازي الإمام في تفسيره ٢٨ / ١١٦.

(٨) في ب أن يكون من ، بتقديم وتأخير والمعنى واحد.

(٩) بالمعنى من الكشاف ٣ / ٥٥٨.

(١٠) أي الجيم. وانظر الإتحاف ٣٩٧ وتقريب النشر ١٧٥ وهي عشرية.

٥٢٧

بإسكانها (١). وهي ثلاث لغات وتقدم تحقيقها في البقرة في قوله : (فِي ظُلُماتٍ)(٢). والحجرة فعلة بمعنى مفعولة كغرفة بمعنى مغروفة. قال البغوي : والحجرات جمع الحجرة فهي جمع الجمع (٣).

فصل

ذكروا في سبب النزول وجوها :

الأول : قال ابن عباس : بعث رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سريّة إلى بني العنبر ، وأمر عليهم عيينة بن حصن الفزاريّ ، فلما علموا هربوا وتركوا عيالهم ، فسباهم عيينة ، وقدم (بهم (٤)) على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فجاء بعد ذلك رجالهم يفدون الذّراري فقدموا وقت الظهيرة ووافقوا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قائلا في أهله فلما رأتهم الذّراري أجهشوا إلى آبائهم يبكون وكان لكل امرأة من نساء رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حجرة فعجلوا أن يخرج إليهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فجعلوا ينادون : يا محمد اخرج إلينا حتى أيقظوه من نومه فخرج إليهم ، فقالوا يا محمد : فادنا عيالنا ، فنزل جبريل (عليه الصلاة والسلام (٥)) فقال : إن الله يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلا فقال لهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أترضون أن يكون بيني وبينكم سبرة بن عمرو وهو على دينكم؟ فقالوا : نعم ؛ قال سبرة : أنا لا أحكم وعمي شاهد وهو الأعور بن بشامة ؛ فرضوا به فقال الأعور : أرى (أن (٦)) تفادي نصفهم وأعتق (٧) نصفهم. فأنزل الله : إنّ الّذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون وصفهم بالجهل وقلة العقل.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) لأنك كنت تعتقهم جميعا وتطلقهم بلا فداء (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). وقال قتادة : نزلت في ناس من أعراب بني تميم جاءوا إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فنادوا على الباب : اخرج إلينا يا محمد فإن مدحنا زين وذمّنا شين فخرج النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو يقول : إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمّه شين ، فقالوا : نحن ناس من بني تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك ، فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما بالشعر بعثت ، ولا بالفخر (٨) أمرت ، ولكن هاتوا فقام شاب منهم فذكر فضله وفضل

__________________

(١) شاذة ذكرها صاحب البحر ٨ / ١٠٨.

(٢) من الآية ١٧ منها : «وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ» فالفتح والاتباع بالضم أو الكسر لغة عامة العرب أما الإسكان فلغة تميم والضم لا يجيء مع اللام اليائية كدمية وكلية لثقل الضم قبل الياء فنقول دميات ودميات بفتح وإسكان فقط ، انظر التبيان «بتصرف» للشيخ كحيل ١٣٤.

(٣) الواقع أن كلاما محذوفا هنا من كلام البغوي فكلامه : «جمع الحجر» ، والحجر جمع الحجرة فهي جمع الجمع. انظر تفسيره ٦ / ٢٢٠.

(٤) سقط من ب.

(٥) زيادة من أ.

(٦) للسياق.

(٧) في ب وتعتق وهو الأقرب.

(٨) في ب بالفخار.

٥٢٨

قومه فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لثابت بن قيس بن شماس ، وكان خطيب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : قم فأجبه فأجابه. وقام شاعرهم فذكر أبياتا فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لحسّان بن ثابت : أجبه فأجابه، فقام الأقرع بن حابس فقال : إن محمدا المؤتى له ، تكلم خطيبنا ، فكان خطيبهم أحسن قولا ، وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر وأحسن قولا ، ثم دنا من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : ما يضرك ما كان من قبل هذا ثم أعطاهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكساهم وكان قد تخلف في ركابهم عمرو بن الأهتم لحداثة سنّه فأعطاه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما أعطاهم فأزرى به بعضهم وارتفعت الأصوات وكثر اللّغط عند رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فنزل فيهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ...) الآيات الأربع إلى قوله : (غَفُورٌ رَحِيمٌ). وقال زيد بن أرقم : جاء ناس من العرب إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل ، فإن يكن نبيا فنحن أسعد الناس به ، وإن يكن ملكا نعيش في جناحه فجاءوا فجعلوا ينادون من وراء الحجرات : يا محمد يا محمد ، فأنزل الله : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ ..) الآية (١).

فصل

في قوله : «أكثرهم» وجوه :

أحدها : أن العرب تذكر الأكثر وتريد الكل ، احترازا عن الكذب واحتياطا في الكلام ، لأن الكل مما لا يحيط به علم الإنسان في بعض الأشياء فيقول الأكثر وفي اعتقاده الكل ، ثم إن الله تعالى مع إحاطة علمه بالأمور أتى بما يناسب كلامهم ، وفيه إشارة إلى لطيفة وهي أن الله تعالى يقول : أنا مع إحاطة علمي بكل شيء جربت على عادتكم استحسانا لتلك العادة ، وهي الاحتراز عن الكذب ، فلا تتركوها واجعلوا اختياري ذلك في كلامي دليلا قاطعا على رضائي بذلك منكم.

الثاني : أن يكون المراد أنهم في أكثر أحوالهم لا يعقلون ، وذلك أن الإنسان إذا اعتبر مع وصف ثم اعتبر مع وصف آخر يكون المجموع الأول غير المجموع الثاني ، مثاله : إذا كان الإنسان جاهلا أو فقيرا فيصير عالما أو غنيا فيقال في العرف : زيد ليس هو الذي رأيت من قبل بل الآن على أحسن حال فيجعله (٢) كأنه ليس ذلك إشارة إلى ما ذكرنا. إذا علم هذا فهم في بعض الأحوال إذا اعتبرتهم مع تلك الحالة مغايرون لأنفسهم

__________________

(١) انظر هذه الأسباب في النزول تفسيري الخازن والبغوي لباب التأويل ومعالم التنزيل ٦ / من ٢٢٠ إلى ٢٢٢ ، وانظر أيضا القرطبي ١٦ / ٣٠٩ و ٣١٠ وقد ذكر الإمام أبو حيان والقرطبي في تفسيريهما أبياتا شعرية من تلك المناظرة انظر البحر ٨ / ١٠٧ والقرطبي ١٦ / ٣٠٥.

(٢) في ب فتجعله.

٥٢٩

إذا اعتبرتهم مع غيرها. فقوله تعالى : (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) إشارة إلى ما ذكرنا.

الثالث : لعل فيهم من رجع عن ذلك الأمر ، ومنهم من استمر على تلك العادة الرّديئة فقال : أكثرهم إخراجا لمن ندم (١) منهم عنهم.

قوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا) تقدم مثله. وجعله الزمخشري فاعلا بفعل مقدر أي ولو ثبت صبرهم. وجعل اسم أن (٢) ضميرا عائدا على هذا الفاعل (٣). وقد تقدم أن مذهب سيبويه أنها في محل رفع بالابتداء وحينئذ يكون اسم «أنّ» ضميرا عائدا على صبرهم المفهوم من الفعل.

قوله : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يحتمل أمرين :

أحدهما : غفور لسوء صنعهم في التعجيل.

وثانيهما : لحسن الصبر يعني بسبب إتيانهم بما هو خير يغفر الله لهم سيئاتهم. ويحتمل أن يكون ذلك حثّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على الصلح. وقوله : (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) كالصبر لهم (٤).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٨)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) قال المفسرون : نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط وهو أخو عثمان لأمه بعثه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى بني المصطلق بعد الموقعة واليا ومصدقا ، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية فلما سمع به القوم تلقّوه تعظيما لأمر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فحثه (٥) الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقال : إنهم منعوا صدقاتهم وأراد قتلي ، فغضب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهمّ أن يغزوهم فبلغ القوم رجوعه فأتوا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقالوا : يا رسول الله : سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله تعالى فأبطأ في الرجوع فخشينا أنه إنما ردّه من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله. فاتّهمهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وبعث خالد بن الوليد

__________________

(١) في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام ٢٨ / ١١٧.

(٢) في النسختين «كان» والأصح ما أثبت أعلى فهو من قوله «وَلَوْ أَنَّهُمْ».

(٣) قال : في موضع الرفع على الفاعلية لأن المعنى ولو ثبت صبرهم.

(٤) الرازي ٢٨ / ١١٨.

(٥) في ب فحدثه.

٥٣٠

خفية في عسكره وقال : انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم وإن لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما يستعمل في الكفار ، ففعل ذلك خالد ووافاهم فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء فأخذ منهم صدقاتهم ولم ير منهم إلا الطاعة والخير وانصرف إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأخبره فنزل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) يعني الوليد بن عقبة «بنبأ» بخبر ، (فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) كيلا تصيبوا بالقتل والقتال قوما بجهالة (فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ) من إصابتكم بالخطأ ، «نادمين» (١).

قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف ، لأن الله تعالى لم يقل : إني أنزلتها لكذا والنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم ينقل عنه أنه قال : وردت الآية لبيان ذلك حسب ، غاية ما في الباب أنها نزلت في ذلك الوقت وهو مثل تاريخ نزول (٢) الآية ، ومما يصدّق ذلك ويؤكده أن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد ، بعيد لأنه توهم وظن فأخطأ ، والمخطىء لا يسمّى فاسقا ، وكيف والفاسق في أكثر المواضع المراد به من خرج عن رتبة الإيمان ، كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) [المنافقون : ٦] وقوله تعالى : (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف : ٥٠] وقوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) [السجدة : ٢٠] إلى غير ذلك؟!.

فصل

دلت الآية على أن خبر الواحد حجة وشهادة الفاسق لا تقبل أما في المسألة الأولى فلأنه علل الأمر بالتوقف بكونه فاسقا ولو كان خبر الواحد العدل لا يقبل لما كان للترتيب على النسق فائدة وأما في المسألة الثانية فلوجهين :

أحدهما : أنه أمر بالتبين (٣) وقيل قوله كان الحاكم مأمورا بالتبين ، فلم يفد قول الفاسق شيئا ، ثم إنّ الله تعالى أمر بالتبين في الخبر والنبأ وباب الشهادة أضيق من باب الخبر.

الثاني : أنه تعالى قال : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ ،) والجهل فوق الخطأ ؛ لأن المجتهد إذ أخطأ لا يسمى جاهلا فالذي يبني الحكم على قول الفاسق إن لم يصب جاهلا (٤) فلا يجوز البناء على قوله (٥).

قوله : (أَنْ تُصِيبُوا) مفعول له كقوله : (أَنْ تَحْبَطَ). قال ابن الخطيب : معناه على

__________________

(١) ذكره البغوي والخازن في تفسيريهما معالم التنزيل ولباب التأويل ٦ / ٢٢٢ وانظر الرازي ٢٨ / ١١٩.

(٢) في الرازي : وهو مثل التاريخ لنزول الآية.

(٣) في ب التبيين.

(٤) كذا في النسختين وفي الرازي : جاهل.

(٥) وهذه الكلمات رأي الرازي نقلها عن الأصحاب العدول. انظر الرازي السابق ٢٨ / ١٢٠.

٥٣١

مذهب الكوفيين لئلّا تصيبوا ، وعلى مذهب البصريين كراهة أن تصيبوا.

قال : ويحتمل أن يكون المراد فتبينوا واتقوا (١) أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ، فقوله «بجهالة» في تقدير حال أي تصيبوهم جاهلين ، ثم حقق ذلك بقوله : (فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ). وهذا بيان ، لأن الجاهل لا بد وأن يندم على فعله. وقوله : «تصبحوا» معناه تصيبوا. قال النحاة : أصبح يستعمل على ثلاثة أوجه :

أحدها : بمعنى دخول الإنسان في الصباح.

والثاني : بمعنى كان الأمر وقت الصباح كما يقال : أصبح المريض اليوم خيرا مما كان يريد كونه في وقت الصبح على حالة خير.

الثالث : بمعنى صار كقوله : «أصبح زيد غنيّا» أي صار من غير إرادة وقت دون وقت(٢).

وهذا هو المراد من الآية. وكذل ك «أمسى وأضحى». قال ابن الخطيب : والصيرورة قد تكون من ابتداء أمر وتدوم وقد تكون في آخر الأمر بمعنى آل الأمر إليه ، وقد تكون متوسطة ؛ فمثال الأول قولك : صار الطّفل فاهما أي أخذ فيه وهو في الزيادة. ومثال الثاني قولك : صار الحقّ بيّنا واجبا أي انتهى حدّه. ومثال الثالث قولك : صار زيد عالما إذا لم ترد أخذه فيه ولا بلوغه ونهايته بل كونه ملتبسا به. وإذا علم هذا فنقول : أصل استعمال أصبح فيما يصير الشيء بالغا في الوصف نهايته (٣) وأصل أضحى التوسط ، لا يقال : أهل الاستعمال لا يفرقون بين الأمور ويستعملون الألفاظ الثلاثة بمعنى واحدا ، لأنّا نقول : إذا تقاربت المعاني جاز الاستعمال ، وجواز الاستعمال لا ينافي الأصل ، وكثير من الألفاظ أصله معنى واستعمل استعمالا شائعا فيما يشاركه. وإذا علم هذا فقوله تعالى : «فتصبحوا» أي فتصيروا آخذين في الندم ثم تستديمونه ، وكذلك في قوله : (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) [آل عمران : ١٠٢] أي أخذتم في الأخوّة وأنتم فيها زائدون مستمرّون.

قوله : «نادمين» الندم همّ دائم ، والنون والدال والميم في تقلبها لا تنفكّ عن معنى الدوام كقول القائل : أدمن في الشّرب ومدمن أي أقام ومنه : المدينة (٤).

__________________

(١) الرازي السابق.

(٢) وقد ذكر كل هذا الإمام في تفسيره الكبير المرجع السابق. أقول : وقد ذكر الإمام السيوطي في الهمع ١ / ١١٤ ذلك وذكر ظل وأضحى وأمسى وكان قد قال : «ترد كان وأصبح وأضحى وأمسى وظلّ بمعنى صار». انظر الهمع ١ / ١١٤.

(٣) في الرازي : وأصل استعمال أصبح فيما يصير الشيء أخذا في وصف ومبتدئا في أمر وأصل أمسى فيما يصير الشيء بالغا في الوصف نهايته.

(٤) وانظر هذا كله في تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٨ / ١٢١. وانظر دوران مادة النّدم في الكشاف ٣ / ٥٦٠.

٥٣٢

قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) فاتقوا الله أن تقولوا باطلا أو تكذّبوه فإن الله يخبره ويعرفه أحوالكم فتفتضحوا.

قوله : (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ) يجوز أن يكون حالا إما من الضمير المجرور في قوله : «فيكم» وإمّا من المرفوع المستتر في «فيكم» لوقوعه خبرا. ويجوز أن يكون مستأنفا (١) ، إلا أنّ الزمخشري منع هذا ، لأدائه إلى تنافر النظم (٢). ولا يظهر ما قاله بل الاستئناف واضح أيضا (٣). وأتى بالمضارع بعد «لو» دلالة على أنه كان في إرادتهم استمرار عمله على ما يستصوبون.

فصل

نقل ابن الخطيب أن الزمخشريّ قال : وجه التعليق هو أن قوله : (لَوْ يُطِيعُكُمْ) في تقدير حال الضمير المرفوع في قوله : فيكم ، والتقدير : كائن فيكم أو موجود فيكم على حال تريدون أن يطيعكم أو يفعل باستصوابكم فلا ينبغي أن يكون على تلك الحال لو فعل ذلك لعنتّم أي (٤) وقعتم في شدة أو أثمتم وهلكتم والعنت الإثم والهلاك.

ثم قال : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ). وهذا خطاب مع بعض المؤمنين غير المخاطبين بقوله : (لَوْ يُطِيعُكُمْ). قال الزمخشري : اكتفى بالتغاير في الصفة واختصر ، ولم يقل : حبّب إلى بعضكم الإيمان وقال أيضا بأن قوله تعالى : (لَوْ يُطِيعُكُمْ) بدل «أطاعكم» إشارة إلى أنهم كانوا يريدون استمرار تلك الحالة ودوام النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على العمل باستصوابهم لكن يكون ما بعدها على خلاف ما قبلها. وههنا كذلك وإن لم يحصل المخالفة بصريح اللفظ ؛ لأن اختلاف المخاطبين في الوصف يدلنا على ذلك ، لأن المخاطبين أولا بقوله : (لَوْ يُطِيعُكُمْ) هم الذي أرادوا أن يكون عملهم لمراد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هذا ما قاله الزمخشري (٥) ، واختاره وهو حسن قال : والذي يجوز أن يقال وكأنه هو الأقوى أن الله تعالى قال : إن جاءكم فاسق بنبإ فتبيّنوا واكشفوا. (ثم (٦)) قال بعده :

__________________

(١) قال بهذه الإعرابات العكبري في التبيان ١١٧١ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٥٦٠.

(٢) قال : الجملة المصدرة بلو لا تكون كلاما مستأنفا لأدائه إلى تنافر النظم ولكن متصلا بما قبله حالا من أحد الضميرين في «فيكم» المستتر ، المرفوع أو البارز المجرور وكلاهما مذهب سديد.

والمعنى : أن فيكم رسول الله على حالة يجب عليكم تغييرها أو أنتم على حالة يجب عليكم تغييرها. انظر الكشاف ٣ / ٥٦٠.

(٣) فقد قال أبو حيان ٨ / ١١٠ : والظاهر أن قوله : «وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ» كلام تام أمرهم بأن يعلموا أن الذي هو بين ظهرانيكم هو رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فلا تخبروه بما لا يصح فإنه رسول الله يطلعه على ذلك ثم أخبر أن رسوله لو أطاعكم في كثير لعنتم.

(٤) الرازي ٢٨ / ١٢٢.

(٥) بالمعنى من الكشاف ٣ / ٥٦٠ و ٥٦١ وباللفظ من الرازي السابق.

(٦) زيادة من ب.

٥٣٣

(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) أي الكشف سهل عليكم بالرجوع إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فإنه فيكم مبيّن مرشد ، وهذا كما يقول القائل عند اختلاف تلاميذ الشيخ في مسألة : هذا الشّيخ قاعد ، لا يريد به بيان قعوده وإنما يريد أمرهم بمراجعته ؛ لأن المراد لا يطيعكم في كثير من الأمر ، وذلك لأن الشيخ إذا كان يعتمد على قول التلاميذ لا يطمئن قلوبهم بالرجوع إليه وإن (١) كان لا يذكر إلا للنقل الصحيح وتقريره بالدليل القوي يراجعه كل أحد فكذلك ههنا فاسترشدوه فإنه يعلم ولا يطيع أحدا فلا يوجد فيه حيف ولا يروج عليه زيف. والذي يدل عليه أن المراد من قوله : لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتّم لبيان امتناع الشرط لامتناع الجزاء ، كما في قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] وقوله : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢] وذلك يدل على أنه ليس فيهما آلهة وأنه ليس من عند غير الله (٢).

قوله : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) هذا استدراك من حيث المعنى لا من حيث اللفظ لأن من حبب إليه الإيمان غايرت صفته صفة من تقدّم ذكره.

فصل

(حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) فجعله أحبّ الأديان إليكم «وزيّنه» حسنه (فِي قُلُوبِكُمْ) حتى اخترتموه (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ) قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ يريد الكذب «والعصيان» جميع معاصي الله. ثم عاد من الخطاب إلى الخبر فقال : (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)(٣).

فصل

قال ابن الخطيب بعد ذكره الكلام المتقدم : وهذا معنى الآية جملة فلنذكره تفصيلا في مسائل :

المسألة الأولى : لو قال قائل : إذا كان المراد بقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) الرجوع إليه فلم لم يصرح بقوله : «فتبيّنوا» وراجعوا النبيّ ـ عليه الصلاة والسلام ـ؟ وما الفائدة في العدول إلى هذا المجاز؟ نقول : فائدته زيادته التأكيد لأنّ قول القائل في المثال المتقدم : هذا الشيخ قاعد آكد في وجوب المراجعة من قوله : راجعوا شيخكم ؛ لأن القائل يجعل (٤) وجوب مراجعته متفقا عليه ويجعل (٥) سبب عدم الرجوع عدم علمهم

__________________

(١) في ب : وإذا.

(٢) قاله الحبر الفهامة الإمام الفخر في تفسيره الكبير ٢٨ / ١٢٢.

(٣) القرطبي ١٦ / ٣١٤ والبغوي والخازن ٦ / ٢٢٣.

(٤) كذا في أوالرازي وفي ب فعل.

(٥) اتفاق من ب وأ وكلاهما اتفاق للرازي.

٥٣٤

بقعوده فكأنه يقول : إنكم لا تشكون في أن الكاشف هو الشيخ وأن الواجب مراجعته ، لكنكم لا تعلمون قعوده ، فهو قاعد فيجعل (١) المراجعة أظهر من القعود ، لأنه يقول خفي عنكم قعوده فتركتم مراجعته ولا يخفى عليكم حسن مراجعته فيجعل حسن المراجعة أظهر من الأمر الخفي بخلاف ما لو قال : راجعوه ، لأنه حينئذ يكون قائلا بأنكم ما علمتم أن مراجعته هو الطريق. وبين الكلامين يون بعيد فكذلك قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) فجعل حسن مراجعته أظهر من كونه فيهم حيث ترك بيانه وأخذ في بيان كونه فيهم. وهذا من المعاني العزيزة التي توجد في المجازات ولا توجد في الصّرائح.

فإن قيل : إذا كان المراد من قوله : «لو يطيعكم» بيان كونه غير مطيع لأحد بل هو ممتنع (٢) للوحي فلم لم يصرّح به؟.

نقول : بيان نفي الشيء مع بيان ذلك النفي أتمّ من بيانه من غير دليل ، والجملة الشرطية بيان للنفي مع بيان دليله وأن قوله : «ليس فيهما آلهة» لو قال قائل : لم قلت إنه ليس فيهما آلهة بحيث أن يذكر الدليل فيقال : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فكذلك ههنا لو قال : لا يطيعكم لقال قائل : لم لا يطيع؟ فوجب أن يقال : لو أطاعكم لأطاعكم لأجل قلتكم ومصلحة أبصاركم لكن لا مصلحة لكم فيه لأنكم تعنتون وتأثمون وهو يشقّ عليه عنتكم كما قال : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) [التوبة : ١٢٨] فإذا أطاعكم لا يفيده (٣) شيئا فلا يطيعكم فهذا نفي الطاعة بالدليل. وبين نفي الشيء بدليل ونفيه من غير دليل فرق عظيم.

واعلم أن في قوله : (فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ) ليعلم أنه قد يوافقهم ويفعل بمقتضى مصلحتهم تحقيقا لقوله : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران : ١٥٩].

فإن قيل : إذا كان المراد بقوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) فلا تتوقفوا فلم لم يصرح به؟.

قلنا : لما بيناه من الإشارة إلى ظهور الأمر يعني أنتم تعلمون أن اليقين لا يتوقف فيه ، إذ ليس بعده مرتبة حتى يتوقف إلى بلوغ الأمر إلى تلك المرتبة ، بخلاف الشك ، فإنه يتوقف إلى بلوغ الأمر إلى درجة الظنّ ، ثم الظن يتوقف إلى اليقين فلما كان عدم التوقف في النفس معلوما متفقا عليه لم يقل : فلا تتوقفوا بل قال : حبّب إليكم الإيمان أي بيّنه وزيّنه بالبرهان النّقيّ (٤).

فصل

قال ابن الخطيب : معنى حبب إليكم أن قرّبه إليكم وأدخله في قلوبكم ، ثم زينه

__________________

(١) كذا في أوالرازي وفي ب فجعل ماضيا.

(٢) كذا في النسختين وفي الرازي : متبع.

(٣) في النسختين : يفده.

(٤) وانظر في هذا تفسير الإمام الفخر ٢٨ / ١٢٤ ، ١٢٤.

٥٣٥

فيها بحيث لا تفارقونه ولا يخرج من قلوبكم وذلك لأن من يحبّ شيئا فقد يسأم منه لطول ملازمته والإيمان كل يوم يزداد حسنا لكل من كانت عبادته أكثر وتحمّله مشاق التكليف أتم تكون العبادة والتكاليف عنده ألذ وأكمل ولهذا قال أولا : حبب إليكم الإيمان ، وقال ثانيا : وزينه في قلوبكم كأنه قربه إليهم ثم أقامه في قلوبهم.

قوله (١) : (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) قال ابن الخطيب : هذه الأمور الثلاث في مقابلة الإيمان الكامل ؛ لأن الإيمان المزين هو التصديق بالجنان. وأما الفسوق فقيل : هو الكذب كما تقدم عن ابن عباس وقال تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) فسمى الكاذب فاسقا وقال تعالى : (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ). وقيل الفسوق الخروج عن الطاعة لقولهم : فسقت الرّطبة (٢) إذا خرجت. وأما العصيان فهو ترك المأمور به. وقال بعضهم (٣) : الكفر ظاهر ، والفسوق هو الكبيرة والعصيان هو الصغيرة (٤).

قوله : «فضلا» يجوز أن ينتصب على المفعول من أجله (٥). وفيما ينصبه وجهان :

أحدهما : قوله : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ) وعلى هذا فما بينهما اعتراض من قوله : (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ).

والثاني : أنه الفعل الذي في قوله «الرّاشدون». وعلى هذا يقال : فكيف جاز أن يكون فضل الله الذي هو فعل الله مفعولا له بالنسبة إلى الرشد الذي هو فعل العبد فاختلف الفاعل ، لأن فاعل الرّشد غير فاعل الفضل؟. وأجاب الزمخشري : بأن الرشد لما كان توفيقا من الله تعالى كان فعل الله وكأنه تعالى أرشدهم فضلا أي يكون متفضّلا عليهم ، منعما في حقهم ، لأن الرشد عبارة عن التحبب والتّزيين والتكريه. وجوز أيضا أن ينتصب بفعل مقدر ، أي جرى ذلك وكان ذلك فضلا من الله (٦). قال أبو حيان : وليس من مواضع إضمار كان ، وجعل كلامه الأول اعتزالا (٧). وليس كذلك لأنه أراد الفعل المسند إلى فاعله لفظا وإلا فالتحقيق أن الأفعال كلها مخلوقة لله تعالى وإن كان الزمخشري غير موافق عليه.

__________________

(١) في ب «فصل» بدل «قوله».

(٢) خرجت من قشرها والفأرة من جحرها. وانظر تفسير العلامة القرطبي الجامع الكبير ١٦ / ٣١٤.

(٣) عبر عنهم الإمام الرازي بقوله : وقال بعض الناس.

(٤) المرجع السابق للرازي ٢٨ / ١٢٥.

(٥) قاله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٥٦٢ وأبو البقاء في التبيان ١١٧١ وأبو حيان نقلا عن الكشاف في البحر ٨ / ١١٠.

(٦) بالمعنى من الكشاف المرجع السابق وباللفظ من تفسير الإمام الفخر ٢٨ / ١٢٥.

(٧) البحر ٨ / ١١١.

٥٣٦

ويجوز أن ينتصب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة ، لأنها فضل أيضا ، إلا أنّ ابن عطية جعله من المصدر المؤكد لنفسه. وجوز الحوفيّ أن ينتصب على الحال وليس بظاهر ويكون التقدير متفضلا منعما أو ذا فضل ونعمة (١) قال ابن الخطيب : ويجوز أن يكون فضلا مفعولا به والفعل مضمرا دل عليه قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) وهم يبتغون فضلا من الله ونعمة (٢) ، قال : لأن قوله : فضلا من الله إشارة إلى ما هو من جانب الله المغني. والنعمة إشارة إلى ما هو من جانب العبد من اندفاع الحاجة. وهذا يؤكد قولنا : أن ينتصب «فضلا» بفعل مضمر وهو الابتغاء والطّلب (٣).

ثم قال : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) وفيه مناسبات :

منها : أنه تعالى لما ذكر نبأ الفاسق قال : فلا يعتمد على ترويجه عليكم الزّور فإن الله عليم ، ولا يقل كقول المنافق : (لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) فإن الله حكيم لا يفعل إلا على وفق حكمته.

وثانيها : لما قال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ) بمعنى لا يطيعكم بل يتبع الوحي (فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) يعلم من يكذبه «حكيم» بأمره بما تقتضيه الحكمة (٤).

قوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(١٠)

قوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ...) الآية. لما حذر المؤمنين من النبأ الصادر من الفاسق أشار إلى ما يلزم منه استدراكا لما يفوت فقال : فإن اتفق أنكم تبنون على قول من يوقع بينكم من الأمر المفضي إلى اقتتال طائفتين من المؤمنين (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) أي الظالم يجب عليكم دفعه ثم إن الظالم إن كان هو الرعية فالواجب على الأمير دفعهم وإن كان هو الأمير فالواجب على المسلمين دفعه بالنصيحة فما فوقها وشرطه أن لا يثير فتنة مثل التي في اقتتال الطائفتين أو أشد منهما (٥).

فصل

الضمير في قوله : «اقتتلوا» عائد على أفراد الطائفتين كقوله (تعالى) (٦) : (هذانِ

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) الرازي ٢٨ / ١٢٥.

(٣) نفسه ٢٨ / ١٢٦.

(٤) السابق.

(٥) كذا في الرازي وفي النسختين منها بالإفراد.

(٦) زيادة من أ.

٥٣٧

خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) [الحج : ١٩] والضمير في قوله : «بينهما» عائد على اللفظ. وقرأ ابن أبي عبلة : اقتتلتا (١) مراعيا للّفظ. وزيد بن علي وعبيد بن عمرو اقتتلا (٢) أيضا إلا أنه ذكر الفعل باعتبار الفريقين ، أو لأنه تأنيث مجازي.

فصل

روى أنس ـ (رضي الله عنه) (٣) ـ قال : قيل للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : لو أتيت عبد الله بن أبيّ (ابن سلول) فانطلق إليه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وركب حمارا (وانطلق المسلمون (٤) يمشون معه) وهو بأرض سبخة ، فلما أتاه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : إليك عنّي والله لقد آذاني نتن حمارك فقال رجل من الأنصار منهم : والله لحمار رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أطيب ريحا منك ، فغضب لعبد الله رجل من قومه فتشاتما فغضب لكل واحد منهم أصحابه ، فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنّعال فنزلت : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) فقرأها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فاصطلحوا وكف بعضهم عن بعض. وقال قتادة : نزلت في رجلين من الأنصار كان بينهما مداراة (٥) في حق بينهما فقال أحدهما للآخر : لآخذنّ حقّي منك عنوة لكثرة عشيرته وإن الآخر دعاء ليحاكمه إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأبى أن يتبعه فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال و (إن) (٦) لم يكن قتال بالسيوف. وقال سفيان عن السدي : كانت امرأة من الأنصار يقال لها : أم زيد تحت رجل وكان بينها وبين زوجها شيء فرقي بها إلى علّيّة وحبسها فبلغ ذلك قومها فجاءوا وجاء قومه فاقتتلوا بالأيدي والنّعال فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) أي بالدعاء إلى حكم كتاب الله والرّضا بما فيه لهما وعليهما (٧).

فصل

قوله : (وَإِنْ طائِفَتانِ (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) إشارة إلى ندرة وقوع الاقتتال بين طوائف المسلمين.

فإن قيل : نحن نرى أكثر الاقتتال في طوائفهم؟

فالجواب : أن قوله تعالى : (إِنْ) إشارة إلى أنه لا ينبغي أن لا يقع إلا نادرا ،

__________________

(١ و ٢) القراءتان كلتاهما شاذتان انظر البحر ٨ / ١١٢ وقد ذكر القرطبي في الجامع ١٦ / ٣١٦ القراءة الأولى فقط.

(٣) زيادة من أ.

(٤) ما بين القوسين ساقط من أ.

(٥) في البغوي : مباراة.

(٦) لفظ «إن» زيادة من النسختين على رواية البغوي وغيره.

(٧) وانظر معالم التنزيل على لباب التأويل للخازن ٦ / ٢٢٤. وقد رواه البغوي عن أبيّ عن أنس رضي الله عنهما أقصد الحديث الأول.

٥٣٨

غاية (١) ما في الباب أن الأمر على خلاف ما ينبغي كذلك : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) إشارة إلى أنّ مجيء الفاسق بالنبأ ينبغي أن لا يقع إلا قليلا مع أن مجيء الفاسق كثير ، وذلك لأن قول الفاسق صار (٢) عند أول الأمر أشدّ قبولا من قول الصادق الصالح ، وقال : (وَإِنْ طائِفَتانِ) ولم يقل : «فرقتان» تحقيقا للمعنى الذي ذكرناه وهو التقليل (٣) ، لأن الطائفة دون الفرقة ، قال تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) [التوبة : ١٢٢].

فصل

قال : من المؤمنين ولم يقل : منكم مع أن الخطاب مع المؤمنين سبق في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) تنبيها على قبح (٤) ذلك وتبعيدا لهم عنه ، كقول السيد لعبده : إن رأيت أحدا من غلماني يفعل كذا فامنعه ، فيصير بذلك مانعا للمخاطب عن ذلك الفعل بالطريق الحسن كأنه يقول : أنت حاشاك أن تفعل ذلك وإن فعل غيرك فامنعه ، كذلك (٥) ههنا.

فصل

قال : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ولم يقل : فإن اقتتل طائفتان من المؤمنين مع أن كلمة «إن» اتصالها بالفعل أولى ، وذلك ليكون الابتداء بما يمنع من القتال فيتأكد معنى النكرة ، والمدلول عليها بكلمة إن ، وذلك لأن كونهما طائفتين (مؤمنتين) (٦) يقتضي أن لا يقع القتال بينهما.

فإن قيل : فلم لم يقل : يا أيها الذين آمنوا إن فاسق «جاءكم» أو إن أحد من الفسّاق جاءكم ليكون الابتداء بما يمنعهم من الإصغاء إلى كلامه وهو كونه فاسقا؟ أو يزداد بسببه فسقه بالمجيء به بسبب الفسق؟

فالجواب : أن الاقتتال لا يقع سببا للإيمان ولا للزيادة فقال : إن جاءكم فاسق أي سواء كان فاسقا أولا أو جاءكم بالنبأ فصار فاسقا به. ولو قال : إن أحد من الفسّاق جاءكم لا يتناول إلا مشهور الفسق قبل المجيء إذا جاءهم بالنّبأ.

فصل

قال تعالى : (اقْتَتَلُوا) ولم يقل يقتتلوا (بصيغة الاستقبال) ؛ لأن صيغة الاستقبال

__________________

(١) في ب فغاية.

(٢) في ب صادر.

(٣) في النسختين التعليل. وفي الرازي التقليل كما كتبتها.

(٤) في النسختين فتح. والرازيّ كتبها قبح كما هو واضح.

(٥) في ب كذا وليس كذلك.

(٦) زيادة من الرازي للسياق.

٥٣٩

تنبىء عن الدوام والاستمرار فيفهم (١) منه أن طائفتين من المؤمنين إن تمادى الاقتتال بينهما فأصلحوا ، وهذا لأن صيغة المستقبل تنبىء عن ذلك ، يقال : فلان يتهجّد ويصوم.

فصل

قال : «اقتتلوا» ولم يقل : اقتتلا وقال : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) ولم يقل : بينهم لأن الفتنة قائمة عند الاقتتال (٢) ، وكل أحد (٣) برأسه (٤) يكون فاعلا فعلا فقال : اقتتلوا وعند الصلح تتفق كلمة كلّ طائفة وإلا لم يتحقق (الصلح) (٥) فقال : «بينهما» لكون الطائفتين حينئذ كنفسين.

قوله : «فإن بغت إحداهما على الأخرى» وأبت الإجابة إلى حكم كتاب الله. وقيل : إلى طاعة الرسول وأولي الأمر. وقيل : إلى الصّلح. كقوله تعالى : (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) [الأنفال : ١] وقيل : إلى التقوى ، لأن من خاف الله لا يبقى له عدو إلا الشيطان ، لقوله : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) [فاطر : ٦].

فإن قيل : كيف يصح في هذا الموضع كلمة «إن» مع أنها تستعمل في الشرط الذي لا يتوقع وقوعه وبغي أحدهما عند الاقتتال متحقق الوقوع فيكون مثل قول القائل : إن طلعت الشّمس؟

فالجواب : أن فيه معنى لطيفا وهو أن الله تعالى يقول : الاقتتال بين طائفتين لا يكون إلا نادر الوقوع لأن كل طائفة تظن أن الأخرى فئة الكفر والفساد كما يتحقق (٦) في الليالي المظلمة ، أو يقع لكل طائفة أن القتال جائز باجتهاد خطأ ، فقال تعالى : الاقتتال لا يقع إلا كذا فإن بان لهما أو لأحدهما الخطأ واستمرّ عليه فهو نادر وعند ذلك يكون قد بغى فقال : (فَإِنْ بَغَتْ) يعني بعد انكشاف الأمر ، وهذا يفيد النّدرة وقلّة الوقوع.

فإن قيل : لم قال : فإن بغت ولم يقل : فإن تبغ؟

فالجواب : ما تقدم في قوله تعالى : (اقْتَتَلُوا) ولم يقل : يقتتلوا (٧).

قوله : (حَتَّى تَفِيءَ) العامة على همزة من فاء يفيء أي رجع كجاء يجيء. والزهري : بياء مفتوحة كمضارع وفا (٨) وهذا على لغة من يقصر فيقال (٩) : «جا ، يجي»

__________________

(١) في ب منعهم.

(٢) في ب القتال.

(٣) في ب واحد.

(٤) في النسختين : برأيه ولكن الرازي كتبها هكذا.

(٥) سقط من ب.

(٦) في ب سبق. وفي الرازي يتفق.

(٧) وانظر هذا كله في تفسير الإمام ٢٨ / ١٢٧ و ١٢٨.

(٨) الأصح إملائيا : وفى.

(٩) في ب فتقول وهذه القراءة ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٤٣.

٥٤٠