اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٨٤

وموسى ، وهم المذكورون على النّسق في سورة الأعراف والشّعراء.

وقال مقاتل : هم ستة ، نوح صبر على أذى قومه ، كانوا يضربونه حتى يغشى عليه ، وإبراهيم صبر على النار وذبح الولد ، وإسحاق صبر على الذبح ، ويعقوب ، صبر على فقد ولده ، وذهاب بصره ، ويوسف صبر في الجبّ والسّجن ، وأيوب صبر على الضرّ. وقال ابن عباس وقتادة : هم نوح ، وإبراهيم ، وموسى وعيسى أصحاب الشرائع ، فهم مع محمّد خمسة. قال البغوي : ذكرهم الله على التخصيص في قوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) [الأحزاب : ٧] وفي قوله : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) [الشورى : ١٣] الآية (١) روي أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال لعائشة : يا عائشة إن الله لم يرض لأولي العزم إلا بالصّبر على مكروهها ، والصبر على محبوبها لم يرض إلا أن كلفني ما كلفهم قال : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) ، وإني والله لا بدّ لي من طاعة ، والله لأصبرنّ كما صبروا وأجهدنّ ولا قوة إلا بالله.

قوله : (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) العذاب فإنه نازل بهم. قيل : إن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ضجر من قومه بعض الضّجر ، وأحبّ أن ينزل الله العذاب بمن (٢) أبى من قومه ، فأمر بالصبر ، وترك الاستعجال. ثم أخبر أن ذلك العذاب إذ أنزل بهم يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا حتى يحسبونها ساعة من نهار فقال : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ) من العذاب (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا والبرزخ كأنه ساعة من النهار ، أو كان لم يكن لهول ما عاينوا ، لأن ما مضى وإن كان طويلا صار كأنه لم يكن ، قال الشاعر :

٤٤٦١ ـ كأنّ شيئا لم يكن إذا مضى

كأنّ شيئا لم يكن إذا أتى (٣)

واعلم أنه تم الكلام ههنا.

قوله : «بلاغ» العامة على رفعه. وفيه وجهان :

أحدهما : أنه خبر مبتدأ محذوف ، فقدره بعضهم : تلك الساعة بلاغ ، لدلالة قوله : (إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ)(٤). وقيل : تقديره هذا أي القرآن والشرع بلاغ من الله إليكم (٥).

والثاني : أنه مبتدأ والخبر قوله «لهم» الواقع بعد قوله (وَلا تَسْتَعْجِلْ) أي لهم بلاغ

__________________

(١) انظر معالم التنزيل له ٦ / ٤٧.

(٢) في ب ممن غير مراد.

(٣) في الرازي : لم يزل وقد أتى به استئنافيّا للمعنى المذكور أعلى وانظر الرازي ٢٨ / ٣٥ والبيت لم أعرف قائله وهو من بحر الرجز.

(٤) ذكره أبو حيان ولم يعيّنه انظر البحر ٨ / ٦٩.

(٥) انظر المرجع السابق وهو رأي الحسن فيما نقله القرطبي في الجامع ١٦ / ٢٢٢.

٤٢١

فيوقف على (وَلا تَسْتَعْجِلْ). وهو ضعيف جدا ، للفصل بالجملة التشبيهية ، ولأن الظاهر تعلّق «لهم» بالاستعجال فهو يشبه الهيئة والقطع (١).

وقرأ زيد بن علي والحسن وعيسى «بلاغا» (٢) نصبا على المصدر أي بلّغ بلاغا. ويؤيده قراءة ابن مجلز «بلّغ» أمرا (٣). وقرأ أيضا «بلّغ» فعلا ماضيا (٤). ويؤخذ من كلام مكّيّ أنه يجوز نصبه نعتا «لساعة» فإنه قال : «ولو قرىء بلاغا بالنصب على المصدر ، أو على النعت لساعة جاز» (٥). وكأنه لم يطلع على ذلك قراءة. وقرأ الحسن أيضا : بلاغ بالجر (٦) ، ويخرّج على الوصف ل «نهار» على حذف مضاف أي من نهار ذي بلاغ (٧) ، أو وصف الزمان بالبلاغ مبالغة. والبلاغ بمعنى التّبليغ.

قوله : (فَهَلْ يُهْلَكُ) العامة على بنائه للمفعول. وابن محيصن يهلك ـ بفتح الياء وكسر اللام ـ مبنيا للفاعل (٨). وعنه أيضا (٩) فتح اللام وهي لغة والماضي هلك ، بالكسر (١٠). قال ابن جني (١١) : «كلّ مرغوب عنها». وزيد بن ثابت : بضم الياء وكسر اللام ، فالفاعل هو الله تعالى. (الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ)(١٢). نصبا على المفعول به. وقرىء : «نهلك» بالنون وكسر اللام ونصب «القوم» (١٣).

فصل

المعنى فهل يهلك بالعذاب إذا نزل إلّا القوم الفاسقون الخارجون عن أمر الله (١٤) قال الزجاج : تأويله لا يهلك مع رحمة الله وفضله إلّا القوم الفاسقون (١٥) ، ولهذا قال

__________________

(١) بالمعنى من البحر المحيط المرجع السابق.

(٢) ذكرها أبو الفتح في المحتسب وهي شاذة انظر المحتسب ٢ / ٢٦٨.

(٣) المرجع السابق.

(٤) ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٤٠ وذكر أنها عن أبي مجلز أيضا.

(٥) قال : «ولو نصب في الكلام على المصدر أو على النعت لساعة لجاز» مشكل إعراب القرآن ٣ / ٣٠٤.

(٦) التبيان ١١٥٩ والبحر ٨ / ٦٩.

(٧) المرجع السابق.

(٨) المحتسب ٢ / ٢٦٨ وهي شاذة.

(٩) قال في المحتسب : «وبعض الناس يقول : فهل يهلك».

(١٠) كذا في البحر لأبي حيان وفي المحتسب أنها بفتح اللام.

(١١) كذا في النسختين وفي المحتسب : وهي مرغوب عنها أي تلك القراءة الأخيرة وانظر المحتسب ٢ / ٢٦٨.

(١٢) البحر ٨ / ٦٩ ومختصر ابن خالويه ١٤٠.

(١٣) الكشاف ٣ / ٥٢٨ وكلها شواذ ولم يحدد من قرأ بها.

(١٤) وهو رأي ابن عباس وغيره انظر القرطبي ١٦ / ٢٢٢.

(١٥) معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٤٤٨.

٤٢٢

قوم : ما في الرّجاء لرحمة الله أقوى من هذه الآية (١). روى أبيّ بن كعب (ـ رضي الله عنه) (٢) ـ قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : من قرأ سورة الأحقاف أعطي من الأجر بعدد كلّ رمل في الدّنيا عشر حسنات ومحي عنه عشر سيّئات ورفع له عشر درجات (٣). (اللهمّ توفّنا (٤) مسلمين).

__________________

(١) القرطبي المرجع السابق.

(٢) زيادة من أالأصل.

(٣) ذكره الزمخشري دون سند كعادته في نهاية كل سورة انظر الكشاف ٣ / ٥٢٨.

(٤) ما بين القوسين زيادة من أأيضا.

٤٢٣

سورة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ

مدنية (١). وهي ثمان وثلاثون (٢) آية ، وخمسمائة وتسع وثلاثون كلمة ، وألفان وثلاثمائة وتسعة وأربعون حرفا.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى :(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ)(٣)

قوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ...) أول هذه السورة مناسب لآخر السورة المتقدمة. والمراد بالذين كفروا قيل : هم الذين كانوا يطعمون الجيش يوم بدر ، منهم أبو جهل والحارث بن هشام ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وغيرهم (٣). وقيل : كفار قريش. وقيل : أهل الكتاب. وقيل : كل كافر (٤). ومعنى صدّهم عن سبيل الله ، قيل : صدوا أنفسهم عن السّبيل ، ومنعوا عقولهم من اتّباع الدليل. وقيل : صدوا غيرهم ومنعوهم (٥).

قوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا) يجوز فيه الرفع على الابتداء والخبر الجملة من قوله : (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) ويجوز نصبه على الاشتغال بفعل مقدر يفسره «أضل» من حيث المعنى (٦) ، أي خيّب الّذين كفروا.

قوله : (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي أبطلها فلم يقبلها وأراد بالأعمال ما فعلوا من إطعام

__________________

(١) في قول ابن عباس ، ذكره النحاس. وقال الماوردي : في قول الجميع إلا ابن عباس وقتادة فإنهما قالا : إلا آية منها نزلت عليه بعد حجّة الوداع حين خرج من مكة. وقال الثعلبي : إنها مكية وحكاه ابن هبة الله عن الضحاك وسعيد بن جبير. وانظر القرطبي ١٦ / ٢٢٣.

(٢) وقيل : تسع وثلاثون.

(٣) ونسب هذا لابن عباس.

(٤) الرازي ٢٨ / ٣٦.

(٥) المرجع السابق أيضا.

(٦) التبيان ١١٦.

٤٢٤

الطعام ، وصلة الأرحام. قال الضحاك : أبطل كيدهم ومكرهم بالنبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وجعل الدائرة عليهم (١).

قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) يجوز فيه الوجهان المتقدمان ، وتقدير الفعل : «رحم الّذين آمنوا».

قوله : (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) والعامة على بناء الفعل نزل للمفعول مشددا ، وزيد بن علي وابن مقسم نزّل مبنيّا (٢) للفاعل وهو الله ، والأعمش أنزل بهمزة التعدية مبنيا للمفعول (٣). وقرىء : نزل ثلاثيا مبنيا للفاعل (٤). قال سفيان الثوري : لم يخالفوه في شيء. قال ابن عباس : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا) مشركو مكّة والذين آمنوا وعملوا الصالحات الأنصار.

قوله : (وَهُوَ الْحَقُّ) جملة معترضة بين المبتدأ والخبر وبين المفسّر والمفسّر.

قوله : (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) حالهم (٥). وتقدم تفسير «البال» في طه(٦). قال ابن عباس ـ (رضي الله عنه ـ) : معنى : أصلح ، أي عصمهم أيّام حياتهم يعني أن هذا الإصلاح يعود إلى صلاح أعمالهم حتّى لا يعصوا.

فصل

قالت المعتزلة : تكفير السيئات مرتّب على الإيمان ، والعمل الصالح ، فمن آمن ولم يعمل صالحا يبقى في العذاب خالدا.

والجواب : لو كان كما ذكرتم لكان الإضلال مرتبا على الكفر والصّد ، فمن يكفر لا ينبغي أن تضل أعماله. أو نقول : إن الله تعالى رتّب أمرين فمن آمن كفر سيئاته ، ومن عمل صالحا أصلح باله. أو نقول : أي مؤمن يتصور غير آت بالصالحات بحيث لا يصدر عنه صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا طعام ، وعلى هذا فقوله : «وعملوا» من عطف المسبب على السبب كقول القائل : أكلت كثيرا وشبعت.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله : (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) مع أن قوله : (آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أفاد هذا المعنى؟.

فالجواب من وجوه :

__________________

(١) القرطبي ١٦ / ٢٢٤.

(٢) من القراءات الشاذة غير المتواترة انظر الكشاف ٣ / ٥٣٠ والبحر ٨ / ٧٣.

(٣) قراءة كسابقتها في الشذوذ وانظر المرجعين السابقين.

(٤) لم ترو أيضا في المتواتر ولم تنسب في كلّ من المرجعين السابقين.

(٥) انظر هذه المعاني في القرطبي ١٦ / ٢٢٤.

(٦) عند قوله : «فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى» الآية ٥١.

٤٢٥

الأول : قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي بالله ورسوله ، واليوم الآخر ، وقوله : (آمَنُوا بِما نُزِّلَ) أي بجميع الأشياء الواردة في كلام الله ورسوله تعميما بعد أمور خاصة كقولنا : خلق الله السماوات والأرض وكل شيء إما على معنى وكل شيء غير ما ذكرنا ، وإما على العموم بعد ذكر الخصوص.

والثاني : أن يكون المعنى آمنوا من قبل بما نزل على محمد (وَهُوَ الْحَقُّ) المعجز الفارق بين الكاذب والصادق يعني آمنوا أولا بالمعجز ، وأيقنوا أن القرآن لا يأتي به غير الله فآمنوا وعملوا الصالحات والواو للجمع المطلق. (و) يجوز أن يكون المتأخر ذكرا متقدما وقوعا ، وهذا كقول القائل آمن به وكان الإيمان به واجبا ويكون بيانا لإيمانهم ، كأنه قال : آمنوا وآمنوا بما نزل على محمد أي آمنوا وآمنوا بالحق كقول القائل : خرجت وخرجت مصيبا أي وكان خروجي جيدا ، حيث نجوت من كذا أو ربحت كذا ، فكذلك لما قال آمنوا بين أن إيمانهم كان بما أمر الله وأنزل الله لا بما كان باطلا من عند غير الله.

قوله : «ذلك» فيه وجهان :

أظهرهما : أنه مبتدأ والخبر الجار بعده (١).

الثاني ـ قاله الزمخشري ـ : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي الأمر ذلك بسبب كذا (٢). فالجار في محلّ نصب قال أبو حيان : ولا حاجة إليه (٣).

قوله : (بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ) أي الشيطان. وقيل : قول كبرائهم ، ودين آبائهم وأنّ الّذين آمنوا اتّبعوا الحقّ من ربّهم» يعني القرآن. وقيل : الحق هو الله تعالى.

وعلى هذا فلا يكون قوله : (مِنْ رَبِّهِمْ) متعلقا بالحق وإنما يتعلق بقوله تعالى : (اتَّبَعُوا) أي اتبعوا من ربهم ، أو من فضل الله أو هداية ربهم اتبعوا بالحق ؛ وهو الله تعالى. ويحتمل أن يقال : قوله : (مِنْ رَبِّهِمْ) عائد إلى الفريقين جميعا ، أي من ربهم اتبع هؤلاء الباطل ، وهؤلاء الحق ، وأي من حكم ربهم ومن عند ربهم (٤).

قوله : (كَذلِكَ يَضْرِبُ) خرجه الزمخشري على مثل ذلك الضرب يضرب الله للناس أمثالهم (٥) (والضمير راجع إلى الفريقين أو إلى الناس على معنى أنه يضرب أمثالهم) (٦) لأجل الناس ليعتبروا (انتهى) (٧).

فصل

قال الزجاج : معناه كذلك بين الله أمثال حسنات المؤمنين وإضلال أعمال

__________________

(١) هذا رأي أبي حيان في البحر ٨ / ٧٣.

(٢) الكشاف ٣ / ٥٣٠.

(٣) البحر المحيط المرجع السابق.

(٤) الرازي ٢٨ / ٤٢.

(٥) الكشاف المرجع السابق.

(٦) ما بين القوسين ساقط من (ب).

(٧) زيادة من (ب).

٤٢٦

الكافرين (١). والمراد بالأمثال الأشكال. وقيل : بين كون الكافر متبعا للباطل وكون المؤمن متبعا للحق. والضمير في قوله «أمثالهم» فيه وجهان :

أحدهما : أنه يعود إلى الناس ، كأنه تعالى قال : يضرب للناس أمثال أنفسهم.

والثاني : يعود إلى الفريقين السابقين ، والمعنى يضرب الله للناس أمثال الفريقين السّابقين(٢).

قوله تعالى : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ)(٦)

قوله : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) العامل في هذا الظرف فعل مقدر هو العامل في «ضرب (الرِّقابِ) تقديره فاضربوا الرقاب وقت ملاقاتكم العدوّ (٣). ومنع أبو البقاء أن يكون المصدر نفسه عاملا ، قال : لأنه مؤكّد (٤) وهذا أحد القولين في المصدر النائب عن الفعل ، نحو : ضربا زيدا ، هل العمل منسوب إليه أم إلى عامله؟ ومنه (قول الشاعر) (٥) :

٤٤٦٢ ـ على حين ألهى النّاس جلّ أمورهم

فندلا زريق المال ندل الثّعالب (٦)

فالمال منصوب إما ب «اندل» أو ب «ندلا» والمصدر هنا أضيف إلى معموله. وبه استدل على أن العمل للمصدر ، لإضافته إلى ما بعده ولو لم يكن عاملا لما أضيف إلى ما بعده(٧).

فصل

قال ابن الخطيب : الفاء في قوله : (فَإِذا لَقِيتُمُ) يستدعي متعلّقا تعلّق به وترتّب عليه وفيه وجوه :

الأول : لما بين أن الذين كفروا أضل أعمالهم ، وأن اعتبار الإنسان بالعمل ومن لا

__________________

(١) معاني القرآن وإعرابه ٥ / ٣.

(٢) الكشاف ٣ / ٥٣٠ والرازي ٢٨ / ٤٢ و ٤٣.

(٣) البحر المحيط ٨ / ٧٣ والتبيان ١١٦٠.

(٤) المرجع السابق.

(٥) زيادة من (ب).

(٦) نسب إلى الأحوص وإلى جرير وإلى أعشى همدان ، وزريق اسم قبيلة وندل الثعالب يريد السرعة.

وهذا الشاعر يصف قوما لصوصا يأتون إلى دارين فيسرقون ويملئون حقائبهم ثم يفرغونها ويعودون إلى دارين. وقوله : «على حين ألهى الناس جل أمورهم» يريد حين اشتغل الناس بالفتن والحروب.

والندل التناول. والشاهد : نصب المال بفعل مقدر أو بالمصدر على ما أوضحه أعلى وعلى جواز الأمرين وفيه شاهد أخرى وهو فتح نون «حين» دليلا على بنائها. وانظر الإنصاف ٢٩٣ والخصائص ١ / ١٢٠ والتّصريح ١ / ٣٣١ والأشموني ٢ / ١١٦ و ٢٥٨ والصحاح ندل والبحر ٨ / ٧٣.

(٧) المرجع السابق.

٤٢٧

عمل له فهو همج إعدامه خير من وجوده. (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) بعد ظهور أن لا حرمة لهم بعد إبطال عملهم فاضربوا أعناقهم (١) قال البغوي : فضرب الرقاب نصب على الإغراء.

الثاني : إذا تبين تباين الفريقين وتباعد الطريقين بأن أحدهما يتبع الباطل وهو حزب الشيطان والآخر يتبع الحق وهو حزب الرحمن حق القتال (عند التّحزّب) (٢) فإذا لقيتموهم فاقتلوهم.

الثالث : أن من الناس من يقول لضعف قلبه وقصور نظره إيلام الحيوان من الظّلم والطّغيان ولا سيما القتل الذي هو تخريب بنيان. فيقال ردّا عليهم : لما كان اعتبار الأعمال باتباع الحق والباطل فلمن يقتل في سبيل الله لتعظيم الله وبأمره له (من (٣)) الأجر ما للمصلي والصائم فإذا لقيتم الذين كفروا فاقتلوهم ولا تأخذكم بهم رأفة ، فإن ذلك اتباع للحق والاعتبار به لا بصورة الفعل.

فصل

والحكمة في اختيار ضرب الرقبة دون غيرها من الأعضاء ، لأن المؤمن هنا ليس بدافع ، إنما هو مدافع وذلك لأن من يدفع الصائل (٤) لا ينبغي أن يقصد أولا مقتله ، بل يتدرّج ويضرب غير المقتل فإن اندفع فذاك ، ولا يرقى إلى درجة الإهلاك ، فأخبر تعالى أنه ليس المقصود دفعهم عنكم بل المقصود دفعهم عن وجه الأرض بالكلية ، وتطهير الأرض منهم وكيف لا والأرض لكم مسجد ، والمشركون نجس ، والمسجد يطهّر من النجاسة؟ فإذا ينبغي أن يكون قصدكم أولا إلى قتلهم بخلاف دفع الصّائل. والرقبة أظهر المقاتل ، لأن قطع الحلقوم والأوداج مستلزم للموت ، بخلاف سائر المواضع ولا سيما (٥) في الحرب. وفي قوله «لقيتم» ما ينبىء عن مخالفتهم الصّائل ، لأن قوله: «لقيتم» يدل على أن القصد من جانبهم بخلاف قولنا «لقيكم» ، ولذلك قال في غير هذا الموضع (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) [النساء : ٩١].

فإن قيل : ما الفائدة في قوله ههنا : (فَضَرْبَ الرِّقابِ) بإضمار الفعل وإضمار

__________________

(١) الرازي ٢٨ / ٤٣.

(٢) زيادة من الرازي.

(٣) سقط من (أ) الأصل.

(٤) أي الساطي يقال : صال على قومه صولا وصيالا وصؤولا وصولانا وصالا ومصالة : سطا. فهو اسم فاعل. وهذا يبين أسلوب الرازي والتواءه. وانظر الرازي ٢٨ / ٤٣ واللسان صول ٢٥٢٨.

(٥) في (ب) والرازي : لكن في الحرب لا يتهيأ ذلك والرقبة طاهرة في الحرب. وفي الرازي فقط : ففي ضربها حزّ العنق وهو مستلزم للموت بخلاف سائر المواضع ولا سيما في الحرب. وانظر الرازي ٢٨ / ٤٣.

٤٢٨

المصدر ، وقال في الأنفال : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) [الأنفال : ١٢] بإظهار الفعل وترك المصدر؟!.

فالجواب مبني على تقديم مقدّمة ، وهي أن المقصود في بعض الصور قد يكون صدور الفعل من فاعل ويتبعه المصدر ضمنا ؛ إذ لا يمكن أن يفعل فاعل إلا ويقع منه المصدر ، ويدخل في الوجود ، وقد يكون المقصود أولا المصدر ، ولكنه لا يوجد إلا فاعل ، فيطلب منه أن يفعل مثاله من قال : إنّي حلفت أن أخرج من المدينة ، فيقال له : فاخرج صار المقصود صدور الفعل منه والخروج في نفسه غير مقصود الابتعاد (١) ولو أمكن أن يخرج من غير تحقق الخروج منه لما كان عليه أن لا يخرج لكن في ضرورة الخروج أن يخرج (٢). فإذا قال قائل صادق : ضاق بي (٣) المكان بسبب الأعداء فيقال مثلا : الخروج يعني الخروج فاخرج فإن الخروج هو المطلوب ، حتى لو أمكن الخروج من غير فعل منه ، لحصل الغرض لكنه محال فيتبعه الفعل. وإذا عرف هذا فيقال : في الأنفال الحكاية عن الحرب الكائنة ، وهم كانوا فيها والملائكة أنزلوا للنّصرة (و) (٤) من حضر في صفّ القتال ، فصدور الفعل منه مطلوب. وههنا الأمر وارد ليس في وقت القتال ، بدليل قوله تعالى : (فَإِذا لَقِيتُمُ) والمقصود بيان كون المصدر مطلوبا لتقدم المأمور على الفعل قال : (فَضَرْبَ الرِّقابِ). وفي ذلك بيان فائدة أخرى ، وهي أن الله تعالى قال هناك (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) وذلك لأن الوقت وقت القتال فأرشدهم إلى القتل وغيره إن لم يصيبوا المقتل وههنا ليس (٥) وقت القتال. فبين أن المقصود القتل وغرض المسلم ذلك (٦).

قوله : (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ) هذه غاية للأمر بضرب الرّقاب ، لا لبيان غاية القتل (٧). وقوله : (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) قرأ السّلميّ : فشدّوا ـ بكسر (٨) الشين وهي ضعيفة (٩) جدّا. والوثاق ـ بالفتح وفيه الكسر ـ اسم ما يوثق به والمعنى حتى إذا أثخنتموهم أي بالغتم في القتل وقهرتموهم فشدّوا الوثاق يعني في الأسر حتى لا يفلتوا. والأسر (١٠) يكون بعد المبالغة في القتل كقوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) [الأنفال : ٦٧].

__________________

(١) كذا في النسختين وفي الرازي الانتقاء وهو أقرب.

(٢) في (ب) وإذا بالواو.

(٣) وفيها : في بدل بي.

(٤) زيادة من النسختين معا عن الرازي ففيه : أنزلوا لنصره من حضر.

(٥) كذا هو الأصح من (ب) والرازي ففي (أ) قال وهو خطأ وسهو من الناسخ.

(٦) وانظر الرازي ٢٨ / ٤٤.

(٧) قاله الرازي في مرجعه السابق.

(٨) وهي شاذة ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٤٠ والبحر ٨ / ٧٤.

(٩) نظرا لعدم إتباع حركة العين للام ففيه ثقل من كسر إلى ضم.

(١٠) في (ب) الأمر وهو تحريف.

٤٢٩

قوله : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً). فيهما وجهان :

أشهرهما : أنهما منصوبان على المصدر بفعل (١) لا يجوز إظهاره ؛ لأن المصدر متى سبق تفصيلا لعاقبة جملة وجب نصبه بإضمار فعل لا يجوز إظهاره ، والتقدير : فإمّا أن تمنّوا وإمّا أن تفادوا (٢) فداء ومثله (٣) :

٤٤٦٣ ـ لأجهدنّ فإمّا درء واقعة

تخشى وإمّا بلوغ السّؤل والأمل (٤)

والثاني : قال أبو البقاء : إنهما مفعولان بهما لعامل مقدر تقديره : أولوهم منّا واقبلوا منهم فداء (٥).

قال أبو حيان : وليس بإعراب نحويّ (٦).

وقرأ ابن كثير : فدى ـ بالقصر (٧) ـ قال أبو حاتم : لا يجوز ، لأنه مصدر فاديته. ولا يلتفت إليه (٨) ؛ لأن الفرّاء حكى فيه أربع لغات المشهور المدّ والإعراب (٩) : فداء لك ، وفداء بالمد أيضا والبناء على الكسر ، والتنوين ، وهو غريب جدا. وهذا يشبه قول بعضهم : هؤلاء بالتنوين. وفدى بالكسر مع القصر ، وفدا بالفتح مع القصر أيضا (١٠). والأوزار هنا الأثقال. وهو مجاز. وقيل : هو من مجاز الحذف أي أهل الحرب. والأوزار عبارة عن آلات الحرب قال (الشاعر في معنى ذلك رحمه‌الله) (١١) :

__________________

(١) وإلى هذا ذهب القرطبي في الجامع ١٦ / ٢٢٦ ، والزمخشري في الكشاف ٣ / ٥٣١ والرازي في تفسيره ٢٨ / ٤٤ والنحاس في الإعراب ٤ / ١٧٩ وأبو البقاء في التبيان ١١٦٠ وابن الأنباري في البيان ٢ / ٣٧٤ والفراء في المعاني ٣ / ٥٧ وأبو عبيدة في المجاز ٢ / ٢١٤.

(٢) قدره الزمخشري في الكشاف : فإما تمنّون وإما تفدون.

(٣) بالمعنى من البحر المحيط ٨ / ٧٤ و ٧٥.

(٤) من البسيط ولم أهتد إلى قائلة والمعنى فيه واضح والشاهد : نص ب «درء وبلوغ» على المصدر بفعل واجب الإضمار حيث وقع في سياق تفسير عاقبة خبر ، فهو من المواضع التي يجب فيها حذف الفعل وجوبا. وانظر الهمع ١ / ١٩٢ والبحر المحيط ٨ / ٧٥ والسراج المنبر ٤ / ٢٣.

(٥) التبيان ١١٦٠.

(٦) في البحر : إعراب وانظر البحر المرجع السابق.

(٧) لم ترو عنه في المتواتر. انظر المختصر ١٤٠ والبحر ٨ / ٧٥ والقرطبي ١٦ / ٢٢٦ بدون نسبة.

(٨) هذا دفاع أبي حيان انظر المرجع السابق.

(٩) كذا في النّسختين وفي البحر : الإغراء وهو وإن كان جائزا إلا أن الإعراب هو المراد.

(١٠) لم أجد هذا في كتابه «معاني القرآن» وهو في المقصور والممدود له ٢٥ و ٢٦ وانظر البحر ٨ / ٧٥ وإعراب النحاس ٤ / ١٧٩.

(١١) ما بين القوسين سقط من (ب).

٤٣٠

٤٤٦٤ ـ وأعددت للحرب أوزارها

رماحا طوالا وخيلا ذكورا (١)

وحتى الأولى غاية لضرب الرقاب ، والثانية ل «شدّوا» ويجوز أن يكونا غايتين لضرب الرّقاب على أن الثانية توكيد وبدل.

قال ابن الخطيب : وفي تعلق «حتّى» وجهان :

أحدهما : تعلقها بالقتل أي اقتلوهم حتّى تضع.

وثانيهما : بالمنّ والفداء. ويحتمل أن يقال متعلقة بقوله : (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) وتعلقها بالقتل أظهر (٢).

فصل

قدم المن على الفداء ، لأن حرمة النفس راجحة على طلب المال. والفداء يجوز أن يكون مالا ويجوز أن يكون غيره من الأشياء ، ويشرط بشرط عليهم ، أو عليه وحده (٣).

فصل

قال ابن الخطيب : الوزر الإثم أو السّلاح ، والإثم إنما هو على المحارب وكذلك السلاح ومعناه تضع الحرب الأوزار التي على المحاربين أو السلاح الذي عليهم ، كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] فكأنه قال : حتى تضع أمة الحرب ، أو فرقة الحرب أوزارها. والمراد انقضاء الحرب بالكلية بحيث لا يبقى في الدنيا حزب من أحزاب الكفر لا حزب من أحزاب الإسلام هذا إذا أمعنت النظر في المعنى. ولو قلنا : حتى تضع أمة الحرب جاز أن يضعوا الأسلحة ويتركوا الحرب وهي باقية ، كقول القائل : خصومتي ما انفصلت ، ولكني تركتها في هذه الأيام. وإذا أسندنا الوضع إلى الحرب يكون معناه إن الحرب لم تبق. واختلفوا في وقت وضع الأوزار على أقوال ، يرجع حاصلها إلى الوقت الذي لا يبقى فيه حزب من أحزاب الإسلام ، ولا حزب من أحزاب الكفر. وقيل : ذلك عند قتال الدجال ونزول عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ (٤).

فصل

اختلف العلماء في حكم هذه الآية ، فقال قوم : هي منسوخة بقوله : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي

__________________

(١) نسب هذا البيت لأكثر من واحد ، فقد نسبه ابن عطية لعمرو بن معد يكرب. ونسبه الزمخشري للأعشى وكذلك في القرطبي ومجمع البيان ، بينما نسبه أبو حيان لعمرو كابن عطية والأصح أنه للأعشى كما في الديوان ٨٧ و ٨٨ وهو من المتقارب وشاهده : في كلمة الأوزار ، فإن معناها الأثقال والآلات للحرب وانظر القرطبي ١٦ / ٢٢٩ ومجمع البيان ٩ / ١٤٥ والكشاف ٣ / ٥٣٥ والبحر ٨ / ٧٥.

(٢) الرازي ٢٨ / ٤٥.

(٣) السابق.

(٤) الرازي السابق.

٤٣١

الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) [الأنفال : ٥٧] وبقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] وإليه ذهب قتادة والضحاك ، والسّديّ وابن جريج ، وهو قول الأوزاعي (١) وأصحاب الرأي وقالوا : لا يجوز المنّ على من وقع في الأسر من الكفار ولا الفداء. وذهب آخرون إلى أن الآية محكمة ، والإمام بالخيار في الرجال العاقلين من الكفار إذا أوقعوا في الأسر بين أن يقتلهم ، أو يسترقّهم أو يمنّ عليهم فيطلقهم بلا عوض أو يفاديهم بالمال أو بأسارى المسلمين. وإليه ذهب ابن عمر. وبه قال الحسن وعطاء وأكثر الصحابة والعلماء. وهو قول الثّوريّ والشافعيّ وأحمد وإسحاق (٢). قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم أنزل الله في الأسارى (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) ، وهذا هو الأصح والاختيار ، لأنه عمل به رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والخلفاء بعده (٣). روى البخاري عن أبي هريرة قال : بعث النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خيلا قبل نجد ، فجاءت برجل من بني حنيفة ، يقال (له) (٤) ثمامة بن أثال ، فربطوه في سارية من سواري المسجد فخرج إليه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : ما عندك يا ثمامة؟ فقال : عندي خير يا محمد ، إن تقتلني تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر وإن كنت تريد المال فلك ما شئت ، حتى كان الغد فقال له : ما عندك يا ثمامة؟ فقال : عندي ما قلت لك : إن تنعم تنعم على شاكر. فتركه حتى إذا كان بعد الغد قال : ما عندك يا ثمامة؟ قال : عندي ما قلت لك قال : أطلقوا ثمامة ، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك فقد أصبح وجهك أحبّ الوجوه إليّ ، والله ما كان من دين أبغض إليّ من دينك فأصبح دينك أحبّ الدّين إليّ. والله ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك فقد أصبح بلدك أحبّ البلاد إليّ. وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فما ترى؟ فبشّره رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأمره أن يعتمر فلما قدم مكة قال له قائل : صبوت؟ قال : لا ولكن أسلمت مع محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبّة حنطة حتى يأذن فيها النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ. وعن عمران بن حصين قال : أسر أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ رجلا من عقيل فأوثقوه ، وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ففداه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف.

__________________

(١) سبق التعريف به.

(٢) هو الإمام الحافظ الكبير إسحاق بن إبراهيم الحنظليّ أبو يعقوب التّميميّ المروزيّ ويعرف بابن راهويه صاحب المسند والسنن والتفسير المشهور سمع من ابن المبارك وجرير بن عبد الحميد ، وعنه الجماعة سوى ابن ماجه. مات سنة ٢٣٨ ه‍. انظر طبقات الداودي ٢ / ١٠٣ : ١٠٥.

(٣) انظر القرطبي ١٦ / ٢٢٧ و ٢٢٨.

(٤) سقط من ب.

٤٣٢

قوله : «ذلك» يجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي الأمر ذلك وأن ينتصب بإضمار «افعلوا» (١). قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يقال : ذلك واجب أو مقدم كما يقول القائل : إن فعلت فذاك ، أي فذاك مقصود ومطلوب (٢).

فصل

قال المفسرون : معناه «ذلك» الذي ذكرت وبيّنت من حكم الكفار ، (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) فأهلكهم وكفاهم أمرهم بغير قتال ، «ولكن» أمركم بالقتال (لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) فيصير من قتل من المؤمنين إلى الثواب ، ومن قتل من الكافرين إلى العذاب (٣).

فإن قيل : ما التحقيق في قولنا : التكليف ابتلاء وامتحان والله يعلم السّرّ وأخفى؟

فالجواب من وجوه :

الأوّل : أن المراد منه يفعل ذلك فعل المسلمين أي كما يقول المبتلى المختبر.

الثاني : أن الله تعالى يبلو ليظهر الأمر لغيره ، إما للملائكة ، أو للناس والتحقيق هو أن الابتلاء والاختبار فعل يظهر بسببه أمر ظاهر.

فإن قيل : فائدة الابتلاء حصول العلم عند المبتلي ، فإذا كان الله عالما فأيّ فائدة فيه؟

فالجواب : أن هذا السؤال كقول القائل لم عاقب الكافر وهو مستغن؟ ولم خلق النار محرقة وهو قادر على أن يخلقها بحيث تنفع ولا تضر؟ وجوابه : لا يسأل عمّا يفعل (وَهُمْ يُسْئَلُونَ)(٤)؟

قوله : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) قرأ العامة قاتلوا. وأبو عمرو وحفص قتلوا مبنيا للمفعول (٥) على معنى أنهم قتلوا وماتوا ؛ أصاب القتل بعضهم كقوله : (قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ) [آل عمران : ١٤٦]. وقرأ الجحدريّ : قتلوا بفتح القاف والتاء خفيفة ومفعوله محذوف. وزيد بن ثابت والحسن وعيسى قتّلوا ، بتشديد التاء مبنيا للمفعول (٦).

قوله : (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) قرأ علي ـ رضي الله عنه ـ يضلّ مبنيا للمفعول أعمالهم

__________________

(١) الكشاف ٣ / ٥٣١ والبحر ٧٥ وقال بالأول فقط أبو البقاء ١١٦٠.

(٢) الرازي ٢٨ / ٤٥.

(٣) الرازي السابق والقرطبي ١٦ / ٢٢٩ و ٢٣٠.

(٤) بالمعنى من الرازي ٢٨ / ٤٦.

(٥) قراءة سبعية متواترة انظر السبعة ٦٠٠ والكشف ٢ / ٢٧٦ وحجة ابن خالويه ٣٢٨ والإتحاف ٣٩٣.

(٦) القراءتان شاذتان لكن الثانية من الأربع فوق العشر ، فقد ذكرت في الإتحاف السابق وقد ذكر القراءتين دون نسبه الكشاف ٣ / ٥٣١ كما ذكرهما بنسبة أبو حيان في البحر ٨ / ٧٥ وذكر الثانية بنسبة ابن خالويه في المختصر ١٤١.

٤٣٣

بالرفع لقيامه مقام الفاعل (١). وقرىء : تضلّ بفتح التاء أعمالهم بالرفع فاعلا (٢). والفاء في قوله: (فَلَنْ يُضِلَّ) جزائية ؛ لأن قوله تعالى : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا) فيه معنى الشرط. قال قتادة : ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد ، وقد فشت في المسلمين الجراحات والقتل.

قوله : «سيهديهم» أيام حياتهم في الدنيا إلى أرشد الأمور وفي الآخرة إلى الدرجات (وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) برضى خصمائهم وتقبل أعمالهم. وقد تقدم تفسيره في قوله تعالى : (أَصْلَحَ بالَهُمْ) والماضي والمستقبل راجع إلى أن هناك وعدهم ما وعدهم بسبب الإيمان ، والعمل الصالح ، وكان قد وقع منهم فأخبر عن الجزاء أيضا بصيغة الوقوع.

وههنا وعدهم بسببه القتل والقتال وكان في اللفظ ما يدل على الاستقبال ، لأن قوله (فَإِذا لَقِيتُمُ) يدل على الاستقبال فقال : (يُصْلِحُ بالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ).

قوله : (عَرَّفَها لَهُمْ) يجوز فيها وجهان :

أحدهما : أن تكون مستأنفة.

والثاني : أن تكون حالا.

فيجوز أن تضمر «قد» ، وأن لا تضمر (٣) ، و «عرّفها» من التعريف الذي هو ضد الجهل والمعنى أن كل أحد يعرف منزله في الجنة. وقيل : الملك الموكل بأعماله يهديه. وعن ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) (٤) ـ أنه من العرف وهو الطيب أي طيّبها لهم (٥). وقال الزمخشري: يحتمل أن يقال : عرّفها لهم من عرّف الدّار وأورثها (٦) أي حددها ، وتحديدها في قوله تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [آل عمران : ١٣٣] ، ويحتمل أن يقال : المراد هو قوله تعالى لهم : (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها) [الزخرف : ٧٢] فيشير إليها معرفا لهم بأنها هي تلك. وقيل : عرفها لهم وقت القتل ، فإن الشهيد وقت وفاته يعرض عليه منزله في الجنة فيشتاق إليه (٧). وقرأ أبو عمرو ـ في رواية ـ ويدخلهم ـ بسكون اللام (٨) وكذا ميم ويطعمهم (٩) وعي ن يجمعنكم [النساء : ٨٧] كان

__________________

(١) شاذة أيضا انظر البحر والكشاف والمختصر السابقات.

(٢) الذي في البحر والكشاف : يضل بفتح الياء لا التاء ولم أعثر عليها قراءة بالتاء ولعل ذلك تحريف من النساخ ولم تنسب في المرجعين هذين. وهي شاذة.

(٣) انظر التبيان : ١١٦٠.

(٤) زيادة من (أ).

(٥) انظر الرازي ٢٨ / ٤٨ والقرطبي ١٦ / ٢٣١.

(٦) كذا في النسختين والأصح كما في الكشاف ونقله عن الرازي : وأرفها.

(٧) انظر هذه الأوجه في الرازي ٢٨ / ٤٨ والقرطبي ١٦ / ٢٣١.

(٨) لم ترو عنه في المتواتر انظر البحر ٨ / ٧٦.

(٩) لعله قصد «نطعمكم» من الآية ٩ من الإنسان.

٤٣٤

يستثقل الحركات. وقد تقدم له قراءة بذلك في (يُشْعِرُكُمْ) [الأنعام : ١٠٩] و (يَنْصُرْكُمْ) [محمد : ٧] وبابه.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ)(٩)

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) أي إن تنصروا دينه وتنصروا رسوله ينصركم على عدوكم. وقيل : إن تنصروا حزب الله وفريقه.

قوله : (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) قرأ العامة ويثبت مشددا. وروي عن عاصم تخفيفه من أثبت. والمعنى : ويثبّت أقدامكم عند القتال.

قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) يجوز أن يكون مبتدأ ، والخبر محذوف تقديره : فتعسوا وأتعسوا ، بدليل قوله : (فَتَعْساً لَهُمْ) وقوله : «فتعسا» منصوب بالخبر. ودخلت الفاء تشبيها للمبتدأ بالشرط (١). وقدر الزمخشري الفعل الناصب ل «تعسا» فقال : لأن (٢) المعنى يقال (٣) تعسا أي (٤) فقضى تعسا لهم (٥). قال أبو حيان : وإضمار ما هو من لفظ المصدر أولى. والثاني : أنه منصوب بفعل مقدر يفسره (فَتَعْساً لَهُمْ) ، كما تقول : زيد جدعا له (٦). كذا قال أبو حيان (٧) تابعا للزمخشري (٨). وهذا لا يجوز لأن «لهم» لا يتعلق ب «تعسا» ، إنما هو متعلق بمحذوف لأنه بيان أي أعني عنهم (٩). وتقدم تحقيق هذا. فإن عيّنا (١٠) إضمارا من حيث مطلق الدّلالة لا من جهة الاشتغال فمسلّم ، ولكن تأباه عبارتهما وهي قولهما : منصوب بفعل مضمر يفسره (فَتَعْساً لَهُمْ)(١١). و «أضلّ» عاطف على ذلك الفعل المقدر أي أتعسهم وأضلّ أعمالهم (١٢) والتّعس ضدّ السّعد ، يقال : تعس الرّجل ـ بالفتح ـ تعسا ، وأتعسه الله ، قال مجمّع :

__________________

(١) البحر المحيط ٨ / ٧٦ والتبيان ١١٦١ و ١١٦٠.

(٢) في (ب) إن.

(٣) في البحر : فقال.

(٤) وفيه : أو هو بلفظ البحر عن الزمخشري انظر البحر ٨ / ٧٦.

(٥) قال ـ رحمه‌الله ـ في الكشاف : «كأنه قال أتعس الذين كفروا».

(٦ و ٧ و ٨) البحر والكشاف السابقين.

(٩) في «ب لهم» بدل عنهم.

(١٠) في (ب) عنيا.

(١١) وما ذهب إليه الزمخشري وأبو حيان في نصب «تعسا» بفعل مقدر هو ما ذهب إليه الفراء في المعاني ٣ / ٥٨ والقرطبي في الجامع ١٦ / ٢٣٢ والزجاج في المعاني في أحد قوليه ٥ / ٩ والنحاس في الإعراب ٤ / ١٨١ ومكي في المشكل ٢ / ٣٠٥ فلا معنى لاعتراض المؤلف على كلامهما.

(١٢) معاني الفراء وإعراب النحاس السابقين. وانظر أيضا التبيان ١١٦١ وكذلك البحر والكشاف السابقين.

٤٣٥

٤٤٦٥ ـ تقول وقد أفردتها عن خليلها

تعست كما أتعستني يا مجمّع (١)

وقيل : تعس ـ بالكسر ـ عن أبي الهيثم (٢) وشمر (٣) وغيرهما. وعن أبي عبيدة : تعسه واتعسه متعدّيان (٤) ، فهما مّما اتّفق فيهما فعل وأفعل.

وقيل : التعس ضد الانتعاش ، قال الزمخشري ـ (رحمه‌الله تعالى) (٥) : وتعسا له نقيض لعا له(٦) يعني أن كلمة «لعا» بمعنى (٧) انتعش قال الأعشى :

٤٤٦٦ ـ بذات لوث عفرناة إذا عثرت

فالتّعس أدنى لها من أن أقول لعا (٨)

وقيل : التعس الهلاك. وقيل التعس الجرّ (٩) على الوجه ، والنّكس الجر على الرأس (١٠).

فصل

قال ابن عباس : صمتا لهم ، أي بعدا لهم. وقال أبو العالية : سقوطا لهم. وقال ابن زيد : شقاء لهم (١١) وقال الفراء : هو نصب على المصدر على سبيل الدعاء (١٢). وقيل : في الدنيا العثرة ، وفي الآخرة التّردّي في النار. ويقال للعاثر : تعسا إذا لم يريدوا قيامه

__________________

(١) من الطويل لمجمّع بن هلال. وشاهده في تعس وأتعس حيث يأتي لازما ومتعديا. وانظر البحر ٨ / ٧٠ ، والقرطبي ١٦ / ٢٣٣. واللسان تعس ٤٣٣ وفتح القدير ٥ / ٣٢.

(٢) أبو الهيثم خالد بن يزيد الرازي كان عالما بالعربية عذب العبارة ، دقيق النظر. توفي سنة ٢٢٦ وانظر نزهة الألباء ١٤٧.

(٣) ابن حمدويه الهروي أبو عمرو اللغوي الأديب أخذ عن ابن الأعرابيّ والفراء والأصمعي وأبي حاتم.

انظر البغية ٢ / ٤ و ٥ وانظر اللسان المرجع السابق (تعس).

(٤) لم أعثر على رأيه هذا.

(٥) زيادة من (أ).

(٦) «لعا» كلمة يدعى بها للعاثر معناها الارتفاع.

(٧) الكشاف ٣ / ٥٣٢ بالمعنى.

(٨) هو له من البسيط وفي اللسان «أدنى» كما رواها المؤلف هنا. وقد رويت في الدّيوان ١٠٧ ، كما رواها القرطبي والبحر المحيط أولى ـ بالواو ـ والعفرناة الغول ، واللّوث القوة. وقد شبه ناقته بالغول ، ولعا دعاء للعاثر أن ينتعش أي سلمت ونجوت ، وهو محلّ الشاهد. وانظر المحتسب ١ / ١٤١ والبحر ٨ / ٧٠ والقرطبي ١٦ / ٣٣٢ واللسان تعس ٤٣٣ ، والكشاف ٣ / ٥٣٢ وشرح شواهده ٤٥٠ و ٤٥١.

(٩) في القرطبي : الخرّ بالخاء.

(١٠) نسب القرطبي هذين الوجهين إلى ابن السّكّيت. قال : التعس أن يخر على وجهه والنكس أن يخرّ على رأسه. انظر القرطبي ١٦ / ٢٣٣.

(١١) ذكر هذه الأوجه القرطبي في المرجع السابق.

(١٢) معاني القرآن ٣ / ٥٨.

٤٣٦

وضده لما إذا أرادوا قيامه. وأضل أعمالهم ؛ لأنها كانت في طاعة الشيطان ، وهذا زيادة في تقوية قلوبهم ؛ لأنه تعالى قال : لكم الثبات ولهم الزوال والتّعثّر.

قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) يجوز أن يكون «ذلك» مبتدأ ، والخبر الجار بعده ، أو خبر مبتدأ مضمر ، أي الأمر ذلك بسبب أنهم كرهوا. أو منصوب بإضمار فعل أي فعل بهم (١) ذلك بسبب أنهم كرهوا فالجار في الوجهين الأخيرين منصوب المحل والمعنى : ذلك التعس والإضلال بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم والمراد أنهم كرهوا القرآن ، أو كرهوا ما أنزل الله من بيان التوحيد فلم يعرفوا العمل الصّالح بل أشركوا ، والشرك يحبط العمل ، قال تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] وقيل : كرهوا ما أنزل الله من بيان أمر الآخرة فلم يعملوا لها والدنيا وما فيها وما لها باطل ، فأحبط الله أعمالهم.

قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ)(١٤)

ثم خوف الكفار فقال : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي أهلكهم (٢).

قوله : (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) يجوز أن يكون حذف مفعوله ، أي أهلك الله بيوتهم ، وخرّبها عليهم (٣) أو يضمن معنى «دمر» معنى سخط الله عليهم بالتدمير. وقوله : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) مناسب للوجه الأخير ، يعني فينظروا إلى حالهم ، ويعلموا أن الدنيا فانية.

قوله : (وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) أي أمثال العاقبة المتقدمة (٤). وقيل : أمثال العقوبة. وقيل: التدمير. وقيل : الهلكة (٥). والأول أولى لتقدم ما يعود عليه الضمير صريحا مع صحة معناه.

__________________

(١) ذكر هذين الإعرابين المحتملين الزجاج في معاني القرآن ٥ / ٧.

(٢) انظر الرازي ٢٨ / ٤٩ و ٥٠ ، والبحر المحيط ٨ / ٧٦.

(٣) قاله القرطبي في الجامع ١٦ / ٢٣٤ وانظر المرجعين السابقين.

(٤) وهو اختيار الزجاج في المعاني ٥ / ٨.

(٥) الكشاف ٣ / ٥٣٢ وقال بالعقوبة الرازي فيما نقله عن أحد الأقوال.

٤٣٧

فإن قيل : إذا عاد الضمير إلى العاقبة فكيف يكون لها أمثال؟

فالجواب : أن المراد هو العذاب الذي هو مدلول العاقبة ، والألم الذي دلّت العاقبة عليه(١).

فصل

في المراد بقوله : (وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) وجهان :

أحدهما : أن المراد الكافرون بمحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

والثّاني : أن المراد لهم أمثالها في الآخرة ، فيكون المراد من الكافرين من تقدّم ، كأنه يقول : دمر الله عليهم في الدنيا ولهم في الآخرة أمثالها.

فإن قيل : إذا كان المراد (من) الكافرين بمحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فإنهم أمثال ما كان لمن تقدمهم من العاقبة ، فالأولون أهلكوا بأمور شديدة كالزّلازل والنّيران والرّياح والطّوفان ، ولا كذلك قوم محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

فالجواب : يجوز أن يكون عذابهم أشد من عذاب الأولين ، لكون دين محمد أظهر بسبب تقدم الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ عليه ، وإخبارهم عنه ، وإنذارهم على أنهم قتلوا وأسروا بأيدي من كانوا يستخفّونهم ويستضعفونهم والقتل بيد المثل آلم من الهلاك بسبب عام (٢).

قوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم الكلام على نظيره (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) والمراد بالمولى هنا الناصر. ثم ذكر ما للفريقين فقال : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) لما بين حال المؤمنين والكافرين في الدنيا بين حالهم في الآخرة وقال : إنه يدخل المؤمن الجنة ، والكافر النار. وقد تقدم أن من في قوله : (مِنْ تَحْتِهَا) تحتمل أن تكون صلة معناه تجري تحتها ، ويحتمل أن يكون المراد (أن) (٣) ماءها منها لا يجري إليها من موضع آخر ، يقال : هذا النهر منبعه من أين؟ يقال : من عين كذا من تحت جبل كذا (٤).

قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) أي ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم وهم لاهون عما في غد. قيل : المؤمن في الدنيا يتزود ، والكافر يتزين ، والكافر يتمتع (٥).

قوله : (كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) إما حال من ضمير المصدر ، أي يأكلون الأكل مشبها أكل الأنعام وإما نعت لمصدر أي أكلا مثل أكل الأنعام.

__________________

(١) الرازي ٢٨ / ٥٠.

(٢) الرازي السابق.

(٣) سقط من (ب).

(٤) انظر كل هذا في الرازي ٢٨ / ٥٠ و ٥١.

(٥) القرطبي ١٦ / ٢٣٤.

٤٣٨

قوله : (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) يجوز أن تكون هذه الجملة استئنافا. ويجوز أن تكون حالا ، ولكنها مقدرة أي يأكلون مقدار ثويتهم في النار. وقال في حق المؤمن : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ) بصيغة الوعد ، وقال في حق الكافر : (النَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) بصيغة تنبىء عن الاستحقاق ، لأن الإحسان لا يستدعي استحقاقا ، فالمحسن إلى من يوجد منه ما يوجب الإحسان كريم. والمعذب من غير استحقاق ظالم (١).

قوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) يريد أهل ، ولذلك راعى هذا المقدر في قوله : (أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) بعدما راعى المضاف في قوله : (هِيَ أَشَدُّ) والجملة من هي ابتداء صفة لقرية. وقال ابن عطية : نسب الإخراج للقرية حملا على اللفظ وقال : «أهلكناهم» حملا على المعنى (٢). قال أبو حيان : وظاهر هذا الكلام لا يصحّ لأن الضمير في «أهلكناهم» ليس عائدا على المضاف إلى القرية التي أسند إليها الإخراج بل على (٣) أهل القرية في قوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) فإن كان أراد بقوله : «حملا على المعنى» ، أي معنى القرية في قوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) فهو صحيح ، لكن ظاهر قوله : حملا على اللفظ ، وحملا على المعنى أن يكون في مدلول واحد. وكان على هذا يبقى كأين مفلتا غير محدّث عنه بشيء إلا أن يتخيّل أن (هِيَ أَشَدُّ) خبر عنه والظاهر أنه صفة لقرية (٤). قال شهاب الدين : وابن عطية إنما أراد لفظ القرية من حيث الجملة لا من حيث التفسير (٥).

فصل

لما ضرب الله لهم مثلا بقوله : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) ، ولم ينفعهم مع ما تقدم من الدلائل ، ضرب للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مثلا تسلية له فقال : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) أي أخرجك أهلها ، قال ابن عباس : كان رجالهم أشد من أهل مكة ، يدل عليه قوله : «أهلكناهم» ولم يقل : «أهلكناها» فلا ناصر لهم كذلك يفعل (٦) بهم ، فاصبر كما صبر رسلهم.

وقوله : (فَلا ناصِرَ لَهُمْ) قال الزمخشري (كيف) (٧) قال (فَلا ناصِرَ لَهُمْ) (مع) (٨) أن الإهلاك ماض وقوله : (فَلا ناصِرَ لَهُمْ) للحال والاستقبال محمول على الحكاية ، والحكاية كالحال الحاضر (٩) ، ويحتمل أن يقال : قوله : (فَلا ناصِرَ لَهُمْ) عائد على أهل قرية محمد

__________________

(١) الرازي السابق.

(٢) البحر المحيط ٨ / ٧٧ و ٧٨.

(٣) في البحر : إلى.

(٤) بالمعنى من المرجع السابق.

(٥) الدر المصون للعلامة شهاب الدين السمين الحلبي مخطوط بمكتبة الإسكندرية لوحة رقم ١٠٠.

(٦) في (ب) نفعل. وانظر البحر ٨ / ٧٨.

(٧ و ٨) زيادة من الرازي يقتضيها السياق.

(٧ و ٨) زيادة من الرازي يقتضيها السياق.

(٩) وهو بلفظ الرازي نقلا بالمعنى من الكشاف ٣ / ٥٣٣ وانظر الرازي ٢٨ / ٥٢.

٤٣٩

ـ عليه الصلاة والسلام ـ كأنه قال : أهلكنا من تقدم من أهل دينك ولا ناصر لأهل قريتك ينصرهم ويخلّصهم من مثل ما جرى على الأولين (١).

فصل

قال ابن عباس (رضي الله عنهما) (٢) : لما خرج رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من مكة إلى الغار التفت إلى مكة ، وقال : أنت أحب بلاد الله إلى الله ، وأحب بلاد الله إليّ ، ولو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك. فأنزل الله هذه الآية (٣).

قوله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) أفمن كان مبتدأ والخبر (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ) وحمل على لفظ «من» فأفرد في قوله : (سُوءُ عَمَلِهِ) ، وعلى المعنى فجمع في قوله : (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ). (والجملة (٤) من (اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) عطف على «زين» ؛ فهو صلة.

فصل

معنى قوله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) أي يقين من دينه ، يريد محمدا والمؤمنين ، كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم) يعني عبدة الأوثان ، يريد أبا جهل والمشركين.

قوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ)(١٧)

قوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) لما بين الفرق بين الفريقين في الاهتداء والإضلال بين الفرق بينهما في مرجعهما ومآلهما.

قوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) فيها أوجه :

أحدها : أنه مبتدأ وخبره مقدر ، فقدره النضر بن شميل : مثل الجنة ما يسمعو ن «فما يسمعون» خبر ، و (فِيها أَنْهارٌ) مفسر له. وقدره سيبويه : فيما يتلى عليكم مثل الجنة. والجملة بعدها أيضا مفسرة للمثل (٥). قال سيبويه : المثل هو الوصف ومعناه وصف الجنة ، وذلك لا يقتضي مشابهة.

__________________

(١) هذا رأي الإمام الرازي في مرجعه السابق.

(٢) زيادة من (أ).

(٣) القرطبي ١٦ / ٢٣٥ والبحر ٨ / ٧٨.

(٤) ما بين القوسين سقط من (ب) بسبب انتقال النظر وهو بتوضيح وتفصيل في التبيان للعكبري ١١٦١.

(٥) انظر البحر والكشاف السابقين.

٤٤٠