اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٨٤

١
٢

(ربّ يسّر برحمتك يا كريم وأغن يا رحيم) (١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة غافر

مكية وتسمى سورة الطول ، وسورة المؤمن ، وهي خمس وثمانون آية ، وألف ومائة وتسع وتسعون كلمة وأربعة آلاف وتسعمائة وستون حرفا.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ)(٦)

قوله تعالى : (حم) كقوله الم وبابه (٢) ، وقرأ الأخوان وأبو بكر وابن ذكوان بإمالة (حا) في السور السبع إمالة محضة ، وورش وأبو عمرو بالإمالة بين بين ، والباقون بالفتح ، والعامة على سكون الميم كسائر الحروف المقطعة (٣). وقرأ الزهري برفع الميم على أنه خبر مبتدأ مضمر ، أو مبتدأ والخبر ما بعدها (٤) ، وابن إسحاق وعيسى بفتحها (٥) وهي تحتمل وجهين :

أحدهما : أنها منصوبة بفعل مقدر أي اقرأ حم ، وإنما منع من الصرف للعلمية والتأنيث ، أو العلمية وشبه العجمة وذلك أنه ليس في الأوزان العربية وزن «فاعيل» بخلاف الأعجمية نحو قابيل وهابيل.

__________________

(١) ما بين القوسين زيادة من أ.

(٢) ذكر الإمام القرطبي في الجامع معاني كثيرة لهذا عن ابن عباس أنه اسم الله الأعظم ، وعنه أيضا اسم من أسماء الله تعالى أقسم به ، وقال قتادة اسم من أسماء القرآن (انظر القرطبي ١٥ / ٢٨٩).

(٣) انظر هذه القراءات المتواترة في كل من السبعة ٥٦٦ وإبراز المعاني ٢٠٣ : ٧٠٢ والكشاف ٣ / ٤١٢ ، والقرطبي ١٥ / ٢٩٠ والإتحاف ٣٧٧ والنشر ٢ / ٣٦٤ وحجة ابن خالويه ٣١٢ والكشف ٢ / ٢٤٢.

(٤) الدر المصون ٤ / ٦٧٠ وشواذ القرآن ٢١١.

(٥) الدر ـ المرجع السابق ـ وانظر أيضا البحر ٧ / ٤٦٦ والكشاف ٣ / ٤١٢.

٣

والثاني : أنها حركة بناء تخفيفا كأين وكيف (١). وفي احتمال هذين الوجهين قول الكميت:

٤٣١٤ ـ وجدنا لكم في آل حاميم آية

تأوّلها منّا تقيّ ومعرب (٢)

وقول شريح بن أوفى :

٤٣١٥ ـ يذكّرني حاميم والرّمح شاجر

فهلّا تلا حاميم قبل التّقدّم (٣)

وقرأ أبو السّمّال بكسرها (٤) ، وهل يجوز أن يجمع (حم) على «حواميم» ونقل ابن الجوزي (٥) عن شيخه الجواليقي (٦) أنه خطأ وليس بصواب بل الصواب أن تقول قرأت آل حم (٧) ، وفي الحديث عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٨) ـ إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات أتأنّق فيهن (٩). وقال سعيد (١٠) بن إبراهيم : كلّ آل حم يسمين العرائس ، قال الكميت :

٤٣١٦ ـ وجدنا لكم في آل حاميم ....

 .............

__________________

(١) انظر بيان ابن الأنباري ٢ / ٣٢٨ والكشاف ٣ / ٤١٢ والدر المصون ٣ / ٦٧١.

(٢) له من الهاشميات من الطويل وكان متشيعا فيهم ويقصد بآل حم السور التي في أولها «حم» وقد جعل «حاميم» اسما للكلمة ثم أضاف السور إليها ، ويريد بالآية قوله في سورة الشورى «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى». والتقي في البيت هنا هو الذي يخفي تشيّعه لآل البيت ، والمعرب الذي يظهر ما في نفسه ، وفي اللسان عن سيبويه : تقيّ معرب وقال : هكذا أنشده سيبويه كمكلم وقد استشهد بالبيت في أن «حم» فيها احتمالان :

الأول : أن يكون علما منع من الصرف للعلمية والتأنيث أو للعلمية وشبه العجمية.

والثاني : أن يكون مبنيا على الفتح غير معرب. وأرى أن الفتح فيه لالتقاء الساكنين لا للبناء فلا يشبه «حم» أي حرف في وجه من الوجوه ، وانظر البحر المحيط ٧ / ٤٤٦ والدر المصون ٤ / ٦٧٠ والكتاب ٣ / ٢٥٧ وحجة ابن خالويه ٣١٢ ، واللسان عرب ٢٦٥ وحمم ١٠٠٦ والمقتضب ١ / ٣٧٣ و ٣ / ٣٥٦ ومجاز القرآن ٢ / ١٩٣ والمقتصد ٩٧ والهاشميات ١٨ وروي «منكم» وهو خطأ لا يتمشى مع مقصوده وانظر أيضا مجمع البيان ٧ / ٧٩٩ والطبري ٢٤ / ٢٧.

(٣) هو له كما في بحر أبي حيان والمجاز لأبي عبيدة وشرح شواهد كشاف الزمخشري وأنشد للأشتر النخعي وشاهده كسابقه من الوجهين المحتملين وانظر البحر والدر والمجاز المراجع السابقة وكذلك المقتضب السابق وشرح شواهد الكشاف ٤ / ٥١١.

(٤) من القراءة الشاذة غير المتواترة انظرها في البحر ٧ / ٤٤٦ ومختصر ابن خالويه ١٣٢ وشواذ القرآن ٢١١.

(٥) الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد له تصانيف جليلة منها زاد المسير مات سنة ٥٩٧.

(٦) هو موهوب بن أحمد أبو منصور الجواليقي الإمام اللغوي صاحب كتاب المعرب وغيره ، وانظر في ترجمة الأول طبقات الداودي ١ / ٢٨٥ والسيوطي ٦١ وفي الثاني إنباه الرواة ٤ / ٣٣٥ ، ٣٣٧.

(٧) زاد المسير ٧ / ٢٠٤ ، ٢٠٥.

(٨) في ب : عنه عليه الصلاة والسلام.

(٩) أخرجه البغوي في تفسيره عن ابن مسعود وكذلك الشوكاني في فتح القدير ٤ / ٤٧٩.

(١٠) في البغوي سعد.

٤

ومنهم من جوزه ، وروي في ذلك أحاديث (١) منها قوله ـ عليه (الصلاة و) السلام : «الحواميم ديباج القرآن» (٢) ، وقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : الحواميم سبع وأبواب جهنّم سبع : جهنم والحطمة ولظى والسعير وسقر والهاوية والجحيم فتجيء كل جسم منهن يوم القيامة على باب من هذه الأبواب فتقول لا يدخل النار من كان يؤمن بي ويقرأني (٣). وقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : لكل شيء ثمرة وثمرة القرآن ذوات حم هن روضات حسان مخصباتمتجاورات فمن أحب أن يرتع في رياض الجنة فليقرأ الحواميم (٤) ، وقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : الحواميم في القرآن كمثل الحبرات في الثياب (٥). وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ لكل شيء لباب ولباب القرآن الحواميم. فإن صحت هذه الأحاديث فهي الفصل في ذلك.

قوله «تنزيل» إما خبر ل «حم» إن كانت مبتدأ ، وإما خبر لمبتدأ مضمر ، أو مبتدأ وخبره الجار بعده (٦). قال ابن الخطيب : قال «تنزيل» والمراد منه المنزل.

فصل

روى السّدي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : حم اسم الله الأعظم ، وروى عكرمة عنه قال : الم وحم ون حروف الرحمن مقطعة ، وقاله سعيد بن جبير. (وقال) عطاء الخراساني : الحاء افتتاح أسمائه حكيم حميد حي حليم حنان ، والميم افتتاح أسمائه ملك مجيد. قال الضحاك والكسائيّ معناه قضى ما هو كائن كأنهما أشارا إلى أن معناه : حمّ ، بضم الحاء وتشديد الميم (٧).

قوله (مِنَ اللهِ) لما ذكر أن حم تنزيل الكتاب وجب بيان أن المنزل من هو؟ فقال : من الله ، ثم بين أن الله تعالى موصوف بصفات الجلالة فقال (الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).

فبين أنه بقدرته وعلمه نزل القرآن الذي يتضمن المصالح والإعجاز ، ولو لا كونه عزيزا عالما لما صح ذلك.

قوله تعالى : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ) في هذه الأوصاف ثلاثة أوجه :

__________________

(١) ومن المجوزين أبو عبيدة وانظر المجاز ٢ / ٩٣ و ١ / ٦ ، ٧ والقرطبي ١٥ / ٢٨٨ واللسان حمم ١٠٠٦ وزاد المسير ٧ / ٢٠٤ ، ٢٠٥.

(٢) أورده السيوطي في الإتقان ٢ / ١٩٦ عن ابن مسعود وانظر فتح القدير ٤ / ٤٧٩ والقرطبي ١٥ / ٢٨٨.

(٣) فتح القدير المرجع السابق عن خليل بن مرة.

(٤) القرطبي السابق بدون سند.

(٥) معاني الزجاج ٤ / ٣٦٥ والمرجع السابق وانظر الدر المنثور ٢٤ / ٢٦٨ ، ٢٦٩.

(٦) ذكر هذه الإعرابات أبو حيان في البحر ٧ / ٤٤٧ والسمين في الدر ٤ / ٦٧٢.

(٧) ذكر هذه الأقوال البغوي والخازن في لباب التأويل ومعالم التنزيل ٦ / ٨٧.

٥

أحدها : أنها كلها صفات الجلالة (١) كالعزيز ، والعليم. وإنما جاز (٢) وصف المعرفة بهذه وإن كانت إضافتها لفظية لأنه يجوز أن تجعل إضافتها (معنوية) (٣) فيتعرّف بالإضافة نص (٤) سيبويه على أن كل ما إضافته غير محضة جاز أن يجعل محضة وتوصف به المعارف إلا الصفة المشبهة (٥) ، ولم يستثن غيره شيئا وهم الكوفيون يقولون في مثل (٦) «حسن الوجه» بأنه يجوز أن تصير إضافته محضة (٧). وعلى هذا فقوله : (شَدِيدِ الْعِقابِ) من باب الصفة المشبهة فكيف أجزت جعله صفة للمعرفة وهو لا يتعرف إلا بالإضافة؟

والجواب : إمّا بالتزام مذهب الكوفيين وهو أن الصفة المشبهة يجوز أن تتمحض (٨) إضافتها أيضا فتكون معرفة وإما بأن «شديد» بمعنى مشدد كأذين بمعنى «مؤذن» فتتمحض إضافته(٩).

والثاني : أن يكون الكل أبدالا لأن إضافتها غير محضة قاله الزمخشري (١٠) ، إلا أن هذا الإبدال بالمشتق قليل جدا إلا أن يهجر فيها جانب الوصفية.

الثالث : أن يكون «غافر» و «قابل» نعتين و «شديد» بدلا لما تقدم من أن الصفة المشبهة لا تتعرف بالإضافة قاله الزجاج (١١) إلا أن الزمخشري قال : جعل الزجاج (شَدِيدِ الْعِقابِ) وحده بدلا للصفات فيه نبوّ ظاهر. والوجه أن يقال : لما صودف بين هذه المعارف هذه النكرة الواحدة فقد آذنت بأنها (١٢) كلها أبدال غير أوصاف ، ومثال ذلك قصيدة جاءت تفاعيلها كلها على «مستفعلن» فهي محكوم عليها بأنها من الرجز ، فإن وقع فيها جزء واحد على «متفاعلن» كانت من الكامل (١٣). وناقشه أبو حيان فقال : ولا نبوّ في ذلك ؛ لأن الجري على القواعد التي قد استقرت وصحت هو الأصل (١٤). وقوله «فقد آذنت بأن كلها أبدال» تركيب غير عربي لأنه جعل فقد آذنت جواب لما ، وليس من كلامهم : لمّا قام زيد فقد قام عمرو. وقوله بأنّ كلها أبدال فيه تكرير (١٥) للأبدال إمّا بدل البداء عند من أثبته فقد تكررت فيه الأبدال ، وإما بدل كل من كل وبدل بعض من كل

__________________

(١) في ب بدل الجلالة للجلالة.

(٢) في ب : جاوز.

(٣) سقط ما بين القوسين من ب.

(٤) في ب : قضى.

(٥) انظر الكتاب ١ / ٤٢٨ ، ٤٢٩.

(٦) في ب : نحو.

(٧) نقل أبو حيان في البحر عن صاحب المقنع عن الكوفيين أنهم أجازوا ف ي «حسن الوجه» وما أشبهه أن يكون صفة للمعرفة قال وذلك خطأ عند البصريين انظر البحر ٧ / ٤٤٧.

(٨) في ب : يتمحض بالياء.

(٩) ذكر هذا الوجه العكبري في التبيان ١١١٥.

(١٠) الكشاف ٣ / ٤١٢ ، ٤١٣.

(١١) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٣٦٤ وانظر الكشاف المرجع السابق والقرطبي ١٥ / ٢٩٠ والبحر المحيط ٧ / ٤٤٧ وانظر هذا كله في الدر المصون لشهاب الدين السمين ٤ / ٦٧٢.

(١٢) في ب : بأن بدون (هاء).

(١٣) انظر الكشاف ٣ / ٤١٣.

(١٤) البحر المحيط ٧ / ٤٤٧.

(١٥) في ب : كذلك وما في البحر تكرار.

٦

وبدل اشتمال ، فلا نص عن أحد من النحويين أعرفه في جواز التكرار فيها أو منعه إلا أن في كلام بعض أصحابنا ما يدل على أن البدل لا يكرر وذلك في قول الشاعر :

٤٣١٧ ـ فإلى ابن أمّ أناس أرحل ناقتي

عمرو فتبلغ حاجتي أو تزحف

ملك إذا نزل الوفود ببابه

عرفوا موارد مزبد لا ينزف (١)

قال : «فملك» بدل من «عمرو» بدل نكرة من معرفة ، قال : فإن قلت : ألا يكون بدلا م ن «ابن أم أناس» قلت : لأنه قد أبدل منه «عمرا» فلا يجوز أن يبدل منه مرة أخرى لأنه قد طرح انتهى (٢).

قال أبو حيان : فدل هذا على أن البدل لا يتكرر ويتحد المبدل منه ، ودل على أن البدل من البدل جائز (٣). قال شهاب الدين : وهذا البحث قد تقدم في قوله (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) فليلتفت إليه (٤).

قال : وقوله تفاعيلها هو جمع تفعال أو تفعول أو تفعيل وليس شيء منها معدودا من أجزاء العروض ، فإن أجزاءه منحصرة ليس فيها شيء من هذه الأوزان فصوابه أن يقول : جاءت أجزاؤها كلها على مستفعلن (٥).

وقال الزمخشري أيضا : ولقائل أن يقول هي صفات وإنما حذفت الألف واللام من «شديد» ليزاوج ما قبله وما بعده لفظا فقد غيروا كثيرا من كلامهم عن قوانينه لأجل الإزواج (٦) ، قالوا : ما يعرف سحادليه (٧) من عنادليه ، فثنّوا ما هو «وتر» لأجل ما هو

__________________

(١) البيتان من بحر البسيط لبشر بن أبي خازم ويروى الأول : وإلى ابن أم بالواو ... تعمد ناقتي ... لتنجح ناقتي أو تتلف وعمرو هو جد امرىء القيس وأم أناس بنت ذهل بن شيبان ، وتزحف من الإزحاف وهو الإعياء ، والموارد المناهل ، والمزبد البحر يعلوه الزّبد لتلاطم أمواجه وفي الديوان : عرفوا غوارب. وينزف : ينفد ماؤه. والبيت في مدح الممدوح ووصفه بالكرم كالبحر الفضفاض دوما. والشاهد في قوله : «ملك» ـ كما أخبر أعلى ـ فإنه بدل من «عمرو» بدل نكرة من معرفة ، ولا يجوز أن يكون بدلا م ن «ابن أم أناس» لأنه قد أبدل منه «عمرو» فلا يجوز أن يبدل منه مرة أخرى ورواية الديوان «ملك» ـ بالرفع ـ وعليه فلا شاهد. ومن رأيي أن تكرار البدل لا يمنع منه مانع ما دام ذلك في خدمة المعنى قياسا على الصفة التي من الجائز أن تتعدد وانظر الكتاب ٢ / ٩ والقصائد السبع لابن الأنباري ٥٠٠ والإنصاف ٤٩٦ والخزانة ١ / ١٤٩ عرضا والتصريح ٢ / ٣٢ وحاشية العليمي عليه والهمع ٢ / ١٢٧ ، واللسان (زحف) والبحر المحيط ٧ / ٤٤٨ والدر المصون ٤ / ٦٧٣ وديوانه ١٥٥.

(٢) البحر المحيط ٧ / ٤٤٨.

(٣) السابق.

(٤) الدر المصون ٤ / ٦٧٤.

(٥) البحر المحيط المرجع السابق.

(٦) هو أن يزاوج بين الكلمات أو الجمل بكلام عذب وألفاظ حلوة وأمثلته أكثر من أن تحصى كقوله : «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» انظر الفوائد المشوق ٢٢٥.

(٧) السحادل : الذكر ، والعنادلان : الخصيتان. وشاهد المثال تثنية السحادل ـ مع أنه مفرد للفرد ـ تبعا للعنادلين مزاوجة (انظر معجم الألفاظ المثناة ٢٢٥ ، ٣٢٩ والقاموس المحيط سحدل ٣ / ٤٠٦).

٧

«شفع». على أن الخليل قال في قولهم : ما يحسن بالرجل (مثلك (١) أن يفعل ذلك ، وما يحسن بالرجل) خير منك أنه على نية الألف واللام كما كان الجمّاء (٢) الغفير على نية طرح الألف (٣) واللام ، ومما سهل ذلك الأمن من اللبس وجهالة الموصوف (٤). قال أبو حيان : ولا ضرورة إلى حذف «أل» من (شَدِيدِ الْعِقابِ) وتشبيهه بنادر مغير وهو تثنية الوتر لأجل الشفع فيتنزه (٥) كتاب الله عن ذلك (٦).

قال شهاب الدين : أما الازدواج وهو المشاكلة من حيث (٧) هو فإنه واقع في القرآن وقد مضى منه مواضع.

وقال الزمخشري أيضا : ويجوز أن يقال : قد تعمد (٨) تنكيره وإبهامه للدلالة على فرط الشّدّة على ما لا شيء أدهى منه وأمرّ لزيادة الإنذار. ويجوز أن يقال : هذه النكتة هي الداعية إلى اختيار البدل على الوصف إذا سلكت طريق الإبدال (٩) انتهى.

وقال مكي : يجوز في «غافر وقابل» البدل على أنهما نكرتان لاستقبالهما (١٠) والوصف على أنهما معرفتان لمضيّهما (١١). وقال ابن الخطيب لا نزاع في جعل «غافر» صفة ، وإنما كانا كذلك لأنهما يفيدان معنى الدوام والاستمرار فكذلك (شَدِيدِ الْعِقابِ) يفيد ذلك لأن صفاته منزهة عن الحدوث والتجدد فمعناه كونه بحيث شديد عقابه ، وهذا المعنى حاصل أبدا لا يوصف بأنه حصل بعد أن لم يكن (١٢) قال أبو حيان : وهذا كلام من لم يقف على علم النحو ولا نظر فيه ويلزمه أن يكون (حَكِيمٍ عَلِيمٍ) و (مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) معارف لتنزيه صفاته عن الحدوث والتجدد ، ولأنها صفات لم تحدث لم تحصل بعد أن لم تكن ويكون تعريف صفاته بأل وتنكيرها سواء ، وهذا لا يقوله مبتدىء في علم النحو

__________________

(١) ما بين القوسين كله ساقط من نسخة ب بسبب انتقال النظر.

(٢) في ب : الجم.

(٣) ذكر إمام النحاة ذلك في الكتاب ٢ / ١٣ في باب مجرى نعت المعرفة عليها قال : «.. ومن المنقول ما يحسن بالرجل مثلك أن يفعل ذاك ، وما يحسن بالرجل خير منك أن يفعل ذاك ، وزعم الخليل ـ رحمه‌الله ـ أنه إنما جر هذا على نية الألف واللام ولكنه موضع لا تدخله الألف واللام كما كان الجماء الغفير منصوبا على نية إلقاء الألف واللام نحو طرا وقاطبة ..».

(٤) الكشاف ٣ / ٤١٣.

(٥) في ب : فتنزه.

(٦) البحر ٧ / ٤٤٨ بالمعنى.

(٧) الدر المصون ٤ / ٦٧٤.

(٨) في النسختين تغير والتصحيح من الكشاف.

(٩) الكشاف المرجع السابق.

(١٠) في ب : لا استغناء عنهما.

(١١) لم أجد هذا الرأي في كتاب مشكل الإعراب للإمام مكي وإنما هو لأبي جعفر النحاس في كتابه إعراب القرآن ٤ / ٢٦ قال : «وتحقيق الكلام في هذا وتلخيصه أن غافر الذنب وقابل التوب يجوز أن يكونا معرفتين على أنهما لما مضى فيكونا نعتين. ويجوز أين يكونا للمستقبل والحال فيكونا نكرتين» انظر الإعراب المرجع السابق.

(١٢) قاله في تفسيره الكبير ٢٧ / ٢٩.

٨

بله أن يصنّف (١) فيه ويقدم على تفسير كتاب الله تعالى (٢). وقد سردت هذه الصفات كليا من غير عاطف إلا (قابِلِ التَّوْبِ) قال بعضهم : وإنما عطف لاجتماعهما وتلازمهما وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر وقطع «شديد» عنهما فلم يعطف لانفراده (٣).

قال أبو حيان : وفيه نزعة اعتزالية ، ومذهب أهل السنة جواز الغفران للعاصي وإن لم يتب إلا الشرك (٤). قال شهاب الدين : وما أبعده عن نزعة الاعتزالية. ثم أقول : التلازم لازم من جهة أنه تعالى متى قبل التوبة فقد غفر الذنب وهو كاف في (٥) التّلازم.

قال الزمخشري فإن قلت : ما بال الواو في قوله : (وَقابِلِ التَّوْبِ)؟ قلت : فيها نكتة جليلة (٦) وهي إفادة الجمع للمذنب والتائب بين رحمتين بين أن يقبل توبته فيقبلها فيكتبها له طاعة من الطاعات وإن لم يجعلها محّاءة للذنوب كمن لم يذنب كأنه قال : جامع المغفرة والقبول انتهى(٧).

وبعد هذا الكلام الأنيق وإبراز هذه المعاني الحسنة قال أبو حيان : وما أكثر تهجّح (٨) هذا الرجل وشقشقته ، والذي أفاد : أن الواو للجمع وهذا معروف من ظاهر علم النحو. قال شهاب الدين : وقد أنشدني بعضهم رحمه‌الله (٩) :

٤٣١٨ ـ وكم من عائب قولا صحيحا

وآفته من الفهم السّقيم (١٠)

(وآخر) (١١) :

٤٣١٩ ـ قد تنكر العين ضوء الشّمس من رمد

وينكر الفم طعم الماء من سقم (١٢)

والتّوب (يحتمل) (١٣) أن يكون اسما مفردا مرادا به الجنس كالذّنب ، وأن يكون

__________________

(١) في ب : يضيف لا يصنف وقوله : «حَكِيمٍ عَلِيمٍ» من الآية ٦ من سورة النمل ،«ومَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ» من الآية ٥٥.

(٢) وانظر البحر ٧ / ٤٤٨.

(٣) نقله أبو حيان في مرجعه السابق عن صاحب الغنيان ولم أعرفه هو ولا مؤلفه.

(٤) انظر البحر المرجع السابق وتحفة المريد على جوهرة التوحيد ٢ / ٥ : ١٣ وانظر في هذا أيضا الدر المصون ٤ / ٦٧٥.

(٥) المرجع السابق.

(٦) كذا في الكشاف وفي النسختين حائلة.

(٧) الكشاف ٣ / ٤١٣.

(٨) في البحر تلمح وانظر البحر المرجع السابق.

(٩) في الدر المصون «ولله القائل» انظر الدر ٤ / ٦٧٥.

(١٠) جاء به المؤلف تبعا لشهاب الدين في رده على أبي حيان شيخه في تحامله على الزمخشري والبيت من تمام الوافر وهو لأبي الطيب المتنبي وانظر المحتسب ٢ / ١٩ والدر المصون ٣ / ٦٧٦ وديوانه ٣ / ٣٤٦.

(١١) سقط من ب.

(١٢) شاهده كسابقه في رد شهاب الدين السّمين مدافعا عن الزمخشري وهو من بردة المديح المشهورة للإمام البوصيري. وهو من البسيط. البردة ١٨ والدر المصون ٤ / ٦٧٦ والديوان ١٩٧.

(١٣) سقط من ب.

٩

جمعا لتوبة كتمر وتمرة (١) و (ذِي الطَّوْلِ) نعت أو بدل كما تقدم ، والطّول سعة الفضل (٢) ، و (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) يجوز أن يكون مستأنفا (٣) ، وأن يكون حالا وهي حال لازمة ، وقال أبو البقاء يجوز أن يكون (٤) صفة ، وهذا على ظاهره فاسد ؛ لأن الجمل لا تكون صفة للمعارف ، ويمكن أن يريد أنه صفة لشديد العقاب ، لأنه لم يتعرف بالإضافة. والقول في (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) كالقول في الجملة قبله ويجوز أن يكون حالا من الجملة قبله (٥).

فصل

قال المفسرون : غافر الذنب ساتر الذنب وقابل التوب أي التوبة ، مصدر تاب يتوب توبا ، وقيل : التوب جمع توبة مثل : دومة ودوم ، وعومة وعوم ، وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : غافر الذنب لمن قال لا إله إلا الله ، وقابل التوب لمن قال لا إله إلا الله ، شديد العقاب لمن لا يقول لا إله إلا الله ، (ذِي الطَّوْلِ) ذي الغنى عمن لا يقول لا إله إلا الله. قال مجاهد : ذي الطول ذي السّعة والغنى ، وقال الحسن : ذي الفضل ، وقال قتادة : ذو النعم ، وقيل : ذو القدرة ، وأصل الطّول الإنعام الذي تطول مدّته على صاحبه ، لا إله إلا هو إليه المصير (٦). والمعنى أنه لما وصف نفسه بصفات الرحمة والفضل فلو حصل معه إله آخر يشاركه في صفة الرحمة والفضل لما كانت الحاجة إلى عبوديته شديدة فكان الترغيب والترهيب الكاملين حاصلين بسبب هذا التوحيد. وقوله (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) مما يقوّي الرغبة في الإقرار بالعبودية.

قوله تعالى : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) لما قرر أن القرآن كتابه أنزله ليهتدى به في الدين ذكر أقوال (٧) من يجادل لغرض إبطاله فقال (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ) أي في دفع آيات الله بالتكذيب والإنكار إلا الذين كفروا.

واعلم أن الجدال نوعان ، جدال في تقرير الحق ، وجدال في تقرير الباطل ، أما الجدال في تقرير الحق فهو حرفة الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ قال تعالى لمحمد ـ

__________________

(١) المعروف أن اسم الجنس ما يفرق بينه وبين واحده بالتاء فكان على المؤلف أن يتحرى الدقة في أسلوبه والمحققون من متأخري النحاة والكوفيون يرون أن مثل ذلك جمع تكسير مفرده بالتاء وهذا ما عليه الأخفش في معانيه ٦٧٤ ، قال : «والتوب جماعة التوبة».

(٢) وانظر مجاز القرآن ٢ / ١٩٤ واللسان طول ٢٧٢٨.

(٣) التبيان ١١٣٥.

(٤) السابق.

(٥) انظر الإعراب هذا كله في الدر المصون ٤ / ٦٧٦.

(٦) وانظر في هذا تفسير الإمام البغوي في معالم التنزيل ٦ / ٨٧ وتفسير الخازن في لباب التأويل نفس المرجع والموضع ذاته.

(٧) في ب : أحوال.

١٠

عليه الصلاة والسلام ـ (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] وحكى عن قوم نوح قولهم : (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) [هود : ٣٢]. وأما الجدال في تقرير الباطل فهو مذموم وهو المراد بهذه الآية ، وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «إنّ جدالا في القرآن كفر» (١) وروى عمرو بن شعيب (٢) عن أبيه عن جده قال : سمع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قوما يتمارون فقال : إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله عزوجل بعضه ببعض ، وإنما نزل كتاب الله يصدّق بعضه بعضا فلا تكذبوا بعضه ببعض فما علمتم منه فقولوه ، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه (٣) ، وقال تعالى : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) [الزخرف : ٥٨] وقال : (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) [غافر : ٥].

قوله (فَلا يَغْرُرْكَ) قرأ العامة بالفك وهي لغة الحجاز ، وزيد بن عليّ وعبيد بن عمير فلا يغرّك بالإدغام مفتوح (٤) الراء وهي لغة تميم.

فصل

جدالهم في آيات الله هو قولهم مرة سحر ، ومرة هو شعر ، ومرة إنه قول الكهنة ، ومرة إنه أساطير الأولين ، ومرة إنه يعلّمه بشر ، وقولهم : (ما أَنْتُمْ (٥) إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) أأنزل علينا الملائكة (٦) ، وأشباه هذا.

ثم قال : (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) أي لا تغترّ بأني أمهلتهم وتركتهم سالمين في أبدانهم وأموالهم يتقلبون في البلاد أي يتصرفون فيها للتجارات وطلب المعاش فإني وإن أمهلتهم فإني سآخذهم وأنتقم كما فعلت بالأمم الماضية.

ثم كشف عن هذا المعنى فقال (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ) وهم الكفار الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب من بعد قوم نوح (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) ، قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : ليقتلوه ويهلكوه وقيل : ليأسروه (٧). وقرأ عبد الله برسولها (٨) ، أعاد الضمير على لفظ «الله» والجمهور على معناها ، وفي قوله

__________________

(١) الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده ٢ / ٢٥٨ ، ٤٧٨ ، ٤٩٤.

(٢) ابن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي أبو إبراهيم المدني نزيل الطائف عن أبيه عن جده وطاوس وعنه عمرو بن دينار وقتادة وخلق مات سنة ١١٨ ه‍ (انظر خلاصة الكمال ٢٩٠.

(٣) أخرجه البغوي هو وما قبله في تفسيره ٦ / ٨٨ وروى ما قبله عن أبي هريرة.

(٤) ذكرها أبو حيان في البحر ٧ / ٤٤٩ والزمخشري في الكشاف بدون نسبة ٣ / ٤١٤ ، ٤١٥ وهي من الشواذ.

(٥) في ب : ما أنت بالإفراد.

(٦) وفيها : لو لا أنزل علينا الملائكة وهي الموافقة لما في المصحف.

(٧) ذكر ذلك البغوي في تفسيره ٦ / ٨٨.

(٨) ذكرت في البحر ٧ / ٤٤٩ والدر المصون ٤ / ٦٧٦ ومعاني الفراء ٣ / ٥ وهي من الشواذ.

١١

«ليأخذوه» عبارة عن المسبّب بالسّبب وذلك أن القتل مسبب عن الأخذ ومنه قيل للأسير : أخيذ (١) قال :

٤٣٢٠ ـ فإمّا تأخذوني تقتلوني

فكم من واحد يهوى خلودي (٢)

(وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) ليبطلوا به الحق الذي جاءت به الرسل ، (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) اجتزاء بالكسرة عن ياء المتكلم وصلا ووقفا (٣) ؛ لأنها رأس فاصلة ، والمعنى فأنزلت بهم من الهلاك ما هموا بإنزاله بالرسل ، وأرادوا أن يأخذوهم فأخذتهم أنا فكيف كان عقابي إيّاهم؟ أليس كان مستأصلا؟ فأنا أفعل بقومك ما فعلت بهؤلاء إن أصروا على الكفر والجدال في آيات الله (٤).

قوله (تعالى) (٥)(وَكَذلِكَ حَقَّتْ) يحتمل الكاف أن تكون مرفوعة المحل على خبر مبتدأ مضمر ، أي والأمر كذلك (٦) : ثم أخبر بأنه حقت كلمة الله عليهم بالعذاب ، وأن يكون نعتا لمصدر محذوف أي مثل ذلك الوجوب من عقابهم وجب على الكفرة (٧) ، والمعنى كما حقت كلمة العذاب على الأمم المكذبة حقت أيضا على الذين كفروا من قومك.

قوله (أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) يجوز أن يكون على حذف حرف الجرّ أي (٨) لأنّهم (فحذف (٩)) فيجري في محلها القولان (قال الأخفش (١٠) لأنّهم أو بأنّهم أصحاب النار) ، ويجوز أن يكون في محل رفع بدلا من «كلمة (١١)». وقد تقدم خلافهم في إفراد «كلمة» وجمعها ، وأن نافعا وابن عامر قرأ «كلمات» على الجمع والباقون بالإفراد (١٢).

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ

__________________

(١) اللسان أخذ ٣٦ ، ومعالم التنزيل ٦ / ٨٨ ، والكشاف ٣ / ٤١٥.

(٢) من الوافر ويروى : فكم من آخذ. والاستشهاد في قوله «تأخذوني» فإن الأخذ بمعنى الأسر والدليل تقتلوني ، وانظر البحر ٧ / ٤٤٩ ، والقرطبي ١٥ / ٢٩٣ ، برواية : فكم من آخذ ، وانظر الدر ٤ / ٦٧٦.

(٣) وقد قرأ بإثبات الياء في الوصل والوقف يعقوب انظر إتحاف فضلاء البشر ٣٧٧ والدر المصون ٤ / ٦٧٧.

(٤) وانظر الكشاف ٣ / ٤١٥.

(٥) زيادة من أ.

(٦) قاله السمين في الدر ٤ / ٦٦٧.

(٧) قاله أبو حيان في تفسيره ٧ / ٤٥٠ فضلا عن المرجع السابق.

(٨) أحد قولي الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤١٥ وانظر المرجعين السابقين أيضا.

(٩) سقط من ب.

(١٠) ما بين القوسين كله زيادة من أ عن ب وانظر معاني القرآن للأخفش ٦٧٥.

(١١) الكشاف والدر المراجع السابقة.

(١٢) قرأ أيضا بالجمعية ابن هرمز وشيبة وابن القعقاع وقرأ بالإفراد باقي السبعة وقتادة وأبو رجاء وانظر البحر ٧ / ٤٥٠ ، والإتحاف ٣٧٧ والسبعة ٥٦٧ والكشاف ٣ / ٤١٥ والدر المصون ٤ / ٦٧٧.

١٢

وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(٩)

قوله (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ) مبتدأ و «يسبّحون» خبره ، والعامة على فتح عين العرش وابن عباس في آخرين بضمّها (١). فقيل : يحتمل أن يكون جمعا لعرش كسقف (٢) في سقف وقوله (مَنْ حَوْلَهُ) يحتمل أن يكون مرفوع المحل عطفا على (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) أخبر عن الفريقين بأنهم يسبحون ، وهذا هو الظاهر ، وأن يكون منصوب المحل عطفا على «العرش» يعني أنهم يحملون أيضا الملائكة الحافين بالعرش ، وليس بظاهر (٣).

فصل

لما بين أن الكفار يبالغون في إظهار العداوة مع المؤمنين بين أن أشرف طبقات المخلوقات هم الملائكة الذين هم حملة العرش والحافّون حول العرش يبالغون في إظهار المحبة والنصرة للمؤمنين ، فكأنه تعالى يقول : إن كان هؤلاء الأراذل يبالغون في العداوة فلا تلتفت (٤) إليهم ولا تقم لهم وزنا فإن حملة العرش معك ، والحافّون من حول العرش ينصرونك وهم الكروبيّون ، قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمسمائة عام ، وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه قال : بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية خفقان الطير المسرع ثلاثين ألف عام (٥). وقال مجاهد : بين السماء الثانية وبين العرش سبعون ألف حجاب : حجاب من نور ، وحجاب من ظلمة ، وقال وهب بن منبه : إن حول العرش سبعون ألف صفّ من الملائكة ، صفّ خلف صفّ يطوفون بالعرش.

قوله (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) قال شهر بن حوشب : حملة العرش ثمانية ، فأربعة منهم يقولون : سبحانك اللهمّ وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك ، وأربعة منهم يقولون : سبحانك اللهمّ وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك ؛ قال : وكأنهم يرون ذنوب بني آدم(٦).

__________________

(١) من القراءات الشاذة ، انظر مختصر ابن خالويه ١٣٢ ، والكشاف ٣ / ٤١٥ ، والبحر والدر أيضا المرجعين السابقين.

(٢) ويحتمل ذلك وجها آخر وهو أن يكون ضم العين لغة في العرش قاله أبو حيان في البحر ٧ / ٥٢ وانظر شرح شافية ابن الحاجب لرضي الدين ٢ / ٩١ ، ٩٢ والدر المصون ٤ / ٦٧٧.

(٣) السابق الأخير.

(٤) في ب : لا يلتفت إليهم.

(٥) جزء من حديث أخرجه الإمام البغوي في تفسيره ٦ / ٨٩.

(٦) ذكر هذه الأقوال كلها البغوي في المرجع السابق.

١٣

وقوله : (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) فيه سؤال (١) وهو أن يقال : ما الفائدة في قوله (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) مع أن الاشتغال بالتسبيح والتحميد لا يمكن إلا بعد سبق الإيمان بالله؟

وأجاب الزمخشري : بأن المقصود منه التنبيه على أن الله تعالى لو كان حاضرا لكان حملة العرش والحافون بالعرش يشاهدونه ويعاينونه ، ولو كان كذلك لما كان إيمانهم بوجود الله موجبا للمدح والثناء لأن الإقرار بوجود شيء مشاهد معاين لا يوجب المدح والثناء ، ألا ترى أن الإقرار بوجود الشمس وبكونها مضيئة لا يوجب المدح والثناء؟ فلما ذكر الله سبحانه وتعالى إيمانهم بالله على سبيل المدح والثناء والتعظيم دل على أنهم إنما آمنوا به مع أنهم ما شاهدوه حاضرا جالسا هناك.

قوله : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) اعلم أن كمال السعادة بأمرين :

أحدهما : التعظيم لأمر الله.

والثاني : الشفقة على خلق الله ، ويجب أن يكون التعظيم لأمر الله مقدما على الشفقة على خلق الله ، فقوله تعالى : (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) مشعر بالتعظيم لأمر الله ، وقوله (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) مشعر بالشفقة على خلق الله ، واحتج كثير من العلماء بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر ؛ لأنها دلت على أن الملائكة لما فرغوا من ذكر الله تعالى بالثناء والتقدير اشتغلوا بالاستغفار لغيرهم وهم المؤمنون وهذا يدل على أنهم مستغنون بأنفسهم ؛ إذ لو كانوا محتاجين إلى الاستغفار لاستغفروا لأنفسهم أولا ، لقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «ابدأ بنفسك» (٢) ولقوله تعالى لمحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [محمد : ١٩] وقال (٣) عن نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [نوح : ٢٨] وهذا يدل على أن من كان محتاجا إلى الاستغفار (فإنه يقدم الاستغفار (٤) لنفسه على الاستغفار لغيره والملائكة لو كانوا محتاجين إلى الاستغفار) لاستغفروا لأنفسهم أولا ثم استغفروا لغيرهم ، ولما لم يذكر الله تعالى استغفارهم لأنفسهم علمنا أنهم لم يكونوا محتاجين إلى الاستغفار ، وأما الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فهم كانوا محتاجين إلى الاستغفار لقوله تعالى لمحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ (وَاسْتَغْفِرْ (٥) لِذَنْبِكَ) فظهر أن الملك أفضل من البشر والله أعلم (٥).

قوله «ربّنا» معمول لقول مضمر تقديره يقولون ربنا ، والقول المضمر في محل

__________________

(١) نقله الرازي في تفسيره ٢٧ / ٣٢ ، ٣٣ عن الزمخشري في الكشّاف ٣ / ٤١٥ ، ٤١٦.

(٢) الحديث ذكره وأخرجه مسلم في صحيحه باب الزكاة ٤١ والرازي ٢٧ / ٣٣.

(٣) في ب والرازي : وحكى عن نوح.

(٤) ما بين القوسين كله سقط من نسخة ب بسبب انتقال النظر.

(٥) انظر في هذا تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٧ / ٣٣.

١٤

نصب على الحال من فاعل «يستغفرون» أو خبر بعد خبر ، و (رَحْمَةً وَعِلْماً) تمييز منقول من الفاعلية أي وسع كل شيء رحمتك وعلمك (١). واعلم أن الدعاء في أكثر الأمر مذكور بلفظ «الرب» ؛ لأن الملائكة قالوا في هذه الآية «ربنا» ، وقال آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) [الأعراف : ٢٣] وقال نوح : (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) [نوح : ٥] وقال (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) [نوح : ٢٨] وقال إبراهيم : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) [البقرة : ٢٦٠] وقال : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) [البقرة : ١٢٨] وقال يوسف (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) [يوسف : ١٠١] وقال موسى عليه الصلاة والسلام : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] وقال : (رَبِّ) إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ) [القصص : ١٦] وحكى عن داود ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه استغفر ربه وخر راكعا (٢) وقال سليمان ـ عليه الصلاة والسلام ـ (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [ص : ٣٥] ، وحكى عن زكريّا ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه (نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا)(٢) وقال عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) [المائدة : ١١٤] وقال تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) [المؤمنون : ٩٧] وحكى عن المؤمنين أنهم قالوا : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً ....) [آل عمران : ١٩١].

فإن قيل : لفظ الله أعظم من لفظ الرب فلم خص لفظ الربّ بالدعاء؟

فالجواب : بأن العبد يقول : كنت في العدم المحض والنفي الصّرف فأخرجتني إلى الوجود وربّيتني فاجعل تربيتك لي شفيعا إليك في أن لا تخلّيني طرفة عين عن تربيتك وإحسانك (وفضلك)(٣) ، لإجابة دعائي.

فإن قيل : قوله ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فيه سؤال ، لأن العلم وسع كل شيء وأما الرحمة فما وصلت إلى كل شيء ؛ لأن المضرور حال وقوعه في الضرر لا يكون ذلك في حقه رحمة وهذا السؤال أيضا مذكور في قوله : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف : ١٥٦].

فالجواب : كل موجود فقد نال من رحمة الله نصيبا ؛ لأن الموجود إما واجب وإما ممكن أما الواجب فليس إلا الله (سبحانه) (٤) وتعالى. وأما الممكن فوجوده من الله تعالى وبإيجاده وذلك رحمة فثبت أنه لا موجود غير الله إلا وقد حصل له نصيب من الرحمة (٥)

__________________

(١) قال بهذا الإعراب الإمام السمين في الدر المصون ٤ / ٦٧٧ وأبو البقاء في التبيان ١١١٥ ، ١١١٦.

(٢) قال : «فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ» [ص : ٢٤].

(٢) قال : فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ [ص : ٢٤].

(٣) قال : «إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا» [مريم : ٣].

(٤) تكملة من الرازي عن النسختين.

(٥) سقط من ب وانظر في هذا كله تفسير الإمام فخر الدين الرازي ٢٧ / ٣٤ ، ٣٥.

١٥

فلهذا قال : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) وهذه الآية دلت على أنه تعالى عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها من الكليات والجزئيات.

قوله : (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) دينك (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ).

فإن قيل : لا معنى للغفران إلا إسقاط العذاب وعلى هذا فلا فرق بين قول ه «فاغفر لهم» وبين قوله (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ).

فالجواب : قولهم : فاغفر فيه رمز وإشارة لإسقاط العذاب ، فلهذا أردفوه بذكره على سبيل التصريح تأكيدا ومبالغة.

واعلم أنهم لما طلبوا من الله إزالة العذاب (عنهم) (١) أردفوه بطلب إيصال الثواب إليهم فقالوا : (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ).

فإن قيل : أنتم زعمتم أن الشفاعة إنما جعلت (٢) للمذنبين وهذه الآية تبطل ذلك ، لأنه تعالى ما وعد المذنبين بأن يدخلهم جنات عدن.

فالجواب : (لا نسلم أنه) (٣) ما وعدهم بذلك ، لأن الدلائل الكثيرة دلت على أنه لا يخلد أهل «لا إله إلا الله ، محمد رسول الله» في النار ، وإذا أخرجهم من النار وجب أن يدخلهم الجنة فكان هذا وعد من الله بأن يدخلهم جنات عدن إما من غير دخول النار ، وإما بعد أن يدخلهم النار.

قوله : (وَمَنْ صَلَحَ) في محل نصب إما عطفا على مفعول «أدخلهم» وإما على مفعول «وعدتهم» وقال الفراء (٤) والزجاج (٥) نصبه من مكانين إن شئت على الضمير في «أدخلهم» وإن شئت على الضمير في «وعدتهم». والعامة على فتح لام «صلح» يقال : صلح فهو صالح ، وابن أبي عبلة بضمها (٦) ، يقال : صلح فهو صليح. والعامة على «ذرّيّاتهم» جمعا ، وعيسى «ذرّيّتهم» (٧) إفرادا. والمراد بقوله ومن صلح من أهل الإيمان.

ثم قالوا (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). وإنما ذكروا في دعائهم هذين الوصفين ، لأنه لو لم يكن عزيزا بل كان بحيث يغلب ويمنع لما صح وقوع المطلوب منه ولو لم يكن

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في ب بدل جعلت حصلت.

(٣) ما بين القوسين زيادة من ب.

(٤) قال في معاني القرآن له ٣ / ٥ : «من نصب من مكانين إن شئت جعلت «ومن» مردودة على الهاء والميم في «وَأَدْخِلْهُمْ» وإن شئت على الياء والميم في وعدتهم».

(٥) وقال الزجاج في معانيه ٤ / ٣٦٨ : «من في موضع نصب عطف على الياء والميم في قوله : «رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ» أي وأدخل من صلح ، ويصلح أن يكون عطفا على الهاء والميم في قوله «وعدتهم» فيكون المعنى وعدتهم ووعدت من صلح من آبائهم».

(٦) قراءة شاذة ذكرها البحر المحيط ٧ / ٤٥٢ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٤١٧ والسمين في الدر ٤ / ٦٧٨.

(٧) المراجع السابقة.

١٦

حكيما لما حصل هذا المطلوب على وفق الحكمة والمصلحة.

ثم قالوا بعد ذلك (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) (قال بعض المفسرين (١) المراد منه عذاب السيئات.

فإن قيل : فعلى هذا التقدير لا فرق بين قوله : (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ)) (٢) وبين قوله : (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) وحينئذ يلزم التكرار الخالي من الفائدة وهو لا يجوز!

فالجواب : أنّ التفاوت حاصل من وجهين :

الأول : أن يكون قوله (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) ، دعاء مذكورا (للأصول وقوله (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ)(٣) دعاء مذكورا) للفروع وهم الآباء والأزواج والذريات.

الثاني : أن يكون قوله (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) مقصورا على إزالة عذاب الجحيم ، وقوله (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) يتناول عذاب الجحيم وعذاب موقف القيامة والحساب والسؤال.

وقال بعض المفسرين : المراد بقوله : (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) هو أن الملائكة طلبوا إزالة عذاب النار بقولهم : (عَذابَ الْجَحِيمِ) وطلبوا إيصال الثواب (إليهم) (٤) بقولهم : (وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ) ثم طلبوا بعده ذلك أن يصونهم الله تعالى في الدنيا عن العقائد الفاسدة بقولهم : (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) ثم قالوا (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) يعني من تق السيئات في الدنيا فقد رحمته في يوم القيامة ، ثم قالوا (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) حيث وجدوا بأعمال منقطعة نعيما لا ينقطع وبأفعال حقيرة ملكا لا تصل العقول إلى كنه جلالته والله أعلم (٥).

قوله : (يَوْمَئِذٍ) التنوين عوض من جملة محذوفة ، ولكن ليس في الكلام جملة مصرح بها عوض من هذا التنوين بخلاف قوله : (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) [الواقعة : ٨٤] أي حين إذ بلغت الحلقوم لتقدّمها في اللفظ فلا بدّ من تقدير جملة يكون هذا عوضا منها تقديره : يوم إذ يؤاخذ بها (٦).

فصل

قال مطرف (٧) : أنصح عباد الله للمؤمنين الملائكة وأغشّ الخلق للمؤمنين هم

__________________

(١) أورده الرازي في تفسيره دون تعيين أيضا ٢٧ / ٣٧.

(٢) ما بين القوسين كله سقط من ب.

(٣) سقط كذلك من ب بسبب انتقال النظر.

(٤) كذا في الرازي وأ وهي ساقطة من ب.

(٥) انظر تفسير الإمام الرازي ٢٧ / ٣٧.

(٦) هذا قول أبي حيان ومن بعد السمين في الدر المصون ٤ / ٦٧٨ فقد قال أبو حيان في البحر ٧ / ٤٥٧ : «ولم يتعرض أحد من المفسرين الذين وقفنا على كلامهم في الآية للجملة التي عوض منها التنوين في يومئذ».

(٧) في ب : ابن مطرف وهو تحريف والصحيح ما عليه أفهو مطرف بن عبد الله وقد ترجم له.

١٧

الشياطين ، قال سعيد بن جبير في تفسير قوله (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ) يدخل المؤمن الجنة فيقول : أين أبي؟ أين ولدي؟ أين زوجتي؟ فيقال لهم : إنهم لم يعملوا مثل عملك فيقول : إني كنت أعمل لي ولهم فيقال : أدخلوهم الجنة.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ)(١٢)

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ) أي يوم القيامة وهم في النار وقد مقتوا أنفسهم حين عرض عليهم سيئاتهم وعاينوا العذاب فيقال لهم : (لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) أي لمقت الله إياكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم اليوم أنفسكم عند دخول العذاب (١) قاله البغوي (٢).

واعلم أن الله تعالى عاد إلى شرح أحوال الكافرين المجادلين في آيات الله ، وهم المذكورون في قوله (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) وبين أنهم في القيامة يعترفون بذنوبهم واستحقاقهم العذاب ويسألون الرجوع إلى الدنيا ليتلافوا ما فرط منهم (٣).

قوله (إِذْ تُدْعَوْنَ) منصوب بمقدر يدل عليه (هذا الظاهر (٤) ، تقديره مقتكم إذ تدعون ، وقدّره بعضهم : اذكروا إذ تدعون) (٥). وجوز الزمخشري أن يكون منصوبا بالمقت الأول(٦). ورد عليه أبو حيان بأنه يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بالأجنبي وهو الخبر (٧) ، وقال: هذا من ظواهر علم النحو التي لا تكاد تخفى على المبتدىء ، فضلا عن من يدّعي من العجم أنه شيخ العرب والعجم (٨) ، قال شهاب الدين : ومثل هذا لا يخفى على أبي القاسم ، وإنما أراد أنه دال على ناصبه (٩) ، (و) (١٠) على تقدير ذلك

__________________

(١) في ب : قال بدون عائد وهو خطأ والتصحيح ما هو مثبت أعلى من أفالمقول السابق للبغوي لا اللاحق.

(٢) معالم التنزيل ٦ / ٩٠.

(٣) قاله الرازي في التفسير الكبير ٢٧ / ٣٨.

(٤) ما بين القوسين ساقط من أالأصل ومثبت في ب والسمين ٤ / ٦٧٩.

(٥) قال بذلك ابن الأنباري في البيان ٢ / ٣٢٨ ، ٣٢٩.

(٦) الكشاف ٣ / ٤١٧.

(٧) قال : لأن المقت مصدر ومعموله من صلته ، ولا يجوز أن يخبر عنه إلا بعد استيفائه صلته وقد أخبر عنه بقوله «أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ».

(٨) انظر البحر بالمعنى ٧ / ٤٥٢ ، ٤٥٣.

(٩) هذا دفاع من السمين عن الزمخشري ولكن صريح عبارة الزمخشري أنه منصوب بنفس المقت. وانظر الدر المصون ٤ / ٦٧٨ والكشاف ٤١٧.

(١٠) الواو سقطت من ب.

١٨

فهو مذهب كوفي قال به. أو لأن الظّرف يتّسع فيه ما لا يتّسع في غيره ، وأيّ غموض في هذا حتى ينحي عليه هذا الإنحاء؟ ولله درّ القائل :

٤٣٢١ ـ حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه

فالقوم أعداء له وخصوم

كضرائر الحسناء قلن لوجهها

كذبا وزورا إنّه لذميم (١)

وهذا الرد سبقه إليه أبو البقاء فقال : ولا يجوز أن يعمل فيه مقت الله ؛ لأنه مصدر أخبر عنه وهو قوله «أكبر» فمن ثم أخذه أبو حيان ، ولا يجوز أن ينتصب بالمقت الثاني لأنهم لم يمقتوا أنفسهم وقت دعائهم إلى الإيمان إنما مقتوها يوم القيامة (٢). والظاهر أن «مقت الله» واقع في الدنيا كما تقدم في تفسير الآية. وجوز الحسن أن يكون في الآخرة وضعفه أبو حيان بأنه يبقى (إِذْ تُدْعَوْنَ) مفلّتا من الكلام لكونه ليس له عامل مقدم فلا يفسر قائلا فإذا كان المقت في الدنيا أمكن أن يضمر له عامل تقديره (مقتكم) (٣). قال شهاب الدين : وهذا التجري على مثل الحسن يهون عليك تجرّيه على الزمخشري ونحوه (٤).

واللام في «لمقت» لام ابتداء (٥) ، أو قسم (٦) ، ومفعوله محذوف أي لمقت الله إياكم أو أنفسكم فهو مصدر مضاف (٧) لفاعله كالثاني. ولا يجوز أن تكون المسألة من باب التنازع في «أنفسكم» بين المقتين ؛ لئلا يلزم الفصل بالخبر بين المقت الأول ومعموله على تقدير إعماله (٨). لكن قد اختلف النحاة في مسألة وهي التنازع في فعلي التعجب فمن منع اعتل بما ذكرته لأنه لا يفصل بين فعل التعجب ومعموله ، ومن جوز فقال : يلتزم (إعمال) (٩) الثاني حتى لا يلزم الفصل فليكن هذا منه ، والحق عدم الجواز فإنّه على خلاف قاعدة التنازع.

__________________

(١) هذا كله من كلام السمين في إطار دفاعه عن الزمخشري في الدر ٤ / ٦٧٩ والبيتان من الكامل وجيء بهما تضمينا في إطار الدفاع عن الزمخشري من السمين شهاب الدين وقد نسب هذا البيتان لأبي الأسود الدؤلي وانظر حاشية الأمير على المغني ١٧٩ / ١ والأشموني ٢ / ٢١٨ والهمع ٢ / ٣٢ واللسان «ذمم» والسبع الطوال لابن الأنباري ٢٦٧ والدر المصون ٤ / ٦٧٩ وفي البيت الثاني شاهد لا مجال لنا فيه الآن.

(٢) قاله مكي في المشكل ٢ / ٢٦٤ وأبو البقاء في التبيان ١١١٦ وابن الأنباري في البيان ٢ / ٣٢٩ والسمين في الدر ٤ / ٦٧٩.

(٣) بالمعنى من البحر المحيط ٧ / ٤٥٢ وانظر الدر المرجع السابق.

(٤) الدر المرجع السابق.

(٥) قاله الأخفش في معانيه ٦٧٥ ونقله القرطبي في الجامع ١٥ / ٢٩٦.

(٦) ذكره أبو حيان في البحر ٤ / ٤٥٢ والسمين في الدر ٤ / ٦٧٩.

(٧) السابقين وانظر أيضا التبيان ١١١٦.

(٨) الدر المصون ٤ / ٦٧٩.

(٩) سقط هذا من ب على هيئة بياض.

١٩

فصل

ذكروا في تفسير مقتهم أنفسهم وجوها :

الأول : أنهم إذا شاهدوا القيامة والجنة والنار مقتوا أنفسهم على إصرارهم على التكذيب بهذه الأشياء في الدنيا.

الثاني : أن الأتباع يشتد مقتهم للرؤساء الذين دعوهم إلى الكفر في الدنيا ، والرؤساء أيضا يشتد مقتهم للأتباع فعبر عن مقت بعضهم بعضا بأنهم مقتوا أنفسهم كقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٥٤] ، والمراد قتل بعضهم بعضا.

الثالث : قال محمد بن كعب (القرظيّ) : إذا خطبهم إبليس وهم في النار بقوله : «ما كان لي عليكم من سلطان» إلى قوله : (وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) [إبراهيم : ٢٥] ففي هذه الحالة مقتوا أنفسهم ، وأما الذين ينادون الكفار بهذا الكلام فهم خزنة جهنّم (١).

فصل

المقت : أشد البغض وذلك في حق الله تعالى محال ، فالمراد منه الإنكار والزجر (٢) ، قال الفراء قوله (يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ) معناه ينادون أن مقت الله ، يقال : ناديت إن زيدا قائم ، وناديت لزيد قائم (٣).

ثم إنه تعالى بين أن الكفار إذا خوطبوا بهذا الخطاب قالوا : (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ...) الآية : «اثنتين» نعت مصدر محذوف تقديره إماتتين اثنتين (٤). قال ابن عباس وقتادة والضحاك : كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم فأحياهم الله في الدنيا ، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها ، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة فهما موتان وحياتان ، وهو كقوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [البقرة : ٢٨]. وقال السديّ : أميتوا في الدنيا ثم أحيوا في قبورهم للسؤال ثم أميتوا في قبورهم ، ثم أحيوا في الآخرة. وقوله (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) أي من خروج من النار إلى الدنيا فنصلح أعمالنا ونعمل بطاعتك ، ومّر نظير : (هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ)(٥) والمعنى أنهم لما عرفوا أن الذي كانوا عليه في الدنيا كان فاسدا باطلا تمنوا الرجوع إلى الدنيا ليشتغلوا بالأعمال الصالحة.

فإن قيل : الفاء في قوله «فاعترفنا» يقتضي أن تكون الإماتة مرتين (والإحياء (٦) مرتين) سببا لهذا الاعتراض فما وجه هذه السّببيّة؟.

__________________

(١ و ٢) انظر الرازي ٢٧ / ٣٨.

(٣) معاني القرآن له ٣ / ٧.

(٤) الرازي السابق.

(٥) انظر هذه الأقوال كلها في تفسير البغوي ٦ / ٩٠ ، ٩١.

(٦) سقط من ب.

٢٠