اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٧٤

التخفيف مضارع «درس» مخففا أي حفظ (١) وأبو حيوة يدرّسونها بفتح الدال مشددة وكسر الراء (٢) والأصل «يدترسونها» من الادّراس على الافتعال فأدغم ، وعنه أيضا بضم الياء وفتح الدال وتشديد الراء من التّدريس (٣). والمعنى يقرأونها وقوله : (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ) أي إلى هؤلاء المحاضرين (٤) لك لم ترسل إليهم أي لم يأت العرب قبلك نبي ولا نزل عليهم كتاب ولا أتاهم نذير يشافههم بالنّذارة غيرك (٥) ، فلا تعارض بينه وبين قوله : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر : ٢٤] إذ المراد هناك آثار النذير. ولا شك أن هذا كان موجودا يذهب النبي وتبقى شريعته ، ثم بين أنهم كالذين من قبلهم كذّبوا مثل عاد وثمود وغيرهم.

قوله : (وَما بَلَغُوا) الظاهر أن الضمير في «بلغوا» وفي «آتيناهم» للّذين من قبلهم (٦) ليناسق قوله : (فَكَذَّبُوا رُسُلِي) يعني أنهم لم يبلغوا في شكر النعمة وجزاء المنّة (مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) من النعم والإحسان إليهم (٧). وقيل : بل ضمير الرفع لقريش والنصب (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وهو قول ابن عباس على معنى أنهم كانوا أكثر أموالا ، وقيل : بالعكس على معنى إنا أعطينا قريشا من الآيات والبراهين ما لم نعط من قبلهم (٨). واختلف في المعشار فقيل : هو بمعنى العشر بني مفعال من لفظ العشر كالمرباع ، ولا ثالث لهما من ألفاظ العدد لا يقال : مسداس ولا مخماس (٩) ، وقيل : هو عشر العشر (١٠) ، إلا أن ابن عطية أنكره وقال : ليس بشيء (١١) ، وقال الماورديّ : المعشار هنا عشر العشير (١٢) ، والعشير هو عشر العشر (١٣)

__________________

(١) الدر المصون ٤ / ٤٥٢.

(٢) ذكرها أبو حيان في بحره ٧ / ٢٨٩ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٩٤ وابن خالويه في المختصر ١٢٢ وابن جني في المحتسب ٢ / ١٩٥.

(٣) البحر ٧ / ٢٨٩ والكشاف ٣ / ٢٩٤.

(٤) في «ب» المعاصرين.

(٥) هذا معنى قول قتادة في زاد المسير ٦ / ٤٦٣ و ٤٦٤.

(٦) كلام في المعنى من البحر المحيط ٧ / ٢٨٩ والمصون ٤ / ٤٥٢.

(٧) المرجعان السابقان.

(٨) المرجعان السابقان.

(٩) هو قول الزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٩٤ والأخفش في معاني القرآن ٢ / ٦٦٣ والفراء في معاني القرآن أيضا ٢ / ٣٦٤ والزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٢٥٦ وقد قال الأخفش : «ولا يقولون هذا في سوى العشر».

(١٠) قاله أبو حيان في البحر ناقلا له ٧ / ٢٩٠ والقرطبي في الجامع ١٤ / ٣١٠ والسمين في الدر ٤ / ٤٥٣.

(١١) نقله عنه أبو حيان في بحره (٧ / ٢٩٠).

(١٢) المراجع السابقة.

(١٣) قال في اللسان عشر : «والعشر والعشير جزء من عشرة يطّرد هذان البناءان في جميع الكسور والجمع أعشار وعشور وهو المعشار. وفي التنزيل : «وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ». والعشير الجزء من أجزاء العشرة وجمع العشير أعشراء مثل نصيب وأنصباء ولا يقولون هذا في شيء سوء العشر ، والعشير والعشر واحد مثل الثّمين والثّمن والسّديس والسّدس». اللسان : «ع ش ر» ٢٩٥٣.

٨١

فيكون جزءا من ألف قال : وهو الأظهر لأن المراد به المبالغة في التقليل (١).

فصل

المعنى أن هؤلاء المشركين ما بلغوا معشار ما أعطينا الأمم الخالية من النّعمة والقوة (٢) وطول العمر فكذبوا رسلي فكيف كان نكير؟ أي إنكاري وتغييري (٣) عليهم يحذر كفار هذه الأمة عذاب الأمم الماضية وقيل : المراد وكذّب (٤) الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم أي الذين من قبلهم ما بلغوا معشار ما آتينا قوم محمد من البيان والبرهان وذلك لأن كتاب محمد ـ عليه‌السلام ـ أكمل من سائر الكتب وأوضح ومحمد ـ عليه‌السلام ـ أفضل من جميع الرسل وأفصح وبرهانه أوفى ، وبيانه أشفى ، ثم إن المتقدمين لما كذبوا بما جاءهم من الكتب وبما آتاهم من الرسل أنكر عليهم فكيف لا ينكر عليهم وقد كذبوا بأفصح (٥) الرّسل وأوضح السّبل ويؤيد هذا قوله تعالى : (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها) يعني غير القرآن ما آتيناهم كتابا (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) فلما كان المؤتى في الآية الأولى هو الكتاب فحمل الآية الثانية على إيتاء الكتاب أولى(٦).

قوله : (فَكَذَّبُوا) فيه وجهان :

أحدهما : أنه معطوف على (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

والثاني : أنه معطوف على (وَما بَلَغُوا)(٧). وأوضحهما الزمخشري فقال : «فإن قلت: ما معنى «فكذبوا رسلي» وهو مستغنى عنه بقوله : (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)؟ قلت : لما كان معنى قوله : (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وفعل الذين من قبلهم التكذيب وأقدموا عليه جعل تكذيب الرسل سببا عنه ونظيره أن يقول القائل : أقدم فلان على الكفر فكفر بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويجوز أن يعطف على قوله : (وَما بَلَغُوا) كقولك : ما بلغ زيد معشار فضل عمرو فيفضّل عليه» (٨) و «نكير» مصدر مضاف لفاعله أي إنكاري (٩) وتقدم حذف يائه وإثباتها(١٠).

__________________

(١) انظر : ما سبق من مراجع.

(٢) في «ب» القوة ويالنعمة بتقديم القوة على النعمة وليس كما في «أ».

(٣) في «ب» وتغيري بياء واحدة. وانظر هذا المعنى في غريب القرآن ٣٥٨ ومجاز القرآن ٢ / ١٥٠.

(٤) قاله الرازي ٢٥ / ٢٦٧.

(٥) كذا في الرازي وما في «ب» أوضح الرسل. وكلا اللفظين متقاربان.

(٦) المراجع السابقة.

(٧) الدر المصون ٤ / ٤٥٣ والكشاف ٣ / ٢٩٤.

(٨) انظر : الكشاف للعلامة الزمخشري ٣ / ٢٩٤ ، وفيه «فتفضل عليه» بدل من فيفضل عليه بالتاء لا بالياء.

(٩) بالمعنى من البحر ٧ / ٢٩٠. وقد قاله شهاب الدين في الدر ٤ / ٤٥٣ وقال في البحر ٧ / ٢٩٠ : «والنّكير مصدر كالإنكار وهو من المصادر التي جاءت على وزن فعيل. والفعل على وزن أفعل كالنّذير والعذير من أنذر وأعذر».

(١٠) يقصد : «ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» وهي الآية ٤٤ من سورة الحج وقد أثبت الياء في الوصل والوقف يعقوب وأثبتها في الوصل فقط ورش وإثباتها وصلا ووقفا قراءة عشرية ، بينما إثباتها في ـ

٨٢

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ)(٥٠)

قوله : (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) أي آمركم وأوصيكم بواحدة أي بخصلة واحدة ثم بين تلك الخصلة فقال : (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ) أي لأجل الله.

قوله : (أَنْ تَقُومُوا) فيه أوجه :

أحدها : أنها مجرورة المحل بدلا من «واحدة» على سبيل البيان. قاله الفارسي (١).

الثاني : أنها عطف بيان «لواحدة» قاله الزمخشري (٢). وهو مردود لتخالفها تعريفا وتنكيرا ، وقد تقدم هذا عند قوله : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ) [آل عمران : ٩٧].

الثالث : أنها منصوبة بإضمار «أعني» (٣).

الرابع : أنها مرفوعة على خبر ابتداء مضمر أي هي أن تقوموا (٤) ، و (مَثْنى وَفُرادى) حال (٥). وتقدم تحقيق القول في «مثنى» وبابه في سورة النّساء (٦) ، ومضى القول في «فرادى» في الأنعام (٧) ، ومعنى «مثنى» أي اثنين اثنين ، و «فرادى» واحدا واحدا. ثم قوله : (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) عطف على (أَنْ تَقُومُوا) أي قيامكم ثم تفكّركم ، والوقف عند أبي حاتم على هذه الآية ثم يبتدىء : (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ)(٨). وقال مقاتل : تم الكلام (عند) (٩) قوله : (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) أي في خلق السموات والأرض فتعلموا أن خالقهما واحد لا شريك له (١٠).

__________________

ـ الوصل يدل على أنها سبعية. وانظر : السبعة لابن مجاهد ٥٣٢ والإتحاف للبناء ٣٦ ، والكشف لمكي ٢ / ٢٠٩ والنشر ٢ / ٣٥١ وتقريبه ١٦٣ وانظر : اللباب ٦ / ١٥٠ ب ميكروفيلم.

(١) وقاله أبو البقاء أيضا في التبيان ٢ / ١٠٧٠ والبيان لابن الأنباري ٢ / ٢٨٣ ومكي في مشكل الإعراب ٢ / ٢١٢ وأبو حيان في البحر ٧ / ٢٩٠ والشهاب السمين في الدر ٤ / ٤٥٤. وقد نقل أبو حيان في بحره السابق رأى أبي علي.

(٢) الكشاف ٣ / ٢٩٤.

(٣) قاله التبيان ١٠٧٠.

(٤) التبيان السابق ، والبيان والمشكل السابقان أيضا.

(٥) الدر المصون ٤ / ٤٥٤.

(٦) عند قوله : «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ» وهي الآية ٣ منها.

(٧) من قوله : «وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ» وهي الآية ٩٤. والقائلون بالجمع اختلفوا في مفرده فقيل فرد ، أو فريد أو فرد أو فردان. وقيل : اسم جمع وانظر اللباب ٣ / ١٩٧ ب.

(٨) انظر : البحر ٧ / ٢٩١.

(٩) سقط من «ب».

(١٠) البغوي ٥ / ٢٩٥.

٨٣

قوله : (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ). وفي «ما» هذه قولان :

أحدهما : أنها نافية (١).

والثاني : أنها استفهامية (٢) لكن لا يراد به حقيقة الاستفهام فيعود إلى النفي. وإذا كانت نافية فهل هي معلقة أو مستأنفة أو جواب القسم الذي تضمنه معنى «تتفكّروا» لأنه فعل تحقيق كتبيّن وبابه؟ ثلاثة أوجه نقل الثّالث ابن عطية (٣). وربما نسبه لسيبويه ، وإذا كانت استفهامية جاز فيها الوجهان الأولان دون الثالث و (مِنْ جِنَّةٍ) يجوز أن يكون فاعلا بالجار (٤) لاعتماده (٥) وأن يكون مبتدأ (٦) ، ويجوز في «ما» إذا كانت نافية أن تكون الحجازيّة أو التّميميّة (٧).

قوله : (مَثْنى وَفُرادى) إشارة إلى جميع الأحوال فإن الإنسان إما أن يكون مع غيره فيدخل في قوله «مثنى» وإن كان وحده دخل في قوله : «فرادى» فكأنه قال : تقوموا لله مجتمعين ومنفردين لا يمنعكم الجمعيّة من ذكر الله ولا يحوجكم الانفراد إلى معين يعينكم على ذكر الله (٨) ، ثم تتفكروا في حال محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فتعلموا ما بصاحبكم من «جنة» جنون. وليس المراد من القيام القيام ضد الجلوس وإنما هو القيام بالأمر الذي هو طلب الحق (٩) كقوله : (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) [النساء : ١٢٧]. قال ابن الخطيب (١٠) : وقوله : (بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) يفيد كونه رسولا وإن كان لا يلزم في كل من لا يكون به جنة أن يكون رسولا ، لأن النبي ـ عليه‌السلام ـ كان يظهر من أشياء لا تكون مقدورة للبشر وغير البشر من (١١) يظهر منه العجائب إما الجن وإما الملك فإذا لم يكن الصادر من النبي ـ عليه‌السلام ـ بواسطة الجن بل (١٢) بقدرة الله من غير واسطة وعلى

__________________

(١) قاله في التبيان ١٠٧٠.

(٢) قال بذلك الزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٩٥ والفراء في معانيه ٢ / ٣٦٤ فقد قال الزمخشري : «وقد جوز بعضهم أن تكون ما استفهامية» وقال الفراء : «ثمّ تتفكّروا هل جربتم على محمد كذبا أو رأيتم به جنونا ففي ذلك ما يتيقنون أنه نبي».

(٣) البحر المحيط ٧ / ٢٩١ وقد نقل وجهي التعليق والاستئناف أبو حيان في بحره ٧ / ٢٩١ وكذلك شهاب الدين السمين في الدر ٤ / ٤٥٤ بينما نقل وجه جواب القسم السمين فقط ٤ / ٤٥٤ والتعليق يكون بالنفي والجملة تكون حينئذ في محل نصب وهو محط التفكر ، أي تتفكروا في انتفاء الجنة عن محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهذا يشبه قول الله : «وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ» بتصرف ٧ / ٢٩١ والهمع ١ / ١٥٤.

(٤) وهو صاحب.

(٥) على نفي أو استفهام.

(٦) على اعتبار «من» مزيدة والخبر «بصاحب» وتحقق زيادة «من» بعد وقوعها بعد استفهام أو نفي.

(٧) فإذا كانت حجازية كان اسمها «جنة» وخبرها «بصاحب» وإذا كانت تميمية كان «بصاحب» خبر مقدم و «جنة» مبتدأ مؤخر كما قال أعلى. ولست أدري كيف جعل المؤلف «ما» حجازية لتقدم الخبر لأن الخبر إذا تقدم على اسمها لا تعد «ما» عاملة بل مهملة. انظر : السمين ٤ / ٣٥٥ والكتاب ١ / ١٢٢.

(٨) قاله الرازي ٢٥ / ٢٦٨.

(٩) قاله البغوي في معالم التنزيل ٥ / ٢٩٥.

(١٠) قاله في تفسيره «التفسير الكبير» ٢٥ / ٢٩٥.

(١١) فيه : ممن.

(١٢) فيه : أو بقدرة الله تعالى من غير واسطة بحرف العطف «أو».

٨٤

التقديرين فهو رسول الله وهذا من أحسن الطّرق ، وهو الذي يثبت الصفة التي هي أشرف الصفات في البشر بنفي أخسّ الصفات فإنه لو قال أولا هو رسول كانوا يقولون فيه النّزاع فإذا قال: ما هو مجنون لم يسعهم إنكار ذلك ، ليعلمهم بعلو شأنه وحاله في قوة لسانه ، فإذا ساعدوا على ذلك لزمتهم المسألة ولهذا قال بعده : (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ) يعني إما هو به جنّة أو هو رسول لكن تبين أنه ليس به جنة فهو نذير. وقوله : (بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) إشارة إلى قرب العذاب كأنه قال ينذركم بعذاب حاضر يمسّكم عن قريب (١).

قوله : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) في «ما» وجهان :

أحدهما : أنها شرطية فيكون مفعولا مقدما و (فَهُوَ لَكُمْ) جوابها (٢).

والثاني : أنها موصولة في محل رفع بالابتداء والعائد محذوف أي سألتكموه والخبر : (فَهُوَ لَكُمْ)(٣) ودخلت الفاء لشبه الموصول بالشرط والمعنى يحتمل أنه لم يسألهم أجرا البتة كقولك : إن أعطيتني شيئا فخذه مع عملك أي لم يعطك شيئا وقول القائل : ما لي من هذا فقد وهبته لك يريد ليس لي فيه شيء. ويؤيده : (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) ويحتمل أنه سألهم شيئا نفعه عائد عليهم وهو المراد بقوله : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الشورى : ٢٣] (إِنْ أَجْرِيَ) ما ثوابي (إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

قوله : (إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ) يجوز أن يكون (يَقْذِفُ بِالْحَقِّ) مفعوله محذوفا لأن القذف في الأصل الرمي وعبر عنه هنا عوضا عن الإلقاء أي يلقي الوحي إلى أنبيائه «بالحقّ» أي بسبب الحق أو ملتبسا بالحق. ويجوز أن يكون التقدير يقذف الباطل بالحقّ أي يدفعه ويطرحه (٤) ، كقوله تعالى : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ) [الأنبياء : ١٨]. ويجوز أن يكون الباء (٥) زائدة أي نلقي الحقّ (٦) ، كقوله : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) [البقرة : ١٩٥] أو تضمن «يقذف» معنى يقضي ويحكم (٧) ، والقذف الرمي بالسهم أو بالحصاة أو الكلام (٨).

__________________

(١) الفخر الرازي ٢٥ / ٢٦٩ المرجع السابق.

(٢) قال بذلك الزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٩٥ قال : «فَهُوَ لَكُمْ» جزاء الشرط الذي هو قوله : «ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ» تقديره : أيّ شيء سألتكم من أجر فهو لكم كقوله تعالى :«ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها» وانظر : الدر المصون ٤ / ٤٥٥.

(٣) المرجعان السابقان والبحر المحيط ٧ / ٢٩١ وهما بالمعنى من الكشاف والبحر وباللفظ من الدر المصون.

(٤) المراجع السابقة.

(٥) أوردها أبو حيان في بحره وضعّفها قال : «فإذا جعلت بالحق هو المفعول كانت الباء زائدة في موضع لا تطرد فيه». البحر ٧ / ٢٩٢. وقد جوز زيادة الباء هنا شهاب الدين السمين في الدر المصون ٤ / ٤٥٥.

(٦) ما بين القوسين كله ساقط من «ب».

(٧) المرجع الأخير السابق.

(٨) قاله في اللسان ٣٥٦٠.

٨٥

قال المفسرون : معناه نأتي (١) بالحق بالوحي ننزله من السماء فنقذفه إلى الأنبياء (٢).

قوله : (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) العامة على رفعه وفيه أوجه :

أظهرها : أنه خبر (ثان) (٣) ل «إنّ» (٤) أو خبر لمبتدأ مضمر (٥) أو بدل من الضمير في «يقذف» (٦) أو نعت له على رأي الكسائي ؛ لأنه يجيز نعت الضمير الغائب. وقد صرح به هنا (٧) وقال الزمخشري : رفع على محل إنّ واسمها ، أو على المستكنّ في «يقذف» (٨) يعني بقوله محمول على محل إنّ واسمها يعني به النعت إلا أن ذلك ليس مذهب البصريين لأنهم لم يعتبروا المحل إلا في العطف بالحرف بشروط عند بعضهم. ويريد (٩) بالحمل (٩) على الضمير في نقذف أنه بدل منه لا أنه نعت له لأن ذلك انفرد به الكسائي (١٠) ، وقرأ زيد بن عليّ وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق بالنصب نعتا (١١) لاسم إنّ أو بدلا منه على قلة الابدال بالمشتق أو منصوب على (١٢) المدح. وقرىء الغيوب بالحركات الثلاث في الغين. فالضم والكسر تقدما في «بيوت» (١٣) وبابه. وأما الفتح

__________________

(١) قال بذلك أبو عبيدة في المجاز ٢ / ١٥٠ وابن قتيبة في الغريب ٣٥٨ ، وابن الجوزي في الزاد ٦ / ٤٦٦ والزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٢٥٨ وانظر : البحر المحيط ٧ / ٢٩٢ ومعالم التنزيل للبغوي ٥ / ٢٩٥ والخازن عليه وغير ذلك.

(٢) المراجع السابقة.

(٣) سقط من «ب».

(٤) بعد الأول وهو : «يقذف». قاله ابن الأنباري في البيان ٢ / ٢٨٣ والعكبري في التبيان ١٠٧١ والسمين في الدر ٤ / ٤٥٥.

(٥) قاله الكشاف ٣ / ٢٩٥ وابن الأنباري وأبو البقاء والسمين المراجع السابقة.

(٦) قاله مكّيّ في مشكل إعراب القرآن ٢ / ٢١٢ وانظر المراجع السابقة أيضا. كما ذكره أيضا الزجاج في إعراب القرآن ٤ / ٢٨٥ والنحاس أيضا في الإعراب ٣ / ٣٥٤ والقرطبي في الجامع ١٤ / ٣١٣.

(٧) نقله عنه أبو حيان في البحر ٧ / ٢٩٢.

(٨) ذكره في الكشاف ٣ / ٢٩٥.

(٩) في «ب» المحل لا الحمل وهو تحريف.

(٩) في «ب» المحل لا الحمل وهو تحريف.

(١٠) هذا رد أبي حيان والسمين في البحر ٧ / ٢٩٢ والدر ٤ / ٤٥٦ وقد اعترض أبو حيان لأن غالب أهل البصرة قد وضعوا للعطف على المحل شروطا منها وجود المحرز ، وهو الطالب للمحل وبعض البصريين والكوفيين لا يشترط المحرز ، ولأن إنّ لم تعمل عندهم في الخبر شيئا بل هو مرفوع بما كان مرفوعا به قبل دخولها.

(١١) في «ب» نعت بالرفع والقراءة شاذة وقد ذكرها ابن خالويه في المختصر ٢٢. وهي جائزة لغويا. وقد ذكرها النحاس ٣ / ٣٥٤ والفراء ٢ / ٣٦٤ والزجاج ٤ / ٢٥٧ وابن الأنباري في البيان ٢ / ٢٨٣.

(١٢) قاله العكبري في التّبيان ١٠٧١ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٩٥.

(١٣) من قوله تعالى : «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ» النور آية ٣٦ أو «إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ» الأحزاب آية ١٣.

وقد كسر الغين من «الغيوب» حمزة وأبو بكر وضمها الباقون فهي قراء متواترة وضم «بيوت» ورش وأبو عمرو وحفص وأبو جعفر ويعقوب. وانظر النشر ٢ / ٣٥١ وتقريبه ١٦٢ والكشف ٢ / ٢٠٨ ، والإتحاف ٣٦٠.

٨٦

صيغة مبالغة كالشّكور والصّبور وهو الشيء الغائب الخفيّ (١).

فصل

قال ابن الخطيب في يقذف بالحق وجهان :

أحدهما : نقذف بالحق في قلوب المحقين. وعلى هذا تعلّق (٢) الآية بما قبلها من حيث إن الله تعالى لما بين رسالة النبي ـ عليه (الصلاة (٣) و) السلام ـ بقوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ) وأكده بقوله: (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) وكان من عادة المشركين استبعاد تخصيص واحد من بينهم بإنزال(٤) الذكر عليه كما حكى (٥) عنهم قولهم (٦) : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) [ص : ٨] ذكر ما يصلح جوابا لهم فقال : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ) في القلوب (إشارة (٧) إلى أن الأمر بيده يفعل ما يريد ويعطي ما يشاء لمن يشاء ثم قال : (عَلَّامُ الْغُيُوبِ)) إشارة إلى جواب سؤال فاسد يذكر عليه وهو أن من فعل شيئا كما يريد من غير اختصاص محل (٨) الفعل بشيء لا يوجد في غيره لا يكون عالما وإنما ذلك فعل (٩) اتفاقا ، كما يصيب السهم موضعا دون غيره مع تسوية المواضع في المحاذاة ، فقال : «بالحقّ» كيف شاء (١٠) وهو عالم بما يفعله (دعاكم) (١١) بعواقب ما يفعله إذ هو علّام الغيوب فهو كما يريد لا كما يفعل الهاجم الغافل عن العواقب.

الوجه الثاني : أن المراد منه أنه يقذف بالحق على الباطل كقوله : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ) وعلى هذا تعلق الآية بما قبلها من (١٢) حيث إن براهين التوحيد لما ظهرت وشبهتهم داحضة (١٣) قال : (إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ) أي يبلي (١٤) باطلكم. وعلى هذا الوجه فقوله : (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) هو أنّ البرهان المعقول لم يقع إلا على التوحيد والرسالة وأما الحشر فلا برهان على وقوعه إلا إخبار (١٥) الله تعالى عنه وعن أحواله وأهواله ولو لا بيان الله بالقول لما بان لأحد بخلاف التوحيد والرسالة فلما قال : (يَقْذِفُ بِالْحَقِّ) أي على الباطل أشار به إلى ظهور البراهين على التوحيد والنبوة. ثم قال : (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي ما يخبره عن الغيب وهو قيام الساعة وأهوالها (١٦) فهو لا خلف فيه فإن الله علام الغيوب. وتحتمل الآية وجها (١٧) آخر وهو أن يقال : (رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ) أي ما

__________________

(١) ذكره القرطبي ١٤ / ٣١٣ والكشاف ٣ / ٢٩٥ والبحر ٧ / ٢٩٢ والدر ٤ / ٤٥٦ ولم ينص عليها قراءة.

(٢) فيه : «وعلى هذا للآية تعلق بما قبلها».

(٣) سقط من «أ».

(٤) فيه : الذكر. وهو الأصح.

(٥) فيه : كما قال تعالى عنهم.

(٦) في «ب» : قوله.

(٧) ما بين القوسين ساقط من «ب».

(٨) في «ب» : المحل وما في الفخر يوافق «أ».

(٩) في الفخر : وإنما فعل ذلك.

(١٠) في الفخر تشاء.

(١١) سقط من «ب» وتصحيحها وعالم.

(١٢) في الفخر : وذلك من حيث.

(١٣) وفيه : ودحضت شبهتهم.

(١٤) فيه : أي على باطلكم.

(١٥) فيه : غير إخبار.

(١٦) وفيه : وأحوالها.

(١٧) وفيه : تفسير بدل وجه.

٨٧

يقذفه يقذفه بالحق لا بالباطل. والباء (١) على الوجهين الأولين متعلق بالمفعول به والحق مقذوف على الوجهين الأولين وعلى هذا الباء في قوله : «بالحق» كالباء في قوله تعالى : (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) [ص : ٢٦] والمعنى على هذا الوجه هو أن الله تعالى قذف ما قذف في قلوب (٢) الرسل وهو علام الغيوب يعلم ما في قلوبهم وما في قلوبكم.

قوله : (قُلْ جاءَ الْحَقُّ) يعني القرآن. وقيل : التوحيد والحشر ، وكلّ ما ظهر على لسان النبي ـ عليه (الصلاة (٣) و) السلام. وقيل : المعجزات الدالة على نبوة محمد ـ عليه (الصلاة و) (٤) السلام ـ وقيل : المراد من جاء بالحق أي ظهر الحق لأن كلّ ما جاء فقد ظهر.

قوله : (وَما يُبْدِئُ) يجوز في «ما» أن تكون نفيا (٥) ، وأن تكون استفهاما (٦) ، ولكن يؤول معناها إلى النفس ، ولا مفعول «ليبدىء» ولا «ليعيد» ؛ إذ المراد لا يوقع هذين الفعلين (٧) كقوله :

٤١٤٢ ـ أقفر من أهله عبيد

أصبح لا يبدي ولا يعيد (٨)

وقيل : مفعوله محذوف أي ما يبدىء لأهله خبرا ولا يعيده ، وهو تقدير الحسن (٩). والمعنى : ذهب الباطل ووهن فلم يبق منه بقية يبدي شيئا أو يعيد. وهو كقوله : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ). وقال قتادة : الباطل هو إبليس أي ما يخلق إبليس أحدا ابتداء ولا يبعثه. وهو (قول) (١٠) مقاتل والكلبيّ ، وقيل : الباطل الأصنام (١١).

قوله : (إِنْ ضَلَلْتُ) العامة على فتح لامه في الماضي وكسرها في المضارع ولكن

__________________

(١) في «ب» : والباطل. وهو تحريف.

(٢) في «ب» : قلب وهو يوافق الفخر.

(٣ و ٤) سقطتا من «أ» كالعادة.

(٥) وهو اختيار الزجاج في إعرابه قال : «والأجود أن يكون «ما» نفيا على معنى : ما يبدىء الباطل وما يعيد». معاني القرآن وإعرابه له ٤ / ٢٥٨. وانظر كذلك الإعراب للنحاس ٣ / ٣٥٥.

(٦) ذكره ابن الأنباري في البيان ٢ / ٢٨٣ والزجاج في المعاني ٤ / ٢٥٨ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٩٥ والنحاس في الإعراب ٤ / ٣٥٥ وهي في موضع نصب. والتقدير : أي شيء يبدىء الباطل وأي شيء يعيد؟.

(٧) فيكون لازما.

(٨) رجز لعبيد بن الأبرص. والمعنى في الهلاك ويروى فاليوم بدل أصبح. والشاهد : «يبدىء ويعيد» ، فلا مفعول لهما بالإضافة إلى أن الباطل قد هلك فلا يبدىء ولا يعيد فجعل قولهم : لا يبدىء ولا يعيد مثلا في الهلاك. والبيت في الكشاف ٣ / ٢٩٥ وذيل الأمالي للقالي ٣ / ١٩٥ والبحر ٧ / ٢٩٢ وشرح شواهد الكشاف ٣٨٥ / ٤ وديوانه ٤٥ والدر المصون ٤ / ٤٥٦.

(٩) وهو معنى كلام الزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٩٥ قال : «وعن الحسن : لا يبدىء لأهله خيرا ولا يعيده» أي لا ينفعهم في الدنيا والآخرة. وانظر : البحر ٧ / ٢٩٢.

(١٠) سقط من «ب».

(١١) انظر هذه الأوجه مجتمعة في زاد المسير ٦ / ٤٦٦.

٨٨

بنقل الساكن قبلها. وابن وثاب بالعكس وهو لغة تميم (١). وتقدم ذلك (٢).

فصل

قال المفسرون : إن كفار مكة كانوا يقولون : إنك ضللت حتى تركت دين آبائك ، فقال الله تعالى : (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) أي إثم ضلالي على نفسي (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) من القرآن والحكمة (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ)(٣).

قوله : (فَبِما يُوحِي) يجوز أن تكون «ما» مصدرية أي بسبب إيحاء ربي لي ، وأن تكون موصولة أي بسبب الذي يوحيه فعائده محذوف (٤). وقوله «سميع» أي يسمع إذا ناديته واستعنت به عليكم قريب يأتيكم من غير تأخير ليس كمن يسمع من بعيد ولا يلحق الدّاعي (٥).

قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ)(٥٤)

قوله : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا) قال قتادة : عند البعث حتى يخرجوا من قبورهم (فَلا فَوْتَ) أي فلا تفوتوني (٦) كقوله : (وَلاتَ حِينَ). وقيل : إذ فزعوا عند الموت فلا نجاة (٧) ، و (لَوْ تَرى) جوابه محذوف ؛ أي (جوابه) (٨) ترى عجبا (٩).

قوله : (فَلا فَوْتَ) العامة على بنائه على الفتح و «أخذوا» فعلا ماضيا مبنيا للمفعول معطوفا على «فزعوا» (١٠).

__________________

(١) ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٢٢ وأبو حيان في البحر ٧ / ١٩٢ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٩٥ موضحا أنها لغتان ، وانظر : القرطبي ١٤ / ١٤.

(٢) من الآية ٥٦ من الأنعام و ١٠ من سورة السجدة آية الأنعام تقول : «قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ» وآية السجدة : «أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ».

(٣) قاله ابن الجوزي في زاد المسير ٦ / ٤٦٧.

(٤) فحوى كلام أبي حيان في البحر ٧ / ٢٩٢ وانظر : الدر المصون ٤ / ٤٥٧.

(٥) قاله الفخر الرازي في تفسيره ٢٥ / ٢٧١.

(٦) في «ب» فلا يفوتونني بالياء.

(٧) نقل هذين الوجهين البغوي في معالم التنزيل ٥ / ٢٩٥.

(٨) زيادة من «أ» لا معنى لها.

(٩) قاله ابن الأنباري في البيان ٢ / ٣.

(١٠) قاله في المرجع السابق وفي البحر ٧ / ٢٩٢ وفي الدر المصون ٤ / ٤٥٧ وفي الكشاف ٣ / ٢٩٦.

٨٩

وقيل : على معنى : (فَلا فَوْتَ) أي فلم يفوتوا وأخذوا (١) ، وقرأ عبد الرحمن مولى هاشم (٢) ، وطلحة فلا فوت وأخذ مرفوعين منونين (٣) ، وأبيّ يفتح «فوت» ، ورفع «أخذ» (٤) ، فرفع «فوت» على الابتداء أو على اسم لا الليسية (٥) ، ومن رفع «وأخذ» رفعه بالابتداء والخبر محذوف (٦) أي وأخذ هناك أو على خبر ابتداء مضمر أي وحالهم أخذ. ويكون من عطف الجمل مثبتة على منفية(٧).

قوله : (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) قال الكلبي : من تحت أقدامهم. وقيل : أخذوا من بطن الأرض إلى ظهرها. وحيث ما كانوا فهم من الله قريب لا يفوتونه. وقيل : من مكان قريب يعني عذاب الدنيا. قال الضحاك : هو يوم بدر. وقال ابن أبزى : خسف بالبيداء (٨). وجواب (لَوْ تَرى) محذوف أي لرأيت أمرا يعتبر (٩) به.

قوله : (وَقالُوا آمَنَّا بِهِ) أي عند اليأس. والضمير في «به» (١٠) لله (١١) أو للرسول (١٢) ، أو للقرآن (١٣) أو للعذاب أو للبعث (١٤) و (أَنَّى لَهُمُ) أي من أين لهم أي كيف يقدرون على الظّفر بالمطلوب وذلك لا يكون إلّا في الدنيا وهم في الآخرة والدنيا من الآخرة بعيدة (١٥).

فإن قيل : فكيف قال في كثير من المواضع : إنّ الآخرة من الدنيا قريبة وسمى الله الساعة قريبة فقال : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) [القمر : ١] (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) [الأنبياء : ١] (لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) [الشورى : ١٧].

__________________

(١) قاله الزمخشري في الكشاف المرجع السابق.

(٢) هو عبد الرحمن بن عبد الله المدني مولى بني هاشم ، روى الحروف عن نافع. انظر غاية النهاية في طبقات القراء ١ / ٣٧٢.

(٣) ذكرها ابن جني في المحتسب ٢ / ١٩٦ وابن خالويه في المختصر ١٢٢ وأبو حيان في البحر ٧ / ٢٩٣ ولم يعترف بها الزجاج. قال : «ويجوز فلا فوت ولا أعلم أحدا قرأ بها فإنها لم تثبت رواية فلا تقرأنّ بها فإن القراءة سنة» الزجاج ٤ / ٢٥٨.

(٤) نسب ابن خالويه هذه القراءة لطلحة بن مصرف السابق أعلى. انظر ١٢٢ ولم ينسبها الزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٩٦ وقد نسب القراءة لأبيّ أبو حيان في البحر ٧ / ٢٩٣.

(٥) أي التي تعمل عمل ليس. وانظر : الدر المصون ٤ / ٤٥٧.

(٦) قاله أبو الفتح عثمان بن جني في المحتسب ٢ / ١٩٦ وأبو حيان في البحر ٧ / ٢٩٣ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٩٦ والدر المصون ٤ / ٤٥٧.

(٧) البحر والدر المرجعان السابقان.

(٨) انظر هذه الآراء في البحر السابق وتفسير البغوي ٥ / ٢٩٥ و ٢٩٦.

(٩) في «ب» تعتبر به بالتّاء.

(١٠) انظر هذه الأقوال في القرطبي ١٤ / ٣١٥.

(١١) وهو قول مجاهد.

(١٢) وهو قول قتادة.

(١٣) قاله القرطبي ١٤ / ٣١٥.

(١٤) وهو قول الحسن رضي الله عنه.

(١٥) قاله الرازي ٢٥ / ٢٧١.

٩٠

فالجواب : أن الماضي كالأمس الدابر وهو أبعد ما يكون ؛ إذ لا وصول إليه والمستقبل وإن كان بينه وبين الحاضر سنين فإنه آت فيوم القيامة الدنيا بعيدة منه لمضيّها ويوم القيامة في الدنيا قريب لإتيانه(١).

قوله : «التّناوش» مبتدأ و «أنّى» خبره ، أي كيف لهم التناوش و «لهم» حال ، ويجوز أن يكون «لهم» رافعا للتناوش لاعتماده على الاستفهام تقديره كيف استقر لهم التناوش؟ وفيه بعد (٢) ، والتناوش مهموز في قراءة الأخوين وأبي عمرو ، وأبي (٣) بكر وبالواو في قراءة غيرهم ، فيحتمل أن يكونا مادتين مستقلتين مع اتّحاد معناهما (٤) ، وقيل : الهمزة عن الواو لانضمامها كوجوه وأجوه ، ووقّتت وأقّتت وإليه ذهب جماعة كثيرة كالزّجّاج (٥) والزّمخشري (٦) وابن عطية (٧) والحوفي (٨) وأبي البقاء (٩) ، قال الزجاج : كل واو مضمومة ضمة لازمة فأنت فيها بالخيار (١٠) ، وتابعه الباقون (١١) قريبا من عبارته. وردّ أبو حيان هذا الإطلاق وقيده بأنه لا بدّ أن تكون الواو غير مدغم فيها تحرزا من التعوذ وأن تكون غير مصححة في الفعل فإنها متى صحت في الفعل لم تبدل همزة نحو : ترهوك ترهوكا ، وتعاون تعاونا. وهذا القيد الآخر يبطل قولهم لأنها صحت في : «تناوش يتناوش» ، ومتى سلم له هذان القيدان أو الأخير منهما ثبت رده (١٢). والتّناوش الرجوع ، قال :

٤١٤٣ ـ تمنّى أن تئوب إليّ ميّ

وليس إلى تناوشها سبيل (١٣)

__________________

(١) الرازي المرجع السابق.

(٢) قاله شهاب الدين في الدر المصون ٤ / ٤٥٧.

(٣) من القراءات المتواترة. قاله مكي في الكشف ٢ / ٢٠٨ وابن الجزري في النشر ٢ / ٣٥١ وتقريبه ١٦٢ وابن خالويه في الحجة ٢٩٥ وانظر التبيان ١٠٧١ والبيان ٢ / ٢٨٤ ومعاني الفراء ٢ / ٣٦٥ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٢٥٩ وإعراب النحاس ٣ / ٣٥٦ ، ومشكل الإعراب لمكيّ ٢ / ٢١٣ وتفسير القرطبي ١٤ / ٣١٦ والكشاف ٣ / ٢٩٦.

(٤) البحر المحيط ٧ / ٢٩٤ والدر المصون ٤ / ٤٥٧.

(٥) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٢٥٩.

(٦) الكشاف ٣ / ٢٩٦.

(٧) البحر المحيط ٧ / ٢٩٤.

(٨) المرجع السابق.

(٩) التبيان ١٠٧١ وقال النحاس في الإعراب ٣ / ٣٥٦ : «والقراءة جائزة حسنة ولها وجهان في كلام العرب ولا يتناول بها هذا المتناول البعيد فأحد الوجهين أن يكون الأصل غير مهموز ثم همزت الواو لأن الحركة فيها خفية وذلك كثير في كلام العرب والوجه الآخر أن يكون مشتقا من النئيش ، وهو الحركة في إبطاء». إعراب النحاس ٤ / ٣٥٦.

(١٠) قال : «إن شئت أبدلت منها همزة وإن شئت لم تبدل نحو قولك أدور وتقاوم». انظر معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٢٥٩.

(١١) من هؤلاء أبو جعفر النحاس في كتابه «إعراب القرآن» المرجع السابق.

(١٢) هذا رد أبي من أبي حيان على الزجاج. والصحيح ما ذهب إليه أبو إسحاق الزجاج حيث إن السّماع يؤيده وكلا المعنيين قريبان من بعضهما.

(١٣) من الوافر وهو مجهول وشاهده : «تناوشها» ، فإنه بمعنى رجوعها. والبيت في البحر ٧ / ٢٩٤ والقرطبي ١٤ / ٣١٦ والدر المصون ٤ / ٤٥٨.

٩١

أي إلى رجوعها. وقيل : هو التناول يقال : ناش كذا أي تناوله ومنه تناوش القوم بالسّلاح (١) كقوله :

٤١٤٤ ـ ظلّت سيوف بني أبيه تنوشه

لله أرحام هناك تشقّق (٢)

وقال آخر :

٤١٤٥ ـ وهي تنوش الحوض نوشا من علا

نوشا به تقطع أجواز الفلا (٣)

وفرق بعضهم بين المهموز وغيره فجعل المهموز بمعنى التأخير. وقال الفراء : من نأشت أي تأخّرت(٤). وأنشد :

٤١٤٦ ـ تمنّى نئيشا أن يكون مطاعنا

وقد حدثت بعد الأمور أمور (٥)

وقال آخر :

٤١٤٧ ـ قعدت زمانا عن طلابك للعلا

وجئت نئيشا بعد ما فاتك الخير (٦)

وقال الفراء أيضا : هما متقاربان يعني الهمزة وتركها مثل ذمت الشيء وذأمته أي عبته (٧) وانتاش انتياشا كتناوش وقال :

٤١٤٨ ـ كانت تنوش العنق انتياشا (٨)

__________________

(١) قاله الفراء في المعاني ٢ / ٣٦٥ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٩٦.

(٢) من الكامل وينسب لقتيلة أخت النضر بن الحارث. وشاهده : «تنوشه» والمعنى : تأخذه وتتناوله فهذا شاهد آخر على أن التّناوش بمعنى التناول. وانظر : اللسان : «ن وش» ٤٥٧٦ ، والدر المصون ٤ / ٤٥٨ والبداية والنهاية للحافظ أبي الفداء ابن كثير ٣ / ٣٠٦.

(٣) البيت من الرجز لغيلان بن حريث والشاهد : «تنوش نوشا» بمعنى تناولا فهو شاهد على أن التناوش هو التناول كما سبق في البيتين السابقين. والبيت في وصف الإبل بأنها طويلة الأعناق وأنها تصبر على العطش. والبيت في الطبري ٢٢ / ٧٤ ومعاني الفراء ٢ / ٣٦٥ والبيان ٢ / ٣٨٤ والكتاب ٣ / ٤٥٣ وابن يعيش ٤ / ٥٧٣ وحجة القراءات لابن خالويه ١٩٥ ومجمع البيان ٧ / ٦٢١ ومجاز القرآن ٢ / ١٥٠ والقرطبي ١٤ / ٣١٦ واللسان : «ن وش» ٤٥٧٦.

(٤) المعاني ٢ / ٣٦٥ قال : «يجعلونه من الشيء البطيء من نأشت من النّئيش».

(٥) من الطويل وقد نسبه في اللسان إلى نهشل بن حري. وهو في الطبري ٢٢ / ٧٤ بلفظ «أطاعني» وهو في حكاية التحسر. وشاهده استعمال لفظ «نئيش» بمعنى التأخر. وانظر : القرطبي ١٤ / ٣١٦ ، ومعاني الفراء ٢ / ٣٦٥ والبيان ٢ / ٢٨٤ والدر المصون ٤ / ٤٥٩ والبيضاوي ٢ / ١٤٣ واللسان نأش ٤٣١٣.

ومجمع البيان للطبرسي ٧ / ٦٢١.

(٦) من الطّويل كسابقه وشاهده كسابقه أيضا حيث استعمل النّئيش بمعنى التأخر والبطء. وهو مجهول القائل. وانظر : فتح القدير للشوكاني ٤ / ٣٣٦ والبحر ٧ / ٢٥٦ ومادة «نوش» من اللسان ٤٥٧٥ والفراء ٢ / ٣٦٥ والدر المصون ٤ / ٤٥٩ والقرطبي ١٤ / ٣١٦ و ٣١٧.

(٧) قاله في معانيه ٢ / ٣٦٥.

(٨) هكذا هو في اللّسان : «ن وش» ٤٥٧٥ لابن منظور. وهو رجز مجهول قائله. وشاهده : أن معنى ـ

٩٢

وهذا مصدر على غير المصدر (١) ، و (مِنْ مَكانٍ) متعلق بالتّناوش.

فصل (٢)

المعنى كيف لهم تناول ما بعد عنهم وهو الإيمان والتوبة وقد كان قريبا في الدنيا فضيّعوه وهذا على قراءة من لم يهمز وأما من همز فقيل معناه هذا أيضا. وقيل : التناوش بالهمز من النّيش وهي حركة في إبطاء ، يقال : جاء نيشا أي مبطئا متأخرا والمعنى من أين لهم الحركة فيما لا حيلة لهم فيه (٣).

قال ابن عباس : يسألون الرد فيقال : وأنّى لهم الردّ إلى الدنيا (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي من الآخرة إلى الدنيا (٤).

قوله : (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ) جملة حالية. وقوله «به» أي بالقرآن. وقيل : بالله أو محمد ـ عليه (الصلاة و) (٥) السلام ـ.

وقيل : بالعذاب أو البعث. و «من قبل» أي من قبل نزول العذاب. وقيل : من قبل أن عاينوا أهوال القيامة (٦) ، ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة والأول أظهر.

قوله : (وَيَقْذِفُونَ) يجوز فيها الاستئناف والحال (٧) ، وفيه بعد. عكس الأول لدخول الواو على مضارع مثبت (٨). وقرأ أبو حيوة ومجاهد ومحبوب عن أبي عمرو : ويقذفون مبنيا للمفعول (٩) أي يرجمون بما يسوؤهم من جزاء أعمالهم من حيث لا يحتسبون.

__________________

ـ الانتياش والتناوش متقارب. ورواه في اللسان : باتت تنوش العنق انتياشا بلفظ «باتت» بدلا من : كانت وانظر : القرطبي ١٤ / ٣١٦ و ٣١٧ والدر ٤ / ٤٥٩.

(١) فإن مصدر الثلاثي معروف فما دام قال تنوش فكان من القياس أن يقول نوشا أو نيشا ولكنه قال انتياشا. قال في اللسان : ناشه بيده ينوشه نوشا : تناوله. اللسان : ن وش.

(٢) زيادة من «ب».

(٣) نقل كل ما سبق البغوي في معالم التنزيل ٥ / ٢٩٦.

(٤) المرجع السابق.

(٥) زيادة من «ب».

(٦) انظر هذه الأقوال في زاد المسير لابن الجوزي ٥ / ٤٧٠ والقرطبي ١٤ / ٣١٧ وقال بحالية تلك الجملة العلامة أبو حيان في بحره ٧ / ٩٤٢.

(٧) نقله أبو حيان في البحر ٧ / ٢٩٤ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٩٦ إلّا أن الزمخشري قال بالحال فقط بينما قال أبو حيان بالحال والاستئناف معا.

(٨) فشرط الجملة الحالية أن يكون فيها رابط والرابط هذا ضمير صاحبها أو الواو. ويتعين الضمير في المصدّرة بمضارع مثبت عار من «قد» أو منفي بلا أو ماض بعد إلا أو بعده. ولا تغني عن الضمير الواو ولا تجامعه غالبا فحتى نعتبر يقذفون حالية علينا أن نقدر ضمير مبتدأ والجملة تصبح حالية بعد أي وهم يقذفون. بتصرف من الهمع ٢ / ٢٤٦.

(٩) نقلها الزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٩٦ وأبو حيان في البحر ٧ / ٢٩٤.

٩٣

فصل

ويقذفون قال مجاهد : يرمون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالظنّ لا باليقين وهو قولهم : ساحر وشاعر وكاهن. ومعنى الغيب هو الظن لأنه غاب علمه عنهم والمكان البعيد بعدهم عن علم ما يقولون والمعنى يرمون محمدا بما لا يعلمون من حيث لا يعلمون.

وقال قتادة : «أي يرجمون بالظن يقولون لا بعث ولا جنة ولا نار» (١).

قوله : «وحيل» تقدم فيه الإشمام والكسر (٢) أول البقرة. والقائم مقام الفاعل ضمير المصدر أي وحيل هو أي الحول ولا تقدره مصدرا مؤكدا بل مختصا حتى يصح قيامه (٣) ، وجعل الحوفيّ القائم مقام الفاعل «بينهم» (٤). واعترض عليه بأنه كان (٥) ينبغي أن يرفع. وأجيب عنه بأنه إنما بني على الفتح لإضافته إلى غير (٦) متمكّن. ورده أبو حيان بأنه لا يبنى المضاف إلى غير متمكن مطلقا ، فلا يجوز : قام غلامك ولا مررت بغلامك بالفتح (٧). قال شهاب الدين : وقد تقدم في قوله : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) ما يغني عن إعادته (٨). ثم قال أبو حيان : وما يقول قائل ذلك في قول الشاعر :

٤١٤٩ ـ ..........

وقد حيل بين العير والنّزوان (٩)

فإنه نصب «بين» مضافة إلى معرب (١٠). وخرّج أيضا على ذلك قول الآخر :

٤١٥٠ ـ وقالت متى يبخل عليك ويعتلل

يسؤك (و) إن يكشف غرامك تدرب (١١)

__________________

(١) نقل هذه الأقوال القرطبي في الجامع ١٤ / ٣١٧ والبغوي في معالم التنزيل ٥ / ٢٩٦.

(٢) كشأن أي فعل مبني للمفعول وكان أجوف فإنه يجوز فيه ثلاثة أوجه : قلب الألف واو مثل صوم وعوم أو قلبها ياء مثل صيم وبيع وقيل ، أو الإشمام إشمام الضم مع الكسر بالنسبة للحرف الأول وهكذا هذا الفعل الذي معنا وهو «حيل» فيجوز فيه حول وحيل والإشمام. انظر : اللباب ١ / ٧٢.

(٣) قاله السمين في الدر ٤ / ٤٥٩.

(٤) البحر المحيط ٧ / ٢٩٤.

(٥) المعترض هو أبو حيان قال : «ولو كان على ما ذكر لكان مرفوعا ب «بينهم» كقراءة من قرأ : «لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ» في أحد المعنيين».

(٦) الدر المصون ٤ / ٤٥٩.

(٧) قاله في البحر ٧ / ٢٩٤ و ٢٩٥.

(٨) الدر المصون ٤ / ٤٥٩.

(٩) عجز بيت من الطويل لصخر بن عمرو صدره :

أهم بأمر الحزم لو أستطيعه

 ...

والعير الحمار ، والنزوان إتيانه لأنثاه. وشاهده : نصب «بين» مع إضافته إلى المعرب والفتح هنا في بين بناء ، فلو كان الإعراب لازما لإضافته إلى المعرب لرفع بين ولكنه لم يحصل. وانظر : البحر لأبي حيان ٧ / ٢٩٥ واللسان : «نزا» والأصمعيات ١٤٦.

(١٠) في النسختين «معرف» والأصح معرب ، كما أثبت.

(١١) من الطويل كسابقه وهو لامرىء القيس وقيل : لعلقة بن عبدة وهو غير صحيح ويعتلل : يتخذ علة لقطع وصاله. وتدرب : تتعود والمعنى إن يحل عليك بالوصال ضرك ذلك وإن هجرتك كان عادة لك ـ

٩٤

أي يعتلل هو أي الاعتلال (١).

قوله : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) يعني الإيمان والتوبة والرجوع إلى الدنيا. وقيل : نعيم الدنيا وزهرتها (٢) ، (كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ) بنظرائهم (٣) ومن كان (على) (٤) مثل حالهم من الكفار. (مِنْ قَبْلُ) لم يقبل منهم الإيمان في وقت اليأس (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ) من البعث ونزول العذاب بهم(٥) ، و (مِنْ قَبْلُ) متعلق «بفعل» أو «بأشياعهم» (٦) أي (الذين) (٧) شايعوهم قبل ذلك الحين(٨).

قوله : «مريب» قد تقدم أنه اسم فاعل من أراب (٩) أي أتى بالريب أو دخل فيه وأربته أوقعته في الرّيب. ونسبة الإرابة إلى الشك مجازا (١٠).

وقال الزمخشري هنا إلا أن ههنا فريقا (١١) وهو أن المريب من المتعدي منقول (١٢) من صاحب الشك إلى الشك كما تقول شعر شاعر (١٣) ... وهي عبارة حسنة مفيدة وأين هذا من قول بعضهم ويجوز أن يكون أردفه على الشك ليناسق آخر الآية بالتي قبلها من مكان قريب. وقول ابن عطية الشك المريب : أقوى ما يكون من الشك وأشدّه (١٤) ،

__________________

ـ ودربة ، والشاهد : «ويعتلل» أي يعتلل هو أي الاعتلال المعهود فإن نائب الفاعل هنا ضمير المصدر الجائي من الفعل «يعتلل» وهذا المصدر الذي لا محالة أنه مختص حتى يصحّ قيامه ، وانظر : البحر المحيط ٧ / ٢٩٥ والتصريح ٢ / ٢٨٩ ، والأشموني ٢ / ٦٥ وأيضا ديوان امرىء القيس ٢٢ وتمهيد القواعد ٢ / ٤٨٢ ، والدر المصون ٤ / ٤٦٠.

(١) انظر ما سبق.

(٢) قاله البغوي في معالم التنزيل ٥ / ٢٩٦ وكذلك الخازن ٥ / ٢٩٦ وابن قتيبة في الغريب ٣٥٩ وتأويل المشكل ٣٥٦ والقرطبي ١٤ / ٣١٨.

(٣) قال الزجاج : «بمن كان مذهبه مذهبهم» انظر : معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٢٥٩ وزاد المسير لابن الجوزي ٦ / ٤٧١.

(٤) سقط من «ب».

(٥) قاله البغوي في معالم التنزيل ٥ / ٢٩٦.

(٦) الدر المصون ٤ / ٤٦٠ والبحر المحيط ٧ / ٢٩٥.

(٧) سقط من «ب».

(٨) معالم التنزيل ٥ / ٢٩٧.

(٩) البحر والدر المرجعان السابقان. وانظر : اللسان : «ر ي ب» ١٧٨٨ و ١٧٨٩ قال : «قال الأصمعيّ : أخبرني عيسى بن عمر أنه سمع هذيلا تقول : أرابني أمره ، وأراب الأمر : صار ذا ريب وفي التنزيل العزيز : (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) ، أي ذي ريب».

(١٠) في «ب» والبحر مجاز بالرفع.

(١١) كذا في الكشاف وفي «ب» فرقا بالتكبير لا التصغير.

(١٢) انظر : الكشاف ٣ / ٢٩٧ ، والبحر المحيط ٧ / ٢٩٥.

(١٣ و ١٤) المرجع السابق.

٩٥

وتقدم تحقيق الريب أول البقرة (١) ، وتشينع الراغب على من يفسره بالشكّ (٢) ، والله أعلم.

روى أبو أمامة عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «من قرأ سورة سبأ لم يبق نبيّ ولا رسول إلّا كان له رفيقا ومصافحا (٣).

(صدق نبي الله وحبيب الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ) (٤).

__________________

(١) عند قوله : «ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ» وهي الآية (٢) منها ، وانظر : اللباب ١ / ٢٨ ب.

(٢) قال : «سماه ريبا لا أنه مشكك في كونه بل من حيث تشكك في وقت حصوله فالإنسان أبدا في ريب المنون من جهة وقته لا من جهة كونه».

(٣) روي في الكشاف ٣ / ٢٩٧ ومجمع البيان ٨ / ٥٨٨ والبيضاوي ٢ / ١٤٣ ، والسّراج المنير ٣ / ٣١٠.

(٤) زيادة من «ب».

٩٦

سورة الملائكة

(عليهم‌السلام) (١)

مكية (٢) وهي ست وأربعون آية وسبع مائة وسبع وتسعون كلمة وثلاثة آلاف ومائة وثلاثون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ)(٥)

قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قد تقدم أن الحمد يكون على النعمة في أكثر الأمر. ونعم الله على قسمين عاجلة وآجلة والعاجلة وجود وبقاء والآجلة كذلك إيجاد مرة وإبقاء(٣).

قوله : «فاطر» إن جعلت إضافة محضة كان نعتا «لله» وإن جعلتها غير محضة كان بدلا. وهو قليل ، من حيث إنه مشتق (٤) ، وهذه قراءة العامة. والزّهريّ والضحاك : «فطر» فعلا ماضيا (٥) وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها صلة لموصول محذوف أي الّذي فطر. كذا قدره أبو (حيان) (٦) وأبو

__________________

(١) زيادة من «أ».

(٢) نقل القرطبي وابن الجوزي أنها مكية بالإجماع ، انظر : القرطبي ١٤ / ٣١٨ وزاد المسير ٦ / ٤٧٢.

(٣) انظر : الفخر الرازي ٢٦ / ٢.

(٤) قال بذلك التجويزين أبو البقاء في التبيان ١٠٧٢ وابن الأنباري في البيان ٢ / ٢٨٥ والسمين في الدر ٤ / ٤٦٩.

(٥) البحر المحيط ٧ / ٢٩٧ والمحتسب ٢ / ١٨٩ ومختصر ابن خالويه ١٢٣ والكشاف ٣ / ٢٩٧.

(٦) نقله في البحر المحيط ٧ / ٢٩٧ وانظر : الدر المصون ٤ / ٤٦٩ وما بين القوسين ساقط من «ب» وزيادة من «أ» وأبو الفضل هو أبو الفضل الرازي وسبق التعريف به.

٩٧

الفضل ، ولا يليق بمذهب البصريين لأن حذف الموصول الاسمي لا يجوز (١) ، وقد تقدم هذا الخلاف مستوفى في البقرة.

الثاني : أنه حال على إضمار «قد». قاله أبو الفضل أيضا (٢).

الثالث : أنه خبر مبتدأ مضمر أي هو فطر (٣). وقد حكى الزمخشري قراءة تؤيد ما ذهب إليه الرّازي فقال : «وقرىء الذي فطر وجعل» ، فصرح بالموصول (٤).

فصل

معنى فاطر السموات والأرض أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق. قاله ابن عباس (٥). وقيل : فاطر السموات والأرض أي شاقّهما لنزول الأرواح (٦) من السماء وخروج الأجساد من الأرض. ويدل عليه قوله تعالى : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) ، فإن في ذلك اليوم تكون الملائكة رسلا (٧).

قوله : «جاعل» العامة أيضا على جره نعتا أو بدلا ، والحسن بالرفع والإضافة (٨). وروي عن أبي عمرو كذلك إلا أنّه لم ينون (٩) ونصب الملائكة ، وذلك على حذف التنوين لالتقاء الساكنين كقوله:

٤١٥١ ـ ..........

ولا ذاكر الله إلّا قليلا (١٠)

__________________

(١) هذا اعتراض أبي حيان على أبي الفضل فقد قال في البحر ٧ / ٢٩٧ : قال أبو الفضل الرازي : فإما على إضمار الذي فيكون نعتا لله عزوجل وإما بتقدير «قد» فيما قبل فيكون بمعنى الحال انتهى. قال : وحذف الموصول الاسمي لا يجوز عند البصريين وأما الحال فيكون حالا محكية والأحسن عندي أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو فطر.

(٢) البحر المحيط ٧ / ٢٩٧ ، والدر المصون ٤ / ٤٦٧.

(٣) المرجعان السابقان.

(٤) نقله في كشافه ٣ / ٢٩٧.

(٥) قاله أبو الفرج ابن الجوزي في زاد المسير ٦ / ٤٧٢.

(٦) كذا هي في «أ» هنا والفخر الرازي وما في ب الملائكة.

(٧) قاله الرازي في تفسيره ٢٦ / ٢.

(٨) قالها الزمخشري بدون نسبة الكشاف ٣ / ٢٩٧ وقد نسبها القرطبي له في ١٤ / ٣١٩ وانظر : المحتسب ٢ / ١٩٨ وابن خالويه المختصر ١٢٣.

(٩) لم ترو عنه متواترة بل أشار إليها ابن خالويه في المختصر ١٢٣ وانظر : البحر المحيط ٧ / ٢٩٧.

(١٠) هذا عجز بيت من المتقارب لأبي الأسود الدؤلي صدره :

فألفيته غير مستعتب

 ..........

والشاهد : «ولا ذاكر الله» حيث حذف التنوين من «ذاكر» لالتقاء الساكنين ونصب الجلالة على المفعول وإن كان الوجه الإضافة ومعنى مستعتب راجع بالعتاب عن قبيح ما يفعل وانظر : الكتاب ١ / ١٦٩ ، والمقتضب ١ / ١٩ و ٢ / ٣١٣ والخصائص ١ / ٣١١ والبيضاوي ٢ / ١٥٦ وفتح القدير ٤ / ٣٩٢ والمغني ٥٥٥ وشرح شواهده للسيوطي ٩٣٣ والمنصف ٢ / ٢٣١ والإنصاف ٦٥٩ وابن يعيش ٨ / ٣٤ والهمع ٢ / ١١٩.

٩٨

وابن يعمر وخليد بن نشيط (١) «جعل» فعلا ماضيا بعد قراءة فاطر بالجر (٢) وهذه كقراءة : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ) [الأنعام : ٩٦]. والحسن وحميد (٣) رسلا بسكون السين (٤) وهي لغة تميم. وجاعل يجوز أن يكون بمعنى مصير أو بمعنى خالق فعلى الأولى يجري الخلاف هل (٥) نصب الثاني باسم الفاعل أو بإضمار فعل هذا إن اعتقد أن جاعلا غير ماض أما إذا كان ماضيا تعين أن ينتصب بإضمار فعل (٦).

وتقدم تحقيق ذلك في الأنعام (٧) وعلى الثاني ينتصب على الحال (٨) ، و (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) صفة لأجنحة و «أولي» صفة لرسلا (٩).

وتقدم تحقيق الكلام في مثنى وأختيها في سورة النساء (١٠). قال أبو حيان وقيل : أولي أجنحة معترض و «مثنى» حال والعامل فعل محذوف يدل عليه رسلا أي يرسلون مثنى وثلاث ورباع (١١). وهذا لا يسمى اعتراضا لوجهين :

أحدهما : أن «أولي» صفة لرسلا والصفة لا يقال فيها معترضة.

والثاني : أنها ليست حالا من «رسلا» (بل) (١٢) من محذوف فكيف يكون ما قبله معترضا؟ ولو جعله حالا من الضمير في «رسلا» لأنه مشتق لسهل ذلك بعض شيء

__________________

(١) هو كما هو في ابن جني والبحر «خليد» وفي «ب» خليل وهو تحريف ولم أقف عليه.

(٢) المختصر ١٢٣ ، والمحتسب ٢ / ١٩٨ والبحر ٧ / ٢٩٧.

(٣) هو حميد بن قيس الأعرج أبو صفوان المكي ثقة أخذ عن مجاهد بن جبر وعنه سفيان بن عيينة مات سنة ١٣٠ ه‍ ، انظر : غاية النهاية ١ / ٢٦٥.

(٤) لم أجدها في المتواتر نقلها أبو حيان في بحره ٧ / ٢٩٧.

(٥) في «ب» «على» بدل «هل».

(٦) لأنه إذا كان بمعنى الماضي فإن لا يشبه الماضي فإن «ضاربا» ليس على عدد «ضرب» ولا مثله في حركاته وسكناته فكذلك لا تقول : زيد ضارب عمرا أمس ولا وحشي قاتل حمزة يوم أحد. بتصرف شرح المفصل ٦ / ٧٦.

(٧) عند قوله تعالى : «فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً» وبين هناك أن أكثر النحويين يجعلون فالق وجاعل بمعنى الماضي لأن الفلق والجعل قد كانا فعلى هذا يكون نصب «سكنا» على إضمار فعل وهناك من نصبه بالفعل المذكور ، انظر : اللباب ٣ / ٩٥ ب الأنعام. وانظر : شرح المفصل لابن يعيش ٦ / ٧٨.

(٨) يقصد : «رسلا» وقد قال بهذا الإعراب أبو البقاء في التبيان ١٠٧٢.

(٩) المرجع السابق.

(١٠) عند قوله : «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ» وهي الآية ٣ منها وأوضح أن هذه أعداد معدولة في حال التنكير فتعرفت بالعدل ومنعت من الصرف للعدل والتعريف ومن قائل : إنها للعدل والصفة والفائدة في عدلها الدلالة على التكرير فمعنى مثنى : اثنان اثنان وثلاث : ثلاثة ثلاثة.

وهكذا.

(١١) قاله في البحر ٧ / ٢٩٩.

(١٢) سقط من «أ».

٩٩

ويكون الاعتراض بالصفة مجازا من حيث إنه فاصل في الصورة (١).

قوله : «يزيد» مستأنف (٢). و «ما يشاء» هو المفعول الثاني للزّيادة. والأول لم يقصد فهو محذوف اقتصارا لأن قوله في الخلق يغني عنه (٣).

فصل

قال قتادة ومقاتل : أولي أجنحة بعضهم له جناحان وبعضهم له ثلاثة أجنحة ، وبعضهم له أجنحة يزيد فيها ما يشاء وهو قوله : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ)(٤) قال (عبد الله) (٥) بن مسعود في قوله عزوجل : (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) [النجم : ١٨]. قال : رأى جبريل في صورته له ستّمائة جناح. «قال ابن شهاب في قوله : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) قال : حسن الصوت (٦). وعن قتادة : هو الملاحة في العينين (٧). وقيل : هو العقل والتمييز (٨)(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

قوله : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها) لما بين كمال القدرة ذكر بيان نفوذ المشيئة ونفاذ الأمر وقال : (ما يَفْتَحِ اللهُ) يعني (٩) إن رحم الله فلا مانع له وإن لم يرحم فلا باعث له عليها. وفي الآية دليل على سبق الرحمة الغضب (١٠) من وجوه :

أحدها : التقديم حيث قدم بيان فتح أبواب الرحمة في الذكر.

وثانيها : أنه أنّث الكناية فقال : (فَلا مُمْسِكَ لَها). ويجوز من حيث العربية أن يقال : «له» عودا إلى «ما» ولكن قال الله تعالى ذلك ليعلم أن المفتوح أبواب الرحمة فهي واصلة إلى من رحمته وقال عند الإمساك : (وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ) بالتذكير ولم يقل «لها» فلم يصرح بأنه لا مرسل للرحمة بل ذكره بلفظ يحتمل أن يكون الذي يرسل هو غير الرحمة ، فإن قوله (تعالى) (١١) : (وَما يُمْسِكْ) عامّ من غير بيان وتخصيص.

وثالثها : قوله من بعده أي من بعد الله فاستثنى ههنا وقال : «لامرسل له إلا الله» وعند الإمساك قال : (فَلا مُمْسِكَ لَها) ولم يقل غير الله لأن الرحمة إذا جاءت لا ترتفع فإن من رحمه‌الله في الآخرة لا يعذبه بعدها هو ولا غيره ومن يعذبه الله قد يرحمه‌الله بعد العذاب كالفساق من أهل الإيمان (١٢).

__________________

(١) الدر المصون ٤ / ٤٦٢ و ٤٦٣.

(٢) التبيان ١٠٧٢.

(٣) الدر المصون ٤ / ٤٦٣.

(٤) نقله القرطبي في الجامع ١٤ / ٣١٩ وابن الجوزي في الزاد ٦ / ٤٧٣ ، والبغوي في معالم التنزيل ٥ / ٢٩٦.

(٥) زيادة من «أ» وسقط من «ب».

(٦) وهو رأي ابن جريج أيضا زاد المسير ٦ / ٤٧٣.

(٧) السابق.

(٨) تفسير البغوي ٥ / ٢٩٧.

(٩) في «ب» بمعنى.

(١٠) في «ب» سبق رحمته غضبه.

(١١) زيادة من «أ».

(١٢) وانظر في هذا كله تفسير الفخر الرازي ٢٦ / ٣ و ٤.

١٠٠