اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٧٤

الرابع : قال أبو حيان : و «أو» هنا على موضوعها لكونها لأحد الشيئين وخبر «إنّا أو إيّاكم» هو (لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ولا يحتاج إلى تقدير حذف إذ المعنى إن أحدنا لفي أحد هذين لقولك : «زيد أو عمرو في القصر أو في المسجد» لا يحتاج إلى تقدير حذف إذ معناه أحد هذين في أحد هذين (١).

وقيل : الخبر محذوف ثم ذكر ما تقدم إلى آخره (٢) ، وهذا الذي ذكره تفسير معنى لا تفسير إعراب. (والناس) (٣) نظروا إلى تفسير الإعراب فاحتاجوا إلى ما ذكرناه (٤). وذكروا في الهدى كلمة «على» وفي الضلال كلمة «في» لأن المهتدي كأنه مرتفع مطّلع فذكره بكلمة «التعالي» والضال منغمس في الظلمة غريق فيها فذكره بكلمة «في» (٥).

قوله : (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا) أضاف الإجرام إلى النفس وقال في حقهم : (وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ذكر بلفظ العمل لئلا يحصل الإغضاب (٦) المانع من الفهم.

قوله : (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا) يوم القيامة (ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) وهاتان صفتا مبالغة وقرأ عيسى بن عمر «الفاتح» اسم (٧) فاعل.

قوله : (أَرُونِيَ) فيها وجهان :

أحدهما : أنها علمية متعدية قبل النقل إلى اثنين فلما جيء بهمزة النقل تعدت لثلاثة أولها «ياء» المتكلم ثانيها «الموصول» ، ثالثها : «شركاء» وعائد الموصول محذوف أي ألحقتموهم.

والثاني : أنها بصرية متعدية قبل النقل لواحد وبعده لاثنين أولهما : ياء المتكلم وثانيهما : الموصول و «شركاء» نصب على الحال من عائد الموصول أي بصّروني الملحقين به حال كونهم شركاء (٨). قال ابن عطية في هذا الثاني «ولا غناء» (٩) له أي لا منفعة فيه يعني أن معناه ضعيف (١٠). قال أبو حيان: وقوله : «لا غناء له» ليس بجيد بل

__________________

(١ و ٢) نقلهما في بحره ٧ / ٢٨٠.

(٣) تصحيح من «ب» فما في «أ» والثاني وهو خطأ وتحريف.

(٤) قال بذلك السمين في رده على أبي حيان ٤ / ٤٤٠.

(٥) هذا كلام الفخر الرازي في التفسير الكبير ٢٥ / ٢٥٧ ، وفيه «التّعلّي» لا التّعالي.

(٦) الفخر الرازي المرجع السابق.

(٧) قراءة شاذة رواية وإن كانت جائزة قياسا ولغة وقد ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٢٢.

(٨) هذا قول أبي حيان في البحر ٧ / ٢٨٠ والشهاب السمين في الدر ٤ / ٤٤٠ ومعنى كلام القرطبي في الجامع ١٤ / ٣٠٠ قال : «يكون أروني هنا من رؤية القلب فيكون «شركاء» المفعول الثالث أي عرّفوني الأصنام التي جعلتموها شركاء لله عزوجل وهل شاركت في خلق شيء فبيّنوا ما هو؟ وإلّا فلم تعبدونها؟ ويجوز أن تكون من رؤية البصر فيكون «شركاء» حالا».

(٩) في «ب» ولا غنى قصر وكلتاهما صحيحتان.

(١٠) بحر أبي حيان المرجع السابق.

٦١

في ذلك تبكيت لهم وتوبيخ ولا يريد حقيقة التنزيل (١) بل المعنى الذين هم شركاء لله على زعمكم هم ممن إن أريتموهم افتضحتم لأنه خشب وحجر وغير ذلك (٢).

فصل

الضمير في «به» أي بالله أي أروني الذين ألحقتم بالله شركاء في العبادة معه هل يخلقون وهل يرزقون؟ كلّا لا يخلقون ولا يرزقون (٣).

قوله : (بَلْ هُوَ اللهُ) في هذا الضمير قولان :

أحدهما : أنه ضمير عائد على الله تعالى أي ذلك الذي ألحقتم به شركاء هو الله ، و (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) صفتان.

والثاني : أنه ضمير الأمر والشأن و «الله» مبتدأ ، و (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) خبران ، والجملة .. خبر (٤) «هو» والعزيز هو الغالب على أمره ، (و) الحكيم في تدبيره لخلقه فأنى يكون له شريك في ملكه؟

قوله : «كافّة» فيه أوجه :

أحدها : أنه حال من كاف (٥) «أرسلناك» والمعنى إلا جامعا للناس في الإبلاغ. والكافة بمعنى الجامع والهادي لله (٦) للمبالغة كهي في «علّامة» و «راوية» (٧) قال الزجاج : وهذا بناء منه على أنه اسم فاعل من كفّ يكفّ (٨) ، قال أبو حيان : أما قول الزجاج إنّ كافة بمعنى جامعا ، والهاء فيه للمبالغة فإن اللغة لا تساعده على ذلك لأن كف ليس معناه محفوظا بمعنى «جمع». يعني أنّ المحفوظ معناه «منع» يقال : كفّ يكفّ أي منع والمعنى إلا مانعا لهم من الكفر وأن يشذّوا من تبليغك ، ومنه الكف لأنها تمنع ما فيه (٩).

__________________

(١) في البحر «الأمر» لا التنزيل.

(٢) البحر المرجع السابق.

(٣) القرطبي ١٤ / ٣٠٠.

(٤) هذا معنى عبارة الزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٩٠ قال : «كأنه قال أين الذين ألحقتم به شركاء من هذه الصفات وهو راجع إلى الله وحده أو ضمير الشأن».

(٥) قاله في المشكل ٢ / ٢٠٩ والبيان ٢ / ٢٨٠ والمعاني للفراء ٢ / ٣٦٢ والتبيان ١٠٦٩.

(٦) القرطبي ١٤ / ٣٠٠ والبيان ٢ / ٢٨٠ والتبيان ١٠٦٩.

(٧) المراجع السابقة.

(٨) هذا معنى كلامه في أعراب القرآن له قال : «معنى كافة الإحاطة في اللغة والمعنى أرسلناك للناس جامعا في الإنذار والإبلاغ».

(٩) تكاد التفاسير تجمع على أن كافة بمعنى تمامه فقد قال بذلك ابن قتيبة في الغريب ٣٥٧ ، والزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٩٠ ، وأبو عبيدة في مجاز القرآن ٢ / ١٤٩ والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن ١٤ / ٣٠٠ وزاد المسير لابن الجوزي ٦ / ٥٤٦ والخازن والبغوي ٥ / ٢٩١ و ٢٩٢ والفخر الرازي في تفسيره ٢٥ / ٢٥٨.

٦٢

الثاني : أن كافّة مصدر جاءت على الفاعلة كالعاقبة والعافية وعلى هذا فوقوعها حالا إما على المبالغة وإما على حذف مضاف أي ذا كافّة للنّاس (١).

الثالث : أن كافة صفة لمصدر محذوف تقديره : إلا إرسالة كافّة قال الزمخشري : إلّا إرسالة عامّة لهم محيط بهم لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم (٢). قال أبو حيان : أما كافة بمعنى عامة فالمنقول عن النحويين أنها لا تكون إلا حالا ولم يتصرف فيها بغير ذلك فجعلها صفة لمصدر محذوف خروج عما نقلوا ، ولا يحفظ أيضا استعمالها صفة لموصوف محذوف (٣).

الرابع : أن «كافة» حال من «للنّاس» أي للناس كافة إلا أنّ هذا قدره الزمخشري فقال : «ومن جعله حالا من المجرور متقدما عليه فقد أخطأ لأن تقدم حال المجرور عليه في الإحالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار وكم ترى من يرتكب مثل هذا الخطأ ثم لا يقنع به حتى يضمّ إليه أن يجعل اللام بمعنى «إلى» ؛ لأنه لا يستوي له الخطأ الأول إلا بالخطأ الثاني فيرتكب (٤) الخطأين معا» (٥). قال أبو حيان : أما قوله كذا (٦) فهو مختلف فيه ذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز ، وذهب أبو علي (٧) وابن كيسان (٨) وابن برهان (٩) وابن ملكون (١٠) إلى جوازه قال : وهو الصحيح (١١) قال : ومن أمثله أبي علي : «زيد خيرا ما يكون خير منك» التقدير : زيد خير منك خيرا ما يكون فجعل «خيرا ما يكون» حالا من الكاف في «منك» وقدمها عليها وأنشد :

٤١٣٤ ـ إذا المرء أعيته المروءة ناشئا

فمطلبها كهلا عليه شديد (١٢)

__________________

(١) البحر المحيط ٧ / ٢٨١.

(٢) قاله في الكشاف ٣ / ٢٩٠.

(٣) قال ذلك في البحر المحيط ٧ / ٢٨١.

(٤) في الكشاف : «فلا بدّ له من ارتكاب الخطأين».

(٥) انظر : الكشاف ٣ / ٢٩٠.

(٦) قاله في البحر المحيط ٧ / ٢٨١.

(٧) هو الفارسي.

(٨) هو أبو الحسن محمد بن أحمد بن إبراهيم بن كيسان كان يحفظ أقوال البصريين والكوفيين فقد أخذ عن ثعلب والمبرّد له مصنفات في النحو منها المهذّب ، والمختار في علل النحو ، مات سنة ٢٩٩ ه‍ انظر : إنباه الرواة ٣ / ٥٧ ـ ٥٩ ونزهة الألباء ١٦١.

(٩) أبو القاسم عبد الواحد بن علي العكبري نظر في النحو واشتهر فيه وله آراء منثورة في كتب النحو مات سنة ٤٥٦ ه‍ انظر : المرجع السابق إنباه الرواة ٢ / ١١٣ ـ ٢١٥ وانظر : بغية الوعاة للسيوطي ٢ / ١٢٠.

(١٠) ترجم له سابقا.

(١١) قال السيوطي في الهمع : «فقد قال بالجواز مطلقا الفارسيّ وابن كيسان وابن برهان وصححه ابن مالك». الهمع ١ / ٢٤١ ..

(١٢) من الطويل وهو للمخبّل السعدي. وشاهده : «كهلا عليه» حيث قدم الحال على صاحبها المجرور بحرف وهناك حال آخر وهو «ناشئا» ولا شاهد فيه ، انظر : الأشموني ٢ / ١٧٨ والدر المصون ٤ / ٤٤٢ والبحر المحيط ٧ / ٢٨١ وشرح رضي الدين على كافية ابن الحاجب ١ / ٢٠٧ وفتح القدير برواية «السّيادة» بدل «المروءة» ٤ / ٣٢٧ ومجمع البيان ٧ / ٧٩١ وعيون الأخبار لابن قتيبة ١ / ٢٤٧ ، وشرح ديوان الحماسة ١١٤٨.

٦٣

أي فمطلبها عليه كهلا ، وأنشد أيضا :

٤١٣٥ ـ تسلّيت طرا عنكم بعد بينكم

بذكراكم حتّى كأنّكم عندي (١)

أي عنكم طرّا ، وقد جاء تقديم الحال على صاحبها المجرور على ما يتعلق به قال الشاعر :

٤١٣٦ ـ مشغوفة بك قد شغفت وإنّما

حمّ الفراق فما إليك سبيل (٢)

أي قد شغفت بك مشغوفة وقال الآخر :

٤١٣٧ ـ غافلا تعرض المنيّة للمرء

فيدعى ولات حين إباء (٣)

أي تعرض المنية للمرء غافلا قال : وإذا جاز تقديمها (٤) على صاحبها وعلى العامل فيه فتقديمها على صاحبها وحده أجوز (٥) قال : وممن حمله (٦) على الحال ابن عطية فإنه قال : قدمت للاهتمام والمنقول عن ابن عباس قوله إلى العرب وللعجم ولسائر الأمم وتقديره إلى الناس كافّة (٧). وقول الزمخشري : لا يستوي له الخطأ الأول إلى آخره شنيع لأن القائل بذلك لا يحتاج إلى جعل اللام بمعنى «إلى» لأن «أرسل» يتعدى باللام قال تعالى : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) [النساء : ٧٩] وأرسل مما يتعدى باللام وبإلى وأيضا فقد جاءت اللام بمعنى «إلى» و «إلى» بمعناها (٨).

قال شهاب الدين : أما أرسلناك للناس فلا دلالة فيه لاحتمال أن تكون اللام لام المجازيّة وأما كونها بمعنى «إلى» والعكس فالبصريون (٩) لا يتجوّزون (١٠) في الحروف ، و «بشيرا» و «نذيرا» حالان أيضا.

__________________

(١) من الطويل كسابقه ولكنه في تلك المرة مجهول وشاهده كسابقه أيضا حيث تقدم الحال على صاحبه المجرور بالحرف «طرّا عنكم» ومعنى «طرا» : جميعا والبين الفراق. انظر : الأشموني على ابن مالك ٢ / ١٧٧ ، والدر ٤ / ٤٤٢ ، والبحر ٧ / ٢٨١ والتصريح ١ / ٣٧٩ وشرح ابن الناظم ١٢٩ وفتح القدير للشوكاني ٤ / ٣٢٧.

(٢) من تمام الكامل مجهول القائل وشغفه الحب شغافة وهو غلاف القلب ويجوز «شعفه» بالعين من شعفه أي أحرقه وقيل : أمرضه وحمّ : قدّر. والفاء للتعليل و «ما» نفي. والشاهد : مشغوفة بك حيث وقع حالا مقدما من المجرور وهو الكاف مجرور محلا ، وقدم الحال على «بك» وما تعلق به الجار وهو «شغفت» ، وانظر : الأشموني ٢ / ١٧٧ وشرح ابن الناظم ١٢٩ والبحر المحيط ٧ / ٢٧١ والدر المصون ٤ / ٤٤٢.

(٣) من الخفيف مجهول القائل وشاهده كما قبله «غافلا تعرض المنية للمرء» ـ حيث قدم الحال على صاحبه المجرور «للمرء» وما تعلق به الجار وهو «تعرض» و «لات» بمعنى ليس واسمها محذوف والخبر هو «حين إباء» أي وليس الحين حين إباء «أي امتناع» وقد تقدم.

(٤) البحر المرجع السابق.

(٥) كذا هي في البحر وما في «ب» أجود.

(٦ و ٧) المرجع السابق.

(٨) البحر المحيط مع تصرف ببعض كلماته.

(٩) كذا هي في الدر المصون ٤ / ٤٤٣.

(١٠) في (ب) لا يجوزون. وقد قال أبو البقاء في التبيان : «وذاك أن اللام على هذا تكون بمعنى إلى إذ المعنى أرسلناك إلى الناس ، ويجوز أن يكون التقدير : من أجل الناس» التبيان ١٠٦٩.

٦٤

فصل

لما بيّن مسألة التوحيد شرع في الرسالة فقال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً) أي الرسالة كافة أي تكف الناس أنت من الكفر وتمنعهم عن الخروج عن الانقياد لها أو تكف الناس أنت عن الكفر والهاء للمبالغة على ما تقدم. و «للنّاس» أي عامة أحمرهم وأسودهم (بَشِيراً وَنَذِيراً) أي مبشرا ومنذرا تحثهم بالوعد وتزجرهم بالوعيد (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك لا لخفائه ولكن لغفلتهم قال ـ عليه (الصلاة (١) و) السلام ـ : «كان النّبيّ يبعث إلى قومه خاصّة وبعثت إلى النّاس عامّة» (٢).

قوله : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يعني يوم القيامة لما ذكر الرسالة بين الحشر.

قوله : (لَكُمْ مِيعادُ) مبتدأ وخبر. والميعاد يجوز فيه أوجه :

أحدها : أنه مصدر مضاف لظرفه (٣) والميعاد يطلق على الوعد والوعيد. وقد تقدم أن الوعد في الخير ، والوعيد في الشر غالبا.

الثاني : اسم أقيم (٤) مقام المصدر والظاهر الأول ، قال أبو عبيدة : الوعد والوعيد والميعاد بمعنى(٥).

الثالث : أنه هنا ظرف زمان (٦). (قال الزمخشري : الميعاد ظرف الوعد من مكان أو زمان وهو (٧) هنا ظرف زمان) ، والدليل عليه (قراءة) (٨) من قرأ : ميعاد يوم يعني برفعهما منونين فأبدل منه «اليوم» (٩) وأما الإضافة فإضافة تبيين لقولك : سحق ثوب ، وبعير سانية (١٠) ، قال أبو حيان : ولا يتعين ما قال لاحتمال أن يكون التقدير : لكم ميعاد ميعاد يوم ، فلما حذف المضاف أعرب المضاف إليه بإعرابه (١١) ، قال شهاب الدين والزمخشري لو فعل مثل ذلك لسمع به (١٢) ، وجوّز الزمخشري في الرفع وجها آخر وهو الرفع على

__________________

(١) زيادة من (ب).

(٢) الحديث أورده البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. البخاري ١ / ٧٠.

(٣) قاله العكبري في التبيان ١٠٦٩ ومكي في المشكل ٢ / ٢١٠ وقال ابن الأنباري في البيان ٢ / ٢٨١ «ميعاد» مرفوع لأنه مبتدأ و «لكم» خبره والهاء في «عنه» عائدة على «الميعاد». وعلى هذا لو أضفت «يوم» إلى ما بعده فقلت : يوم لا تستأخرون عنه ، لكان جائزا.

(٤) قاله السمين في الدر ٤ / ٤٤٤.

(٥) قاله في مجاز القرآن له ٢ / ١٤٩.

(٦) الكشاف ٣ / ٢٩٠ والدر المصون ٤ / ٤٤٤.

(٧) ما بين القوسين سقط من «ب».

(٨) سقط من «ب» أيضا.

(٩) انظر : الكشاف ٣ / ٢٩٠ ولم ينسبها إلى قارىء معين.

(١٠) معنى بعير سانية : بعير يحمل أداة السّقاء لريّ الزرع ، ومعنى ثوب سحق أن الثوب خلق وبال ، انظر : اللسان : «س ن أ» و «س ح ق».

(١١) انظر : البحر المحيط ٧ / ٢٨٢.

(١٢) الدر المصون ٤ / ٤٤٤.

٦٥

التعظيم يعني على إضمار مبتدأ وهو الذي يسمى القطع (١) ، وسيأتي هذا قريبا ، وقرأ ابن أبي عبلة واليزيديّ ميعاد يوما بتنوين الأول ونصب «يوما» (٢) منونا وفيه وجهان :

أحدهما : أنه منصوب على الظرف والعامل فيه مضاف مقدر تقديره : لكم إنجاز وعد في يوم صفته كيت وكيت.

الثاني : أن ينتصب بإضمار فعل. قال الزمخشري : وأما نصب «اليوم» فعلى التعظيم بإضمار فعل تقديره أعني يوما ، ويجوز أن يكون الرفع على هذا أعني التعظيم (٣). وقرأ عيسى (٤) بتنوين الأول ونصب «يوم» مضافا للجملة بعده (٥). وفيه الوجهان المتقدمان النّصب على التعظيم أو الظّرف.

قوله : (لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ) يجوز في هذه الجملة أن تكون صفة «لميعاد» إن عاد الضمير في «عنه» عليه أو «ليوم» إن عاد الضمير في «عنه» عليه فيجوز أن يحكم على موضعها بالرفع أو الجر وأما على قراءة عيسى فينبغي أن يعود الضمير في «عنه» على «ميعاد» لأنهم نصّوا على أنّ الظّرف إذا أضيف إلى جملة لم يعد منها إليه ضمير (٦) إلّا في ضرورة كقوله :

٤١٣٨ ـ مضت سنة لعام ولدت فيه

وعشر بعد ذاك وحجّتان (٧)

فصل

تقدم الكلام في سورة الأعراف أن قوله : (لا يَسْتَأْخِرُونَ) [الأعراف : ٣٤] يوجب الإنذار لأن معناه عدم المهلة عن الأجل ولكن الاستقدام ما وجهه؟ وقد تقدم ، ونذكر ههنا أنهم لما طلبوا الاستعجال بين أنه لا استعجال فيه كما أنه لا إمهال وهذا يفيد عظم الأمر ، وخطر الخطب ؛ لأن الأمر الحقير إذا طلبه طالب من غيره لا يؤخره ولا يوقفه

__________________

(١) قال : «ويجوز أن يكون الرفع على هذا أعني التعظيم» انظر : الكشاف ٣ / ٢٩٠.

(٢) من القراءات الشواذ غير المتواترة قال بها ابن خالويه في المختصر ١٢٢ والفراء في معانيه ٢ / ٣٦٢ وابن الأنباري في البيان ٢ / ٢٨١.

(٣) الكشاف المرجع السابق.

(٤) المراد به عيسى البصري ابن عمر الثّقفيّ.

(٥) البحر ٧ / ٢٨٢ والدر المصون ٤ / ٤٤٤ و ٤٤٥ وانظر : مشكل الأعراب لمكّيّ ٢ / ١٢٠ وبيان ابن الأنباري ٢ / ٢٨١.

(٦) قال مكي في المشكل : «ولا يجوز إضافة يوم إلى ما بعده إذا جعلت الهاء ليوم لأنك تضيف الشيء إلى نفسه وهو اليوم تضيفه إلى جملة فيها هاء هي اليوم فتكون قد أضفت اليوم إلى الهاء وهو هي» المشكل ٢ / ١٢٠ ونفس الأمر قاله ابن الأنباري في البيان ٢ / ٢٨١.

(٧) من تام الوافر وينسب للنمر بن تولب والصحيح أن البيت للنابغة الجعدي ويروى «مائة» بدل سنة.

وشاهده : عود الضمير في (فيه) على عام المضاف إلى جملة وتلك ضرورة شعرية لا نثرية. وقد تقدم.

٦٦

على وقت بخلاف الأمر الخطير (١) والمراد باليوم يوم القيامة وقال الضحاك : يوم الموت لا يتأخرون(٢) عنه ولا يتقدمون بأن يزاد في أجلكم أو ينقص.

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٣٣)

قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ) لما بين التوحيد (٣) والرسالة والحشر وكانوا بالكلّ كافرين بين كفرهم العام بقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ) وذلك لأن القرآن مشتمل على الكل وقوله : (وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) يعني التوراة والإنجيل وعلى هذا فالمراد «بالذين كفروا» هم المشركون المنكرون للثواب والحشر. ويحتمل أن يكون المراد بالذين كفروا العموم ويكون المراد بقوله : (الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أن لا نؤمن بالقرآن أنه من الله (وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي ولا بما فيه من الإخبارات والآيات والدلائل وذلك لأن أهل الكتاب لم يؤمنوا بالقرآن أنّه من الله ولا بالذي فيه من الرّسالة وتفاصيل الحشر.

فإن قيل : أليس هم مؤمنين بالوحدانية والحشر؟

فالجواب : إذا لم يصدق واحد بما في كتاب من الأمور المختصة به يقال فيه إنه لم يؤمن بشيء منه وإن آمن ببعض ما فيه لكونه في غيره فيكون إيمانه لا بما فيه كمن يكذب رجلا فيما يقوله فإذا أخبره بأن النار حارة لا يكذبه فيه ولكن لا يقال بأنه صدقه لأنه إنما صدق نفسه فإنه كان عالما به من قبل وعلى هذا فقوله : (بَيْنَ يَدَيْهِ) الذي هو مشتمل عليه من حيث إنه وارد فيه (٤).

قوله : (وَلَوْ تَرى) مفعول «ترى» وجواب «لو» محذوفان للفهم أي ولو ترى حال الظالمين وقت وقوفهم مراجعا بعضهم إلى بعض القول لرأيت حالا فظيعة وأمرا

__________________

(١) قاله الرازي ٢٥ / ٢٥٨.

(٢) في «ب» : تستأخرون وتستقدمون ، بالسين فيهما. وانظر : زاد المسير لابن الجوزي ٦٤ / ٤٥٦.

(٣) انظر في هذا كله تفسير الرازي ٢٥ / ٣٥٩.

(٤) المرجع السابق.

٦٧

منكرا (١). و «يرجع» حال من ضمير «موقوفون» و «القول» منصوب ب «يرجع» (٢) ؛ لأنه يتعدى قال تعالى : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ) [التوبة : ٨٣] وقوله : (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) إلى آخره تفسير لقوله : «يرجع» فلا محلّ له. و «أنتم» بعد «لو لا» مبتدأ على أصحّ المذاهب ، وهذا هو الأفصح أعني وقوع ضمائر الرفع بعد «لو لا» خلافا للمبرد (٣) ؛ حيث جعل خلاف هذا لحنا ، وأنه لم يرد إلّا في قول زياد :

٤١٣٩ ـ وكم موطن لولاي ...

 ..........(٤)

وقد تقدم تحقيقه ، والأخفش جعل إنه ضمير نصب أو جر قام مقام ضمير الرفع (٥). وسيبويه جعله ضمير جر (٦).

فصل

لما وقع اليأس من إيمانهم في هذه الدار بقولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ) فإنه لتأبيد النفي وعد النّبيّ عليه (الصلاة (٧) و) السلام ـ بأنه يراهم على أذل حال موقوفين للسؤال يرجع بعضهم إلى بعض القول أي يرد بعضهم إلى بعض القول في الجدال كما يكون عليه حالة جماعة أخطأوا في أمر يقول بعضهم لبعض. (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) استحقروا وهم الأتباع (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) وهم القادة والأشراف (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) أي أنتم منعتمونا

__________________

(١) قال الزمخشري في الكشاف : «ولو ترى في الآخرة موقفهم وهم يتجاذبون أطراف المحادثة ويتراجعونها بينهم لرأيت العجب ، فحذف الجواب». الكشاف ٣ / ٢٩٠ وانظر الدر المصون ٤ / ٤٤٥.

(٢) قاله الأخفش في معاني القرآن ٢ / ٦٦٣ قال «لأنك تقول : قد رجعت إليه القول». وقال به السمين في الدر ٤ / ٤٤٥.

(٣) قال في المقتضب ٣ / ٧٦ : «اعلم أن الاسم الذي «لو لا» يرتفع بالابتداء وخبره محذوف لما يدل عليه وذلك قولك في : لو لا عبد الله لأكرمتك» فعبد الله مرتفع بالابتداء وخبره محذوف والتقدير : لو لا عبد الله بالحضرة أو لسبب كذا لأكرمتك».

(٤) جزء بيت من قصيدة ليزيد بن الحكم من الطويل وتمامه :

 ... طحت كما هوى

بأجرامه من قلّة النّيق منهوي

و «طحت» هلكت ، «الأجرام» الأجساد ، و «النيق» أعلى الجبل ، و «منهوي» ساقط. وشاهده : وقوع ضمير الاتصال وهو «الياء» بعد «لو لا». وهذا الضمير حقه أن يكون في محل جر أو نصب. والقياس لو لا أنا وقد أنكر المبرد هذا واعتبره لحنا وتحريفا. وانظر الكامل ٣ / ٣٤٥ والكتاب ٢ / ٣٧٤ والخصائص ٢ / ٢٥٩ ، وابن يعيش ٤ / ١١٨ و ٩ / ٢٣ والإنصاف ٦٩٢ وأمالي القالي ٢ / ٦٨ والخزانة ٥ / ٣٣٦ والأشموني ٢ / ٢٠٦ والهمع ٢ / ٣٢ ويس ١ / ٣١٠.

(٥) نقله عنه ابن هشام في مغنيه قال : وقال الأخفش : الضمير مبتدأ ولو لا غير جارة ولكنهم أنابوا الضمير المخفوض عن المرفوع كما عكسوا ، إذ قالوا : «ما أنا كأنت ولا أنت كأنا». وقد اعترض عليه ابن هشام والمبرد قال ابن هشام : النيابة إنما وقعت في الضمائر المنفصلة لاستقلالها.

(٦) انظر الكتاب ٣ / ٣٧٣ ، ٣٧٤.

(٧) زيادة من «ب» والفخر الرازي ٢٥ / ٢٦١.

٦٨

عن الإيمان بالله ورسوله وهذا إشارة إلى أن كفرهم كان لمانع لأن بعد المقتضي لا يمكنهم أن يقولوا : ما جاءنا رسول ولا أن يقولوا : قصر الرسول لأن الرسول لو أهمل شيئا لما كانوا يقولون لو لا (١) المستكبرون. ثم أجابهم المستكبرون وهم المتبوعون في الكفر للذين استضعفوا رد لما قالوا إن كفرنا كان لمانع (أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ) يعني المانع ينبغي أن يكون راجحا على المقتضي حتى يعمل (٢) عمله والذي جاء به هو الهدى ، والذي صدر من المستكبرين لم يكن شيئا يوجب الامتناع من قبول ما جاء به فلم يصحّ تعلّقكم بالمانع (بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) بترك الإيمان فبين أن كفرهم كان اجتراما من حيث إن المعذور لا يكون معذورا إلا لعدم المقتضي أو لقيام المانع ولم يوجد شيء منهما. ثم قال (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ) لما قال المستكبرون : إنا صددنا ، وما صدر منا ما يصلح مانعا وصادفا اعترف المستضعفون به وقالوا بل مكر الليل والنهار أي مكركم في الليل والنهار (٣). واعلم أنه يجوز رفع «مكر» من ثلاثة أوجه :

أحدها : الفاعلية (٤) تقديره : بل صدّنا مكركم في هذين الوقتين.

الثاني : أن يكون مبتدأ خبره محذوف (٥) أي مكر الليل صدّنا.

الثالث : العكس أي سبب كفرنا مكركم. وهو المتقدم في التفسير (٦) ، وإضافة المكر إلى الليل والنهار إما على الإسناد (٧) المجازي كقولهم : ليل ماكر ، فالعرب تضيف الفعل إلى الليل والنهار كقول الشاعر :

٤١٤٠ ـ ..........

ونمت وما ليل المطيّ بنائم (٨)

__________________

(١) في الرازي : لما كانوا يؤمنون ولو لا المستكبرون لآمنوا.

(٢) انظر هذا كله في تفسير الرازي ٢٥ / ٢٦١.

(٣) تفسير الرازي المرجع السابق.

(٤) قاله ابن جني في المحتسب ٢ / ١٩٣ وأبو البقاء في التبيان ١٠٦٩ وأبو حيان في البحر ٧ / ٢٨٣.

(٥) المحتسب السابق والبحر والدر ٤ / ٤٤٦.

(٦) قاله أبو الحسن الأخفش في المعاني ٢ / ٦٦٣ وأبو حيان في البحر ٧ / ٢٨٣ وجعله النحاس مبتدأ ذا خبر محذوف انظر : إعراب النحاس ٣ / ٣٤٩.

(٧) قاله الأخفش في المعاني ٢ / ٦٦٣ والفراء في المعاني ٢ / ٣٦٣ والنحاس في الإعراب ٣ / ٣٤٩ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٩١.

(٨) هذا عجز بيت من الطويل لجرير صدره :

لقد لمتنا يا أمّ غيلان في السّرى

 ...

والشاهد : «بنائم» حيث أسنده إلى الليل إسنادا مجازيّا وذلك للاتساع في ذلك كما أوضح أعلى وانظر : المقتضب ٣ / ١٠٥ والمحتسب ٢ / ١٨٤ وإعراب النحاس ٣ / ٣٤٩ ومجمع البيان ٧ / ٦١٣ والطبري ٢٢ / ٦٧ والإنصاف ٢٤٣ والنقائض ٧٥٣ وفتح القدير ٤ / ٣٢٨ والكتاب ١ / ١٦٠ وديوانه ٥٥٣ دار ـ

٦٩

فيكون مصدرا مضافا لمرفوعه (١) ، وإما على الاتساع في الظرف فجعل كالمفعول به فيكون مضافا لمنصوبه (٢) وهذا أحسن من قول من قال : إن الإضافة بمعنى «في» أي في الليل (٣) ، لأن ذلك لم يثبت في (غير) (٤) محل النزاع (٥) ، وقيل : مكر الليل والنهار طول السلامة وطول الأمل (٦) فيهما كقوله تعالى : (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) [الحديد : ١٦] وقرأ العامة مكر بتخفيف الراء ساكن الكاف مضافا لما بعده ، وابن يعمر وقتادة بتنوين : «مكر» وانتصاب الليل والنهار ظرفين (٧). وقرأ أيضا وسعيد بن جبير وأبو رزين بفتح الكاف وتشديد (٨) الراء مضافا لما بعده أي كرور الليل والنهار ، واختلافهما ، من كرّ يكرّ إذا جاء وذهب ، وقرأ ابن جبير أيضا وطلحة وراشد القاري (٩) ـ وهو الذي كان يصحح المصاحف أيام الحجاج بأمره ـ كذلك إلا أنه ينصب الراء (١٠) ، وفيها أوجه :

أظهرها : ما قاله الزمخشري وهو الانتصاب على المصدر قال : «بل تكرون الإغواء مكرا دائما لا تفترون عنه» (١١).

الثاني : النصب على الظرف بإضمار فعل أي بل صددتمونا مكرّ الليل والنهار (١٢) أي دائما.

الثالث : أنه منصوب «بتأمروننا». قاله أبو الفضل الرازي (١٣). وهو غلط ؛ لأن ما بعد المضاف لا يعمل فيما قبله (١٤) إلا في مسألة واحدة وهي «غير» إذا كانت بمعنى «لا» كقوله :

__________________

ـ صادر. وأم غيلان فيه هي عتبة بنت جرير وانظر كذلك مجاز القرآن ١ / ٢٧٩ وزاد المسير ٦ / ٢٥٨.

(١) الفاعل لأنه هو الفاعل المجازي وهذا تأكيد لآراء السابقين. وانظر مراجعهم السابقة.

(٢) وهو رأي أبي القاسم الزمخشري قال : «ومعنى مكر الليل والنهار مكركم في الليل والنهار فاتّسع في الليل وهو الظرف بإجرائه مجرى المفعول به وإضافة المكر إليه أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازي» انظر : الكشاف ٣ / ٢٩١.

(٣) قال الزجاج في معاني القرآن وإعرابه : «معناه بل مكركم في الليل والنهار». وتبعه تلميذه النّحّاس في الإعراب. انظر : معاني الزجاج ٤ / ٢٥٤ وإعراب النحاس ٣ / ٣٤٩.

(٤) سقط من «ب».

(٥) نقله في الدر المصون ٤ / ٤٤٦.

(٦) نقله البغوي في معالم التنزيل ٥ / ٢٩٣.

(٧) قاله ابن جني في المحتسب ٢ / ١٩٣ و ١٩٤ وانظر : الكشاف ٣ / ٢٩١ والبحر المحيط ٧ / ٢٨٣ وزاد المسير ٦ / ٤٥٨.

(٨) المحتسب ٢ / ١٩٣ و ١٩٤ وابن خالويه ١٢٢ والبحر ٧ / ٢٨٣ والقرطبي ١٤ / ٣٠٣.

(٩) لم أعثر على ترجمة له غير ما هو أعلى من تصحيح المصاحف كما في المحتسب.

(١٠) المحتسب والبحر والمختصر والقرطبي المراجع السابقة.

(١١) الكشاف ٣ / ٢٩١.

(١٢) وهو كلام ابن جني في محتسبه انظر : المحتسب ٢ / ١٩٤ والدر المصون ٤ / ٤٤٧.

(١٣) نقله عنه أبو حيان في بحره وهو أبو الفضل صاحب اللوامح انظر : البحر ٧ / ٢٨٣.

(١٤) نقله أبو حيان في المرجع السابق قال : لأن ما بعد «إذ» لا فيما قبلها.

٧٠

٤١٤١ ـ إنّ امرءا خصّني عمدا مودّته

على التّنائي لعندي غير مكفور (١)

وتقدم تقرير هذا آخر الفاتحة (٢) ، وجاء قوله : (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) بغير عاطف ؛ لأنه جواب لقول الضّعفة فاستؤنف بخلاف قوله : (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) فإنه لم يكن جوابا لعطف ، والضمير في (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) للجميع للأتباع والمتبوعين.

فصل

لما اعترف المستضعفون وقالوا بل مكر الليل والنهار منعنا ثم قالوا لهم إنكم وإن كنتم ما أتيتم بالصارف القطعي والمانع القوي ولكن انضم أمركم إيانا بالكفر إلى طول الأمد وامتداد المدد فكفرنا فكان قولكم جزءا لسبب وقولهم (إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ) أي ننكره (وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) هذا يبين أن المشرك بالله مع أنه في الصورة مثبت لكنه في الحقيقة منكر لوجود الله لأن من يساويه بالمخلوق المنحوت لا يكون مؤمنا به.

فصل

قوله أولا يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الّذين استضعفوا بلفظ المستقبل وقوله في الآيتين الأخيرتين : «وقال (الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) ، وقال (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) بلفظ الماضي مع أن السؤال والمراجعة في القول لم يقع إشارة إلى أن ذلك لا بدّ من وقوعه فإن الأمر الواجب الوقوع كأنه وقع كقوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣٠] وأما الاستقبال فعلى الأصل.

قوله : (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي أنهم يتراجعون القول ثم إذا جاءهم العذاب الشاغل يسرون ذلك التراجع الدال على الندامة ، وقيل : معنى الإسرار الإظهار وهو من الأضداد أي أظهروا الندامة ويحتمل أن يقال : بأنهم لما تراجعوا في القول رجعوا إلى الله بقولهم أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا وأجيبوا بأن لا مرد لكم فأسرّوا ذلك القول ، وقوله : (وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي الأتباع والمتبوعين جميعا في النار ، وهذا إشارة إلى كيفية عذابهم (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الكفر والمعاصي في الدنيا.

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي

__________________

(١) من بحر البسيط لأبي زبيد الطّائي والتنائي : البعد ، و «مودة» منصوب على نزع الخافض ، ومنكر مجحود هو معنى المكفور. وهو يتحدث عن شخص معين بالنعمة والفضل عليه. قد تقدم.

(٢) وانظر هذا كله في تفسير الفخر الرازي مع تغيير طفيف في عبارته.

٧١

تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(٣٩)

قوله : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) أي أغنياؤها ورؤساؤها ، وقوله: (إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) جملة حالية من «قرية» وإن كانت نكرة لأنها في سياق النفي (١). قوله : (بِما أُرْسِلْتُمْ) متعلق بخبر «إنّ» و «به» متعلق بأرسلتم ، والتقدير : إنا كافرون بالذي أرسلتم به. وإنما قدم للاهتمام وحسنه تواخي الفواصل (٢). وهذا تسلية لقلب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بأن إيذاء الكفار للأنبياء ليس بدعا بل ذلك عادة جرت من قبل ، وإنما نسب القول إلى المترفين مع أن غيرهم أيضا قالوا ذلك القول لأن المترفين هم الأصل في ذلك القول كقول المستضعفين للذين استكبروا : (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) ثم استدلوا على كونهم مصيبين في ذلك بكثرة الأموال والأولاد فقالوا (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) أي بسبب لزومنا لديننا ولو لم يكن الله راضيا بما نحن عليه من الدين والعمل لم يخولنا الأموال والأولاد (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) أي أن الله أحسن إلينا في الدنيا بالمال فلا يعذبنا. ثم إن الله تعالى بيّن خطأهم بقوله : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) يعني أنّ الرزق في الدنيا لا يدل سعته وضيقه على حال المحق والمبطل فكم من موسر شقي ومعسر تقيّ فقوله : (وَيَقْدِرُ) أي يضيّق بدليل مقابلته «يبسط» (٣). وهذا هو الطباق البديعيّ (٤). وقرأ الأعمش : ويقدّر بالتشديد (٥) ثم قال : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن قلة الرزق وضيق العيش وكثرة المال وسعة العيش بالمشيئة من غير اختصاص بالفاسق والصالح. ثم بين فساد استدلالهم بقوله : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) يعني إن قولكم نحن أكثر أموالا وأولادا فنحن أحسن حالا

__________________

(١) في «ب» النهي وهو تحريف واضح.

(٢) نقله شهاب الدين السمين في الدر ٤ / ٤٤٨.

(٣) نقله الإمام الفخر الرازي في تفسيره التفسير الكبير ٢٥ / ٣٦١ والحافظ البغوي في معالم التنزيل ٥ / ٢٩٣.

(٤) وهو الجمع بين معنيين متقابلين في الجملة ، قاله القزويني في إيضاحه ٢٤٣.

(٥) نقلت في المختصر والبحر المحيط هكذا يقدّر بالتشديد والبناء للفاعل أي الله ـ عزوجل ـ انظر البحر ٧ / ٢٨٥ وابن خالويه ١٢٢ ولكنها في ابن خالويه بالنون لا الياء. بينما نقلها في الإتحاف «ويقدّر» على البناء للمجهول وهي مع ذلك النقل من الإتحاف تكون متواترة بخلاف القراءتين الأوليين ، فهما شاذتان وأوردها الكشاف ٣ / ٢٩٢ بدون نسبة.

٧٢

عند الله ليس استدلالا صحيحا فإن المال لا يقرب إلى الله وإنما المفيد العمل الصالح بعد الإيمان وذلك أن المال والولد يشغل عن الله فيبعد عنه فكيف يقرب منه والعمل الصالح إقبال على الله واشتغال بالله ومن توجه إلى الله وصل ومن طلب من الله شيئا حصل (١)؟

قوله : (بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ) صفة للأموال والأولاد ، لأن جمع التكسير غير العاقل يعامل معاملة المؤنثة الواحدة (٢) ، وقال الفراء (٣) والزجاج (٤) إنه حذف من الأول لدلالة الثاني عليه قالا والتقدير : وما أموالكم بالّتي تقرّبكم عندنا زلفى ولا أولادكم بالّتي تقرّبكم وهذا لا حاجة إليه أيضا. ونقل عن الفراء ما تقدم من أن «التي» صفة للأموال والأولاد معا وهو الصحيح (٥) وجعل الزمخشري «التي» صفة لموصوف محذوف قال : «ويجوز أن يكون هي (٦) التقوى وهي المقربة عند الله زلفى وحدها أي ليست أموالكم ولا أولادكم بتلك الموصوفة (٧) عند الله بالتقريب»(٨). قال أبو حيان : ولا حاجة إلى هذا الموصوف (٩). قال شهاب الدين : والحاجة إليه (١٠) بالنسبة إلى المعنى الذي ذكره داعية ، و «زلفى» مصدر من معنى الأول ، إذ التقدير تقرّبكم قربى ، وعن الضحاك زلفا بفتح اللام وتنوين (١١) الكلمةعلىأنها جمع «زلفى» نحو قربة(١٢) وقرب ، جمع المصدر لاختلاف (١٣) أنواعه وقال الأخفش : «زلفى» (١٤) اسم مصدر كأنه قال : بالتي تقربكم عندنا تقريبا (١٥).

__________________

(١) قاله الرازي في تفسيره ٢٥ / ٢٦٢.

(٢) قاله السمين في تفسيره ٤ / ٤٤٨.

(٣) قال : ولو وجّهت «التي» إلى الأموال واكتفيت بها من ذكر الأولاد صلح ذلك كما قال مرّار الأسديّ : نحن بما عندنا وأنت بما : عندك راض والرأي مختلف.

(٤) قال : «وما أولادكم بالتي تقربكم ولا أولادكم بالذين يقربونكم ولكنه حذف اختصارا وإيجازا». انظر : معاني الفراء ٢ / ٣٦٣ ، ومعاني الزجاج ٤ / ٢٥٥.

(٥) قال : «إن شئت جعلت «التي» جامعة للأموال والأولاد لأن الأولاد يقع عليها «التي» فلما أن كانا جمعا صلح «للتي» أن تقع عليهما».

(٦) في الكشاف ويجوز أن يكون التي هي التقوى.

(٧) وفيه «الموضوعة» لا الموصوفة.

(٨) انظر : الكشاف ٣ / ٢٩٢.

(٩) البحر المحيط ٧ / ٢٨٥.

(١٠) الدر المصون ٤ / ٤٤٨.

(١١) في «ب» وبتنوين.

(١٢) كذا هي في أكثر من مرجع والأصح : «قربى» قياسا على زلفى. وانظر القراءة في بحر أبي حيان ٧ / ٢٨٥.

(١٣) المرجع السابق وانظر : الدر المصون ٤ / ٤٤٨.

(١٤) قاله في المعاني ٢ / ٦٦٣.

(١٥) في المعاني له إزلافا وليس تقريبا.

٧٣

قوله : (إِلَّا مَنْ) فيه أوجه :

أحدها : أنه استثناء منقطع (١) فهو منصوب المحل والمعنى لكن من آمن وعمل صالحا ، قال ابن عباس يريد من آمن إيمانه وعمله يقربه منّي (٢).

الثاني : أنه في محل جر بدلا من الضمير في : «أموالكم» قاله الزجاج (٣). وغلّطه النّحّاس بأنه بدل ضمير من ضمير المخاطب قال : ولو جاز هذا لجاز : رأيتك زيدا (٤) ، وقول أبي إسحاق هذا هو قول الفراء انتهى (٥). قال أبو حيان : ومذهب الأخفش والكوفيين أنه يجوز البدل من ضمير المخاطب والمتكلم إلا أن البدل في الآية لا يصح ألا ترى أنه لا يصح تفريغ الفعل الواقع صلة لما بعد إلا لو قلت : ما زيد بالّذي يضرب إلّا خالدا لم يجز. وتخيل الزجاج أن الصلة وإن كانت من حيث المعنى منفية أنه يجوز البدل وليس بجائز إلا أن يصح التفريغ له (٦). قال شهاب الدين : ومنعه قولك «ما زيد بالّذي يضرب إلّا خالدا» فيه نظر لأن النفي إذا كان منسحبا على الجملة أعطى حكم ما لو باشر ذلك الشيء ألا ترى أن النفي في قولك : «ما ظننت أحدا يفعل ذلك إلّا زيد» سوغ البدل في زيد من ضمير «يفعل» وإن لم يكن النفي متسلطا عليه وقالوا ولكنه لما كان في حيّز النفي صح فيه ذلك فهذا (٧) مثله والزمخشري أيضا تبع الزجاج والفراء في ذلك من حيث المعنى إلا أنه لم يجعله بدلا بل منصوبا على أصل الاستثناء فقال: (إِلَّا مَنْ آمَنَ) استثناء من «كم» في «نقرّب» (٨) والمعنى أن الأموال لا تقرب أحدا إلا المؤمن الذي ينفقها في سبيل الله والأولاد لا تقرب أحدا إلا من علّمهم الخير وفقّههم في الدّين ورشّحهم للصّلاح (٩). ورد عليه أبو حيان بنحو ما تقدم فقال : لا يجوز : «ما زيد بالّذي يخرج إلّا أخوه» ، و «ما زيد بالّذي يضرب إلّا عمرا» (١٠). والجواب عنه ما تقدم وأيضا فالزمخشري لم يجعله بدلا بل استثناء صريحا ، ولا يشترط في الاستثناء التفريغ اللفظي

__________________

(١) قاله أبو البقاء في التبيان ١٠٧٠ وابن الأنباري في البيان ٢ / ٢٨٢ ومكّيّ في المشكل ٢ / ٢١١ والنحاس في الإعراب ٣ / ٣٥٢.

(٢) قاله القرطبي ١٤ / ٣٠٦.

(٣) معاني القرآن وإعرابه له ٤ / ٢٥٥.

(٤) إعراب القرآن له ٤ / ٣٥٢.

(٥) في الحقيقة لم يعربها الفراء بدلا في معاني القرآن ٢ / ٣٦٣ بل أجازها على الاستثناء أو على المفعول به أو على الخبر قال : «في موضع نصب بالاستثناء وإن شئت أوقعت عليها التقريب وإن شئت جعلته رفعا أي ما هو إلّا من آمن».

(٦) قاله في بحره ٧ / ٢٨٦.

(٧) الدر المصون ٤ / ٤٤٩.

(٨) التقريب هو الأصح فالمستثنى منه : «كم» من تقرّبكم لا «أموالكم» كما وهو المؤلف أعلى. وقال بذلك القرطبي في الجامع ١٤ / ٣٠٦ ومكي في المشكل ٢ / ٢١١ وأبو حيان في البحر ٧ / ٢٨٦ والمعنى يؤيد ما نقول فالمعبرة بالتقريب من «تقربكم» ولعله سهو من المؤلف أن قال بهذا نقلا عن الزجاج.

(٩) كشاف الزمخشري ٣ / ٢٩٢.

(١٠) البحر المحيط ٧ / ٢٨٦.

٧٤

بل الإسناد المعنوي ألا ترى أنك تقول : قام القوم إلّا زيدا ولو فرغته لفظا لامتنع لأنه مثبت وهذا الذي ذكره الزمخشري هو الوجه الثالث في المسألة (١). الرابع : أنّ (مَنْ آمَنَ) في محلّ رفع على الابتداء والخبر (٢).

قوله : (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ) قال الفراء : هو في موضع رفع تقديره ما هو المقرب إلّا من آمن ، وهذا ليس بجيد وعجيب من الفراء كيف يقوله. قوله : (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ) ، قرأ العامة جزاء الضعف مضافا على أنه مصدر مضاف لمفعوله ، أي أن يجازيهم الضّعف وقدره الزمخشري مبنيا للمفعول أي يجزون الضّعف (٣). ورده أبو حيان بأن الصحيح منعه (٤). وقرأ قتادة برفعها (٥) على إبدال الضّعف من «جزاء» (٦). وعنه أيضا وعن يعقوب بنصب جزاء على الحال منونا والعامل فيها الاستقرار (٧). وهذه كقوله : (فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى)(٨) ، فيمن قرأه بالنصب نصب جزاء في الكهف.

قوله : (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) قرأ حمزة الغرفة (٩) بالتوحيد على إرادة الجنس ولعدم اللبس لأنه معلوم أن لكل أحد غرفة تخصه وقد أجمع على التوحيد في قوله : (يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ) [الفرقان : ٧٥] ، ولأن لفظ الواحد أخف فوضع موضع الجمع مع أمن اللبس والباقون «الغرفات» جمع سلامة (١٠) وقد أجمع على الجمع في قوله : (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) [العنكبوت : ٥٨] والرسم محتمل للقراءتين. وقرأ الحسن بضم راء غرفات (١١) على الإتباع وبعضهم يفتحها (١٢)

__________________

(١) قاله شهاب الدين السمين في الدر المصون ٤ / ٤٥٠.

(٢) قاله أبو البقاء في التبيان ١٠٧٠ والفراء في المعاني ٢ / ٣٦٣.

(٣) قال في الكشاف ٣ / ٢٩٢ : «فأولئك لهم أن يجازوا الضّعف».

(٤) البحر المحيط ٧ / ٢٨٦.

(٥) قال بها القرطبي ١٤ / ٣٠٦ وأبو حيان ٢٨٦ / ٧ والكشاف ٣ / ٢٩٢ والفراء في المعاني ٢ / ٣٦٣ و ٣٦٤ وتلك قراءات شاذة رواية ولكنها تصح عربية كما أوضح بذلك الزجاج ٤ / ٢٥٦ والفراء ٢ / ٣٦٤.

(٦) المرجعان السابقان.

(٧) من القراءات العشرية المتواترة أوردها ابن الجزري في النشر ٢ / ٣٥١ وانظر : تقريب النشر ١٦٢ ، والإتحاف ٣٦٠.

(٨) الكهف الآية ٨٨ وهي قراءة سبعية متواترة وانظر : السبعة ٣٩٩ والإتحاف ٢٩٤ ومعاني الفراء ٢ / ٣٦٤ والكشف ٢ / ٧٥.

(٩) القرطبي ١٤ / ٣٠٦ والكشاف ٣ / ٢٩٢ والكشف ٢ / ٢٠٨.

(١٠) بالتأنيث وانظر المراجع السابقة.

(١١) روي عنه في الإتحاف أنه يقرأ بإسكان الراء الإتحاف ٣٦٠ والمختصر لابن خالويه ١٢٢ ولعلها قراءة أخرى نسبت له والإسكان جائز للخفة والسهولة فإذا كانوا يخففون الفتحة في «عضد» أي الواحدة فمن باب أولى أن تخفف الضمتان المتتاليتان.

(١٢) لم تنسب في البحر ٧ / ٢٨٦ والكشاف ٣ / ٢٩٢ وابن خالويه ١٢٢.

٧٥

وتقدم تحقيق ذلك أول البقرة (١). وقرأ ابن وثاب الغرفة بضم الراء والتوحيد (٢).

فصل

والمعنى يضعف الله حسناتهم فيجزي بالحسنة الواحدة (٣) عشرة إلى سبع مائة لأن الضعف لا يكون إلا في الحسنة وفي السيئة لا يكون إلا المثل ثم زاد وقال : (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) إشارة إلى دوامها وتأبيدها. ثم بين حال المسيء فقال : (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) أي يسعون في إبطال حججنا معاجزين معاندين يحسبون أنهم يعجزوننا ويفوتوننا. وقد تقدم تفسير: (أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ). وهذا إشارة إلى الدوام أيضا كقوله : (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) [الانفطار : ١٦]. ثم قال مرة أخرى : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) إشارة إلى أن نعيم الآخرة لا ينافي نعمة الدنيا بل الصالحون قد يحصل لهم في الدنيا النعم مع القطع بحصول النعم في العقبى بناء على الوعد قطعا لقول من يقول : إذا كانت العاجلة والآجلة لهم فالنقد أولى فقال هذا النقد غير مختص بكم فإن كثيرا من الأشقياء مدفوعون وكثيرا من الأتقياء ممنوعون ، ولهذا المعنى ذكر هذا الكلام مرتين مرة لبيان أن كثرة أموالهم وأولادهم غير دالة على حسن أحوالهم ومرة لبيان أنه غير مختص بهم كأنه قال وجود القرب لا يدل على الشرف ثم إن سلّمنا أنه كذلك لكن المؤمنون سيحصل لهم ذلك فإن الله يملكهم دياركم وأموالكم ويدل على ذلك أن الله تعالى لم يذكر أولا لمن يشاء من عباده بل قال : لمن يشاء. وقال ثانيا : لمن يشاء من عباده فالكافر أثره مقطوع وماله إلى زوال وماله إلى الهواء وأما المؤمن فما ينفقه يخلفه الله(٤). قوله : (وَما أَنْفَقْتُمْ) يجوز أن تكون ما موصولة (٥) في محل رفع بالابتداء والخبر قوله (فَهُوَ يُخْلِفُهُ) ودخلت الفاء لشبهه بالشرط ، و (مِنْ شَيْءٍ) بيان كذا قيل. وفيه نظر ؛ لإبهام شيء فأي (تبيين) (٦) فيه؟ ويجوز أن تكون «ما» شرطية فيكون في محل نصب مفعولا مقدما و (فَهُوَ يُخْلِفُهُ) جواب الشرط (٧).

__________________

(١) عند قوله : «وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ» الآية ٢٠٨ حيث قرأ الكسائي ومن معه خطوات بضم الطاء إتباعا للخاء وبعضهم بفتح الطاء انظر : الإتحاف ١٥٦.

(٢) أوردها ابن خالويه في المختصر دون ضبط لها وتكلم عنها أبو حيان في البحر بفتح الراء. انظر المختصر ١٢٢ والبحر ٧ / ٢٨٦ والقرطبي ١٤ / ٣٠٦.

(٣) معالم التنزيل للبغوي ٥ / ٢٩٣.

(٤) انظر هذا في الرازي ٢٥ / ٢٦٢.

(٥) كما يجوز أن تكون شرطية في موضع نصب وانظر : التبيان ١٠٧٠ والدر المصون للسمين ٤ / ٤٠١.

(٦) تصحيح من «ب» وفي «أ» ييسّر لحن وخطأ.

(٧) المرجعان السابقان التبيان والدر.

٧٦

فصل

المعنى : وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه أي يعطي خلفه قال سعيد بن جبير : ما كان في غير إسراف ولا تقتير فهو يخلفه (١) ، وقال الكلبي : ما تصدقتم من صدقة وأنفقتم في الخير من نفقة فهو (ينفقه) ويخلفه على المنفق إما أن يعجّل له في الدنيا وإما أن يدّخر له في الآخرة (٢). (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) خير من يعطي ويرزق ، روى أبو هريرة قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إنّ الله قال : «أنفق أنفق عليك» (٣) وقال ـ عليه (الصلاة (٤) و) السلام ـ : «ما من يوم يصبح فيه العباد إلّا وينزل (فيه) (٥) ملكا (ن) (٦) فيقول أحدهما : اللهمّ أعط منفقا خلفا ويقول الآخر : اللهمّ أعط ممسكا تلفا». وإنما جمع الرازقين من (٧) حيث الصورة لأن الإنسان يرزق عياله من رزق الله والرازق للكل في الحقيقة إنما هو الله ، واعلم أنّ خير الرازقين يكون لأمور أن لا يؤخر في وقت الحاجة وأن لا ينقص من قدر الحاجة وأن لا ينكده بالحساب وأن لا يكدّره بطلب الثواب والله تعالى كذلك.

فإن قيل : قوله : (خَيْرُ الرَّازِقِينَ) ينبىء عن كثرة الرّازقين ولا رازق إلّا الله.

فالجواب : أن يقال : الله خير الرازقين الذين تظنونهم رازقين وكذلك في قوله تعالى : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] وأيضا فإن الصفات منها ما هو لله وللعبد حقيقة كالعلم بأن الله واحد فإن الله يعلم أنه واحد ، والعبد يعلم أنه واحد حقيقة ومنها ما يقال لله حقيقة وللعبد مجازا مثل الرزّاق (٨) والخالق فإن العبد إذا أعطى غيره شيئا فالله هو المعطي في الحقيقة ولكن لما وجدت صورة العطاء من العبد سمّي معطيا وهذا منه (٩).

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ

__________________

(١) نقله ابن الجوزي في زاد المسير ٦ / ٤٦١.

(٢) المرجع السابق.

(٣) أورده الشّوكانيّ في فتح القدير ٤ / ٣٣٢ والقرطبي في تفسيره الجامع ١٤ / ٣٠٧ ، والبغوي في معالم التنزيل ٥ / ٢٩٣.

(٤) زيادة من «ب».

(٥ و ٦) سقطا من «ب» وانظر المراجع السابقة وجامع الأحاديث للسيوطي ٥ / ٦٠٦.

(٧) انظر في هذا تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٥ / ٣٦٤.

(٨) المرجع السابق.

(٩) المرجع السابق.

٧٧

آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)(٤٥)

قوله : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ) وقد تقدم أنه يقرأ بالنون والياء (١) في الأنعام(٢).

قوله : (أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) إياكم منصوب (٣) بخبر «كان» (٤) قدم لأجل الفواصل والاهتمام (٥). واستدل به على جواز تقديم خبر «كان» عليها إذا كان خبرها جملة فإن فيه خلافا جوزه ابن السراج (٦) ، ومنعه غيره (٧). وكذلك اختلفوا في توسطه إذا كان جملة. قال ابن السّرّاج : القياس جوازه لكن لم يسمع (٨).

قال شهاب الدين : قد تقدم في قوله : (ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) [الأعراف : ١٩] ونحوه أنه يجوز أن يكون من تقديم الخبر وأن لا يكون. ووجه الدلالة هنا أن تقديم المعمول مؤذن بتقديم العامل. وتقدم تحقيق هذا في «هود» في قوله تعالى : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) [هود : ٨] (و) وضع هذه القاعدة.

فصل

لما بين أن حال النبي ـ عليه الصلاة والسلام (٩) ـ كحال من تقدمه من الأنبياء وحال قومه حال من تقدّم (١٠) من الكفار وبين بطلان استدلالهم بكثرة أموالهم (١١) وأولادهم بين ما يكون عاقبة حالهم فقال : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) يعني المكذبين بك (ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ) الذين يدعون أنهم يعبدونهم فإن غاية ما ترتقي (١٢) إليه منزلتهم أنهم يقولون :

__________________

(١) قراءة حفص ويعقوب بالياء والباقون بالنون انظر : البحر المحيط ٧ / ٢٨٦ والدر المصون ٤ / ٤٥١ والسبعة ٢٥٤ و ٥٣٠ والإتحاف ٣٦٠ والنشر ٢ / ٣٥١ وتقريبه ١٦٢ وهي قراءة عشرية متواترة.

(٢) عند قوله تعالى : «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» وهي الآية ٢٢ منها.

(٣) على المفعول به فهو معمول لخبر كان وهو محل نزاع هل يقدم أم لا كما سنراه الآن.

(٤) قاله أبو البقاء في التبيان ١٠٧٠.

(٥) الدر المصون للسمين ٤ / ٤٥٢.

(٦) هو : أبو بكر محمد بن السري المعروف بابن السراج كان أحد الأئمة أخذ عن المبرد وإليه انتهت الرئاسة وعنه الفارسيّ والزّجّاجيّ والرّمّانيّ له الأصول وغيرها. مات سنة ٣١٠ ه‍. النزهة ١٦٦.

(٧) انظر : الأصول في النحو لابن السراج ١ / ٤٩ بالمعنى والهمع للسيوطي ١ / ١١٧ والبحر لأبي حيان ٢٨٧٧.

(٨) المراجع السابقة.

(٩) في (ب) صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(١٠) في (ب) تقديم.

(١١) في (ب) لكثرة وفي الفخر كما هنا بكثرة.

(١٢) في (ب) يرتقي بالياء.

٧٨

نحن نعبد الملائكة والكواكب قال قتادة : هذا استفهام تقرير كقوله تعالى لعيسى (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ) [المائدة : ١١٦] فيقول (أَ(١) هؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) فتتبرأ منهم الملائكة فيقولون : «سبحانك» تنزيها لك (أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) أي نحن نتولاك ولا نتولاهم يعني كونك ولي بالعبودية أولى وأحب إلينا من كونهم أولياءنا بالعبادة لنا فقالوا : (بَلْ (٢) كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ) أي الشياطين فهم في الحقيقة كانوا يعبدون الجن ونحن (كنا) (٣) كالقبلة لهم.

فإن قيل : فهم كانوا يعبدون الملائكة فما وجه قولهم يعبدون الجن؟ قيل : أراد أن الشياطين زينوا لهم عبادة الملائكة فهم كانوا يطيعون الشياطين في عبادة الملائكة فقوله : «يعبدون» أي يطيعون الجن والعبادة هي الطاعة (أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) أي مصدّقون الشياطين.

فإن قيل : جميعهم كانوا متابعين للشياطين فما وجه قوله : (أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ) فإنه يدل على أنّ بعضهم لم يؤمن بهم ولم يطعهم؟

فالجواب من وجهين :

أحدهما : أن الملائكة أحتزوا عن (دعوى) (٤) الإحاطة بهم فقالوا : أكثرهم لأنّ الّذين رأوهم واطلعوا (٥) على أحوالهم كانوا يعبدون الجنّ ويؤمنون بهم ولعلّ في الوجود من لم يطلع الله الملائكة عليه من الكفار.

الثاني : هو أن العبادة عمل ظاهر والإيمان عمل باطن فقالوا بل يعبدون الجن لاطّلاعهم على أعمالهم وقالوا أكثرهم بهم مؤمنون عند عمل القلب لئلا يكونوا مدعين اطّلاعهم على ما في القلوب فإن القلب لا يطلع على من فيه إلا الله كما قال : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) [هود : ٥].

ثم بين أن ما كانوا يعبدون لا ينفعهم فقال : (فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) وهذا الخطاب يحتم أن يكون مع الملائكة (٦) لسبق قوله : (أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) وعلى هذا يكون تنكيلا للكافرين حيث بيّن لهم أن معبودهم لا ينفعهم ولا يضر. ويصحح هذا قوله تعالى : (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى)(٧).

ولقوله بعده : (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا) ولو كان المخاطب هم الكفار لقال :

__________________

(١) الهمزة سقطت من (ب).

(٢) سقط من (ب).

(٣) سقط من (ب).

(٤) سقط من (أ).

(٥) في (ب) وأطاعوهم.

(٦) الرازي ٢٥ / ٢٦٤ و ٢٦٥.

(٧) في الفخر الرازي : «لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً» وقوله : «وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى» والآيتان مختلفتان الأولى من مريم ٨٧ والثانية من الأنبياء ٢٨ فالآيتان مختلفتان. وقد أدخلهما المؤلف في بعضهما.

٧٩

«فذوقوا» (١) ويحتمل أن يكون داخلين في الخطاب حتى يصح معنى قوله : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ) أي الملائكة (٢) والجن وإذا لم تملكوها لأنفسكم فلا تملكوها لغيركم ، ويحتمل أن يكون الخطاب والمخاطب هم الكفار لأن ذكر اليوم يدل على حضورهم وعلى هذا فقوله (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) إنما ذكره تأكيدا لبيان حالهم في الظلم.

فإن قيل : قوله «نفعا» مفيد للحسرة فما فائدة ذكر الضرّ مع أنهم لو كانوا يملكون الضر لما نفع الكافرين ذلك؟

فالجواب : لما كان العبادة نفع لدفع ضرر المعبود كما يعبد الجبّار ، ويخدم مخافة شره بين أنهم ليس فيهم ذلك الوجه الذي يحسن لأجله عبادتهم.

فإن قيل : قوله ههنا : (الَّتِي كُنْتُمْ بِها) صفة للنار وفي السجدة وصف العذاب فجعل المكذب هنا النار وجعل المكذب في السجدة العذاب وهم كانوا يكذبون بالكل فما فائدته؟

فالجواب : قيل : لأنهم هناك كانوا ملتبسين (٣) بالعذاب مترددين فيه بدليل قوله : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) [السجدة : ٢٠] فوصف لهم ما لابسوه وهنا لم يلابسوه بعد لأنه عقيب حشرهم وسؤالهم فهو أول ما رأوا النار فقيل لهم : هذه النار التي كنتم بها تكذبون (٤).

قوله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا) يعنون محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) فعارضوا البرهان بالتقليد (وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) يعنون (٥) القرآن وقيل : القول بالوحدانية (٦)(إِفْكٌ مُفْتَرىً) كقوله تعالى في حقهم : (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) [الصافات : ٨٦] وكقولهم للرسول : (أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا) [الأحقاف : ٢٢] وعلى هذا فيكون قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بدلا (٧) وقالوا للحقّ لمّا جاءهم ؛ هذا إنكار للتوحيد وكان مختصا بالمشركين ، وأما إنكار القرآن والمعجزة فكان متفقا عليه بين المشركين وأهل الكتاب فقال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ) على العموم (٨).

قوله : (وَما آتَيْناهُمْ) يعني هؤلاء المشركين (مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها) العامة على

__________________

(١) في (ب) ذوقوا بدون الفاء.

(٢) تصحيح العبارة كما في الفخر الرازي : أي الملائكة والحاضر الواحد يجوز أن يجعل من يشاركه في أمر مخاطبا بسببه ويحتمل أن يكون معهم الجن أي لا يملك بعضكم لبعض أيها الملائكة والجن ... إلخ.

(٣) في «ب» متلبسين.

(٤) وانظر هذا كله في تفسير الرازي ٢٥ / ٢٦٥ و ٦٦.

(٥) نقله القرطبي ١٤ / ٣١٠.

(٦) قاله الرازي ٢٥ / ٢٦٦.

(٧) في الرازي : بدلا عن أن يقول.

(٨) قاله الرازي ٢٥ / ٢٦٦ و ٢٦٧.

٨٠