اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٧٤

وغيرهما أنه متى اجتمع نون الرفع مع نون الوقاية جاز ذلك أوجه وتقدم تحقيق الخلاف في أيتهما المحذوفة(١).

قال مقاتل : وذلك حين قال له المشركون : دع دينك واتبع دين آبائك ونؤمن بإلهك ، ونظير هذه الآية : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) [الأنعام : ١٤] ، وتقدم في تلك الآية وجه الحكمة في تقدم المفعول ووصفهم بالجهل لأنه تقدم وصف الإله بكونه خالقا للأشياء كلها وبكونه له مقاليد السموات والأرض وكون هذه الأصنام جمادات لا تضرّ ولا تنفع فمن أعرض عن عبادة الإله الموصوف بتلك الصفات المقدسة الشريفة واشتغل بعبادة هذه الأصنام الخسيسة فقد بلغ في الجهل مبلغا لا مزيد عليه ، فلهذا قال : (أَيُّهَا الْجاهِلُونَ)(٢).

قوله : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) الذي عملت قبل الشرك ، واعلم أن الظاهر (أن) (٣) قوله (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) هذه الجملة هي القائمة مقام الفاعل لأنها هي الموحاة وأصول البصريين تأبى ذلك (٤) ، ويقدرون أن القائم مقامه ضمير المصدر لأن الجملة لا تكون فاعلا عندهم والقائم هنا مقام الفاعل الجار والمجرور وهو «إليك». وقرىء ليحبطنّ ـ بضم الياء وكسر الباء ـ أي الله (٥) ولنحبطنّ (٦) بنون العظمة (وليحبطنّ) (٧) على البناء للمفعول (٨) و «عملك» مفعول به على القراءتين الأوليين ومرفوع على الثالثة لقيامه مقام الفاعل.

قال ابن الخطيب : واللام الأولى موطئة للقسم المحذوف والثانية لام الجواب.

فإن قيل : كيف أوحي إليه وإلى من قبله حال شركه على التعيين؟.

فالجواب : تقرير الآية أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك وإلى الذين من قبلك مثله أي أوحي (إليك) (٩) وإلى كل أحد منهم لئن أشركت كما تقول : كسانا حلّة : أي كل واحد منا (١٠).

فإن قيل : كيف صحّ هذا الكلام مع علم الله تعالى أن رسله لا يشركون ولا يحبط أعمالهم؟.

__________________

(١) وللعلماء في ذلك أقوال فمن قائل إن المحذوف ـ وهو مذهب الغالب ـ هو نون الوقاية ، ومن قائل : إن المحذوف هو النون الأولى نون الرفع والأفعال الخمسة ، ويؤيد المذهب الأول وهو حذف نون الوقاية أنها طرف والطرف محل تغيير.

(٢) وانظر : الرازي ٢٧ / ١٢.

(٣) سقط من ب.

(٤) نقل ذلك أبو حيان في البحر ٧ / ٤٣٩ والسمين في الدر ٤ / ٦٦٣.

(٥) ذكره أبو حيان في البحر ٧ / ٤٣٩ والسمين في الدر ٤ / ٦٦٣.

(٦) مختصر ابن خالويه ١٣١.

(٧) سقط من ب.

(٨) ذكره جار الله في الكشاف ٣ / ٤٠٧.

(٩) سقط من ب.

(١٠) تفسير الرازي ٢٧ / ١٣. وقد سبقه الكشاف ٣ / ٤٠٧ وأخذه أبو حيان عنهما ٧ / ٤٣٩.

٥٤١

فالجواب : أن قوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) قضية شرطية والقضية الشرطية لا يلزم (من) (١) صدقها صدق جزئيها ألا ترى أن قولك : لو كانت الخمسة زوجا لكانت منقسمة بمتساويين قضية صادقة مع أن كل واحد من جزئيها غير صادق.

قال تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] ولم يلزم من هذا صدق القول بأن فيهما آلهة وأنهما قد فسدتا (٢) ، قال المفسرون : هذا خطاب مع الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والمراد منه غيره ، وقيل : هذا أدب من الله لنبيه وتهديد لغيره ، لأن الله تعالى ـ عزوجل ـ عصمه من الشرك (٣) ، وقوله : (وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) قال ابن الخطيب : كما أن طاعات الأنبياء والرسل أفضل من طاعات غيرهم فكذلك القبائح التي تصدر عنهم فإنها بتقدير الصدور تكون أقبح لقوله تعالى : (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) [الإسراء : ٧٥] فكان المعنى أن الشرك الحاصل منه بتقدير حصوله منه يكون تأثيره في غضب الله تعالى أقوى وأعظم (٤).

قوله : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) الجلالة منصوبة ب «اعبد». وتقدم الكلام في مثل هذه الفاء في البقرة (٥) ، وجعله الزمخشري جواب شرط مقدر أي إن كنت (٦) عاقلا فاعبد الله ، فحذف الشرط ، وجعل تقديم المفعول عوضا منه (٧) ، وردّ أبو حيان عليه بأنه يجوز أن يجيء «زيدا فعمرا اضرب» ، فلو كان التقديم عوضا لجمع بين العوض والمعوّض (٨) عنه. وقرأ عيسى بل الله ـ رفعا ـ على الابتداء ، والعائد محذوف أي فاعبده (٩).

فصل

لما قال الله تعالى : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) يفيد أنهم أمروه بعبادة غير الله فقال الله تعالى له لا تعبد إلا الله ، فإن قوله (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) يفيد الحصر (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لإنعامه عليك بالهداية.

قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) وانظر : الرازي ٢٧ / ١٣.

(٣) قاله البغوي في تفسيره معالم التنزيل ٦ / ٨٣.

(٤) وانظر : الرازي المرجع السابق.

(٥) عند قوله : «وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ» من الآية ٤٠ منها.

(٦) في الكشاف كذا وفي النسختين عاملا.

(٧) الكشاف ٣ / ٤٠٧ و ٤٠٨.

(٨) البحر ٧ / ٤٣٩.

(٩) من القراءة الشاذة ذكرها ابن خالويه في مختصره ١٣١. والسمين في الدر ٤ / ٦٦٣.

٥٤٢

بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٧٥)

قوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) قرأ الحسن وأبو حيوة وعيسى قدّروا بتشديد الدال حقّ قدره بفتح الدال (١) ، وافقهم الأعمش على فتح الدال من (٢) «قدره» والمعنى وما عظموه حق عظمته حين أشركوا به غيره.

قوله : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ) مبتدأ وخبر (٣) في محل نصب على الحال أي ما عظموه حق تعظيمه والحال أنه موصوف بهذه القدرة الباهرة (٤) ، كقوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) [البقرة : ٢٨] أي (كيف) (٥) تكفرون بمن هذا وصفه وحال ملكه كذا. و «جميعا» حال (٦) وهي دالة على أن المراد بالأرض الأرضون فإن هذا التأكيد لا يحسن إدخاله إلا على الجمع (٧). قال ابن الخطيب : ونظيره قوله تعالى : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ) [آل عمران : ٩٣] وقوله : (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا) [النور : ٣١] وقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) [العصر : ٢] ولأن الموضع موضع تفخيم (٨) ولعطف الجمع عليها. (والعامل) (٩) في هذه الحال ما دل عليه «قبضته» (١٠) ، (ولا يجوز أن (١١) يعمل فيها «قبضته») سواء جعلته مصدرا ؛ لأن المصدر لا يتقدم عليه معموله أم مرادا به

__________________

(١) ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٣١ وأبو حيان في البحر ٧ / ٤٣٩ وهي من الشواذ غير المتواتر.

(٢) من الأربع فوق العشر فقد ذكرها صاحب الإتحاف ٣٧٧ وذكرها البحر المحيط أيضا وذكر القراءتين السمين في الدر ٤ / ٦٦٣ و ٦٦٤.

(٣) التبيان ١١١٣ والبيان ٣ / ٣٢٦.

(٤) وانظر : السمين ٤ / ٦٦٤.

(٥) سقط من ب.

(٦) ذكرها أبو البقاء وابن الأنباري في مرجعيهما السابقين.

(٧) قاله الرازي في ٢٧ / ١٦.

(٨) في ب تعميم. وانظر : الدر المصون ٤ / ٦٦٤.

(٩) سقط من ب.

(١٠) نقله أبو حيان في بحره عن الحوفي ٧ / ٤٤٠.

(١١) ما بين القوسين سقط من ب.

٥٤٣

المقدار (١). قال الزمخشري : ومع القصد إلى الجمع «يعني في الأرض» فإنه (٢) أريد به الجمع وتأكيده بالجميع أتبع الجميع مؤكده قبل مجيء الخبر ليعلم أول الأمر أن الخبر الذي يرد لا يقع عن أرض واحدة ولكن عن الأرض كلها (٣).

وقال أبو البقاء : و «جميعا» (٤) حال من الأرض ، والتقدير : إذا كانت مجتمعة قبضته أي مقبوضة ، فالعامل في «إذا» المصدر ، لأنه بمعنى المفعول ، وقال أبو علي في (٥) الحجة : التقدير : «ذات قبضته». وقد رد عليه ذلك بأن المضاف إليه لا يعمل فيما قبله ، وهذا لا يصحّ لأنه الآن غير مضاف إليه ، وبعد حذف المضاف لا يبقى حكمه (٦) انتهى. وهو كلام فيه إشكال ؛ إذ لا حاجة إلى تقدير العامل في «إذا» التي لم يلفظ بها (٧).

وقوله : «قبضته» إن قدّرنا مضافا ـ كما قال الفارسيّ أي ذات قبضته ـ لم يكن فيه وقوع المصدر موقع «مفعول» وإن لم يقدّر ذلك احتمل أن يكون المصدر واقعا موقعه ، وحينئذ يقال : كيف أنّث المصدر الواقع موقع مفعول (٨) وهو غير جائز؟! لا يقال : حلّة نسجة اليمن بل نسج اليمن أي منسوجه.

والجواب : أن الممتنع دخول التاء الدال على التحديد (٩) ، وهذه لمجرد التأنيث. كذا أجيب. وليس بذاك فإن المعنى على التحديد لأنه أبلغ في القدرة ، واحتمل أن يكون أريد بالمصدر مقدار (ذلك) (١٠) (التحديد) (١١).

والقبضة ـ بالفتح ـ المرّة ، وبالضم اسم (١٢) المقبوض كالغرفة والغرفة ، قال تعالى : (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) [طه : ٩٦].

والعامة على رفع «قبضته». والحسن ينصبها (١٣) ، وخرّجها ابن خالويه (١٤)

__________________

(١) هذا قول أبي حيان معترضا على أن المصدر هو العامل في الحال انظر المرجع السابق.

(٢) في ب والكشاف : وإنه بالواو.

(٣) في الكشاف : الأراضي كلهن. وانظر : الكشاف ٣ / ٤٠٩ والدر المصون ٤ / ٦٦٤.

(٤) في ب وجميعها.

(٥) ذكره أبو البقاء في التبيان عن أبي علي وأبو حيان في البحر ولم يعزه إلى معيّن. انظر التبيان ١١١٣ والبحر ٧ / ٤٤٠.

(٦) التبيان ١١١٣.

(٧) هذا اعتراض شهاب الدين السمين على أبي البقاء وانظر : الدر المصون ٤ / ٦٦٤.

(٨) في ب مفعوله بالهاء.

(٩) التي تدل على الوحدة والمرة.

(١٠) ما بين القوسين سقط من ب.

(١١) زيادة من ب بدل بذلك. وانظر في هذا المرجع السابق.

(١٢) قاله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٠٩.

(١٣) ذكرها الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٠٩ وهي من الأربع الشواذ فوق العشر المتواترة فقد ذكرت في الإتحاف ٣٧٧ وانظر أيضا مختصر ابن خالويه ١٣١.

(١٤) ذكر رأيه أبو حيان في البحر ٧ / ٤٤٠.

٥٤٤

وجماعة (١) على النصب على الظرفية أي «(في) (٢) قبضته». ورد هذا بأنه ظرف مختص فلا بد من وجود «في». وهذا هو رأي البصريين ، وأما الكوفيون فهو جائز عندهم إذ يجيزون : زيد دارك ـ بالنصب ـ أي في دارك (٣) ، وقال الزمخشري : جعلها ظرفا تشبيها للمؤقت بالمبهم (٤) ، فوافق الكوفيّين.

قوله : (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ) العامة على رفع «مطويّات» خبرا ، و «بيمينه» فيه أوجه :

أحدها : أنه متعلق «بمطويات».

الثاني : أنه حال من الضمير في : «مطويّات».

الثالث : أنه خبر ثان (٥) ، وعيسى والجحدري نصباها حالا (٦). واستدل بها الأخفش على جواز تقديم الحال إذا كان العامل فيها حرف جر نحو : زيد قائم في الدار (٧). وهذه لا حجة فيها لإمكان تخريجها على وجهين :

أظهرهما : أن يكون «السموات» نسقا على الأرض ويكون قد أخبر عن الأرضين والسموات بأن الجميع قبضته ويكون «مطويات» حالا من السموات ، كما كان جميعا حالا من الأرض و «بيمينه» متعلق «بمطويّات» (٨).

والثاني : أن يكون «مطويات» منصوبا بفعل مقدر و «بيمينه» الخبر (٩) ، و «مطويّات» وعامله جملة معترضة وهو ضعيف.

فصل (١٠)

لما حكى عن المشركين أنهم أمروا الرسول بعبادة الأصنام ثم إنه تعالى أقام الدلائل على فساد قولهم وأمر الرسول بأن يعبد الله ولا يعبد سواه بين أنهم لو عرفوا الله حق

__________________

(١) منهم أبو زكريا الفراء في معانيه ٢ / ٤٣٥ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٠٩ وقد ذكرها أبو البقاء في التبيان ١١١٤ واعترض عليها.

(٢) سقط من ب.

(٣) لم يعقب الزجاج على قبضته بعد إعرابه «جميعا» حالا في المعاني ٤ / ٣٦١.

(٤) الكشاف ٣ / ٤٠٩.

(٥) وقد ذكر هذه الأوجه الثلاثة صاحب التبيان ١١١٤.

(٦) يقصد «مطويات» ويكون الخبر «بيمينه» انظر مختصر ابن خالويه ١٣١ ومشكل مكي ٢ / ٢٦١ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٣٦٢.

(٧) لم أجدها في معاني الأخفش وقد ذكرها عنه أبو حيان في البحر ٧ / ٤٤٠.

(٨) وهذا اعتراض أبي حيان على الأخفش انظر المرجع السابق والدر المصون ٤ / ٢٦١ والكشاف ٣ / ٤٠٩.

(٩) قاله الفراء ٢ / ٤٢٥.

(١٠) هذا الفصل كله وما بين القوسين ساقط من ب تماما.

٥٤٥

معرفته لما جعلوا هذه الأشياء الخسيسة مشاركة له في العبودية فقال : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عظموا الله حقّ عظمته فقال : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) ، وروى البخاري أن حبرا من الأحبار أتى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات على أصبع والأرضين على أصبع والماء والثرى على أصبع وسائر الخلق على أصبع ، ويقول : أنا الملك فضحك النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ثم قرأ : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ)(١) وروى مسلم قال : والجبال والشجر على إصبع وقال : ثم يهزّهنّ فيقول : أنا الملك أنا الله (٢). وروى شيبة عن ابن أبي شيبة بإسناده عن ابن عمر قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «يطوي الله السّموات يوم القيامة ثمّ يأخذهنّ بيده اليمنى ثم يقول : أنا الملك أين الجبّارون أين المتكبّرون» (٣). ولما بين سبحانه وتعالى عظمته قال : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)).

فصل

قال ابن الخطيب : وههنا سؤالات :

الأول : أن العرش أعظم من السموات السبع ، والأرضين السبع ، ثم إنه تعالى قال في صفة العرش : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) فإذا وصف الملائكة بكونهم حاملين للعرش العظيم فكيف يجوز تقرير عظمة الله عزوجل بكونه حاملا للسموات والأرض؟!.

السؤال الثاني : قوله تعالى : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) شرح حالا لا يحصل إلا في القيامة والقوم ما شاهدوا ذلك فإن كان هذا الخطاب مع المصدقين للأنبياء فهم مقرون بأنه لا يجوز القول بجعل الأصنام شركاء لله فلا فائدة في إيراد هذه الحجة عليهم وإن كان الخطاب مع المكذبين في النبوة فهم ينكرون قوله : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فكيف يمكن الاستدلال به على إبطال القول بالشرك؟ السؤال الثالث : حاصل القول بالقبضة واليمين هو القدرة الكاملة الوافية بحفظ هذه الأجسام العظيمة فكما أن حفظها وإمساكها يوم القيامة ليس إلا بقدر الله تعالى فكذلك الآن فما الفائدة في تخصيص هذه الأحوال بيوم القيامة؟.

والجواب عن الأول : أن مراتب التعظيم كثيرة فأولها تقرير عظمة الله بكونه قادرا على حفظ هذه الأجسام العظيمة كما أن حفظها وإمساكها يوم القيامة عظيم ، ثم بعده تقرير عظمته بكونه قادرا على إمساك أولئك الملائكة الذين يحملون العرش.

__________________

(١) أخرجه البغوي في معالم التنزيل عن ابن مسعود ٦ / ٨٤.

(٢) السابق وانظر الكشاف ٣ / ٤٠٨.

(٣) البغوي المرجع السابق.

٥٤٦

والجواب عن الثاني : أن المقصود منه أن المتولي لإبقاء السموات والأرضين من وجوه العمارة في هذا الوقت هو المتولي لتخريبها وإبقائها يوم القيامة وذلك يدل على حصول قدرة تامة على الإيجاد والإعدام ويدل أيضا على كونه قادرا غنيا على الإطلاق فإنه يدل على أنه إذا حاول تخريب الأرض فكأنه يقبض قبضة صغيرة ، وذلك يدل على كمال الاستغناء.

والجواب عن الثالث : أنه إنما خصص تلك الحالة بيوم القيامة ليدل على أنه كما ظهر كمال قدرته في الإيجاد عند عمارة الدنيا يظهر كمال قدرته في الإعدام عند خراب الدنيا والله أعلم (١).

قوله : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) العامة على سكون الواو ، وزيد بن علي وقتادة بفتحها جمع «صورة» (٢). وهذه ترد قول ابن عطية أن الصور هنا يتعين أن يكون القرن ، ولا يجوز أن يكون جمع صورة (٣). وقرىء : فصعق ـ مبنيا للمفعول (٤) ـ وهو مأخوذ من قولهم : صعقتهم الصّاعقة ، يقال : صعقة الله فصعق (٥).

قوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) (استثناء) (٦) متصل ، والمستثنى إما جبريل وميكائيل وإسرافيل ، وإما رضوان والحور والزبانية ، وإما البارىء تعالى ، قاله الحسن (٧) ، وفيه نظر من حيث قوله (مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) فإنه لا يتحيز فعلى هذا يتعين أن يكون منقطعا (٨).

قوله : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى) يجوز أن يكون «أخرى» هي القائمة مقام الفاعل وهي في الأصل صفة لمصدر محذوف أي نفخ فيه نفخة أخرى ويؤيده التصريح بذلك في قوله : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) [الحاقة : ١٣] فصرح بإقامة المصدر ويجوز أن يكون القائم مقامه الجارّ (٩) ، و «أخرى» منصوبة على ما (١٠) تقدم.

__________________

(١) وانظر هذا كله في تفسير ابن الخطيب وهو الإمام الفخر الرازي ٢٧ / ١٧ و ١٨.

(٢) هذه قراءة من الأربع فوق العشر المتواترة. انظر الإتحاف ٣٧٧ والبحر المحيط ٧ / ٤٤١ وقال الفراء : «وذكر عن الحسن أو عن قتادة أنه قال: الصّور جمع الصّورة». المعاني ٢ / ٤٢٥. وقد ذكر هذه القراءة أيضا السمين في الدر ٤ / ٦٦٦.

(٣) هذا معنى عبارته التي نقلها أبو حيان في بحره وعقب عليها كعادته. وانظر البحر ٧ / ٤٤١ والمرجع السابق.

(٤) نسبها ابن الجوزي في زاد المسير إلى ابن السّميقع والجحدريّ وابن يعمر في ٧ / ١٩٧ ولم تنسب في البحر والدر المصون المرجعين السابقين وكذلك في مختصر ابن خالويه ١٣١ ونسبها صاحب شواذ القرآن إلى زيد بن علي ٢١١.

(٥) انظر : اللسان : «ص ع ق» ٢٤٥٠.

(٦) زيادة لتكميل السياق وتوضيحه.

(٧) وانظر : البحر ٧ / ٤٤١ والقرطبي ١٥ / ٢٨٠.

(٨) قاله شهاب الدين السمين في الدر ٤ / ٦٦٦.

(٩) وهو قوله : «فيه».

(١٠) أي على أنها صفة لمصدر ولكن المصدر منصوب أي ثم نفع فيه نفخة أخرى وهذا أحد قولي ـ

٥٤٧

قوله : (فَإِذا هُمْ قِيامٌ) العامة على رفع «قيام» خبرا ، وزيد بن عليّ نصبه (١) حالا ، وفيه حينئذ أوجه :

أحدها : أن الخبر «ينظرون» وهو العامل في هذه الحال أي فإذا هم ينظرون قياما.

والثاني : أن العامل في الحال ما عمل في «إذا» الفجائية إذا كانت ظرفا. فإن كانت مكانية ـ كما قال سيبويه ـ (٢) فالتقدير فبالحضرة هم قياما ، وإن كان زمانية كقول الرّمّاني (٣) فتقديره : ففي ذلك الزمان هم قياما أي وجودهم ، وإنما احتيج إلى تقدير مضاف في هذا الوجه لأنه لا يخبر بالزمان (٤) عن الجثث.

الثالث : أن الخبر محذوف هو العامل في الحال أي فإذا هم مبعوثون أو مجموعون قياما ، وإذا جعلنا الفجائية حرفا كقول بعضهم (٥) فالعامل في الحال إما «ينظرون» ، وإمّا الخبر المقدر كما تقدم تحقيقهما.

فصل (٦)

لما ذكر كمال قدرته وعظمته بما سبق ذكره أردفه بذكر طريق آخر يدل أيضا على كمال عظمته وهو شرح مقدمات يوم القيامة ، لأن نفخ الصور يكون قبل ذلك اليوم ، فقال : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ...) الآية.

اختلفوا في الصعقة فقيل : إنها غير الموت لقوله تعالى في موسى ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ : (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) [الأعراف : ١٤٣] وهو لم يمت فهذه النفخة تورث الفزع الشديد وعلى هذا فالمراد من نفخ الصعقة ومن نفخ الفزع واحد وهو المذكور في سورة النمل في قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ

__________________

ـ الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٠٩ قال : فإن قلت : (أخرى) ما محلها من الإعراب؟ قلت : يحتمل الرفع والنصب أما الرفع فعلى قوله فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وأما النصب فعلى قراءة من قرأ نفخة واحدة. والمعنى : ونفخ في الصور نفخة واحدة ثم نفخ فيه أخرى.

(١) الكشاف المرجع السابق والبحر ٧ / ٤٤١ ، وشواذ القرآن ٢٦١. وفي الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي ١٥ / ٢٨١ : «وأجاز الكسائي قياما بالنصب كما تقول : خرجت فإذا زيد جالسا».

(٢) وأما «إذا» «فلما يستقبل من الدهر وفيها مجازاة وهي ظرف وتكون للشيء توافقه في حال أنت فيها وذلك قولك : مررت فإذا زيد قائم. الكتاب ٤ / ٢٣٢.

(٣) كذا في النسختين وفي البحر الرياشي. والرّماني هو علي بن عيسى أبو الحسن كان إماما في العربية علامة في الأدب أخذ عن الزجاج وابن السراج وابن دريد. من مصنفاته التفسير ، الحدود الأصغر والأكبر. مات سنة ٣٨٤ ه‍ [بغية الوعاة ٢ / ١٨٠].

(٤) في ب الزمانية.

(٥) نسب البحر المحيط هذا إلى الكوفيين ونسبه الارتشاف إلى البصرة وانظر : البحر المحيط ٧ / ٤٤١ ونقل في الارتشاف أن القائل هو الأخفش انظر : الارتشاف ٥٦٧ والدر المصون ٤ / ٦٦٧.

(٦) هذا الفصل كله إلى أول قوله : «وأشرقت» سقط من نسخة ب.

٥٤٨

شاءَ اللهُ) [النمل : ٧٨] وعلى هذا القول فنفخ الصور ليس إلا مرتين. وقيل : الصعقة عبارة عن الموت ، والقائلون بهذا قالوا : المراد بالفزع أي كادوا يموتون من الفزع وشدة الصوت ، وعلى هذا التقدير فالنفخة تحصل ثلاث مرات أولها نفخة الفزع وهي المذكورة في سورة النّمل ، والثانية نفخة الصعق ، والثالثة نفخة القيام وهما مذكورتان في هذه السورة ، وقوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) قال ابن عباس : نفخة الصعق يموت من في السموات ومن في الأرض إلا جبريل وميكائيل وإسرافيل ، ويبقى جبريل وملك الموت ، ثم يموت عزرائيل جبريل ثم يموت ملك الموت ، وقيل : المستثنى هم الشهداء لقوله تعالى : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ،) وروى أبو هريرة عن ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : «هم الشّهداء متقلّدون أسيافهم حول العرش» (١) ، وقال جابر : هو موسى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأنه صعق ، ولا يصعق.

وقيل : هم الحور العين وسكان العرش والكرسي ، وقال قتادة : الله أعلم بهم وليس في القرآن والأخبار ما يدل على أنهم من هم.

ثم قال : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) وهذا يدل على أن هذه النفخة متأخرة عن النفخة الأولى لأن لفظة «ثم» للتراخي (٢). وروى أبو هريرة قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «ما بين النّفختين أربعون» ، قالوا : أربعون يوما قال : أبيت قالوا : أربعون شهرا قال : أبيت قالوا أربعون سنة ، قال : أبيت قال : ثم ينزل الله من السماء ماء فتنبتون كما ينبت البقل ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلّا عظم واحد وهو عجب الذّنب ، وفيه يركب الخلق يوم القيامة (٣).

وقوله : (فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) يعني أن قيامهم من القبور يحصل عقيب هذه النفخة الأخيرة في الحال من غير تراخ لأن الفاء في قوله : (فَإِذا هُمْ) يدلّ على التعقيب ، وقوله «ينظرون» أي يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب عظيم ، وقيل : ينظرون ماذا يفعل بهم ، ويجوز أن يكون القيام بمعنى الوقوف والجمود في مكان لأجل استيلاء الحيرة والدهشة عليهم (٤).

قوله : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ) العامة على بنائه للفاعل ، وابن عباس وأبو الجوزاء (٥)

__________________

(١) الحديث رواه أبو هريرة ورواه الشوكاني في فتح القدير ٤ / ٤٧٧ عن أبي يعلى والدارقطني في الأفراد ، وابن المنذر والحاكم وصححه.

(٢) هذا في تفسير الجامع للإمام القرطبي ١٥ / ٢٨٠ والرازي ٢٧ / ١٨ و ١٩.

(٣) الحديث أخرجه البغوي في معالم التنزيل عن أبي صالح عن أبي هريرة ٦ / ٨٥ وقد رواه الإمام البخاري في صحيحه ٣ / ١٨٢ عن أبي هريرة.

(٤) انظر : الرازي ٢٧ / ١٨ و ١٩.

(٥) أوس بن عبد الله الربعي أبو الجوزاء البصري ، عن عائشة وأبي هريرة وابن عباس وعنه بديل بن ميسرة ، وقتادة ومحمد بن جحادة مات سنة ٨٣ ه‍ انظر : الخلاصة ٤١.

٥٤٩

وعبيد بن عمير (١) ، على بنائه للمفعول (٢). وهو منقول بالهمزة من شرقت إذا طلعت ، وليس من أشرقت بمعنى أضاءت لأن ذلك لازم (٣) ، وجعله ابن عطيّة مثل رجع ورجعته ، ووقف ووقفته فيكون أشرق لازما ومتعديا (٤).

فصل

هذه الأرض عرصة القيامة وليست بأرضنا الآن لقوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) [إبراهيم : ٤٨] وقوله : (بِنُورِ رَبِّها) أي خالقها يتجلى الرب لفصل القضاء بين خلقه ، وقال الحسن والسدي : بنور ربها أي بعدل ربها قال عليه (الصلاة و) السلام : «إنكم سترون ربكم» وقال : «كما لا تضارّون في الشّمس في اليوم الصّحو» ، وقوله : (وَوُضِعَ الْكِتابُ) أي كتاب الأعمال لقوله : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) [الإسراء : ١٣] وقوله : (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها)(٥) [الكهف : ٤٩] وقيل : المراد بالكتاب اللوح المحفوظ.

وقوله : (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) قال ابن عباس : يعني الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة ، وهم أمة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقال عطاء ومقاتل : يعني الحفظة لقوله تعالى : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) [ق : ٢١] ، وقيل : أراد بالشهداء (٦) : المستشهدون في سبيل الله.

ثم قال : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ) أي بالعدل (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي يزادون في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) أن ثواب ما عملت. واعلم أنه تعالى لما بين أنه يوصل إلى كل أحد حقه عبر عن هذا المعنى بأربع عبارات :

أولها : قوله تعالى : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ)

وثانيها : قوله تعالى : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

وثالثها : قوله تعالى : (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ).

ورابعها : قوله تعالى : (وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) يعني أنه (إن) (٧) لم يكن عالما بكيفيات أحوالهم فلعله لا يقضي (إلا) (٨) بالحق لأجل عدم العلم أما إذا كان عالما

__________________

(١) ابن قتادة أبو عاصم الليثي المكي القاص وردت عنه الرواية في حروف القرآن عن عمر وأبيّ ، وعنه مجاهد وعطاء وغيرهما مات سنة ٧٤ ه‍ الغاية ١ / ٤٩٧.

(٢) من القراءة الشاذة غير المتواترة فقد رواها في المحتسب ابن جني ٢ / ٢٣٩ و ٢٤٠ وابن خالويه في المختصر ١٣٢.

(٣) هذا هو المفهوم من كلام أبي حيان في البحر ٧ / ٤٤١ وقد قال بذلك السمين في الدر ٤ / ٦٦٧.

(٤) السابقان.

(٥) وانظر ما مضى في تفسير الإمام الرازي ٢٧ / ١٧ و ١٨ و ١٩.

(٦) في ب بالشهيد مفردا.

(٧) لفظ إن سقط من ب.

(٨) زيادة من «أ».

٥٥٠

بمقادير أفعالهم وبكيفياتها امتنع دخول الخطأ عليه ، والمقصود من الآية المبالغة في تقرير أن كل مؤمن فإنه يصل إلى حقه ، قال عطاء يريد أنّي عالم بأفعالهم لا أحتاج إلى كاتب ولا شاهد (١).

قوله : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) لما شرح أحوال أهل القيامة على سبيل الإجمال وقال : (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) بين بعده كيفية أحوال العقاب ثم كيفية أحوال الثواب ، فأما شرح أحوال العقاب فهو هذه الآية وهذا السّوق يكون بالعنق والدفع بدليل قوله تعالى : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) [الطور : ١٣] أي يدفعون دفعا ، وقوله : (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً)(٢) [مريم : ٨٦].

قوله : «زمرا» حال ، و «زمر» جمع «زمرة» وهي الجماعات في تفرقة بعضها في إثر بعض ، و «تزمّروا» تجمعوا قال :

٤٣١١ ـ حتّى احزألّت زمر بعد زمر (٣)

هذا قول أبي عبيد (ة) (٤) ، والأخفش (٥) ، وقال الراغب : الزّمرة الجماعة القليلة ، ومنه شاة زمرة أي قليلة الشعر ، ورجل زمر أي قليل المروءة ، وزمرت النّعامة تزمر زمارا ومنه اشتق الزّمر. والزّمّارة كناية عن الفاجرة (٦).

قوله : (حَتَّى إِذا) تقدم الكلام في «حتى» الداخلة على «إذا» مرارا (٧) ، وجواب «إذا»

__________________

(١) وانظر : تفسير البغوي معالم التنزيل ٦ / ٨٥ ولباب التأويل للخازن ٦ / ٨٥ أيضا والتفسير الكبير للإمام فخر الدين الرازي ٢٧ / ١٩ و ٢٠.

(٢) وانظر : الرازي ٢٧ / ١٩ و ٢٠.

(٣) من الرجز ولم أعرف قائله. وقبله : إن العفاة بالسّيوب قد غمر. واحزألت اجتمعت وارتفعت في سيرها يعني الإبل التي تحمل العطايا وهي السيوب. والعفاة جمع عاف وهو طالب المعروف. وجيء بالبيت شاهدا على أن الزمرة بمعنى الجماعة تلو الجماعة. وانظر : القرطبي ١٥ / ٢٨٣ والكشاف ٣ / ٤١٠ وشرح شواهده ٤ / ٤٢٠ والبحر المحيط ٧ / ٤٣٧ واللسان «زمر» ١٨٦١ ، والمجاز ٢ / ١٩١.

(٤) انظر المجاز ٢ / ١٩١.

(٥) كذا قال أبو حيان في البحر ٧ / ٤٢٦ والسمين في الدر ٤ / ٦٦٧ ولم أجده في المعاني له ولعله في مرجع آخر من تأليفه.

(٦) مع اختلاف بسيط في عبارة الراغب في المفردات ٢١٥ وانظر أيضا اللسان : «ز م ر» ١٨٦١. وقد ذكر ابن منظور في اللسان المرجع السابق كثيرا من هذه المعاني وغيرها فارجع إليها إن أردت.

(٧) من ذلك قوله [النمل : ٨٥] «حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا» بِها عِلْماً. وحتى هذه من أوجهها أن تكون للابتداء كما هنا. وهذا هو قول الجمهور. دخلت على الجملة الفعلية التي فعلها ماض نحو : حتى عفوا ، وعارض ابن مالك والأخفش فزعما أن «حتى» جارة و «إذا» في موضع جر بها. والصواب ما عليه الجمهور من أنها حرف ابتداء وأن «إذا» في موضع نصب بشرطها أو جوابها ، والجواب محذوف ، انظر : اللباب ٧ / ٣٤٠ والمغني ١٢٩.

٥٥١

قوله : فتحت. وتقدم خلاف القراء في التشديد والتخفيف في سورة الأنعام (١).

قوله : (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ) قرأ ابن هرمز ألم تأتكم بتاء التأنيث لتأنيث الجمع (٢) ، و «منكم» صفة «لرسل» أو متعلق بالإتيان و «يتلون» صفة أخرى ، و «خالدين» في الموضعين حال مقدرة.

فصل

بين تعالى أنهم يساقون إلى جهنم فإذا جاءوها فتحت أبوابها ، وهذا يدل على أن أبواب جهنم تكون مغلقة قبل ذلك وإنما تفتح عند وصول الكفار إليها فإذا دخلوا جهنم قال لهم خزنة جهنم : ألم يأتكم رسل منكم أي من جنسكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا.

فإن قيل : لم أضيف اليوم إليهم؟.

فالجواب : أراد لقاء وقتكم هذا وهو وقت دخولهم النار لا يوم القيامة واستعمال لفظ اليوم (إليهم) (٣) والأيام في أوقات الشدة مستفيض فعند هذا تقول الكفار «بلى» أتونا وتلوا علينا (وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) أي وجبت كلمة العذاب على الكافرين وهي قوله عزوجل : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة : ١٣]. وهذا صريح في أن السعيد (لا ينقلب) (٤) شقيا والشقي لا ينقلب سعيدا ، ودلت الآية على أنه لا وجوب قبل مجيء (٥) الشرع لأن الملائكة بينوا أنهم ما بقي لهم عذر ولا علة بعد مجيء الأنبياء ـ عليهم (الصلاة و) السلام ـ ، (ولو) (٦) لم يكن مجيء الأنبياء شرطا في استحقاق العذاب لما بقي في هذا الكلام فائدة.

ثم إنّ الملائكة إذا (٧) سمعوا منهم هذا الكلام قالوا (٨) لهم : ادخلوا أبواب جهنّم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين.

(قالت المعتزلة (٩) : لو كان دخولهم النار لأجل أنهم حقت عليهم كلمة العذاب لم

__________________

(١) عند قوله : «فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ» من الآية ٤٤. فالتشديد قراءة ابن عامر وابن كثير ، ونافع ، والتخفيف قراءة عاصم والأخوين حمزة والكسائي والقراءات سبعية متواترة انظرها في السبعة ٥٦٤ والإتحاف ٢٠٨ و ٣٧٧.

(٢) هذه القراءة شاذة ورويت عن الحسن أيضا وقد ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٣٢ والسمين في الدر ٤ / ٦٦٨ وانظر أيضا الإعرابات المتعلقة بتلك الآية في المرجع الأخير السابق وهي قوله «منكم» و «خالدين».

(٣) سقط من ب.

(٤) سقط من «ب».

(٥) في ب النهي بدل مجيء.

(٦) «لو» سقطت من ب.

(٧) في ب لما.

(٨) في ب «قال» مفردا.

(٩) ما بين القوسين سقط من ب.

٥٥٢

يبق لقول الملائكة : (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) فائدة) ، وأجيبوا بأن (هذا) (١) الكلام إنما يبقى مفيدا إذا قلنا : إنهم إنما دخلوا النار لأنهم تكبروا (٢) على الأنبياء ولم يقبلوا قولهم ولم يلتفتوا إلى دلائلهم ، وذلك يدل على صحة قولنا. والله أعلم.

قوله : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً).

فإن قيل : السّوق في أهل النار معقول لأنهم لما أمروا بالذهاب إلى موضع العذاب لا بد وأن يساقوا إليه ، وأما أهل الثواب فإذا أمروا بالذهاب إلى موضع السعادة والراحة فأيّ حاجة فيه إلى السّوق؟!.

فالجواب : من وجوه :

الأول : أن المحبة والصداقة باقية بين المتقين يوم القيامة كما قال تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف : ٦٧]. فإذا قيل لواحد منهم : اذهب إلى الجنة فيقول : لا أدخلها إلا مع أحبّائي وأصدقائي فيتأخرون لهذا السبب فحينئذ يحتاجون إلى السّوق إلى الجنة.

والثاني : أن المتقين قد عبدوا الله لا للجنة ولا للنار فتصير شدة استغراقهم في مشاهدة مواقف الجلال مانعا لهم من الرغبة في الجنة فلا جرم يحتاجون إلى أن يساقوا إلى الجنة.

والثالث : أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «أكثر أهل الجنة البله» فلهذا السبب يساقون إلى الجنة.

الرابع : أن أهل النار وأهل الجنة يساقون إلا أن المراد بسوق أهل النار طردهم إليها بالهوان والشدّة كما يفعل بالأسير الذي يساق إلى الحبس والقتل ، والمراد بسوق أهل الجنة سوق مراكبهم لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين ، والمراد بذلك السوق إسراعهم إلى دار الكرامة والرّضوان كما يفعل بمن يكرم من الوافدين إلى الملوك فشتان ما بين السّوقين (٣).

قوله : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ) في جواب «إذا» ثلاثة أوجه :

أحدها : قوله : (وَفُتِحَتْ) والواو زائدة (٤). وهو رأي الكوفيين (٥) والأخفش (٦).

__________________

(١) كذلك.

(٢) في ب كفروا وكذبوا الأنبياء.

(٣) في ب الفريقين وما هنا في «أ» أعلى يوافق الرازي. وانظر هذا كله في الرازي ٢٧ / ٢٠ و ٢١. وقد سبقه ـ ولكن بإجمال ـ العلامة الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤١٠ و ٤١١.

(٤) وعبر عنها الزجاج ناقلا لهذا الرأي بسقطه أي زائدة تسقط تقديرا انظر : معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٣٧٣ والبيان ٢ / ٣٢٧ والتبيان ١١١٤ ومشكل إعراب القرآن ٢ / ٢٦١ والبحر ٧ / ٤٤٣ والدر المصون ٤ / ٦٦٨.

(٥) أورد ابن الأنباري في كتابه الإنصاف في مسائل الخلاف في المسألة ٦٤ من ص ٤٥٦ إلى ٤٦٢ مزيدا من التفصيل متناولا رأي كلّ فريق.

(٦) معاني القرآن له ٦٧٣.

٥٥٣

وإنّما جيء هنا بالواو دون التي قبلها لأن أبواب السجن تكون مغلقة إلى أن يجيئها صاحب الجريمة فيفتح(١) له ثم تغلق عليه فناسب ذلك عدم الواو فيها بخلاف أبواب السرور والفرح فإنها تفتح انتظارا لمن يدخلها فعلى ذلك أبواب جهنم تكون مغلقة لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها فأما أبواب الجنة ففتحها يكون متقدما على دخولهم إليها كما قال تعالى : (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ)(٢) [ص : ٥٠] فلذلك جيء بالواو فكأنه قيل : حتى إذا جاؤوها وقد فتحت أبوابها (٣).

والثاني : أن الجواب قوله : (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) على زيادة الواو أيضا أي حتى إذا جاءوها قال لهم خزنتها (٤).

والثالث : أن الجواب (٥) محذوف قال الزمخشري : وحقه أن يقدر بعد : «خالدين» انتهى (٦) يعني لأنه يجيء بعد متعلقات الشرط وما عطف عليه ، والتقدير : اطمأنّوا (٧) ، وقدره المبرد : سعدوا (٨) ، وعلى هذين الوجهين فتكون الجملة من قوله : (وَفُتِحَتْ) في محل نصب على الحال (٩). وقال البغوي : قال الزجاج : القول عندي أن الجواب محذوف تقديره : حتّى إذا جاءوها وفتحت أبوابها ، وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين «دخلوها». فحذف «دخلوها» لدلالة الكلام عليه(١٠) ، وسمى بعضهم الواو في قوله (وَفُتِحَتْ) واو الثمانية قال : لأن أبواب الجنة ثمانية وكذا قالوا في قوله : (وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ)(١١) [الكهف : ٢٢]. وقيل : تقديره : حتى إذا جاءوها (جاءوها) (١٢) وفتحت أبوابها (١٣) يعني أن الجواب بلفظ الشرط ، ولكنه بزيادة تقييده بالحال فلذلك صحّ (١٤).

__________________

(١) في ب فتفتح بالتاء.

(٢) وانظر : الكشاف ٣ / ٤١١ والسمين في دره ٤ / ٦٦٨.

(٣) الكشاف المرجع السابق.

(٤) نقله البيان ٢ / ٣٢٧ والقرطبي ١٥ / ٢٨٥ والمشكل ٢ / ٢٦١ والدر المصون ٤ / ٦٦٧.

(٥) وهو المرجح لدى الغالبية فقد رجحه أبو البقاء والزجاج والمبرد وابن الأنباري.

(٦) وها هو الزمخشري يرجح أيضا الحذف حذف الجواب فيقول : «والجملة بعدها ـ يقصد حتى ـ هي الشرطية إلا أن جزاءها محذوف وإنما حذف لأنه في صفة ثواب أهل الجنة فدل بحذفه على أنه شيء لا يحيط به الوصف وحق موقعه ما بعد خالدين». الكشاف ٣ / ٤١١.

(٧) هذا توضيح شهاب الدين السمين لكلام الزمخشري انظر : الدر المصون ٤ / ٦٦٨.

(٨) المرجع السابق. وانظر أيضا بحر أبي حيان ٧ / ٤٤٣. وأورد ابن خالويه في الحجة رأي المبرد أيضا ٣١٢ وفي المقتضب ٢ / ٧٨ ظهر رأي المبرد بالحذف ـ حذف الجواب ـ مبطلا قول الكوفيين بزيادة الواو ولكنه لم يذهب إلى التقدير الذي أثر عنه وهو سعدوا.

(٩) الدر المصون المرجع السّابق.

(١٠) معاني القرآن وإعرابه المرجع السابق وانظر معالم التنزيل للبغوي ٦ / ٨٦.

(١١) نقل هذا الرأي السمين في المرجع السابق ٤ / ٦٦٨ و ٦٦٩.

(١٢) سقط من ب.

(١٣) نقله الزمخشري في الكشاف ٤١١.

(١٤) بتوضيح من السمين في المرجع السابق.

٥٥٤

قوله : (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) يريد أن خزنة الجنة يسلمون عليهم ويقولون : طبتم قال ابن عباس : طاب لكم المقام. وقال قتادة : إنهم إذا قطعوا النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص بعضهم من بعد حتى إذا هذبوا وطيبوا أدخلوا الجنة فيقول لهم رضوان وأصحابه : سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين (١).

وروي عن علي قال : سيقوا إلى الجنة فإذا انتهوا إليها وجدوا عند بابها شجرة يخرج من تحت ساقها عينان فيغتسل المؤمن من إحديهما فيطهر ظاهره ويشرب من الأخرى فيطهر باطنه وتتلقاهم الملائكة على أبواب الجنة يقولون : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) فعند ذلك يقول المتقون : الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض أي أرض الجنة وهو قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء : ١٠٥].

قوله : «نتبوّأ» جملة حالية و «حيث» مفعول به (٢) ، ويجوز أن تكون ظرفا على بابها ، وهو الظاهر (٣) ، قال ابن الخطيب : إنما عبر عن أرض الجنة بالأرض لوجوه :

الأول : أن الجنة كانت في أول الأمر لآدم ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ لأنه تعالى قال : (وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما) [البقرة : ٣٥] فلما عادت الجنة إلى أولاد آدم كان ذلك سببا للإرث.

الثاني : أن هذا اللفظ مأخوذ من قول القائل : هذا الذي (٤) أورث كذا وهذا العمل أورث كذا. فلما كانت طاعاتهم قد أفادتهم الجنة لا جرم قالوا : وأورثنا الأرض ، والمعنى أن الله تعالى أورثنا الجنة بأن وفقنا للإتيان بأعمال أورثت الجنّة.

الثالث : أن الوارث يتصرف فيما يرثه كيف يشاء من غير منازع فكذلك المؤمنون المتقون يتصرفون في الجنة حين شاءوا وأرادوا.

فإن قيل : هل يتبوأ أحدهم مكان غيره؟.

فالجواب : يكون لكل واحد منهم جنة لا يحتاج معها إلى جنة غيره.

ثم قال تعالى : (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي ثواب المطيعين ، قال مقاتل : هذا ليس من كلام أهل الجنة بل الله تعالى لما حكى ما جرى بين الملائكة وبين المتقين من صفة ثواب أهل الجنة قال بعده : (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ)(٥).

قوله : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) حافّين جمع حافّ : وهو المحدق

__________________

(١) وانظر معالم التنزيل للبغوي ٦ / ٨٦.

(٢) قاله في الدر المصون ٤ / ٦٦٩ والتبيان ١١١٤.

(٣) الدر المصون السابق.

(٤) في ب هذا القول.

(٥) وانظر الرازي ٢٧ / ٢٠ و ٢١.

٥٥٥

بالشيء من حففت بالشيء إذا أحطت (١) به ، قال :

٤٣١٢ ـ يحفّه جانبا نيق ويتبعه

مثل الزّجاجة لم تكحل من الرّمد (٢)

وهو مأخوذ من الحفاف وهو الجانب قال :

٤٣١٣ ـ له لحظات عن حفافي سريره

إذا كرّها فيها عقاب ونائل (٣)

وقال الفراء ـ وتبعه الزمخشري (٤) ـ لا واحد لحافّين وكأنهما (٥) رأيا أن الواحد لا يكون «حافّا» إذ الحفوف هو الإحداق بالشيء والإحاطة به وهذا لا يتحقق إلا في جمع (٦).

فصل

لما ذكر صفة (الثواب) ثواب البشر ذكر عقيبه ثواب الملائكة فكما دار ثواب المتقين هو الجنة فكذلك دار ثواب الملائكة جوانب العرش فقال : (حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) أي محدقين محيطين بالعرش بحفافيه أي جوانبه ، قال الليث حفّ القوم بسيّدهم يحفّون حفّا إذا طافوا به (٧).

قوله : (مِنْ حَوْلِ) في «من» وجهان :

أحدهما ، وهو قول الأخفش : أنها مزيدة (٨).

والثاني : أنها للابتداء (٩).

__________________

(١) اللسان «ح ف ف» ٩٣.

(٢) من البسيط للنابغة الذبياني من قصيدة في مدح النعمان والاعتذار إليه. والضمير في «يحفه» راجع إلى سرب الحمام في بيت سابق فيما ذكر من قصة زرقاء اليمامة ، و «يحفه» : يحيط به من كل جوانبه وذلك هو موطن الشاهد في البيت. والنيق : الحبل ويتبعه مثل الزجاجة يقصد أن عينيها صافيتان مثل صفاء الزجاجة وعينها لم يصبها رمد فتكتحل لتشفى منه الديوان ٣٤ والبحر ٧ / ٤٢٧ والمفضليات ٧٢٢ و ٨٧٩.

(٣) من بحر الطويل لابن هرمة واللحظات مفردها لحظة وهي النظرة الخاطفة ، وكرّها أعادها ، والعقاب : العقوبة ونائل : الثواب. والمعنى أن فراسته ترهب الخائنين ويعجل العطاء لمن قصده طالبا فضله. والشاهد في «حفافي سريره» فإن الحفاف هو الجانب. وانظر البيت هو وسابقه في الدر المصون ٤ / ٦٦٩ والبحر ٧ / ٤٢٧ ومفردات الراغب الأصفهاني ١٢٣ والبداية والنهاية ١ / ١٧١٠ وذيل الأمالي والنوادر لأبي علي القالي ٤٠ والديوان ١٦٨.

(٤) كذا نقل الإمام مكي في المشكل ٢ / ٢٦٢ والسمين في الدر ٤ / ٦٦٩ وأبو حيان في البحر ٧ / ٤٤٣ ولم أعثر عليه في كتابيهما معاني القرآن والكشاف ونقله القرطبي في الجامع عن الفراء ١٥ / ٢٨٧.

(٥) في ب وكأنما.

(٦) الدر ٤ / ٦٦٩.

(٧) اللسان خفف ٩٣٠.

(٨) معاني القرآن ٦٧٣.

(٩) البحر ٧ / ٤٤٣ والدر ٤ / ٦٦٩.

٥٥٦

وقوله (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) «يسبحون» حال من الضمير في «حافين» (١) ، قيل هذا تسبيح تلذذ لا تسبيح تعبد ، لأن التكليف يزول (٢) في ذلك اليوم. وهذا يشعر بأن ثوابهم هو عين ذلك التسبيح (٣).

قوله : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ) هذا الضمير إما للملائكة ، وإما للعباد (ة) (٤) ، وقيل : قضي بين أهل الجنة والنار بالعدل. (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). وقيل : إن الملائكة لما قضي بينهم (بالحق) (٥) قالوا : الحمد لله رب العالمين على قضائه بيننا بالحق.

روى أبو أمامة عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (وشرف وكرم وبجل (٦) ومجد وعظم) (٧) : «من قرأ سورة الزّمر لم يقطع الله رجاءه وأعطاه ثواب الخائفين» (٨). وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقرأ كلّ ليلة بني إسرائيل والزّمر (٩). رواهما الثعلبي في تفسيره. والله (تعالى) (١٠) أعلم.

(تم الجزء الثاني (١١) عشر بحمد الله وعونه وحسن توفيقه. ويتلوه إن شاء الله أول سورة غافر).

تمّ الجزء السّادس عشر ، ويليه الجزء السّابع عشر

وأوّله : تفسير سورة غافر

__________________

(١) التبيان ١١١٤.

(٢) في ب نزوله وفي البغوي متروك.

(٣) معالم التنزيل ٦ / ٨٦.

(٤) التاء زيادة من ب.

(٥) زيادة من (أ).

(٦) الكشاف ٣ / ٤١١ والقرطبي ١٥ / ٢٨٧.

(٧) ما بين القوسين كله زيادة من ب.

(٨) في ب الحافين والكشاف السابق ومجمع البيان السابق ٨ / ٧٦٠ والسراج المنير ٣ / ٤٦٥ والبيضاوي ٢ / ١٧٥.

(٩) الكشاف والبيضاوي السابقين وفتح القدير ٤ / ٤٤٧.

(١٠) زيادة من ب.

(١١) زيادة من (أ).

٥٥٧
٥٥٨

فهرس محتويات

الجزء السادس عشر

من

اللباب

٥٥٩
٥٦٠