اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٧٤

فأضيف التوفّي في آية إلى الله تعالى وهي الإضافة الحقيقة ، وفي آية إلى ملك الموت لأن الرئيس في هذا العمل وفي آية إلى أتباعه والله أعلم (١).

قوله : (أَمِ اتَّخَذُوا) أم منقطعة فتقدر ببل والهمزة (٢).

واعلم أن الكفار أوردوا على هذا الكلام سؤالا قالوا : نحن لا نعبد هذه الأصنام لاعتقاد أنها تضر وتنفع وإنما نعبدها لأجل أنها تماثيل لأشخاص كانوا عنده من المقربين فنحن نعبدها لأجل أن يصير أولئك الأكابر شفعاء فأجاب الله تعالى بأن قال (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ)(٣).

قوله : (قُلْ أَوَلَوْ كانُوا) تقدم الكلام على نحو «أولو» وكيف هذا التركيب (٤) ، والمعنى قل يا محمّد أولو كانوا أي وإن كانوا يعني الآلهة (لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً) من الشفاعة (وَلا يَعْقِلُونَ) أنكم تعبدونهم ، وجواب هذا محذوف تقديره وإن كانوا بهذه الصفة تتخذونهم (٥).

قوله : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) قال مجاهد : لا يشفع أحد إلا بإذنه (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

قوله : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ) نفرت ، قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل : أي انقبضت عن التّوحيد وقال قتادة استكبرت ، وأصل الاشمئزاز النّفور والاستكبار (٦)(قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) وهذا نوع آخر من أعمال المشركين القبيحة (وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) يعني الأصنام (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) يعني يفرحون. قال مجاهد ومقاتل : وذلك حين قرأ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سورة والنجم فألقى الشيطان في أمنيّته «تلك الغرانيق (٧) العلا» ففرح به الكفار.

قوله : (وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ) قال الزمخشري : فإن قلت : ما العامل في : (إِذا ذُكِرَ)؟

__________________

(١) وانظر هذا مع تغيير طفيف في الرازي ٢٦ / ٢٨٥.

(٢) قاله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٠٠ والسمين في الدر ٤ / ٦٥٤.

(٣) الرازي السابق.

(٤) لعل المؤلف يقصد : «أفمن شرح الله ، وأ فمن يتقي» مما تدخل عليه همزة الاستفهام من الواو وقد سبق رأي الجمهور بما فيهم سيبويه ورأي الزمخشري.

(٥) قاله الإمام البغوي في معالم التنزيل ٦ / ٧٨.

(٦) قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه : ٤ / ٣٥٦ وانظر أيضا مجاز القرآن لأبي عبيدة ٢ / ١٩٠ ولسان العرب لابن منظور «ش م ز» ٢٣٢٤.

(٧) هي الأصنام وهي في الأصل الذكور من طير الماء وواحدها غرنوق وغرنيق سمي به لبياضه وقيل : هي الكركي ويجوز أن تكون جمع الغرانق وهو الحسن ، وانظر تفاصيل أخرى لها في اللسان «غ ر ن ق» ٣٢٤٩.

٥٢١

قلت : العامل فيه «إذا» الفجائية (١) تقديره وقت ذكر الّذين من دونه فاجأوا وقت الاستبشار(٢).

قال أبو حيان : أما قول الزمخشري فلا أعلمه من قول من ينتمي إلى النحو وهو أن الظرفين معمولان (٣) «لفاجأوا» ثمّ «إذا» الأولى تنصب على الظرفية والثانية على المفعولية (٤). وقال الحوفي : (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) «إذا» مضافة إلى الابتداء والخبر ، و «إذا» مكررة للتوكيد ، وحذف ما يضاف إليه ، والتقدير : إذا كان ذلك هم يستبشرون ، فيكون (هم يستبشرون) هو العامل في «إذا» المعنى : إذا كان كذلك استبشروا (٥).

قال أبو حيان : هذا يبعد (٦) جدا عن الصواب إذا (٧) جعل «إذا» مضافة إلى الابتداء والخبر ، ثم قال و «إذا» مكررة للتوكيد وحذف ما يضاف (٨) إليه إلى آخر كلامه. (فإذا كانت (٩) إذا حذف ما يضاف إليه) فكيف تكون مضافة إلى الإبتداء والخبر الذي هو (هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)! وهذا كله يوجبه عدم الإتقان لعلم النحو والتحذق (١٠) فيه ، انتهى (١١).

قال شهاب الدين : وفي هذه العبارة تحامل على أهل العلم المرجوع إليهم فيه (١٢). واختار أبو حيان أن يكون العامل في «إذا» الشرطية الفعل بعدها لا جوابها وأنها ليست مضافة لما بعدها سواء كانت زمانا أم مكانا أما إذا قيل : إنها حرف فلا يحتاج إلى عامل. وهي رابطة لجملة الجزاء بالشرط كالفاء (١٣).

والاشمئزاز النفور والتّقبض (١٤) ، وقال أبو زيد : هو الذعر (١٥) ، اشمأزّ فلان أي ذعر ووزنه افعللّ كاقشعرّ ، قال الشاعر :

__________________

(١) في الكشاف : العامل في إذا المفاجأة.

(٢) نقله الكشاف ٣ / ٤٠١.

(٣) في البحر : معمولان لعامل واحد ثم إذا الأولى ...

(٤) وفيه : على المفعول به. وانظر بحر أبي حيان ٧ / ٤٣١.

(٥) المرجع السابق وانظر كذلك الدر المصون لشهاب الدين السمين ٤ / ٦٥٥.

(٦) في البحر : فبعيد جدّا.

(٧) نقله المؤلف عن السمين ففي السمين «إذا» المستقبلية وفي البحر «إذ» التعليلية الماضوية.

(٨) في البحر : تضاف بالتاء.

(٩) ما بين القوسين زيادة توضيحية من السمين في «الدرّ» عن البحر المحيط. انظر الدر ٤ / ٦٥٥.

(١٠) في البحر : والتحدث من الحديث لا من الحذق وما أثبته المؤلف هو ما أثبته صاحب الدر المصون السابق.

(١١) البحر ٧ / ٤٣١ ، ٤٣٢.

(١٢) الدر المصون ٤ / ٦٥٥ وذلك أنه كعادته قد تعقب الزمخشري ومن بعده الحوفي ونسب إليهم عدم التحري والدقة في النحو.

(١٣) انظر البحر المحيط ٧ / ٤٣٢.

(١٤) انظر : المراجع السابقة.

(١٥) قاله في اللسان «شمز» ٢٣٢٤.

٥٢٢

٤٣٠٢ ـ إذا عضّ الثّقاف بها اشمأزّت

وولّته عشوزنة زبونا (١)

قال الزمخشري : ولقد تقابل الاستبشار والاشمئزاز إذ كل واحد منهما في بابه لأن الاستبشار أن يمتلىء قلبه سرورا حتى يظهر ذلك السرور في أسرّة (٢) وجهه ويتهلّل ، والاشمئزاز أن يعظم (غمّه) (٣) وغيظه فينقبض الروح إلى داخل القلب فيبقى في أديم الوجه أثر الغبرة والظلمة الأرضية (٤).

قوله تعالى : (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٥٢)

ولما حكى هذا الأمر العجيب الذي تشهد فطرة العقل بفساده أردفه بذكر الدعاء العظيم فقال : (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) روى أبو سلمة قال سألت عائشة بم كان يفتتح رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ صلاته بالليل؟ قالت : كان يقول : «اللهمّ ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لم (٥) اختلف فيه الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم».

__________________

(١) البيت جاهلي اللفظ فهو لعمرو بن كلثوم من معلقته وهو من الوافر والثّقاف : ما تقوم به الرماح واشمأزت أي نفرت وهو محل الشاهد هنا حيث إن الاشمئزاز بمعنى النفور والتقبض ، وعشوزنة صلبة وزبون تدفع وتضرب برجلها والزبون وصف للعشوزنة يقول : إن رماح قومه قوية تدفع الأعداء فلا ينالون منهم. وانظر : السبع الطوال لابن الأنباري ٤٠٤ والقرطبي ١٥ / ٢٦٤ بلفظ «وولتهم». وانظر شرح معلقة عمرو هذه لابن كيسان ٨٥ واللسان «ثقف» ٤٩٢ والبحر ٧ / ٤٢٦ والدر ٤ / ٦٥٥.

(٢) في الكشاف : بشرة وجهه.

(٣) تكملة من الكشاف فهي بياض من النسخ.

(٤) بالمعنى من الكشاف ٣ / ٤٠١ وباللفظ من الفخر الرازي الذي نقل عنه رأيه هذا معنى ٢٦ / ٢٨٦.

(٥) الأصح : لما اختلف أي للذي اختلف وانظر معالم التنزيل للبغوي ٦ / ٧٨ وتفسير الرازي ٢٦ / ٢٨٦.

٥٢٣

ولمّا حكى عنهم هذا المذهب الباطل ذكر في وعيدهم أشياء :

أولها : أن هؤلاء الكفار لو ملكوا كل ما في الأرض من الأمور (١) وملكوا مثله معه جعلوا الكل فدية لأنفسهم من العذاب الشديد.

وثانيها : قوله : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) أي ظهرت لهم أنواع من العذاب(٢) لم يكن في حسابهم ، وهذا كقوله ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ في صفة الثواب في الجنة : «فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» فكذلك حصل في العقاب مثله وهو قوله: (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)(٣) وقال مقاتل : ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتسبوا في الدنيا أنه نازل بهم في الآخرة. وقال السدي : ظنوا أن أعمالهم حسنات فبدت لهم سيئات والمعنى أنهم كانوا يتقربون إلى الله بعبادة الأصنام فلما عوقبوا عليها بدا لهم من الله ما لم يحتسبوا.

وثالثها : قوله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي مساوىء أعمالهم من الشرك وظلم أولياء الله (٤)(وَحاقَ بِهِمْ) أي أحاط بهم من جميع الجوانب (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) فنبه تعالى بهذه الوجوه على عظم عقابهم (٥).

قوله : (سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) يجوز أن يكون «ما» مصدرية أي سيئات كسبهم أو بمعنى الذي أي سيئات أعمالهم التي اكتسبوها (٦).

قوله : (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ...) الآية. وهذه حكاية طريقة أخرى من طرائقهم الفاسدة وهي أنهم عند الوقوع في الضر الذي هو الفقر والمرض يفزعون إلى الله تعالى ويرون أن دفع ذلك البلاء لا يكون إلا منه ، ثم إنه تعالى إذا خوّله أعطاه نعمة يقول : إنما أوتيته على علم أي علم من الله أني أهل له.

وقيل : إن كان ذلك سعادة (٧) في الحال أو عافية في النفس يقول إنما حصل له ذلك بجدّه واجتهاده ، وإن كان مالا يقول : إنما أوتيته بكسبي وإن كان صحة قال : إنما حصل بسبب العلاج الفلاني ، وهذا تناقض عظيم ، لأنه لما كان عاجزا محتاجا أضاف الكل إلى الله وفي حال السلامة والصحة قطعه من الله وأسنده إلى كسب نفسه وهذا تناقض قبيح (٨).

__________________

(١) في الرازي : من الأموال.

(٢) وفيه : العقاب.

(٣) انظر الرازي ٢٦ / ٢٨٧.

(٤) نقله البغوي والخازن في تفسيريهما اللباب ومعالم التنزيل.

(٥) الرازي السابق. والحيق ما حاق بالإنسان من مكر أو سوء عمل يعمله فينزل ذلك به. اللسان : «ح ي ق» ١٠٧٢ ومجاز القرآن ٢ / ١٩٠.

(٦) هو معنى كلام الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٠١ قال أي سيئات أعمالهم التي كسبوها أو سيئات كسبهم حين تعرض صحائفهم. وانظر : الدر المصون ٤ / ٦٥٦.

(٧) في الرازي سعة.

(٨) مع تصرف من المؤلف في عبارة الرازي ٢٦ / ٢٨٧ ، ٢٨٨. والتّخويل مختص بالتفضل يقال : خولني ـ

٥٢٤

قوله : (إِنَّما أُوتِيتُهُ) يجوز أن تكون (ما) مهيئة زائدة على نحو : إنما قام زيد ، وأن تكون موصولة ، والضمير عائد عليها من : «أوتيته» أي إن الذي أوتيته على علم مني ، أو على علم من الله في أني (١) أستحق ذلك.

قوله : (بَلْ هِيَ) الضمير للنعمة ذكرها أولا في قوله : (إِنَّما أُوتِيتُهُ) لأنها بمعنى الإنعام ، وقيل : تقديره «شيئا». وأنّث هنا اعتبارا بلفظها ، وقيل : بل الحالة أو الإتيانة (٢) ، وإنما عظمت هذه الجملة وهي قوله : (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ) بالفاء والتي في أول السورة بالواو لأن هذه مسببة عن قوله: (وَإِذا ذُكِرَ) أي يشمئزون من ذكر الله ويستبشرون بذكر آلهتهم فإذا مس أحدهم بخلاف الأولى حيث لا تسبب فيها ، فجيء بالواو التي لمطلق العطف وعلى هذا فما بين السبب والمسبب جمل اعتراضية. قال معناه الزمخشري (٣).

واستبعده أبو حيان من حيث إن أبا عليّ يمنع الاعتراض بجملتين فكيف بهذه الجمل الكثيرة؟(٤).

ثم قال : «والذي يظهر في الربط أنه لما قال : (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ...) الآية كان ذلك إشعارا بما ينال الظالمين من شدة العذاب وأنه يظهر لهم القيامة من العذاب (٥) أتبع ذلك بما يدل على ظلمه وبغيه إذ كان إذا مسه ضر دعا الله فإذا أحسن إليه لم ينسب ذلك إليه» (٦). وقال ابن الخطيب : إن السبب في عطف هذه الآية بالفاء أنه تعالى حكى عنهم قبل هذه الآية أنهم يشمئزّون من سماع التوحيد ، ويستبشرون بسماع ذكر الشركاء ، ثم ذكر «بفاء» التعقيب أنهم إذا وقعوا (٧) في الضرر والبلاء التجأوا (٨) إلى الله وحده ، فكان الفعل الأول مناقضا للفعل الثاني ، فذكر بفاء التّعقيب ليدل به على أنهم واقعون في المناقضة الصريحة في الحال وأنه ليس بين الأول والثاني فاصل (٩) مع أن كل واحد منهما مناقض للثاني ، فهذا فائدة ذكر فاء التعقيب ههنا وأما الآية الأولى فليس المقصود منها بيان وقوعهم في التناقض في الحال فلا جرم ذكره تعالى بحرف الواو لا بحرف الفاء (١٠).

__________________

ـ إذا أعطاك على غير جزاء الكشاف ٣ / ٤٠١ ، ٤٠٢ ومعاني القرآن وإعرابه ٤ / ٣٥٧.

(١) في الدر المصون : فيّ أي أستحق ذلك. وهذان الوجهان قال بهما الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٠٢ والسمين في الدر ٤ / ٦٥٦. واختار أبو حيان الوجه الأول قال : «والظاهر أن (ما) في أنها كافة مهيئة لدخول أن على الجملة الفعلية» البحر ٧ / ٤٣٣.

(٢) اسم مرة من غير ثلاثي وانظر هذه الأقوال في المراجع السوابق.

(٣) في الكشاف المرجع السابق وذكره أبو حيان وعقب عليه كما سيأتي كما ذكره صاحب الدر المصون ٤ / ٦٥٦ وهو ما ذكره المؤلف أعلى.

(٤) قال أبو حيان معقبا على هذا العطف وهو ملتقط أكثره من كلام الزمخشري وهو متكلف.

(٥) في البحر بعده «ما لم يكن في حسبانهم».

(٦) البحر المحيط ٧ / ٤٣٣.

(٧) في الرازي : وقعوا في الضرّ بدل الضرر.

(٨) وفيه : والتجأو بالواو.

(٩) في أ : فاصلة.

(١٠) مع تصرف بسيط في مقولته تلك انظر الفخر الرازي ٢٦ / ٢٨٨.

٥٢٥

ومعنى قوله : «فتنة» استدراج من الله تعالى وامتحان.

قوله : (قَدْ قالَهَا) أي قال القولة المذكورة وهي قوله : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) لأنها كلمة أو جملة من القول (١). وقرىء : قد قاله أي هذا القول أو الكلام (٢). والمراد بالذين من قبلهم قارون وقومه ، حيث قال : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص : ٧٨] وقومه راضون به فكأنهم قالوها ، ويجوز أن يكون في الأمم الماضية قائلون مثلها (٣).

قوله : (فَما أَغْنى) يجوز أن يكون «ما» هذه نافية أو استفهامية مؤولة بالنفي (٤). وإذا احتجنا إلى تأويلها بالنفي فلنجعلها نافية استراحة من المجاز. ومعنى الآية ما أغنى عنهم الكفر من العذاب شيئا.

قوله : (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي جزاؤها يعني العذاب ، ثم أوعد كفار مكة فقال : (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) ، ثم قال : (وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي بفائتين لأن مرجعهم إلى الله ـ عزوجل (٥) ـ.

قوله : (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) يعني أو لم يعلموا أن الله هو الذي يبسط الرزق تارة ويقبض أخرى ، ويدل على ذلك أنا نرى الناس مختلفين في سعة الرزق وضيقه فلا بد لذلك من سبب وذلك السبب ليس هو عقل الرجل وجهله لأنا نرى العاقل القادر في أشد الضيق ونرى الجاهل الضعيف في أعظم السّعة وليس ذلك أيضا لأجل الطبائع والأنجم والأفلاك لأن في الساعة التي ولد فيها ذلك الملك الكريم (٦) والسّلطان القاهر قد ولد فيها أيضا عالم من الناس وعالم من الحيوانات غير الإنسان ويولد أيضا في تلك الساعة عالم من النبات ، فلما شاهدنا حدوث هذه الأشياء الكثيرة في تلك الساعة الواحدة مع كونها مختلفة في السعادة والشقاوة علمنا أن الفاعل لذلك هو الله تعالى فصح بهذا البرهان (العقلي) (٧) القاطع صحة قوله تعالى : (اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) وقال الشاعر :

٤٣٠٣ ـ فلا السّعد يقضي به المشتري

ولا النّحس يقضي علينا زحل

ولكنّه حكم ربّ السّما

وقاضي القضاة تعالى وجل

قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) حكى هذه القراءة في كتابه أبو حيان في البحر ٧ / ٤٣٣ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٠٣.

(٣) نقله في الرازي السابق وفي الكشاف ٣ / ٤٠٣.

(٤) قال بهذين الوجهين أبو حيان في البحر ٧ / ٤٣٣ والسمين في الدر ٤ / ٦٥٦.

(٥) وانظر هذه التوضيحات في معالم التنزيل للبغوي ٦ / ٧٩ والخازن في لباب التأويل.

(٦) في الرازي «الكبير» بدل «الكريم» «٢٦ / ٢٨٩».

(٧) سقط من ب.

٥٢٦

إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٦١)

قوله (تعالى) (١) : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ...) الآية لما ذكر الوعيد أردفه بشرح كمال رحمته وفضله ، قيل : في هذه الآية أنواع من المعاني والبينات حسنة منها إقباله عليهم ونداؤهم ومنها إضافتهم إلى الله إضافة تشريف ومنها الالتفات من التكلم إلى الخطاب (٢) ، في قوله : (مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) ومنها إضافة الرحمة لأجل أسمائه الحسنى ، ومنها إعادة الظاهر بلفظه في قوله : «إنّ الله ، ومنها : إبراز الجملة من قوله (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) مؤكدة ب «إنّ» ، وبالفصل ، وبإعادة الصّفتين اللتين تضمنتهما الآية السابقة (٣).

فصل

روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن ناسا من أهل الشرك كانوا قتلوا وأكثروا فأتوا النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقالوا (٤) : إن الذي تدعو إليه لحسن إن كان لما عملنا كفارة فنزلت هذه الآية ، وروى عطاء بن رباح عن ابن عباس أنها نزلت في وحشيّ (٥) قاتل حمزة حين بعث إليه النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يدعوه إلى الإسلام فأرسل إليه كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أنه من قتل أو أشرك أو زنا (يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الفرقان : ٦٨ و ٦٩] وأنا قد فعلت ذلك كله فأنزل الله : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) [الفرقان :

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في ب والسمين والبحر وهو الأصح : الغيبة وليس بالخطاب.

(٣) وانظر هذا كله بالمعنى من بحر أبي حيان ٧ / ٤٣٤ وباللفظ من الدر المصون ٤ / ٦٥٧.

(٤) في ب : وقال بالإفراد.

(٥) هو وحشيّ بن حرب ويكنى أبا وسمة ، وكان من سودان مكة عبدا لجبير بن مطعم قتل حمزة وأتى النبي مسلما وهو أول من حد بالشام في الخمر. المعارف لابن قتيبة ٣٣٠.

٥٢٧

٧٠] فقال وحشيّ : هذا شرط شديد لعلّي لا أقدر عليه فهل غير ذلك فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ١١٦] فقال وحشي : أراني بعد في شبهة فلا أدري أيغفر لي أم لا فأنزل الله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) قال وحشي : نعم هذا فجاء وأسلم فقال المسلمون : هذا له خاصة أم للمسلمين عامة؟ قال : بل للمسلمين عامة.

وروي عن ابن عمر قال : نزلت هذه الآية في عياش بن (١) أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا وكنا نقول لا يقبل الله من هؤلاء صرفا ولا عدلا أبدا (قوم) (٢) قد أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا فيه ، فأنزل الله هذه الآيات فكتبها عمر بن الخطاب بيده ثم بعث بها إلى عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا. واعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (٣).

فصل

دلت هذه الآية على أنه تعالى يعفو عن الكبائر لأن عرف القرآن جار بتخصيص اسم العباد بالمؤمنين قال تعالى : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) [الفرقان : ٦٣] وقال : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) [الإنسان : ٦] وإذا كان لفظ العبد مذكورا في معرض التعظيم وجب أن لا يقع إلا على المؤمنين وإذا ثبت هذا ظهر أن قوله : (يا عِبادِيَ) مختص بالمؤمنين ، ولأن المؤمن هو الذي يعترف بكونه عبد الله وأما المشركون فإنهم يسمون أنفسهم بعبد اللات وعبد العزّى (وعبد (٤) المسيح). وإذا ثبت ذلك فقوله تعالى : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) عام في جميع المسرفين ، ثم قال : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) وهذا يقتضي كونه غافرا لجميع الذنوب الصادرة عن المؤمنين وهو المطلوب.

فإن قيل : هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها وإلا لزم القطع بكون الذنوب مغفورة قطعا وأنتم لا تقولون به فسقط الاستدلال ، وأيضا فإنه تعالى قال عقيب هذه الآية (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ...) الآية ؛ ولو كان المراد من الآية أنه تعالى يغفر الذنوب قطعا لما أمر عقيبه بالتوبة ، ولما خوفهم بنزول العذاب عليهم من حيث لا يشعرون وأيضا قال : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ ...) الآية ؛ وأيضا لو كان المراد ما دل عليه ظاهر الآية لكان ذلك إغراء بالمعاصي

__________________

(١) عمرو بن المغيرة المخزومي هاجر إلى الحبشة له أحاديث وعنه أنس وعبد الرحمن بن سابط قتل يوم اليرموك أو اليمامة. وانظر : الخلاصة ٣٠٠.

(٢) زيادة من البغوي. وانظر : البغوي والخازن ٦ / ٧٩ و ٨٠ والقرطبي ١٥ / ٢٦٨ و ٢٦٩ والكشاف ٣ / ٤٠٣.

(٣) البغوي والمراجع السابقة.

(٤) ما بين القوسين سقط من ب.

٥٢٨

وإطلاقا في الإقدام عليها وذلك لا يليق بحكمة الله تعالى. وإذا ثبت هذا وجب أن يحمل على أن المراد منه التنبيه على أنه لا يجوز أن يظن (العاصي) (١) أن لا مخلص له من العذاب البتة فإن اعتقد ذلك فهو قانط جميعا أي بالتوبة والإنابة.

فالجواب : (قوله) (٢) إن الآية تقتضي كون كل الذنوب مغفورة قطعا وأنتم لا تقولون (٣) به قلنا : بلى نحن نقول به لأن صيغة «يغفر» للمضارع وهي الاستقبال وعندنا أن الله يخرج من النار من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وعلى هذا التقدير فصاحب الكبيرة مغفور له قطعا إما قبل دخول النار وإما بعد دخولها فثبت أن دلالة ظاهر الآية عين مذهبنا وأما قوله : لو صارت الذنوب بأسرها مغفورة لما أمر بالتوبة.

فالجواب : أن عندنا التوبة واجبة وخوف العقاب قائم فإذن لا يقطع بإزالة العقاب (٤) بالكلية بل نقول لعله يعفو (٥) مطلقا ولعله يعذب بالنار مدة ثم يعفو بعد ذلك وبهذا يخرج الجواب عن بقية الأسئلة والله أعلم (٦).

وروى مقاتل بن حيّان عن نافع عن ابن عمر قال : كنا معشر أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نرى أو نقول ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) [محمد : ١٠] فلما نزلت هذه الآية قلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا : الكبائر والفواحش وكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها (قلنا : قد (٧) هلك فأنزل الله هذه الآية فكففنا عن القول في ذلك ، فكنا إذا رأينا أحدا أصاب) منها شيئا خفنا عليه وإن لم يصب منها شيئا رجونا له ، وأراد بالإسراف ارتكاب الكبائر. (وروي) (٨) عن ابن مسعود أنه دخل المسجد فإذا قاصّ (يقصّ) (٩) وهو يذكر النار والأغلال فقام على رأسه فقال : يا مذكّر لم تقنّط النا؟ ثمّ قرأ : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ). وعن أسماء بنت يزيد (١٠) قالت : سمعت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول : يا عبادي (١١) الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله (إن الله يغفر الذنوب جميعا (١٢) ولا يبالي) ، وروى أبو هريرة أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : قال رجل لم يعمل خيرا قط لأهله: إذا مات (١٣) فحرّقوه ثم ذرّوا نصفه (١٤) في البرّ ونصفه في البحر

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) سقط من ب.

(٣) في ب : وإنهم لا يقولون به بالغائب.

(٤) في ب العذاب.

(٥) في ب يعقوب.

(٦) وانظر في هذا كله تفسير الرازي ٢٧ / ٣.

(٧) ما بين القوسين سقط من ب.

(٨ و ٩) ساقطان من «أ» وهما الأصح إثباتا.

(١٠) في ب زيد ، وليس يزيد. وما في البغوي يوافق «أ» هنا.

(١١) في ب يقرأ بدل يقول. والأخيرة موافقة لما في البغوي.

(١٢) ما بين القوسين ساقط من ب.

(١٣) في ب : مت فحرقوني.

(١٤) وفيها نصفي وفيها عليّ كلها بصيغة التكلم والحديث في «أ» كما أخرجه البغوي في تفسيره بطريق الغيبة مروي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.

٥٢٩

فو الله لئن قدر الله عليه ليعذبنّه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فلما مات فعلوا ما أمرهم فأمر الله البحر فجمع ما فيه وأمر البرّ فجمع ما فيه ، ثم قال له : لم فعلت هذا قال : من خشيتك يا رب وأنت أعلم فغفر له. وعن ضمضم بن حوش (ب) (١) قال : دخلت مسجد المدينة فناداني شيخ فقال : يا يمانيّ تعال وما أعرفه فقال : لا تقولن لرجل والله لا يغفر الله لك أبدا ولا يدخلك الجنة قلت : ومن أنت يرحمك الله؟ قال : أبو هريرة قال : فقلت إن هذه الكلمة يقولها أحدنا لبعض أهله إذا غضب أو زوجه(٢) أو لخادمه قال : فإني سمعت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول : إنّ رجلين كانا في (٣) بني إسرائيل متحابّين أحدهما مجتهد (٤) في العبادة والآخر كأنه (٥) يقول : مذنب فجعل يقول أقصر عما أنت فيه قال: فيقول خلّني وربي قال : حتى وجده يوما على ذنب استعظمه فقال أقصر فقال : خلني وربي أبعثت علي رقيبا فقال : والله لا يغفر لك الله أبدا ولا يدخلك الجنة أبدا قال : فبعث الله إليهما ملكا فقبض أرواحهما فاجتمعا عنده فقال للمذنب ادخل الجنة برحمتي وقال للآخر : أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي؟ فقال : لا يا رب فقال : اذهبوا به إلى النار ، قال أبو هريرة : والّذي نفسي بيده ل (قد) (٦) تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته (٧). قوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

قوله : (يا عِبادِيَ) قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم يا عبادي بفتح الياء ، والباقون وعاصم ـ في بعض الروايات ـ بغير فتح ، وكلهم يقفون عليها بإثبات الياء ؛ لأنها ثابتة في المصحف إلا في بعض رواية أبي بكر عن عاصم أنه يقف بغير ياء (٨).

قوله : (لا تَقْنَطُوا) قرأ أبو عمرو والكسائيّ بكسر النون ، والباقون بفتحها ، وهما لغتان (٩) ، قال الزمخشري : وفي قراءة ابن عباس وابن مسعود «يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء» (١٠).

قوله : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) قال الزمخشري أي توبوا إليه (وَأَسْلِمُوا لَهُ) أي وأخلصوا

__________________

(١) الباء ساقطة من «أ» ، وفي «ب» حرث. ولم أقف عليه.

(٢) في ب لزوجته.

(٣) في ب من.

(٤) في ب يجتهد والتصحيح من «أ».

(٥) في البغوي : كان مذنبا بالقطع.

(٦) «قد» زيادة من البغوي.

(٧) وقد أخرج هذه الروايات جمعاء الإمام البغوي والخازن في «معالم التنزيل» و «لباب التأويل» ٦ / ٨٠ و ٨١ و ٨٢.

(٨) ذكرها صاحب السبعة ٥٦٣ والإتحاف ٣٧٦.

(٩) المرجع الأخير والكشاف ٣ / ٤٠٣ ولم ترو عنهما في المتواتر فهي من الأربع فوق العشر.

(١٠) الكشاف ٣ / ٤٠٣ وفي مختصر ابن خالويه (إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي) النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفاطمة رضي الله عنها : (إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء) ابن مسعود انظر : المختصر ١٢٣ لابن خالويه.

٥٣٠

له العمل (١) من قبل أن يأتيكم العذاب ثمّ لا تنصرون. (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني القرآن ، والقرآن كله حسن ، ومعنى الآية ما قال الحسن : الزموا طاعته واجتنبوا معصيته ، فإن (في) (٢) القرآن ذكر القبيح ليجتنبه (٣) وذكر الأدون لئلا نرغب (٤) فيه ، وذكر الأحسن لنؤثره (٥) ، وقيل : الأحسن الناسخ دون المنسوخ ، لقوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها)(٦).

ثم قال : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) وهذا تهديد وتخويف (٧). والمعنى يفاجئكم العذاب وأنتم غافلون عنه.

واعلم أنه تعالى لما خوفهم بالعذاب بين أنهم بتقدير نزول العذاب عليهم ماذا يقولون؟ فحكم تعالى عليهم بثلاثة أنواع من الكلام :

فالأول : (قوله : (أَنْ تَقُولَ)) (٨) مفعول من أجله فقدره الزمخشري : كراهة أن تقول (٩) ، (وابن (١٠) عطيه : أنيبوا من أجل أن تقول (١١) ، وأبو البقاء (١٢) والحوفيّ (١٣) أنذرناكم مخافة أن تقول) ولا حاجة إلى إضمار هذا العامل (١٤) مع وجود «أنيبوا». وإنما نكّر نفسا لأنه أراد التكثير كقول الأعشى :

٤٣٠٤ ـ وربّ بقيع لو هتفت بجوّه

أتاني كريم ينغض الرّأس مغضبا (١٥)

يريد أتاني (كرام (١٦) كثيرون لا كريم فذّ لمنافاته المعنى المقصود ، ويجوز أن يريد نفسا متميزة عن الأنفس) باللجاج الشديد في الكفر والعذاب العظيم.

قوله : (يا حَسْرَتى) العامة على الألف بدلا من ياء الإضافة ، وعن ابن كثير : يا

__________________

(١) الكشاف ٣ / ٤٠٣.

(٢) سقط من ب.

(٣) كذا في ب أيضا وفي البغوي لتجتنبه.

(٤) وفيه وفي ب لئلا يرغب فيه.

(٥) وانظر الرازي ٢٧ / ٥ والبغوي ٦ / ٨٢.

(٦) هذا رأي الرازي في المرجع السابق. والآية ١٠٦ من سورة البقرة.

(٧) في ب تخويف وتهديد.

(٨) ساقط من ب.

(٩) الكشاف ٣ / ٤٠٤.

(١٠) ما بين القوسين كله ساقط من ب.

(١١) البحر المحيط ٧ / ٤٣٥.

(١٢) التبيان ١١١٢.

(١٣) نقله صاحب البحر في المرجع السابق.

(١٤) في ب العالم خطأ وتحريف وانظر : الدر المصون ٤ / ٦٥٧.

(١٥) البيت له من الطويل ، والبقيع : الأرض المتسعة ، وبها أصول شجر وجوّه : أي داخله ، وقد شرحه المؤلف أعلى. وشاهده «كريم» منكرا حيث لا يقصد كريما بعينه وإنما يقصد كثيرين كما بينه أعلى.

وانظر : الكشاف ٣ / ٤٠٤ والبحر ٧ / ٤٣٥ والقرطبي ١٥ / ٢٧٠ وديوان الأعشى ٨.

(١٦) ما بين القوسين كله ساقط من «أ» الأصل وتكملة من ب فالتصحيح من ب.

٥٣١

حسرتاه بهاء (١) السكت وقفا وأبو جعفر يا حسرتي على الأصل (٢) ، وعنه أيضا : يا حسرتاي بالألف والياء (٣). وفيها وجهان :

أحدهما : الجمع بين العوض والمعوّض منه (٤).

والثاني : أنه تثنية «حسرة» مضافة لياء المتكلم ، واعترض على هذا بأنه كان ينبغي أن يقال : يا حسرتيّ ـ بإدغام ياء النصب في ياء الإضافة ـ وأجيب : بأنه يجوز أن يكون راعى لغة الحرث بن كعب وغيرهم نحو : رأيت الزّيدان (٥) ، وقيل : الألف بدل من الياء والياء (بعدها) (٦) مزيدة.

وقيل : الألف مزيدة بين المتضايفين (٧) وكلاهما ضعيف.

قوله : (عَلى ما فَرَّطْتُ) ما مصدرية أي على تفريطي ، وثمّ مضاف أي في جنب طاعة الله(٨) ، وقيل : في جنب الله المراد به الأمر والجهة يقال : هو في جنب فلان وجانبه أي جهته وناحيته(٩) ، قال:

٤٣٠٥ ـ النّاس جنب والأمير جنب (١٠)

وقال آخر :

٤٣٠٦ ـ أفي جنب بكر قطّعتني ملامة

سليمى لقد كانت ملامتها ثنى (١١)

__________________

(١) ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٣١ والسمين في الدر ٤ / ٦٥٧ ، كما ذكر عن عاصم «يا أسفاه» صاحب المختصر أيضا.

(٢) المرجعين السابقين وانظر أيضا الإتحاف ٣٧٦ ، والمحتسب ٢ / ٢٣٧.

(٣) المراجع السابقة.

(٤) قاله أبو حيان في البحر ٧ / ٤٣٥ وابن جني في المحتسب ٢ / ٢٣٨ والسمين في الدر ٤ / ٦٥٧.

(٥) هذا كلام أبي الفضل الرازي صاحب اللوامح نقله عنه صاحب البحر ٧ / ٤٣٥ وانظر أيضا الدر المصون ٤ / ٦٥٨.

(٦) سقط من «ب». وقد نقل هذا الرأي ابن جني في المحتسب ٢ / ٢٣٨ ونقله السمين في الدر ٤ / ٦٥٨.

(٧) المرجع الأخير السابق.

(٨) نقله صاحب الكشاف ٣ / ٤٠٤ وانظر أيضا الخصائص ٣ / ٢٤٧.

(٩) نقله أبو حيان في البحر ٧ / ٤٣٥ والسمين في الدر ٤ / ٦٥٨.

(١٠) من الرجز ومعناه أن الممدوح في جنب يساوي جنب الآخرين من الخلق كلهم واستشهد بالبيت على أن معنى الجنب الجهة والناحية. وانظر اللسان «جنب» ٦٩٢ والبحر ٧ / ٤٣٥ والقرطبي ١٥ / ٢٧٢ و ٢٧١ وقبله :

قسّم مجهودا لذاك القلب

(١١) هذا البيت من الطويل ويعزى لكعب بن زهير كما قال ابن منظور في اللسان. وشاهده «جنب بكر» حيث استعمل بمعنى الجهة والناحية. وانظر : البحر المحيط ٧ / ٤٣٥ والدر المصون ٤ / ٦٥٨ واللسان : «ثنى» وملحقات ديوان أوس ١٤١ وغريب الحديث لابن سلّام ١ / ٩٨ وديوان كعب ١٢٨.

٥٣٢

ثم اتسع فيه فقيل : فرّط في جنبه أي في حقّه ، قال :

٤٣٠٧ ـ أما تتّقين الله في جنب عاشق

له كبد حرّى عليك تقطّع (١)

فصل

المعنى : أن تقول نفس يا حسرتى يعني لأن تقول (٢) نفس كقوله : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) [النحل : ١٥] و [لقمان : ١٠] أي لئلّا تميد بكم ، قال المبرد : أي بادروا واحذروا أن تقول نفس (٣) ، قال الزجاج : خوف أن تصيروا إلى حال تقولون يا حسرتنا يا ندامتنا (٤) ، والتحسر الاغتمام على ما فات (٥) ، وأراد : يا حسرتي على الإضافة لكن العرب تحول ياء الكناية ألفا في الاستغاثة فتقول : يا ويلتا ، ويا ندامتا ، وربما ألحقوا بها الياء بعد الألف ليدل على الإضافة (٦) كقراءة أبي جعفر المتقدمة ، وقيل : معنى قوله : (يا حَسْرَتى) أي يا أيّتها الحسرة هذا وقتك (٧). (عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ). قال الحسن : قصّرت في طاعة الله ، وقال مجاهد : في أمر الله ، وقال سعيد بن جبير في حق الله ، وقيل : قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله ، والعرب تسمي الجنب(٨) جانبا.

ثم قال : (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) المستهزئين بدين الله ، قال قتادة ولم يكفه أن ضيع(٩) طاعة الله حتى جعل السخر (١٠) بأهل طاعته ، ومحل (وَإِنْ كُنْتُ) النصب على الحال كأنه قال فرطت وأنا ساخر أي فرطت في حال سخرتي.

النوع الثاني من الكلمات التي حكاها الله تعالى (عنهم) (١١) بعد نزول العذاب عليهم قوله : (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).

النوع الثالث : (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ) عيانا (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً) رجعة إلى الدنيا (فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) الموحدين.

فتحسروا أولا : على التفريط في طاعة الله ، وثانيا : عللوا بفقد الهداية ، وثالثا : تمنوا الرّجعة.

__________________

(١) البيت مختلف في نسبته ، فقد نسبه القرطبي في الجامع ١٥ / ٢٧١ إلى كثير ، ونسبه الزمخشري في الكشاف وأبو حيان في البحر إلى سابق البربري. وشاهده أن الجنب هنا بمعنى الحق والبيت كما هو واضح من الطويل كسابقه ، ويروى : في جنب وامق بدل من عاشق. وانظر : ديوان كثير ٧٣ والكشاف ٣ / ٤٠٤ وشرح شواهد الكشاف ٤٥١ ومجمع البيان ٧ / ٧٨٦ والبحر المحيط ٧ / ٤٣٥.

(٢) هذا التقدير للكوفيين لأن تقول أو لئلا تقول وعند البصريين حذرا أن تقول انظر : القرطبي ١٥ / ٢٧٠.

(٣) البغوي في معالم التنزيل ٦ / ٧٢.

(٤) قاله في معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٣٥٩.

(٥) البغوي السابق.

(٦) السيوطي في الهمع ١ / ١٨١.

(٧) نقله البغوي في المرجع السابق.

(٨) السابق وانظر أيضا لباب التأويل للخازن ٦ / ٨٢.

(٩) في ب يضيع.

(١٠) في ب يسخر.

(١١) سقط من ب.

٥٣٣

قوله : «فأكون» في نصبه وجهان :

أحدهما : عطفه على «كرّة» فإنها مصدر ، فعطف مصدرا مؤولا على مصدر مصرّح به كقولها(١) :

٤٣٠٨ ـ للبس عباءة وتقرّ عيني

أحبّ إليّ من لبس الشّفوف (٢)

وقول الآخر :

٤٣٠٩ ـ فما لك منها غير ذكرى وحسرة

وتسأل عن ركبانها أين يمموا (٣)

والثاني : أنه منصوب على جواب التمني (٤) المفهوم من قوله : (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً)(٥) والفرق بين الوجهين أن الأول يكون فيه الكون متمنّى ويجوز أن تضمر «أن» وأن تظهر والثاني يكون فيه الكون مترتبا على حصول المتمني لا متمنّى ويجب أن تضمر «أن» (٦).

قوله : «بلى» حرف جواب وفيما وقعت جوابا له وجهان :

أحدهما : هو نفي مقدر ، قال ابن عطية : وحق «بلى» أن تجيء بعد نفي عليه تقرير ، كأن النفس قالت : لم يتسع لي النظر (٧) أو لم يبين لي الأمر (٨) ، قال أبو حيان : ليس (٩) حقها النفي المقدر بل حقها النفي ثم حمل التقرير عليه ولذلك أجاب بعض العرب النفي المقدر بنعم دون بلى ، وكذا وقع في عبارة سيبويه (١٠) نفسه.

__________________

(١) الدر المصون ٤ / ٦٥٨ والبحر ٧ / ٤٣٦ والفراء في المعاني ٢ / ٤٢٢ قال : «جعلته مردودا على تأويل أن تضمرها في الكرة كما تقول لو أن لي أن أكر فأكون».

(٢) من الوافر وهو لميسون بنت بحدل وشاهده نصب «تقر» بأن مضمرة جوازا حيث وقعت بعد واو العطف وقد تقدم.

(٣) رواه الفراء «وحسبة». وهو من الطويل. وشاهده كسابقه من عطف المصدر المؤول وهو «وتسأل» المضمر بعد واو جوازا عطفا على اسم خالص أو مصدر صريح وهو : «وحسرة» وانظر : معاني الفراء ٢ / ٤٢٣ والدر المصون ٤ / ٦٥٨ ، وجامع البيان للطبري ٢٤ / ١٤ والبحر المحيط ٧ / ٤٣٦ والقرطبي ١٥ / ٢٧٢.

(٤) وهو أحد الأنواع التي تدخل تحت الطلب من الاستفهام والعرض والتمني والرجاء ، والأمر ، والنهي ، والدعاء والطلب أحد النوعين أيضا اللذين ينصب المضارع بعد فاء السببية أقصد النفي والطلب فالنفي مثل : ما تأتينا فتحدثنا.

(٥) وقال بهذا الوجه أيضا الفراء في المعاني ٢ / ٤٢٢.

(٦) بالمعنى من البحر المحيط ٢ / ٤٣٦ وباللفظ من الدر المصون ٤ / ٦٥٩.

(٧) في البحر : فعمري في الدنيا لم يتسع للنظر. وانظر البحر ٧ / ٤٣٦.

(٨) المرجع السابق.

(٩) السابق.

(١٠) وعبارته : قيل له : ألست تعلم أن الصفة ... فإنه لا يجد بدّا من أن يقول : نعم ... أفلست تجعل هذا العمل ... فإنه قائل نعم. الكتاب ٢ / ٦٥٩.

٥٣٤

والثاني : أن التمني المذكور وجوابه متضمّنان لنفي الهداية كأنه قال : لم أهتد فرد الله عليه ذلك(١).

قال الزجاج : «بلى» جواب النفي وليس في الكلام لفظ النفي إلا أنه حصل فيه معنى النفي لأن قوله : (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) أنه ما هداني فلا جرم حسن ذكر «بلى» بعده (٢).

قال الزمخشري : فإن قلت : هلا (٣) قرن الجواب بينهما بما هو جواب له وهو قوله : لو أن الله هداني ولم يفصل بينهما قلت : لأنه لا يخلو إمّا أن يقدم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن ، وإما أن يؤخر (٤) القرينة الوسطى فلم يحسن الأول لما فيه من تغير (٥) النظم بالجمع بين القراءتين ، وأما الثاني فلما فيه من نقض الترتيب وهو التحسر على التفريط في الطاعة ثم التعلل بفقد الهداية ثم تمنّي الرجعة فكان الصواب ما جاء عليه وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها ، ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب (٦).

قوله : «جاءتك» قرأ العامة بفتح الكاف (فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ) بفتح التاء خطابا للكافرين دون النفس. وقرأ الجحدريّ وأبو حيوة وابن يعمر والشافعيّ عن ابن كثير وروتها أم سلمة عنه ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ وبها قرأ أبو بكر وابنته عائشة ـ رضي الله عنهما ـ بكسر الكاف والتاء (٧) ؛ خطابا للنفس والحسن والأعرج والأعمش «جأتك» (٨) بوزن «جعتك» بهمزة دون ألف ؛ فيحتمل أن يكون قصرا كقراءة قنبل (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى)(٩) [العلق : ٧] وأن يكون في الكلمة قلب بأن قدّمت اللام على العين فالتقى ساكنان ، فحذفت الألف لالتقائهما نحو : رمت وغزت (١٠) ، ومعنى الآية يقال لهذا القائل : بلى قد جاءتك آياتي يعني القرآن «فكذبت» وقلت ليست من الله واستكبرت أي تكبرت عن الإيمان بها وكنت من الكافرين.

__________________

(١) قاله ابن الأنباري في البيان ٢ / ٣٢٥ والزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٣٥٩ والسمين في الدر ٤ / ٦٥٩.

(٢) بإيضاح وتفصيل من الفخر الرازي لكلمة الزجاج في المرجع السابق وانظر التفسير الكبير له ٢٧ / ٧.

(٣) في ب فهلا بزيادة فاء عن الكشاف.

(٤) في الكشاف تؤخر بالتاء.

(٥) كذا هنا في «أ» وفي الكشاف تبتير وفي ب تيسر خطأ.

(٦) الكشاف ٣ / ٤٠٥.

(٧) من القراءة الشاذة غير المتواترة ذكرها الكشاف ٣ / ٤٠٥ والبحر ٧ / ٤٣٦ والدر المصون ٤ / ٦٥٩ ومختصر ابن خالويه ١٣١ ومعاني القرآن للفراء ٢ / ٤٢٣.

(٨) وهي من الأربع فوق العشر انظر الإتحاف ٣٧٦ وانظر المختصر والبحر والدر المراجع السابقة.

(٩) وانظر السبعة ٦٩٢ والبحر ٨ / ٤٩٣.

(١٠) البحر المحيط ٧ / ٤٣٧ وفي وجه القصر يكون محذور واحد وهو الحذف أي حذف المد ، أما وجه القلب والحذف فمحذوران تقديم العين على اللام فيصير قلبا مكانيا كأيس ، ثم حذف العين هذه ، فكان وجه القصر أحسن.

٥٣٥

قوله : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) العامة على رفع (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) وهي جملة من مبتدأ وخبر ، وفي محلها وجهان :

أحدهما : النصب على الحال من الموصول لأن الرؤية بصرية ، وكذا أعربها (١) الزمخشري ومن مذهبه أنه لا يجوز إسقاط الواو من مثلها إلا شاذا (٢) تابعا في ذلك الفراء ، فهذا رجوع منه عن ذلك(٣).

والثاني : أنها في محل نصب مفعولا ثانيا ، لأن الرؤية قلبية وهو بعيد لأن تعلق الرؤية البصرية بالأجسام وألوانها أظهر من تعلق القلبية بهما (٤) ، وقرىء : (وُجُوهُهُمْ (٥) مُسْوَدَّةٌ) بنصبهما على أن «وجوههم» بدل بعض من «كل» ، و «مسودة» على ما تقدم من النصب على الحال أو على المفعول الثاني.

وقال أبو البقاء : ولو قرىء وجوههم بالنصب لكان على بدل الاشتمال (٦) ، قال شهاب الدين: قد قرىء به والحمد لله ولكن ليس كما قال : على بدل الاشتمال بل على بدل البعض ، وكأنه سبق لسان أو طغيان قلم (٧). وقرأ أبيّ أجوههم بقلب الواو (٨) همزة وهو فصيح (٩) نحو : (أُقِّتَتْ) [المرسلات : ١١] وبابه ، وقوله : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) عن الإيمان.

قوله : (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ) قرأ الأخوان وأبو بكر بمفازتهم (١٠) جمعا لمّا اختلفت أنواع المصدر (١١) جمع كقوله تعالى : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) [الأحزاب : ١٠] ، ولأن لكل متق نوعا آخر من المفازة ، والباقون بالإفراد على الأصل.

__________________

(١) في ب قرأ بها. وقد قال في الكشاف ٣ / ٤٠٦ : «جملة في موضع الحال إن كان «ترى» من رؤية البصر ، ومفعول ثان إن كان من رؤية القلب».

(٢) قال في مفصّله والجملة تقع حالا ولا تخلو من أن تكون اسمية أو فعلية فإن كانت اسمية فالواو إلا ما شذ من قولهم : كلمته فوه إلى فيّ وما عسى أن يعثر عليه في الندرة المفصل ١ / ٦٥ بشرح ابن يعيش وانظر أيضا البحر ٧ / ٤٣٧ والدر المصون ٤ / ٦٦٠.

(٣) المرجعين الأخيرين السابقين.

(٤) السابقان.

(٥) معاني الفراء ٢ / ٤٢٤ ومعاني الزجاج ٤ / ٣٦٠ وقد اختار الزجاج الرفع.

(٦) التبيان ١١١٣.

(٧) في ب تام بدل من قلم وقلم هنا هي الموافقة لما في الدر لشهاب الدين ٤ / ٦٦٠ وبدل البعض هو الذي قال به أبو حيان في البحر ٧ / ٤٣٧ والسمين في الدر في المرجع السابق.

(٨) ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٣١.

(٩) ولكنه على الجواز فإن الواو المتصدرة المضمومة من الجائز أن تقلب همزة ومن الجائز أن تبقى فنقول أجوه ووجوه.

(١٠) قراءة سبعية متواترة السبعة ٥٦٣ والإتحاف ٣٧٦.

(١١) وقد نقل أبو حيان في البحر هذا عن أبي عليّ. انظر : البحر ٧ / ٤٣٧.

٥٣٦

وقيل : ثم مضاف محذوف أي بدواعي مفازتهم أو بأسبابها. والمفازة المنجاة ، وقيل : لا حاجة إلى ذلك ، إذ المراد بالمفازة الفلاح (١). قال البغوي : لأن المفازة بمعنى الفوز أي ينجّيهم بفوزهم من النار بأعمالهم الحسنة (٢). وقال المبرد : المفازة مفعلة من الفوز والجمع حسن كالسّعادة والسّعادات (٣).

قوله : (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) يجوز أن تكون هذه الجملة مفسرة لمفازتهم كأنه قيل : وما مفازتهم؟ فقيل : (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) فلا محل لها ، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من (الَّذِينَ اتَّقَوْا)(٤).

ومعنى الكلام لا يصيبهم مكروه ولا هم يحزنون.

قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا

الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)(٦٦)

قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ...) الآية تقدم الكلام على هذه الآية في الأنعام وأنها تدل على أن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى ، وقال الكعبي هنا : إن الله تعالى مدح نفسه بقوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) وليس من المدح أن يخلق الكفر والقبائح فلا يصح احتجاج المخالف به ، وأيضا فلفظة «كل» قد لا توجب العموم لقوله تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) [النمل : ٢٣] يريد كل شيء يحتاج الملك إليه وأيضا لو كانت أعمال العباد من خلق الله لما أضافها إليهم بقوله : (كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) [البقرة : ١٠٩] ولما صح قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [آل عمران : ٧٨]. وقال الجبائي الله (٥) خالق كل شيء سوى أفعال خلقه التي صح فيها الأمر والنهي ، واستحقوا بها الثواب والعقاب ولو كانت أفعالهم خلقا لله لما جاز ذلك فيها كما لا يجوز في ألوانهم وصورهم ، وقال أبو مسلم : الخلق هو التقدير لا الإيجاد ، فإذا أخبر الله أنهم يفعلون الفعل الفلاني فقد قدر ذلك الفعل فصح أن يقال : إنه تعالى خلقه وإن لم يكن موجدا له ، والجواب عن هذه الوجوه تقدم في سورة الأنعام ، وأما قوله (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي الأشياء كلها موكولة إليه فهو القائم بحفظها وتدبيرها من غير مشارك ، وهذا أيضا يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى لأن فعل

__________________

(١) الدر المصون ٤ / ٦٦١.

(٢) معالم التنزيل ٦ / ٨٣.

(٣) نقله عنه البغوي في المرجع السابق ولم أهتد إليه في الكامل له.

(٤) ذكرهما الزمخشري في كشافه ٣ / ٤٠٦ والتبيان ١١٢. الأول الزمخشري والثاني أبو البقاء.

(٥) في ب أنه بدل من الله.

٥٣٧

العبد لو وقع بخلق العبد لكان ذلك الفعل غير موكول إلى الله تعالى فلم يكن الله وكيلا عليه وذلك ينافي عموم الآية (١).

قوله : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) «له مقاليد» جملة مستأنفة (٢) ، والمقاليد جمع مقلاد أو مقليد ، ولا واحد له من لفظه كأساطير وإخوته ، ويقال أيضا إقليد وأقاليد وهي المفاتيح ، والكلمة فارسية معربة (٣). وفي هذا الكلام استعارة بديعة نحو قولك : بيد فلان مفتاح هذا الأمر (٤) ، وليس ثم مفتاح ، وإنما هو عبارة عن شدة تمكنه من ذلك الشيء. قال الزمخشري : قيل سأل عثمان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن تفسير قوله : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فقال : يا عثمان ما سألني عنها أحد قبلك تفسيرها لا إله إلا الله ، والله أكبر وسبحان الله وبحمده (و) (٥) أستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله وهو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير (٦).

وقال قتادة ومقاتل : مفاتيح السموات والأرض بالرزق والرحمة ، وقال الكلبي خزائن المطر والنبات(٧).

قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) وهذا يقتضي أنه لا خاسر إلا الكافر وأن من لم يكن كافرا فإنه لا بد وأن يحصل له حظ من رحمة الله. قال الزمخشري : فإن قلت : بم اتصل قوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) بقوله (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)؟ قلت : إنه اتصل بقوله : (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي ينجي الله المتقين بمفازتهم ، والذين كفروا هم الخاسرون واعترض ما بينهما أنه خالق الأشياء كلها (٨) وأنه له مقاليد السموات والأرض.

قال ابن الخطيب : وهذا عندي ضعيف من وجهين :

الأول : أن وقوع الفصل الكثير بين المعطوف والمعطوف عليه بعيد.

الثاني : أن قوله : (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا) (جملة فعلية) (٩) ، وقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا

__________________

(١) وانظر كل هذا في تفسير الإمام الرازي ٢٧ / ١١.

(٢) الدر المصون ٤ / ٦٦١.

(٣) قال بهذا الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٠٦ ونقله السمين في الدر ٤ / ٦٦١ وفي اللسان : والمقلد مفتاح كالمنجل وقيل : الإقليد معرب وأصله كليد. أبو الهيثم : الإقليد المفتاح وهو المقليد ، والإقليد المفتاح يمانية والمقلد والإقلاد كالإقليد [«قلد» ٣٧١٧ و ٣٧١٨] وانظر : الخصائص ١ / ٩١ والمعرب للجواليقي (٢٠).

(٤) الدر المصون ٤ / ٦٦١.

(٥) زيادة من ب موافقة للكشاف.

(٦) الكشاف ٣ / ٤٠٧.

(٧) قاله البغوي في معالم التنزيل ٦ / ٨٣.

(٨) في الكشاف : وهو مهيمن عليها فلا يخفى عليه شيء من أعمال المكلفين فيها وما يستحقون عليها من الجزاء.

(٩) سقط من ب دون الرازي و «أ».

٥٣٨

بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) جملة اسمية وعطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية لا يجوز(١).

قال شهاب الدين : وهذا الاعتراض معترض إذ لا مانع من ذلك (٢).

ثم قال ابن الخطيب : بل الأقرب عندي أن يقال : إنه لما وصف الله تعالى بصفات الإلهية (٣) والجلالة وهو كونه خالقا للأشياء كلها وكونه مالكا لمقاليد السموات والأرض بأسرها قال بعده : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) الظاهرة الباهرة هم الخاسرون.

قوله : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) فيه ثلاثة أوجه :

أظهرها : أن (٤) «غير» منصوب «بأعبد» (٥) و «أعبد» معمول «لتأمروني» على إضمار «أن» المصدرية ، فلما حذفت بطل عملها وهو أحد الوجهين والأصل أفتأمروني بأن أعبد غير الله ثم قدم مفعول «أعبد» على «تأمروني» العامل في عامله ، وقد ضعف بعضهم هذا بأنه يلزم منه تقديم معمول الصلة على الموصول ، وذلك أن «غير» منصوب «بأعبد» و «أعبد» صلة «لأن» وهذا لا يجوز (٦).

وهذا الرد ليس بشيء لأن الموصول لما حذف لم يراع حكمه فيما ذكر بل إنما يراعى معناه لتصحيح الكلام (٧).

قال أبو البقاء : لو حكمنا بذلك (٨) لأفضى إلى حذف الموصول وإبقاء صلته وذلك لا يجوز إلّا في ضرورة شعر (٩).

وهذا الذي ذكر فيه نظر من حيث إنّ هذا مختصّ «بأن» دون سائر الموصولات وهو أنها تحذف ويبقى صلتها وهو منقاس عند البصريين في مواضع (١٠) تحذف ويبقى عملها وفي غيرها إذا حذفت لا يبقى عملها إلا في ضرورة أو قليل ، وينشد بالوجهين (قوله) :

٤٣١٠ ـ ألا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى

وأن أشهد اللذّات هل أنت مخلدي (١١)

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٧ / ١٣.

(٢) هذا اعتراض السمين في الدر ٤ / ٦٦١.

(٣) في ب الهيبة.

(٤) في ب أنه غير. تحريف وخطأ.

(٥) قاله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٠٧ والسمين في الدر ٤ / ٦٦١.

(٦) بالمعنى من البحر ٧ / ٤٣٨ وانظر : السمين ٤ / ٦٦١.

(٧) نقله السمين في الدر ٤ / ٦٦٢ بالمعنى من البيان لابن الأنباري ٢ / ٣٢٥ قال : «إلا أنه لما حذف «أن» سقط حكمها والدليل على ذلك أن الفعل قد ارتفع ولو كان حكم أن ثابتا لوجب أن يكون الفعل منصوبا فلما لم ينصب دل على سقوط حكمها».

(٨) أي بقاء حكم أن.

(٩) التبيان ١١١٣.

(١٠) يريد مواضع إضمار أن وجوبا. وقد ذكرها النحويون في كتبهم ومنهم ابن يعيش في شرح المفصل ٧ / ١٩ و ٢٧.

(١١) من الطويل لطرفة بن العبد ، والزاجري الذي يكفني ويمنعني. والوغي : الحرب وهو يفتخر بمنازلة ـ

٥٣٩

ويدل على إرادة «أن» في الأصل قراءة بعضهم : «أعبد» (١) بنصب الفعل اعتدادا بأن.

الثاني : أن «غير» منصوب «بتأمرونّي» و «أعبد» بدل منه بدل اشتمال ، و «أن» مضمرة معه أيضا.

والتقدير : أفغير الله تأمرونّي في عبادته ، والمعنى : أفتأمروني بعبادة غير الله (٢).

الثالث : أنها منصوبة بفعل مقدر (تقديره) (٣) أفتلزموني غير (٤) الله أي عبادة غير الله ، وقدره الزمخشري تعبدون (ي) (٥) وتقولون لي أعبده (٦) ، والأصل : تأمرونني أن أعبد (فحذفت) أن ، ورفع الفعل ، ألا ترى أنك تقول : أفغير الله تقولون لي أعبده ، وأ فغير الله تقولون لي أعبد ، فكذلك ، أفغير الله تقولون (٧) لي أن أعبده ، وأ فغير الله تأمرونّي أن أعبد (٨).

والدليل على صحة هذا الوجه قراءة من قرأ «أعبد» بالنصب ، وأما «أعبد» ففيه ثلاثة أوجه:

أحدها : أنه مع «أن» المضمرة في محل نصب على البدل من «غير» ، وقد تقدم.

الثاني : أنه في محل نصب على الحال.

الثالث : أنه لا محل له ألبتة (٩).

قوله : «تأمرونّي» قرأ الجمهور «تأمرونّي» بإدغام نون الرفع في نون الوقاية ، وفتح الياء ابن كثير ، وأرسلها (١٠) الباقون ، وقرأ نافع «تأمروني» بنون خفيفة وفتح الياء وابن عامر تأمرونني بالفك وسكون الياء (١١) ، وقد تقدم في سورة الأنعام (١٢) ، والحجر (١٣) ،

__________________

ـ الأقران ويرى أن امتناعه عن الحرب عيب ، فهو ليس بخالد ، وسيأتي الموت يوما. والشاهد : أحضر فقد رويت بروايتين نصب ورفع فالنصب على أنه مضارع منصوب بأن المصدرية محذوفة وهذه ضرورة كما قال الأعلم. وانظر : الإنصاف ٥٦٠ وشرح ابن يعيش ٢ / ٧ و ٧ / ٥٢ والمغني ٣٨٣ و ٦٤١ واللسان [أنن] والكتاب ٣ / ٩٩ و ١٠٠ والدر المصون ٤ / ٦٦٢ والكشاف ٣ / ٤٠٧.

(١) لم تنصب في ابن خالويه ولا في البحر ٧ / ٤٣٩ ولا في الدر المرجع السابقان.

(٢) قال بهذا الوجه ابن الأنباري في البيان ٢ / ٣٢٥ و ٣٢٦ والسمين في الدر ٤ / ٦٦٢ والتبيان ١١١٣.

(٣) سقط من ب.

(٤) المرجع السابق.

(٥) الياء سقطت من ب.

(٦) في الكشاف : أعبد بدون هاء.

(٧) وفيه تأمرونني أن أعبد.

(٨) وانظر : الكشاف ٣ / ٤٠٧.

(٩) قال بهذين الوجهين أبو البقاء في التبيان ١١١٣ والسمين في الدر ٤ / ٦٦٣.

(١٠) والإرسال هنا إسكان الياء مع المد فيها.

(١١) وتلك قراءات متواترة انظر : السبعة لابن مجاهد ٥٦٣ والإتحاف للبناء ٣٧٦ و ٣٧٧ والنشر لابن الجزري ٢ / ٢٦٣ والكشف لمكي ٢ / ٢٤٠ وحجة ابن خالويه ٣١١.

(١٢) عند قوله : «قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ» الآية ٨٠.

(١٣) عند قوله : «فَبِمَ تُبَشِّرُونَ».

٥٤٠