اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٧٤

الثالث : أن العلوم الموجودة (١) فيه كثيرة جدا. وقد شرح ابن الخطيب منها أقساما كثيرة (٢).

قوله : «كتابا» فيه وجهان :

أظهرهما : أنه بدل من : (أَحْسَنَ الْحَدِيثِ)(٣).

والثاني : أنّه حال منه (٤) ، قال أبو حيان ، لمّا نقله عن الزمخشري : وكأنه بناه على أن «أحسن الحديث» معرفة لإضافته إلى معرفة ، وأفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة فيه خلاف ، فقيل : إضافته محضة ، وقيل : غير محضة.

قال شهاب الدين : وعلى تقدير كونه نكرة يحسن أيضا أن يكون حالا ؛ لأن النكرة متى أضيفت ساغ مجيء الحال منها بلا خلاف ، والصحيح أن إضافة «أفعل» محضة (٥) وقوله : «متشابها» نعت «لكتاب». وهو (٦) المسوّغ لمجيء الجامد حالا ، أو لأنه في قوّة «مكتوب» (٧) ، أو تمييزا منقولا من الفاعلية أي متشابها مثانيه. وإلى هذا ذهب الزمخشريّ (٨).

قوله : «مثاني» قرأ العامة مثاني ـ بفتح الياء ـ صفة ثانية ، أو حالا (٩) أخرى. وقرأ هشام عن ابن عامر وأبو بشر بسكونها (١٠) ، وفيها وجهان :

أحدهما : أنه من تسكين حرف العلة استثقالا للحركة عليه كقراءة : (تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) [المائدة : ٨٩] ، (و) (قوله) (١١) :

٤٢٩٦ ـ كأنّ أيديهنّ ...

 ..........(١٢)

__________________

(١) وفيها المؤخرة بدل الموجودة وانظر : الرازي ٢٦ / ٢٦٨.

(٢) تفسيره السابق ٢٦ / ٢٦٦ : ٢٧١ وقد نقل الإمام السيوطي في الإتقان بعد ما أفرد نوعا خاصا بإعجازه : أفرده بالتصنيف خلائق منهم الرّماني والخطّابي والزملكاني والإمام الرازي ، وابن سراقة ، والقاضي أبو بكر الباقلّاني. وانظر : الإتقان ٢ / ١٤٨ ، وإعجاز القرآن للباقلاني بهامش الإتقان ٥٨.

(٣) التبيان ١١١٠ والدر المصون ٤ / ٦٤٦.

(٤) المرجع السابق وقال بالوجهين أيضا : الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٩٤ وأبو حيان في البحر ٧ / ٤٢٣.

(٥) قاله في الدر المصون ٤ / ٦٤٧.

(٦) أي النعت وهو متشابها.

(٧) اسم مفعول. وانظر هذه الإعرابات في الدر المصون ٤ / ٦٤٧.

(٨) الكشاف ٣ / ٣٩٥.

(٩) الدر المصون المرجع السابق.

(١٠) ذكرها أبو حيان في البحر ٧ / ٤٢٣ والسمين في الدر ٤ / ٦٤٧.

(١١) زيادات للسياق.

(١٢) بعض شطر بيت من الرجز لرؤبة بن العجاج وتمامه :

 ... بالقاع القرق

أيدي جوار يتعاطين الورق

وهو يتحدث عن الإبل ، والقاع : المكان المستوي ، والقرق : الأملس الذي لا حجارة فيه ، والورق : الدراهم والشاهد عند المؤلف الذي تبع أبا حيان تسكين حرف العلة فلم يفتح برغم أن «كأن» قبله. ـ

٥٠١

ونحوهما.

والثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو مثاني. كذا ذكره أبو حيان (١) ، وفيه نظر من حيث إنه كان ينبغي أن ينون وتحذف ياؤه لالتقاء السّاكنين ، فيقال : مثان كما تقول : هؤلاء جوار ، وقد يقال : إنه وقف عليه ثم أجري الوصل مجرى الوقف لكن يعترض عليه بأن الوقف على المنقوص المنون بحذف الياء نحو : هذا قاض وإثباتها لغة قليل (٢) ، ويمكن الجواب عنه بأنه قد قرىء بذلك في المتواتر نحو : (مِنْ والٍ) [الرعد : ١١] و (باقٍ) [النحل : ٩٦] و (هادٍ) [الرعد : ٧] في قراءة ابن كثير (٣).

فصل

تقدم تفسير الكتاب عند قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ) ، وقوله : «متشابها» أي يشبه بعضه بعضا (في الحسن ويصدّق (٤) بعضه بعضا) ليس فيه تناقض ولا اختلاف ، قاله ابن عباس ، وقوله : «مثاني» جمع «مثنى» أي يثنّى فيه ذكر الوعد ، والوعيد ، والأمر ، والنهي ، والأخبار ، والأحكام ، أو جمع «مثنى» مفعل من التّثنية بمعنى التّكرير ، وإنما وصف كتاب وهو مفرد «بمثاني» وهو جمع لأن الكتاب مشتمل على سور وآيات ، وهو من باب : برمة (٥) أعشار ، وثوب أخلاق. قاله الزمخشري (٦). وقيل : ثمّ موصوف محذوف أي فصولا مثاني (٧) ، حذف للدلالة عليه ، وقال ابن الخطيب : إن أكثر الأشياء المذكورة زوجين زوجين مثل الأمر ، والنهي ، والعام ، والخاص ، والمجمل ، والمفصل ، وأحوال

__________________

ـ وهذا التسكين للاستثقال أي استثقال الفتحة على الياء. وقد قال ابن جني في الخصائص : إن الياء هنا نزلت منزلة الألف حيث لا تظهر عليها الحركة ، وانظر : الخصائص ١ / ٣٠٦ ، ٢ / ٢٩١ وشواهد الشافية ٤٠٥ وشرح ديوان المفضليات (٧٧) والخزانة ٨ / ٣٤٧ ، والدر المصون ٤ / ٦٤٧ وملحق الديوان ١٧٩.

(١) البحر ٧ / ٤٢٣.

(٢) يحدثنا بذلك الرضي في شرح الشافية وسيبويه في الكتاب. ويقول سيبويه : وذلك قولك : هذا قاض ، وهذا غاز ، وهذا عم ، تريد العمي ، أذهبوها في الوقف كما ذهبت في الوصل «يقصد الياء» ولم يريدوا أن تظهر في الوقف كما يظهر ما يثبت في الوصل فهذا الكلام الجيد الأكثر. وحدثنا أبو الخطاب ويونس أن بعض من يوثق بعربيته يقول : هذا رامي ، وغازي وعمي ؛ أظهروا في الوقف. الكتاب ٤ / ١٨٤ ، وشرح الشافية للرضي ٢ / ٣٠٠ ، ٣٠٢.

(٣) هذه القراءة ذكرها أبو حيان بدون نسبة في البحر ٧ / ٤٢٣ والسمين في الدر بنسبة ٤ / ٦٤٨.

(٤) ما بين القوسين سقط من ب.

(٥) في ب : يومة. خطأ. والبرمة قدر من الحجارة كأنها كسرت إلى عشرة أجزاء ومفردها عشر ، وكذلك الثوب الأخلاق لأنه من أجزاء ، ومن هنا قال الزمخشري : «فإنما صح ذلك لأن الكتاب جملة ذات تفاصيل وتفاصيل الشيء جملته لا غير ، ألا تراك تقول : القرآن أسباع وأخماس وسور وآيات». وانظر : الكشاف ٣ / ٣٩٥ والدر المصون ٤ / ٦٤٨.

(٦) المرجع السابق.

(٧) قاله أبو حيان في البحر ٧ / ٤٢٣.

٥٠٢

السموات والأرض والجنة والنار ، والضوء (١) ، والظلمة ، واللوح ، والقلم ، والملائكة ، والشياطين ، والعرش ، والكرسيّ ، والوعد ، والوعيد ، والرجاء ، والخوف والمقصود منه أن بيان كلّ ما سوى الحق زوج يدل على أن كل شيء ممثل (٢) بضدّه ونقيضه وأن الفرد الأحد الحق هو الله تعالى.

قوله : «تقشعرّ» هذه الجملة يجوز أن تكون صفة «لكتاب» (٣) وأن تكون حالا منه لاختصاصه بالصفة ، وأن تكون مستأنفة (٤) ، واقشعر جلده إذا تقبّض (٥) وتجمّع من الخوف وقفّ شعره ، والمصدر الاقشعرار والقشعريرة أيضا (٦) ووزن اقشعرّ افعللّ ، ووزن القشعريرة فعلّيلة (٧).

فصل

قال المفسرون : تقشعر تضطرب وتشمئز (مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) والاقشعرار تغير في جلد الإنسان عند الوجل والخوف ، وقيل المراد من الجلود القلوب أي قلوب الذين يخشون ربهم (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) (أي لذكر الله) (٨). قيل : إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله وإذا ذكرت آيات الرحمة لانت وسكنت قلوبهم كما قال الله : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد : ٢٨] وحقيقة المعنى أن قلوبهم تقشعر عند الخوف وتلين عند الرجاء(٩). قال عليه (الصلاة و) السلام : «إذا اقشعرّ جلد العبد من خشية الله تحاتّت (١٠) عنه ذنوبه كما يتحاتّ (١١) عن الشّجرة اليابسة ورقها» (١٢) ، وقال : «إذا اقشعرّ جلد العبد من خشية الله حرّمه الله على النّار» (١٣) ، قال قتادة : هذا نعت أولياء الله نعتهم الله بأنهم تقشعرّ جلودهم وتطمئن قلوبهم ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم إنما ذلك في أهل البدع وهو

__________________

(١) في ب : والنور.

(٢) في ب : يمثل. وفي الرازي : مبتلى خطأ. وانظر : الرازي ٢٦ / ٢٧٢.

(٣) قاله التبيان ١١١٠ وفي الدر المصون ٤ / ٦٤٨.

(٤) المرجع السابق.

(٥) في ب : انقبض.

(٦) قاله ابن منظور في اللسان : «ق ش ع» ٣٦٣٨.

(٧) وزنها ابن عصفور في الممتع فعلّيل بدون تاء التأنيث لأن التاء التأنيثية ليست من حروف الزيادة حتى تجيء في الميزان.

(٨) ما بين القوسين سقط من ب وانظر : معالم التنزيل للبغوي ٦ / ٧٣ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٣٥٢ وتفسير الرازي ٢٦ / ٢٧٢ والكشاف ٣ / ٣٩٥.

(٩) البغوي المرجع السابق.

(١٠ و ١١) في ب : تناحت في اللفظين.

(١٢) أخرجه البغوي في تفسيره عن العباس بن عبد المطلب.

(١٣) المرجع السابق عن يزيد بن عبد الله بن الهاد. انظر : البغوي ٦ / ٧٣ بينما خرج الحديث الثاني الحكيم التّرمذيّ في نوادر الأصول عن أبيّ بن كعب وانظر الدر المنثور ٧ / ٢٢٢.

٥٠٣

من الشيطان ، وعن عروة بن الزّبير قال : قلت لجدّتي أسماء بنت أبي بكر كيف كان أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يفعلون إذا قرىء عليهم القرآن؟ (قالت (١) : كانوا كما نعتهم الله عزوجل تدمع أعينهم وتقشعرّ جلودهم ، قال : فقلت لها : إن ناسا اليوم إذا قرىء عليهم القرآن) خرّ أحدهم مغشيّا عليه فقالت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وعن ابن عمر أنه مرّ برجل من أهل العراق ساقط فقال : ما بال هذا؟ قالوا : إنه إذا قرىء عليه القرآن أو سمع ذكر الله سقط فقال ابن عمر : إنّا لنخشى الله (ـ عزوجل) ـ وما نسقط.

وقال ابن عمر : إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم ما كان هذا صنيع (٢) أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

فصل

قال الزمخشري : تركيب لفظ القشعريرة من حروف التّقشّع (٣) وهو الأديم وضموا إليه حرفا رابعا وهو الراء ليكون رباعيا دالا على معنى زائد ، يقال : اقشعرّ جلده من الخوف (إذا) (٤) وقف شعره وهو مثل في شدة الخوف (٥) فإن قيل : كيف قال : (تَلِينُ إِلى ذِكْرِ اللهِ) فعداه بحرف «إلى»؟

فالجواب : التقدير : تلين جلودهم وقلوبهم حال وصولها إلى حضرة الله وهو لا يحس الإدراك.

فإن قيل : كيف قال : إلى ذكر الله ولم يقل : إلى ذكر رحمة الله؟

فالجواب : أن من أحب الله لأجل رحمته فهو ما أحب الله وإنما أحب شيئا غيره ، وأما من أحبّ الله لا لشيء سواه فهو المحب الحق وفي الدرجة العالية فلهذا لم يقل : تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر رحمة الله وإنما قال : إلى ذكر الله وقد بين الله تعالى هذا بقوله : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(٦).

فإن قيل : لم ذكر في جانب الخوف قشعريرة الجلود فقط ، وفي جانب الرجاء لين الجلود والقلوب؟

فالجواب : لأن المكاشفة في مقام الرجاء أكمل منها في مقام الخوف لأن الخير مطلوب بالذات ، والشر مطلوب بالعرض ومحل المكاشفات هي القلوب والأرواح والله أعلم (٧).

__________________

(١) ما بين القوسين كله ساقط من نسخة ب.

(٢) في النسختين صنع وفي البغوي المصدر السابق : صنيع.

(٣) في الكشاف القشع وليس التقشع فقد نقلها الرازي عنه كذا ونقلها المؤلف بدوره عن الرّازي.

(٤) لفظ إذا زائد من النسختين.

(٥) الكشاف ٣ / ٣٩٥ والرازي ٢٦ / ٣٧٣.

(٦ و ٧) قاله الإمام الرازي في تفسيره التفسير الكبير ٢٦ / ٣٧٣ ، ٣٧٤.

٥٠٤

ثم إنه تعالى : لما وصف القرآن بهذه الصفات قال : (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) فقوله «ذلك» إشارة إلى الكتاب وهو هدى الله وهو الذي شرح الله صدره (أولا) لقبول الهداية ومن يضلل الله أي يجعل قلبه قاسيا مظلما (فَما لَهُ مِنْ (١) هادٍ).

واعلم أن سؤالات المعتزلة وجوابها عن مثل هذه الآية قد تقدم في قوله : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) [الأنعام : ١٢٥] ونظائرها.

قوله : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ) الآية لما حكم على القاسية قلوبهم بحكم في الدنيا وهو الضلال التام حكم عليهم في الآخرة بحكم آخر وهو العذاب الشديد فقال : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وتقريره أن أشرف الأعضاء الظاهرة هو الوجه لأنه محل الصباحة وصومعة الحواس (والسعادة (٢) والشقاوة) لا تظهر إلا فيه ، قال تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) [عبس : ٣٨ ـ ٤٢]. ويقال لمقدم القوم : يا وجه العرب ، ويقال للطريق الدال على حال الشيء : إن وجه كذا هو كذا. فثبت بما ذكرنا أن أشرف الأعضاء الظاهرة هو الوجه وإذا وقع الإنسان في نوع من أنواع العذاب فإنه يجعل يده وقاية لوجهه ، وإذا عرف هذا فنقول : إذا كان القادر على الاتّقاء يجعل كل ما سوى الوجه فداء (٣) للوجه لا جرم حسن جعل الاتّقاء بالوجه كناية (٤) (عن العجز) عن الاتقاء ونظيره قول النابغة :

٤٢٩٧ ـ ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب (٥)

أي لا عيب فيهم إلا هذا ، وهو (٦) ليس بعيب (٧) فلا عيب فيهم إذن بوجه من الوجوه فكذا ههنا لا يقدرون على الاتقاء يوجه من الوجوه إلا بالوجه ، وهذا ليس باتقاء ، فلا قدرة لهم على الاتقاء البتّة ، وقيل : إنه يلقى في النار مغلولة يده إلى عنقه ، فلا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه (٨) ، وتقدم الكلام على الإعراب (٩). و «سوء العذاب» أشده ، وقال مجاهد (١٠) : يجر على وجهه في النار ، وقال عطاء : يرمى به في النار منكوسا ، فأول شيء يمس النار منه وجهه.

__________________

(١) بدل هذه الجملة في ب : «قاله ابن عمار» خطأ.

(٢) ما بين القوسين بياض من ب وتكملة من أوفي الرازي وأثر السعادة والشقاوة لا يظهر إلا في الوجه.

(٣) في ب : وقاية.

(٤) وفيها كفاية وما بين القوسين سقط من ب.

(٥) من الطويل له. والبيت من الشواهد البلاغية التي تسمى المدح بما يشبه الذم فالاستدراك والاستثناء بغير ما هو إلا تكملة وتفضلة لمدحه الأول. والبيت في الهمع ١ / ٢٣٢ ومعاهد التنصيص ٢ / ٣١ والمغني ١١٤ وشرح شواهده ٣٤٩ والكامل ١ / ٣٤٦ والرازي ٢٦ / ٢٧٥.

(٦) كذا في الرازي وهنا وفي ب : «وهذا» بدل من «وهو».

(٧) في ب : بعجب غير مراد.

(٨) في الرازي يوجه وانظر : الرازي ٢٦ / ٢٧٥.

(٩) في قوله السابق : «أفمن شرح الله صدره للإسلام».

(١٠) يجر من الجر على ما في كتب التفسير وفي ب يخر من خر له ساجدا.

٥٠٥

قوله : (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ) أي تقول الخزنة للظالمين : (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي وباله.

ولما بين كيفية عقاب القاسية قلوبهم في الآخرة وبين كيفية وقوعهم في العذاب قال : (كَذَّبَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من قبل كفار مكة كذبوا الرسل (فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) يعني وهم آمنون غافلون عن العذاب (١) أي من الجهة التي لا يخشون ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها ، (فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وهو الذل والصغار والهوان ثم قال (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) يعني أنّ أولئك وإن نزل بهم العذاب والخزي في الدنيا فالعذاب المدخر لهم يوم القيامة أكبر وأعظم من ذلك الذي وقع بهم في الدنيا.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(٢٩)

ولما ذكر الله تعالى هذه الفوائد الكثيرة في هذه المطالب بين أن هذه البيانات بلغت حدّ الكمال والتمام فقال : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) يتعظون ، قالت المعتزلة : دلت الآية على أن أفعال الله تعالى وأحكامه معللة ، ودلت أيضا على أنه تعالى يريد الإيمان والمعرفة من الكلّ ؛ لأن قوله : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ) مشعر بالتعليل ، وقوله في آخر الآية : (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) مشعر بالتعليل أيضا ومشعر بأن المراد من ضرب هذه الأمثال حصول التذكرة والعلم (٢).

قوله : (قُرْآناً عَرَبِيًّا) فيه (٣) ثلاثة أوجه :

أحدها : (أن يكون منصوبا على المدح (٤) ؛ لأنه لما كان نكرة امتنع إتباعه للقرآن (٥).

الثاني : أن ينتصب ب «يتذكرون» (٦) أي) يتذكرون قرآنا.

الثالث : أن ينتصب (٧) على الحال (٨) من «القرآن» على أنها حال مؤكدة وتسمى حالا موطّئة؛ لأن الحال في الحقيقة «عربيا» ، و «قرآنا» توطئة له ، نحو : جاء زيد رجلا

__________________

(١) انظر في هذا البغوي ٦ / ٧٤.

(٢) الرازي ٢٦ / ٢٧٥.

(٣) أي عربيا.

(٤) وهو قول الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٩٦.

(٥) قال بالتعليل السمين في الدر ٤ / ٦٤٨.

(٦) هو قول أبي البقاء في التّبيان ١١١١ وما بين القوسين ساقط من ب.

(٧) في ب : ينصب.

(٨) التّبيان والكشّاف والدّر السابقة وانظر أيضا البيان ٢ / ٣٢٣ ومشكل الإعراب ٢ / ٢٥٩.

٥٠٦

صالحا ، وقوله : (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) نعت «لقرآنا» ، أو حال أخرى (١).

قال الزمخشري : فإن قلت : فهلا قيل مستقيما أو غير معوجّ؟ قلت : فيه فائدتان :

إحداهما : نفي أن يكون فيه عوج قط كما قال : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً)(٢) [الكهف : ١].

والثانية : أن العوج يختص بالمعاني دون الأعيان وقيل : المراد بالعوج الشك واللّبس وأنشد :

٤٢٩٨ ـ وقد أتاك يقين غير ذي عوج

من الإله وقول غير مكذوب (٣)

فصل

اعلم أنه تعالى وصف القرآن بصفات ثلاثة :

أولها : كونه قرآنا ، والمراد كونه متلوّا في المحاريب إلى قيام الساعة.

وثانيها : كونه عربيا أي أنه أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته كما قال : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) [الإسراء : ٨٨].

وثالثها : كونه غير ذي عوج ، والمراد براءته من التناقض (٤) ، قال ابن عباس : غير مختلف ، وقال مجاهد : غير ذي لبس وقال السدي : غير مخلوق ، ويروى ذلك عن مالك بن أنس ، وحكى سفيان بن عيينة عن سبعين من التابعين أن القرآن ليس بخالق ولا مخلوق (٥).

قوله : (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الكفر والتكذيب به. وتمسك المعتزلة به في تعليل أحكام الله تعالى ، وقوله في الآية الأولى : (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ،) وههنا : (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) لأن التذكر يتقدم على الاتّقاء والاحتراز. والله أعلم (٦).

قوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً) قال الكسائي : نصب «رجلا» لأنه تفسير للمثل(٧)(٨).

واعلم أنه تعالى لما شرح وعيد الكفار مثّل بما يدل على فساد مذهبهم وقبح طريقتهم ، فقال : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً).

__________________

(١) قاله شهاب الدين السمين في الدر ٤ / ٦٤٩.

(٢) وانظر : الكشاف ٣ / ٣٩٦.

(٣) بيت من بحر البسيط تكملة لما قاله الزمخشري في الكشاف ولم أعثر على قائل معين. وجيء بالبيت شاهدا أن العوج في المعنويات دون المحسوسات وهو هنا بمعنى الشك واللبس ، وانظر : الكشاف ٣ / ٣٩٦ ، وشرح شواهده ٤ / ٣٤١ والقرطبي ١٥ / ٢٥٢ والبحر ٧ / ٤٢٤ والدر المصون ٤ / ٦٤٩ وفتح القدير ٤ / ٤٦١.

(٤) وانظر : الرازي ٢٦ / ٢٧٦.

(٥) البغوي ٦ / ٧٤.

(٦) الرازي المرجع السابق.

(٧) في ب : للميل. خطأ.

(٨) نقله عنه القرطبي في الجامع ١٥ / ٢٥٢.

٥٠٧

قوله : (فِيهِ شُرَكاءُ) يجوز أن يكون هذا جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب صفة «لرجل» (١) ويجوز أن يكون الوصف الجار وحده ، و «شركاء» فاعل به ، وهو أولى لقربه من المفرد (٢) ، و «متشاكسون» صفة «لشركاء» ، والتّشاكس (التخالف (٣) ، وأصله سوء الخلق وعسره ، وهو سبب التخالف ، والتشاجر ، ويقال : التّشاكس) والتّشاخس ـ بالخاء ـ موضع (٤) الكاف ، وقد تقدم الكلام على نصب المثل وما بعده الواقعين بعد ضرب. وقال الكسائي : انتصب «رجلا» على إسقاط الجار ، أي لرجل أو في رجل (٥) ، والمتشاكسون المختلفون العسرون (٦) ، يقال : شكس يشكس شكوسا وشكسا إذا عسر ، وهو رجل شكس أي عسر وشاكس إذا تعاسر قال الليث : التّشاكس التضاد والاختلاف ويقال : الليل والنهار يتشاكسان أي يتضادان إذا جاء أحدهما ذهب الآخر (٧). وقوله «فيه» صلة «لشركاء» كما تقول اشتركوا فيه أي في رقّة ، (قال (٨) شهاب الدين : وقال أبو البقاء كلاما لا يشبه أن يصدر من مثله بل ولا أقل منه قال : (فِيهِ شُرَكاءُ)) الجملة صفة «لرجل» و «فيه» متعلق (٩) بمتشاكسون ، وفيه دلالة على جواز تقديم خبر المبتدأ عليه انتهى أما هذا فلا أشك أنه سهو لأنه من حيث جعله جملة كيف يقول بعد ذلك : إن «فيه» يتعلق «بمتشاكسون». وقد يقال : أراد من حيث المعنى. وهو بعيد جدا ، ثم قوله : «وفيه دلالة» إلى آخره يناقضه أيضا وليست المسألة غريبة حتى يقول : «وفيه دلالة» وكأنه أراد وفيه دلالة على تقديم معمول الخبر على المبتدأ بناء منه على أن «فيه» يتعلق بمتشاكسون ، ولكنه فاسد ، والفاسد لا يرام صلاحه (١٠).

__________________

(١) التبيان ١١١١ والدر ٤ / ٦٤٩.

(٢) أورد ابن الأنباري في هذه الجملة مذهبي البصريّين والكوفيّين فقال : ضرب الله مثلا رجلا تقديره ضرب الله مثلا مثل رجل فحذف المضاف و «فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ» شركاء مرفوع بالظرف على المذهبين لأن الظرف وقع صفة لقوله «رجلا». والكوفيون يقدرون المتعلق اسما تقديره كائن أو مستقر ، والبصريون يقدرونه فعلا «استقر» وعلى ذلك فقول المؤلف بالرفع على الفاعلية مندرج في رأي الكوفيين. انظر : البيان ٢ / ٣٢٣ والدر المصون ٤ / ٦٤٩.

(٣) ما بين القوسين سقط كله من «ب» بسبب انتقال النظر.

(٤) أخذ المؤلف هذا من كلام الزمخشري في الكشاف قال : «والتشاكس والتشاخس الاختلاف تقول : تشاكست أحواله ، وتشاخست أسنانه وهما وإن كانا مادتين مختلفتين إلا أن معناهما واحد لكن يغلب التشاخس في الأشياء الحسية ذات الأجزاء المتنافرة» الكشاف ٣ / ٣٩٧ واللسان : «ش خ س» ٢٢١١.

(٥) ذكره عنه أبو حيان في بحره ٧ / ٤٢٤.

(٦) في ب بدل العسرون : قال المفسرون. تحريف.

(٧) انظر هذا كله في اللسان «ش ك س» ٢٣٠٨ وانظر معنى التشاكس في غريب القرآن لابن قتيبة ٣٨٣ ومعاني الفراء ٢ / ٤١٩ وزاد المسير ٧ / ١٧٩ والمجاز ٢ / ١٨٩ وتفسير الرازي ٢٦ / ٢٧٧.

(٨) ما بين القوسين سقط من نسخة ب.

(٩) في الدر المصون لشهاب الدين ونسخة ب : تتعلق. وانظر : الدر المصون ٤ / ٦٥٠ والتبيان لأبي البقاء ١١١١.

(١٠) هذا كله ردّ صاحب الدر المصون وهو شهاب الدين السمين على أبي البقاء الذي تناقض كلامه.

٥٠٨

قوله : (سَلَماً لِرَجُلٍ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو سالما بالألف وكسر اللام ، والباقون سلما بفتح السين واللّام (١) ، وابن جبير بكسر السين وسكون اللام (٢) ، (قال ابن (٣) الخطيب : ويقال أيضا : بفتح السين وسكون اللام) ، فالقراءة الأولى اسم فاعل من سلم له كذا فهو سالم. والقراءتان الأخيرتان سلما وسلما فهما مصدران وصف بهما على سبيل المبالغة أو على حذف مضاف ، أو على وقوعهما موقع اسم الفاعل فيعود كالقراءة الأولى (٤) ، وقرىء : «ورجل سالم» برفعهما (٥) وفيه وجهان :

أحدهما : أن يكون مبتدأ والخبر محذوف تقديره وهناك رجل سالم لرجل (٦) ، كذا قدره الزمخشريّ.

الثاني : أنه مبتدأ ، و «سالم» خبره (٧) ، وجاز الابتداء بالنكرة لأنه موضع تفصيل كقول أمرىء القيس :

٤٢٩٩ ـ إذا ما بكى من خلفها انصرفت له

بشقّ وشقّ عندنا لم يحوّل (٨)

وقولهم : «النّاس رجلان رجل أكرمت ورجل أهنت».

قوله : «مثلا» منصوب على التمييز المنقول من الفاعلية إذ الأصل : هل يستوي مثلهما ، وأفرد التمييز لأنه مقتصر (٩) عليه أولا في قوله : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً)(١٠). وقرىء «مثلين» (١١) فطابق حال الرجلين. وقال الزمخشري فيمن (١٢) قرأ مثلين : إنّ الضمير في «يستويان» «للمثلين» لأن التقدير : مثل رجل ومثل رجل ، والمعنى هل يستويان فيما يرجع إلى الوصفية كما تقول : كفى بهما رجلين (١٣). قال أبو حيان : والظاهر أنه يعود (١٤)

__________________

(١) من القراءة المتواترة نقلها صاحب الإتحاف ٣٧٥ ، وصاحب السبعة ٥٦٢ والإمام القرطبي ١٥ / ٢٥٣ والكشاف ٣ / ٣٩٧.

(٢) الكشاف المرجع السابق والبحر المحيط ٧ / ٤٢٤ والقرطبي ١٥ / ٢٥٣.

(٣) ما بين القوسين سقط من ب وانظر : الرازي ٢٦ / ٢٧٧.

(٤) قاله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٩٧ ، والسمين في الدر ٤ / ٦٥٠.

(٥) المرجعين السابقين وانظر أيضا صاحب البحر ٧ / ٤٢٤ ، ٤٢٥ والرازي ٢٦ / ٢٧٧.

(٦) الكشاف ٣ / ٣٩٧ وذكره أيضا صاحب الدر ٤ / ٦٥٠.

(٧) السابق وقال بهذا الرأي أبو حيان في البحر ٧ / ٤٢٥.

(٨) البيت من الطويل وهو من معلقته المشهورة وشاهده : «وشق عندنا لم يحول» حيث ابتدأ بالنكرة لأن الموضع موضع تفصيل. وهذا أحد المواضع التي يجوز فيها الابتداء بالنكرة. وقد تقدم.

(٩) في «ب» يقتصر.

(١٠) قاله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٩٧ والسمين في الدر ٤ / ٦٥٠.

(١١) المرجعان السابقان ولم تعز لأحد فيهما.

(١٢) في ب : فمن.

(١٣) الكشاف المرجع السابق.

(١٤) في «ب» : يقول خطأ.

٥٠٩

الضمير في «يستويان» على «رجلين» ، وأما إذا جعلته عائدا إلى المثلين اللّذين ذكر أن التقدير : مثل رجل ومثل رجل ، فإن التمييز يكون إذ ذاك قد فهم من المميز الذي هو الضمير إذ يصير التقدير : هل يستوي المثلان مثلين (١) في الوصفية (٢) ، فالمثلان الأولان معهودان والثانيان جنسان مبهمان كما تقول : كفى بهما رجلين ، فإن الضمير في بهما عائد على ما يراد بالرّجلين فلا فرق بين المسألتين فما كان جوابا عن : «كفى بهما رجلين» يكون جوابا له.

فصل

تقدير الكلام : اضرب لقومك مثلا وقل ما تقولون (٣) في رجل مملوك لشركاء بينهم اختلاف وتنازع فيه وكل واحد يدعي أنه عبده فهم يتجاذبونه في حوائجهم وهو متحيّر في أمره وكلما أرضى أحدهم غضب الباقون ، وإذا احتاج إليهم فكل واحد منهم يرده إلى الآخر فيبقى متحيّرا لا يعرف أيّهم أولى أن يطلب رضاه؟ وأيهم يعينه في حاجاته؟ فهو بهذا السبب في عذاب دائم ، وآخر له مخدوم واحد يخدمه على سبيل الإخلاص وذلك المخدوم يعينه في مهماته فأي هذا (من) (٤) العبدين أحسن حالا؟ والمراد أن من أثبت (٥) آلهة أخرى فإن الآلهة تكون متنازعة متغالبة كما قال تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] وقال : (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) [المؤمنون : ٩١] فيبقى ذلك المشرك متحيرا ضالّا لا يدري أيّ هؤلاء الآلهة يعبد؟ وعلى ربوبية أيهم يعتمد؟ وممن يطلب رزقه؟ فهمه مشاع (٦) وقلبه أوزاع أما من لم يثبت إلا إلها واحدا فهو قائم بما كلفه عارف بما يرضيه ويسخطه فكان حال هذا أقرب إلى الصلاح من حال الأول ، وهذا المثال في غاية الحسن في تقبيح الشّرك (٧) وتحسين التّوحيد.

فإن قيل : هذا المثال لا ينطبق على عبادة (٨) الأصنام لأنها جمادات فليس بينها منازعة ولا تشاكس.

فالجواب : أن عبدة الأصنام مختلفون منهم من يقول : هذه الأصنام تماثيل

__________________

(١) البحر ٧ / ٤٢٥ مع اختلاف قليل في عباراته.

(٢) الواقع أن هذه الكلمات التي تبدأ «بفي الوصفية» من كلام السمين الذي بدأه بقوله قلت : وهذا لا يضر ، إذ التقدير : هل يستوي المثلان مثلين في الوصفية. الخ ... وانظر الدر المصون ٤ / ٦٥٠.

(٣) في ب والرازي : يقولون بالياء.

(٤) زيادة من أ. وفي الرازي : فأيّ هذين العبدين.

(٥) في ب : أثبته. وفي الرازي : من يثبت آلهة شتى.

(٦) كذا في النسختين وفي الرازي شفاع.

(٧) في ب : المشرك.

(٨) في ب : في عبادة.

٥١٠

الكواكب السبعة وهم يثبتون بينها منازعة ومشاكسة ، ألا ترى أنهم يقولون : زحل هو النحس الأعظم ، (والمشتري (١) : هو السّعد الأعظم) ، ومنهم من يقول : هذه الأصنام تماثيل الأرواح السماوية وحينئذ (يحصل) (٢) بين تلك الأرواح منازعة ومشاكسة وحينئذ يكون المثال مطابقا ، ومنهم من يقول : هذه الأصنام تماثيل الأشخاص من العلماء والزّهاد (الذين) (٣) مضوا فهم يعبدون هذه التماثيل ليصير أولئك الأشخاص من العلماء والزّهّاد شفعاء لهم عند الله. والقائلون بهذا القول يزعم (٤) كل طائفة منهم أن المحقّ هو ذلك الرجل الذي هو على دينه ، وأنّ من سواه مبطل وعلى هذا التقدير أيضا ينطبق المثال.

قوله : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) يعني أنه لما أبطل القول بإثبات الشركاء والأنداد وثبت أنه لا إله إلا الواحد الأحد المحقّ ثبت أن الحمد له لا لغيره ، ثم قال (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن الحمد له لا لغيره ، وأنّ المستحق العبادة هو الله. وقيل : لا يعلمون ما يصيرون إليه ، وقيل : المراد أنه لما سيقت عنده الدلائل الظاهرة قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) على حصول هذه البيانات ، وظهور هذه البيّنات وإن كان (أكثر) (٥) الخلق لا يعرفونها. قال البغوي : والمراد بالأكثر الكلّ (٦).

قوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥) أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ)(٣٧)

قوله : (إِنَّكَ مَيِّتٌ) أي ستموت (وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) أي سيموتون. قال الفراء (٧) والكسائي : الميّت ـ بالتشديد ـ من لم يمت وسيموت والميت ـ بالتخفيف ـ من فارقه (٨)

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) كذلك.

(٣) تكملة من الرازي عن النسختين.

(٤) في ب والرازي تزعم وانظر : الرازي ٢٦ / ٢٧٧ ، ٢٧٨.

(٥) سقط من ب. وهي في الرازي بصيغة : وإن كان أكثر الخلق لم يعرفوها ولم يقفوا عليها وانظر : الرازي ٢٦ / ٢٧٨.

(٦) البغوي في معالم التنزيل ٦ / ٧٥.

(٧) لم أجد نصه هذا أو رأيه في المعاني له بل وجدته في القرطبي ١٥ / ٢٥٤ والبغوي ٦ / ٧٥.

(٨) في ب : وفارق بدون عائد :

٥١١

الروح ولذلك لم يخفف ههنا. والعامة على ميّت وميّتون ، وقراءة ابن محيصن وابن أبي عبلة واليماني : مائت ومائتون (١) ، وهي صفة مشعرة بحدوثها دون ميّت ، وقد تقدم أنه لا خلاف بين القراء في تثقيل مثل هذا.

فصل

والمراد أن هؤلاء الأقوام وإن لم يلتفتوا إلى هذه الدلائل القاهرة لأجل الحسد فلا تبال (٢) يا محمد بهذا فإنك ستموت وهم أيضا يموتون (٣) «ثمّ إنّكم» تحشرون يوم القيامة وتختصمون عند الله تعالى والعادل الحق (٤) يحكم بينكم فيوصل إلى كل أحد حقه وحينئذ يتميز المحق من (٥) المبطل.

ثم إنه تعالى بين نوعا آخر من قبائح أفعالهم وهم أنهم يكذبون ويضمون إليه أنهم يكذبون القائلالمحق أما كذبهم فهو أنهم أثبتوا لله ولدا وشركاء ، وأما تكذيبهم الصادق فلأنهم يكذبون (القائل (٦) المحق) محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعد قيام الدلائل القاطعة على كونه صادقا في ادّعاء النّبوة ، ثم أردفه بالوعيد فقال : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) أي منزل ومقام (٧) للكافرين ، وهذا استفهام بمعنى التقرير (٨).

ولما ذكر (الله) من افترى على الله الكذب أو كذب بالحق ذكر مقابله وهو الذي جاء بالصّدق وصدّق به ، وقوله : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) لفظ مفرد ، ومعنا جمع (٩) لأنه أريد به الجنس ، وقيل : لأنه قصد به الجزاء وما كان كذلك كثر فيه وقوع : «الذي» موقع «الذين» ولذلك روعي معناه فجمع في قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) كما روعي معنى «من» في قوله : «للكافرين» فإن «الكافرين» ظاهر واقع موقع المضمر ؛ إذ الأصل مثوى لهم (١٠) ، وقيل : بل الأصل : والذين جاء بالصدق فحذفت النون تخفيفا كقوله : (كَالَّذِي خاضُوا) [التوبة : ٦٩] وهذا وهم ؛ إذ لو قصد ذلك لجاء بعده ضمير الجمع فكان يقال : والّذي جاءوا ، كقوله : (كَالَّذِي خاضُوا)(١١). ويدل عليه أن نون التثنية إذا حذفت عاد الضمير مثنّى كقوله :

__________________

(١) من الأربع فوق العشر المتواترة فقد ذكرها صاحب الإتحاف ٣٧٥ كما ذكرها من الشواذ ابن خالويه ١٣١.

(٢) في ب : فلا تقال. خطأ.

(٣) في ب : سيموتون.

(٤) في ب : المحق.

(٥) كذا في الرازي وفي ب الحق عن الباطل.

(٦) تكرير من أللسطر الأعلى.

(٧) في ب : وقيام.

(٨) كقوله : «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ».

(٩) قال أبو زكريا الفراء : «الذي غير مؤقت فكأنه في مذهب جماع في المعنى» الفراء في معانيه ٢ / ٤١٩ وانظر : التبيان ١١١١ والبيان ٢ / ٣٢٣.

(١٠) هذا معنى كلام أبي حيان في البحر ٧ / ٤٢٨ وباللفظ من الدر المصون ٤ / ٦٥١.

(١١) أورد هاذ الرأي ورده أبو حيان والسمين كل في كتابه الأول في البحر ٧ / ٤٢٨ ، والثاني في الدر ٤ / ٦٥١.

٥١٢

٤٣٠٠ ـ أبني كليب إنّ عمّيّ اللّذا

قتلا الملوك وفكّكا الأغلالا (١)

ولجاء (٢) كقوله :

٤٣٠١ ـ [و] إنّ الّذي حانت بفلج دماؤهم

هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد (٣)

وقرأ عبد الله : «والذي جاؤ بالصدق وصدقوا به» (٤). وقد تقدم تحقيق نظير هذه الآية في أوائل البقرة وغيرها ، وقيل : «الذي» صفة لموصوف محذوف بمعنى (٥) الجمع تقديره والفريق أو الفوج ، ولذلك قال : (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ). وقيل : المراد بالذي واحد (٦) بعينه وهو محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولكن لما كان المراد هو وأتباعه اعتبر ذلك فجمع فقال : «أولئك هم» كقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) [المؤمنون : ٤٩] قاله الزمخشري (٧) ، وعبارته : هو رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أراد به إياه ومن تبعه كما أراد بموسى إياه وقومه (٨) ، وناقشه أبو حيان في إيقاع الضمير المنفصل موقع المتصل ، قال : وإصلاحه أن يقول : وأراده به كما أراده بموسى وقومه (٩) ، قال شهاب الدين : ولا مناقشة لأنه مع تقديم «به» و «بموسى» لغرض من الأغراض استحال اتّصال الضمير ، وهذا كالبحث في قوله تعالى : (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ)(١٠) [النساء : ١٣١] وقوله :

__________________

(١) بيت من الكامل للأخطل يفتخر بقومه كعادة أهل الجاهلية والأغلال جمع غل وهو القيد يجعل في عنق الأسير ، وشاهده : عود الضمير في «قتلا» و «فكّكا» على المثنى المحذوف نونه تخفيفا لاستطالة الموصول بالصلة وهذا بخلاف الآية فإن الموصول فيها مفرد وانظر : البحر المحيط ٧ / ٤٢٨ والدر المصون ٤ / ٦٥٢ والكتاب ١ / ١٨٦ والمقتضب ٤ / ١٤٦ وشرح المفصل ٣ / ١٥٤ ، ١٥٥ والخزانة ٦ / ٦ وتصريح ابن هشام ١ / ١٣٢ والحجة للفارسي ١ / ٩٣ ، ١١٢ والهمع ١ / ٤٩ والديوان ٣٨٧.

(٢) في ب : ونحا بدل «ولجاء».

(٣) من الطويل للأشهب بن ثور التميمي ويعزى أيضا إلا حريث بن مخفض ، و «فلج» موضع في طريق البصرة إلى مكّة و «حانت دماؤهم» هلكوا ولم تؤخذ لهم دية أو قصاص. وشاهده كسابقه حيث عاد الضمير الجمعي في دماؤهم على «الذي» وهو مفرد لفظا لكنه حذف منه النون للخفة وأن الأصل «الذين». وانظر البيت في مجمع البيان للطبرسي ٧ / ١٠٩ و ١٣٣ والمقتضب ٤ / ١٤٦ والخزانة ٦ / ٢٥ ، ٣٤ والمحتسب ١ / ١٨٥ وشرح المفصل لابن يعيش ٣ / ١٥٤ ، ١٥٥ والمجاز ٢ / ١٩٠ والكتاب ١ / ١٨٧ والحجة لأبي علي ١ / ١١٢ والدر ٤ / ٦٥٢.

(٤) انظر : مختصر ابن خالويه ١٣٢ وفيه : «والذي جاء وصدقوا» بجمع في الثاني وإفراد في الأول.

(٥) في ب : يعني. وقد ذكر هذا الرأي الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٩٨ والسمين في الدر ٤ / ٦٥٢.

(٦) المرجعين السابقين أيضا.

(٧) المرجع السابق.

(٨) المرجع السابق.

(٩) البحر المحيط له ٧ / ٤٢٨.

(١٠) وقد بحث هناك في تلك الآية انفصال الضمير وهو «إياكم» فلم يقل وصيناكم ولكنه أفرد وفصل الضمير لغرض بلاغي. فقوله «من قبلكم» و «إياكم» كقول الزمخشري : أراد به إياه ومن تبعه ، كما أراد بموسى إياه وقومه. فلا معنى لتعقّب أبي حيان الزمخشري إذن. وهذا يشبه قول الله : «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» بالفصل فلم يقل : نعبدك وذلك لغرض بلاغيّ وهو التقديم وأن الله له العبادة لا لغيره. وانظر اللباب ٢ / ٤١١ ب.

٥١٣

(يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) [الممتحنة : ١] وهو أن بعض الناس زعم أنه يجوز الانفصال مع القدرة على الاتصال. وتقدم الجواب بقريب مما ذكرنا ههنا ، وتقدم بيان حكمة التقديم ثمة. وقول الزمخشري إن الضمير في : (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) لموسى وقومه فيه نظر بل الظاهر خصوص الضمير بقومه دونه لأنهم هم المطلوب منهم الهداية ، وأما موسى ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ فمهتد ثابت على الهداية (١) وقال الزمخشري أيضا : ويجوز أن يريد : والفوج أو الفريق الذي جاء بالصدق وصدق به وهم الرسول الذي جاء بالصدق وصحابته الذين صدقوا به (٢). قال أبو حيان : وفيه توزيع للصّلة ، والفوج هو الموصول فهو كقولك : «جاء الفريق الّذي شرف وشرف» والأظهر عدم التوزيع بل المعطوف على الصلة صلة لمن له الصلة الأولى (٣).

وقرأ أبو صالح (٤) وعكرمة بن سليمان (٥) ومحمد بن جحادة (٦) مخففا (٧) بمعنى صدق فيه ولم يغيره بل أداه من غير تحريف ، وقرىء : «وصدّق به» مشدّدا مبنيا للمفعول (٨).

فصل

المعنى فمن أظلم ممن كذب على الله فزعم أن له ولدا وشريكا وكذّب بالصّدق بالقرآن ، أو بمحمد إذ جاءه ، ثم قال (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) قال ابن عباس : والّذي جاء بالصدق رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وصدّق به محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تلقّاه بالقبول ، وقال أبو العالية والكلبي : والذي جاء بالصدق : رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وصدق به : أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ وقال قتادة : والذي جاء بالصدق رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وصدق به : هم المؤمنون لقوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ) [الأنفال : ٤]. وقال عطاء والذي جاء بالصدق : الأنبياء وصدق به : الأتباع وحينئذ يكون «الّذي» بمعنى «الّذين» كقوله: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا

__________________

(١) هذا اعتراض أبي حيان وتلميذه شهاب الدين السّمين على جار الله الزمخشري. وانظر : البحر المحيط ٧ / ٤٢٨ والدر المصون ٤ / ٦٥٣.

(٢) الكشاف ٣ / ٣٩٨.

(٣) البحر المحيط ٧ / ٤٢٨.

(٤) هو محمد بن عمير بن الربيع أبو صالح الهمذاني الكوفي القاضي مقرىء عارف بحرف حمزة. توفي في حدود سنة ٣١٠ ه‍. انظر : غاية النهاية لابن الجزري ٢ / ٢٢٢.

(٥) هو عكرمة بن سليمان بن كثير بن عامر أبو القاسم المكي كان إمام أهل مكة في القراءة بعد شبل وأصحابه بقي إلى قبيل المائتين. انظر : طبقات القراء ١ / ٥١٥.

(٦) الأوديّ الكوفي عن أنس وأبي حازم. وعنه ابن عون وشريك وآخرون مات سنة ١٣١ ه‍. وانظر الخلاصة ٣٢٠.

(٧) وانظر هذه القراءة في الكشاف ٣ / ٣٩٨ والدر المصون ٤ / ٦٥٣.

(٨) السابقين. وانظر أيضا المحتسب ٢ / ٢٣٧ وابن خالويه ١٣٢ وهي من الشّواذّ.

٥١٤

أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) [البقرة : ١٧]. وقال الحسن : هم المؤمنون صدقوا به في الدنيا وجاءوا به في الآخرة (١) ، (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ. لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

وهذا لا يفيد (٢) العبدية بمعنى الجهة والمكان بل بمعنى الإخلاص ، كقوله : (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٥٥].

ثم قال : (ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) قالت المعتزلة : وهذا يدل على أن الأجر مستحق لهم على إحسانهم في العبادة.

قوله : (لِيُكَفِّرَ اللهُ) في تعلق الجار وجهان :

أحدهما : أنها متعلقة بمحذوف أي يسّر لهم ذلك ليكفّر.

والثاني : أن تتعلق بنفس المحسنين كأنه قيل : الذين أحسنوا ليكفّر أي لأجل التكفير (٣).

قوله : (أَسْوَأَ الَّذِي) الظاهر أنه أفعل تفضيل ، وبه قرأ العامة وقيل : ليست للتفضيل بل بمعنى سيء الذي عملوا كقولهم : «الأشجّ والنّاقص أعدلا بني مروان» أي عادلاهم (٤). ويدل عليه قراءة ابن كثير ـ في رواية ـ : أسواء بألف بين الواو والهمزة (٥) بزنة أعمال جمع سوء ، وكذا قرأ في : (لَحْمَ) السّجدة (٦).

فصل

قوله : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يدل على حصول الثواب على أكمل الوجوه ، وقوله تعالى : (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ) يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه (٧) ومعنى تكفيرها أي يسترها عليهم بالمغفرة ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا

__________________

(١) وانظر كل ما سبق من أقوال في : تفسيري الإمامين البغوي والخازن معالم التنزيل ولباب التأويل ٦ / ٧٦.

(٢) قاله الإمام الرازي ٢٦ / ٢٨٠.

(٣) قال بهذين الوجهين السّمين في الدر ٤ / ٦٥٣ وأبو حيّان في بحره ٧ / ٤٢٨.

(٤) السابقين أيضا. والأشجّ هو عمر بن عبد العزيز وسمي كذلك لشجة من حافر دابة كانت في جبهته والناقص هو يزيد بن الوليد بن عبد الملك وسمي كذلك لأنه نقص من رواتب الجند. والشاهد في «أعدلا» فإنه بمعنى العادلين ولم يقصد به التفضيل ولو قصد به التفضيل لكان موحّدا. وانظر : شرح المفصل لابن يعيش ٣ / ٦.

(٥) ذكرها صاحب المختصر ١٣٢ والبحر المحيط ٧ / ٤٢٩ ولم ترو عنه في الكتب المتواترة ، وانظرها في الكشاف بدون نسبة ٣ / ٣٩٨.

(٦) عند قوله تعالى : «فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ»[فصلت : ٢٧] وانظر الدر المصون ٤ / ٦٥٤.

(٧) قاله الرازي في تفسيره ٢٦ / ٢٨١ ، ٢٨٠.

٥١٥

يعملون. وقال مقاتل : يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم ولا يجزيهم بالمساوىء (١) ، قال ابن الخطيب : واعلم أن مقاتلا كان شيخ المرجئة وهم الذين يقولون : لا يضرّ شيء من المعاصي مع الإيمان كما لا ينفع شيء من الطاعات مع الكفر. واحتج بهذه الآية فقال : إنها تدلّ على أن من صدق الأنبياء والرسل فإنه تعالى يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا ولا يجوز حمل هذا الأسوأ على الكفر السابق لأن ظاهر الآية أن التكليف (٢) إنما حصل في حال وصفهم بالتّقوى (٣) ، (وهو التقوى) (٤) من الشرك وإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد منه الكبائر التي يأتي بها بعد الإيمان فتكون هذه الآية تنصيصا على أنه تعالى يكفر عنهم بعد إيمانهم (أسوأ) (٥) ما يأتون به وذلك هو الكبائر.

قوله : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) العامة على توحيد «عبده» ، والأخوان (٦) عباده جمعا ، وهم الأنبياء وأتباعهم ، وقرىء «بكافي عباده» (٧) بالإضافة. ويكافي مضارع كافى عباده نصب على المفعول (٨) به.

ثم المفاعلة (٩) هنا تحتمل أن تكون بمعنى «فعل» نحو : يجازي بمعنى يجزي وبني على لفظ المفاعلة لما تقدم من أن بناء المفاعلة يشعر بالمبالغة لأنه للمبالغة ، ويحتمل أن يكون أصله يكافىء بالهمز من المكافأة بمعنى يجزيهم فخففت الهمزة (١٠) ، وهذا استفهام تقرير.

قوله : «ويخوّفونك» يجوز أن يكون حالا ؛ إذ المعنى أليس (الله) كافيك حال تخويفهم إياك بكذا كأنّ المعنى أنه كافيه في كل حال حتى في هذه الحال ، ويجوز أن تكون مستأنفة (١١).

فصل

من قرأ بكاف عبده يعني محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومن قرأ عباده (١٢) يعني الأنبياء عليهم (الصلاة و) السلام قصدهم قومهم بالسوء كما قال تعالى : (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ

__________________

(١) البغوي في معالم التنزيل ٦ / ٧٦.

(٢) في الرازي : يدل على أن التكفير.

(٣) وفيه : بالتبري.

(٤) تكملة من الرّازي.

(٥) سقط من أوانظر : تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٦ / ٢٨١.

(٦) قراءة متواترة سبعية ذكرت في الإتحاف ٣٧٥ والسبعة ٥٦٢ ومعاني الفراء ٢ / ٤١٩.

(٧ و ٨) قراءتان من الشواذ وذكرهما صاحب الكشاف ٣ / ٣٩٩ وصاحب البحر ٧ / ٤٢٩ وصاحب الدر المصون ٤ / ٦٥٤ وفيه : بكافي عبده.

(٧ و ٨) قراءتان من الشواذ وذكرهما صاحب الكشاف ٣ / ٣٩٩ وصاحب البحر ٧ / ٤٢٩ وصاحب الدر المصون ٤ / ٦٥٤ وفيه : بكافي عبده.

(٩) وهي المكافاة أو المكافأة بالهمز وغيره.

(١٠) قال بذلك الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٩٩ وانظر : البحر ٧ / ٤٢٩ ، والدر المصون ٤ / ٦٥٤.

(١١) أعربه السمين في الدر في المرجع السابق.

(١٢) وهي قراءة جعفر وحمزة والكسائي. قراءة سبعية كما أسلفت.

٥١٦

لِيَأْخُذُوهُ) [غافر : ٥] وكفاهم (١) الله شرّ من عاداهم. وقيل (٢) : المراد أن الله تعالى كفى نوحا ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ وإبراهيم النار ويونس ما دفع إليه فهو سبحانه وتعالى كافيك يا محمد كما كفى هؤلاء الرسل قبلك.

وقوله تعالى : (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) وذلك أن قريشا خوفوا النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ معاداة(٣) الأوثان وقالوا : لتكفّنّ عن شتم آلهتنا أو ليصيبنّك منهم خبل أو جنون ، فأنزل الله هذه الآية(٤).

ولما شرح الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ختم الكلام بخاتمة هي المفصل الحق فقال : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ) أي هذه الدلائل والبينات لا تنفع إلا إذا خص الله العبد بالهداية والتوفيق ، ثم قال : (أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ). وهذا تهديد للكفّار(٥).

فصل

احتج أهل السنة بهذه الآية على مسألة خلق الأعمال لأن قوله : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ) صريح في ذلك ، وتمسك المعتزلة بقوله أليس الله بعزيز ذي انتقام ولو كان الخالق للكفر فيهم هو الله تعالى لكان الانتقام والتهديد غير لائق. والله أعلم (٦).

قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ)(٣٨)

قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ.) .. الآية. لما بين وعيد المشركين ووعد الموحدين عاد إلى إقامة الدليل على تزييف طريق عبدة الأوثان وهذا التّزييف مبني على أصلين :

الأصل الأوّل : أن هؤلاء المشركين مقرون بوجود الإله القادر العالم الحكيم وهو المراد من قوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ). قال بعض العلماء العلم بوجود الإله القادر الحكيم الرحيم علم متفق عليه بين جمهور الخلائق لا نزاع بينهم فيه وفطرة العقل شاهدة بصحة هذا العلم فإن من تأمل في (٧) عجائب بدن

__________________

(١) في البغوي فكفاهم بالفاء.

(٢) نقله الرازي في التفسير الكبير ٢٦ / ٢٨١.

(٣) في البغوي معرّة معاداة.

(٤) الرازي والبغوي السابقين.

(٥) قاله الرازي في المرجع السابق.

(٦) نقله الرازي في المرجع السابق.

(٧) في الرازي : فإن من تأمل في عجائب أحوال السموات والأرض وفي عجائب أحوال النبات والحيوان خاصة وفي عجائب بدون الخ ...

٥١٧

الإنسان وما فيه من أنواع الحكم الغريبة والمصالح العجيبة علم أنه لا بدّ من الاعتراف بالإله القادر الحكيم الرحيم.

والأصل الثاني : أن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير والشر وهو المراد من قوله : (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ) فثبت أنه لا بدّ من الإقرار بوجود (الله) الإله القادر الحكيم الرحيم ، وثبت أن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير والشر وإذا كان الأمر كذلك كانت عبادة الله كافية والاعتماد عليه كافيا وهو المراد من قوله : (قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ)(١).

قوله : (أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ) هي (٢) المتعدية لاثنين أولهما : «ما تدعون» ، وثانيهما : الجملة الاستفهامية (٣) والعائد على المفعول منها قوله «هنّ». وإنما أنّثه تحقيرا لما يدعون من دونه ولأنهم كانوا يسمونها بأسماء الإناث اللات ومناة والعزّى (٤) ، وتقدم تحقيق هذا.

قوله : (هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ) قرأ أبو عمرو كاشفات وممسكات ـ بالتنوين ـ ونصب «ضره ورحمته» وهو الأصل في اسم الفاعل (٥). والباقون بالإضافة. وهو تخفيف (٦).

فصل

قال مقاتل : لما نزلت هذه الآية سألهم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن ذلك فسكتوا فقال الله لرسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : قل حسبي الله ثقتي بالله واعتمادي (عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) يثق الواثقون (٧).

قوله تعالى : (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ)(٤٠)

قوله : (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) وهذا أمر تهديد أي أنكم تعتقدون في أنفسكم أنكم في نهاية القوة والشدة فاجتهدوا في أنواع مكركم وكيدكم فإني عامل في

__________________

(١) انظر : الرازي ٢٦ / ٢٨٢.

(٢) يقصد : «رأى».

(٣) وهي : «هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ».

(٤) قال بذلك أبو حيان في البحر ٧ / ٤٢٩ والسمين في الدر ٤ / ٦٥٤.

(٥) ومعروف أنّ اسم الفاعل يعمل عمل فعله إذا كان بمعنى الحال والاستقبال بشرط كونه منونا وإذا أضيف كما في القراءة هنا فيحذف التنوين وهو منوي مراد. وإن كانت إضافته إلى معرفة فإضافته في تلك الحال لفظية القصد منها التخفيف. وانظر شرح الأشموني ٢ / ٢٩٣ ، ٢٩٤ وابن يعيش ٢ / ١١٩ (بتصرف منهما).

(٦) السبعة ٥٦٢ ، والنشر ٢ / ٣٦٣ وإبراز المعاني ٦٦٩.

(٧) البغوي ٦ / ٧٧.

٥١٨

تقرير ديني فسوف تعلمون أن العذاب والخزى يصيبني أو يصيبكم (١).

قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ)(٤١)

قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِ) الآية .. اعلم أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يعظم عليه إصرارهم على الكفر كما قال تعالى : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ) [الكهف : ٦] وقال : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨] وقال : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣] فلما بين الله تعالى في هذه الآيات فساد مذاهب المشركين تارة بالدلائل البينات وتارة بضرب الأمثال وتارة بذكر الوعد والوعيد أردفه بكلام يزيل ذلك الخوف العظيم عن قلب الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : إنا أنزلنا إليك الكتاب الكامل الشريف لنفع الناس وهداهم وجعلنا إنزاله مقرونا بالحق وهو المعجز الذي يدل على أنه من عند الله فمن اهتدى فنفعه يعود إليه ومن ضل فضير ضلاله يعود إليه (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ)(٢) أي لست مأمورا بأن تحملهم على الإيمان على سبيل القهر بل القبول ، وعدم القبول مفوض إليهم وذلك تسلية للرسول ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ ثم بين تعالى أن الهداية لا تحصل إلا بتوفيق الله تعالى ، وكما أن الموت والنوم لا يحصلان إلا بتخليق الله تعالى ، كذلك الضلال لا يحصل إلا بأمر الله تعالى ، ومن عرف هذه الدقيقة فقد عرف سرّ الله في القدر ومن عرف سرّ الله تعالى في القدر هانت عليه المصائب فيصير التنبيه على هذه الدقيقة سببا لزوال ذلك الحزن عن قلب الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فهذا وجه النظم ، وفيه وجه آخر وهو أن الله تعالى ذكر حجة أخرى في إثبات أنه إله عالم ليدل على أنه بالعبادة أحقّ من هذه الأصنام (٣).

قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (٤٥)

قوله : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) أي الأرواح حين موتها فيقبضها عند انقضاء أجلها ، وقوله : (حِينَ مَوْتِها) يريد موت أجسادها (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ) يريد يتوفى الأنفس

__________________

(١) الرازي ٢٩ / ٢٨٣.

(٢) الرازي السابق.

(٣) وانظر ما مضى في تفسير الرازي ٢٦ / ٢٨٤.

٥١٩

التي لم تمت في منامها فالتي تتوفى عند النوم هي النفس التي بها العقل والتمييز ولكل إنسان نفسان إحداهما نفس الحياة وهي التي تفارقه عند الموت وتزول بزوالها النفس والأخرى هي النفس التي تفارقه إذا نام وهو بعد النوم يتنفس (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) فلا يردها إلى الجسد (وَيُرْسِلُ الْأُخْرى) أي يردها إلى الجسد وهي التي لم يقض عليها الموت (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو وقت موته(١).

قوله : (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ) عطف على «الأنفس» أي يتوفى الأنفس حين تموت ويتوفى أيضا الأنفس التي لم تمت في منامها ف «في منامها» ظرف «ليتوفّى» (٢). وقرأ الأخوان : «قضي» مبنيا للمفعول الموت رفعا لقيامه مقام الفاعل (٣).

فصل

قيل : إنّ للإنسان نفسا وروحا ، فعند النوم يخرج النّفس وتبقى الروح ، وعن عليّ قال : تخرج الروح عند النوم ويبقى شعاعه في الجسد ، فبذلك يرى الرؤيا فإذا انتبه من النوم عاد الروح إلى جسده بأسرع من لحظة ويقال : إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله فإذا أرادت الرجوع إلى أجسادها أمسك الله أرواح الأموات عنده وأرسل أرواح الأجساد حتى ترجع إلى أجسادها إلى انقضاء مدة حياتها (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) لدلالات على قدرته حيث لم يغلط في إمساك ما يمسك من الأرواح وإرسال ما يرسل منها.

وقال مقاتل : لعلامات لقوم يتفكرون في أمر البعث يعني أن توفّي نفس النائم وإرسالها بعد التّوفّي دليل على البعث (٤).

فإن قيل : قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) يدل على أن المتوفّي هو الله تعالى فقط ، ويؤكده قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الملك : ٢] وقوله : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) [البقرة: ٢٥٨] وقال في آية أخرى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) [السجدة : ١١] (وقال في (٥) آية ثالثة : (إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) [الأنعام : ٦١] فكيف الجمع؟

فالجواب : أن المتوفّي في الحقيقة هو الله تعالى إلا أنه تعالى فوض كل نوع إلى ملك من الملائكة ففوض قبض الأرواح إلى ملك الموت وهو الرئيس وتحته أتباع وخدم

__________________

(١) معالم التنزيل للبغوي ولباب التأويل للخازن ٦ / ٧٧ ، وانظر أيضا تفسير الرازي السابق.

(٢) نقل هذا الإعراب شهاب الدين السمين في الدر ٤ / ٦٥٤.

(٣) من القراءات المتواترة وانظر السبعة ٥٦٢ والنشر ٢ / ٣٦٣ وإبراز المعاني ٦٦٩ وزاد المسير ٧ / ١٨٥.

(٤) وانظر كل ما مضى في تفسيري البغوي والخازن معالم التنزيل ولباب التأويل ٦ / ٧٨.

(٥) ما بين القوسين زيادة من الرازي.

٥٢٠