اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٧٤

قوله : «جنتان» فيه ثلاثة أوجه :

الرفع على البدل من (١) «آية» وأبدل مثنّى من مفرد لأن هذا المفرد يصدق على هذا (٢) المثنى وتقدم في قوله : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) [المؤمنون : ٥٠].

الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر (٣). وضعف ابن عطية الأول ولم يبينه (٤). ولا يظهر (٥) ضعفه بل قوته وكأنه توهم أنهما مختلفان إفرادا أو تثنية فلذلك ضعف البدل عنده والله أعلم (٦).

الثالث ـ وإليه نحا ابن عطية ـ أن يكون جنتان مبتدأ وخبره (عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ)(٧). وردّه أبو حيان بأنه ابتداء بنكرة من غير مسوغ واعتذر عنه بأنه قد يعتقد حذف صفة أي جنّتان لهم أو جنتان عظيمتان فيصح ما ذهب إليه (٨) وقرأ ابن أبي عبلة جنتين بالياء نصبا على خبر كان واسمها «آية» (٩).

فإن قيل : اسم كان كالمبتدأ ولا مسوغ للابتداء به حتى يجعل اسم كان والجواب أنه يخصص بالحال المتقدمة عليه وهي صفته في الأصل ألا ترى أنه لو تأخر «لسبأ» لكان صفة «لآية» في هذه القراءة (١٠).

قوله : (عَنْ يَمِينٍ) إما صفة لجنتان أو خبر مبتدأ مضمر أي هما عن يمين (١١). قال المفسرون أي عن يمين الوادي وشماله. وقيل : عن يمين من أتاها وشماله وكان لهم واد قد أحاط الجنتان بذلك الوادي(١٢).

قال الزمخشري : أيّة آية في جنتين مع أن بعض بلاد العراق فيها ألف من الجنان؟ وأجاب بأن المراد لكل واحد جنتين أو عن يمين أيديهم وشمالهم جماعات من الجنان ولإيصال بعضها ببعض جعلها جنة واحدة (١٣).

__________________

(١) التبيان ١٠٦٥ و ١٠٦٦ والبيان ٢ / ٢٧٨ وإعراب النحاس ٣ / ٣٣٨ ومعاني الزجاج وإعرابه ٤ / ٢٤٨ والمشكل في إعراب القرآن لمكي ٢ / ٢٠٦.

(٢) الدر المصون ٤ / ٤٢٧ وانظر : الكشاف أيضا ٣ / ٢٨٤.

(٣) معاني الفراء ٢ / ٣٥٨ قال : «الجنّتان مرفوعتان لأنهما تفسير للآية» والكشاف ٣ / ٢٨٤ وانظر : البحر المحيط ٧ / ٢٦٩ وانظر أيضا المراجع السابقة.

(٤) في كلتا النسختين ولم يبينه وفي الدر المصون ولم يثبته.

(٥) في «ب» ولم يظهره.

(٦) البحر المحيط ٧ / ٢٦٩ و ٢٧٠ والدر المصون ٤ / ٤٢٧.

(٧) السابقان.

(٨) المرجعان السابقان.

(٩) انظر ذلك في إعراب القرآن للنحاس ٣ / ٣٣٨ ، ومعاني القرآن للفراء ٢ / ٣٥٨.

(١٠) الدر المصون ٤ / ٤٢٧.

(١١) المرجع السابق.

(١٢) من هؤلاء الخازن والبغوي ٥ / ٢٨٧.

(١٣) نقله عنه الرازي في تفسيره ٢٥ / ٢٥٠ ، وانظر ذلك بالمعنى من الكشاف ٣ / ٢٨٤.

٤١

قوله : «كلوا» على إضمار القول أي قال الله أو الملك كلوا من (١) رزق ربكم. وهذه إشارة إلى تكميل النعمة عليهم واشكروا له على ما رزقكم من النعمة فإن الشكر لا يطلب إلا على النعمة المعتبرة أي اعملوا له بطاعته (٢). قوله : (بَلْدَةٌ) أي بلدتكم بلدة (طيبة) (٣) وربكم (رَبٌّ غَفُورٌ) والمعنى أن أرض سبأ بلدة طيبة ليست مسبخة (٤).

قال ابن زيد : لم ير في بلدتهم بعوضة ولا ذباب ولا برغوث ولا حيّة ولا عقرب ولا وباء ولا وخم وكان الرجل يمر ببلدهم وفي ثيابه القمل فيموت القمل كلها (٥) من طيب الهواء ، فذلك قوله: (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) أي طيبة الهواء (وَرَبٌّ غَفُورٌ)(٦) قال مقاتل : وربكم إن شكرتم فيما رزقكم رب غفور للذنوب (٧). وقيل : ورب غفور أي لا عقاب عليه ولا عذاب في الآخرة (٨) وقرأ رويس (٩) بنصب «بلدة ، ورب» على المدح أو اسكنوا أو اعبدوا (١٠). وجعله أبو البقاء مفعولا به والعامل فيه «اشكروا» (١١) وفيه نظر ؛ إذ يصير التقدير اشكروا لربكم ربّا غفورا (١٢) ، ثم إنه تعالى لما بين ما كان من جانبه ذكر ما كان من جانبهم فقال : (فَأَعْرَضُوا) من كمال ظلمهم ، الإعراض بعد إبانة الآية كقوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) [السجدة: ٢٢] قال وهب : أرسل (١٣) الله إلى سبأ ثلاثة عشر نبيا فدعوهم إلى الله وذكروهم نعم الله عليهم وأنذروهم عقابه فكذبوهم وقالوا ما نعرف لله عزوجل علينا نعمة ، فقولوا لربكم فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع فذلك قوله عزوجل : فأعرضوا ، ثم ذكر كيفية الانتقام منهم كما قال تعالى : (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) [السجدة : ٢٢] وكيفيته أنه تعالى أرسل عليهم سيلا غرّق أموالهم وخرّب دورهم.

قوله : (سَيْلَ الْعَرِمِ) العرم فيه أوجه :

أحدها : أنه من باب إضافة الموصوف لصفته (١٤) في الأصل إذ الأصل : السّيل العرم ، والعرم الشديد وأصله من العرامة ، وهي الشّراسة والصعوبة وعرم فلان فهو عارم وعرم وعرام الجيش منه (١٥).

__________________

(١) الدر المصون ٤ / ٤٢٧ و ٤٢٨.

(٢) تفسير الرازي ٢٥ / ٢٥٠ و ٢٥١.

(٣) سقط من «أ».

(٤) في «ب» بسبخة.

(٥) في «ب» كله بالتذكير.

(٦) معالم التنزيل للبغوي ٥ / ٢٨٧.

(٧) المرجع السابق.

(٨) وهو رأي الفخر الرازي ٢٥ / ٢٥١ في تفسيره.

(٩) في «ب» ورش وهو تحريف ولم ينقل عنه وإنما المراد ما ذكره أعلى.

(١٠) ذكره ابن خالويه في المختصر ١٢١ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٨٥ بدون نسبة وهي قراءة عشرية لم يجىء بها في الإتحاف ولا في النشر شاذة من ناحية الرواية لا من جهة القياس اللغوي.

(١١) التبيان ١٠٦٦ ولكنه جعلها شاذة.

(١٢) الدر المصون ٤ / ٤٢٨.

(١٣) ذكره في زاد المسير ٦ / ٤٤٤.

(١٤) قاله أبو حيان ٧ / ٢٧١ والسمين في الدر ٤ / ٤٢٨.

(١٥) قاله في اللسان ٢٩١٣.

٤٢

الثاني : أنه من حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه تقديره فأرسلنا عليهم سيل المطر العرم أي الشديد الكثير (١).

الثالث : أن العرم اسم للبناء الذي يجعل سدا (٢) وأنشد (قول الشاعر) (٣) :

٤١٢٩ ـ من سبأ الحاضرين مأرب إذ

يبنون من دون سيله العرما (٤)

أي البناء القوي. قال البغوي : العرم والعرم جمع عرمة وهي السد (٥) الذي يحبس الماء.

الرابع : أن العرم اسم للوادي الذي كان فيه الماء (٦) نفسه. وقال ابن الأعرابي : العرم السيل الذي لا يطاق (٧) وقيل : كان ماء أحمر أرسله الله عليهم من حيث (٨) شاء.

الخامس : أنه اسم للجرذ (٩) وهو الفأر. قيل : هو الخلد (١٠) وإنما أضيف إليه ؛ لأنه تسبب عنه إذ يروى في التفسير أنه قرض السدّ (١١) إلى أن انفتح عليهم فغرقوا به. وعلى هذه الأقوال الثلاثة تكون الإضافة إضافة صحيحة معرفة نحو : غلام زيد ، أي سيل البناء أو سيل الوادي الفلانيّ أو سيل الجرذ. وهؤلاء هم الذين ضربت العرب بهم المثل للفرقة فقالوا : «تفرقوا أيدي سبا». وقد تقدم (١٢).

__________________

(١) بالمعنى من البحر ٧ / ٢٧١ وقد قال بذلك في الدر المصون ٤ / ٤٢٨ وفي «ب» الكبير بدلا من الكثير وانظر : الكشاف ٣ / ٢٨٥.

(٢) السمين السابق.

(٣) زيادة من «ب».

(٤) البيت من المنسرح وهو غير منسوب في البحر ٧ / ٢٧٠ والقرطبي ١٤ / ٢٨٣ واللسان «ع ر م» ٢٩١٤ وكذلك «س ب أ» وورد في اللسان بلفظ «مشرد» بدل «يبنون». وكذلك لم ينسب في غريب القرآن لابن قتيبة ٣٥٤ ولا في المجاز لأبي عبيدة ١٤٧ / ٢. وقد اختلف في نسبة هذا البيت فمن نسبه إلى النابغة الجعدي ومن نسبه إلى أمية بن أبي الصلت وهو في ديوان النابغة ١٣٤ وديوان أمية برقم ٥١ وملحق ديوان الأعشى. وقد جيء بالبيت ليدل به على أن العرم هو اسم للبناء الذي يجعل سدا. وهو في البحر بتحريف وتصحيف ظاهرين. وانظر : الكتاب ٣ / ٢٥٣ والتاج عرم والكشاف ٣ / ١٤٤ وشرح شواهده ٥٣٥.

(٥) في البغوي السكر وهو ما يوافق.

(٦) انظر البغوي ٥ / ٢٨٧ المرجع السابق والكشاف ٣ / ٢٨٥.

(٧) قال في اللسان : ابن الأعرابي : العرمة أرض صلبة إلى جنب الصبان. ٢٩١٥. وقد نقل رأي الأعرابي الإمام البغوي في معالم التنزيل ٥ / ٢٨٧.

(٨) المرجع السابق.

(٩) الدر المصون ٤ / ٤٢٨. والجرذ نوع من الفئران. انظر : حيوان الجاحظ ٥ / ٢٦٠.

(١٠) ضرب من الفئران قال بذلك في المرجع السابق ، وابن منظور في اللسان «خ ل د» ١٢٢٦ والقرطبي في الجامع ١٤ / ٢٨٥ ، ٢٨٦ والزجاج في معاني القرآن ٤ / ٢٤٨.

(١١) في «ب» السّكر.

(١٢) في اللّسان. وقد ذكره ابن يعيش في شرح المفصل ٤ / ١٢٣ كما شرحه الميداني في مجمع الأمثال له ٢ / ٤.

٤٣

فصل

قال ابن عباس ووهب وغيرهما : كان ذلك السد بنته بلقيس وذلك أنهم كانوا يقتتلون على ماء واديهم ، فأمرت بواديهم فسد بالعرم وهو المسنّاة بلغة حمير فسكت (١) ما بين الجبلين بالصخور وجعلت له أبوابا ثلاثة بعضها فوق بعض وبنت من دونه بركة ضخمة وجعلت فيها اثني عشر مخرجا على عدة أنهار هم يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء وإذا استغنوا سدّوها فإذا جاء المطر اجتمع إليه ماء أودية اليمن فاحتبس السيل من وراء السّدّ فأمرت بالباب الأعلى يفتح (٢) فجرى ماؤه في البركة فكانوا يسقون من بالباب الأعلى (ثم) (٣) من الثاني ثم من الثالث الأسفل فلا ينفذ الماء حتى يثوب الماء من السنة المقبلة فكانت تقتسمه بينهم على ذلك فبقوا على ذلك بعدها مدة فلمّا طغوا وكفروا سلّط الله عليهم جرذا يسمّى الخلد فنقب السد من أسفله فغرّق الماء جنانهم وخرب أرضهم (٤).

قوله : (بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ) قد تقدم في البقرة أن المجرور بالباء هو الخارج ، والمنصوب هو الداخل(٥) ؛ ولهذا غلط من قال من الفقهاء : فلو أبدل ضادا بظاء بطلت صلاته بل الصواب أن يقول : ظاء بضاد (٦).

قوله : (أُكُلٍ خَمْطٍ) قرأ أبو عمرو بإضافة «أكل» إلى «خمط». والباقون بتنوينه غير مضاف (٧) ، وقد تقدم في البقرة (٨) أن ابن عامر ، وأبا عمرو والكوفيّين يضمون كاف «أكل» غير المضاف لضمير المؤنثة وأنّ نافعا وابن كثير يسكنونها (٩) بتفصيل هناك تقدم تحريره فيكون القراء هنا على ثلاث مراتب ، الأولى لأبي عمرو أكل خمط بضم كاف أكل مضافا «لخمط».

الثانية : لنافع وابن كثير بتسكين كافه وتنوينه.

الثالثة : للباقين ضم كافه وتنوينه فمن أضاف جعل الأكل بمعنى الجنى والثّمر (١٠).

__________________

(١) الأصح كما في (ب) فسدت.

(٢) في (ب) ففتح.

(٣) سقط من «أ».

(٤) ذكر هذا الأثر الخازن في لباب التأويل والبغوي في معالم التنزيل ٥ / ٢٨٧ و ٢٨٨.

(٥) يشير إلى قوله تعالى : «اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى» الآية (١٦) ويقصد بالخارج : الجنتين اللتين فيهما أزهار وأنهار وفاكهة وهو كلمة «بجنّتيهم» والداخل : وهو المفعول «جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ» مثلما جاءت به سورة البقرة فلقد تركوا الهدى «بالهدى» واشتروا الضلالة وهو الداخل ، وهنا يتضح التنظير بآية البقرة وانظر : اللباب ١ / ٤٧ ب.

(٦) الدر المصون ٤ / ٤٢٩.

(٧) النشر ٢ / ٣٥٠ والسبعة ١٩٠ و ٥٢٨ والإتحاف ٣٥٩ ومعاني القرآن للفراء ٢ / ٣٥٨ و ٣٥٩ والكشف ٢ / ٢٠٥ وحجة ابن خالويه ٢٩٣.

(٨) عند قوله تعالى : فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ وهي الآية ٢٦٥ منها.

(٩) المراجع السابقة.

(١٠) انظر هذا في الدر المصون للسمين ٤ / ٤٢٩.

٤٤

والخمط قيل : شجر الأراك وثمره يقال له : البرير. (و) هذا قول أكثر المفسرين (١) وقيل : كل شجر ذي شوك (٢) وقال المبرد والزجاج : كل نبت أخذ طعما من مرارة حتى لا يمكن أكله فهو خمط (٣). وقال ابن الأعرابي : الخمط ثمرة شجرة يقال لها : فسوة الضّبع على صورة الخشخاش لا ينتفع به (٤). قال البغوي : من جعل الخمط اسما للمأكول فالتنوين في «أكل» حسن ومن جعله أصلا وجعل «الأكل» ثمرة فالإضافة فيه ظاهرة والتنوين سائغ تقول العرب في بستان فلان أعناب كرم وأعناب كرم يترجم الأعناب بالكرم لأنها منه (٥).

قوله : (وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ) معطوفان على «أكل» لا على «خمط» لأن الخمط لا أكل له (٦) ، وقال مكي : لمّا لم يجز أن يكون الخمط نعتا للأكل ؛ لأن الخمط اسم شجر بعينه ولا بدلا ؛ لأنه ليس الأول ولا بعضه وكان الجنى والثمر من الشجر أضيف على تقدير «من» كقولك : «هذا ثوب خزّ» (٧). ومن نون فيحتمل أوجها :

الأول : أنه جعل «خمطا» وما بعده إما صفة «لأكل» (٨). قال الزمخشري : أو وصف الأكل بالخمط كأنه قيل : ذواتي أكل بشيع (٩). قال أبو حيان : والوصف بالأسماء لا يطّرد وإن كان قد جاء (١٠) منه شيء نحو قولهم : «مررت بقاع عرفج (١١) كلّه».

الثاني : البدل من «أكل» قال أبو البقاء : وجعل خمطا أكلا لمجاورته إياه ، وكونه سببا له(١٢) إلا أن الفارسيّ ردّ كونه بدلا قال : لأنّ الخمط ليس بالأكل نفسه (١٣) ، وقد تقدم جواب أبي البقاء ، وقد أجاب بعضهم عنه وهو منتزع من كلام الزمخشري أي أنه

__________________

(١) قال بذلك العلامة الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٢٤٩ والفراء في معاني القرآن أيضا ٢ / ٣٥٩.

(٢) ذكره أبو عبيدة في المجاز ٢ / ١٤٧.

(٣) معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٢٤٩.

(٤) ذكره في اللسان «خمط» ١٢٦٧ وانظر هذا كله في اللسان المرجع السابق.

(٥) ذكره البغوي في معالم التنزيل ٥ / ٢٨٨ وقد فسر ابن قتيبة في تفسيره غريب القرآن الخمط بشجر العضاه. انظر : الغريب ٣٥٦.

(٦) قاله في الدر المصون ٤ / ٤٢٩.

(٧) بتقديم وتأخير في عبارته من الكشف ٢ / ٢٠٧ وانظر الكشاف للزمخشري ٣ / ٢٨٥ وانظر : البيان لابن الأنباري ٢ / ٢٧٨ و ٢٧٩.

(٨) الدر المصون ٤ / ٤٢٩.

(٩) قال ذلك في الكشاف ٣ / ٢٨٥.

(١٠) البحر المحيط ٧ / ٢٧١.

(١١) قال في اللسان : العرفج والعرفج بفتح العين وكسرها نبت دقيق واحدته عرفجة وهذا الوصف الجامد يؤوّل بالمشتق وهو لفظ كثير.

(١٢) قال هذا في تبيانه ١٠٦٦.

(١٣) قال في الحجة ٦ / ١٧٢ و ١٧٣ : «لأنه ليس هو هو ولا بعضه لأن الجنى من الشجرة وليس الشجرة من الجنى فيكون إجراؤه عليه على وجه عطف البيان» فقد جعله عطف بيان لا بدلا.

٤٥

على حذف مضاف تقديره ذواتي (١) أكل أكل خمط قال : والمحذوف هو الأول في الحقيقة (٢).

الثالث : أنه عطف بيان وجعله أبو عليّ أحسن ما في الباب (٣) ، قال : كأنه بين أن الأكل هذه(٤) الشجرة ، إلا أن عطف البيان لا يجيزه البصريون في النّكرات إنما يخصّونه بالمعارف (٥) ، والأثل هو الطّرفاء. وقيل : شجر يشبه الطرفاء (٦) وقيل : نوع من الطرفاء ولا يكون على (٧) ثمرة إلا في بعض الأوقات يكون عليه شيء كالعفص (٨) أصغر منه في طعمه وطبعه ، والسّدر شجر (٩) معروف وهو شجر النّبق ينتفع بورقه لغسل اليد ويغرس في البساتين ولم يكن هذا من ذلك بل كان سدرا برّيا لا ينتفع به ولا يصلح ورقه لشيء ، وقال بعضهم (١٠) : السّدر سدران سدر له ثمرة عفصة لا يؤكل ولا ينتفع بورقه في الاغتسال وهو الضّال وسدر له ثمرة (١١) يؤكل وهو النّبق (و) (١٢) يغتسل بورقه. والمراد بالآية الأوّل. وقال قتادة : كان شجرهم خير الشّجر فصيره الله من شر الشّجر بأعمالهم (١٣).

قوله : «قليل» نعت ل «سدر». وقيل : نعت «لأكل». وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون نعتا «لخمط» و «أثل» و «سدر» (١٤) وقرىء «وأثلا وشيئا» بنصبهما عطفا على «جنّتين» (١٥) ثم بين (الله) (١٦) تعالى أن ذلك (كان) (١٧) مجازاة لهم على كفرانهم فقال:

__________________

(١) قال : «ووجه من نون أصله ذواتي أكل أكل فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه».

(٢) هذا قول أبي حيان في البحر في ردّه على السابق وانظر : البحر المحيط ٧ / ٢٧١.

(٣) البحر المحيط المرجع السابق والدر المصون ٤ / ٤٣٠.

(٤) انظر : المرجع السابق لأبي علي وهو الحجّة في القراءات السبع.

(٥) هذا اعتراض من أبي حيان في البحر ٧ / ٢٧١ والسمين في الدر ٤ / ٤٣٠ ومنع أهل البصرة جريانه على النكرة وقالوا لا يجري إلا في المعارف وقد نقل هذا عنهم الشلوبين ، وقال ابن مالك : لم أجد هذا النقل عنهم إلا من جهته وذهب الكوفيون والفارسي والزمخشري إلى جواز تنكيرهما ومثلوا له بقوله تعالى : «مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ» وهو الصحيح. انظر : همع السيوطي ٢ / ١٢١.

(٦) إلا أنه أعظم طولا انظر : الفراء في معانيه ٢ / ٣٥٩ ولسان العرب أثل ٢٨ وغريب القرآن ٣٥٦ والكشاف ٣ / ٢٨٥.

(٧) في «ب» عليه.

(٨) قال عنه في اللسان : «والعفص معروف يقع على الشجر وعلى الثمر». انظر : اللسان : «ع ف ص» ٣٠١٤.

(٩) قاله في معاني القرآن للفراء ٢ / ٣٥٩ قال : «قالوا إنه السّمر واحدته سمرة». وانظر : اللّسان «س د ر» ٩٧١.

(١٠) لعله ابن زياد انظر المرجع السابق.

(١١) في «ب» ثمر.

(١٢) سقط من «ب».

(١٣) ذكره القرطبي في الجامع ١٤ / ٢٨٧.

(١٤) البحر ٧ / ٢٧١ والدر المصون ٤ / ٤٣٠ والتبيان ١٠٦٦.

(١٥) مختصر ابن خالويه ١٢١ وهي من القراءات الشاذة وانظر الكشاف ٣ / ٢٨٥.

(١٦ و ١٧) سقطا من «ب».

٤٦

(جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي) بذلك الجزاء (إِلَّا الْكَفُورَ).

قوله : (وَهَلْ نُجازِي) قرأ الأخوان وحفص نجازي بنون العظمة وكسر الزاي لقوله : (جَزَيْناهُمْ) أي (نحن) (١) (وهل نجازي (٢) هذا الجزاء) إلا الكفور مفعول به والباقون بضم الياء وفتح الزاي مبنيا للمفعول (٣) إلا الكفور رفع على ما لم يسم فاعله ومسلم (٤) بن جندب «يجزى» للمفعول(٥) إلّا الكفور رفعا على ما تقدم وقرىء «يجزي» مبنيا للفاعل وهو الله تعالى «الكفور» نصبا على المفعول به (٦).

فصل

قال مجاهد : يجازي أي يعاقب ويقال في العقوبة يجازي وفي التوبة يجزى (٧). قال الفراء : المؤمن يجزى ولا يجازى (٨) أي يجزى الثواب بعمله ولا يكأفأ بسيّئاته. وقال بعضهم : المجازاة يقال في النعمة والجزاء في النقمة لكن قوله تعالى : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) يدل على أن «يجزي» في النّقمة ولعل من قال ذلك أخذه من المجازاة مفاعلة وهي في أكثر الأمر يكون ما بين اثنين يؤخذ من كل واحد جزاء في حق الآخر وفي النعمة لا تكون مجازاة لأن الله مبتدىء بالنعم(٩).

قوله : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها) بالماء والشجر وهي قرى الشام «قرى ظاهرة» متواصلة أي يظهر بعضها لبعضها يرى سواد القرية من القرية الأخرى لقربها منها فكان (١٠) شجرهم من اليمن إلى الشام فكانوا يبيتون بقرية ويقيلون بأخرى وكانوا لا يحتاجون إلى حمل زاد من سبأ إلى (١١) الشام.

فإن قيل : هذا من النعم والله تعالى أراد (١٢) بيان تبديل نعمهم بقوله : (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ) فكيف عاد مرة أخرى إلى بيان النعمة بعد النعمة؟

__________________

(١) سقط من «ب».

(٢) زيادة من (ب).

(٣) الفراء ٢ / ٣٥٩ والسبعة ٥٢٨ والإتحاف ٣٥٩.

(٤) أبو عبد الله الهذليّ مولاهم المدنيّ القاضي تابعيّ مشهور روى عن أبي هريرة وعرض على عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة عرض عليه نافع بعد سنة عشر ومائة انظر : غاية النهاية ٢ / ٢٩٧.

(٥) ذكره في المحتسب ٢ / ١٨٨ والمختصر ١٢١ والبحر ٧ / ٢٧١.

(٦) قال ابن جني في المحتسب : «وقال أبو حاتم : وهل يجازي إلّا الكفور بالنصب قراءة قتادة وابن وثاب والنّخعيّ في جماعة ذكرهم». وهذه القراءات شاذة غير متواترة وشذوذه رواية لا قياسا.

(٧) معالم التنزيل للبغوي ٥ / ٢٨٨.

(٨) قال : «وأما المؤمن فيجزى لأنه يزاد ويتفضّل عليه ولا يجازي» معاني القرآن ٢ / ٣٥٩.

(٩) ذكره الرازي في تفسيره ٢٥ / ٢٥٢.

(١٠) كذا هي هنا وفي «ب» : شجرهم وفي البغوي : «متجرهم».

(١١) انظر : معالم التنزيل للبغوي السابق.

(١٢) انظر الرازي السابق.

٤٧

فالجواب : أنه ذكر حال نفس بلدهم وبين تبديل ذلك بالخمط والأثل ثم ذكر حال خارج بلدهم وذكر عمارتها بكثرة القرى ثم ذكر تبديله ذلك بالمفاوز والبراري والبوادي بقوله : (باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) ، وقد فعل ذلك ويدل عليه قراءة من قرأ ربّنا بعّد بين أسفارنا على المبتدأ والخبر(١).

قوله : (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي قدرنا سيرهم من هذه القرى وكان سيرهم في الغدو والرّواح على قدر نصف يوم فإذا ساروا نصف يوم وصلوا إلى قرية ذات مياه وأشجار قال قتادة : كانت المرأة تخرج ومعها مغزلها وعلى رأسها مكتلها فتمتهن بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلىء مكتلها من الثمار وكان ما بين اليمن إلى الشام كذلك (٢).

قوله : (سِيرُوا) أي وقلنا لهم سيروا ، وقيل : هو أمر بمعنى الخبر أي مكّنّاهم من السير فكانوا يسيرون فيها ليالي وأياما أي بالليالي والأيّام أي وقت شئتم «آمنين» لا تخافون عدوّا ولا جوعا ولا عطشا (٣).

وقيل : معنى (٤) قوله تعالى : (لَيالِيَ وَأَيَّاماً) أنكم تسيرون فيه إن شئتم ليالي وإن شئتم أياما لعدم الخوف بخلاف المواضع المخوفة فإن بعضها يسلك ليلا لئلا يعلم العدو بسيرهم وبعضها يسلك نهارا لئلا يقصدهم العدو إذا كان العدو غير مجاهر بالقصد والعداوة فبطروا (٥) وطغوا ولم يصبروا على العاقبة وقالوا : لو كان جنى جنّاتنا أبعد مما هي كان أجدر أن نشتهيه فقالوا : ربّنا بعّد بين أسفارنا فاجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز لنركب فيها الرّواحل ونتزود فيها الأزواد. وقال مجاهد : بطروا (٦) النعمة وسئموا الراحة كما طلبت اليهود الثوم والبصل. ويحتمل أن يكون ذلك لفساد اعتقادهم وشدة اعتمادهم على أن ذلك لا يعدم (٧) كما يقول القائل لغيره : اضربني إشارة إلى أنه لا يقدر عليه ، ويحتمل أن يكون قولهم : (رَبَّنا باعِدْ) بلسان الحال أي لما كفروا فقد طلبوا أن يبعّد بين أسفارهم وتخريب المعمور من ديارهم ، وقوله : «ظلموا» يكون بيانا (٨) لذلك.

قوله : «ربّنا» العامة بالنصب على النداء. وابن كثير وأبو عمرو (٩) وهشام «بعّد»

__________________

(١) وهي قراءة ابن عباس وابن الحنفيّة وابن يعمر بخلاف والكلبيّ وعمرو بن فائد. انظر : المحتسب ٢ / ١٨٨ والرازي ٢٥ / ٢٥٢ وهي من الشواذ رواية لا قياسا وستأتي.

(٢) معالم التنزيل للبغوي ٥ / ٨٩ وكذلك لباب التأويل للخازن ٥ / ٢٨٩.

(٣) السابقان.

(٤) وهو قول الرازي ٢٥ / ٢٥٢.

(٥) تفسير البغوي السابق.

(٦) السابق.

(٧) في الرازي لا يقدر وهو والصحيح.

(٨) المرجع السابق.

(٩) انظر : تقريب النشر ١٦٦ والنشر ٢ / ٣٥٠ والكشف ٢ / ٢٠٧ وقال مكي : «والقراءتان بمعنى حكى سيبويه : ضعف وضاعف بمعنى فهو بمعنى التباعد». وانظر أيضا القرطبي ١٤ / ٢٩٠ ، والسبعة ٥٢٩ والإتحاف ٣٥٩ والكشاف ٣ / ٢٨٦ وإعراب النحاس ٤ / ٣٤٢ ومعاني الفراء ٢ / ٣٥٩.

٤٨

بتشديد العين فعل طلب والباقون باعد طلب أيضا من المفاعلة بمعنى الثلاثي. وقرأ ابن الحنفيّة (١) وسفيان بن حسين (٢) وابن السّميفع بعد (٣) بضم العين فعلا ماضيا والفاعل المسير أي بعد المسير ، و «بين» ظرف وسعيد بن أبي الحسن كذلك إلا أنه ضمّن (٤) نون بين جعله فاعل «بعد» فأخرجه عن الظرفية(٥) ، كقراءة (تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الأنعام : ٩٤] رفعا. فالمعنى على القراءة المتضمنة للطلب أنهم أشروا وبطروا فلذلك طلبوا بعد الأسفار (٦) ، وعلى القراءة المتضمنة للخبر الماضي يكون شكوى من بعد الأسفار التي طلبوها أولا (٧) وقرأ جماعة كبيرة منهم ابن عباس وابن الحنفية ويعقوب (وعمرو) (٨) بن فايد : «ربّنا» رفعا على الابتداء بعّد بتشديد العين فعلا ماضيا خبره (٩) ، وأبو رجاء والحسن ويعقوب كذلك إلا أنه «باعد» بالألف (١٠) والمعنى على هذه القراءة شكوى بعد أسفارهم على قربها ودنوّها تعنّتا منهم وقرىء : «بوعد» مبنيا (١١) للمفعول. وإذا نصبت «بين» بعد فعل متعد من هذه المادة في إحدى هذه القراءات سواء أكان أمرا أم ماضيا فجعله أبو حيان منصوبا على المفعول به لا ظرفا قال : «ألا ترى إلى قراءة من رفع كيف (١٢) جعله اسما»؟ قال شهاب الدين : إقراره على ظرفيته أولى ويكون المفعول محذوفا تقديره بعد المسير بين أسفارنا. ويدل على ذلك قراءة بعد بضمّ العين بين بالنصب فكما يضمر هنا الفاعل وهو ضمير السّير كذلك يبقى هنا «بين» على بابها وينوى السّير وكان هذا أولى ؛

__________________

(١) محمد بن علي بن أبي طالب أبو القاسم ابن الحنفية وردت الرواية عنه في حروف القرآن. روى عن أبيه وغيره من الصحابة وروى عنه بنوه إبراهيم وعبد الله والحسن مات سنة ثلاث وسبعين ه ، وانظر : غاية النهاية ٢ / ٢٠٤.

(٢) هو سفيان بن حسين بن حسن السّلميّ مولى عبد الله بن خازم الواسطي أبو محمد روى عن ابن سيرين والحكم بن عتيبة وروى عنه شعبة وعباد بن العوام وغيرهما مات في خلافة المهديّ. الخلاصة ١٢٣.

(٣) قاله في المحتسب ٢ / ١٨٩.

(٤) في «ب» ضمّ. وهو الأصح والأقرب.

(٥) لم يبينه في المحتسب بوضوح حيث قال : «وقرأ : ربّنا بعد ـ بفتح الباء والدال وضم العين ـ بين أسفارنا ؛ ابن يعمر وسعيد بن أبي الحسن ومحمد بن السّميقع وسفيان بن الحسين بخلاف والكلبي بخلاف». وصرح بذلك بوضوح القرطبي في ١٤ / ٢٩١ وأبو حيان في البحر ٧ / ٢٧٣. وانظر الكشاف ٣ / ٢٨٦.

(٦) الدر المصون ٤ / ٤٣١.

(٧) المرجع السابق.

(٨) ما بين القوسين سقط من «ب».

(٩) ذكرها في المحتسب ٢ / ١٨٩ وهي جائزة قياسا شاذّة رواية وقد ذكرها أيضا الزجاج في إعراب القرآن ٤ / ٢٥٠ والفرّاء في معانيه ٢ / ٣٥٩.

(١٠) انظر : المراجع السابقة وهي قراءة عشرية متواترة النشر ٢ / ٣٥٠ ، والإتحاف ٣٥٩.

(١١) مختصر ابن خالويه ١٢١ وهي قراءة شاذة وقد ذكر كل هذه القراءات أبو حيّان في البحر ٧ / ٢٧٢ و ٢٧٣ والنحاس في إعراب القرآن ٣ / ٣٤١ و ٣٤٢.

(١٢) قاله أبو حيان في البحر ٧ / ٢٧٣.

٤٩

لأن حذف المفعول (١) كثير جدا لا نزاع فيه وإخراج الظرف غير المتصرف عن ظرفيته فيه نزاع كثير (٢). وتقدم تحقيق هذا والاعتذار عن رفع «بينكم» في الأنعام (٣) ، وقرأ العامة أسفارنا جمعا. وابن يعمر «سفرنا» (٤) مفردا.

قوله : (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) عبرة لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم وشأنهم (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) وفرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق. وهذا بيان لجعلهم أحاديث. قال الشعبي: لما غرقت قراهم تفرّقوا في البلاد أما غسان فلحقوا بالشام ومرّ الأزد على عمان وخزاعة إلى تهامة وموالي جذيمة إلى العراق والأوس والخزرج إلى يثرب وكان الذي قدم منهم المدينة عمرو بن عامر وهو جدّ الأوس والخزرج (٥).

قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي فيما ذكرنا من حال الشاكرين ووبال الكافرين لعبر ودلالات (لِكُلِّ صَبَّارٍ) عن معاصي الله «شكور» لنعمة الله قال مقاتل (٦) : يعني المؤمن في هذه الآية صبور على البلاد شكور للنعماء قال مطرف (٧) : هو المؤمن إذا أعطي شكر ، وإذا ابتلي صبر (٨).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)(٢٣)

قوله : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) قرأ الكوفيون صدّق بتشديد الدال والباقون

__________________

(١) الدر المصون ٤ / ٤٣٢.

(٢) في : «لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» والاعتذار بأن «بَيْنَكُمْ» معناه وصلكم وقد ذكر هناك أقوالا لمن تعرضوا لمثل هذه الآية انظر : اللباب ٣ / ١٢٧ ب.

(٣) ذكرها ابن خالويه في مختصره وتلك من الشواذ غير المتواترة. المختصر ١٢١ وانظر البحر المحيط أيضا ٧ / ٢٧٣.

(٤) القرطبي ١٤ / ٢٩١.

(٥) قاله البغوي في معالم التنزيل ٥ / ٢٨٩.

(٦) هو رواية مالك بن أنس كان به صمم مات بالمدينة سنة ٢٢٠ ه‍ انظر المعارف ٥٢١.

(٧) المرجع السابق.

(٨) قاله في النشر ٢ / ٣٥٠ ، وتقريبه ١٦٢ والإتحاف والسبعة ٥٢٩ وابن خالويه في الحجة ٢٩٤ ، وانظر : الدر المصون ٤ / ٤٣٢ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٢٥١ ومعاني الفراء ٢ / ٣٦٠ وإعراب النحاس ٣ / ٣٤٣ والكوفيون هم : حمزة وعاصم والكسائي ومن حذا حذوهم.

٥٠

بتخفيفها (١) ، فأما الأولى «فظنّه» مفعول به (٢) والمعنى أن ظنّ إبليس ذهب إلى شيء فوافق فصدق هو ظنه على المجاز والاتساع ومثله : كذّبت ظنّي ونفسي وصدّقتهما وصدّقاني وكذّباني وهو مجاز شائع سائغ أي ظن شيئا فوقع (٣) وأصله من قوله : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) [النساء : ١١٩] وقوله : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص : ٨٢] (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) [الأعراف : ١٧] فصدق ظنه وحققه بفعله ذلك بهم واتباعهم إياه. وأما الثانية : فانتصب «ظنه» على ما تقدم من المفعول به كقولهم «أصبت ظنّي ، وأخطأت ظنّي» (٤) أو على المصدر بفعل مقدر أي «يظنّ ظنّه» أو على إسقاط (الخافض (٥) أي) في ظنّه (٦) ، وزيد بن علي والزّهريّ بنصب «إبليس» ورفع «ظنّه» (٧) كقول الشاعر :

٤١٣٠ ـ فإن يك ظنّي صادقا فهو صادق

 ..........(٨)

جعل «ظنه» صادقا (٩) فيما ظنه مجازا واتساعا ، وروي عن أبي عمرو برفعهما (١٠) وهي

__________________

(١) ذكر أبو البقاء ١٠٦٧ وابن الأنباري ٢ / ٢٧٩ والفراء في معانيه ٢ / ٣٦٠ والنحاس ٣ / ٣٤٤ والزجاج في ٤ / ٢٥١ ومكي في المشكل ٢ / ٢٠٨.

(٢) الدر المصون ٤ / ٤٣٢.

(٣) التبيان ١٠٦٧ والبيان لابن الأنباري ٢ / ٢٧٩ قال ابن الأنباري : «أن يكون منصوبا انتصاب المفعول به على الاتساع». وقال أبو البقاء في التبيان : «قوله تعالى : «صَدَّقَ عَلَيْهِمْ» بالتخفيف و «إبليس» فاعله ، و «ظنه» بالنصب على أنه مفعول ، كأنه ظن فيهم أمرا وواعده نفسه فصدقه».

(٤) في «ب» صدقه بدل «ظنه» وهو تحريف وخطأ فالتصحيح من «أ» ومن المعنى واللفظ أيضا وانظر : بيان ابن الأنباري ٢ / ٢٧٩ ومشكل إعراب مكي ٢ / ٢٠٨ والدر المصون ٤ / ٤٣٣.

(٥) ما بين القوسين سقط من «ب».

(٦) التبيان ١٠٦٧ والبحر المحيط ٧ / ٢٧٣ والدر المصون ٤ / ٤٣٣ والزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٢٥٢ والفراء في معانيه ٢ / ٣٦٠.

(٧) أوردها ابن جني في المحتسب ٢ / ١٩١ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٨٦ والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن ١٤ / ٢٩٠ ومكي في المشكل ٢ / ٠٨ وابن الأنباري في البيان ٢ / ٢٧٩ والنحاس في إعراب القرآن ٣ / ٣٤٣ والفراء في معاني القرآن ٢ / ٣٦٠. وقد اعترض أبو حاتم ـ فيما نقله النحاس في إعرابه ـ على هذه القراءة قال : «ولا وجه لهذه القراءة عندي والله عزوجل أعلم» ، مع أن التفاسير السابقة نقلتها ووجهها الفراء فقال : «ولو قرأ قارىء ولقد صدق عليهم إبليس ظنه ، يريد : صدقه ظنه عليهم كما تقول : صدقك ظنك والظن يخطىء ويصيب». وانظر هذه القراءة أيضا في التبيان لأبي البقاء ١٠٦٧ والبحر لأبي حيان ٧ / ٢٧٣.

(٨) صدر بيت من الطويل غير منسوب لقائل عجزه :

 ..........

يفد نحوكم ألفا من الخيل أقرعا

والأقرع : السّنام. وقد استشهد به على إسناد الصدق إلى الظن مجازا واتساعا ، والبيت في التبيان ١٠٦٧ والحجة لأبي علي ١ / ٢٥ والدر المصون ٤ / ٤٣٣ واللسان ألف والمذكر والمؤنث ٥٢٢ ومجمع البيان للطّبرسيّ ٧ / ٦٠٧.

(٩) المثبت في كلتا النسختين : «صادقة» والظاهر «صادقا».

(١٠) الكشاف ٣ / ٢٨٦ وابن خالويه ١٢١ والفراء ٢ / ٣٦٠ وجعلها على التكرير أي البدل.

٥١

واضحة جعل «ظنه» بدل اشتمال من إبليس والظاهر أن الضمير في «عليهم» عائد على أهل سبأ و (إِلَّا فَرِيقاً) استثناء من فاعل «اتّبعوه» و (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) صفة «فريقا» و «من» للبيان لا للتبعيض لئلا يفسد المعنى ؛ إذ يلزم أن يكون بعض من آمن اتبع إبليس (١).

فصل

قال المفسرون : صدق عليهم أي على أهل سبأ. وقال مجاهد : على الناس كلهم إلا من أطاع الله فاتّبعوه إلّا فريقا من المؤمنين (٢). قال السدي عن ابن عباس يعني المؤمنين كلهم لأن المؤمنين لم يتبعوه في أصل الدين (٣) وقد قال تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الحجر : ٤٢] يعني المؤمنين وقيل : هو خاص في المؤمنين الذين يطيعون الله ولا يعصونه. وقال ابن قتيبة : إن إبليس سأل النظرة فأنظره الله قال : لأغوينّهم ولأضلّنّهم لم يكن مستيقنا وقت هذه المقالة أن ما قاله فيهم يتم وإنما قال ظنا فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم (٤).

قوله : (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ) هذا استثناء مفرغ من العلل العامة تقديره : وما كان له عليهم (من سلطان) (٥) استيلاء لشيء من الأشياء إلا لهذا وهو تمييز المحقّ من الشّاكّ (٦).

قوله : «منها» متعلق بمحذوف على معنى البيان أي أعني منها وبسببها (٧). وقيل : «من» بمعنى «في». وقيل : هو حال من «شكّ» (٨). وقوله : (مَنْ يُؤْمِنُ) يجوز في «من» وجهان :

أحدهما : أنها استفهامية فتسدّ (٩) مسدّ مفعولي العلم كذا ذكر أبو البقاء (١٠). وليس بظاهر ؛ لأن المعنى إلا لنميّز (١١) ويظهر للناس من يؤمن ممن لا يؤمن فعثر عن مقابله بقوله (مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ) لأنه من نتائجه ولوازمه.

__________________

(١) قاله في الدر المصون ٤ / ٤٣٣ والبيان ٢ / ٢٧٩.

(٢) زاد المسير ٦ / ٤٥٠.

(٣) معالم التنزيل للبغوي ٥ / ٣٨٩.

(٤) قال ذلك في المشكل ١٤٠ بينما قال في الغريب ٣٥٦ «وذلك أنه قال : لأضلنهم ولأغوينهم ولآمرنّهم بكذا فلما اتبعوه وأطاعوه صدق ما ظنه أي فيهم».

(٥) سقط من «أ» وزيادة من «ب».

(٦) قاله السمين في الدر المصون ٤ / ٤٣٣.

(٧) نقله في التبيان ١٠٦٧ والبحر ٧ / ٢٧٣.

(٨) التبيان ١٠٦٧ والدر المصون ٤ / ٤٣٣ وقد جعلها أبو جعفر النحاس في كتابه إعراب القرآن : «زائدة» انظر تفسيره ٣ / ٣٤٤.

(٩) في «ب» تسدّ بدون فاء.

(١٠) التبيان ١٠٦٧ قال : «يجوز أن يكون بمعنى الذي فينتصب بنعلم وأن يكون استفهاميا في موضع بالابتداء».

(١١) في «ب» ليميز بالياء.

٥٢

والثاني : أنها موصوله (١) وهذا هو الظاهر على ما تقدم تفسيره.

فصل

قال ابن الخطيب : إن علم الله من الأزل إلى الأبد محيط بكل معلوم وعلمه لا يتغير وهو في كونه عالما لا يتغير ولكن يتغير تعلق علمه فإنّ العلم صفة كاشفة يظهر فيها كل ما في نفس الأمر فعلم الله في الأزل أن العالم سيوجد فإذا وجد علمه موجودا بذلك العلم وإذا عدم علمه (٢) معدوما كذلك المرآة المصقولة الصافية يظهر فيها صورة زيد إن قابلها ثم إذا قابلها عمرو يظهر فيها صورته والمرآة لم تتغير في ذاتها ولا تبدلت في صفاتها وإنما التغيير في الخارجات فكذلك ههنا (٣).

قوله : (إِلَّا لِنَعْلَمَ) أي ليقع في العلم صدور الكفر من الكافر ، والإيمان من المؤمن وكان علمه فيه أن سيكفر زيد ويؤمن عمرو (٤) قال البغوي : المعنى (٥) إلا ليميز المؤمن من الكافر وأراد علم الوقوع والظهور وقد كان معلوما عنده بالغيب (٦). وقوله : (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) محقّق ، ذلك أن الله تعالى قادر على منع إبليس منهم عالم بما سيقع فالحفظ يدخل في مفهومه العلم والقدرة إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه حفظه ولا الجاهل (٧).

قوله : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) مفعول «زعمتم» الأول محذوف هو عائد الموصول ، والثاني أيضا محذوف قامت صفته مقامه أي زعمتموهم شركاء من دون الله ولا جائز أن يكون : (مِنْ دُونِ اللهِ) هو المفعول الثاني ؛ إذ لا ينعقد منه مع ما قبله كلام لو قلت : هم من دون الله أي من غير نية موصوف لم يجز ولو لا قيام الوصف مقامه أيضا لم يحذف لأنّ حذفه اختصارا (٨) قليل على أن بعضهم منعه (٩).

__________________

(١) الدر المصون ٤ / ٤٣٣ وانظر المرجع السابق.

(٢) في تفسيره «يعلمه».

(٣) نقله في تفسيره «التفسير الكبير» ٢٥ / ٢٥٣ و ٢٥٤.

(٤) المرجع السابق.

(٥) قاله في معالم التنزيل ٥ / ٢٩٠.

(٦) المرجع السابق.

(٧) في الفخر الرازي : «ولا العاجز» وهو الأصح انظر : الرازي ٢٥ / ٢٥٤.

(٨) قال بذلك شهاب الدين السمين في الدر المصون ٤ / ٤٣٤ و ٤٣٣.

(٩) قال في البحر : في حذف أحد مفعولي : «ظن وأخواتها» اختصارا خلاف منع ذلك ابن ملكون وأجازه الجمهور وهو مع ذلك قليل. والحذف لدليل يسمى اختصارا لغيره يسمى اقتصارا. وقال السيوطي في الهمع ١ / ١٥٢ : وأما حذف أحد المفعولين اقتصارا فلا يجوز بلا خلاف لأن أصلهما المبتدأ والخبر وذلك غير جائز فيهما وأما اختصارا فيجوز نقله عن الجمهور ومنعه طائفة منهم ابن الحاجب وصححه ابن عصفور وأبو إسحاق ابن ملكون كالاقتصار وقياسا على باب «كان» وقد ورد السماع هنا بالحذف قال :

ولقد نزلت فلا تظنّي غيره

منى بمنزلة المحب المكرم

٥٣

فصل

لما بين الله تعالى حال الشاكرين وحال الكافرين وذكرهم بما مضى عاد إلى خطابهم فقال لرسوله عليه (الصلاة (١) و) السلام : قل للمشركين (ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ). وفي الكلام حذف أي ادعوهم ليكشفوا (٢) الضر الذي نزل بكم في سنين (٣) الجوع ثم وصفها فقال : (لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) من خير وشر ونفع وضر (وَما لَهُمْ) أي الآلهة فيهما أي السموات والأرض (مِنْ شِرْكٍ) أي شركة (وَما لَهُ) أي وما لله (مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) عون (٤).

قوله : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) اللام في «لمن» فيها أوجه :

أحدها : أن اللام متعلقة بنفس الشفاعة قال أبو البقاء (٥) : وفيه نظر وهو أنه يلزم أحد أمرين إما زيادة اللام في المفعول في غير موضعها وإما حذف مفعول «تنفع» وكلاهما خلاف الأصل (٦).

الثاني : أنه استثناء مفرغ من مفعول الشّفاعة المقدر أي لا تنفع الشفاعة لأحد إلّا لمن أذن له ثم المستثنى منه المقدر يجوز أن يكون هو المشفوع له وهو الظاهر والشافع ليس مذكورا إنما دل عليه الفحوى والتقدير :

لا تنفع الشّفاعة لأحد من المشفوع لهم إلا لمن أذن له تعالى للشافعين أن يشفعوا فيه ويجوز أن يكون هو الشافع والمشفوع له ليس مذكورا تقديره لا تنفع الشفاعة إلا لشافع أذن له أن يشفع وعلى هذا فاللام في «له» لام التبليغ (٧) لا لام العلة (٨).

الثالث : أنه استثناء مفرغ أيضا لكن من الأحوال العامة تقديره لا تنفع الشفاعة إلا

__________________

(١) سقط من «ب».

(٢) وهذا يسمى إيجازا بالحذف.

(٣) قاله البغوي في معالم التنزيل ٥ / ٢٩٠.

(٤) قاله أبو عبيدة في المجاز ٢ / ١٤٧ قال : «من ظهير» أي معين.

(٥) التبيان لأبي البقاء العكبري ١٠٦٨.

(٦) قال بهذا النظر أبو حيان في بحره حيث قال : وهذا فيه قلة لأن المفعول متأخر فدخول اللام عليه قليل». وتبعه شهاب الدين السمين في : «دره المصون» ٤ / ٤٣٤. ومعروف أن اللام تزاد في المفعول إذا كان مقدما كقوله تعالى : «إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ» وكقوله : «لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ» أما السبب الثاني الذي ذكره وهو حذف مفعول : «تنفع» فهو غير معتدّ به فقد يجوز حذف المفعول به ما لم يكن نائبا عن الفاعل أو متعجّبا منه ، أو مجابا به أو محصورا أو محذوف العامل وهكذا. انظر : مغني اللبيب ٢١٧ ، والبحر ٧ / ٢٧٦ والهمع ١ / ١٦٦ و ١٦٧.

(٧) هي الجارة وهي لاسم السامع للقول أو ما معناه نحو : قلت له ، وأذنت له ، وفسرت له : «مغني اللبيب» ٢١٣.

(٨) قاله في الدر المصون ٤ / ٤٣٤.

٥٤

كائنة لمن أذن له (١). وقدره الزمخشري فقال : تقول الشفاعة لزيد على معنى أنه الشافع كما تقول : الكرم لزيد على معنى أنه المشفوع له كما تقول : القيام لزيد فاحتمل قوله : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) أن يكون على أحد هذين الوجهين أي لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له من الشافعين ومطلقة له أو لا تنفع الشّفاعة إلا كائنة لمن أذن له أي لشفيعه أو هي اللام الثانية في قولك : «أذن زيد لعمرو» أي لأجله فكأنه قيل : إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله وهذا وجه لطيف وهو الوجه. انتهى (٢). فقوله : «الكرم لزيد» يعني أنها ليست (٣) لام العلة بل لام الاختصاص (٤). وقوله : القيام لزيد يعني أنها لام العلة (٥) كما هي في : «القيام لزيد» وقوله : «أذن زيد لعمرو» أن الأولى للتبليغ والثانية لام العلة ، وقرأ الأخوان وأبو عمرو «أذن» مبنيا للمفعول والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور والباقون مبنيا للفاعل أي أذن الله وهو المراد في القراءة الأخرى وقد صرح به في قوله : (إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ) [النجم : ٢٦] و (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ)(٦).

فصل

معنى الآية إلّا لمن أذن الله له في الشفاعة قاله تكذيبا لهم حيث قالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ويجوز أن يكون المعنى إلا لمن أذن الله في أن يشفع له (٧).

قوله : (حَتَّى إِذا) هذه غاية لا بدّ لها من مغيّا وفيه أوجه :

أحدها : أن قوله : «فاتّبعوه» على أن يكون الضمير في «عليهم» من قوله : (صَدَّقَ عَلَيْهِمْ) وفي «قلوبهم» عائدا على جميع الكفار ويكون التفريغ حالة مفارقة الحياة أو يجعل اتباعهم إياه مفارقة (٨) إلى يوم القيامة مجازا. والجملة من قوله (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) معترضة بين الغاية والمغيا. ذكره أبو حيان. وهو حسن (٩).

والثاني : أنه محذوف قاله ابن عطية كأنه قيل : ولا هم شفاء كما تحبّون أنتم بل هم عبدة أو مسلمون أي منقادون (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) انتهى (١٠). وجعل الضمير في

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) نقله في الكشاف ٣ / ٢٨٧.

(٣) قاله في الكشاف المرجع السابق ٣ / ٢٨٧.

(٤) وهي التي تفيد أن ما قبلها خاص بما بعدها كقولهم : السّرج للفرس.

(٥) وهي التي تقدر بمعنى لأجل أي ثبوت ما قبلها لأجل ما بعدها. وانظر : البحر المحيط ٧ / ٢٧٧ والدر المصون ٤ / ٤٣٥.

(٦) الآية ١٠٩ من سورة طه و ٣٨ من سورة النبأ.

(٧) قاله البغوي في معالم التنزيل ٥ / ٢٩٠.

(٨) في البحر المحيط : «مصاحبة لهم».

(٩) وهذا معنى كلام أبي حيان في البحر ٧ / ٢٧٧.

(١٠) المرجع السابق.

٥٥

«قلوبهم» عائدا على الملائكة وقدر ذلك وضعف قول من جعله عائدا على الكفار أو على جميع العالم.

وقوله : (قالُوا ما ذا) هو جواب «إذا» ، وقوله : (قالُوا الْحَقَّ) جواب لقوله : (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ)(١) و «الحقّ» منصوب بقال مضمرة أي قالوا : قال ربّنا الحقّ أي القول الحقّ (٢) ، إلّا أنّ أبا حيان ردّ هذا فقال : وما قدّره ابن عطية لا يصح لأن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها (و) (٣) هم منقادون عنده دائما لا ينفكون عن ذلك لا إذا فزّع عن قلوبهم ولا إذا لم يفزّع(٤).

الثالث : أنه «زعمتم» أي زعمتم الكفر في غاية التفريغ ثم تركتم ما زعمتم وقلتم : قال الحق وعلى هذا يكون في الكلام التفات من خطاب في قوله : «زعمتم» إلى الغيبة في قوله : قلوبهم» (٥).

الرابع : أنه ما فهم من سياق الكلام (٦) ، قال الزمخشري : فإن قلت (٧) : بأي شيء اتصل قوله: (حَتَّى إِذا فُزِّعَ)؟ ولأي شيء وقعت «حتّى» غاية؟ قلت : بما فهم من هذا الكلام من أن ثمّ انتظارا للأذن وتوقفا وتمهلا وفزعا من الراجين الشفاعة والشفعاء هل يؤذن لهم أو لا يؤذن؟ وأنه لا يطلق الإذن إلّا بعد مليّ من الزمان وطول من التّربّص ودل على هذه الحالة قوله ـ عزّ من قائل ـ (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [النبأ : ٣٧] إلى قوله : (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) [النبأ : ٣٨] فكأنه قيل : يتربصون ويتوقفون مليّا فزعين وجلين (٨) حتى إذا فزّع عن قلوبهم أي كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن تباشروا بذلك وقال بعضهم لبعض : ماذا قال ربّكم قالوا الحق وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى وقرأ ابن عامر فزّع مبنيا للفاعل (٩). فإن كان الضمير في «قلوبهم» للملائكة فالفاعل في «فزع» ضمير اسم الله تعالى لتقدم ذكره وإن كان للكفار فالفاعل ضمير مغويهم. كذا قال أبو حيان (١٠). والظاهر أنه يعود على الله

__________________

(١) الدر المصون ٤ / ٤٣٥.

(٢) المرجع السابق وقد قال ابن الأنباري في البيان «ما» في موضع نصب ب «قال» و «ذا» زائدة وكذلك ينصب الجواب ب «قال» وهو قوله تعالى : «قالُوا الْحَقَّ» انظر : البيان ٢ / ٢٨٠.

(٣) تكملة من البحر من كلام أبي حيان فيه.

(٤) البحر المحيط ٧ / ٢٧٨.

(٥) المرجع السابق وانظره أيضا في السمين ٤ / ٤٣٥.

(٦) السابق.

(٧) مع تغيير قليل في عبارته. انظره في الكشاف ٣ / ٢٨٧ و ٢٨٨.

(٨) كذا في «ب» وما في «أ» والكشاف «وهلين».

(٩) قاله ابن الجزري في النشر ٢ / ٣٥١ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٨٨ وأبو حيان في البحر ٧ / ٢٧٨ والبناء في الإتحاف ٣٥٩ وهي عشرية.

(١٠) البحر ٧ / ٢٧٨.

٥٦

مطلقا وقرأ الباقون مبنيا للمفعول (١) والقائم مقام الفاعل الجارّ بعده (٢) ، وفعل بالتشديد معناه السلب هنا نحوه «قرّدت البعير» أي أزلت قرادة كذا هنا أي أزال الفزع عنها أي كشف الفزع وأخرجه عن قلوبهم فالتفزيع لإزالة الفزع كالتّمريض والتّقريد (٣).

وقرأ الحسن فزع مبنيا للمفعول مخففا (٤) كقولك «ذهب (٥) بزيد» (٦) ، والحسن أيضا وقتادة ومجاهد فرّغ مشددا مبنيا للفاعل (٧) من الفراغ وعن الحسن أيضا تخفيف الراء ، وعنه (٨) أيضا وعن ابن عمر وقتادة مبنيا للمفعول (٩) والفراغ الفناء والمعنى حتى إذا أفنى الله الرجل أو انتفى بنفسه أو نفى الوجل والخوف عن قلوبهم فلما بني للمفعول قام الجار مقامه وقرأ ابن مسعود وابن عمر افرنقع من (١٠) الافرنقاع (١١) وهو التفرق قال الزمخشري : والكلمة مركبة من حروف المفارقة مع زيادة العين كما ركب «اقمطرّ» من حروف القمط مع زيادة الراء (١٢) ، قال أبو حيان : فإن عنى أن العين من حروف الزيادة (وكذا الراء وهو (١٣) ظاهر كلامه فليس بصحيح لأن العين والراء ليسا من حروف الزيادة) وإن عنى أنّ الكلمة فيها حروف ما ذكر وزاد إلى ذلك العين والراء والمادة «فرقع وقمطر» فهو صحيح انتهى (١٤) ، وهذه قراءة مخالفة للشواذ ومع ذلك هي لفظة غريبة ثقيلة اللفظ نص أهل البيان عليها (١٥) ومثلوا بها وحكي عن عيسى (١٦) بن عمر أنه غشي عليه ذات يوم فاجتمع عليه النّظّارة فلما أفاق قال : «ما لي أراكم تكأكأتم عليّ تكأكؤكم على ذي جنّة افرنقعوا عنّي» أي اجتمعتم عليّ اجتماعكم على المجنون تفرقوا عني فعابها الناس عليه حيث استعمل مثل هذه الألفاظ الثقيلة المستغربة ، وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع الحق على أنه خبر مبتدأ مضمر أي قالوا : قوله الحقّ (١٧).

__________________

(١) قالها الفراء في معاني القرآن ٢ / ٣٦١ كما ذكرت في التبيان ١٠٦٨ والكشف ٢ / ٢٠٥.

(٢) التبيان ١٠٦٨

(٣) الدر المصون ٤ / ٤٣٦ والبحر ٧ / ٢٧٨.

(٤) في «ب» محققا ـ بالقاف ـ وهو خطأ وتحريف.

(٥) في «ب» : ولهت بزيد. وهو غير مراد حيث لم يبن الفعل فيه للمجهول.

(٦) نقلها في الجامع لأحكام القرآن ١٤ / ٢٩٨ والكشاف ٣ / ٢٨٨ والمحتسب ٢ / ١٩١ وهي غير متواترة.

(٧) المراجع السابقة وانظر الإتحاف ٣٦٠ وهي من الأربع عشرة.

(٨) معطوف على : «وعن الحسن».

(٩) انظر : البحر ٧ / ٢٧٩ و ٢٨٠ وتأويل المشكل ٢٠٨ والقرطبي ١٤ / ٢٩٨ و ٢٩٩.

(١٠) من القراءات الشاذة شذوذا واضحا لمخالفتها مصحف الأقطار وذكرها ابن جني في المحتسب ونعتها بالشذوذ. المحتسب ٢ / ١٩٣ وذكرها الزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٨٨ وابن خالويه في مختصره ١٢٢.

(١١) وهو التحول والتنحي والانكشاف.

(١٢) الكشاف ٣ / ٢٨٨.

(١٣) ما بين القوسين ساقط من «ب».

(١٤) البحر المحيط ٧ / ٢٧٨.

(١٥) الإيضاح للقزويني (٣).

(١٦) قال ابن جني في المحتسب إنه أبو علقمة النحوي.

(١٧) قالها الزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٨٨ بدون نسبة. وقال الفراء في المعاني : «ولو قرىء الحق بالرفع ـ

٥٧

فصل

اختلفوا في الموصوفين بهذه الصفة فقيل : هم الملائكة (١) ، ثم اختلفوا في ذلك السبب فقال بعضهم إنّما يفزع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماع كلام الله ـ عزوجل ـ لما روى أبو هريرة أن نبي الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال «إذا قضى الله الأمر في السّماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا» (٢) لقوله كأنه سلسلة على صفوان (٣) فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير (٤). وقال ـ عليه (الصلاة (٥) و) السلام ـ : إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلّم بالوحي أخذت السّموات منه رجفة أو قال رعدة شديدة خوفا من الله تعالى فإذا سمع بذلك أهل السّموات ضعفوا وخرّوا لله سجّدا فيكون أوّل من يرفع رأسه جبريل فيكلّمه من وحيه بما أراد ثمّ يمرّ جبريل على الملائكة كلّما مرّ بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربّنا يا جبريل؟ فيقول جبريل الحقّ وهو العليّ الكبير قال : فيقولون كلّهم مثل ما قال جبريل. فينتهي جبريل بالوحي حيث أمره الله (٦). وقيل : إنما يفزعون حذرا من قيام الساعة (٧). قال مقاتل والسدي : كانت الفترة بين عيسى ومحمد ـ عليهما (الصلاة (٨) و) السلام ـ خمسمائة سنة. وقيل : ستمائة سنة(٩) لم تسمع الملائكة فيها وحيا فلما بعث الله محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كلّم جبريل ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ بالرسالة إلى محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فلما سمعت الملائكة ظنوا أنها الساعة لأن محمدا ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ عند أهل السموات من أشراط الساعة فصعقوا مما سمعوا خوفا من قيام الساعة فلما انحدر جبريل جعل يمرّ بأهل كل سماء فيكشف عنهم فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض : ماذا قال ربّكم؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير وقيل : الموصوف بذلك المشركون. قال الحسن (١٠) وابن زيد : حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند نزول الموت إقامة للحجة عليهم قالت لهم الملائكة : ماذا قال ربكم في الدنيا؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير فأقروا به حين لم ينفعهم الإقرار.

__________________

ـ أي هو الحق كان صوابا». المعاني ٢ / ٣٦٢. وقال الأخفش في «المعاني» نفس المعنى : «إن شئت رفعت الحقّ وإن شئت نصبته» المعاني له ٢ / ٦٦٢ ، وانظر : البحر ٧ / ٢٧٩.

(١) نقله في زاد المسير ٦ / ٤٥٢.

(٢) تواضعا وانقيادا لحكمه.

(٣) حجر أملس.

(٤) رواه البخاري في صحيحه ورواه السيوطي في جامع الأحاديث ١ / ٣٢٦ و ٣٢٧.

(٥) سقط من «أ».

(٦) أخرجه البغوي في معالم التنزيل عن النواس بن سمعان ٥ / ٢٩٠ و ٢٩١.

(٧) نقله القرطبي في الجامع ١٤ / ٢٩٧ والبغوي في معالم التنزيل ٥ / ٢٩١.

(٨) سقط من «أ».

(٩) وهو قول الكلبي وكعب أيضا ، القرطبي ١٤ / ٢٩٧.

(١٠) معالم التنزيل ٥ / ٢٩١ والقرطبي ١٤ / ٢٩٧.

٥٨

قوله : (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) فقوله : «الحق» إشارة إلى أنه كامل وقوله : (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) إشارة إلى أنه فوق الكاملين في ذاته وصفاته.

قوله تعالى : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ)(٣٠)

قوله (تعالى) (١) : (مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ) المطر «و» من «الأرض» النبات (قُلِ اللهُ) يعني إن لم يقولوا رازقنا الله فقل أنت إن رازقكم الله.

قوله : (أَوْ إِيَّاكُمْ) عطف على اسم «إن» وفي الخبر أوجه :

أحدها : أن الملفوظ به الأول (٢). وحذف خبر الثاني للدلالة عليه أي وإنّا لعلى هدى أو في ضلال أو إنكم لعلى هدى أو في ضلال.

والثاني : العكس أي حذف الأول والملفوظ به خبر الثاني (٣). وهو خلاف مشهور وتقدم تحقيقه عند قوله : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ)(٤). وهذان الوجهان لا ينبغي أي يحملا على ظاهرهما قطعا لأن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يشكّ أنه على هدى ويقين وأن الكفار على ضلال وإنما هذا الكلام جار على ما تتخاطب به العرب من استعمال الإنصاف في محاوراتهم على سبيل الفرض والتقدير (٥) ويسميه أهل البيان الاستدراج وهو أن يذكر المخاطب أمرا يسلمه وإن كان بخلاف ما يذكر حتى يصغي إلى ما يلقيه إليه إذ لو بدأه بما يكره لم يصغ ، ونظيره قولهم : أخزى الله الكاذب منّي ومنك (٦) ومثله قول الآخر :

__________________

(١) سقط من «أ».

(٢) أي خبر الأول وقد نقله أبو البقاء في التبيان ١٠٦٨ وابن الأنباري في البيان ٢ / ٢٨٠ ومكي في المشكل ٢ / ٢٠٩ وقال النحاس : «يكون «لعلى هدى» للأول لا غير لو قلت : أو أنتم فإذا قلت : أو إياكم كان للثاني أولى وحذفت من الأول ويجوز أن يكون للأول وهو اختيار أبي العباس».

(٣) المراجع السابقة.

(٤) من الآية ٦٢ من التوبة وذكر هناك أقوالا منها حذف الخبر من الأول لدلالة الثاني عليه أي خبر الثاني وهذا قول سيبويه والعكس وهو قول المبرد وذكر تقديما وتأخيرا والتقدير «والله أحق أن يرضوه ورسوله». ونحن نرجّح رأي أبي البقاء ومكي وأبي جعفر النحاس من اختيار الخبر للثاني.

(٥) هذا كلام السمين في الدر ٤ / ٤٣٧.

(٦) أي أخزى الله الكاذب منّا ومنك وكقولهم : «هو بيني وبينك» أي هو بيننا. ذكره سيبويه في الكتاب ٢ / ٤٠٢.

٥٩

٤١٣١ ـ فأيّي ما وأيّك كان شرّا

فقيد إلى المقامة لا يراها (١)

وقول حسان ـ رضي الله عنه ـ :

٤١٣٢ ـ أتهجوه ولست له بكفء

فشرّكما لخيركما الفداء (٢)

مع العلم لكل أحد أنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خير خلق الله كلهم.

الثالث : أنه من باب اللف والنشر والتقدير : وإنّا لعلى هدى وإنّكم لفي ضلال مبين ولكن لفّ الكلامين وأخرجهما كذلك لعدم اللبس (٣) ، وهذا لا يتأتي إلا أن تكون «أو» بمعنى الواو. وهي مسألة خلاف (٤) ومن مجيء «أو» بمعنى الواو قوله :

٤١٣٣ ـ قوم إذا سمعوا الصّريخ رأيتهم

ما بين ملجم مهره أو سافع (٥)

وتقدم تقرير هذا (٦) ، وهذا الذي ذكرناه منقول عن أبي عبيدة (٧).

__________________

(١) البيت من الوافر وهو للعباس بن مرداس ، والمقامة : من غير الثلاثي المجلس وجماعة الناس ويروى «فسيق» بدل «فقيد». وكلا الفعلين مبني للمجهول ثلاثيا ، وجيء بالبيت على معنى أينا يستحق العمى ويقاد إلى المجلس وهو لا يشك أن المخاطب يستحق ذلك ولكن على الاستدراج حتى يصغى المخاطب إلى ما يلقيه إليه ولأن هذا قصده أفرد «أي» والمشهور إضافتها إليهما معا. وقد تقدم.

(٢) هو له من بحر الطويل من قصيدة يخاطب أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ويهجوه ، ويروي : «ندّ» بدل كفء و «شر» و «خير» اسما تفضيل على غير بابهما والأصل : «أخير وأشرر» وجيء بالبيت كسابقه شاهدا على الاستدراج فلم يشك أحد أن المصطفى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خير خلق الله كلهم وقد تقدم.

(٣) قاله في الدر المصون ٤ / ٤٣٩ واللف والنشر منه ما هو مرتب ومنه ما هو غير مرتب والنوع الثاني غير المراد هنا واللف والنشر : ذكر متعدد على جهة التفصيل أو الإجمال ثم ذكر ما لكل واحد من غير تعيين تركا للسامع. قاله في بغية الإيضاح ٤ / ٣٤.

(٤) مسألة مجيء «أو» بمعنى الواو تكلم فيها كثيرا وقد قال عنها ابن هشام في المغني : وقيل : إن «أو» بمعنى الواو ويؤيده قول المفسرين : أنها نزلت في رجل أنصاري طلق امرأته قبل المسيس وقبل الفرض. وقال السيوطي في الهمع عن هذه الآية التي معنا : «أو» بمعنى الإبهام على السامع. انظر :

المغني ٦٦ ، والهمع ٢ / ١٣٤. ونقل ابن جني في الخصائص أن «أو» من الإمكان أن تأتي بمعنى الواو أحيانا مقررا أنه ليس في كل المواضع أن يكون الحرف بدل الحرف قال وذهب قطرب إلى أن «أو» قد تكون بمعنى الواو وأنشد بيت النابغة :

 ..........

إلى حمامتنا أو نصفه فقد

فقال معناه : ونصفه ولعمري إن كذا معناه وكيف لا يكون كذلك ولا بدّ منه وقد كثرت فيه الرواية أيضا و «نصفه» ثم يقول : لكن هناك مذهب يمكن معه أن يبقى الحرف على أصل وضعه من كون الشك فيه. ويقول : فقول الله سبحانه (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) فلا يكون فيه «أو» على مذهب الفراء بمعنى بل ولا على مذهب قطرب في أنها بمعنى الواو. انظر : الخصائص ٢ / ٢٦٠ و ٤٦١.

(٥) روي : «من» بدل «ما» و «مسرح» بدل «سافع» وهو لحميد بن ثور من الكامل ونسبه الزمخشري إلى عمرو بن معد يكرب. وقد تقدم.

(٦) عند قول الله : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) من الآية ١٩ البقرة.

(٧) قاله في المجاز ٢ / ١٤٨ قال : «مجازه : إنا لعلى هدى وإياكم إنكم في ضلال مبين لأن العرب تضع «أو» في موضع واو المبالاة».

٦٠