اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٧٤

وموسى ـ عليهم (الصلاة و) السلام ـ ما كانوا أولئك بل كانوا شياطين تشبهوا بهم في الصورة لأجل الإغواء والإضلال. وذلك يبطل الدين بالكلية.

الثاني : أن الشيطان لو قدر أن يعامل نبي الله سليمان بمثل هذه المعاملة لوجب أن يقدر على مثلها مع جميع العلماء والزهاد وحينئذ يجب أن يقتلهم ويمزق تصانيفهم ، ويخرّب ديارهم. ولما بطل ذلك في حق آحاد العلماء فلأن يبطل في حق أكابر الأنبياء أولى.

الثالث : كيف يليق بحكمة الله وإحسانه أن يسلط الشيطان على أزواج سليمان؟ (ولا شك أنه قبيح.

الرابع : لو قلنا : إن سليمان أذن لتلك المرأة في عبادت (ها) (١) تلك الصورة فهذا كفر منه) (٢) وإن لم يأذن فيه البتة فالذنب على تلك المرأة فكيف يؤاخذ الله سليمان بفعل لم يصدر منه؟

وأما أهل التحقيق فذكروا وجوها :

الأول : أن فتنة سليمان أنه ولد له ابن فقال الشيطان إن عاش صار ملكا (٣) مثل أبيه فسبيلنا أن نقتله فعلم سليمان ذلك فكان يربيه (٤) في السحاب فبينما هو يشتغل بمهماته إذ لقي ذلك (الولد) (٥) ميتا على كرسيه فتنبه على خطيئته في أنه لم يثق ويتوكل على الله فاستغفر ربه وتاب.

الثاني : روي عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : قال سليمان لأطوفنّ اللّيلة على سبعين امرأة كلّ امرأة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله تعالى فطاف عليهنّ فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشقّ رجل والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله تعالى لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعين فذلك قوله تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) وذلك لشدة المرض. والعرب تقول في الضعيف : «إنّه لحم على وضم وجسم بلا روح». «ثمّ أناب» أي رجع إلى حال الصحة. فاللفظ يحتمل لهذه الوجوه ولا حاجة إلى حمله على تلك الوجوه الركيكة.

الثالث : لا يبعد أيضا أن يقال : إنه ابتلاه الله تعالى بتسليط خوف أو وقوع بلاء توقّعه من بعض الجهات حتى صار بسبب قوة ذلك الخوف كالجسد الضعيف الخفي على ذلك الكرسي. ثم إن الله تعالى أزال عنه ذلك الخوف وأعاده إلى ما كان عليه من القوة وطيب القلب (٦).

__________________

(١) زيادة عن الرازي في ب.

(٢) سقط من ب.

(٣) في ب والرازي : مسلطا.

(٤) في ب يرميه.

(٥) سقط من ب. وانظر : الرازي ٢٦٧ / ٢٠٨.

(٦) المرجع السابق.

٤٢١

قوله : «جسدا» فيه وجهان :

أظهرهما : أنه مفعول به لألقينا.

والثاني : أنه حال ، وصاحبها إما سليمان لأنه يروى أنه مرض حتى صار كالجسد الذي لا روح فيه ، وإما ولده ، قالهما أبو البقاء (١) ولكن «جسد» جامد فلا بدّ من تأويله بمشتق أي (٢) ضعيفا أو فارغا.

قوله : (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي) تمسك به من حمل الكلام المتقدم على صدور الزّلّة لأنه لو لا تقدم الذنب لما طلب المغفرة ويمكن أن يجاب : بأن الإنسان لا ينفك عن ترك الأفضل والأولى وحينئذ يحتاج إلى طلب المغفرة لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين ولأنه أبدا في مقام هضم النفس وإظهار الذّلّة والخضوع كما قال ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ : «إنّي لأستغفر الله في اليوم واللّيلة سبعين مرّة» (٣) مع أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

قوله : (وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) دلت هذه الآية على أنه يجب تقديم مهمّ الدين على مهمّ الدنيا لأن سليمان طلب المغفرة أولا ثم طلب المملكة بعده ، ثم دلت (٤) الآية أيضا على أن طلب المغفرة من الله تعالى سبب لافتتاح أبواب الخيرات في الدنيا لأن سليمان طلب المغفرة أولا ، ثم توسل به إلى طلب المملكة ونوح ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ قال : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) يغفر (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) [١٠ ـ ١٢] وقال لمحمد عليه (الصلاة و) السلام : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى)(٥) [طه : ١٣٢].

فإن قيل : قول سليمان ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ : (هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) مشعر بالحسد.

فالجواب : أن القائلين بأن الشيطان استولى على مملكته قالوا معناه هو : أن يعطيه الله ملكا لا يقدر الشيطان على أن يقوم فيه مقامه ألبتة ، وأما المنكرون فأجابوا بوجوه :

الأول : أن الملك هو القدرة فكان المراد أقدرني على أشياء لا يقدر عليها غيري ألبتة ليصير اقتداري عليها معجزة تدل على صحة نبوتي ورسالتي ويدل على صحة هذا

__________________

(١) التبيان ١١٠١.

(٢) في ب أو. وانظر أيضا : البحر المحيط ٧ / ٣٩٧ والدر المصون ٤ / ٦١٠.

(٣) الحديث كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : «والله إنّي لأستغفر» انظر : صحيح البخاري ٤ / ٩٩.

(٤) في ب ولدت وفي الرازي وأيضا الآية تدل الخ ...

(٥) وانظر هذا كله في تفسير الإمام الرازي ٢٦ / ٢٠٩.

٤٢٢

قوله تعالى عقيبه : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) فكون (١) الريح جارية بأمره قدرة عجيبة وملك دال على صحة نبوته (٢) لا يقدر أحد على معارضته.

الثاني : أنه ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ لما مرض ثم عاد إلى الصحة عرف أن خيرات الدنيا صائرة إلى التغيرات فسأل ربه ملكا لا يمكن أن ينتقل عنّي إلى غيري.

الثالث : أنّ الاحتراز عن طيبات الدنيا مع القدرة عليها أشق (٣) من الاحتراز عنها حال (٤) عدم القدرة فكأنه قال : يا إلهي أعطني مملكة فائقة على ممالك البشر بالكلية حتى أحترز عنها مع القدرة عليها ليصير (ثوابي) (٥) أكمل وأفضل.

الرابع : سأل ذلك ليكون علما على قبول توبته حيث أجاب الله دعاءه ورد عليه ملكه وزاده فيه.

قوله : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً) ليّنة أي رخوة ليّنة ، وهي من الرخاوة والريح إذا كانت لينة لا تزعزع (٦) (ولا تمتنع (٧) عليه إذا كانت طيبة).

فإن قيل : قد قال في آية أخرى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ).

فالجواب من وجهين :

الأول : لا منافاة بين الآيتين فإن المراد أن تلك الريح كانت في قوة الرّيح العاصفة إلا أنها لما أمرت(٨) بأمره كانت لذيذة طيبة وكانت رخاء.

الثاني : أن تلك الريح كانت لينة مرة وعاصفة أخرى فلا منافاة بين الآيتين (٩).

قوله : (حَيْثُ أَصابَ) ظرف ل «تجري» أو «لسخّرنا» (١٠) و «أصاب» أراد بلغة حمير.

وقيل : بلغة هجر (١١). وحكى الأصمعي عن العرب أنهم يقولون : أصاب الصواب فأخطأ الجواب (١٢).

__________________

(١) كذا في «أ» والرازي. وفي ب فتكون.

(٢) كذا هو الأصح في السابقين وفي ب ثبوته. تحريف.

(٣) في ب أسبق.

(٤) في ب سأل.

(٥) كلمة «ثوابي» سقطت من «أ».

(٦) ريح زعزع وزعزاع وزعزوع : شديدة. الأخيرة عن ابن جنّي ، انظر اللسان : «ز ع ع» ١٨٣٢.

(٧) زيادة من الفخر الرازي.

(٨) كذا في ب وفي «أ» مرت وفي الرازي : جرت وكلها متقاربة.

(٩) وانظر : تفسير الإمام الرازي ٢٦ / ٢٠٩ و ٢١٠.

(١٠) التبيان ١١٠١ والدر المصون ٤ / ٦١١ و ٦١٠.

(١١) المرجع الأخير وانظر كذلك القرطبي ١٥ / ٢٠٥ و ٢٠٦ وانظر : معاني الفراء ٢ / ٤٠٥ ومعاني الزجاج ٤ / ٣٣٣.

(١٢) القرطبي المرجع السابق والبغوي ٦ / ٦٠.

٤٢٣

وروي أن رجلين خرجا يقصدان «رؤبة» ليسألاه عن هذا الحرف فقال لهما : أين تصيبان فعرفاها وقالا هذه بغيتنا (١) ، وأنشد الثعلبيّ على ذلك :

٤٢٧٤ ـ أصاب الجواب فلم يستطع

فأخطا الجواب لدى المفصل (٢)

أي أراد الجواب ويقال : «أصاب الله بك خيرا» أي أراد بك (٣). وقيل : الهمزة في أصاب للتعدية من (أ) (٤) صاب يصوب أي نزل (٥) ، قال :

٤٢٧٥ ـ ..........

تنزّل من جوّ السّماء يصوب (٦)

والمفعول (٧) محذوف أي أصاب جنوده أي حيث وجّههم وجعلهم يصوبون صوب المطر (٨) ، و «الشياطين» نسق على «الريح» و «كل بناء» بدل من «الشياطين» (٩) ، كانوا يبنون له ما شاء من الأبنية.

روي أن سليمان ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ أمر الجانّ فبنت له إصطخر ، فكانت فيها قرار مملكة النزل قديما ، وبنت له الجان أيضا «تدمر» وبيت المقدس وباب جبرون وباب البريد الذين بدمشق على أحد الأقوال ، وبنوا له ثلاثة قصور باليمن غدان وشالخين ويبنون ومدينة صنعاء. وقوله : «وغواص» نسق على «بناء» أي يغوصون له فيستخرجون اللؤلؤ. وأتى بصيغة المبالغة لأنه في معرض الامتنان(١٠).

قوله : (وَآخَرِينَ) عطف على «كلّ» فهو داخل في حكم البدل (١١) وتقدم شرح (مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) آخر سورة إبراهيم (١٢).

__________________

(١) الفخر الرازي ٢٦ / ٢١٠ والكشاف ٣ / ٣٧٥ و ٣٧٦ والبحر المحيط ٧ / ٣٩٨ والدر المصون ٤ / ٦١٠.

(٢) من المتقارب وهو مجهول قائله. وهو يبين أن واحدا أراد أن يبين الكلام فلم يستطع وأراد هو المعنى فأصاب وهو محل الشاهد. وانظر : القرطبي ١٥ / ٢٠٥ والبحر ٧ / ٣٩٨ والدر المصون ٤ / ٦١٠ وتفسير الغريب ٣٨٠.

(٣) مجاز القرآن ٢ / ١٨٣ واللسان : «ص وب» ٢٥٢٠.

(٤) الهمزة مزيدة من ب خطأ.

(٥) اللسان : «ن ز ل» ٢٥١٨ و ٢٥١٩.

(٦) عجز بيت من الطويل لعلقمة الفحل وصدره :

فلست لإنسيّ ولكن لملأك

 ..........

وملأك مهموز ملاك. وشاهده أن «يصوب» بمعنى ينزل. وانظر اللسان : «ص وب» ٢٥١٩.

(٧) في ب والفعل خطأ.

(٨) قال بهذا أبو حيان في البحر ٧ / ٣٩٧ والسمين في الدر ٤ / ٦١١.

(٩) السابق الأخير وانظر أيضا الكشاف ٣ / ٣٧٦ والتبيان ١١٠١ والرازي ٢٦ / ٣١٠.

(١٠) الدر المصون المرجع السابق.

(١١) السابق وانظر الكشاف ٣ / ٣٧٦.

(١٢) عند قوله : «وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ» الآية ٤٩.

٤٢٤

فصل

قال ابن الخطيب : دلت هذه الآيات على أن الشياطين لها قوة عظيمة قدروا بها على بناء تلك الأبنية العظيمة التي لا يقدر عليها البشر ، وقدروا على الغوص في البحار واستخراج اللآلىء وقيدهم سليمان ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ. ولقائل أن يقول : هذه الشياطين إما أن تكون أجسادهم كثيفة أو لطيفة ؛ فإن كانت كثيفة وجب أن يراهم من كان شديد الحاسّة ؛ إذ لو جاز أن لا نراهم (١) مع كثافة أجسادهم فليجز أن تكون بحضرتنا جبال عالية وأصوات هائلة ولا نراها ولا نسمعها وذلك دخول في السّفسطة وإن كانت أجسادهم لطيفة فمثل هذا يمتنع أن يكون موصوفا بالقوة الشديدة ، ويلزم أيضا أن تتفرق (٢) أجسادهم وأن تتمزّق (٣) بالرّياح العاصفة القوية وأن يموتوا (في الحال) (٤) وذلك يمنع وصفهم بالقوة وأيضا فالجنّ والشياطين وإن كانوا موصوفين بهذه القوة والشدة فلم لا يقتلون العلماء والزّهّاد في زماننا هذا ولم لا يخرّبون ديار الناس مع أن المسلمين يبالغون في إظهار لعنتهم وعداوتهم وحيث لم يحس بشيء من ذلك علمنا أن القول بإثبات الجنّ ضعيف.

قال ابن الخطيب : واعلم أن أصحابنا يجوزون أن تكون أجسادهم كثيفة مع أنا لا نراهم وأيضا لا يبعد أن تكون أجسادهم لطيفة بمعنى عدم الكون ولكنها صلبة بمعنى أنها لا تقبل التفرق. وأما الجبّائيّ فقد سلم أنها كانت كثيفة الأجسام ، وزعم أن الناس كانوا يشاهدونهم في زمن سليمان ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ ثم إنه لما توفي سليمان ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ أمات الله أولئك الجنّ والشياطين وخلق أنواعا أخر من الجن والشياطين تكون أجسادهم في غاية الرّقّة ، ولا يكون لهم شيء من القوة ، والموجود في زماننا من الجن والشياطين ليس إلا من هذا الجنس ـ والله أعلم ـ.

قوله : (هذا عَطاؤُنا) أي قلنا له : هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك ، قال ابن عباس : أعط من شئت وامنع من شئت (٥).

قوله : (بِغَيْرِ حِسابٍ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه متعلق (٦) «بعطاؤنا» أي أعطيناك بغير حساب ولا تقدير. وهو دلالة على كثرة الإعطاء.

__________________

(١) كذا في الرازي أيضا. وفي ب يراهم بالياء.

(٢ و ٣) كذا في الرازي أيضا وفي ب : يتفرق ويتمرق بالياء.

(٤) سقط من ب فقط وانظر : تفسير الإمام الرازي ٢٦ / ٢١٠ و ٢١١.

(٥) المرجع السابق.

(٦) التبيان ١١٠١ والدر المصون ٤ / ٦١١ والكشاف ٣ / ٣٧٦.

٤٢٥

الثاني : أنه حال (١) من : «عطاؤنا» أي في حال كونه غير محاسب عليه لأنه جمّ كثير يعسر على الحسّاب ضبطه.

الثالث : أنه متعلق «بامنن» أو «أمسك» (٢) ، ويجوز أن يكون حالا من فاعلهما أي غير محاسب (٣) عليه.

فصل

قال المفسرون : معناه لا حرج عليك فيما أعطيت وفيما (أ) (٤) مسكت ، قال الحسن : ما أنعم الله على أحد نعمة إلا عليه تبعة إلا سليمان ، فإنه (إن) (٥) أعطى أجر وإن لم يعط لم يكن عليه تبعة. وقال مقاتل : هذا في أمر الشياطين يعني خل من شئت منهم وأمسك من شئت (منهم) (٦) في وثاقك لا تبعة عليك فيما تتعاطاه (٧).

قوله : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) نسقا (٨) على اسم «إنّ» وهو «لزلفى».

وقرأ الحسن وابن أبي عبلة برفعه (٩) على الابتداء ، وخبره مضمر ، لدلالة ما تقدم عليه ، ويقفان على (لزلفى) ويبتدئان ب (حُسْنَ مَآبٍ) ؛ أي وحسن مآب له أيضا (١٠).

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)(٤٤)

قوله : (تعالى) (١١) : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ) كقوله (وَاذْكُرْ (١٢) عَبْدَنا داوُدَ) وفيه الثلاثة الأوجه (١٣) ، و (إِذْ نادى) بدل منه بدل اشتمال (١٤) أي بأني (١٥) ، وقوله : «أنّي» جاء به على حكاية كلامه الذي ناداه بسببه ولو لم يحكه لقال : (إِنْ مَسَّهُ) لأن غائب (١٦).

__________________

(١) التباين والدر المرجعين السابقين.

(٢) السابقين.

(٣) الدر المصون السابق.

(٤) الهمزة سقطت من ب.

(٥) سقط من ب.

(٦) منهم زيادة من ب.

(٧) وانظر : معالم التنزيل للبغوي ٦ / ٦٠ وكذلك لباب التأويل للخازن ٦ / ٦٠.

(٨) يقصد : «وَحُسْنَ مَآبٍ» بالنصب وهي قراءة العامة.

(٩) ذكرها أبو حيان في البحر ٧ / ٣٩٩ والسمين في الدر ٤ / ٦١١ وهي من الشّواذّ.

(١٠) المرجع الأخير السابق.

(١١) زيادة من أ.

(١٢) كذلك.

(١٣) من البدلية وعطف البيان أو المفعولية بإضمار أعني.

(١٤) الكشاف ٣ / ٣٧٦ والسّمين ٤ / ٦١١.

(١٥) كذا في النسختين ويقصد قوله : «أَنِّي مَسَّنِيَ» أي بأني مسّني. المرجع السابق وهو الكشاف.

(١٦) قاله في الكشاف ٣ / ٣٧٦ والدر المصون ٤ / ٦١١.

٤٢٦

وقرأ العامة بفتح الهمزة على أنه هو المنادي بهذا اللفظ. وعيسى بن عمر بكسرها (١) على إضمار القول أو على إجراء النداء مجراه.

قوله : «بنصب» قرأ العامة بالضم والسكون ، فقيل : هو جمع نصب بفتحتين ، نحو : (وثن) (٢) ووثن وأسد وأسد (٣) ، وقيل : هو لغة في النّصب نحو : رشد ورشد (٤) وحزن وحزن وعدم وعدم. وأبو جعفر وشيبة وحفص ونافع ـ في رواية ـ بضمتين ـ وهو تثقيل نصب بضمة وسكون ، قاله الزمخشري (٥). وفيه بعد لما تقرر أن مقتضى اللغة تخفيف فعل كعنق (٦) لا تثقيل فعل كقفل. وفيه خلاف(٧). وقد تقدم في هذا العسر واليسر في البقرة (٨).

وقرأ أبو حيوة ويعقوب وحفص ـ في رواية ـ بفتح وسكون (٩) وكلها بمعنى واحد وهو التّعب والمشقة.

فصل

النّصب المشقة والضر. قال قتادة ومقاتل : النصب في الجسد والعذاب في المال (١٠). واعلم أن داود وسليمان ـ عليهما (الصلاة و) السلام ـ كانا ممن أفاض الله عليهما أصناف الآلاء والنّعماء ، وأيوب كان ممن خصّه الله تعالى بأنواع البلاء. والمقصود من جميع هذه القصص الاعتبار كأن الله تعالى قال : يا محمد اصبر على سفاهة قومك فإنه ما كان في الدنيا أكثر نعمة ومالا وجاها أكثر من داود وسليمان ، وما كان أكثر بلاء ولا محنة من أيوب. فتأمل في أحوال هؤلاء لتعرف أنّ أحوال الدنيا لا تنتظم لأحد وأن العاقل لا بدّ له من الصبر على المكاره (١١).

__________________

(١) من القراءة الشاذة وانظر : البحر ٧ / ٤٠٠ والقرطبي ١٥ / ٢٠٧ وشواذ القرآن ٣٠٨ ، والدر المصون ٤ / ٦١١.

(٢) تصحيح ل «أ» ففيها دمن وفي ب وأين ووين تحريف.

(٣) وانظر : الدر المصون ٤ / ٦١٢ والكشاف ٣ / ٣٧٦ وإعراب القرآن ٣ / ٤٦٥ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٣٣٤.

(٤) المراجع السابقة.

(٥) الكشاف ٣ / ٣٧٦.

(٦) قال العلامة الرضي في شرح الشافية ١ / ٤٤ وهذا التخفيف في نحو عنق أكثر منه في إبل لأن الضمتين أثقل من الكسرتين حتى جاء في الكتاب العزيز وهو حجازي : رسلنا ورسلهم. وهو في الجمع أولى منه في المفرد لثقل الجمع معنى.

(٧) حكى الرضي عن الأخفش أن كل فعل في الكلام فتثقيله جائز إلا ما كان صفة أو معتل العين كحمر وسوق وهذا القول ينسب أيضا لعيسى بن عمر وانظر : شرح الشافية ٤٤ ، ٤٦.

(٨) عند قوله : «يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» وما قلته الآن ملخص ما ذكره هناك وهذه الآية هي الآية ١٨٥.

(٩) من المتواترات وانظر السبعة ٥٥٤ والإتحاف ٣٧٢.

(١٠) البغوي ٦ / ٦١.

(١١) الرازي ٢٦ / ٢١٢.

٤٢٧

فصل

قال بعض الحكماء : الآلام والأسقام الحاصلة في جسمه إنما حصلت بفعل الشيطان ، وقيل : إنما حصلت بفعل الله تعالى. والعذاب المضاف في هذه الآية إلى الشيطان هو عذاب الوسوسة وإلقاء الخواطر الفاسدة أما تقرير القول الأول فهو ما روي أنّ إبليس سأل فيه ربه فقال : هل في عبيدك من لو سلطتني عليه يمتنع مني؟ فقال الله تعالى : نعم عبدي أيوب فجعل يأتيه بوساوسه وهو يرى إبليس عيانا ولا يلتفت إليه فقال : رب إنه قد امتنع عليّ فسلّطني على ماله فكان يجيئه ويقول له : هلك من مالك كذا وكذا فيقول : الله أعطى والله أخذ ثم يحمد الله تعالى فقال : يا رب إنّ أيوب لا يبالي بماله فسلّطني على ولده فجاءه وأخبره به فلم يلتفت إليه فقال يا رب إنه لا يبالي بماله وولده فسلّطني على جسده فأذن فيه فنفخ في جلد أيوب فحدث أسقام عظيمة وآلام شديدة فيه فمكث في ذلك البلاء سنين حتى استقذره (١) أهل بلده فخرج إلى الصحراء وما كان يقرب منه أحد فجاء الشيطان إلى امرأته ، وقال : إنّ زوجك إن استغاث إليّ خلّصته من هذا البلاء فذكرت المرأة ذلك لزوجها فحلف بالله لئن عافاه الله ليجلدها (٢) مائة جلدة وعند هذه الواقعة قال : (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) فأجاب الله دعاءه وأوحى إليه أن : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) وأظهر الله تعالى من تحت رجله عينا باردة طيبة فاغتسل منها فأذهب الله عنه كل داء في ظاهره وباطنه ، ورد عليه أهله وماله. وأما القول الثاني أن الشيطان لا قدرة له البتة على إيقاع الناس في الأمراض والأسقام ويدل عليه وجوه :

الأول : أنا لو جوزنا حصول الموت والحياة والصحة والمرض من الشيطان فلعل الواحد منا إنما وجد الحياة بفعل الشيطان ولعل ما عندنا من الخيرات والسعادات قد حصل (٣) بفعل الشيطان وحينئذ لا سبيل (لنا) (٤) إلى معرفة معطي الحياة والموت والصحة والسقم هو الله تعالى أم الشيطان.

الثاني : أن الشيطان لو قدر على ذلك فلم لا يسعى في قتل الأنبياء والأولياء ، ولم (لا) (٥) يخرب دورهم ولم لا يقتل أولادهم.

الثالث : أن الله حكى عن الشيطان أنه قال : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) [إبراهيم : ٢٢] فصرح بأنه لا قدرة له في حقّ البشر ، إلا إلقاء الوساوس والخواطر الفاسدة فدل ذلك على فساد القول بأن الشيطان هو الذي ألقاه في تلك الأمراض.

__________________

(١) في ب : استقذروه أهل بلده ، ويشبه هذا : أكلوني البراغيث.

(٢) في ب والرازي : ليجلدنها.

(٣) في ب : يحصل.

(٤) ساقطة في ب.

(٥) كلمة «لا» ساقطة أيضا من ب. وانظر : تفسير الرازي ٢٦ / ٢١٢ ، ٢١٣.

٤٢٨

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن الفاعل لهذه الأحوال هو الله لكن على وفق التماس الشيطان؟

قلنا : فإذا كان لا بدّ من الاعتراف بأن خالق تلك الآلام والأسقام هو الله تعالى فأيّ فائدة في جعل الشيطان واسطة في ذلك بل الحق أن المراد من قوله : (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) أنه سبب (١) إلقاء الوساوس الفاسدة كأن يلقيه في أنواع العذاب ، والقائلون (٢) بهذا القول اختلفوا في أن تلك الوساوس كيف كانت وذكروا وجوها :

الأول : أن علته كانت شديدة الألم ثم طالت تلك العلة واستقذره الناس ونفروا عن مجاورته ولم يبق له مال ألبتة وامرأته كانت تخدم الناس وتحصل قدر القوت ، ثم بلغت نفرة الناس عنه إلى أن منعوا امرأته من الدخول عليهم ومن خدمتهم والشيطان كان يذكر (ه) (٣) النّعم التي كانت ، والآفات التي حصلت وكان يحتال في دفع تلك الوساوس ، فلما قويت (٤) تلك الوساوس في قلبه خاف وتضرع إلى الله تعالى وقال : (مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) لأنه كلما كثرت تلك الخواطر كان تألم قلبه منها أشد.

الثاني (٥) : أنه لما طالت مدة المرض جاء الشيطان فكان يقنطه مدة ويزلزله أن يجزع فخاف من خاطر القنوط في قلبه وتضرع (٦) إلى الله تعالى وقال : إنّي مسني الشيطان.

الثالث : روي أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «بقي أيّوب في البلاء ثمان عشرة سنة حتى رفضه القريب والبعيد إلّا رجلين ، ثم قال أحدهما لصاحبه : لقد أذنب أيوب ذنبا ما أتى به أحد من العالمين ، ولولاه لما وقع في مثل هذا البلاء فذكروا ذلك لأيوب فقال : لا أدري ما تقولان غير أنني (٧) كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله تعالى فأرجع إلى بيتي فأنفر عنهما كراهية أن يذكر الله تعالى إلا في حق».

الرابع : قيل : إنّ امرأته كانت تخدم الناس وتأخذ منهم قدر القوت وتجيء به إلى أيوب فاتّفق أنهم ما استخدموها ألبتة وطلب بعض النساء منها قطع إحدى ذؤابتيها على أن تعطيها قدر القوت ففعلت ، ثم في اليوم الثاني فعلت مثل ذلك فلم يبق لها ذؤابة وكان أيوب ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ إذا أراد أن يتحرك على فراشه تعلق بتلك الذّؤابة فلما لم يجد الذؤابة وقعت الخواطر الرديئة في قلبه ، فعند ذلك قال : (مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ).

الخامس : روي أنه ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ قال في بعض الأيام : يا رب لقد علمت أني ما اجتمع عليّ أمران إلا آثرت طاعتك ، ولما أعطيتني المال كنت للأرامل

__________________

(١) في ب والرازي : بسبب.

(٢) تصحيح للنسختين ففيهما القائلين.

(٣) الضمير سقط من ب.

(٤) في ب : قربت.

(٥) في أالثالث بدل الثاني.

(٦) في ب : فتضرع.

(٧) في الحديث غير أن الله يعلم أني كنت أمر. وانظر : الفخر الرازي ٢٦ / ٢١٣ ، ٢١٤.

٤٢٩

قيما ، ولابن السبيل معينا ولليتامى أبا فنودي : يا أيوب ممّن كان ذلك التوفيق؟ فأخذ أيوب التراب ووضعه على رأسه وقال : منك يا رب ثم خاف من الخاطر الأول فقال : مسّني الشيطان بنصب وعذاب وذكر أحوالا أخر. والله أعلم (١).

قوله : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) معناه أنه لما اشتكى مسّ الشّيطان فكأنه سأل ربه أن يزيل عنه تلك البلية فأجابه الله بأن قال : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ). والرّكض (٢) هو الدفع القويّ بالرجل. ومنه ركض الفرس ، والتقدير : قلنا له اركض برجلك قيل : إنه ضرب برجله تلك الأرض فنبعت عين ، فقيل : هذا مغتسل بارد وشراب أي هذا ما تغتسل به فيبرأ ظاهرك وتشرب منه فيبرأ باطنك. وظاهر (هذا) اللفظ يدل على أنه نبعت له عين واحدة من الماء فاغتسل منه (٣) ، وشرب منه ، والمفسرون قالوا : نبعت له عينان فاغتسل من إحداهما وشرب من الأخرى فذهب الداء من ظاهره ومن باطنه بإذن الله تعالى (٤). وقيل : ضرب برجله اليمين فنبعت عين حارّة فاغتسل منها ثم باليسرى فنبعت عين باردة فشرب منها(٥).

قوله : (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) قيل : هم عين أهله ودياره (وَمِثْلَهُمْ) قيل : غيرهم مثلهم (٦) ، والأول أولى ؛ لأنه الظاهر فلا يجوز العدول عنه من غير ضرورة (٧). ثم اختلفوا فقيل : أزلنا عنهم السّقم فأعيدوا أصحّاء ، وقيل : بل حضروا عنده بعد أن غابوا عنه واجتمعوا بعد أن تفرقوا ، وقيل : بل تمكن منهم وتمكنوا منه كما يفعل بالعشرة والخدمة (٨).

قوله : (وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) الأقرب أنه تعالى (متّعه) (٩) بصحّته وماله (١٠) وقواه حتى كثر نسله وصاروا (١١) أهله ضعف ما كانوا وأضعاف ذلك. وقال الحسن : المراد بهبة الأهل أنه تعالى أحياهم بعد أن هلكوا (١٢).

__________________

(١) بحقيقة الحال وانظر : تفسير الرازي ٢٦ / ٢١٤.

(٢) انظر في هذا اللسان : «ر ك ض» ١٧١٨ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٣٣٤ وغريب القرآن لابن قتيبة ٣٨٠ والمجاز لأبي عبيدة ٢ / ١٨٥ والقرطبي ١٥ / ٢١١ وقد نقل القرطبي رأيا عن المبرد والأصمعي قال : «وقال المبرد : الركض بالتحريك وقال الأصمعي يقال : ركضت الدابة ولا يقال ركضت هي ، لأن الركض إنما هو تحريك راكبها رجليه ولا فعل له في ذلك». (القرطبي السابق).

(٣) في الرازي فيه بدل من منه. وهو الأقرب.

(٤) انظر : تفسير الإمام ابن الجوزي زاد المسير ٧ / ١٤٣ والرازي ٢٦ / ٢١٤ ، ٢١٥.

(٥) المرجع الأخير السابق والكشاف ٣ / ٣٧٦ ، ٣٧٧.

(٦) انظر : القرطبي ١١ / ٣٢٣ ، ٣٢٤ والرازي المرجع السابق.

(٧) السابق.

(٨) المرجعان السابقان.

(٩) زيادة من الرازي.

(١٠) كذا في أوفي ب والرازي : وبماله.

(١١) كذا في النسختين واللغة السائدة وصار أهله بإفراد الفعل أو بتجريده من علامات التثنية والجمع.

(١٢) المرجع السابق.

٤٣٠

قوله : «رحمة وذكرى» مفعول من أجله أي وهبناهم له لأجل رحمتنا إياه وليتذكّر بحاله أولو الألباب (١) يعني سلطنا عليه البلاء أولا فصبر ، ثم أزلنا عنه البلاء وأوصلنا إليه الآلاء والنّعماء تنبيها لأولي الألباب على أن من صبر ظفر. وهو تسلية لمحمد ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ كما تقدم. قالت المعتزلة: وهذا يدل على أن أفعال الله تعالى معلّلة بالأغراض والمقاصد لقوله : (رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ)(٢).

قوله : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً) (ضغثا) (٣) معطوف (٤) على «اركض». والضّغث الحزمة الصّغيرة من الحشيش والقضبان ، وقيل : الحزمة الكبيرة من القضبان (٥). وفي المثل : «ضغث على إبّالة» (٦) والإبّالة الحزمة من الحطب ، قال الشاعر :

٤٢٧٦ ـ وأسفل منّي نهدة قد ربطتها

وألقيت ضغثا من خلى متطيب (٧)

وأصل المادة يدل على جمع المختلطات ، وقد تقدم هذا في يوسف في قوله : (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) [يوسف : ٤٤].

قوله : (فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) الحنث الإثم ويطلق على فعل ما حلف على تركه أو ترك ما حلف على فعله لأنهما سببان فيه غالبا (٨).

فصل

هذا الكلام يدل على تقدم يمين منه (٩) ، وقد روي أنه حلف على أهله ، واختلفوا في سبب حلفه عليها ، ويبعد ما قيل : إنها رغبة في طاعة الشيطان ويبعد أيضا ما روي أنها قطعت ذوائبها لأن المضطر يباح له ذلك ، بل الأقرب أنها خالفته في بعض المهمات ، وذلك أنها ذهبت في بعض المهمات فأبطأت فحلف في مرضه ليضربنّها مائة إذا برىء ،

__________________

(١) الدر المصون ٤ / ٦١٢ والتبيان ١١٠٢.

(٢) نقله الرازي في تفسيره السابق ٢٦ / ٢١٥.

(٣) زيادة ضغثا من ألا معنى لها.

(٤) عطف جملة على جملة ، فهو عطف جملة «وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً» على جملة «اركض». وانظر الرازي ٢٦ / ٢١٥.

(٥) انظر : اللسان : «ص غ ث» ٢٥٩٠ ، ٢٥٩١ ومعاني الفراء ٢ / ٤٠٦ ومعاني القرآن وإعرابه ٤ / ٣٣٥ وغريب القرآن لابن قتيبة ٣٨١ والمجاز ٢ / ٢٨٥.

(٦) مثل يضرب لتتابع المصائب على إنسان ما ، والمثل يجوز في صدره وهو ضغث الرفع والنصب والأبيل والأبيلة والإبالة الحزمة من الحشيش والحطب انظر : أمثال الميداني ٢ / ٢٦٠ واللسان : «أب ل».

(٧) من الطويل وهو لعوف بن الخرع التيمي. وشاهده : ضغثا فإنها بمعنى الحزمة الكبيرة. والنّهدة أنثى الفرس الجسيم والخلى : الحشيش الرطب. وانظر : مجاز القرآن ١ / ٣١٢ ، ٢ / ١٨٥ ، والبحر ٧ / ٣٩٩ والدر المصون ٤ / ٦١٢.

(٨) الدر المصون ٤ / ٦١٣.

(٩) انظر في هذا الفصل تفسير الإمام الفخر ٢٦ / ٢١٥ ، والقرطبي ١٥ / ٢١٢ وزاد المسير ٧ / ١٤٣ ، ١٤٤ والبغوي ٦ / ٦١.

٤٣١

ولما كانت حسنة الخدمة (١) لا جرم حلل الله يمينه بأهون شيء عليه وعليها وهذه الرخصة باقية ، لما روي أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أتي برجل (٢) ضعيف زنا بأمة فقال : «خذوا (عثكالا فيه) (٣) مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة واحدة».

قوله : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) فإن قيل : كيف وجده صابرا وقد شكا إليه؟

فالجواب من وجوه :

الأول : أنه شكى مسّ (٤) الشيطان إليه وما شكى إلى أحد.

والثاني : أن الآلام حين كانت على الجسد لم يذكر شيئا فلما عظمت الوساوس خاف على القلب والدين (ف) (٥) تضرّع.

الثالث : أن الشيطان عدو والشكاية من العدو إلى الحبيب لا تقدح في الصبر.

قوله : (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) يدل على أن التشريف بقوله : (نِعْمَ الْعَبْدُ) إنما حصل لكونه أوابا.

روي أنه لما نزل قوله تعالى : (نِعْمَ الْعَبْدُ) في حق سليمان تارة وفي حق أيوب أخرى عظم في قلوب أمة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقالوا : إن قوله : نعم العبد تشريف عظيم فإن احتجنا إلى تحمل بلاء مثل أيوب لم نقدر عليه فكيف السبيل إلى تحصيله؟ فأنزل الله تعالى قوله : (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الحج : ٧٨]. والمراد أنك إن لم تكن نعم العبد فأنا نعم المولى فإن كان منك الفضل (٦) فمني الفضل وإن كان منك التقصير فمني الرحمة والتّيسير (٧).

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ)(٤٨)

قوله : (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) قرأ ابن كثير : عبدنا بالتوحيد (٨). والباقون عبادنا بالجمع والرسم يحتملهما ، فأما قراءة ابن كثير فإبراهيم بدل (٩) ، أو بيان ،

__________________

(١) في الرازي : حسنة الخدمة له.

(٢) في الرازي : بمخدم خبث بأمة.

(٣) ما بين القوسين سقط من ب والعثكول والعثكال الشمراخ ، وهو ما عليه البسر من عيدان الكباسة وهو في النخل بمنزلة العنقود من الكرم وتعثكل العذق أي كثرت شماريخه وعثكل الهودج أي زين ، فالعثكال هذا في الحديث معناه العذق من أعذاق النخل الذي يكون فيه الرطب. وانظر : الرازي ٢٦ / ٢١٥ واللسان : «ع ث ك ل» ٢٨٠٨.

(٤) في ب والرازي : من لامس.

(٥) الفاء سقطت من ب.

(٦) في الرازي الفضول.

(٧) وانظر : الرازي ٢٦ / ٢١٥ ، ٢١٦.

(٨) من القراءة المتواترة انظر : السبعة ٥٥٤ ومعاني الفراء ٢ / ٤٠٦ والقرطبي ١٥ / ٢١٧.

(٩) السابق والتبيان ١١٠٢ والبحر ٧ / ٤٠١ والدر المصون ٤ / ٦١٣.

٤٣٢

أو بإضمار أعني ، وما بعده عطف على نفس «عبدنا» لا على : «إبراهيم» ؛ إذ يلزم إبدال جمع من مفرد (١).

ولقائل أن يقول : لما كان المراد بعبدنا الجنس جاز إبدال الجمع منه كقراءة ابن عباس : «وإله أبيك إبراهيم» (٢) في البقرة [١٣٣] في أحد القولين. وقد تقدم. وأما قراءة الجماعة (٣) ، فواضحة لأنها موافقة للأول في الجمع.

قال ابن الخطيب : لأن غير إبراهيم من الأنبياء قد أجري عليه هذا الوصف فجاء في حق عيسى: (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) [الزخرف : ٥٩] وفي أيوب : (نِعْمَ الْعَبْدُ) [ص : ٤٤] وفي نوح: (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) [الإسراء : ٣] والمعنى اصبر يا محمد على ما يقولون واذكر صبر أيوب على البلاء واذكر صبر إبراهيم حين ألقي في النار وصبر إسحاق حين عرض على (٤) الذّبح وصبر يعقوب حين فقد ولده وذهب بصره (٥).

قوله : (أُولِي الْأَيْدِي) العامة على ثبوت الياء وهو جمع «يد» وهي إما الجارحة وكني بذلك عن الأعمال لأن أكثر الأعمال إنما تزاول (٦) باليد ، وقيل : المراد بالأيدي ـ جمع يد ـ المراد بها النّعمة (٧). وقرأ عبد الله والأعمش والحسن وعيسى : الأيد بغير ياء (٨) ، فقيل : هي الأولى. وإنما حذفت الياء اجتزاء عنها بالكسرة (٩) ولأن «أل» (١٠) تعاقب التنوين والياء تحذف مع التنوين (١١) فأجريت مع «أل» إجراؤها معه. وهذا ضعيف جدّا (١٢). وقيل : الأيد القوة ، إلّا أنّ الزّمخشريّ قال : وتفسيره بالأيد من التأييد قلق غير متمكن (١٣). انتهى.

وكأنه (١٤) إنما قلق عنده لعطف «الأبصار» عليه فهو مناسب للأيدي لا للأيد من

__________________

(١) وإبدال الجمع من المفرد غير مستساغ إلا إذا أريد بالمفرد الجنس أو معنى الجمع كما أخبر هو أعلى.

وانظر : الدر المصون ٤ / ٦١٣.

(٢) وقد نسبت في مختصر ابن خالويه إلى يحيى بن يعمر ص ٩ بينما نسبها الفراء في المعاني ٢ / ٢٠٦ إلى إمام الأمة عبد الله بن عباس كما ذهب إليه المؤلف أعلى ، وكما ذهب إليه السمين في الدر ٤ / ٦١٣.

(٣) وهي القراءة المعتادة عبادنا. وانظر : المراجع السابقة من تلك القراءة المتواترة.

(٤) في أحد القولين.

(٥) وانظر : الرازي ٢٦ / ٢١٦.

(٦) في ب : يزاول.

(٧) الدر المصون ٤ / ٦١٣.

(٨) ذكرها صاحب الإتحاف فهي من الأربع فوق العشر المتواترة ، انظر : الإتحاف ٣٧٢ والمحتسب ٢ / ٢٣٣ وابن خالويه ١٣٠ والكشاف ٣ / ٣٧٨.

(٩) المرجع الأخير السابق.

(١٠) في ب : أي.

(١١) فالياء حذفت مع «أل» في كلمة الأيد كما يحذف التنوين مع أل.

(١٢) وحذف هذه الياء مع وجود «أل» ذكره سيبويه في الضرائر. انظر : البحر ٧ / ٤٠٢ والدر المصون ٤ / ٦١٣.

(١٣) في ب : غير ممكن. وانظر : الكشاف ٣ / ٣٧٨.

(١٤) في ب : وكان ما.

٤٣٣

التأييد. وقد يقال : إنه لا يراد حقيقة الجوارح ، إذ كلّ أحد كذلك إنما المراد الكناية عن العمل الصالح والتفكر ببصيرته (١) ، فلم يقلق حينئذ إذ لم يرد حقيقة الأبصار وكأنه قيل أولي القوة والتفكر بالبصيرة (٢) ، وقد نحا الزمخشري إلى شيء من هذا قبل ذلك (٣) ، قال ابن عباس : أولي القوة في طاعة الله والأبصار في المعرفة بالله أي البصائر في الدين ، وقال قتادة ومجاهد أعطوا قوة في العبادة وبصرا (٤) في الدين.

قوله : (بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) بالإضافة (٥) وفيها أوجه :

أحدها : أن يكون إضافة خالصة إلى «ذكرى» ، للبيان لأن الخالصة تكون ذكرى وغير ذكرى كما في قوله : (بِشِهابٍ قَبَسٍ) [النمل : ٧] لأن الشهاب يكون قبسا وغيره (٦).

الثاني : أن «خالصة» مصدر بمعنى إخلاص فيكون مصدرا مضافا لمفعوله والفاعل محذوف أي بأن أخلصوا ذكرى الدار وتناسوا عندها ذكر (ى) (٧) الدنيا ، وقد جاء المصدر على فاعله كالعافية ، أو يكون المعنى بأن أخلصنا نحن لهم ذكرى الدّار.

الثالث : أنها مصدر أيضا بمعنى الخلوص فتكون مضافة لفاعلها أي بأن خلصت لهم ذكرى الدار(٨). وقرأ الباقون بالتنوين وعدم الإضافة وفيها أوجه :

أحدها : أنها مصدر بمعنى الإخلاص فتكون : «ذكرى» منصوبا به (٩) ، وأن يكون بمعنى الخلوص فيكون «ذكرى» مرفوعا به كما تقدم (١٠).

والمصدر يعمل منونا كما يعمل مضافا. أو يكون خالصة اسم فاعل على بابه ، «وذكرى» بدل أو بيان لها (١١). أو منصوب بإضمار أعني (١٢) ، أو مرفوع على إضمار (١٣) مبتدأ. و «الدار» يجوز أن يكون مفعولا به «بذكرى» وأن يكون ظرفا إما على الاتّساع ، وإما على إسقاط الخافض. ذكرهما أبو البقاء (١٤). و «خالصة» إذا كانت صفة فهي صفة لمحذوف أي بسبب خصلة خالصة (١٥).

__________________

(١) في ب : بالبصيرة.

(٢) وانظر : الدر المصون ٤ / ٦١٣ والبحر ٧ / ٤٠٢.

(٣) الكشاف ٣ / ٣٧٧.

(٤) في ب : وصبرا. وانظر : البغوي ٦ / ٦١ وهي من القراءات المتواترة انظر السبعة ٤٥٤ والإتحاف ٣٧٣.

(٥) انظر : التبيان ١١٠٢ والبيان ٢ / ٣١٦ والكشف ٢ / ٢٣١.

(٦) الياء سقطت من أهنا وفي ب «ذكرت» والمعنى قريب. وقد ذكر هذه الأوجه كلها العكبري في التبيان ١١٠٢ والسمين في الدر المصون ٤ / ٦١٤ وذكر الثاني والثالث مكي في المشكل ٢ / ٢٥١.

(٧) المراجع السابقة.

(٨) على المفعولية وانظر : الدر المصون المرجع السابق والتبيان ١١٠٢.

(٩) السابقان.

(١٠) السابقان.

(١١) الإعراب للنحاس ٣ / ٤٦٧ والمعاني للزجاج ٤ / ٣٣٦ والمشكل ٢ / ٢٥١.

(١٢) التبيان ١١٠٢.

(١٣) الدر المصون ٤ / ٦١٤.

(١٤) التبيان ١١٠٢ والسمين في الدر المرجع السابق.

(١٥) المرجع السابق.

٤٣٤

فصل

من قرأ بالإضافة فمعناه أخلصناهم بذكرى الدار الآخرة إن لم يعملوا لها (١) ، والذّكرى بمعنى الذكر. قال مالك بن دينار : نزعنا من قلوبهم حب الدنيا وذكرها وأخلصناهم بحب الآخرة وذكرها ، وقال قتادة : كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله عزوجل. وقال السدي : أخلصوا الخوف للآخرة ، وقيل : أخلصناهم بأفضل ما في الآخرة ، قاله ابن زيد. ومن قرأ بالتنوين فمعناه بخلّة خالصة وهي ذكرى الدار فتكون (ذِكْرَى الدَّارِ) بدلا عن الخالصة أو جعلناهم مخلصين بما اخترنا من ذكر الآخرة (٢). والمراد بذكرى الدار : الذكر الجميل الرفيع لهم في الآخرة.

وقيل : (إنهم) (٣) أبقي لهم الذكر الجميل في الدنيا ، وقيل : هو دعاؤهم (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ)(٤).

قوله : (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) أي المختارين من أبناء جنسهم ، والأخيار : جمع خير أو خيّر ـ بالتثقيل والتخفيف ـ كأموات في جميع ميّت أو ميت. واحتج العلماء بهذه الآية على إثبات عصمة الأنبياء لأنه تعالى حكم عليهم بكونهم أخيارا على الإطلاق وهذا يعم حصول الخيرية في جميع الأفعال والصفات بدليل صحة الاستثناء (٥) منه.

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) وهم (قوم) (٦) آخرون من الأنبياء تحملوا الشدائد في دين الله ، وقد تقدم شرح أصحاب هذه الأسماء في سورة «الأنعام» (٧).

قوله تعالى : (هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) (٥٤)

قوله : (هذا ذِكْرٌ) جملة جيء بها إيذانا بأنّ القصّة قد تمّت وأخذ في أخرى وهذا كما فعل الجاحظ في كتبه (٨) يقول فهذا باب ثم يشرع في آخر ويدل على ذلك أنه لما

__________________

(١) هذا في معالم التنزيل للبغوي ٦ / ٦١.

(٢) البغوي السابق ٦ / ٦١ ، ٦٢ وزاد المسير ٧ / ١٤٦ والقرطبي ١٥ / ٢١٨.

(٣) سقط من ب.

(٤) الرازي ٢٦ / ٢١٧.

(٥) السابق.

(٦) سقط من ب.

(٧) انظرها بالتفصيل من خلال الآيات ٨٢ إلى آخر الآية ٨٧. وانظر : اللباب ٣ / ٣٧.

(٨) مشى المؤلف وراء السمين الحلبي حيث جعل القرآن مشبها وكلام الجاحظ المؤلف مشبها به ولا يليق أن نشبه القرآن بغيره.

٤٣٥

أراد أن يعقب بذكر أهل النار ذكر أهل الجنة ثم قال : (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ)(١) وقيل (٢) : المراد هذا شرف وذكر جميل لهؤلاء الأنبياء يذكرون أبدا والصحيح الأول.

قوله : (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) المآب المرجع ، لما حكى سفاهة قريش على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بقولهم : (ساحِرٌ كَذَّابٌ) وقولهم له استهزاء : (عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) ثم أمره بالصبر على سفاهتهم واقتدائه بالأنبياء المذكورين في صبرهم على الشدائد والمكاره بين ههنا أن من أطاع الله كان له من الثواب كذا وكذا وكل من خالفه كان له من العقاب كذا وكذا. وذلك يوجب الصبر على تكاليف الله تعالى. وهذا نظم حسن ، وترتيب لطيف (٣).

قوله : (جَنَّاتِ عَدْنٍ) العامة على نصب «جنات» بدلا من (حُسْنَ مَآبٍ) سواء كانت (جَنَّاتِ عَدْنٍ) معرفة أم نكرة لأن المعرفة تبدل من النكرة وبالعكس ، ويجوز أن تكون عطف بيان إن كانت نكرة ولا يجوز ذلك فيها إن كانت معرفة (٤).

(وقد جوز الزمخشري (٥) ذلك بعد حكمه) واستدلاله على أنها معرفة ، وهذا كما تقدم له في مواضع يجيز عطف البيان وإن تخالفا تعريفا وتنكيرا (٦). وقد تقدم هذا في قوله تعالى : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ) [آل عمران : ٩٧] ، ويجوز أن ينتصب (جَنَّاتِ عَدْنٍ) بإضمار فعل (٧) ، و «مفتّحة» حال من (جَنَّاتِ عَدْنٍ) أو نعت لها إن كانت نكرة (٨).

وقال الزمخشري : حال ، والعامل فيها ما في «المتّقين» من معنى الفعل. انتهى (٩).

وقد علل أبو البقاء بعلة في «متّكئين» تقتضي منع «مفتحة» أن تكون حالا وإن كانت العلة غير صحيحة فقال : ولا يجوز أن تكون ـ يعني (١٠) متكئين ـ حالا من «للمتقين» (١١) ؛ لأنه (١٢) قد أخبر عنهم قبل الحال (١٣). وهذه العلة موجودة في جعل «مفتّحة» حالا من للمتقين كما ذكره الزمخشري إلّا أنّ هذه العلة ليست صحيحة. وهو نظير قولك : «إنّ لهند (ما) (١٤) لا قائمة» وأيضا في عبارته تجوز فإن «للمتقين» لم يخبر

__________________

(١) وانظر : الدر المصون ٤ / ٦١٤ ، ٦١٥ والرازي ٢٦ / ٢١٨.

(٢) المرجع الأخير السابق.

(٣) السابق.

(٤) انظر هذا في الدر المصون ٤ / ٦١٥ والبيان ٢ / ٣١٦ والتبيان ١١٠٣ والمشكل ٢ / ٢٥٢.

(٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(٦) قال جار الله في الكشاف ٣ / ٣٧٨ : وانتصابها على أنها عطف بيان «لَحُسْنَ مَآبٍ». والبصريون منعوا جريان عطف البيان على النكرة وقالوا : لا يجري إلا في المعارف كذا نقله عنهم الشلوبين. وذهب الكوفيون والفارسيّ والزمخشريّ إلى جواز تنكيرهما ومثلوا بقوله تعالى : «مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ» الخ. الهمع ٢ / ٢.

(٧) قاله السمين في الدر ٤ / ٦١٥.

(٨) السابق وانظر : تبيان العكبري ١١٠٣.

(٩) الكشاف ٣ / ٣٧٨.

(١٠) في ب : معنى. تحريف.

(١١) في ب والتبيان : المتقين.

(١٢) في ب : كأنه.

(١٣) التبيان ١١٠٣.

(١٤) لفظ (ما) سقط من أدون ب.

٤٣٦

عنهم صناعة إنما أخبر عنهم معنى وإلا فقد أخبر عن (حُسْنَ مَآبٍ) بأنه لهم (١) ، وجعل الحوفي العامل مقدرا أي يدخلونها مفتحة (٢).

قوله : «الأبواب» في ارتفاعها وجهان :

أشهرهما عند الناس : أنها مرتفعة باسم المفعول (٣) كقوله : (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧٣]. واعترض على هذا بأن «مفتّحة» إما حال ، وإما نعت «لجنّات». وعلى التقديرين فلا رابط. وأجيب بوجهين :

أحدهما : قول البصريين وهو أن ثمّ خبرا مقدرا تقديره الأبواب منها.

والثاني : أن («أل») (٤) قامت مقام الضمير ، إذ الأصل أبوابها ، وهو قول الكوفيين (٥). وتقدم تحقيق هذا. والوجهان جاريان في قوله : (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٤١].

الثاني : أنها مرتفعة على البدل من الضمير في مفتحة العائد على جنات. وهو قول الفارسي (٦). لما رأى خلوّها من الرابط لفظا ادّعى ذلك. واعترض على هذا بأن هذا من بدل البعض أو الاشتمال وكلاهما لا بدّ فيهما من ضمير فيضطر إلى تقديره كما تقدم. ورجح بعضهم الأول بأن فيه إضمارا واحدا وفي هذا إضماران (٧) وتبعه الزمخشري فقال «والأبواب» بدل من الضمير في «مفتحة» أي مفتحة هي الأبواب كقولك : «ضرب زيد اليد والرّجل» وهو من بدل الاشتمال (٨).

فقوله : «بدل الاشتمال» إنما يعني به الأبواب لأن الأبواب قد يقال : إنها ليست بعض الجنات ، وأما ضرب زيد اليد والرجل فهو بعض من كل ليس إلا (٩).

وقرأ زيد بن علي وأبو حيوة جنات عدن مفتحة (١٠) برفعها إما على أنها جملة من

__________________

(١) الدر المصون ٤ / ٦١٥.

(٢) وانظر : البحر المحيط لأبي حيان ٤٠٥ / ٧.

(٣) ذكره ابن الأنباري في البيان ٢ / ٣١٦ وأبو البقاء في التبيان ١١٠٣ والقرطبي في الجامع ١٥ / ٢١٩ والسمين في الدر ٤ / ٦١٥ والفراء في المعاني ٢ / ٤٠٨.

(٤) سقط من ب.

(٥) انظر : الدر المصون ٤ / ٦١٥ ، ٦١٦ ومشكل الإعراب ٢ / ٢٥٢ والتبيان ١١٠٣.

(٦) قال في المقتصد ٥٤٤ : «وأما قوله تعالى : «جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً» الآية فليس على مفتحة لهم الأبواب بدل من الضمير الذي في «مفتحة» لأنك تقول : فتحت الجنان إذا فتحت أبوابها». وانظر أيضا الإغفال ١١٩٩ ، ١٢٠٠.

(٧) هذا رأي أبي حيان في البحر ٧ / ٤٠٥.

(٨) الكشاف ٣ / ٣٧٨.

(٩) قاله أبو حيان في البحر ٧ / ٤٠٥ والسمين في الدر ٤ / ٦١٦.

(١٠) ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٣٠ وهي من الشواذ كما ذكرها أبو حيان في البحر ٧ / ٤٠٥ والسمين في الدر ٤ / ٦١٦ والزمخشري ٣ / ٣٧٨.

٤٣٧

مبتدأ وخبر ، وإما على أن كل واحدة خبر مبتدأ مضمر أي هي جنات هي مفتحة (١).

قوله : «متّكئين» حال من «لهم» العامل فيها مفتحة (٢) ، وقيل : العامل «يدعون» (٣).

(و) (٤) تأخر عنها. وقد تقدم منع أبي البقاء أنها حال من «للمتقين» (٥) وما فيه ، و «يدعون» يجوز أن يكون مستأنفا وأن يكون حالا إما من ضمير «متكئين» وإما حالا ثانية (٦).

فصل

اعلم أنه تعالى وصف أحوال أهل الجنة في هذه الآية بأشياء :

أولها : أحوال مساكنهم جنات عدن وذلك يدل على أمرين :

أحدهما : كونها بساتين.

والثاني : كونها دائمة ليست منقضية ، وقوله : (مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) قيل : المراد أن الملائكة يفتحو (ن) (٧) لهم أبواب الجنة ويحيّونهم بالسلام كما قال تعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [الزمر : ٧٣]. وقيل: الحق أنهم كلما أرادوا انفتاح (٨) الأبواب انفتحت لهم وكلما أرادوا انغلاقها (٩) انغلقت لهم ، وقيل : المراد من هذا الفتح وصف تلك المساكن بالسّعة وقرّة (١٠) العيون فيها ، وقوله : «متّكئين» قد ذكر في آيات أخر كيفية ذلك الاتّكاء فقال في آية : (عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ) [يس : ٥٦] وقال في أخرى : (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ)(١١) [الرحمن : ٧٦] ، وقوله : (يَدْعُونَ فِيها) في الجنات بألوان الفاكهة وألوان الشراب والتقدير بفاكهة كثيرة وشراب كثير ، ولما بين المسكن والمأكول والمشروب ذكر أمر المنكوح فقال (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي عن غيرهم وقوله «أتراب» أي على سنّ واحد (١٢) ، وقيل : بنات ثلاث وستين (١٣) سنة واحدها ترب. وعن مجاهد : متواخيات لا يتباغضن ولا

__________________

(١) المراجع الثلاثة الأخيرة. والتقدير في البحر والكشاف أي هو جنات عدن هي مفتحة.

(٢) التبيان ١١٠٣ والبيان ٢ / ٣١٧ والدر المصون ٤ / ٦١٦.

(٣) التبيان ١١٠٣.

(٤) زيادة من ب.

(٥) في ب : المتقين بدون لام الجر.

(٦) قاله في الدر المصون ٤ / ٦١٦ وقال بالحالية فقط الإمام القرطبي في الجامع ١٥ / ٢١٩.

(٧) نون الرفع هذه سقطت من أ.

(٨) كذا في أوالفخر الرازي. وفي ب افتتاح.

(٩) في ب فقط : إغلاقها.

(١٠) كذا في أوفي ب قوة وفي الرازي مسافرة. وهو الأصح ومعنى المسافرة الاتّساع والجمال (بتصرف من اللسان : «س ف ر» ٢٠٢٤).

(١١) والمتكىء في العربية كل من استوى قاعدا على وطاء ، متمكنا ، والعامة لا تعرف المتكىء إلا من قال في قعوده معتمدا على أحد شقيه وانظر : اللسان : «وك أ» ٤٩٠٤.

(١٢) انظر : غريب القرآن ٣٨١ والمجاز ٢ / ١٨٥ والرازي ٢٦ / ٢١٩ والقرطبي ١٥ / ٢١٩.

(١٣) الأصح : ثلاث وثلاثين سنة كما في البغوي ٦ / ٦٢ والقرطبي ١٥ / ٢١٩.

٤٣٨

يتغايرن (١) ، وقيل : أتراب للأزواج ، وقال القفال : والسبب في اعتبار هذه الصفة أنهن لما تشابهن في الصّفة والسن والجبلّة (٢) كان الميل إليهن على السّويّة وذلك يقتضي عدم الغيرة (٣).

قوله : (هذا ما تُوعَدُونَ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو : «هذا ما يوعدون» بياء الغيبة وفي (ق)(٤) (و) (٥) ابن كثير وحده. والباقون بالخطاب فيهما (٦). ووجه الغيبة هنا وفي (ق) تقدم ذكر المتقين ووجه الخطاب الالتفات إليهم والإقبال عليهم ؛ أي قل للمتّقين هذا ما توعدون ليوم الحساب أي في يوم الحساب. (إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) أي فناء وانقطاع ، وهذا إخبار عن دوام هذا الثواب.

قوله : (مِنْ نَفادٍ) إما مبتدأ وإما فاعل و «من» مزيدة ، والجملة في محل نصب على الحال من رزقنا أي غير فان (٧) ، ويجوز أن يكون خبرا (٨) ثانيا.

قوله تعالى : (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ)(٦٤)

قوله : (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ) يجوز أن يكون «هذا» مبتدأ ، والخبر مقدر ، فقدره الزمخشر : «هذا كما ذكر» (٩) وقدره أبو علي هذا للمؤمنين (١٠) ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر أي الأمر هذا (١١).

فصل

لما وصف ثواب المؤمنين وصف بعده عقاب الظالمين ليكون الوعيد مذكورا عقيب الوعد والترهيب عقيب الترغيب فقال : (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) أي مرجع ، وهذا في

__________________

(١) وانظر : البغوي ٦ / ٦٢.

(٢) في الرازي : والجبلية.

(٣) وانظر الرازي ٢٦ / ٢١٩.

(٤) في قوله : «هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ».

(٥) زيادة لا معنى لها من أ.

(٦) من القراءة المتواترة وانظر : الإتحاف ٣٧٣ والكشف ٢ / ٢٣٢ والنشر ٢ / ٣٦١.

(٧) التبيان ١١٠٣ ، ١١٠٤ والدر المصون ٤ / ٦١٧.

(٨) السابق.

(٩) الكشاف ٣ / ٣٧٩.

(١٠) البحر المحيط ٧ / ٤٠٥ والحجة ٧ / ٤٠.

(١١) هذا رأي أبي إسحاق الزجاج في المعاني ٤ / ٣٣٨ وأحد قولي الزّمخشريّ في الكشاف ٣ / ٣٧٩.

٤٣٩

مقابلة قوله : (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ). والمراد «بالطاغين» : الكفار ، وقال الجبائي : هم أصحاب الكبائر سواء كانوا كفارا أم لا ، واحتج الأولون بقوله : (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) ؛ ولأن هذا ذمّ مطلق فلا يحمل إلا على الكامل في الطغيان وهو الكافر ، واحتج الجبائي بقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق : ٦ ـ ٧] فدل على أن الوصف بالطغيان قد يحصل لصاحب الكبيرة ، لأن كل من تجاوز حدّ تكاليف الله وتعداها فقد طغى (١).

قوله : «جهنّم» يجوز أن يكون بدلا من (لَشَرَّ مَآبٍ)(٢) أو منصوبة بإضمار أعني فعل (٣) ، وقياس قول الزمخشري في : (جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي يكون عطف بيان (٤) وأن يكون جهنم منصوبة بفعل يتقدمه (٥) على الاشتغال أي يصلون جهنّم يصلونها (٦) ، والمخصوص بالذم محذوف أي «هي».

قوله : (فَبِئْسَ الْمِهادُ) هو معنى قوله : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) [الأعراف: ٤١] شبّه الله تعالى ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفرشه النائم (٧).

قوله : (هذا فَلْيَذُوقُوهُ) في هذا أوجه :

أحدها : أن يكون مبتدأ وخبره : (حَمِيمٌ ٨) وَغَسَّاقٌ). وقد تقدم أن اسم الإشارة يكتفي بواحدة في المثنى كقوله : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ)(٩) [البقرة : ٦٨] أو يكون المعنى : هذا جامع بين الوصفين ويكون قوله : «فليذوقوه» جملة اعتراضية (١٠).

الثاني : أن يكون «هذا» منصوبا بمقدر على الاشتغال أي ليذوقوا هذا (١١) ، وشبهه الزمخشري بقوله تعالى : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)(١٢) [البقرة : ٤٠] يعني على الاشتغال والكلام على مثل هذه الفاء قد تقدم (١٣). و «حميم» على هذا خبر مبتدأ مضمر (١٤) ، أو مبتدأ وخبره مضمر أي منه حميم ومنه غسّاق (١٥) كقوله :

__________________

(١) وانظر : تفسير الفخر الرازي ٢٦ / ٢٢٠ ، ٢٢١.

(٢) التبيان ١١٠٤.

(٣) الدر المصون ٤ / ٦١٧.

(٤) الكشاف ٣ / ٣٧٨.

(٥) في ب : صفة.

(٦) التبيان ١١٠٤ والدر المصون ٤ / ٦١٧.

(٧) قاله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٧٩.

(٨) في أجهنم خطأ.

(٩) قاله العكبري ١١٠٤ والسمين ٤ / ٦١٧ وصاحب البيان ٢ / ٣١٧.

(١٠) المراجع السابقة وقال بهذا الوجه مكي في المشكل أيضا ٢ / ٢٥٢.

(١١) البيان ٢ / ٣١٧ ومعاني الفراء ٢ / ٤١٠ وهو قول الزمخشري في الكشاف كما سيأتي الآن.

(١٢) وانظر : الكشاف ٣ / ٣٧٩ وكان الأصل : وإياي ارهبوا فارهبون.

(١٣) من كونها إما زائدة ، وإما جواب أمر مقدر أي تنبهوا. والزائدة دخولها في الكلام كخروجها وأناس كثيرون حكموا على مثل هذه الفاء بالزيادة. انظر : المغني ١٦٦ والمشكل ٢ / ٢٥٢ ومعاني الزجاج ٤ / ٣٣٨.

(١٤) البيان ٢ / ٣١٧.

(١٥) أحد قولي الفراء في المعاني ٢ / ٤١٠ وانظر في هذا كله الدر المصون ٤ / ٦١٨.

٤٤٠