اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٧٤

فصل

قال المفسرون : لما قبض الله حزقيل (١) ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ عظمت الأحداث في بني إسرائيل وظهر فيهم الفساد والشك وعبدوا الأوثان من دون الله ـ عزوجل ـ فبعث الله إليهم إلياس نبيّا ، وكانت الأنبياء من بني إسرائيل ، يبعثون من بعد موسى بتجديد ما نسوا من التوراة وبنو إسرائيل كانوا متفرقين في أرض الشام ، وسبب ذلك أن يوشع بن نون لما فتح الشام بوّأها بني إسرائيل وقسمها بينهم فأحل سبطا منهم ببعلبك ونواحيها وهم السبط الذين كان منهم إلياس فبعثه الله إليهم نبيا وعليهم يومئذ ملك يقال له أحب قد أضلّ قومه وأجبرهم على عبادة الأصنام وكان يعبد هو وقومه صنما يقال له بعل وكان طوله عشرين ذراعا وله أربعة أوجه فجعل إلياس يدعوهم إلى الله ـ عزوجل ـ وهم لا يسمعون إلا ما كان من الملك فإنه صدقه وآمن به ثم ذكروا قصة طويلة وذكروا في آخرها أن إلياس رفع إلى السماء وكسناه الله الرّيش وقطع عنه لذّة المطعم والمشرب فكان إنسيّا ملكيا أرضيا سمائيا (٢) ، قال ابن أبي دؤاد (٣) : إنّ الخضر وإلياس يصومان شهر رمضان ببيت المقدس ويوافيان الموسم في كل عام. وقيل : إنّ إلياس وكّل بالفيافي والخضر وكّل بالعمار. ثمّ قال تعالى : (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي لمحضرون النار غدا (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) من قومه الذين أوتوا بالتوحيد الخالص فإنّهم محضرون (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ).

قوله : (إِلَّا عِبادَ اللهِ) استثناء من فاعل «فكذبوه» وفيه دلالة على أن في قومه من لم يكذبه فلذلك استثنوا ولا يجوز أن يكونوا مستثنين من ضمير «لمحضرون» ؛ لأنه يلزم أن يكونوا مندرجين فيمن كذب لكنهم لم يحضروا لكونهم عباد الله المخلصين. وهو بين الفساد. (و) لا يقال : هو مستثنى منه استثناء منقطعا ؛ لأنه يصير المعنى لكن عباد الله المخلصين من غير هؤلاء لم يحضروا. ولا حاجة إلى هذا بوجه إذ به يفسد نظم الكلام (٤).

قوله تعالى : (عَلى إِلْ ياسِينَ) قرأ نافع وابن عامر (إِلْ ياسِينَ) بإضافة «آل» ـ بمعنى الأهل ـ إلى ياسين والباقون بكسر الهمزة وسكون اللام موصولة بياسين (٥) ؛ كأنه جمع

__________________

(١) هو حزقيل بن بودي وهو الذي أصاب قومه الطاعون وحذّرهم من الموت. انظر : معارف ابن قتيبة ٥١.

(٢) انظر هذه القصة في زاد المسير ٧ / ٨١.

(٣) أبو عبد الله أحمد بن أبي دؤاد كان من أصل المعتزلة وأفاضلهم وممن جرد في إظهار المذهب والذب عن أهله والعناية به مات سنة ٢٤٠ ه‍. انظر : الفهرست ٢١٢ ، وانظر : البغوي ٦ / ٣٦ و ٣٧.

(٤) انظر بالمعنى من البحر المحيط ٧ / ٣٧٣ وباللفظ من الدر المصون ٤ / ٥٦٨.

(٥) من القراءة المتواترة. انظرها في السبعة ٥٤٩ وحجة ابن خالويه ٣٠٣ ، والنشر ٢ / ٣٦٠ والكشف ٢ / ٢٢٧.

٣٤١

إلياس جمع سلامة (١) ، فأما الأولى (٢) فإنه أراد بالآل إلياس ولد ياسين كما تقدم وأصحابه ، وقيل : المراد بياسين هذا إلياس المتقدم فيكون له اسمان مثل إسماعيل وإسماعين وميكائيل وميكائين ، وآله : رهطه وقومه المؤمنون ، وقيل : المراد بياسين ، محمد بن عبد الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقيل : المراد بياسين اسم القرآن كأنه قيل سلام على من آمن بكتاب الله الذي هو ياسين.

وأما القراءة الثانية ، فقيل : هي جمع إلياس المتقدم وجمع باعتبار أصحابه (ك) المهالبة والأشاعثة في المهلّب وبنيه والأشعث وقومه. وهو في الأصل جمع المنسوب إلى إلياس والأصل إلياسي (٣) كأشعري ، ثم استثقل تضعيفهما فحذفت إحدى يائي النسب ، فلما جمع جمع سلامة التقى ساكنان إحدى اليائين (و) (٤) ياء الجمع فحذفت أولاهما لالتقاء الساكنين فصار الياسين كما ترى ومثله الأشعرون (٥) والخبيبون (٦) ، قال :

٤٢٢١ ـ قدني من نصر الخبيبين قد (ي)

 ..........(٧)

وقد تقدم طرف من هذا آخر الشعراء عند قوله : «الأعجمين» (٨) إلّا أنّ الزمخشري قد رد هذا بأنه لو كان على ما ذكر لوجب تعريفه بأل ، فكان يقال على الإلياسين (٩).

__________________

(١) انظر هذا التوجيه بالمعنى في الكشف ٢ / ٢٢٧ وانظر المحتسب ٢ / ٢٢٣ والدر المصون ٤ / ٥٦٨ ، وزاد المسير لابن الجوزي ٧ / ٨٢ : ٨٤.

(٢) المراجع السابقة.

(٣) هذا مأخوذ من كلام ابن جني في المحتسب قال : «وإلياسين على هذا كأنه على إرادة ياء النسب كأنه الياسين كما حكى عنهم صاحب الكتاب الأشعرون والنّميرون يريد الأشعريّين والنميريين» ثم قال : «وقد يجوز أن يكون جعل كل واحد من أهل إلياس ياسا فقال إلياسين» المحتسب ٢ / ٢٢٣.

(٤) لفظ الواو سقط من نسخة «ب».

(٥) فإنّ مفردها أشعري.

(٦) فإن مفردها خبيبي ، وانظر : الدر المصون ٤ / ٥٦٨ ، ومجاز القرآن ٢ / ١٧٢ و ١٧٣ وعلى هذا فإن الياسين قبل الإعلال والحذف كانت الياسيّين بياء النسبة وياء الجمعية فحصل فيها ما أثبت من علة وتوجيه.

(٧) صدر بيت من الرجز لحميد الأرقط عجزه :

 ..........

ليس أميري بالشّحيح الملحد

واحتمال أن يكونا شطري رجز لا بيتا واحدا. والخبيبين يروى بالتثنية وبالجمع والجمع يكون فيه الاستشهاد حيث كان الأصل الخبيبيّين فحدث فيه ما حدث حيث جعلهم كأن كل رجل منهم خبيب مثل الأشعرون إذا نسبوا إلى الأشعر. والمراد بالخبيبين أبا خبيب ومصعبا أخاه. وانظر المحتسب ٢ / ٢٢٣ والإنصاف ١٣١ وابن يعيش ٣ / ١٢٤ و ٧ / ٢٤٣ وشرح الكافية ٢ / ٢٣ والمقتصد ٢٠٢ والخزانة ٥ / ٣٨٢ و ٢٩٦ والأشموني ١ / ٢٢٥ وكامل المبرد ١٠ / ١٤٤ والمجاز ٢ / ١٧٣.

(٨) عند الآية ١٩٨ منها.

(٩) قال في الكشاف : «ولو كان جمعا لعرف بالألف واللام». وانظر الكشاف ٣ / ٣٥٢.

٣٤٢

قال شهاب الدين : لأنه متى جمع العلم جمع سلامة أو ثني لزمته الألف واللام لأنه تزول علميته فيقال : الزّيدان ، والزّيدون ، والزّينبات ، ولا يلتفت إلى قولهم : جماديان وعمايتان علمي شهرين ، وجبلين لندورهما (١). وقرأ الحسن وأبو رجاء على الياسين (٢) بوصل الهمزة لأنه يجمع الياسين وقومه المنسوبين إليه بالطريق المذكورة. وهذه واضحة لوجود «ال» المعرفة كالزّيدين. وقرأ عبد الله على إدراسين (٣) لأنه قرأ في الأول : وإن إدريس ، وقرأ أبي علي إبليسين (٤) لأنه قرأ في الأول وإن إبليس كما تقدم عنه ، وهاتان القراءتان تدلّان على أنّ «الياسين» جمع إلياس.

قوله تعالى : (وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ)(١٤٧)

قوله تعالى : (وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) تقدم الكلام على نظيره ، وقوله : «مصبحين» حال (٥) ، وهو من أصبح التامة (٦) أي داخلين في الصّباح ، ومنه :

٤٢٢٢ ـ إذا سمعت بسرى القي

ن فاعلم بأنّه مصبح (٧)

أي مقيم (٨) في الصباح ، وتقدم ذلك في سورة الروم ، و «باللّيل» عطف على الجارّ قبلها ، أي ملتبسين (٩) بالليل ، والمعنى أن أولئك القوم كانوا يسافرون إلى الشام ، والمسافر في أكثر الأمر إنما يمشي في الليل أو في النهار فلهذا السبب عبر تعالى عن هذين الوقتين ثم قال : (وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي ليس فيكم عقول تعتبرون بها (١٠) قوله : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) قرىء بضم النون وكسرها ، قاله الزمخشري (١١) ، قال ابن الخطيب : وإنّما صارت هذه القصة آخر القصص لأنه لم يصبر على أذى قومه (١٢) ، قال

__________________

(١) الدر المصون ٤ / ٥٦٩.

(٢) المحتسب لابن جني ٢ / ٢٢٣.

(٣) السابق. وانظر مختصر ابن خالويه ١٢٨ ومعاني الفراء ٢ / ٣٩٢.

(٤) السابق.

(٥) الدر المصون ٤ / ٥٦٩.

(٦) أي التي لا تحتاج إلى اسم وخبر وإنما إلى فاعل فقط كقوله عزّت أسماؤه : «وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة» أي وإن وجد صاحب عسرة.

(٧) في «ب» تصبح.

(٨) في «ب» تقيم.

(٩) الدر المصون ٤ / ٥٦٩.

(١٠) قاله الرازي في تفسيره ٢٦ / ١٦٣.

(١١) انظر : الكشاف ٣ / ٣٥٣.

(١٢) قاله في تفسيره «التفسير الكبير» ٢٦ / ١٦٣.

٣٤٣

المفسرون : بعث الله تعالى يونس عليه (الصلاة و) السلام إلى أرض نينوى من أرض الموصل فدعاهم إلى الله ـ عزوجل ـ فكذبوه وتمادوا عليه على كفرهم فلما طال ذلك عليه خرج من بين أظهرهم وواعدهم حلول العذاب بعد ثلاث كما سيأتي (١).

قوله : (إِذْ أَبَقَ) (ظرف (٢) للمرسلين (٣) ، أي هو من المرسلين ، حتى في هذه الحالة و «أبق» هرب يقال : أبق العبد يأبق إباقا فهو آبق و) الجمع إباق كضراب (٤) ، وفيه لغة ثانية أبق بالكسر يأبق بالفتح وتأبّق الرجل تشبه به في الاستتار (٥) ، وقول الشاعر :

٤٢٢٣ ـ ..........

(و) قد أحكمت حكمات القدّ والأبقا (٦)

قيل : هو القتب. (قوله) (٧) : «فساهم» أي فغالبهم في المساهمة وهي الاقتراع ، وأصله (أن)(٨) يخرج السهم على من غلب (فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) أي المغلوبين ، يقال أدحض الله حجّته (٩) فدحضت أي أزالها فزالت وأصل الكلمة من الدّحض وهو الزّلق يقال : دحضت رجل البعير إذا زلقت(١٠).

فصل

قال ابن عباس ووهب : كان يونس وعد قومه العذاب فلما تأخر عنهم خرج كالمتشرّد منهم فقصد البحر فركب السفينة فاحتبست السفينة فقال الملاحون : ههنا عبد أبق من سيده فاقترعوا فوقعت القرعة على يونس فاقترعوا ثلاثا فوقعت على يونس فقال يونس : أنا الآبق وزجّ نفسه في الماء (١١).

قوله : (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) المليم الذي أتى بما يلام عليه (١٢). قال :

__________________

(١) قاله القرطبي في ٨ / ٣٨٤ و ١١ / ٣٢٩ و ١٥ / ١٢١.

(٢) ما بين القوسين كله ساقط من «ب».

(٣) الدر المصون ٤ / ٥٦٩.

(٤) انظر : اللسان : «أب ق» ، والغريب ٣٧٤ والمجاز ٣ / ١٧٤ ، ومعاني الزجاج ٤ / ٣١٢.

(٥) اللسان لم يتعرض لهذه اللغة. وقد قال بها السمين في الدر ٤ / ٥٦٩ و ٥٧٠.

(٦) هذا عجز بيت من البسيط لزهير وصدره :

القائد الخيل منكوبا دوابرها

 ..........

وهو يمدح هذا الرجل الذي يركب الخيل التي أحكم سرجها بحبال متينة من ليف. وأتى به شاهدا على أن الأبق هو القتب شجر تؤخذ منه مادة الحشيش ، أو هو ليفه ، أو هو الكتان. انظر : اللسان : «أب ق» ٩ ومعاني الأخفش ٤٢ وديوانه (٤٩) والدر المصون ٤ / ٥٧٠.

(٧) سقط من «ب».

(٨) كذلك.

(٩) اللسان : «س ه م» ٢١٣٥ والغريب ٣٧٤.

(١٠) السابق. وانظر اللسان : «د ح ض» ١٣٣٥.

(١١) انظر تلك في تفسير البغوي ٦ / ٣٦ والخازن ٦ / ٣٦ أيضا.

(١٢) قاله الزجاج في معاني القرآن ٤ / ٣١٣ وأبو عبيدة في المجاز ٢ / ١٧٤ وقال عنه الفراء في المعاني ٢ / ٣٩٣ ـ

٣٤٤

٤٢٢٤ ـ وكم من مليم لم يصب بملامة

ومشبع بالذّنب ليس له ذنب (١)

يقال : ألام فلان أي فعل ما يلام عليه ، وقوله (وَهُوَ مُلِيمٌ) حال. وقرىء «مليم» بفتح الميم من لام يلوم وهي شاذة جدا ، إذ كان قياسها «ملوم» ؛ لأنها من ذوات الواو كمقول ومصوب (٢). قيل : ولكن أخذت من ليم على كذا مبنيا للمفعول ومثله في ذلك : شيب الشيء فهو مشيب ودعي فهو مدعيّ (٣). والقياس مشوب ومدعوّ لأنهما من يشوب ويدعو.

فصل

روى (٤) ابن عباس أن يونس ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ كان يسكن مع قومه فلسطين فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصف وبقي سبطان ونصف وكان قد أوحي إلى بني إسرائيل إذا أسركم عدوّكم (أ) (٥) وأصابتكم مصيبة فادعوني أستجب لكم فلما نسوا ذلك وأسروا أوحى الله تعالى بعد حين إلى نبيّ من أنبيائهم أن اذهب إلى ملك هؤلاء الأقوام وقل لهم (٦) يبعث إلى بني إسرائيل نبيا فاختار يونس ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ لقوته وأمانته ، قال يونس : الله أمرك بهذا؟ قال : لا ولكن أمرت أن أبعث قويا أمينا وأنت كذلك فقال يونس : وفي بني إسرائيل من هو أقوى مني فلم لا تبعثه؟ فألح الملك عليه فغضب يونس منه وخرج حتى أتى بحر الروم فوجد سفينة مشحونة فحملوه فيها ، فلما أشرف (٧) على لجّة البحر أشرفوا على الغرق. فقال الملاحون إن فيكم عاصيا وإلّا لم يحصل في السفينة ما نراه (٨). وقال التجار قد جرّبنا مثل هذا فإذا رأيناه نقترع فمن خرج عليه (٩) نغرقه فلأن يغرق واحد خير من غرق الكل فخرج من بينهم (١٠) يونس فقال يا هؤلاء : أنا العاصي وتلفّف في كساء ورمى بنفسه فالتقمه الحوت (١١) وأوحى الله إلى الحوت : لا تكسر منه عظما ولا تقطع له وصلا ثم إن السمكة خرجت

__________________

ـ «وهو الذي اكتسب اللوم وإن لم يلم ، والملوم الذي قد ليم باللسان ، وهو مثل قول العرب : أصبحت محمقا معطشا أي عندك المحمق والعطش. وهو كثير في الكلام».

(١) أنشد على أن المليم الذي يأتي بما يلومه عليه الناس. والبيت أحد بيتين ذكرهما القالي في أماليه انظر أمالي القالي ١ / ١٦ والدر المصون ٤ / ٥٧٠.

(٢) حكم بشذوذ هذه القراءة مع أنها جائزة لغة وهناك ما هو أشدّ شذوذا منها السمين في الدر ٤ / ٥٧٠ وذكرها الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٥٣ وأبو حيان في البحر ٧ / ٣٧٥.

(٣) الكشاف ٣ / ٣٥٣.

(٤) انظر هذا في الرازي ٢٦ / ١٦٤.

(٥) زيادة من الرازي.

(٦) في الرازي : وقل له حتى يبعث إلى.

(٧) وفيه : فلما دخلت لجة البحر أشرفت على الغرق.

(٨) وفيه : ما نراه من غير ريح ولا سبب ظاهر.

(٩) وفيه : خرج سهمه.

(١٠) في «ب» سهم.

(١١) في «ب» : فابتلعته السمكة.

٣٤٥

من نيل (١) مصر ثم إلى بحر فارس ثم إلى (بحر) (٢) البطائح ، ثم دجلة فصعدت به ورمته في أرض نصيبين بالعراء ، وهو كالفرخ المنتوف لا شعر ولا لحم فأنبت الله عليه شجرة من يقطين فكان يستظل بها ويأكل من ثمرها حتى اشتد. ثم إنّ الأرض (ة) (٣) أكلتها فحزن يونس لذلك حزنا فقال يا رب كنت أستظل تحت هذه الشجرة من الشمس والرّيح وأمصّ من ثمرها وقد سقطت فقيل (له) (٤) : يا يونس تحزن (على شجرة) (٥) أنبتت في ساعة واقتلعت في ساعة ولا تحزن على مائة ألف أو يزيدون تركتهم فانطلق إليهم.

قوله : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) من الذاكرين الله قبل ذلك وكان كثير الذّكر ، قال ابن عباس : من المصلين وقال وهب : من العابدين. وقال الحسن : ما كانت له صلاة في بطن الحوت ولكن قدّم عملا صالحا. وقال سعيد بن جبير هو قوله في بطن الحوت : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)(٦).

قوله : (فِي بَطْنِهِ) الظاهر أنه متعلق «بلبث». وقيل : حال أي مستقر (٧). وكان بطنه قبرا له إلى يوم القيامة ، قال الحسن : لم يلبث إلا قليلا ثم أخرج من بطن الحوت. وقال بعضهم : التقمه بكرة ولفظه عشيا وقال مقاتل بن حيّان ثلاثة أيام ، وعن عطاء : سبعة أيام ، وعن الضحاك : عشرون يوما. وقيل : شهر ، وقيل : أربعين يوما (٨).

قال ابن الخطيب : ولا أدري بأي دليل عينوا هذه المقادير (٩). وروى أبو بردة (١٠) عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : سبّح يونس في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا ربنا إنا نسمع صوتا بأرض غريبة فقال ذاك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر ، قالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح قال : نعم فشفعوا له فأمر الحوت فقذفه بالساحل. وروي أن يونس لما ابتلعه الحوت ابتلع الحوت حوت آخر أكبر منه فلما استقر في جوف الحوت حسب أنه قد مات فحرك جوارحه فتحركت فإذا هو حيّ فخرّ لله ساجدا وقال : يا رب اتخذت لك مسجدا لم يعبدك أحد في مثله.

قوله : «فنبذناه» أضاف النبذ إلى نفسه مع أن ذلك النبذ إنما حصل بفعل الحوت وهذا يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى (١١). وقوله : «بالعراء» أي في العراء نحو : زيد بمكّة (١٢).

__________________

(١) وفيه : أخرجته إلى نيل.

(٢) سقط من «ب».

(٣) زيادة من الرازي.

(٤) سقط من «ب».

(٥) سقط من «ب» وانظر : الرازي ٢٦ / ١٦٤.

(٦) انظر هذه الأقوال في زاد المسير ٧ / ٨٧

(٧) التبيان ١٠٩٣.

(٨) القرطبي ١٥ / ١٢٣ وزاد المسير ٧ / ٨٨ والرازي ٢٦ / ١٦٥.

(٩) المرجع السابق.

(١٠) في المرجع السابق أنه أبو هريرة.

(١١) السابق.

(١٢) فتكون الباء بمعنى «في» الظرفية. وانظر : الدر المصون ٤ / ٥٧٠.

٣٤٦

والعراء : الأرض الواسعة التي لا نبات بها ولا معلم (١) اشتقاقا من العري وهو عدم السّترة وسميت الأرض الجرداء بذلك لعدم استتارها بشيء (٢). والعرى بالقصر الناحية ومنه اعتراه أي قصد عراه. وأما الممدود فهو كما تقدم الأرض (٣) الفيحاء قال :

٤٢٢٥ ـ ورفعت رجلا لا أخاف عثارها

ونبذت بالمتن العراء ثيابي (٤)

قوله : (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ) أي له ، وقيل : عنده (٥)(شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) اليقطين (ي) (٦) فعيل من قطن بالمكان إذا أقام فيه لا يبرح (٧). قال المبرد والزجاج : اليقطين كل ما لم يكن له ساق من عود كالقثّاء والقرع والبطّيخ والحنظل وهو قوله الحسن و (قتادة) ، ومقاتل.

قال البغوي : المراد هنا القرع على قول جميع المفسرين (٨). وروى الفراء أنه ورق القرع عن ابن عباس.

فقال : «ومن جعل ورق القرع من بين الشجر يقطينا كل ورقة اتسعت وسترت فهي يقطين»(٩).

واعلم أن في قوله : «شجرة» ما يرد قول بعضهم أن الشجرة في كلامهم ما كان لها ساق من عود (١٠) بل الصحيح أنها أعم ، ولذلك بيّنت (١١) بقوله (١٢) : (مِنْ يَقْطِينٍ) ، وأما قوله : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ) [الرحمن : ٦] فلا دليل فيه لأنه استعمال اللفظ العام في أحد مدلولاته.

وقيل : بل أنبت الله اليقطين الخاص على ساق معجزة له ، فجاء على أصله (١٣). قال الواحدي: الآية تقتضي شيئين لم يذكرهما المفسرون :

__________________

(١) في «ب» ولا تعلم. تحريف وانظر : المجاز ٢ / ١٧٥ والغريب ٣٧٤ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٣١٣ والتهذيب للأزهري «عري» واللسان «عرا» ٢٩٢١.

(٢) السابق وانظر أيضا المنقوص والممدود ١٨ و ١٩.

(٣) اللسان السابق ومعاني الزجاج السابق وانظر : الدر المصون ٤ / ٥٧١.

(٤) من الكامل أنشده صاحب المجاز لرجل من خزاعة ، ويعزى لأبي خراش الهذلي وروايته : رفّعت.

وانظر : المجاز ٢ / ١٧٥ ومعاني القرآن وإعرابه ٤ / ١٣ ـ ٣١٣ واللسان : «ع ر ا» والقرطبي ١٥ / ١٢٩ ، وكامل المبرد ١ / ٢٧٦ ، وديوان الهذليين ٢ / ١٦٨.

(٥) ذكرهما القرطبي في الجامع ١٥ / ١٢٩.

(٦) الياء سقطت من «ب». وهو خطأ أي سقوطها وانظر هذا الوزن في الممتع لابن عصفور ١ / ١١٠ والمزهر للسيوطي ٢ / ٥٩.

(٧) الرازي ٢٦ / ١٦٦ ومعاني الزجاج ٤ / ٣١٤.

(٨) السابق وانظر القرطبي ١٥ / ١٢٩.

(٩) ذكره في معالم التنزيل ٦ / ٣٨.

(١٠) المعاني ٢ / ٣٩٣.

(١١) هذا قول أبي العباس المبرد. نقله عنه القرطبي ١٥ / ١٢٩.

(١٢) في «ب» ثبت.

(١٣) في «ب» مقوله.

٣٤٧

أحدهما : أن هذا اليقطين لم يكن فأنبته الله لأجله ، والآخر : أن اليقطين مغروس ليحصل له ظل ، ولو كان منبسطا على الأرض لم يمكن أن يستظل به (١). وقال مقاتل بن حيّان : كان (٢) يونس يستظلّ بالشجرة وكانت وعلة تختلف إليه فيشرب من لبنها بكرة وعشيّا حتى اشتد لحمه ونبت شعره.

وقال ههنا : (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ) وقال في موضع آخر : (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) [القلم : ٤٩] ولكنه تداركه النعمة فنبذه وهو غير مذموم.

فصل

قال شهاب الدين : ولو بنيت من الوعد مثل يقطين لقلت : يوعيد ، لا يقال بحذف الواو لوقوعها بين ياء وكسرة كيعد مضارع «وعد» لأن شرط تلك الياء أن تكون للمضارعة ، وهذه مما يمتحن بها أهل التصريف بعضهم بعضا (٣).

قوله : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) يحتمل أن يكون المراد : «وأرسلناه قبل ملتقمه» ؛ وعلى هذا فالإرسال وإن ذكر بعد الالتقام فالمراد به التقديم. والواو معناها الجمع ويحتمل أن يكون المراد به الإرسال بعد الالتقام قال ابن عباس : كان إرسال يونس بعد ما نبذه الحوت وعلى هذا التقدير يجوز أنه أرسل إلى قوم آخرين سوى القوم الأول ويجوز أن يكون أرسل إلى الأولين (٤) بشريعة فآمنوابها(٥).

قوله : (أَوْ يَزِيدُونَ) في «أو» هذه سبعة أوجه تقدم تحقيقها أول البقرة عند قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) [البقرة : ١٩] فالشك بالنسبة إلى المخاطبين أي أن الرّائي يشك عند رؤيتهم (٦) ، والإبهام بالنسبة إلى الله تعالى أبهم أمرهم (٧) والإباحة أي أن الناظر إليهم يباح له أن يحذرهم بهذا القدر أو بهذا القدر (٨) وكذا التخيير أي هو مخير بين أن يحذرهم كذا أو كذا (٩) ، والإضراب (١٠) ومعنى الواو (١١) واضحان.

__________________

(١) انظر : تفسير الرازي ٢٦ / ١٦٦.

(٢) قاله الإمام البغوي ٦ / ٤٧.

(٣) قاله شهاب الدين السمين في الدر ٤ / ٥٧١.

(٤) في الرازي إلى الأولين ثانيا.

(٥) وانظر : تفسير الإمام الرازي ٢٦ / ١٦٦.

(٦) وبه قال أهل البصرة انظر : خصائص ابن جني ٢ / ٤٦١ والبيان ٢ / ٣٠٨ وانظر في هذا الوجه مشكل الإعراب ٢ / ٢٤٣.

(٧) انظر : البحر المحيط ٧ / ٣٧٦.

(٨) الدر المصون ٤ / ٥٧٢.

(٩) مشكل الإعراب ٢ / ٢٤٣ والمرجع السابق وكذلك البيان ٢ / ٣٠٨ وهو رأي للبصريين.

(١٠) وهو قول الكوفيين انظر : معاني الفراء ٢ / ٣٩٣ ، وحكاه أبو حيان في البحر عن الإمام ابن عباس انظر البحر أيضا ٧ / ٣٧٦ أي بكل يزيدون وهو إضراب انتقالي.

(١١) وبهذا المعنى قرأ جعفر بن محمد. انظر المحتسب ٢ / ٢٢٦ والكشاف ٣ / ١٣٥٤ والمجاز ٢ / ١٧٥.

٣٤٨

قوله : (فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) قال قتادة أرسل إلى أهل نينوى من أرض الموصل قبل الالتقام كما تقدم ، وقيل : بعده ، وقيل : إلى قوم آخرين. وتقدم الكلام على «أو». قال ابن عباس : إنها بمعنى الواو ، وقال مقاتل والكلبي : بمعنى بل ، وقال الزجاج : على الأصل بالنسبة للمخاطبين (١). واختلفوا في مبلغ الزيادة ، قال ابن عباس ومقاتل : كانوا عشرين ألفا. ورواه أبي بن كعب عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقال الحسن : بضعا وثلاثين ألفا ، وقال سعيد بن جبير : تسعين ألفا فآمنوا يعني الذين أرسل إليهم يونس بعد معاينة العذاب فآمنوا فمتعناهم إلى حين انقضاء آجالهم (٢).

قوله تعالى : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ)(١٦٠)

قوله : «فاستفتهم» قال الزمخشري : معطوف على مثله في أول السورة وإن تباعدت (٣). قال أبو حيان : وإذا كان قد عدوا الفصل بنحو : كل لحما ، واضرب زيدا أو خبزا من أقبح التّر (ا) كيب (٤) فكيف بجمل كثيرة وقصص متباينة (٥)؟ قال شهاب الدين : ولقائل أن يقول : إن الفصل وإن كثر بين الجمل المتعاطفة مغتفر ، وأما المثال الذي ذكره فمن قبيل المفردات ، ألا ترى كيف عطفت خبزا على لحما (٦) ، فعلى الأول أنه تعالى لما ذكر أقاصيص الأنبياء ـ عليهم (الصلاة و) السلام ـ عاد إلى شرح مذاهب المشركين وبيان قبحها ومن جملة أقوالهم الباطلة أنهم أثبتوا الأولاد لله تعالى ثم زعموا أنها من جنس الإناث لا من جنس الذكور فقال «فاستفتهم» باستفتاء قريش عن وجه الإنكار للبعث أولا ثم ساق الكلام موصولا بعضه ببعض إلى أن أمرهم بأن يستفتيهم في أنهم لم أثبتوا لله سبحانه البنات ولهم البنين(٧)؟

ونقل الواحديّ عن المفسرين أنهم قالوا : إنّ قريشا وأجناس العرب جهينة وبني سلمة وخزاعة وبني مليح ، قالوا الملائكة بنات الله (٨). وهذا الكلام يشتمل (٩) على أمرين :

__________________

(١) انظر : معاني الزجاج ٤ / ٣١٤.

(٢) انظر : زاد المسير لابن الجوزي في كل هذه الأقوال ٧ / ٩٠.

(٣) الكشاف ٣ / ٣٥٤.

(٤) الألف ناقصة من ب ، ففيها التركيب.

(٥) البحر ٧ / ٣٧٦.

(٦) الدر المصون ٤ / ٥٧٣.

(٧) قاله الرازي في تفسيره ٢٦ / ٦٧.

(٨) الرازي ٢٦ / ٦٧ و ١٦٨.

(٩) وانظر هذا كله في المرجع السابق.

٣٤٩

أحدهما : إثبات البنات لله وذلك باطل لأن العرب كانوا يستنكفون من البنت والشيء الذي يستنكف منه المخلوق كيف يمكن إثباته للخالق؟

والثاني : إثبات أن الملائكة إناث ، وهذا أيضا باطل لأن طريق العلم إما الحسّ وإما الخبر وإما النظر أما الحسّ فمفقود لأنهم لم يشاهدوا كيف خلق الله الملائكة وهو المراد من قوله : (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ). وأما الخبر فمفقود أيضا لأن الخبر إنما يفيد العلم إذا علم كونه صدقا قطعا وهؤلاء الذين يخبرون عن هذا الحكم كذابون أفاكون لم يدل على صدقهم دليل وهذا هو المراد من قولهم : (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) وأما النظر فمفقود من وجهين :

الأول : أن دليل العقل يقتضي فساد هذا المذهب لأنه تعالى أكمل الموجودات والأكمل لا يليق به اصطفاء البنات على البنين بمعنى إسناد الأفضل إلى الأفضل أقرب إلى العقل من إسناد الأخسّ إلى الأفضل فإن كان حكم العقل معتبرا في هذا الباب كان قولكم باطلا.

الثاني : أن يتركوا بترك الاستدلال على فساد مذهبهم بل نطالبهم بإثبات الدليل على صحة مذهبهم فإذا لم يجدوا دليلا ظهر بطلان مذهبهم ، وهذا هو المراد بقوله : (أَمْ لَكُمْ (١) سُلْطانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). فقوله : «فاستفتهم» فاسأل يا محمد أهل مكة وهو سؤال توبيخ (أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ) وهذه جملة (١) حالية من الملائكة ، والرابط الواو ، وهي هنا واجبة لعدم رابط غيره (٢) قاله شهاب الدين (٣) ؛ ويحتمل أن يكون جملة حالية من السؤالين (٤).

قوله : (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) العامة على «ولد» فعلا ماضيا مسندا للجلالة ، أي أتى بالولد ؛ تعالى عما يقولون علوا كبيرا ، وقرىء : ولد الله بإضافة الولد إليه ، أي يقولون الملائكة ولده ، فحذف المبتدأ للعلم به ، وأبقى خبره ، والولد فعل بمعنى مفعول كالقبض فلذلك يقع خبرا عن المفرد والمثنى والمجموع تذكيرا وتأنيثا ، (تقول (٥) : هذه) ولدي وهم ولدي (٦).

قوله : «أصطفى» العامة على فتح الهمزة على أنها همزة استفهام بمعنى الإنكار والتقريع ، وقد حذف معها همزة الوصل استغناء عنها. وقرأ نافع في رواية وأبو جعفر

__________________

(١) الدر المصون ٤ / ٥٧٢.

(٢) لأن من الروابط أيضا الضمير.

(٣) المرجع السابق.

(٤) وهما «ألربّك البنات» و «أم خلقنا الملائكة إناثا».

(٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(٦) قاله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٥٤ والسمين في الدر ٤ / ٥٧٢.

٣٥٠

وشيبة والأعمش بهمزة وصل تثبت ابتداء وتسقط درجا (١). وفيه وجهان :

أحدهما : أنه على نية الاستفهام ، وإنما حذف للعلم به ومنه قول عمر بن أبي ربيعة :

٤٢٢٦ ـ قالوا : تحبّها قلت : بهرا

عدد الرّمل والحصى والتّراب (٢)

أي أتحبها.

والثاني : أن هذه الجملة بدل من الجملة المحكية بالقول وهي : «ولد الله» أي تقولون كذا وتقولون اصطفى هذا الجنس على هذا الجنس (٣).

(قال الزمخشري (٤) : وقد قرأ بها حمزة والأعمش. وهذه القراءة وإن كان هذا محلها فهي ضعيفة والذي أضعفها) أن هذه الجملة قد اكتنفها (٥) الإنكار من جانبيها وذلك قوله : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) فمن جعلها للإثبات فقد أوقعها دخيلة بين نسبتين (٦) ؛ لأن (٧) لها مناسبة ظاهرة مع قولهم : «ولد الله» وأما قولهم : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فهي جملة اعتراض بين مقالة الكفرة جاءت للتشديد والتأكيد في كون مقالتهم تلك هي من إفكهم (٨) ، ونقل أبو البقاء أنه قرىء «آصطفى» بالمد قال : وهو بعيد جدا (٩).

قوله : (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) جملتان استفهاميتان ليس لإحداهما تعلق بالأخرى من حيث الإعراب استفهم أولا عما استقر لهم وثبت استفهام إنكار ، وثانيا استفهام تعجب من حكمهم بهذا الحكم الجائر وهو أنهم نسبوا أحسن الجنسين إليهم (١٠). والمعنى : ما لكم كيف تحكمون لله بالبنات ولكم بالبنين؟ (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) تتعظون (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ) برهان بين على أن الله ولد (فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ) الذي لكم فيه حجة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في قولكم.

__________________

(١) من القراءة المتواترة انظر : السبعة ٥٤٩ ومختصر ابن خالويه ١٢٨ ومعاني الفراء ٢ / ٢٩٤.

(٢) من الخفيف له من قصيدة في الثريا بنت عبد الله لما هجرته. وبهرا معناه جمّا كثيرا. واستشهد بالبيت على حذف الاستفهام للعلم به والأصل كما قدره : أتحبها. وانظر : الكتاب ١ / ٣١١ والخصائص ٢ / ٢٨١ وابن يعيش ٢ / ٢٢١ ومغني اللبيب ١٥ والتبيان ١٠٩٤ واللسان : «ب ه ر» ٣٧٠ والدر المصون ٤ / ٥٧٣ وشرح شواهد المغني للسيوطي ٣٩.

(٣) قاله في الدر المصون ٤ / ٥٧٣.

(٤) ما بين القوسين كله ساقط من ب.

(٥) أي أحاط بها قال في اللسان : وتكنّف الشيء واكتنفه صار حواليه وتكنفوه من كل جانب احتوشوه.

اللسان : «ك ن ف» ٣٩٤١.

(٦) الكشاف للزمخشري ٤ / ٣٥٤ و ٣٥٥.

(٧) الواقع أن هذا كلام أبي حيان في البحر. وقبله : «وليست دخيلة بين نسبتين لأن لها مناسبة ظاهرة الخ ...».

(٨) وانظر البحر له ٧ / ٣٧٧.

(٩) التبيان له ١٠٩٤.

(١٠) انظر : الدر المصون ٤ / ٥٧٣.

٣٥١

قوله : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) قال مجاهد وقتادة : أراد بالجنة الملائكة سموا جنة لاجتنانهم عن الأبصار (١).

وقال ابن عباس : جنس من الملائكة يقال لهم الجن منهم إبليس (٢) ، وقيل : إنهم خزّان الجنة (٣) ، قال ابن الخطيب : وهذا القول عندي مشكل ؛ لأنه تعالى أبطل قولهم : الملائكة بنات الله ، ثم عطف عليه قوله : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) والعطف يقتضي كون المعطوف مقابلا بمعطوف عليه فوجب أن يكون المراد من الآية غير ما تقدم (٤)

وقال مجاهد : قالت كفار قريش الملائكة بنات الله فقال لهم أبو بكر الصديق : فمن أمهاتهم؟ قالوا : سروات (٥) الجنّ (٦) وهذا أيضا بعد لأن المصاهرة لا تسمّى نسبا (٧).

قال ابن الخطيب : وقد روينا في تفسير قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) [الأنعام : ١٠٠] أن قوما من الزّنادقة يقولون : إن الله وإبليس أخوان فالله هو الحرّ الكريم وإبليس هو الأخ الشديد ، فقوله تعالى : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) المراد منه هذا المذهب. وهذا القول عندي هو أقرب الأقاويل. وهو مذهب المجوس القائلين بيزدان وأهرمن (٨) ، ثم قال : (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي علمت الجنة أنّ الذين قالوا هذا القول محضرون النار ومعذبون. وقيل : المراد ولقد علمت الجنة أنهم سيحضرون في العذاب. فعلى (القول) (٩) الأول : الضمير عائد إلى قائل هذا القول وعلى (القول) الثّاني عائد إلى نفس الجنّة ، ثم إنه تعالى نزّه نفسه عما قالوا من الكذب فقال (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ)(١٠). قوله : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) في هذا الاستثناء وجوه :

أحدهما : أنه مستثنى منقطع والمستثنى منه إما فاعل «جعلوا» (١١) أي جعلوا بينه وبين الجنة نسبا إلى عباد الله.

الثاني : أنه فاعل «يصفون» (١٢) أي لكن عباد الله يصفونه بما يليق به تعالى.

الثالث : أنه ضمير «محضرون» (١٣) أي لكن عباد الله ناجون. وعلى هذا فتكون

__________________

(١) زاد المسير ٧ / ٩١.

(٢) انظر : زاد المسير ٧ / ٩١ والقرطبي ١٥ / ١٣٤.

(٣) المرجع السابق والرازي ٢٦ / ١٦٧.

(٤) المرجع السابق.

(٥) جمع مفرده سراة من السّرى ، وهو السير ليلا.

(٦) وانظر : المرجع السابق والقرطبي ١٥ / ١٣٤.

(٧) الرازي السابق.

(٨) يزدان وإهرمن أي الشر والخير أو النور والظلمة. وهذا المذهب هو المذهب المعروف بالمانوية نسبة إلى ماني أول من قال به. وهو باطل لما فيه من الإشراك بالله.

(٩) زيادة لتوضيح السياق.

(١٠) انظر : الرازي ٢٦ / ١٦٨ و ١٦٩.

(١١) التبيان ١٠٩٤ والدر المصون ٤ / ٥٧٣.

(١٢) المرجع الأخير السابق وانظر كشاف الزمخشري ٣ / ٣٥٥.

(١٣) السابق والتبيان ١٠٩٤ والدر ٤ / ٥٧٣.

٣٥٢

جملة التسبيح معترضة (١). وظاهر كلام أبي البقاء أنه يجوز أن يكون استثناء متصلا لأنه قال : مستثنى من «جعلوا» أو «محضرون». ويجوز أن يكون منفصلا (٢). وظاهر هذه العبارة أن الوجهين الأولين هو فيهما متصل لا منفصل. وليس ببعيد كأنه قيل : وجعل الناس ، ثم استثنى منهم هؤلاء وكل من لم يجعل بين الله وبين الجنة نسبا فهو عند الله مخلص من الشّرك (٣).

قوله تعالى : (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(١٧٠)

قوله : (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) في المعطوف وجهان :

أحدهما : أنه معطوف على اسم «إنّ» (٤) «وما» نافية (٥) و «أنتم» اسمها (٦) أو مبتدأ (٧). و «أنتم» فيه تغليب المخاطب على الغائب إذ الأصل فإنّكم ومعبودكم ما أنتم وهو ؛ فغلب الخطاب (و) (٨) «عليه» متعلق بقوله «بفاتنين» والضمير عائد على (ما تَعْبُدُونَ) بتقدير حذف مضاف وضمن «فاتنين» معنى حاملين على عبادته إلا الذي سبق في علمه أنّه من أهل صلي الجحيم و «من»(٩) مفعول بفاتنين. والاستثناء مفرغ (١٠).

الثاني (١١) : أنه مفعول معه وعلى هذا فيحسن السكوت على تعبدون كما يحسن في قولك : إنّ كلّ رجل وضيعته (١٢). (وحكى الكسائي (١٣) : إنّ كلّ ثوب وثمنه ، والمعنى إنكم مع معبودكم مقرنون) كما تقدر ذلك في كل رجل وضيعته مقترنان (١٤). وقوله : (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ) مستأنف أي ما أنتم على ما تعبدون بفاتنين أو بحاملين على الفتنة ، «إلا من هو ضال» مثلكم ، قاله الزمخشري (١٥) ، إلا أن أبا البقاء ضعف (١٦) الثاني وتابعه أبو

__________________

(١) الكشاف المرجع السابق.

(٢) التبيان ١٠٩٤.

(٣) الدر المصون ٤ / ٥٧٤.

(٤) وهو الكاف.

(٥) من قوله : «ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ».

(٦) إذا اعتبرناها حجازية عاملة.

(٧) إذا اعتبرناها تميميّة ، لا تعمل ومهملة.

(٨) سقط من ب حرف الواو.

(٩) من قوله : «إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ».

(١٠) وانظر هذا بالمعنى من بحر أبي حيان ٧ / ٣٧٨ وانظره لفظا من الدر المصون ٤ / ٥٧٤.

(١١) من الوجهين الجائزين في : «وَما تَعْبُدُونَ».

(١٢) انظر : الكشاف ٣ / ٣٥٥.

(١٣) ما بين القوسين ساقط من ب.

(١٤) المرجع السابق.

(١٥) السابق.

(١٦) قال : «ويضعف أن يكون (أي الواو) بمعنى مع إذ لا فعل هنا» ١٠٩٤.

٣٥٣

حيان في تضعيفه لعدم تبادره (إلى) (١) الفهم (٢) ، قال شهاب الدين : الظاهر أنه معطوف واستئناف (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ) غير واضح والحق أحق أن يتبع (٣).

وجوز الزمخشري أن يعود الضمير في «عليه» على الله. قال : فإن قلت : كيف يفتنونهم على الله؟.

قلت : يفسدونهم عليه بإغوائهم من قولك : فتن فلان على امرأته كما تقول : أفسدها عليه وخيبها عليه (٤) ، و (مَنْ هُوَ) يجوز أن تكون موصولة أو موصوفة (٥). وقرأ العامة صال الجحيم بكسر اللام لأنه منقوص مضاف حذفت لامه لالتقاء الساكنين وحمل على لفظ «من» فأفرد «هو».

وقرأ الحسن وابن أبي عبلة بضم اللام مع واو بعدها فيما نقله الهذليّ عنهما ، و (ابن (٦) عطية) عن الحسن (٧) (وقرأ (٨) بضمها مع عدم واو (بعدها) (٩) فيما نقل ابن خالويه (١٠) عنهما) وعن الحسن فقط فيما نقله الزمخشري (١١) ، وأبو الفضل (١٢). فأما مع الواو فإنه جمع سلامة بالواو والنون ويكون قد حمل على لفظ «من» أولا فأفرد في قوله : «هو» وعلى معناها ثانيا فجمع في قوله : «صالو» وحذفت النون للإضافة (١٣) ومما حمل فيه على اللفظ والمعنى في جملة واحدة وهي صلة الموصول قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١] فأفرد في «كان» وجمع في «هودا». ومثله قوله (١٤) :

٤٢٢٧ ـ وأيقظ من كان منكم نياما (١٥)

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) وانظر : البحر ٧ / ٣٧٨.

(٣) الدر المصون ٤ / ٥٧٤ و ٥٧٥.

(٤) نقله في الكشاف ٣ / ٣٥٥.

(٥) وهي في كلا الحالين في موضع نصب بفاتنين. وانظر : التبيان ١٠٩٥ والدر المصون ٤ / ٥٧٥ والبيان ٢ / ٣٠٩ والمشكل ٢ / ٢٤٣.

(٦) سقط من ب.

(٧) انظر : البيان ٢ / ٣٠٩ وإعراب النحاس ٣ / ٤٤٥ وانظر كذلك معاني الفراء ٢ / ٣٩٤ والإتحاف ٣٧١ والبحر المحيط ٧ / ٣٧٩.

(٨) ما بين القوسين كله سقط من نسخة «ب» بسبب انتقال النظر.

(٩) زيادة لتوضيح السياق وتكميله.

(١٠) انظر : المختصر ١٢٨.

(١١) الكشاف ٣ / ٣٥٦.

(١٢) البحر المحيط ٧ / ٣٧٩ وانظر هذا الوجه من القراءة في المحتسب ٢ / ٢٢٨. وهذان الوجهان من القراءة وجهان شاذان.

(١٣) انظر : إعراب النحاس ٣ / ٤٤٦ والدر المصون ٤ / ٥٧٥ والبيان ٢ / ٣١٠ ومشكل إعراب القرآن ٢ / ٢٤٤.

(١٤) في ب قول الآخر.

(١٥) شطر بيت من الوافر ولا أعرف ما إذا كان صدرا أم عجزا فقد بحثت عنه كثيرا فلم أهتد إلى تتمة له ، ولا إلى قائله وشاهده : «من كان منكم نياما» فقد عاد الضمير على معنى من «في منكم» و «نياما».

وانظر : البحر المحيط ٧ / ٣٧٩ والدر ٤ / ٥٧٥.

٣٥٤

وأما مع عدم الواو فيحتمل أن يكون جمعا (أيضا) وإنما حذفت الواو خطّا كما حذفت لفظا (١) ، وكثيرا ما يفعلون هذا يسقطون في الخطّ ما يسقط في اللفظ ، ومنه : (يَقُصُّ الْحَقَ)(٢) [الأنعام : ٥٧] ، في قراءة من قرأ بالضاد المعجمة ورسم بغير ياء ، وكذلك : (وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ) [المائدة : ٣]. ويحتمل أن يكون مفردا وحقه على هذا كسر اللام فقط لأنه عين منقوص وعين المنقوص مكسورة أبدا وحذفت اللام ـ وهي الياء ـ لالتقاء الساكنين نحو : هذا قاض البلد (٣) ، وقد ذكروا فيه توجيهين :

أحدهما : أنه مقلوب إذ الأصل صالي ثم صائل قدّموا اللام إلى موضع العين ، فوقع الإعراب على العين ثم حذفت لام الكلمة بعد القلب فصار اللفظ كما ترى ووزنه على هذا فاع ، فيقال على هذا : جاء صال ورأيت صالا ، ومررت بصال فيصير في اللفظ كقولك : هذا باب ورأيت بابا ، ومررت بباب(٤) ، ونظيره في مجرد القلب ، شاك ولاث في شائك ولائث ، ولكن شائك ولائث قبل القلب صحيحان فصارا به معتلين منقوصين بخلاف صالي فإنه قبل القلب كان معتلا منقوصا فصار به صحيحا(٥).

والثاني : أن اللام حذفت استثقالا من غير قلب (٦) ، وهذا عندي (٧) أسهل مما قبله وقد رأيناهم يتناسون اللام المحذوفة ويجعلون الإعراب على العين ، وقد قرىء : (وَلَهُ الْجَوارِ)(٨) [الرحمن : ٢٤] برفع الراء. (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ)(٩) برفع النون تشبيها بجناح وجانّ ، وقالوا : ما باليت به بالة ، والأصل بالية ، كعافية (١٠). وقد تقدم طرف من هذا عند قوله : (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) فيمن قرأه برفع الشين (١١).

__________________

(١) وهو رأي قطرب كما قاله ابن جني في المحتسب ٢ / ٢٢٨ ونقله ابن الأنباري في البيان ٢ / ٣١٠.

(٢) وهي قراءة أبي عمرو وحمزة وابن عامر والكسائي. انظر : السبعة : ٢٥٩ والإتحاف ٢٠٩.

(٣) وانظر هذا وما قبله في الدر المصون ٤ / ٥٧٦.

(٤) انظر في هذا المرجع السابق وهو الدر المصون ٤ / ٥٧٥ و ٥٧٦ وانظر في القلب هذا البيان ٢ / ٣١٠ وإعراب النحاس ٤ / ٤٤٦ ومعاني القرآن للزجاج ٤ / ٣١٥ والتبيان ١٠٩٥ ومعاني الفراء ٢ / ٣٩٤ ، والكشاف ٣ / ٣٥٦.

(٥) الدر المصون ٤ / ٥٧٦.

(٦) البيان ٢ / ٣١٠ والكشاف ٣ / ٣٥٦ والدر المصون ٤ / ٥٧٦. وممن قال به أبو علي الفارسي فيما نقله عنه ابن جني في المحتسب ٢ / ٢٢٨ وانظر أيضا البحر ٧ / ٣٧٩.

(٧) الدر المصون السابق.

(٨) وهي قراءة الإمام الحسن وهي من الأربع فوق العشرة انظر : الإتحاف ٤٠٦ والسّمين ٤ / ٥٧٦.

(٩) السورة السابقة آية ٥٤ وانظرها في المرجع الأخير السابق والبحر ٧ / ٣٧٩.

(١٠) انظر : الكشاف ٣ / ٢٢٨ والبيان ٢ / ٣١٠.

(١١) [الأعراف : ٤١] وهي قراءة أبي رجاء. وانظر : المحتصر لابن خالويه ٤٣ وبين هناك أن مثل غواش وجوار يعرب بالحركات على الحرف قبل الأخير.

٣٥٥

فصل

قال المفسرون : المعنى «فإنكم» تقولون لأهل مكة (وَما تَعْبُدُونَ) من الأصنام (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) ما تعبدون «بفاتنين» بمضلّين أحدا إلا من هو صال الجحيم أي من قدّر الله أنه سيدخل النار ، ومن سبق له في علم الله الشقاوة ، واعلم أنه لما ذكر الدلائل على فساد مذاهب الكفار أتبعه بما ينبه على أن هؤلاء الكفار لا يقدرون على إضلال أحد إلا إذا كان قد سبق حكم الله في حقه بالعذاب والوقوع في النار. وقد احتج أهل السنة بهذه الآية على أنه لا تأثير لإيحاء الشيطان ووسوسته وإنما المؤثر قضاء الله وقدره.

قوله : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) فيه وجهان :

أحدهما : أن «منا» صفة لموصوف محذوف فهو مبتدأ والخبر الجملة من قوله : (إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) تقديره : ما أحد منّا إلّا له مقام (١) ، وحذف المبتدأ مع «من» جيّد فصيح.

والثاني : أن المبتدأ محذوف أيضا و (إِلَّا لَهُ مَقامٌ) صفة حذف موصوفها والخبر على هذا هو الجار المتقدم والتقدير : «وما منا أحد إلا له مقام» (٢). قال الزمخشري : حذف الموصوف وأقام الصّفة مقامه كقوله :

٤٢٢٨ ـ أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا

 ..........(٣)

وقوله :

٤٢٢٩ ـ يرمي بكفّي كان من أرمى البشر (٤)

ورده أبو حيان فقال : «ليس هذا من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، لأن

__________________

(١) هذا تقدير العلامة أبي حيان في البحر ٧ / ٣٧٩ وانظر : البيان ٢ / ٣١٠ ، والدر المصون ٤ / ٥٧٦ وعزاه ابن الأنباري في البيان للبصرة ونفس التقدير ذهب إليه أبو إسحاق في المعاني لكن بتقدير مختلف للمضمر قال : «وما منّا ملك» المعاني ٤ / ٣١٦ ، وانظر : التبيان ١٠٩٥ ، ومشكل الإعراب لمكي ٢ / ٢٤٤.

(٢) هذا قول جار الله في الكشاف كما أخبر هو بعد. انظر : الكشاف ٣ / ٣٥٦.

(٣) من الوافر لسحيم بن وثيل عجزه :

 ..........

متى أضع العمامة تعرفوني

انظر : الكتاب ٣ / ٢٠٧ ، ومجالس ثعلب ١٧٦ ، وأمالي القالي ١ / ٢٤٦ ، وابن يعيش ١ / ٦١ و ٣ / ٦٢ و ٤ / ١٠٥ ، ومعاهد التنصيص ١ / ١١٤ ، والتصريح ٢ / ٢٢١ ، والأصمعيات ٦١ ، والأشموني ٣ / ٢٦٠ ، وحاشية يس ٢ / ١٢ ، وانظر أيضا الخزانة ١ / ٢٥٥ و ٢٦٨ و ٥ / ٦٤ ، والمغني ١٦٠ و ٣٣٤ ، والحماسة البصرية ١ / ٣٢٥ ، وديوانه ١٣٣ ، والهمع ١ / ٣٠ و ٢ / ١٢٠.

(٤) شطر من الرجز وروايته المشهورة : جادت بكفي كان من أرمى البشر. وهو مجهول القائل وتروى (من) مكسورة الميم ومفتوحة على أنها موصولة وكان زائدة أو على أنها نكرة موصوفة وشاهده : حذف الموصوف وحلول الصفة محله أي يكفي رجل كان وعده أبو حيان من أقبح الضرائر النحوية.

٣٥٦

المحذوف مبتدأ و (إِلَّا لَهُ مَقامٌ) خبره ولأنه لا ينعقد كلام من قوله : «وما منا أحد» ، وقوله : (إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) محط الفائدة وإن تخيل أن (لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) في موضع الصفة فقد نصّوا على أنّ «إلّا» لا تكون صفة إذا حذف موصوفها وأنها فارقت «غيرا» إذا كانت صفة في ذلك لتمكّن «غير» في الوصف (١) وعدم تمكن «إلّا» فيه ؛ وجعل ذلك كقوله : «أنا ابن جلا» أي أنا ابن رجل جلا ، و «بكفّي كان» أي رجل كان فقد عده النّحويّون من أقبح الضرائر ، حيث حذف الموصوف والصفة جملة لم يتقدمها من (٢) ، بخلاف قوله :

٤٢٣٠ ـ «منّا ظعن ومنّا أقام» (٣)

يريدون : منّا فريق ظعن ، ومنا فريق أقام ، وقد تقدم نحو من هذا في النّساء عند قوله : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) [النساء : ١٥٩].

وهذا الكلام وما بعده ظاهره أنه من كلام الملائكة ، وقيل : من كلام الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤).

فصل

قال المفسرون : يقول جبريل للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «وما منا معشر الملائكة إلا له مقام معلوم» أي ما منا ملك إلا له مقام معلوم في السموات يعبد الله فيه (٥). قال ابن عباس : «ما في السموات موضع شبر إلا وعليه ملك يصلي أو يسبّح» (٦) ، وقال ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ : «أطّت السّماء وحقّ لها أن تئطّ ، والّذي نفسي بيده ما فيها موضع أربعة أصابع إلّا وفيه ملك واضع جبهته ساجد لله» (٧). وقال السّدّيّ : إلّا له مقام معلوم في القربة والمشاهدة (٨).

قوله : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) مفعول «الصافون والمسبحون» يجوز أن يكون مرادا أي الصافون أقدامنا وأجنحتنا ، والمسبّحون الله تعالى ، وأن لا يراد البتة أي نحن من أهل هذا الفعل (٩).

__________________

(١) قال الإمام السيوطي في الهمع ١ / ٢٢٩ : الأصل في إلا أن تكون للاستثناء ، وفي غير أن تكون وصفا ثم قد تحمل إحداهما على الأخرى فيوصف بإلا يعنون بذلك عطف البيان ... ومن شروط الوصف بإلا ألّا يحذف موصوفها بخلاف غير فلا يقال جاءني إلا زيد ، ويقال : جاءني غير زيد.

(٢) وانظر : الهمع أيضا ٢ / ١٢٠ وشرط ابن مالك فيما نقله عنه السيوطي أيضا (في) كمن وجعل ابن عصفور في من الضرائر.

(٣) هذا قول من أقوالهم انظر : الهمع ٢ / ١٢٠ والبحر ٧ / ٣٧٩ والسمين ٤ / ٥٧٧ أي منا قوم أو ناس.

(٤) ذكر هذين القولين السمين في الدر ٤ / ٥٧٧.

(٥) قاله الخازن في لباب التأويل ٦ / ٣٩.

(٦) السابق.

(٧) أخرجه البغوي في معالم التنزيل ٦ / ٣٩ عن أبي ذرّ.

(٨) المرجع السابق.

(٩) معنى كلام الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٥٦ ، وانظر : السمين ٤ / ٥٧٧ ، ٥٧٨.

٣٥٧

فعلى الأول يفيد الحصر ومعناه أنهم هم الصافون في مواقف العبودية لا غيرهم وذلك يدل على أنّ طاعات البشر بالنسبة إلى طاعات الملائكة كالعدم حتى يصحّ هذا الحصر (١).

قال ابن الخطيب : وكيف يجوز مع هذا الحصر أن يقال : البشر أقرب درجة من الملك فضلا عن أن يقال : هم أفضل منه أم لا؟! (٢).

قال قتادة : قوله (٣) : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) هم الملائكة صفّوا أقدامهم ، وقال الكلبي (٤) : صفوف الملائكة في السماء كصفوف الناس في الأرض. (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) أي المصلون المنزهون الله عن السوء بخبر جبريل للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنهم يعبدون الله بالصلاة والتسبيح وأنهم ليسوا بمعبودين كما زعمت الكفار ، ثم أعاد الكلام إلى الإخبار عن المشركين فقال : (وَإِنْ كانُوا) أي وقد كانوا : يعني أهل مكة «ليقولون» لام التأكيد (لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ) أي كتابا من كتب الأولين (لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أي لأخلصنا العبادة لله ولما كذبنا ، ثم جاءهم الذكر الذي هو سيّد الأذكار وهو القرآن ، (فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة هذا الكفر وهذا تهديد عظيم.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(١٨٢)

قوله : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) وهي قوله : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة : ٢١] لما هدد الكفار بقوله : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أردفه بما يقوي قلب الرسول فقال (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) والنّصرة والغلبة قد تكون (٥) بالحجّة وقد تكون بالدولة والاستيلاء وقد تكون بالدوام والثبات فالمؤمن وإن صار مغلوبا في بعض الأوقات بسبب ضعف أحوال الدنيا فهو الغالب ولا يلزم على هذه الآية أن يقال قد قتل بعض الأنبياء وهزم كثير من المؤمنين (٦).

قوله : (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) تفسير للكلمة فيجوز أن لا يكون لها محلّ من

__________________

(١ و ٢) الرازي ٢٦ / ١٧١.

(٣ و ٤) زاد المسير ٧ / ٩٣ والبغوي ٦ / ٣٩.

(٥) في الرازي : بقوة الحجة.

(٦) قاله الإمام الفخر في : التفسير الكبير ٢٦ / ١٧٢.

٣٥٨

الإعراب ، ويجوز أن تكون خبر مبتدأ مضمر ومنصوبة بإضمار فعل أي هي أنهم لهم المنصورون أو (١) أعني بالكلمة هذا اللفظ ويكون ذلك على سبيل الحكاية لأنك لو صرحت بالفعل قبلها حاكيا للجملة بعده كان صحيحا كأنك قلت : عنيت (٢) هذا اللفظ كما تقول : كتبت زيد قائم ، وإنّ زيدا لقائم (٣). وقرأ الضحاك : «كلماتنا» جمعا (٤).

قوله : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي أعرض عنهم (حَتَّى حِينٍ) قال ابن عباس : يعني الموت ، وقال مجاهد : يوم بدر ، وقال السدي : حتى يأمرك الله بالقتال ، وقيل : إلى أن يأتيهم عذاب الله ، وقيل: إلى فتح مكة (٥).

قال مقاتل بن حيان : نسختها آية القتال (٦) «وأبصرهم» إذا نزل بهم العذاب عن القتل والأسر في الدنيا والعذاب في الآخرة (فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) ذلك من النصرة والتأييد في الدنيا والثواب العظيم في الآخرة فقالوا : متى هذا العذاب؟ فقال تعالى : (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) أي إن ذلك الاستعجال جهل لأن لكلّ شيء من أفعال الله تعالى وقتا معيّنا لا يتقدم ولا يتأخر.

قوله : (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ) العامة على نزل مبنيا للفاعل ، وعبد الله (٧) مبنيا للمفعول ، والجارّ قائم (٨) مقام فاعله.

والساحة الفناء الخالي (٩) من الأبنية وجمعها سوح (١٠) فألفها عن واو فيصغّر على سويحة قال الشاعر :

٤٢٣١ ـ فكان سيّان أن لا يسرحوا نعما

أو يسرحوه بها واغبرّت السّوح (١١)

وبهذا يتبين ضعف قول الراغب : إنها من ذوات الياء حيث عدها في مادة سيح ، ثم قال : الساحة المكان الواسع ومنه : ساحة الدار. والسائح الماء الجاري في الساحة ،

__________________

(١) في ب إذا عنى. وهو غير مراد.

(٢) قاله شهاب الدين السمين في الدر ٤ / ٥٧٨.

(٣) السابق.

(٤) البحر المحيط ٧ / ٣٨٠ ، والسمين ٤ / ٥٧٨ ، والكشاف ٣ / ٣٥٧ ، وشواذ القرآن (٢٠٧).

(٥) وانظر هذه الأقوال في القرطبي ١٥ / ١٣٩ ، وزاد المسير ٧ / ٩٣ و ٩٤ ، والبغوي ٦ / ٣٩.

(٦) المراجع السابقة.

(٧) من القراءات غير المتواترة. انظر : المختصر ١٢٩ والمحتسب ٢ / ٢٢٩ ، والكشاف ٣ / ٣٥٧ والبحر ٧ / ٣٨٣.

(٨) المرجعان الأخيران السابقان.

(٩) انظر الفراء ٢ / ٣٩٦.

(١٠) وساحات وفي ب سيوح خطأ.

(١١) البيت من بحر البسيط لأبي ذؤيب من قصيدة في رثاء صديق له.

وانظر : الخزانة ٥ / ١٣٤ : ١٤٠ والمقتصد بشرح الإيضاح ٩٣٩ والخصائص ١ / ٣٤٨ و ٢ / ٤٦٥ وشرح ابن يعيش ٢ / ٨٦ و ٨ / ٩١ والمغني ٦٣ والحجة لأبي عليّ ١ / ١٩٩ ولسان ابن منظور (سوا) وديوان الهذليين ١ / ١٠٧.

٣٥٩

وساح فلان في الأرض مرّ مرّ السائح. ورجل سائح وسيّاح (١) انتهى. ويحتمل أن يكون لها مادّتان لكن كان ينبغي أن يذكر ما هي الأشهر أو يذكرهما معا.

قوله تعالى : (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ) يعني العذاب بساحتهم ، قال مقاتل : بحضرتهم. وقيل : بعتابهم.

قال الفراء : العرب تكتفي بذكر الساحة عن القوم (٢)(فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) فبئس صباح الكافرين الذين أنذروا بالعذاب. لما خرج ـ عليه (الصّلاة و) السلام ـ إلى خيبر أتاها ليلا ، وكان إذا جاء قوما بليل لم يغز حتى يصبح فلما أصبح خرجت يهود (خيبر) (٣) بمساحيها ومكاتلها ، فلما رأوه قالوا : محمّد والله محمّد والخميس فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله أكبر خربت خيبر إنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» (٤).

قوله : (وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ).

قيل : المراد من هذه الكلمة فيما تقدم أحوال الدنيا وفي هذه الكلمة أحوال القيامة وعلى التقديرين فالتكرير زائل ، وقيل : المراد من التكرير المبالغة في التّهديد والتّهويل (٥).

فإن قيل : ما الحكمة في قوله أولا : (وَأَبْصارِهِمْ). وههنا قال : (وَأَبْصِرْ) بغير ضمير؟.

فالجواب أنه حذف مفعول «أبصر» الثاني إمّا اختصارا لدلالة الأولى عليه وإما اقتصارا تفنّنا في البلاغة (٦). ثمّ إنّه تعالى ختم السورة بتنزيه نفسه عن كل ما لا يليق بصفات الإلهيّة فقال : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ) أي الغلبة والقوة ، أضاف الربّ إلى العزة لاختصاصه بها كأنه قيل : ذو العزّة ، كما تقول : صاحب صدق لاختصاصه به. وقيل : المراد بالعزة المخلوقة الكائنة بين خلقه (٧).

ويترتب على القولين مسألة اليمين (٨).

فصل

قوله : (رَبِّ الْعِزَّةِ) الربوبية إشارة إلى كمال الحكمة والرحمة والعزة إشارة إلى كمال القدرة ، فقوله (رَبِّ الْعِزَّةِ) يدل على أنه القادر على جميع الحوادث ، لأن الألف

__________________

(١) انظر : مفردات الراغب ٢٤٦.

(٢) المعاني ٢ / ٣٩٦.

(٣) سقط من نسخة «ب».

(٤) وانظر : البغوي ٦ / ٣٩.

(٥) الرازي ٢٦ / ١٧٣.

(٦) البحر المحيط ٧ / ٣٨٠ ، والدر المصون ٤ / ٥٧٨.

(٧) انظر : الكشاف ٣ / ٣٥٧ والدر المصون ٤ / ٥٧٨.

(٨) فعلى الأول ينعقد بها اليمين لأنها صفة من صفاته تعالى بخلاف الثاني فإنه لا ينعقد بها. القرطبي ١٥ / ١٤٠ و ١٤١ والدر المصون ٤ / ٥٧٨.

٣٦٠