اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٧٤

وقال آخر :

٤١٩٦ ـ لذّ كطعم الصّرخديّ تركته

بأرض العدا من خشية الحدثان (١)

واللذيذ كل شيء مستطاب. وأنشد :

٤١٩٧ ـ يلذّ لطعمه وتخال فيه

إذا نبّهتها بعد المنام (٢)

و «للشّاربين» صفة «للذّة». وقال اللّيث : اللّذّة واللّذيذة يجريان مجرى واحدا في النعت يقال : شراب لذّ ولذيذ قال تعالى : (بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) وقال تعالى : (مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ)(٣) [محمد : ١٥] وعلى هذا «لذّة» بمعنى لذيذ (٤).

قوله : (لا فِيها غَوْلٌ) صفة أيضا (٥) ، وبطل عمل لا وتكررت لتقدم (٦) خبرها ، وتقدم (٧) أول البقرة فائدة تقديم مثل هذا الخبر ، والبحث مع أبي حيان فيه. قال الفراء : العرب تقول ليس فيها غيلة وغائلة وغول (وغول) (٨) سواء (٩) ، وقال أبو عبيدة : الغول أن تغتال (١٠) عقولهم (١١) وأنشد قول مطيع بن إياس :

__________________

(١) من الطويل وقد نسبه صاحب اللسان إلى الراعي وجاء كذا في مادة لذذ فيه ، واللّذّ النوم الممتع كإمتاع الشراب المنسوب إلى صرخد وهو مكان بالشام. ومعنى البيت : أن الرجل ترك النوم اللذيذ خشية غدر الأعداء به. وانظر : اللسان ٢٤٢٦ ، ٤٠٢٤ والكشاف ٣ / ٣٤٠ وجاء في اللسان العجز في مادة :

صرخد : طرحته عشيّة حمس القوم والعين عاشقة. وهذا هو الموافق للديوان ١٨٦. وانظر : القرطبي ١٥ / ٧٨ والدر ٤ / ٥٤٨.

(٢) البيت من الوافر وهو للنابغة. ويروى : تلذّ بطعمه وجيء بالبيت على أن اللذيذ بمعنى المستطاب الطيب. انظر : الديوان ١٣٢ والبحر المحيط ٧ / ٣٥٠ والدر المصون ٤ / ٥٤٨ وتمهيد القواعد ٢ / ٣٠٠.

(٣) [محمد : ١٥] وتمامها : «وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ».

(٤) وانظر رأي الليث هذا في تفسير الإمام الرازي ٢٦ / ١٣٧.

(٥) قاله السمين ٤ / ٥٤٩ فتحصل أن هناك صفات خمسا «لكأس» هي : «من معين» و «بيضاء» ولذة ، وللشاربين و «لا فِيها غَوْلٌ».

(٦) وهو : «فيها». ومعروف أن لا النافية للجنس تعمل إذا كان اسمها نكرة وكذلك الخبر إذا لم يتقدم خبرها على اسمها وإذا قصد بها النفي العام وأن لا يفصل بين لا والنكرة بشيء وأن لا تكون النكرة غير معمولة لغير لا.

(٧) عند قوله :«فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» الآية ٣٨ وبين هناك أن التقديم لتأكيد المعنى وتثبيته أول الأمر كما بيّن أن أناسا يجيزون إعمال لا والحالة هذه من هؤلاء الرمّاني فقد جوز النصب في قوله : «لا فيها غولا» وقد حكى : لا كذلك رجلا ، ولا كزيد رجلا ولا كالعشية زائرا وأجيب بالتأويل.

اللباب ١ / ٥٨.

(٨) زيادة من المعاني.

(٩) المعاني ٢ / ٣٨٥.

(١٠) كذا هي في المجاز وما في ب : يغتال.

(١١) المجاز ٢ / ١٦٩.

٣٠١

٤١٩٨ ـ وما زالت الكأس تغتالهم

وتذهب بالأوّل فالأوّل (١)

وقال الليث : الغول الصداع والمعنى ليس فيها صداع كما في خمر الدنيا (٢) ، وقال الواحدي : الغول حقيقته الإهلاك ، يقال : غاله غولا واغتاله أهلكه ، والغول والغائل المهلك وسمّي (وطء) (٣) المرضع غولا لأنه يؤدي إلى الهلاك ، والغول كلّ ما اغتالك أي أهلكك ، ومنه الغول بالضم شيء توهّمته العرب ولها فيه أشعار (٤) كالعنقاء (٥) يقال : غالني كذا ومنه الغيلة في العقل والرضاع قال :

٤١٩٩ ـ مضى أوّلونا ناعمين بعيشهم

جميعا وغالتني بمكّة غول (٦)

فالغول اسم لجميع الأذى. وقال الكلبي : لا فيها إثم (٧) ، وقال قتادة : وجع البطن (٨). وقال أهل المعاني : الغول فساد يلحق أمره في خفية ، وخمر الدنيا يحصل فيها أنواع من الفساد منها السّكر وذهاب العقل ووجع البطن والصّداع والقيء والبول ولا يوجد شيء من ذلك في خمر (٩) الجنّة.

قوله : (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) قرأ الأخوان «ينزفون» هنا ، وفي الواقعة (١٠) ، بضم الياء وكسر الزاي. وافقهما عاصم على ما في الواقعة فقط. والباقون بضم الياء وفتح الزاي (١١). وابن أبي إسحاق بالفتح والكسر (١٢). وطلحة بالفتح والضم (١٣) فالقراءة الأولى من أنزف الرّجل إذا ذهب عقله من السكر فهو نزيف ومنزوف ، وكان قياسه منزف كمكرم ، ونزف الرجل الخمرة فأنزف هو ثلاثيّة متعدد ورباعيه بالهمزة قاصر وهو نحو : كببته فأكبّ وقشعت الريح السّحاب فأقشع أي دخلا في الكبّ والقشع(١٤) وقال الأسود :

__________________

(١) من المتقارب وانظر : البحر ٧ / ٣٥٠ والمجاز ٢ / ١٦٩ والقرطبي ١٥ / ٧٩ ومجمع البيان ٧ / ٦٩٠ وابن كثير ٤ / ٧ وفتح القدير ٤ / ٣٩٣ والرازي ٢٦ / ١٣٧ والطبري ٢٣ / ٣١ واللسان : «غ ول» ٣٣١٩.

(٢) اللسان «غ ول» ٣٣١٧.

(٣) زيادة من أ.

(٤) اللسان ٣٣١٩.

(٥) وهي طائر ضخم ليس بالعقاب. انظر : اللسان «ع ن ق» ٣١٣٦.

(٦) من الطويل ولم أعرف قائله وشاهده أن الغول العوائق أي عاقتني عوائق وانظر : البحر ٧ / ٣٥٠.

(٧) نقله القرطبي ١٥ / ٧٩.

(٨) السابق.

(٩) انظر : معالم التنزيل للبغوي ٦ / ٢٣.

(١٠) الآية ١٩ منها ، وهي : «لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ».

(١١) من القراءات المتواترة وانظر : حجة ابن خالويه ٣٠٢ والكشف ٢ / ٢٢٤ والسبعة ٥٤٧ والإتحاف ٣٦٩ والنشر ٢ / ٣٥٧ ومعاني الفراء ٢ / ٢٨٥.

(١٢) نقلها صاحب البحر ٧ / ٣٦٠ ، والدر ٤ / ٥٤٩.

(١٣) المرجعان السابقان وانظر أيضا الكشاف ٣ / ٣٤٠.

(١٤) السابق وانظر أيضا الكشف لمكي ٢ / ٢٢٤ ولسان العرب (نزف) ٤٣٩٧ و ٤٣٩٨.

٣٠٢

٤٢٠٠ ـ لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم

لبئس النّدامى أنتم آل أبجرا (١)

ويقال : أنزف أيضا أي نفذ (٢) شرابه. وأما الثانية فمن نزف أيضا بالمعنى المتقدم وقيل هو من قولهم : نزفت الرّكيّة أي نزحت (٣) ماءها. والمعنى أنهم لا تذهب خمورهم (٤) بل هي باقية أبدا ، وضمن ينزفون معنى يصدون عنها بسبب النّزيف.

وأما القراءتان الأخيرتان (٥) فيقال : نزف الرجل ونزف بالكسر والضم بمعنى ذهب عقله بالسّكر ، ولما ذكر تعالى صفة مشروبهم ذكر عقيبه صفة منكوحهم فقال : (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ). (قاصِراتُ الطَّرْفِ) يجوز أن يكون من باب الصّفة المشبهة (٦) أي قاصرات أطرافهن كمنطلق اللّسان ، وأن يكون من باب إطلاق اسم الفاعل (٧) على أصله. فعلى الأول المضاف إليه مرفوع المحل (٨) وعلى الثاني منصوبه (٩) أي قصرن أطرافهنّ على أزواجهن. وهو مدح عظيم قال امرؤ القيس :

٤٢٠١ ـ من القاصرات الطّرف لو دبّ محول

من الذّرّ فوق الإتب منها لأثّرا (١٠)

ومعنى القصر في اللغة الحبس ومنه قوله تعالى : (مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) [الرحمن : ٧٢]. والمعنى أنهن يحبسن نظرهنّ ولا ينظرن إلى غير أزواجهن ، والعين جمع عيناء وهي الواسعة العينين والذّكر أعين (١١) ، قال الزجاج كبار الأعين حسانها (١٢) ، يقال رجل أعين ، وامرأة عيناه ، ورجال ونساء عين(١٣).

قوله : (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) والبيض جمع بيضة وهو معروف والمراد به هنا بيض

__________________

(١) البيت مختلف في نسبته فقد نسب في المجاز ٢ / ١٦٩ إلى الأبيرد البياضي ونسبه القرطبي للحطيئة والسمين وأبو حيان إلى الأسود العنسي. وشاهده : استعمال (أنزف) رباعيا قاصرا وغير متعد. وانظر :

القرطبي ١٥ / ٧٩ والبحر ٧ / ٣٥٠ والسمين ٤ / ٥٤٩ ، والمحتسب ٢ / ٣٠٨ والكشاف ٣ / ٣٤٠.

(٢) في ب : فقد. وانظر : المعاني ٢ / ٣٨٥.

(٣) الكشاف ٣ / ٣٤٠ والكشف ٢ / ٢٢٤ والركية : البئر تحفر ؛ اللسان «ركا» ١٧٢٢ و ٤٣٩٧ «ن ز ف».

(٤) في ب : جمودهم. لحن وخطأ.

(٥) وهي قراءة ينزفون بفتح الياء وكسر الزاي ، وينزفون بالفتح والضم وانظر : الدر المصون ٤ / ٥٠٠.

(٦) حيث إنها تدل على الثبوت والدوام بخلاف.

(٧) اسم الفاعل فإنه يدل على التجدد والحدوث.

(٨) على اعتبار أن الطرف هو القاصر أي قصر طرفهن.

(٩) على اعتبار أن الطرف مقصور والفاعل ضمير في اسم الفاعل ، كما أوّل : «قصرن أطرافهن».

(١٠) له من الطويل والمحول : الصغير من الذر وهو ضرب من النمل ، والإتب القميص ويروى فوق الخدّ.

وهو يقول لا تنظر إلا إلى بعلها فقط والشاهد «قاصرات الطرف» فإنه اسم فاعل أضيف إلى مفعوله فهو منصوب وقد تقدم.

(١١) قاله أبو عبيدة ٢ / ١٧٠.

(١٢) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٣٠٤.

(١٣) اللسان عين ٣١٩٦ ، ٣١٩٧.

٣٠٣

النّعام ، والمكنون المصون المستور من كننته أي جعلته في كنّ (١) والعرب تشبه المرأة بها في لونها وهو بياض مشوب (٢) ببعض صفرة والعرب (٣) تحبه.

قال امرؤ القيس :

٤٢٠٢ ـ وبيضة خد (ر) لا يرام خباؤها

تمتّعت من لهو بها غير معجل

كبكر مقاناة البياض بصفرة

غذاها نمير الماء غير المحلّل (٤)

وقال ذو الرمة :

٤٢٠٣ ـ بيضاء في برج صفراء في غنج

كأنّها فضّة قد مسّها ذهب (٥)

وقال بعضهم : إنما شبهت المرأة بها في أجزائها فإن البيضة من أي جهة أتيتها كانت في رأي العين مشبهة للأخرى. وهو في غاية المدح وقد لحظ هذا بعض الشعراء حيث قال :

٤٢٠٤ ـ تناسبت الأعضاء فيها فلا ترى

بهنّ اختلافا بل أتين على قدر (٦)

ويجمع البيض على بيوض قال :

٤٢٠٥ ـ بتيهاء قفر والمطيّ كأنّها

قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها (٧)

قال الحسن : شب (ه) (٨) هن ببيض النّعام تكنّها (٩) بالرّيش عن الريح والغبار فلونها أبيض في صفرة.

__________________

(١) اللسان كنن ٣٩٤٢ ، ٣٩٤٣.

(٢) كذا في «أ» مشوب.

(٣) انظر اللسان : «ب ي ض» ٣٩٨.

(٤) هما من بحر الطويل له من معلقته المشهورة والخباء ما كان على عمودين أو ثلاثة ، ولا يرام خباؤها كناية عن عزّتها ومنعتها والخدر : بيت المرأة وهنا شبهها في ملمسها وصفائها بالبيضة ومن هنا جاء البيت ، والبكر : أول بيضة تضعها النعام ، والمقاناة المخالطة التي قوني بياضها بصفرة أي خلط.

ويروى المقاناة البياض. وفي تلك الحال يجوز خفض البياض ونصبه على اختلاف بين البصريين والكوفيين في النصب كما يجوز رفعه. وقد تقدم.

(٥) من البسيط له في وصف الخمر ، والبرج شدة البياض والظّهور. والغنج الدّلّ. وشاهده بيضاء فإن بياض الخمر مشرب بصفرة. وقد تقدم.

(٦) من الطويل ولم يعرف قائله. وأتى به استئناسا للمعنى قبله من تشبيه المرأة بالبيضة ، وانظر : البحر ٧ / ٣٦٠ و ٨ / ٢٩٨ والدر المصون ٤ / ٥٥١.

(٧) البيت من بحر الطويل أيضا وهو لعمرو بن أحمر والتيهاء الصحراء ، والقفر الخالي. والقطا : طير سريع الطيران والحزن الأرض الغليظة. يصف سرعة المطي بأنها مثل سرعة القطا في طيرانه. والشاهد أن البيوض جمع بيضة. وانظر : الأشموني ١ / ٢٣٠ وابن يعيش ٧ / ١٠٢ ، والدر المصون ٤ / ٥٥١ واللسان عرض والخزانة ٩ / ٢٠١.

(٨) الهاء ساقطة من ب ففيها شبهن.

(٩) في ب : لكنها تحريف وغير مراد ورأي الحسن موافق لرأي أبي إسحاق الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٣٠٤.

٣٠٤

يقال : هذا أحسن ألوان النساء تكون المرأة بيضاء مشربة صفرة (١) ، (وإنما (٢) ذكر المكنون والبيض جمع مؤنث لأنه رده إلى اللفظ) (٣).

قوله تعالى : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ)(٦١)

قوله : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) وهذا على عطف قوله : (يُطافُ عَلَيْهِمْ)(٤) والمعنى يشربون فيتحادثون على الشراب قال :

٤٢٠٦ ـ وما بقيت من اللّذّات إلّا

محادثة الكرام على المدام (٥)

وأتى بقوله «فأقبل» ماضيا لتحقق وقوعه ، كقوله (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ)(٦) [الأعراف : ٥٠] وقوله : «يتساءلون» حال من فاعل «أقبل» والمعنى : أهل الجنة يسأل بعضهم بعضا عن حاله في الدنيا.

قوله : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) أي في الدنيا ينكر البعث. و (يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) أي كان يوبّخني على (٧) التصديق بالبعث والقيامة ويقول تعجبا : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) أي لمحاسبون ومجازون ، والمعنى أن ذلك القرين كان يقول هذه الكلمات على سبيل الاستنكار. واعلم أنه تعالى لما ذكر أن أهل الجنة يتساءلون عند اجتماعهم على الشرب ويتحدثون كانت من جملة كلماتهم (٨) أنهم يتذكرون ما كان قد حصل لهم في الدنيا مما يوجب الوقوع في عذاب الله ثم إنهم تخلصوا عنه وفازوا بالسعادة الأبدية. قال مجاهد : كان ذلك القرين شيطانا ، وقيل : كان من الإنس ، وقال مقاتل : كانا أخوين (٩). وقيل : كانا شريكين (١٠) حصل لهما ثمانية آلاف دينار

__________________

(١) نقله الإمام أبو الفرج بن الجوزي في زاد المسير ٧ / ٥٨.

(٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(٣) فلفظ البيض مذكر وهو اسم جنس له مفرد من لفظه بالتاء بيضة.

(٤) انظر : الدر المصون ٤ / ٥٥١.

(٥) من الوافر ولم أهتد إلى قائله. وأتى به استئناسا للمعنى المتقدم عليه أي أن هؤلاء الأقوام لا يتكلمون ويتسامرون إلا عند الشرب وانظر : القرطبي ١٥ / ٨١ ، والكشاف ٣ / ٣٤٠ والبحر ٧ / ٣٦ والرازي ٢٦ / ١٣٨ ، والدر المصون ٤ / ٥٥٢.

(٦) المراجع السابقة.

(٧) في ب : عن.

(٨) في ب : كلامهم.

(٩) وانظر : الرازي ٢٦ / ١٣٩ وزاد المسير ٧ / ٥٩.

(١٠) وهو رأي مقاتل ، انظر : زاد المسير ٧ / ٥٩ وانظر : معالم التنزيل والرازي ٢٦ / ١٣٩.

٣٠٥

فتقاسماها واشترى أحدهما دارا بألف دينار فأراها صاحبه وقال كيف ترى حسنها؟ (فقال (١) : ما أحسنها) ، ثم خرج فتصدق بألف دينار وقال : اللهم إنّ صاحبي قد ابتاع هذه الدار بألف دينار وإنّي أسألك دارا من دور الجنة ثم إن صاحبه تزوج امرأة حسناء بألف دينار ، فتصدق صاحبه بألف دينار لأجل أن يزوجه الله تعالى من الحور العين ثم إن صاحبه اشترى بساتين بألفي دينار فتصدق هذا بألفي دينار ، ثم إن الله تعالى أعطاه ما طلب في الجنة.

وقيل : كان أحدهما كافرا اسمه نطروس والآخر مؤمن اسمه يهودا وهما اللذان قص الله خبرهما في سورة (٢) الكهف : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) [الكهف : ٣٢].

قوله : (لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) العامة على التخفيف الصاد من التصديق أي لمن المصدّقين بلقاء الله. وقرىء بتشديدها من الصّدقة (٣) ، واختلف القراء في هذه الاستفهامات الثلاثة وهي قوله : (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً) (أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) فقرأ نافع الأولى والثانية بالاستفهام بهمزة غير مهموسة (٤) والثالثة بكسر الألف من غير استفهام. (ووافقه (٥) الكسائي إلا أنه يستفهم الثالثة بهمزتين وابن عامر الأولى والثالثة بالاستفهام بهمزتين والثانية بكسر الألف من غير استفهام). والباقون بالاستفهام في جميعها. ثم اختلفوا فابن كثير يستفهم بهمزة واحدة غير مطولة وبعدها ياء ساكنة خفيفة وأبو عمرو مطولة وحمزة وعاصم بهمزتين (٦).

فصل

ثم إن ذلك الرجل يقول لجلسائه يدعوهم إلى كمال السّرور بالاطّلاع إلى النار لمشاهدة ذلك القرين ومخاطبته (هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) إلى النار فيقول أهل الجنة أنت أعرف به (٧) منا «فأطلع أنت». قال ابن عباس : إنّ في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى النار.

قوله : «مطّلعون» قرأ العامة بتشديد الطاء مفتوحة وبفتح النون فاطّلع ماضيا مبنيا للفاعل افتعل من الطلوع. وقرأ ابن عباس في آخرين ـ ويروى عن أبي عمرو ـ بسكون الطاء وفتح النون «فأطلع» بقطع (ال) (٨) همزة مضمومة وكسر اللام ماضيا مبنيا

__________________

(١) سقط من نسخة ب.

(٢) المرجع السابق.

(٣) من القراءة المتواترة فقرأ حمزة بالتشديد ، وانظر : زاد المسير ٧ / ٥٩ ، فيما رواه عن حمزة بكر بن عبد الرحمن القاضي ، وانظر : البحر المحيط ٧ / ٣٦٠ ، وكذلك الكشاف ٣ / ٣٤١ بدون نسبة أيضا.

(٤) كذا هنا في أوفي ب مهموزة وفي الرازي ممدودة.

(٥) ما بين المعقوفين كله سقط من نسخة ب.

(٦) وانظر : الفخر الرازي ٢٦ / ١٤٠ وإتحاف فضلاء البشر ٢٦٩.

(٧) في ب : بنّا منّا. وانظر البغوي ٦ / ٢٢.

(٨) زيادة من أ.

٣٠٦

للمفعول (١) ، ومطلعون على هذه القراءة يحتمل أن يكون قاصرا أي مقبلون من قولك : اطلع علينا فلان أي أقبل (٢) ، وأن يكون متعديا ومفعوله محذوف أي أصحابكم (٣) ، وقرأ أبو البرهسم وحماد بن (٤) أبي عمار : مطلعون خفيفة الطاء مكسورة النون فأطلع مبنيا للمفعول (٥) ، ورد أبو حاتم وغيره (٦) هذه القراءة من حيث الجمع بين النون وضمير المتكلم إذ كان قياسها مطلعيّ ، والأصل مطلعوي فأبدل فأدغم نحو : جاء مسلميّ القاطنون وقوله عليه ـ (الصلاة و) السلام ـ «أو مخرجيّ هم» (٧) ، وقد وجهها ابن جني على أنها أجري فيها اسم الفاعل مجرى المضارع يعني في إثبات النون فيه مع الضمير (٨) وأنشد الطبري على ذلك :

٤٢٠٧ ـ وما أدري وظنّي كلّ ظنّي

أمسلمني (٩) إلى قومي شراح (١٠)

وإليه نحا الزمخشري قال : أو شبه اسم الفاعل في ذلك بالمضارع لتآخ بينهما (كأنه) (١١) قال يطلعون (١٢) وهو ضعيف لا يقع إلا في شعر (١٣). وذكر فيه فيه توجيها آخر فقال : أراد مطلعون إياي فوضع المتصل موضع المنفصل (١٤) كقوله :

__________________

(١) من القراءات المتواترة فقد رواها ابن مجاهد في السبعة ٥٤٨ كما رويت في الإتحاف ٣٦٩ وانظر أيضا المحتسب ٢ / ٢١٩ ومختصر ابن خالويه ١٢٧ و ١٢٨.

(٢) قاله ابن جني في المحتسب ٢ / ٢١٩ و ٢٢٠ والسمين في الدر ٤ / ٥٥٢.

(٣) قاله أبو البقاء في التبيان ١٠٩٠.

(٤) لم أقف على ترجمة له.

(٥) انظر : الكشاف ٣ / ٣٤١ والبحر ٧ / ٣٦١ والتبيان ١٠٩٠ والبيان ٢ / ٣٠٤ وإعراب الزجاج ٤ / ٣٠٤ و ٣٠٥.

(٦) تكاد كل الكتب التي رجعت إليها تضعف هذه القراءة لهذه العلة المذكورة حيث الجمع بين الإضافة «الواو» والنون. قال بذلك الزجاج في معاني القرآن ٤ / ٣٠٤ و ٣٠٥ والنحاس في الإعراب ٣ / ٤٢٢ ومعاني الفراء ٢ / ٣٨٥ والتبيان ٢ / ١٠٩٠ والبيان ٢ / ٣٠٤ و ٣٠٥ ومشكل إعراب مكي ٢ / ٢٣٦ والقرطبي ١٥ / ٨٣ والبحر ٧ / ٣٦١ ، والسمين ٤ / ٥٥٢.

(٧) ذكره الإمام البخاري في صحيحه ١ / ٧ من حديث طويل عن عائشة رضي الله عنها.

(٨) قال في المحتسب ٢ / ٢٢٠ : والأمر على ما ذهب إليه أبو حاتم إلا أن يكون على لغة ضعيفة وهو أن يجرى اسم الفاعل مجرى الفعل المضارع لقربه منه ، فيجرى «مطلعون» مجرى يطلعون وعليه قال بعضهم :

أرأيت إن جئت به أملودا

مرحّلا ويلبس البرودا

أقائلنّ أحضروا الشّهودا

فوكد اسم الفاعل بالنون وإنما بابها الفعل كقوله تعالى «لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ».

(٩) في ب : أسلمني وهو ما يخالف روايته.

(١٠) من تمام الوافر وهو ليزيد بن محرم الحارثي وشاهده : «أمسلمني» حيث بقيت نون الوقاية مع اسم الفاعل وهي لا تكون إلا مع الفعل لأنها تقيه من الكسر الذي يخص الاسم. وذلك الذي نرى شاذ وقياسه أمسلميّ كمخرجيّ السابق وقد تقدم.

(١١) سقط من ب فقط.

(١٢) في الكشاف تطلعون.

(١٣ و ١٤) الكشاف ٣ / ٣٤١.

٣٠٧

٤٢٠٨ ـ هم الفاعلون الخير والآمرونه

 ..........(١)

ورده أبو حيان بأن هذا ليس من مواضع المنفصل حتى يدعي أن المتصل (٢) وقع موقعه لا يجوز : «هند زيد ضارب إيّاها» ولا «زيد ضارب إيّاي». قال شهاب الدين : وإنما لم يجز ما ذكر لأنه إذا قدر على المتصل لم يعدل إلى المنفصل (٣). ولقائل أن يقول : لا أسلم (٤) أنه يقدر على المتصل حالة ثبوت النون أو التنوين قبل الضمير بل يصير الموضع موضع الضمير المنفصل فيصحّ ما قال (ه) (٥) الزمخشري ، وللنحاة في اسم الفاعل المنوّن قبل ياء المتكلم نحو البيت المتقدم وقول الآخر :

٤٢٠٩ ـ فهل فتى من سراة القوم يحملني

وليس حاملني إلّا ابن حمّال (٦)

وقول الآخر :

٤٢١٠ ـ وليس بمعييني وفي النّاس ممنع

صديق وقد أعيى عليّ صديق (٧)

قولان :

أحدهما : أنه تنوين وأنه شذ ثبوته مع الضمير. وإن قلنا : إن الضمير بعده في محل نصب (٨).

__________________

(١) يروى : القائلون الخير ويروى : الآمرون الخير. من الطويل وهو مجهول القائل عجزه :

 ..........

إذا ما خشوا من محدث الأمر معظما

والشاهد : الجمع بين النون (نون جمع المذكر) والإضافة (الهاء) وحكم المضمر أن يعاقب النون والتنوين لأنه بمنزلتهما في الاتصال والضعف وقد عاقب المظهر النون والتنوين مع قوته وانفصاله. وقد زعم سيبويه أنه مصنوع وانظر : الكتاب ١ / ١٨٨ وابن يعيش ٢ / ١٢٥ ومجالس ثعلب ١٢٣ ومعاني الفراء ٢ / ٣٨٦ والكشاف ٣ / ٣٤١ والدر ٤ / ٥٥٣ والخزانة ٤ / ٢٦٩ وكامل المبرد ١ / ٣٦٤ والبحر ٧ / ٣٦١.

(٢) المرجع السابق.

(٣) الدر ٤ / ٥٥٣.

(٤) في ب : لا نسلم ، وهذا رأي السمين الحلبي وعرضه في كتابه الدر. وقد رجح أبو حيان في البحر تخريج أبي الفتح وهو شبه الاسم للفعل. انظر : البحر ٧ / ٣٦١ والسمين ٤ / ٥٥٣.

(٥) الهاء زيادة من أ.

(٦) من البسيط من أبيات لأبي محلم السّعدي ويروى : ألا فتى من بني ذبيان. وشاهده حاملني حيث جاءت نون الوقاية مع اسم الفاعل والأصح : حاملي ، كمسلمي ومخرجي ، فالنون مع الفعل لهدف وهنا مع ياء المتكلم الذي مع الاسم لا هدف لها ، ومن ثم تحتم الشذوذ ، وانظر : الإنصاف ١٢٩ والبحر ٧ / ٣٦١ والدر ٤ / ٥٥٣ ، وشرح الرضي على كافية ابن الحاجب ١ / ٢٨٣ والكامل ١ / ٣٦٣ ، ٣٦٤. والرواية فيه يحملني وعليه فلا شذوذ فيه والخزانة ٤ / ٢٦٥ والبيان ٢ / ٣٠٥.

(٧) من الطويل مجهول القائل. وشاهده كسابقيه في «معييني» وانظر : البحر ٧ / ٣٦١ والأشموني ١ / ١٣٦ والدر المصون ٤ / ٥٥٤.

(٨) نسب ابن هشام في المغني هذا الرأي إلى هشام الكوفي قال : وزعم هشام أن الذي في «أمسلمني» ونحوه تنوين لا نون وبنى ذلك على قوله في «ضاربني» أن الياء منصوبة. المغني ٣٤٥.

٣٠٨

والثاني : أنه ليس تنوينا وإنما هو نون وقاية (١).

واستدل ابن مالك على هذا بقوله : وليس بمعييني ، وبقوله أيضا :

٤٢١١ ـ وليس الموافيني (وفي النّاس ممنع

صديق إذا أعيا عليّ صديق) (٢)

ووجه الدلالة من الأول أنه لو كان تنوينا لكان ينبغي أن يحذف الياء قبله لأنه منقوص منون ، والمنقوص المنون تحذف ياؤه رفعا وجرا لالتقاء الساكنين ، ووجهها من الثاني أن الألف واللام لا تجامع التنوين. والذي يرجح القول الأول ثبوت النون في قوله : «والآمرونه» (٣) ، وفي قول الآخر :

٤٢١٢ ـ ولم يرتفق والنّاس محتضرونه

جميعا وأيدي المعتفين رواهقه (٤)

فإن النون قائمة مقام التنوين تثنية وجمعا على حدها ، وقال أبو البقاء «وتقرأ بكسر النون». وهو بعيد جدا ؛ لأن النون إن كانت للوقاية فلا تلحق الأسماء وإن كانت نون الجمع لا تثبت في الإضافة(٥) وهذا الترديد صحيح لو لا ما تقدم من الجواب عنه مع تكلف فيه وخروج عن القواعد (٦).

(وقرىء (٧) مطّلعون بالتشديد كالعامة فأطلع مضارعا) منصوبا (بإضمار (٨) «أن» على

__________________

(١) ظاهر كلام ابن مالك في التسهيل ص ٢٥ قال وقد تلحق نون الوقاية مع اسم الفاعل وأفعل التفضيل.

(٢) الواقع أن ما بين القوسين كله تخليط من الناسخ لبيت آخر هو السابق عليه وإنما البيت المعني هو :

وليس الموافيني ليرفد خائبا

فإنّ له أضعاف ما كان له أملا

وهو من الطويل مجهول القائل والموافيني اسم فاعل من وافى كعادى وقاضى ويرفد يعطي من الرفد وهو العطاء والشاهد : الموافيني فقد استدل ابن مالك على أن النون نون الوقاية لا تنوين لأنه لا يجامع الألف واللام. وانظر : توضيح المقاصد ١ / ١٦٦ والأشموني ١ / ١٢٦ والمغني ٣٤٥ والمقاصد الكبرى للعيني ١ / ٣٨٧ وأجاز رواية آملا والدر المصون ٤ / ٥٤٤.

(٣) قد سبق عما قريب.

(٤) من الطويل مجهول القائل. وروي : يرتهق بدل يرتفق. واحتضر بمعنى حضر وشهد والارتفاق الاتكاء والرواهق الذين جاءوه والمعتفي طالب المعروف يقول إنه لم يشغل عن قضاء حاجة الملهوف مهما كان الأمر وشاهده «محتضرونه» فقد جمع بين الواو واو جمع المذكر والهاء «الإضافة». والشاهد الآخر الذي نحن بصدده الآن أن هذا تأييد لوجهة نظر هشام الذي يقول : إن النون هي التنوين بدليل ثبوتها جمعا وتثنية. وانظر : الدر المصون ٤ / ٥٥٤ وابن يعيش ٢ / ١٢٥ وشرح الكافية ١ / ٢٨٣ والخزانة ٤ / ٢٧١ وكامل المبرد ٢ / ٣٦٤ وكتاب سيبويه ١ / ١٨٨ وقد اتفقوا على أن هذا البيت من المصنوعات كما سبق في نظيره «الآمرونه».

(٥) التبيان ١٠٩٠.

(٦) انظر : الدر المصون ٤ / ٥٥٤.

(٧) ما بين القوسين كله سقط من نسخة ب وقد روى أبو الفتح في المحتسب ٢ / ٢١٩ ، ٢٢٠ قراءة مطلعون فأطلع وانظر أيضا الدر المصون ٤ / ٥٥٤.

(٨) ما بين القوسين الصغيرين سقط من ب وما بين الكبيرين كله ساقط من أ.

٣٠٩

جواب الاستفهام). وقرىء مطلعون بالتخفيف فأطلع مخففا ماضيا ومخففا مضارعا على ما تقدم يقال : طلع علينا فلان وأطلع كأكرم واطّلع بالتشديد بمعنى واحد (١). وأما قراءة من بنى الفعل للمفعول ففي القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مصدر الفعل أي اطّلع الاطّلاع (٢).

الثّاني : الجار المقدر (٣).

الثّالث : ـ وهو الصحيح ـ أنه ضمير القائل لأصحابه ما قاله لأنه يقال : طلع زيد وأطلعه غيره فالهمزة فيه للتعدية (٤) ، وأما الوجهان الأولان فذهب إليهما أبو الفضل الرازي في لوامحه فقال : طلع واطّلع إذا بدا وظهر واطّلع اطّلاعا إذا جاء وأقبل. ومعنى ذلك : هل أنتم مقبلون فأقبل ، وإنما أقيم المصدر فيه مقام الفاعل بتقدير فاطلع الاطلاع ، أو بتقدير حرف الجر المحذوف أي أطلع به لأن أطلع لازم كما أن أقبل كذلك (٥). ورد عليه أبو حيان هذين الوجهين فقال قد ذكرنا أن «أطلع» بالهمزة معدّى بها من طلع اللازم. وأما قوله أو حرف الجر المحذوف أي اطلع به فهذا لا يجوز لأن مفعول ما لم يسم فاعله لا يجوز حذفه لأنه نائب عنه (٦) فكما أن الفاعل لا يجوز حذفه دون عامله (٧) ، فكذلك هذا لو قلت : «زيد ممرور أو مغضوب» تريد «به» أو «عليه» لم يجز (٨).

قال شهاب الدين : أبو الفضل لا يدّعي أن النائب عن الفاعل محذوف وإنما قال : بتقدير حرف الجر المحذوف. (ومعنى (٩) ذلك) أنه لما حذف حرف الجر اتّساعا (١٠) انقلب الضمير مرفوعا فاستتر في الفعل كما يدعى ذلك في حذف عائد الموصول المجرور عند عدم شروط الحذف ويسمّى الحذف على التدريج (١١).

__________________

(١) الكشاف السابق والبحر ٧ / ٣٦١.

(٢) هذا رأي ابن جني في المحتسب المرجع السابق قال : «فالفعل إذا الذي هو اطلع مسند إلى مصدره أي فاطلع الاطلاع كقولك : قد قيم أي قيم القيام ، وقد قعد أي قعد القعود».

(٣) نقله أبو حيان عن أبي الفضل الرازي. انظر : البحر ٧ / ٣٦١.

(٤) هذا رأي أبي حيان في البحر المرجع السابق.

(٥) المرجع السابق.

(٦) كذا في أوالبحر وفي ب عن الفاعل.

(٧) كذا الأصح منهما أيضا وفي ب فاعله تحريف.

(٨) ورأي أبي حيان هذا سديد فثبت من هذا أن الفعل إذا بني للمجهول فإن النائب عن الفاعل هو ضمير القائل لأصحابه وانظر : البحر ٧ / ٣٦٢ ، ٣٦٣ ونفس رأي أبي حيان هو رأي الفراء في معانيه ٢ / ٣٨٧ وانظر أيضا البيان ٢ / ١٠٥ ومشكل الإعراب ٢ / ٢٣٦ ، ٢٣٧ وإعراب النحاس ٣ / ٤٢٣ ومعاني الزجاج ٤ / ٣٠٤.

(٩) كذا هي في الدر المصون و «أ». وحذفت من ب.

(١٠) وحروف الجر والظروف يتوسع فيها ما لا يتوسع في غيرها.

(١١) قاله في الدر لمصون ٤ / ٥٥٥.

٣١٠

قوله : «فرآه» عطف على «فاطّلع» (١). و (سَواءِ الْجَحِيمِ) وسطها (٢) ، وأحسن ما قيل فيه ما قاله ابن عباس سمي بذلك لاستواء المسافة منه إلى الجوانب (٣) ، وعن عيسى بن عمر أنه قال لأبي عبيدة (٤) : كنت أكتب حتى (٥) ينقطع سوائي (٦).

قوله : «تالله» قسم فيه تعجب (٧) ، و «إن» مخففة (٨) أو نافية (٩). واللام في «لتردين» فارقة أو بمعنى إلا. وعلى التقديرين فهي جواب القسم أعني إن وما في خبرها (١٠).

فصل

قال المفسرون : إنه ذهب إلى أطراف الجنة فاطلع عندها إلى النار فرآه في سواء الجحيم أي وسط الجحيم فقال له توبيخا : (تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) أي والله لقد كدت أن تهلكني. وقال مقاتل : والله لقد كدت أن تغويني ومن أغوى إنسانا فقد أهلكه ، والرّدى (١١) الهلاك أي لتهلكني بدعائك إيّاي إلى إنكار البعث والقيامة. (وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي) أي رحمة ربي وإنعامه عليّ بالإسلام (لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) معك في النار. ولما تمم الكلام مع قرينه الذي هو في النار عاد (١٢) إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة وقال : (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) قال بعضهم : إن أهل الجنة لا يعلمون في أول دخولهم الجنة أنهم لا يموتون فإذا جيء بالموت على صورة كبش أملح وذبح يقول أهل الجنة للملائكة : (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ)؟ فتقول الملائكة : لا. فعند ذلك يعلمون أنهم لا يموتون. وعلى هذا فالكلام حصل قبل ذبح الموت (١٣). وقيل : إن الذي تكاملت سعادته إذا عظم تعجّبه بها يقول ذلك. والمعنى أهذا لي على جهة الحديث بنعمة الله عليه (١٤) ، وقيل : يقوله المؤمن لقرينه توبيخا له بما كان ينكره (١٥).

قوله : «بميّتين» قرأ زيد بن علي بمائتين (١٦) ، وهما مثل ضيّق ، وضائق كما

__________________

(١) السابق.

(٢) المجاز ٢ / ١٧٠.

(٣) البحر ٧ / ٣٦٢.

(٤) في ب : أبو عبيد تحريف.

(٥) في ب : عند.

(٦) المجاز السابق ٢ / ١١٧٠ وانظر الكشاف للزمخشري ٣ / ٣٤١ وانظر : اللسان (سوى) ١٢٦٣.

(٧) قاله أبو حيان في البحر ٧ / ٣٦٢.

(٨) من الثقيلة. وعليه فاسمها ضمير الشأن محذوف.

(٩) بمعني ما أي ما كدت.

(١٠) السمين ٤ / ٥٥٥.

(١١) المجاز ٢ / ١٧٠.

(١٢) في ب : دعا. وانظر : زاد المسير ٧ / ٦٠ والقرطبي ١٥ / ٨٣ ، ٨٤.

(١٣) ذكره الكلبي. وانظر : تفسير العلامة ابن الجوزي ٧ / ٦٠ ، ٦١.

(١٤) السابق.

(١٥) السابق. ونسب هذا القول إلى الثّعلبيّ.

(١٦) هذه القراءة نسبها أبو حيان في البحر ٧ / ٣٦٢ ولم ينسبها الزمخشري كعادته في الكشاف انظر : الكشاف ٣ / ٣٤١ وانظر : الدر المصون ٤ / ٥٥٦.

٣١١

تقدم (١) ، وقوله «أفما» فيه الخلاف المشهور ، فقدّره الزمخشري أنحن مخلّدون منعّمون فما نحن بميتين(٢) ، وغيره يجعل الهمزة متقدمة على الفاء.

قوله : (إِلَّا مَوْتَتَنَا) منصوب على المصدر ، والعامل فيه الوصف قبله (٣) ، ويكون استثناء مفرّغا (٤) ، وقيل : هو استثناء منقطع أي لكن الموتة الأولى كانت لنا في الدنيا (٥). وهذا قريب في المعنى من قوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) [الدخان : ٥٦]. وفيها هناك بحث حسن.

قوله : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وهذا قول أهل الجنة عند فراغهم من (هذه) (٦) المحادثات. وقوله : (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) قيل : إنه من بقية كلامهم ، وقيل : إنه ابتداء كلام من الله تعالى أي لمثل هذا النعيم الذي ذكرناه (٧).

قوله تعالى : (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ)(٧١)

قوله : (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً) أي أذلك الذي ذكره لأهل الجنة خير نزلا أم شجرة الزّقّوم. (فنزلا) تمييز (٨) «لخير» والخيرية بالنسبة إلى ما اختاره الكفار على غيره. والزقوم شجرة مسمومة يخرج لها لبن متى مسّ جسم أحد تورم فمات. والتزقم البلع بشدة وجهد للأشياء الكريهة (٩) ، وقول أبي جهل وهو من العرب : لا نعرف الزقوم إلا بالتمر والزبد من العناد والكذب البحت (١٠).

__________________

(١) من قوله تعالى : «فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ» [هود : ١٢] وهي من القراءات الشاذة أقصد قوله : «بمائتين».

(٢) الكشاف ٣ / ٣٤١ فهو ومن تبعه يقدّرون محذوفا حتى يقولوا إن الهمزة في موضعها الأصلي فلم تتقدم على حرف العطف. وهذا غير مذهب سيبويه والجمهور الذين يقولون : إنها تتقدم على العاطف تنبيها على أصالتها في التصدير. (بتصرف من المغني ١٥ ، ١٦).

(٣) قاله ابن الأنباري في البيان ٢ / ٣٠٥ وأبو البقاء في التبيان ١٠٩٠ ومشكل الإعراب ٢ / ٢٣٧ والإعراب للنّحاس ٣ / ٤٢٤.

(٤) السمين ٤ / ٥٥٦.

(٥) المشكل والإعراب والتبيان المراجع السابقة.

(٦) سقط من ب.

(٧) الدر المصون ٤ / ٥٥٦.

(٨) التبيان ١٠٩٠ والنحاس ٤ / ٤٢٤ والكشاف ٣ / ٣٤٢ وجوز فيه أيضا الحالية.

(٩ و ١٠) اللسان «ز ق م» ٤٦ / ١ والرازي ٢٦ / ١٤١ والسمين ٤ / ٥٥٦ واللسان ذكر الزقوم فعول من الرقم عن ثعلب.

٣١٢

فصل

لما ذكر ثواب أهل الجنة ووصفها وذكر مآكل أهل الجنة ومشاربهم وقال : «لمثل هذا فليعمل العاملون أتبعه بقوله : «قل» يا محمد أذلك خير أم شجرة الزقوم ليصير ذلك زاجرا لهم عن الكفر. وذكر مآكل أهل النار ومشاربهم. والنّزل الفضل (١) الواسع في الطعام ؛ يقال : طعام كثير النّزل ، و (استعير) (٢) للحاضر (٣) من الشيء ؛ ويقال : أرسل الأمير إلى فلان نزلا وهو الشيء الذي يحصل حال من نزل بسببه. وإذا عرف هذا فحاصل الرزق المعلوم لأهل الجنة اللذة والسرور وحاصل شجرة الزقوم الألم والغمّ. ومعلوم أنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر في الجزائيّة إلا أنه جاء هذا الكلام إما على سبيل السخرية بهم أو لأجل أن المؤمنين لما اختاروا ما أوصلهم إلى الرزق الكريم العظيم والكافرين اختاروا ما أوصلهم إلى العذاب الأليم قيل لهم ذلك توبيخا لهم على اختيارهم (٤).

قال الكلبي : لما نزلت هذه الآية قال ابن الزّبعرى : أكثر الله في بيوتكم الزقوم فإن أهل اليمن يسمون التّمر والزّبد بالزقوم فقال أبو جهل لجاريته : زقّمينا فأتته بزبد وتمر وقال تزقّموا (٥). قال الواحدي: ومعلوم أن الله تعالى لم يرد بالزقوم ههنا التمر والزّبد (٦). قال ابن دريد (٧) : لم يكن للزقّوم اشتقاق من الزّقم وهو الإفراط في أكل الشيء حتى يكره ذلك ، يقال : بات فلان يتزقم (٨). وظاهر لفظ القرآن يدل على أنها شجرة كريهة الطعم منتنة الرائحة شديدة الخشونة موصوفة بصفات رديّة وأنه تعالى يكره أهل النار على أكلها (٩).

قوله : (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) أي الكافرين وذلك أن الكفار لما سمعوا هذه الآية قالوا : كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر؟ فأجيبوا : بأن خالق النار قادر على أن يمنع النار من إحراق الشجر ؛ لأنه إذا جاز أن تكون في النار زبانية والله تعالى يمنع النار عن إحراقهم فلم لا يجوز مثله في هذه الشجرة؟

فمعنى كون شجرة الزقوم فتنة للظالمين هو أنهم لما سمعوا هذه الآية وبقيت تلك الشبهة في قلوبهم وصارت سببا لتماديهم في الكفر فهو المراد من كونها فتنة لهم. أو يكون المراد صيرورة هذه الشجرة فتنة لهم من النار لأنهم إذا كلفوا تناولها شق ذلك

__________________

(١) قاله ابن قتيبة في الغريب ٣٧١ وانظر الرازي أيضا ١٤١ / ٢٦.

(٢) سقط من ب.

(٣) كذا في النّسختين وفي الرازي الحاصل.

(٤) قال بذلك الفخر الرازي ٢٦ / ١٤١.

(٥) القرطبي ١٥ / ٨٥.

(٦) قاله الرازي ٢٦ / ١٤١.

(٧) تقدم.

(٨) انظر : الجمهرة : «ز ق م» وانظر أيضا اللسان لابن منظور : «ز ق م» ١٨٤٥ ، ١٨٤٦.

(٩) الرّازي ٢٦ / ١٤١.

٣١٣

عليهم فحينئذ يصير ذلك فتنة في حقّهم. أو يكون المراد من الفتنة الامتحان والاختبار فإن هذا شيء بعيد عن العرف والعادة. وإذا ورد على سمع المؤمن فوض علمه إلى الله وإذا ورد على الزّنديق توسل به إلى الطّعن في القرآن والنبوة. ثم إنه تعالى وصف هذه الشجرة بصفات الأولى قوله : (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) قال الحسن : أصلها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها.

الصفة الثانية قوله : «طلعها» أي ثمرها سمي طلعا لطلوعه (١). قال الزمخشري : الطّلع للنخلة فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها إما استعارة لفظية أو معنوية (٢) ، قال ابن قتيبة : سمي طلعا لطلوعه كلّ سنة (٣) فلذلك قيل : طلع النخل لأول ما يخرج من ثمره.

قوله : (رُؤُسُ الشَّياطِينِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه حقيقة ، وأن رؤوس الشياطين شجرة معينة (٤) بناحية اليمن تسمى الأستن قال النابغة :

٤٢١٣ ـ تحيد عن أستن سود أسافلها

مثل الإماء الغوادي تحمل الحزما (٥)

وهو شجر منكر الصورة سمّته العرب بذلك تشبيها برؤوس الشياطين في القبح ثم صار أصلا يشبه به. وقيل : الشياطين صنف من الحيات ولهن أعراف قال :

٤٢١٤ ـ عجيز تحلف حين أحلف

كمثل شيطان الحماط أعرف (٦)

وقيل : شجر يقال له : الصوم ومنه قول ساعدة بن جؤيّة :

٤٢١٥ ـ مؤكّل بشدوف الصّوم يرقبها

من المعارب مخطوف الحشا زرم (٧)

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) الكشاف ٣ / ٣٤٢.

(٣) انظر : غريب القرآن له ٣٧٢ وتأويل المشكل له أيضا ٣٠٢ وانظر : القرطبي ١٥ / ٨٦.

(٤) في السمين : شجر بعينه ووصفه اللسان بذلك ولم يحدد مكانه.

(٥) من البسيط وهو له يصف ناقة تعدل في سيرها وتبعد عن هذا الشجر كأنها خائفة منه والأستن ـ كما جاء في اللسان ـ شجر يفشو في منابته ويكثر وإذا نظر إليه الناظر من بعد شبههه بشخوص الناس ولذلك يسمى برؤوس الشياطين. انظر اللسان : «س ت ن» ١٩٣٦ والدر المصون ٤ / ٥٥٦ وكامل المبرد ٣ / ١٩٣ ، وديوانه (٦٥).

(٦) رواية البيت هنا كما في البحر المحيط ٧ / ٣٦٣ والدر المصون ٤ / ٥٥٧ ورواه الفراء في المعاني : عنجرد تحلف ... إلخ. والحماط : شجر تألفه الحيّات ، وأعرف : ذو عرف والمراد بشيطان الحماط : الحية التي تسكنه. يهجو امرأته بأنها عنجرد أي عجوز شمطاء وهي خبيثة وداهية تشبه تلك الحية التي تسكن هذا الشجر. والشاهد : إطلاق العرب لفظ الشيطان على نوع معين من الحيات. بقي أن أقول : إن البيت من تمام الرجز ولم أعرف قائله. وانظر : معاني الفراء ٢ / ٣٨٧ واللسان عنجرد ٣١٢٣ والدر المصون ٤ / ٥٥٧ والبحر المحيط ٧ / ٣٦٣ والقرطبي ١٥ / ٨٧.

(٧) من البسيط وهو مجهول القائل. والصوم شجر على شكل شخص الإنسان كريه المنظر جدّا يقال لثمره ـ

٣١٤

فعلى هذا قد خوطبت العرب بما تعرفه ، وهذه الشجرة موجودة فالكلام حقيقة ، والثاني أنه من باب التخيل والتمثيل وذلك أنه كل ما يستنكر ويستقبح في الطباع والصورة يشبه بما يتخيله الوهم وإن لم يره والشياطين وإن كانوا موجودين غير مرئيّين للعرب إلا أنه خاطبهم بما ألفوه من الاستعارات التخييلية (١) كقول امرىء القيس : [البسيط]

٤٢١٦ ـ أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي

ومسنونة زرق كأنياب أغوال (٢)

ولم ير أنيابها ؛ بل ليست موجودة ألبتة ، قال ابن الخطيب : وهذا هو الصحيح ؛ وذلك أن الناس لما اعتقدوا في الملائكة كمال الفضل في الصورة والسيرة واعتقدوا في الشياطين نهاية القبح في الصورة والسيرة فكما حسن التشبيه بالملك عند إرادة الكمال والفضيلة في قول النساء : (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) فكذلك حسن التشبيه برؤوس الشياطين بالقبح وتشويه الخلقة ، ويؤكد هذا أن العقلاء إذا رأوا شيئا (شديد (٣) الاضطراب منكر الصورة قبيح الخلقة قالوا : إنه شيطان وإذا رأوا شيئا) حسنا قالوا : إنه ملك من الملائكة (٤). قال ابن عباس : هم الشياطين بأعيانهم شبهه بها لقبحه.

قوله : (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) ، والملء حشو الوعاء بما لا يحتمل الزّيادة عليه (٥).

فإن قيل : كيف يأكلونها مع نهاية خشونتها ونتنها ومرارة طعمها؟

فالجواب : أن المضطر ربما استروح من الضّرر (٦) بما يقاربه في الضرر فإذا جوعهم

__________________

ـ رؤوس الشياطين ويعنى بها الحيات وأكثر ما ينبت في بلاد بني شبابة. والمعازب الأماكن البعيدة ، والشدوف : الشخوص ومخطوف الحشا ضامره ، وزرم : لا يثبت في مكان ومعناه أنه يرقب شخوص هذه الأشجار يحسبها ناسا وهو في خوف لا يكاد يستقر في مكان وأتى بالبيت حتى يقول : إن رؤوس الشياطين يطلق على ثمر هذا الشجر المسمى بالصوم. وانظر : اللسان : «ص وم» ٢٥٣٠ والبحر ٧ / ٣٦٣ وأمالي القالي ١ / ٢٥ والخصائص ٣ / ٧٩ وديوان الهذليين ١ / ١٩٤ وانظره هو وما قبله في مجمع البيان ٧ / ٩٦ ، وورد في مجمع البيان : المعارم : وهي النقط السوداء في أذن الشاة الضائنة وورد فيه يرقبه.

(١) الكشاف ٣ / ٣٤٣ والبحر ٧ / ٣٦٣.

(٢) من الطويل والمشرفيّ نسبة إلى مشارف الشام كانت تصنع في قراها السيوف والمسنون المحدد المصقول. وشاهده بلاغي حيث شبه تشبيها وهميا وهو غير المدرك بإحدى الحواس الخمس فإن أنياب الغول مما لا يدركه الحس لعدم تحققها. وانظر : دلائل الإعجاز ١٤٩ ومعاهد التنصيص ١ / ١٣٤ والبحر ٧ / ٣٦٣ وكامل المبرد ٣ / ٩٦ وفتح القدير للشوكاني ٤ / ٣٩٨ ومجمع البيان للطبرسي ٧ / ٦٩٧ وديوانه ٣٣.

(٣) ما بين المعقوفين كله ساقط من «ب» وهو في الرازي و «أ».

(٤) الرازي ٢٦ / ١٤٢ وانظر بيت امرىء القيس أيضا فيه وفي زاد المسير ٧ / ٦٣ واللسان : «غ ول».

(٥) قاله في اللسان : «م ل أ» ٤٢٥٢.

(٦) في الرازي : استروح منه إلى ما يقاربه في الضرر.

٣١٥

الله الجوع الشديد فزعوا إلى إزالة ذلك الجوع بتناول هذا الشيء. أو يقال : إن الزبانية يكرهونهم على الأكل من تلك الشجرة تكميلا (١) لعذابهم.

قوله : (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) قرأ العامة بفتح الشين وهو مصدر على أصله. وقيل: يراد به اسم المفعول (٢). ويدل له قراءة شيبان النّحوي (٣) لشوبا ـ بالضم (٤) ـ. قال الزجاج : المفتوح مصدر ، والمضموم اسم بمعنى المشوب كالنقض بمعنى المنقوض (٥) ، وعطف «بثمّ» لأحد معينين إما لأنه يؤخر ما يظنونه يرويهم من عطشهم زيادة في عذابهم فلذلك أتى «بثمّ» المقتضية للتراخي ، وإما لأن العادة تقضي (٦) بتراخي الشرب عن الأكل فعمل على ذلك المنوال وأما ملء البطن فيعقب الأكل فلذلك عطف على ما قبله بالفاء (٧).

قال الزجاج : الشوب اسم عام في كل ما خلط بغيره (٨) ، والشّوب الخلط والمزج ، ومنه شاب اللبن يشوبه أي خلطه ومزجه ، والحميم : الماء الحار والمتناهي في الحرارة (٩). و (مِنْ حَمِيمٍ) صفة «لشوبا» (١٠) واعلم أن الله تعالى وصف شرابهم في القرآن بأشياء منها : (وَغَسَّاقاً) [النبأ : ٢٥] ومنها : (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) [محمد : ١٥] ومنها المذكور في هذه الآية (١١) ، ولما ذكر الطعام بتلك الشناعة والكراهة وصف الشراب بما هو أشنع منه وسماه شوبا أي خلطا ومزجا من حميم من ماء حار ، فإذا أكلوا الزّقّوم وشربوا عليه الحميم فيشرب (١٢) الحميم في بطونهم فيصير شوبا له.

قوله : (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) قال مقاتل : أي بعد أكل الزقوم وشرب الحميم. وهذا يدل على أنهم عند شرب الحميم لم يكونوا في الجحيم وذلك بأن يكون

__________________

(١) كذا في الرازي أيضا وفي ب تكيلا وانظر : الرازي ٢٦ / ١٤٢ ، ١٤٣.

(٢) الدر المصون ٤ / ٥٥٧.

(٣) هو شيبان بن معاوية أبو معاوية النحوي روى عن عاصم وعنه موسى بن هارون مات سنة ١٦٤ ه‍.

انظر : الغاية ١ / ٣٢٩.

(٤) من الشواذ غير المتواترة. انظر : المحتسب ٢ / ٢٢٠ وابن خالويه ١٢٨.

(٥) بالمعنى من المعاني له ٤ / ٣٠٧.

(٦) في ب : تقتضي.

(٧) انظر : الكشاف للزمخشري ٣ / ٣٤٣ ، والبحر ٧ / ٣٦٣.

(٨) قال : أي الخلط ومزاجا ويقرأ : لشوبا من حميم ، الشوب المصدر ، والشوب الاسم والخلط المخلوط. معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٣٠٧ وانظر أيضا المجاز ٢ / ١٧٠ وغريب القرآن لابن قتيبة ٣٧٢ واللسان : «ش وب» ٢٣٥٥.

(٩) السابق ١٠٠٨.

(١٠) قاله السمين ٤ / ٥٥٨.

(١١) وهو الشوب من الحميم.

(١٢) كذا هي هنا في أوفي الرازي وفي ب فيشوب أي يشوب الزقوم بالحميم نعوذ بالله منهما.

٣١٦

الحميم في موضع خارج عن الجحيم فهم يوردون (١) الحميم لأجل الشرب كما تورد الإبل إلى الماء ثم يردون(٢) إلى الجحيم ؛ ويدل عليه قوله : (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) [الرحمن : ٤٤] وقرأ ابن مسعود : «ثم إن (٣) مقيلهم لإلى الجحيم» (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا) وجدوا (آباءَهُمْ ضالِّينَ فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) ؛ قال الفراء : الإهراع الإسراع (٤) ، يقال : هرع وأهرع إذا استحث (٥). والمعنى أنهم يتبعون آباءهم اتباعا في سرعة كأنهم يزعجون إلى اتباع آبائهم. وقال الكلبي : يعملون مثل عملهم ، ثم إنه تعالى ذكر لرسوله ما يسليه في كفرهم وتكذيبهم فقال : (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) من الأمم الخالية.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ)(٧٤)

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ) فبين تعالى أن إرساله الرسل قد تقدم والتكذيب لهم قد سلف فوجب أن يكون له ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أسوة بهم حتى يصبر كما صبروا ويستمر على الدعاء إلى الله وإن تمردوا فليس عليه إلا البلاغ. ثم قال : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) الكافرين أي كان عاقبتهم العذاب وهذا الخطاب وإن كان ظاهره مع الرسول ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ إلا أن المقصود منه خطاب الكفار لأنهم سمعوا بالأخبار ما جرى على قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من أنواع العذاب فإن لم يعلموا ذلك فلا أقل من ظنّ وخوف يحتمل أن يكون زاجرا لهم عن كفرهم (٦).

قوله : (إِلَّا عِبادَ اللهِ) استثناء من قوله : «المنذرين» استثناء منقطعا لأنه وعيد وهم لم يدخلوا (في) (٧) هذا الوعيد (٨) ، وقيل : استثناء من قوله : (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ)(٩).

__________________

(١) قال صاحب اللسان : الورد النصيب من الماء وأورده الماء جعله يرده ، والموردة مأتاة الماء ، وقيل : الجادة قال طرفة :

كأنّ علوب النّسع في دأباتها

موارد من خلقاء في ظهر قردد

وفي الحديث : اتقوا البراز في الموارد أي المجاري والطرق. وانظر : اللسان : «ورد» ٤٨١١.

(٢) كذا في النسختين وفي الرازي يوردون بالبناء للمجهول.

(٣) لم أجدها في الشواذ ولا المتواتر وفي الكشاف ثم إن منقلبهم ، ثم إن مصيرهم ، ثم إن منقذهم ، قراءات ٣ / ٣٤٣.

(٤) معاني القرآن ٢ / ٣٨٧.

(٥) اللسان : «ه ر ع» ٤٦٥٤ والغريب ٣٧٢ والقرطبي ١٥ / ٨٨ والمجاز ٢ / ١٧١.

(٦) انظر الرازي ٢٦ / ١٤٣ ، ١٤٤.

(٧) سقط من ب.

(٨) قاله أبو حيان في البحر ٧ / ٤٦٤ والسمين في الدر ٤ / ٥٥٨ والرازي في التفسير الكبير ٢٦ / ١٤٣.

(٩) مع قوله : فانظر كيف كان عاقبة المنذرين فإنها كانت أقبح العواقب وأفظعها إلا عاقبة عباد الله المخلصين فإنها مقرونة بالخير والراحة. وقد قال بهذا الرازي ٢٦ / ١٤٤.

٣١٧

والمراد بالمخلصين : الموحدين نجوا من العذاب. وتقدم الكلام على هذا الإخلاص في سورة الحجر عند قوله تعالى : (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)(١) [الحشر : ٤٠].

قوله تعالى : (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ)(٨٢)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ) الآية. لما قال : ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين وقال : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) أتبعه بشرح وقائع الأنبياء ـ عليهم (الصلاة و) السلام ـ فقال: (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ) أي نادى ربه أن ينجيه مع من نجا من الغرق ، وقيل : نادى ربه أي استنصره على كفار قومه ، فأجاب الله دعاءه.

قوله : (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) جواب لقسم مقدر أي فو الله (٢) ومثله :

٤٢١٧ ـ لعمري لنعم السّيّدان وجدتما

 ..........(٣)

والمخصوص بالمدح محذوف تقديره أي نحن (٤) أجبنا دعاءه وأهلكنا قومه. (وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) واعلم أن هذه الإجابة كانت من النعم العظيمة وذلك من وجوه :

أحدها : أنه تعالى عبر عن ذاته بصيغة الجمع فقال : (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ) والقادر العظيم لا يليق به إلا الإحسان العظيم.

وثانيها : أنه أعاد صيغة الجمع في قوله : فلنعم المجيبون (من (٥) ذلك أيضا يدل على تعظيم تلك النعمة لا سيما وقد وصف تلك الإجابة بأنها نعمة الإجابة.

وثالثها : أن الفاء في قوله : (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ)) يدل على أن محصول (٦) هذه الإجابة

__________________

(١) وبين هناك معنى مخلصين بفتح اللام أي الذين أخلصهم الله واصطفاهم لعبادته وبين معنى مخلصين الموحدين كما تقدم أن قراءة المخلصين بالفتح قراءة نافع وأهل الكوفة حيث وقع سواء أكان في يوسف أو الحجر أو الصافات أو أي مكان في القرآن والباقون بالكسر بالبناء للفاعل ، انظر : اللباب ٣ / ١١٧.

(٢) قاله في الدر ٤ / ٥٥٨.

(٣) صدر بيت من الطويل لزهير من معلقته الشهيرة عجزه :

على كلّ حال من سحيل ومبرم

والرواية «يمينا لنعم» وعليه يكون الشاهد والتقدير : أقسم بالله يمينا لنعم أما الرواية هنا أعلى فلا شاهد حينئذ ورواية المؤلف كرواية السمين في الدر ٤ / ٥٥٨ وسحيل ومبرم قبيلتان. وانظر : السبع الطوال ٢٦٠ والهمع ٢ / ٤٢ والبحر ٧ / ٣٦٤ والديوان ١٤.

(٤) قاله ابن الأنباري في البيان ٢ / ٣٠٦ والعكبري في التبيان ١٠٩٠ والسمين في الدر ٤ / ٥٥٨.

(٥) ما بين القوسين كله ساقط من ب.

(٦) في ب : حصول وهو الموافق للرازي.

٣١٨

مرتب (١) على ذلك النداء والحكم المرتب على الوصف المناسب يقتضي كونه معلّلا به. وهذا يدل على أن النداء بالإخلاص سبب لحصول الإجابة ثم إنه تعالى لما بين أنه نعم المجيب بين أن الإنعام حصل في تلك الإجابة بقوله : (وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ). والكرب : هو الخوف الحاصل من الغرق والكرب الحاصل من أذى قومه (٢)(وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) وذلك يفيد الحصر وذلك يدل على أن كل من سواه وسوى ذريته فقد فنوا ، قال ابن عباس : ذريته بنوه الثلاثة سام وحام ويافث. فسام أبو العرب وفارس (٣) ، وحام أبو السودان (٤) ويافث أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج (٥) ، قال ابن عباس: لما خرج نوح من السفينة مات (٦) من كان معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساءهم.

قوله : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) أي أبقينا له ثناء حسنا وذكرا جميلا فيمن بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة (٧).

قوله : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ) مبتدأ وخبر ، وفيه أوجه :

أحدها : أنه مفسر «لتركنا».

والثاني : أنه مفسر لمفعوله ، أي تركنا عليه ثناء وهو هذا الكلام (٨) ، وقيل : ثمّ قول مقدر أي فقلنا سلام (٩).

وقيل : ضمن تركنا معنى (١٠) قلنا ، وقيل : سلط «تركنا» على ما بعده (١١). قال الزمخشري : وتركنا عليه في الآخرين «هذه الكلمة» وهي (سَلامٌ عَلى نُوحٍ) يعني يسلمون عليه تسليما ويدعون له ، وهو من الكلام المحكيّ كقولك : «قرأت سورة أنزلناها» (١٢).

__________________

(١) في ب : يترتب. وهو المخالف للرازي.

(٢) قاله الإمام القرطبي في الجامع ١٥ / ٨٩.

(٣) والروم.

(٤) من المشرق إلى المغرب السّند والهند والنوبة والزنج والحبشة والقبط والبربر وغيرهم. انظر المرجع السابق والسودان يوافق التفسير وفي ب السواد.

(٥) والصقالبة. انظر : المرجع السابق وانظر : الرازي ٢٦ / ١٤٥ والخزر : قال عنه صاحب اللسان «جيل خزر العيون وفي حديث حذيفة : كأني بهم خنس الأنوف خزر العيون ، والخزرة انقلاب الحدقة نحو اللحاظ». انظر : اللسان «خ ز ر» ١١٤٨ وفي ب الخزرج لا الخزر.

(٦) في ب : مرات. وهو تحريف.

(٧) قاله الزجاج ٤ / ٣٠٨.

(٨) قال بهذين الوجهين أبو البقاء في التبيان ١٠٩٠.

(٩) السابق وهو رأي الكسائي وانظر : مشكل الإعراب ٢ / ٢٣٧ ، ٢٣٨ وتفسير النحاس ٤ / ٤٢٧.

(١٠) التبيان المرجع السابق.

(١١) وهو قول الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٤٣.

(١٢) السابق وانظر الرأيين الأخيرين في القرطبي ١٥ / ٩٠ والرأي الأخير في البحر ٧ / ٣٦٤ والآراء كلها في السمين ٤ / ٥٥٨.

٣١٩

وهذا الذي قاله قول الكوفيين جعلوا الجملة في محل نصب مفعولا بتركنا لا أنه ضمن (١) معنى القول بل هو على معناه (٢) بخلاف الوجه (٣) قبله. وهذا أيضا من أقوالهم (٤) ، وقرأ عبد الله «سلاما» (٥) وهو مفعول به «بتركنا» (٦) و «كذلك» نعت مصدر (٧) أو حال من ضميره (٨). كما تقدم تحريره.

فصل

المعنى : سلام عليه في العالمين ، وقيل : تركنا عليه في الآخرين أن يصلّى عليه إلى يوم الدين(٩)(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي إنما خصّصنا نوحا ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ بهذه التشريفات الرفيعة من جعل الدنيا مملوءة من ذريته ومن تبقية (١٠) ذكره الحسن في ألسنة العالمين لأجل كونه محسنا ، ثم علل كونه محسنا بأنه كان عبدا مؤمنا (١١).

قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ)(١٠٠)

القصة الثانية : قصة إبراهيم ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ

__________________

(١) في ب : يضمّن.

(٢) لم يتعرض أبو إسحاق الزجاج في كتابه إعراب القرآن ومعانيه لهذ القضية. ولقد نقل أبو جعفر النحاس في الإعراب ٣ / ٤٢٧ عن الكسائي كلاما حول هذه الآية قال : زعم الكسائي أن فيه تقديرين : أحدهما : وتركنا عليه في الآخرين يقال : سلام على نوح أي تركنا عليه هذا الثّناء قال: وهذا مذهب أبي العباس المبرد ، بينما قال الفراء في المعاني ٢ / ٣٨٧ ، ٣٨٨ يقول أبقينا له ثناء حسنا في الآخرين ويقال : تركنا علي في الآخرين سلام على نوح. أي تركنا عليه هذه الكلمة كما تقول : قرأت من القرآن (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فيكون في الجملة في معنى نصب ترفعها بالكلام كذلك : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ) ترفعه بعلى وهو في تأويل نصلي. ولو كان : تركنا عليه سلاما كان صوابا. وقد سبق عن قريب رأي الزمخشري في الكشاف أنه موافق لرأيهم.

(٣) وهو تضمين تركنا معنى قلنا.

(٤) الدر ٤ / ٥٥٩.

(٥) البحر ٧ / ٣٦٤.

(٦) معاني الفراء ٢ / ٣٨٨ والتبيان ١٠٩٠.

(٧) السابق.

(٨) السمين ٤ / ٥٥٨.

(٩) في ب : إلى يوم القيامة.

(١٠) في ب : بقية.

(١١) الرازي ٢٦ / ١٤٥.

٣٢٠