اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٧٤

ينسبونه إلى الشعر عند الكلام خص الشعر بنفس التعليم (١).

قوله : (إِنْ هُوَ) أي (إن) (٢) القرآن ، دل عليه السياق أو إن المعلّم (إِلَّا ذِكْرٌ) يدل عليه: (وَما عَلَّمْناهُ) والضمير في قوله «له» للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقيل : للقرآن (٣).

قوله : (إِلَّا ذِكْرٌ) موعظة (وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) فيه الفرائض والحدود والأحكام (٤).

قوله : «لينذر» قرأ نافع وابن عامر هنا وفي الأحقاف (٥) «لتنذر» خطابا (٦) ، والباقون بالغيبة بخلاف عن البزّي في الأحقاف (٧) ، والغيبة يحتمل أن يكون الضمير فيما للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأن يكون للقرآن (٨). وقرأ الجحدريّ واليمانيّ «لتنذر» مبنيا للمفعول (٩). وأبو السّمّال واليمانيّ أيضا ـ لينذر ـ بفتح الياء والذّال من نذر بكسر الذال أي علم فتكون «من» فاعلا (١٠).

فصل

المعنى لتنذر القرآن من كان حيا يعني مؤمنا حي القلب لأن الكافر كالميت في أنه لا يتدبر (١١) ولا يتفكر قال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) [الأنعام : ١٢٢]. وقيل : من كان حيا أي عاقلا (١٢) وذكر (١٣) الزمخشري في «ربيع الأبرار» «ويحقّ القول» ويجب العذاب (١٤) على الكافر.

قوله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ

__________________

(١) تفسير الإمام الرازي ٢٦ / ١٠٤.

(٢) زيادة من أعن ب.

(٣) زاد المسير ٧ / ٣٧ ومعالم التنزيل للبغوي ٦ / ١٦ والقرطبي ١٥ / ٥٥ والسمين ٤ / ٥٣٢.

(٤) المراجع السابقة.

(٥) من الآية ١٢ «لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ».

(٦) من القراءة المتواترة. انظر : السبعة ٥٤٤ والإتحاف ٣٦٦ و ٣٦٧ والنشر ٢ / ٣٥٥ وحجة ابن خالويه ٣٠٠ والكشاف ٣ / ٣٣٠.

(٧) الإتحاف ٣٩٠ والنشر ٢ / ٣٧٢ و ٣٧٣ فمن راو عنه بالخطاب ومن راو بالغيب.

(٨) السمين ٤ / ٥٣٢.

(٩) روى ابن خالويه تلك القراءة في المختصر ١٢٦ وانظر البحر ٧ / ٣٤٦ والكشاف ٣ / ٣٣٠.

(١٠) السمين ٤ / ٥٣٣ ، والبحر ٧ / ٣٤٦ والكشاف ٣ / ٣٣٠.

(١١) معالم التنزيل للبغوي ٦ / ١٦.

(١٢) وهو رأي الضحاك والزجاج. انظر : زاد المسير ٧ / ٣٧ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٢٩٤.

(١٣) كذا هنا وفي ب ذكره الزمخشري وهذا خطأ ؛ لأن الكلام السابق للضحاك ومن حذا حذوه ويصح أن يكون للزمخشري إذا اعتبرنا سقوط الواو فلقد أخبر عن «حيّا» في الكشاف ٣ / ٣٣٠ أي عاقلا متأملا.

(١٤) الكشاف ٣ / ٣٣٠.

٢٦١

(٧١) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ (٧٤) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ (٧٥) فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) (٧٦)

ثم إنه تعالى أعاد الوحدانية والدلائل عليها فقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) أي من جملة ما عملت أيدينا أي ما (١) عملناه من غير معين ولا ظهير بل عملناه بقدرتنا وإرادتنا (أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ) ضابطون قاهرون أي لم يخلق الأنعام وحشية نافرة (٢) من بني آدم لا يقدرون على ضبطها بل هي مسخرة لهم كقوله : (وَذَلَّلْناها لَهُمْ) ، «سخرناها لهم». (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ) أي ما يركبون وهي الإبل (وَمِنْها يَأْكُلُونَ) من لحمانها (٣).

قوله : «ركوبهم» أي مركوبهم كالحلوب والحصور بمعنى المفعول وهو لا ينقاس (٤). وقرأ أبيّ وعائشة «ركوبتهم» بالتاء وقد عد بعضهم دخول التاء على هذه الزّنة (٥) شاذا وجعلها الزمخشري في قول بعضهم جمعا يعني اسم جمع (٦) وإلا فلم يرد في أبنية التكسير هذه الزنة. وقد عد ابن مالك أيضا أبنية أسماء الجموع فلم يذكر فيها فعولة (٧) ، وقرأ الحسن وأبو البرهسم والأعمش ركوبهم بضم الراء (٨) ، ولا بدّ من حذف مضاف إما من الأول أي فمن منافعها ركوبهم وإما من الثاني أي ذو (٩) ركوبهم. قال ابن خالويه العرب تقول : ناقة حلوب ركوب وركوبة حلوبة وركباة حلباة وركبوت حلبوت وركبى حلبى وركبوتا (حلبوتا) (١٠) وركبانة حلبانة وأنشد :

٤١٨٨ ـ ركبانة حلبانة زفوف

تخلط بين وبر وصوف (١١)

__________________

(١) الرازي ٢٦ / ١٠٦.

(٢) البغوي ٦ / ١٦.

(٣) في ب لحماتها.

(٤) وإنما ينقاس فعيل بمعنى الفاعل أو المفعول.

(٥) ذكر هذه القراءة ابن جني في المحتسب ٢ / ٢١٦ وابن خالويه ١٢٦ ومعاني الفراء ٢ / ٣٨١ والكشاف ٣ / ٣٣٠ والبيان ٢ / ٣٠١ وسبب شذوذها أن فعيلا مما يستوي فيه المذكر والمؤنث فنقول ركوب في النوعين.

(٦) الكشاف ٣ / ٣٣٠.

(٧) في ب فعول. تحريف. وانظر : التسهيل ٢٦٧ : ٢٨٠. وقد جوز الزمخشري وأبو حيان في البحر ٧ / ٣٤٧ الإفراد واسم الجمع معا.

(٨) معاني الفراء ٢ / ٣٨١ والكشاف ٣ / ٣٣٠ والمحتسب ٢ / ٢١٦ ومختصر ابن خالويه ١٢٦.

(٩) قاله في الكشاف ٣ / ٣٣٠.

(١٠) سقط من ب. وانظر مختصر ابن خالويه ١٢٦ واللسان : «ح ل ب» ٩٥٦ : ٩٦٠ و «ر ك ب» ١٧١٢ :

١٧١٥ وكذلك القاموس ١ / ٥٩ و ٧٨ و ٧٩.

(١١) رجز مجهول قائله وقبله : أكرم لنا بناقة ألوف ... ويروى صفوف بدل زفوف. وهي التي تصف ـ

٢٦٢

فصل

لما بين الركوب والأكل ذكر غير ذلك فقال : (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ) فالمراد بالمنافع أصوافها وأوبارها وأشعارها ونسلها وبالمشارب ألبانها ، والمشارب جمع مشرب بالفتح مصدرا (١) ومكانا(٢). ثم قال : (أَفَلا يَشْكُرُونَ) ربّ هذه النعم (وَ (٣) اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) إشارة إلى بيان زيادة ضلالهم لأنه كان الواجب عليهم عبادة الله شكرا لأنعمه فتركوها ، وأقبلوا على عبادة من لا يضر ولا ينفع (لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) أي ليمنعهم من عذاب الله ولا يكون ذلك (٣) ، والضمير في قوله : (لا يَسْتَطِيعُونَ) إما للآلهة وإما لعابديها وكذلك الضمائر بعده (٤). قال ابن عباس : لا تقدر (٥) الأصنام على نصرهم ومنعهم من العذاب (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) أي الكفار جند للأصنام (٦) فيغضبون لها ويحضرونها في الدنيا وهي لا تسوق لهم خيرا ولا تستطيع لهم نصرا ، وقيل : هذا في الآخرة يؤتى بكل معبود من دون الله ومعه أتباعه الذين عبدوه كأنهم جند (ه) (٧) يحضرون (٨)(٩) في النار. وهذا إشارة إلى الحشر بعد تقرير التوحيد. وهذا كقوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨] وقوله : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِفَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ٢٢ ـ ٢٣].

قوله : (فَلا يَحْزُنْكَ) قد تقدم قراءة «يحزن» و «يحزن». «قولهم» يعني قول الكفار في تكذيبك وهذا إشارة إلى الرسالة لأن الخطاب معه بما يوجب تسلية قلبه (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) ما يسرون في ضمائرهم وما يعلنون من عبادة الأصنام أو ما يعلنون بألسنتهم من الأذى.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى

__________________

ـ الأقداح من كثرة لبنها. وجيء بالبيت حتى يقول : إن ركبانه وحلبانه مما تكلمت به العرب بمعنى الكثيرة الحلب والصالحة للركوب.

(١) ميميا من الفعل الثلاثي.

(٢) في ب أي مكانها وهو جائز.

(٣) اسم مكان أيضا من الثلاثي وانظر : البحر ٧ / ٣٤٧ والدر ٤ / ٥٣٤ والكشاف ٣ / ٣٣٠.

(٤) الرازي ٢٦ / ١٠٦ ومعالم التنزيل ٦ / ١٦.

(٥) البحر والدر والكشاف السابقة.

(٦) في ب يقدر بالتذكير.

(٧) في ب جند الأصنام.

(٨) زيادة من أ.

(٩) في ب محضرون.

٢٦٣

وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٨٣)

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) لما ذكر دليلا من الآفاق على وجوب عبادته بقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً)(١) ذكر دليلا من الأنفس فقال : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ ،) قيل : المراد بالإنسان أبيّ بن (٢) خلف الجمحيّ خاصم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في إنكار البعث وأتاه بعظم قد بلي ففتته بيده وقال : أترى يحيي الله هذا العظم بعد ما رمّ فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : نعم ويبعثك ويدخلك النار. فأنزل الله هذه الآيات قال ابن الخطيب : وقد ثبت في أصول الفقه أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ألا ترى قوله تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) [المجادلة : ١] نزلت في واحدة وأراد الحكم في الكل فكذلك كل إنسان ينكر الله أو الحشر هذه الآية ردّ عليه وقوله : (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) أي جدل بالباطل «مبين» بيّن الخصومة. وفي (هذه) الآية لطيفة وهي أن اختلاف صور أعضائه (٣) مع تشابه أجزاء النطفة آية ظاهرة ومع ذلك فهناك ما هو أظهر ، وهو نطقه وفهمه لأن النطفة جسم فهب أن جاهلا يقول إنه استحال جسما آخر لكن القوة الناطقة ، والقوة الفاهمة من أين تقتضيهما النطفة فإبداع النطق والفهم أعجب وأغرب من إبداع الخلق والجسم وهو (إلى) (٤) إدراك القوة والاختيار منه أقرب فقوله : «خصيم» أي ناطق ، وإنما ذكر الخصيم مكان الناطق لأنه أعلى أحوال الناطق فإن الناطق مع نفسه لا يبين كلامه مثل ما يبينه وهو يتكلم مع غيره والمتكلم مع غيره إذا لم يكن خصما لا يبين ولا يجتهد مثل ما يجتهد إذا كان كلامه مع (٥) خصمه.

قوله (تعالى) (٦) : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ) قرأ زيد بن علي : (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) بزنة اسم الفاعل (٧).

فصل

المعنى : (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) أي بدء أمره (٨)(قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) قيل :

__________________

(١) في ب بدل هذه الآية قوله : «أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ» وهو غير مقصود.

(٢) رواه العوفي عن ابن عباس زاد المسير ٧ / ٤١. وهو قول مجاهد وقتادة والجمهور والمفسرين. ومن قائل : إنه عبد الله بن أبي ابن سلول. ومن قائل : إنه العاص بن وائل السّهميّ. المرجع السابق.

(٣) في ب الأعضاء.

(٤) سقط من ب.

(٥) وانظر هذا كله في تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٦ / ١٠٧ و ١٠٨.

(٦) سقط من أالأصل.

(٧) وهو الله ـ عزت جلالته ـ أوردها أبو حيان في بحره ٧ / ٣٤٨ وهي قراءة ابن السّميقع أيضا. انظر : شواذ القرآن ٢٠٤ والدر المصون ٤ / ٥٣٤.

(٨) قاله البغوي ٦ / ١٧.

٢٦٤

فعيل بمعنى فاعل (١) ، وقيل : مفعول (٢) فعلى الأول عدم التاء غير مقيس (٣). وقال الزمخشري : الرّميم اسم لما بلي من العظام غير صفة كالرّمّة والرفات فلا يقال : لم لم يؤنث وقد وقع خبرا لمؤنث ولا هو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول (٤) وقال البغوي ولم يقل : رميمة لأنه معدول من فاعلة فكل ما كان معدولا عن وجهه ووزنه كان مصروفا عن إعرابه (٥) كقوله : (وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) [مريم : ٢٨] أسقط الهاء لأنها مصروفة عن «باغية».

فصل

هذه الآية وما بعدها إشارة إلى بيان الحشر ، واعلم أن المنكرين للحشر منهم من لم يذكر فيه دليلا ولا شبهة بل اكتفى بمجرد الاستبعاد وهم الأكثرون كقولهم : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [السجدة : ١٠] (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [المؤمنون: ٨٢] (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) على طريق الاستبعاد ، فأبطل استبعادهم بقوله : (نَسِيَ خَلْقَهُ) أي نسي أنا خلقناه من تراب ومن نطفة (٦) متشابهة (الأجزاء) (٧) ، ثم جعلنا لهم من النّواصي إلى الأقدام أعضاء مختلفة الصّورة (٨) ، وما اكتفينا بذلك حتى أودعناهم ما ليس من قبيل هذه الأجرام وهو النطق والعقل اللذي (ن) (٩) بهما استحقوا الإكرام فإن كانوا يقنعون (١٠) بمجرد الاستبعاد فهلا يستبعدون خلق الناطق العاقل من نطفة قذرة لم تكن محلّا للحياة أصلا ويستبعدون إعادة النطق والعقل إلى محل كانا فيه. واختاروا العظم بالذكر لأنه أبعد عن الحياة (١١) لعدم الإحساس فيه ووصفوه بما يقوي جانب الاستبعاد من البلى والتّفتّت. والله تعالى دفع استبعادهم من جهة ما في العبد من القدرة والعلم فقال : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً) أي جعل قدرتنا كقدرتهم (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) العجيب وبدأه الغريب. ومنهم من ذكر شبهة وإن في آخرها يعود إلى مجرد الاستبعاد وهي على وجهين :

الأول : أنه بعد العدم لن يبقى شيء فكيف يصح على العدم الحكم بالوجود؟!

__________________

(١) وهو قول القرطبي في الجامع ١٥ / ٥٨ والبغوي في معالم التنزيل ٦ / ١٧ ونقله السمين في الدر المصون ٤ / ٥٣٤ وهو أحد قولي أبي البقاء في التبيان ١٠٨٦.

(٢) الوجه الآخر من قول العكبري انظر : المرجع السابق.

(٣) انظر : التبيان ٩٨ و ٩٩.

(٤) الكشاف ٣ / ٣٣١. فجعله اسما.

(٥) البغوي ٦ / ١٧ وفيه أخواته بدل إعرابه وانظر : القرطبي ١٥ / ٥٨.

(٦) في ب خلقه وانظر : الرازي ٢٦ / ١٠٨ و ١٠٩.

(٧) سقط من ب.

(٨) في ب والرازي الصور جمعا.

(٩) زيادة على النسختين والرازي.

(١٠) كذا في الرازي وفي ب. وما في أيضعون.

(١١) كذا هنا في أوفي الرازي وما في ب : من.

٢٦٥

فأجاب الله عن هذه الشبهة بقوله تعالى : (الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) يعني كما خلق الإنسان ولم يكن(١) شيئا مذكورا كذلك يعيده وإن لم يبق شيئا مذكورا.

الثاني : أن من تفرّقت أجزاؤه في مشارق الأرض ومغاربها وصار بعضه (٢) في أبدان السّباع ، وبعضه (٣) في حواصل الطيور وبعض (٤) في جدران الرباع كيف يجتمع؟ وأبعد من هذا : لو أكل الإنسان (٥) إنسانا وصار أجزاء المأكول في أجزاء الآكل (فإن أعيدت (٦) أجزاء الآكل) فلا يبقى للمأكول أجزاء تتخلق منها أعضاء (٧) وإما أن تعاد إلى بدن المأكول فلا يبقى للآكل أجزاء. فأبطل الله تعالى هذه الشبهة بقوله : (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ). ووجهه : أن في الأكل أجزاء أصلية وأجزاء فضلية وفي المأكول كذلك فإذا أكل إنسان (٨) إنسانا صار الأصلي من أجزاء المأكول فضليا من أجزاء الآكل والأجزاء الأصلية للآكل هي ما كان قبل الأكل فالله بكل خلق عليم يعلم الأصل من الفضل فيجمع الأجزاء الأصلية للآكل ويجمع الأجزاء الأصلية للمأكول وينفخ فيه روحا وكذلك يجمع أجزاءه المتفرقة في البقاع المتبددة بحكمته وقدرته (٩).

ثم إنه تعالى عاد إلى تقرير ما تقدم من دفع استبعادهم وإبطال إنكارهم فقال : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً) هذه قراءة العامة ، وقرىء الخضراء (١٠) اعتبارا بالمعنى ، وقد تقدم أنه يجوز تذكير اسم الجنس وتأنيثه قال تعالى : (نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) [القمر : ٢٠] (نَخْلٍ خاوِيَةٍ)(١١) [الحاقة : ٧] ، وتقدم أن بني تميم ونجد يذكّرونه ، والحجاز (١٢) يؤنثونه إلا ألفاظا استثنيت (١٣).

__________________

(١) في ب لم يك وما هنا هو ما يوافق الرازي.

(٢) كذا في الرازي وفي ب بعضها.

(٣ و ٤) كذلك.

(٣ و ٤) كذلك.

(٥) في ب إنسان وإنسانا وفي الرازي : هو أنّ إنسانا إذا أكل إنسانا.

(٦) سقط من ب.

(٧) في ب أعضاؤه وهي موافقة للرازي.

(٨) كذا في الرازي وما في ب الإنسان إنسانا.

(٩) انظر تفسير الرازي ٢٦ / ١٠٩.

(١٠) أوردها أبو حيان في بحره ٧ / ٤٣٨ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٣٢ والسمين في الدر ٤ / ٥٣٤ ولم ينسبها أي منهم.

(١١) ولقد ذكّر القرآن الكريم وأنث ما رجع إليهما أي النخل. وهو اسم الجنس فالتذكير نظرا للفظ والتأنيث نظرا للمعنى.

(١٢) في ب والحجازيون.

(١٣) كماء وتراب. والغالب في اسم الجنس أن يكون مذكرا إذا كان مجردا من التاء ومن ذلك : «الْكَلِمُ الطَّيِّبُ يَرْفَعُهُ» «كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ». وانظر : شرح الشافية ٢ / ١٩٣ و ١٩٤ والتبيان ١٦٦ : ١٦٨.

٢٦٦

فصل

قال ابن (١) عباس : هما شجرتان يقال لإحداهما المرخ (٢) وللأخرى العفار (٣) فمن أراد منهما النار قطع منهما غصنين مثل السواكين وهما خضراوان يقطران الماء فيسحق المرخ على العفار فيخرج منهما النار بإذن الله تعالى. وتقول العرب : في كلّ شجر نار واستمجد (٤) المرخ العفار. وقالت الحكماء : في كل شجرنا إلا العنّاب (٥).

قوله : (فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) أي تقدحون وتوقدون النار من ذلك الشجر ، ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان فقال (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) هذه قراءة العامة ودخلت الباء زائدة على اسم الفاعل ، والجحدريّ وابن أبي إسحاق والأعرج (٦) «يقدر» فعلا مضارعا (٧) ، والضمير في مثلهم قيل : عائد على الناس لأنهم هم المخاطبون وقيل : على السموات والأرض لتضمنهم من يعقل (٨) ، ثم قال : «بلى» (أي (٩) قل بلى) هو قادر على ذلك (وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) (يخلق خلقا بعد (١٠) خلق) العليم بجميع ما خلق و «بلى» جواب «لليس» وإن دخل عليها الاستفهام لتصييرها إيجابا (١١) ، والعامة (١٢) على «الخلّاق» صيغة مبالغة ، والجحدريّ والحسن ومالك بن دينار (١٣) «الخالق» اسم فاعل (١٤).

__________________

(١) ذكره الخازن في لباب التأويل ٦ / ١٧ وكذلك البغوي في معالم التنزيل ٦ / ١٧.

(٢) من شجر النار معروف وهو شجر كثير الوري سريعه.

(٣) وهو شجر أيضا يتخذ منه الزّناد. والمرخ والعفار شجرتان فيهما نار ليس في غيرهما. وانظر : اللسان عفر ٣٠١٢ ومرخ ٤١٧١.

(٤) هذا مثل قالته العرب عن هاتين الشجرتين. انظر اللسان المرجع السابق ومعالم التنزيل ولباب التأويل للبغوي والخازن المرجعين السابقين. واستمجد المرخ والعفار استكثرا وأخذا من النار ما هو بحسبهما. وهو مثل يضرب في تفضيل بعض الشيء على بعض ، انظر : الجامع للقرطبي أيضا ١٥ / ٥٩ و ٦٠.

(٥) البغوي والخازن المرجعان السابقان. وقال في اللسان : العنّاب النبكة الطويلة في السماء الفاردة المحددة الرأس يكون أسود وأحمر وعلى كل لون يكون والغالب عليه السّمرة وهو جبل طويل في السماء لا ينبت شيئا. وانظر اللسان «ع ن ب» ٣١١٩.

(٦) حميد بن قيس الأعرج أبو صفوان المكي القارىء. روى عن سفيان بن عيينة وغيره. مات سنة ١٣٠ ه‍ ، انظر : غاية النهاية ١ / ٢٦٥.

(٧) من الشواذ انظرها في المختصر ١٢٦ والإتحاف ٣٦٧ وانظر : الكشاف ٣ / ٣٣٢ وزاد المسير ٧ / ٤٢ وهي قراءة أبي بكر الصديق أيضا.

(٨) البحر المحيط ٧ / ٣٤٨ والدر المصون ٤ / ٥٣٥.

(٩) سقط من ب.

(١٠) كذلك.

(١١) فعند الإثبات تقول : بلى وعند النفي في غير القرآن تقول : نعم لا.

(١٢) في ب : والعائد. لحن وتحريف.

(١٣) السامي الناجي مولاهم أبو يحيى الزاهد الواعظ أحد الأعلام عن أنس وابن جبير وعطاء وعنه عاصم الأحول وثّقه النسائي. انظر : غاية النهاية ٢ / ٣٦ وخلاصة الكمال ٣٦٧.

(١٤) من الأربع فوق العشرة. ابن خالويه ١٢٦ والإتحاف ٣٦٧.

٢٦٧

قوله : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). تقدم الخلاف في «فيكون» نصبا ورفعا وتوجيه ذلك في البقرة (١).

قوله : (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) قرأ طلحة والأعمش (٢) ملكة بزنة شجرة. وقرىء مملكة بزنة مفعلة وقرىء ملك (٣). والملكوت أبلغ الجميع ، والعامة على «ترجعون» مبنيا للمفعول ، وزيد بن عليّ مبنيّا للفاعل (٤) وتقدم الكلام على قوله «سبحان» (٥) والتسبيح التنزيه ، والملكوت مبالغة في الملك كالرّحموت (٦) ، والرّهبوت ، وهو فعلول أو فعلوت فيه (٧) كلام ، قال ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ : «اقرءوا على موتاكم يس» (٨). وقال عليه (الصلاة) والسلام : «لكلّ شيء قلب ، وإنّ قلب القرآن سورة يس ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرّات» (٩) ، وعن عائشة قالت : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : إنّ في القرآن سورة تشفع لقارئها ويغفر لمستمعها ألا وهي سورة يس (١٠) وعن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يس تدعى المعمّة قيل : يا رسول الله : وما المعمّة؟ قال : تعمّ صاحبها خير الدّنيا والآخرة وتدعى

__________________

(١) عند قوله : «وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ» ١٩٣ قرأ بالنصب ابن عامر والكسائي على جواب لفظ والباقون بالرفع خبر لمبتدأ محذوف فهو. وانظر : الإتحاف ٣٦٧ والسبعة ٥٤٤ ، وابن خالويه ٣٠٠.

(٢) الكشاف ٣ / ٣٣٢ والمحتسب ٢ / ٢١٧ وهي من الأربع فوق العشرة المتواترة. وانظر : الإتحاف ٣٦٧ وذكرها ابن خالويه بالهاء «ملكه» وكلها بمعنى واحد.

(٣) البحر ٧ / ٣٤٩ والكشاف ٣ / ٣٣٢ والدر المصون ٤ / ٥٣٥.

(٤) إحدى القراءات العشرية المتواترة انظر : المراجع السابقة والإتحاف ٣٦٧ ، والنشر ٢ / ٣٥٥ و ٣٥٦ وهي قراءة يعقوب أيضا.

(٥) تكررت هذه اللفظة كثيرا في القرآن فلقد سبقت في يوسف ١٠٨ و ١ من الإسراء و ٩٣ منها و ١٠٨ منها أيضا و ٢٢ من الأنبياء و ٩١ من المؤمنون و ٨ من النمل و ٦٨ من القصص و ١٧ من الروم و ٣٦ من نفس السورة ولعله يقصد الإعراب الذي في الآية الأخيرة من نفس السورة عموما فهو علم للتسبيح كعثمان للرجل وانتصابه بفعل مضمر متروك إظهاره تقديره أسبّح الله سبحان ، ثم نزل سبحان منزلة الفعل فسدّ مسدّه ودل علس التنزيه البليغ من جميع القبائح.

(٦) في كلتا النسختين كالرحمن. تحريف وخطأ ، فسياق الكلام والقرآن يشير إلى ما صححت أعلى وهو الرّحموت.

(٧) نقل السيوطي في المزهر عن ابن دريد قوله : «لم يجىء على فعلوت إلا ملكوت وجبروت ورحموت من الرّحمة ورهبوت من الرهبة وعظموت من العظمة وسلبوت من السّلب وناقة تربوت لا تنفر وحلبوت وركبوت تصلح للحلب والركب ورجل خلبوت خداع مكار». وزاد الفارابي ثلبوت أرض.

انظر : المزهر ٢ / ٦٨.

(٨) رواه معقل بن يسار. انظر : القرطبي ١٥ / ١ وابن كثير ٣ / ٥٦٣.

(٩) القرطبي ١٥ / ١ عن أنس رضي الله عنه وكذلك أخرجه البغوي في معالم التنزيل ٦ / ٢.

(١٠) أورده الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٣٣.

٢٦٨

الدافعة القاضية تدفع عنه كلّ سوء وتقضي له كلّ حاجة ، ومن قرأها عدلت له عشرين حجّة ومن سمعها كان له ألف دينار في سبيل الله ومن كتبها وشربها أدخلت جوفه ألف دواء وألف يقين وألف رأفة ونزع منه كلّ داء وغلّ (١) ، وعن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من قرأ يس يريد بها وجه ـ عزوجل ـ غفر الله له وأعطي من الأجر كأنّما قرأ القرآن اثنتي عشرة مرّة ، وأيّما مريض قرىء عنده سورة يس نزل عليه بقدر (٢) كلّ حرف عشرة أملاك ، يقومون بين يديه صفوفا فيصلّون عليه ويستغفرون عليه ويشهدون قبضه وغسله ويتّبعون جنازته ويصلّون عليه ويشهدون دفنه وأيّما مريض قرأ سورة يس وهو في سكرات الموت لم يقبض ملك الموت روحه حتّى يجيئه رضوان خازن الجنان بشربة من الجنّة فيشربها وهو على فراشه فيموت وهو ريّان ويبعث وهو ريّان ، ويحاسب وهو ريّان ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء ، حتّى يدخل الجنّة وهو ريّان (٣) ، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «من قرأ سورة يس في ليلة أصبح مغفورا له» (٤). وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفّف عنهم يومئذ وكان له بعدد من فيها حسنات (٥). وعن يحيى بن أبي كثير قال : بلغنا أنه «من قرأ يس حين يصبح لم يزل في فرح حتّى يمسي ومن قرأها حين يمسي لم يزل في فرح حتّى يصبح» (٦).

__________________

(١) أخرجه الشوكاني في فتح القدير ٤ / ٣٥٨ عن ابن الضريس وابن مردويه والخطيب والبيهقي عن أبي بكر. وقد ذكره الثعلبي من حديث عائشة تكملة للحديث الأسبق قريبا. بينما أخرجه التّرمذي الحكيم في نوادر الأصول عن أبي بكر وانظر : القرطبي ١٥ / ٢.

(٢) في ب بعدد.

(٣) حكم صاحب السراج المنير ٣ / ٣٦٨ بأن هذا الحديث موضوع وانظر : البيضاوي ٢ / ١٥٤ ، تبعا للزمخشري ٣ / ٣٣٢ ومجمع البيان ٨ / ٦٤٦.

(٤) الحديث رواه السيوطي في جامع الأحاديث ٩ / ٣٥٧. وقد أخرجه ابن حبان والضياء عن جندب بن عبد الله. كما أخرجه الطبراني في الأوسط. انظر : فتح القدير ٤ / ٣٥٨ والسراج المنير ٣ / ٣٦٨ والقرطبي ١٥ / ١ و ٣.

(٥) السابق وانظر : مجمع البيان ٨ / ٦٤٦ والسراج المنير ٣ / ٣٦٨.

(٦) قال شهر بن حوشب : إن هذا قول ابن عباس ، القرطبي ١٥ / ٢.

٢٦٩

سورة «الصافات»

مكية (١). وهي مائة واثنتان وثمانون آية ، وثمانمائة وستون كلمة ، وثلاثة آلاف وثمانمائة وستة وعشرون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ)(٥)

قوله تعالى : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) قرأ أبو عمرو وحمزة بإدغام التاء من «الصّافّات» و «الزّاجرات» و «التّاليات» في صاد «صفا» وزاي «زجرا» وذال «ذكرا» ، وكذلك فعلا في (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) [الذاريات : ١] وفي (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) [المرسلات : ٥] ، وفي (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً)(٢) [العاديات : ١] بخلاف عن خلّاد (٣) في الأخيرين وأبو عمرو جار على أصله في إدغام المتقاربين كما هو المعروف من أصله ، وحمزة خارج عن أصله. والفرق بين مذهبيهما أن أبا عمرو يجيز الروم وحمزة لا يجيزه وهذا كما اتفقا في إدغام (بَيَّتَ طائِفَةٌ) [النساء : ٨١] وإن كان ليس من أصل حمزة إدغام مثله (٤). وقرأ الباقون بإظهار جميع ذلك (٥).

قال الواحدي (٦) : إدغام التاء في الصاد حسن لمقاربة الحرفين ، ألا ترى أنهما من

__________________

(١) في قول الجميع قرره القرطبي ١٥ / ٦١ وابن الجوزي في زاد المسير ٧ / ٤٤ ، والبغوي في معالم التنزيل ٦ / ١٧.

(٢) وهي من القراءات المتواترة. انظر : النشر ٢ / ٣٥٦ وابن خالويه في حجته ٣٠٠ والسبعة ٥٤٦ وإبراز المعاني ٦٦٢ والفراء ٢ / ٣٨٢ والقرطبي ١٥ / ٦٦ والرازي ٢٦ / ١١٤ وتقريب النشر ١٦٦ والإتحاف ٣٦٧.

(٣) تقدم.

(٤) وقال بكل هذا الإمام شهاب الدين السمين ٤ / ٥٣٦ وانظر : البحر ٧ / ٣٥٢ وقد أخبر أن الإدغام أيضا قراءة ابن مسعود والأعمش ومسروق.

(٥) المراجع السابقة.

(٦) هو علي بن أحمد بن محمد بن علي الإمام أبو الحسن إمام مصنف مفسر نحوي ، أستاذ عصره وواحد دهره أنفق شبابه في التحصيل ، فأتقن الأصول على الأئمة وطاف على أعلام الأمة من مصنفاته البسيط والوسيط والوجيز في التفسير مات سنة ٤٦٨ ه‍ انظر : البغية ١ / ١٤٥.

٢٧٠

طرف اللسان وأصول الثنايا يسمعان في الهمس والمدغم فيه يزيد على المدغم بالإطباق والصّفير وإدغام الأنقص في الأزيد حسن ولا يجوز أن يدغم الأزيد صوتا في الأنقص. وأيضا إدغام التاء في الزاي في قوله : (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) حسن لأن التاء مهموسة والزاي مجهورة وفيها زيادة صفير كما كان في الصاد. وأيضا حسن إدغام التاء في الذال في قوله : (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) لاتفاقهما في أنهما من طرف اللسان وأصول الثنايا. وأما من قرأ بالإظهار فلاختلاف المخارج (١) ومفعول (٢) «الصّافّات» «والزّاجرات» غير مراد إذ المعنى الفاعلات لذلك (٣). وأعرب أبو البقاء «صفّا» مفعولا به على أنه قد يقع على المصفوف (٤). وهذا ضعيف (٥) ، وقيل : هو مراد والمعنى والصافات أنفسها وهم الملائكة (٦) ، أو المجاهدون أو المصلون أو الصافات أجنحتها وهي الطير ، كقوله (٧) : (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) [النور : ٤١] والزاجرات : السحاب أو العصاة إن أريد بهم العلماء (٨) ، والزجر الدفع بقوة وهو قوة التصويت وأنشد :

٤١٨٩ ـ زجر أبي عروة السّباع إذا

أشفق أن يختلطن بالغنم (٩)

وزجرت الإبل والغنم إذا فزعت من صوتك (١٠). وأما «والتّاليات» فيجوز أن يكون «ذكرا» مفعوله (١١) ، والمراد بالذكر القرآن وغيره من تسبيح وتحميد ، ويجوز أن يكون «ذكرا» مصدرا أيضا من معنى التّاليات ، وهذا أوفق لما قبله (١٢). قال الزمخشري : الفاء في «فالزاجرات» (وفي) فالتاليات إما أن تدل على ترتيب معانيها في الوجود كقوله (١٣) :

__________________

(١) قاله في البسيط ونقله عنه الإمام الفخر الرازي في تفسيره ٢٦ / ١١٤.

(٢) في ب : والمفعول بألف ولام وهو غير جائز نحويا.

(٣) قاله السمين في الدر ٤ / ٥٣٦.

(٤) التبيان له ١٠٨٧.

(٥) هذا قول السمين في الرد على أبي البقاء ولا أعلم سببا لضعفه.

(٦) انظر : القرطبي ١٥ / ٦١ ٦٢ وزاد المسير ٧ / ٤٤.

(٧) في ب : لقوله.

(٨) الكشاف ٣ / ٣٣٣ و ٣٣٤ وانظر : المرجعين السابقين أيضا والدر المصون ٤ / ٥٣٦.

(٩) من المنسرح وهو للنابغة الجعدي وأتى به تبيينا على أن الزجر هو الصوت بقوة وذلك لأن زجر الضواري لا يكون إلا برفع الصوت بصورة تخيفها. وانظر : الكشاف ٣ / ٣٣٨ والبحر ٧ / ٣٥٠ والكامل للمبرد ٢ / ١٦٥ والدر المصون ٤ / ٥٣٧ وشرح شواهد الكشاف ٥٣٨ ، وديوانه ١٥٨ وفتح القدير ٤ / ٣٨٦.

(١٠) اللسان : «ز ج ر» ١٨١٣ وفي الديوان «يلتبس».

(١١) أي مفعول «التاليات» لأنه وصف يعمل عمل الفعل فهو اسم فاعل والفاعل مستتر فيه «هي». وانظر في الإعراب السمين ٤ / ٥٣٧.

(١٢) المرجع السابق فيكون منصوبا على أنه مفعول مطلق و «ذكرا» على تلك الحال مما ناب عنه فاللفظ مختلف والمعنى متحد.

(١٣) من السريع وهو لابن زيابة. و «لهف» منادى وهي كلمة تحسر. و «زيابة» أم الشاعر. والصابح : الذي ـ

٢٧١

٤١٩٠ ـ يا لهف زيّابة للحارث الص

صابح فالغانم فالآيب

أي الذي صبح فغنم فآب ، وإما على ترتبها (١) في التفاوت من بعض الوجوه كقولك : خذ الأفضل فالأكمل واعمل الأحسن فالأجمل ، وإما على ترتب (٢) موصوفاتها في ذلك كقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : «رحم الله المحلّقين فالمقصّرين» (٣) فأما هنا فإن وجدت الموصوف كانت للدلالة على ترتب الصفات في التفاضل ، فإذا كان الموحد الملائكة فيكون الفضل للصف ثم للزجر ، ثم للتلاوة وعلى العكس وإن ثلّثت الموصوف فترتب في الفضل ، فيكون «الصافات» ذوات فضل والزاجرات أفضل (و (٤) التاليات أبهر فضلا أو على العكس يعني بالعكس في الموضعين أنك ترتقي من أفضل) إلى فاضل إلى مفضول أو تبدأ بالأدنى ثم بالفاضل (٥) ثم بالأفضل. والواو في هذه للقسم ، والجواب قوله : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ)(٦).

وقد ذكر الكلام في الواو (و) (٧) الثانية والثالثة هل هي للقسم أو للعطف (٨).

فصل

قال ابن عباس (٩) والحسن وقتادة : والصّافّات صفّا هم الملائكة في السماء يصفون كصفوف الخلق في الدنيا للصلاة وقال ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ : «ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربّهم»؟ قلنا : وكيف تصفّ الملائكة عند ربّهم قال : يتمّون الصّفوف المقدّمة ويتراصّون في الصّفّ (١٠). وقيل : هم الملائكة تصفّ أجنحتها في الهواء واقفة

__________________

ـ يصبح القوم بالغارة ، والغانم الذي يغتنم الأموال ، و «الآيب» الذي يثوب ويعود بها. والشاهد : عطف الكلمات الأخيرة من البيت بالفاء فهي تدل على ترتيبها في الوجود فمن تصبيح لغنم لإياب. وانظر : الخزانة للبغدادي ٥ / ١٠٧ : ١١٣ والكشاف ٣ / ٣٣٤ والجامع للقرطبي ١٥ / ٦٢ والبحر ٧ / ٣٥١ وشرح شواهد الكشاف ٣٢٥ وشرح الكافية للرضي ١ / ٣١٩ والهمع ٢ / ١١٩ والمغني ١٦٣ ، والدر المصون ٤ / ٥٣٧ ، والشجري ٢ / ٢١٠.

(١) في ب : لترتيبها.

(٢) كذلك.

(٣) الكشاف ٣٤ / ٣٣٤ مع تصرف يسير من المؤلف في الألفاظ.

(٤) ما بين القوسين كله سقط من ب.

(٥) قاله من بعد البحر المحيط ٧ / ٣٥١ و ٣٥٢ وانظر في هذا السمين ٤ / ٥٣٧.

(٦) المرجع السابق.

(٧) زيادة من «أ» لا معنى لها.

(٨) ويقصد بالثانية في قوله : «وَرَبُّ الْمَشارِقِ» وبالثالثة : «وحفظا». ويجوز في الثانية هذه أن تكون للعطف على «رَبُّ السَّماواتِ» وأن تكون للقسم ومن هنا نستأنف جملة جديدة. أما الثالثة فالأقرب لها أن تكون للعطف فهي جملة على مثيلتها إذ التقدير : وحفظناها حفظا فتلك جملة والمعطوف عليها «إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ» وهو عطف على المعنى إذ التقدير : إنا خلقنا الكواكب في السماء الدنيا زينة للسماء.

(٩) انظر في هذا زاد المسير لابن الجوزي ٧ / ٤٤ ومعالم التنزيل للبغوي ٦ / ١٧ و ١٨ ولباب التأويل للخازن ٦ / ١٧ و ١٨.

(١٠) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه ٢ / ٢٩ كما أخرجه البغويّ في معالم التنزيل ٦ / ١٨.

٢٧٢

حتى يأمر (ها) الله بما يريد ، وقيل : هي الطير لقوله تعالى (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) يعني الملائكة تزجر السحاب وتسوقه ، وقال قتادة : هي زواجر القرآن تنهى وتزجر عن القبيح (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) هم الملائكة يتلون ذكر الله وقيل : هم جماعة قرّاء القرآن ، وهذا كله قسم ، وقيل: فيه إضمار ، أي وربّ الصّافّات والزاجرات والتاليات (١).

فصل

قال أبو مسلم الأصفهاني (٢) لا يجوز حمل (٣) هذه الألفاظ على الملائكة لأنها مشعرة بالتأنيث والملائكة مبرأون عن هذه الصفة ، وأجيب بوجهين (٤) :

الأول : أن الصافات جمع الجمع فإنه يقال جماعة صافة ، ثم يجمع على صافات.

والثاني : أنهم مبرأون عن التأنيث المعنوي وأما التأنيث اللفظي فلا وكيف وهم يسمون بالملائكة مع أن علامة التأنيث حاصلة.

فصل

اختلف الناس (٥) ههنا في المقسم به على قولين :

أحدهما : أن المقسم به خالق هذه الأشياء لنهيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن الحلف بغير الله تعالى ولأن الحلف في مثل هذا الموضع تعظيم للمحلوف به ، ومثل هذا التعظيم لا يليق إلا بالله تعالى ومما يؤكّد هذا أنه تعالى صرح به في قوله : (وَالسَّماءِ وَما بَناها وَالْأَرْضِ وَما طَحاها وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) [الشمس : ٥ ـ ٧].

الثاني : أن المقسم به هو هذه الأشياء لظاهر اللفظ فالعدول عنه خلاف الدليل وأما قوله تعالى : (وَما بَناها) فإنه علق لفظ القسم بالسماء (٦) ثم عطف عليه القسم بالباء في السماء ولو كان المراد من القسم بالسماء القسم بمن بنى السماء لزم التّكرار في موضع واحد وأنه لا يجوز وأيضا لا يبعد أن تكون (٧) الحكمة في قسم الله تعالى بهذه الأشياء التنبيه (٨) على شرف ذواتها.

__________________

(١) المرجع الأخير السابق.

(٢) محمد بن بحر الأصفهاني كان من أكابر المعتزلة له التفسير على مذهب المعتزلة وغيره من المؤلفات مات سنة ٣٢٢ ه‍ انظر : بغية الوعاة ١ / ٥٩.

(٣) نقله عنه الرازي في التفسير الكبير وأجاب عن اعتراضه. الرازي ٢٦ / ١١٥ و ١١٦.

(٤) السابق.

(٥) لم أعثر على أن المقسم به هو الله إلا في الفخر الرازي ٢٦ / ١١٧ وسائر المراجع التي قلبتها أفادت أن المقسم به هو هذه الأشياء.

(٦) كذا هنا وفي الرازي وما في ب بدل السماء : «بمن بنى».

(٧) في ب : يكون بالتذكير.

(٨) في ب : للتنبيه.

٢٧٣

فإن قيل : ذكر الحلف في هذا الموضع غير لائق وبيانه من وجوه :

الأول : أن المقصود من هذا القسم إما إثبات هذا المطلوب عند المؤمن أو عند الكافر. والأول باطل لأن المؤمن مقرّ به من غير حلف.

والثاني : باطل لأن الكافر لا يقر به سواء حصل الحلف أو لم يحصل فهذا الحلف عديم الفائدة على كلّ تقدير.

الثالث : أنه تعالى أقسم في أول هذه السورة على أن الإله واحد وأقسم في أول سورة الذاريات على أن القيامة حق فقال : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) [الذاريات : ١] إلى قوله : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) [الذاريات : ٥ ، ٦]. وإثبات هذه المطالب العالية الشريفة على المخالفين من الدهرية وأمثالهم بالحلف لا يليق بالعقلاء.

فالجواب : من وجوه :

الأول : (١) أنه قرّر التوحيد وصحة البعث والقيامة في سائر السور بالدلائل اليقينية فلما تقدم ذكر تلك الدلائل لم يبعد تقريرها بذكر القسم تأكيدا لما تقدم لا سيما والقرآن أنزل بلغة العرب وإثبات المطالب بالحلف واليمين طريقة مألوفة عند العرب.

الثاني : أنه تعالى لما أقسم بهذه الأشياء على صحة قوله تعالى : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) ذكر عقيبه ما هو الدليل اليقيني في كون الإله واحدا وهو قوله تعالى : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) وذلك لأنه تعالى بين في قوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] أنّ انتظام أحوال السماوات والأرض يدل على أن الإله واحد فههنا لما قال : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) أردفه : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) كأنه قيل : بيّنّا أن النظر في انتظام هذا العالم يدل على كون الإله واحدا فتأملوا ليحصل لكم العلم بالتوحيد.

الثالث : أن المقصود من هذا الكلام الرد على عبدة الأصنام (٢) في قولهم : بأنها آلهة فكأنه قيل : إن هذا المذهب قد بلغ (٣) في السقوط والرّكاكة إلى حيث يكفي في إبطاله مثل هذه الحجّة.

قوله : (رَبُّ السَّماواتِ) يجوز أن يكون (٤) خبرا ثانيا ، وأن يكون بدلا من «لواحد» (٥) وأن يكون خبر (٦) مبتدأ مضمر ، وجمع المشارق والمغارب باعتبار جميع

__________________

(١) انظر في هذا كله التفسير الكبير للرازي ٢٦ / ١١٧.

(٢) كذا في الرازي وما في ب : الأوثان.

(٣) قاله الرازي في التفسير الكبير ٢٦ / ١١٨.

(٤) الكشاف ٣ / ٣٣٤ والقرطبي ١٥ / ٦٣ والسمين ٤ / ٥٣٨.

(٥) القرطبي والسمين وأبو البقاء ١٠٨٧.

(٦) الكشاف ٣ / ٣٣٤ والمراجع السابقة.

٢٧٤

السنة فإن للشمس ثلثمائة وستين مشرقا وثلثمائة وستين مغربا ، وأما قوله : «المشرقين والمغربين» فباعتبار الصّيف والشّتاء ، وقيل : المراد بالمشارق مشارق الكواكب ، لأن لكل كوكب مشرقا ومغربا ، (وقيل (١) : كل موضع شرقت عليه الشمس فهو مشرق وكل موضع غربت عليه الشمس فهو مغرب كأنه أراد رب جميع ما شرقت عليه الشمس وغربت) (٢).

فإن قيل : لم اكتفى بذكر المشارق؟.

فالجواب : من وجهين :

الأول : أراد المشارق والمغارب كما قال في موضع آخر : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) [المعارج : ٤٠] وأنه اكتفى بذكر المشارق كقوله : (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١].

والثاني : أن الشروق قوى حالا من الغروب وأكثر نفعا من الغروب فذكر المشرق بينهما على كثرة إحسان الله تعالى (٣) على عباده. ولهذه الدقيقة استدل إبراهيم ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ بالمشرق فقال : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ) [البقرة : ٢٥٨].

فصل

دلّ قوله تعالى : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) على كونه تعالى خالقا لأعمال العباد ، لأن أعمال العباد موجودة فيما بين السموات والأرض وهذه الآية دلت على أن كل ما حصل بين السموات والأرض فالله ربه ومالكه وهذا يدل على أن فعل العبد حصل بخلق الله.

فإن قيل : الأعراض لا يصح وصفها بأنها حصلت بين السموات والأرض لأن هذا الوصف إنما يكون حاصلا في حيّز وجهة والأعراض ليست كذلك.

قلنا : إنها لما كانت حاصلة في الأجسام الحاصلة بين السماء والأرض فهي أيضا حاصلة بين السموات (٤) والأرض.

قوله تعالى : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ)(١١)

قوله : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) قرأ عاصم برواية أبي بكر : «بزينة» منونة ونصب «الكواكب» (٥) وفيه وجهان :

__________________

(١) ما بين الأقواس سقط من ب.

(٢) انظر البغوي ٦ / ١٨.

(٣) انظر الرازي ٢٦ / ١١٨.

(٤) نقله الإمام الرازي في التفسير الكبير ١١٨ و ١١٩ ج ٢٦.

(٥) من القراءات السبعية المتواترة نقلها صاحب النشر ٢ / ٣٥٦ وكذلك الإمام ابن خالويه في الحجة ٣٠٠ ـ

٢٧٥

أحدهما : أن تكون الزينة مصدرا (١) ، وفاعله محذوف بأن زين الله الكواكب في كونها مضيئة حسنة في أنفسها.

والثاني : أن الزينة اسم لما يزان به كاللّيقة (٢) اسم لما يلاق به الدّواة فتكون الكواكب على هذا منصوبة بإضمار أعني أو يكون بدلا من (ال) سّماء الدّنيا بدل اشتمال أي كواكبها أو من محل (٣) «بزينة» وحمزة وحفص كذلك (٤) إلا أنهما خفضا الكواكب على أن يراد بزينة ما يزان به ، والكواكب بدل أو بيان (٥) للزينة وهي قراءة مسروق بن الأجدع. قال الفراء : وهو رد معرفة على نكرة كقوله : (بِالنَّاصِيَةِ. ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ) فرد نكرة على معرفة (٦) ، وقال الزجاج : الكواكب بدل من الزينة (٧) لأنها هي كقولك : «مررت بأبي عبد الله زيد». والباقون (٨) بإضافة زينة إلى الكواكب. وهي تحتمل ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون إضافة أعم إلى أخص فتكون للبيان نحو : ثوب خزّ.

الثاني : أنها مصدر مضاف لفاعله أي بأن زيّنت الكواكب السّماء بضوئها.

والثالث : أنه مضاف لمفعوله أي بأن زينها الله بأن جعلها مشرقة مضيئة في نفسها (٩) ، وقرأ ابن عباس وابن مسعود بتنوينها وبرفع الكواكب (١٠) فإن جعلتها مصدرا

__________________

ـ ومكي في الكشف ٢ / ٢٢١ والإتحاف ٣٦٧ والسبعة ٥٤٦ وانظر البحر ٧ / ٣٥٢ والسمين ٤ / ٥٣٨.

(١) قاله النحاس في الإعراب ٤ / ٤١٠ ومكي في المشكل ٢ / ٢٣٣ وابن الأنباري في البيان ٢ / ٣٠٢ وأبو البقاء في التبيان ١٠٨٧ وأبو حيان في البحر ٧ / ٣٥٢ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٣٥ والزجاج في المعاني ٤ / ٢٩٨ والسمين في الدر ٤ / ٥٣٨.

(٢) يقال : لاق الدّواة وألاقها ليقا وإلاقة لزق المداد بصوفها وهي لائق وهي أغرب والاسم الليقة. اللسان (ليق) ٤١١٥.

(٣) البيان والمشكل والتبيان ومعاني الزجاج والإعراب المراجع السابقة وانظر كذلك البحر والسمين المرجعين السابقين.

(٤) مراجع القراءات السابقة.

(٥) معاني القرآن للأخفش ٦٦٨ والكشاف ٣ / ٣٣٥ وانظر أيضا المراجع السابقة.

(٦) قال : «وحدّثني قيس وأبو معاوية عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق أنه قرأ : «بزينة الكواكب» بخفض الكواكب بالتكرير فردّ معرفة على نكرة كما قال : «لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ. ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ» فرد نكرة على معرفة». المعاني ٢ / ٣٨٢ وهو مع ذلك أجاز قراءة النصب السابقة وقراءة الرفع الآتية أقصد نصب ورفع الكواكب.

(٧) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٢٩٨.

(٨) ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي. انظر : مراجع القراءات السابقة وإبراز المعاني ٦٦٣ و ٦٦٤.

(٩) قال بالثلاثة أبو البقاء في التبيان ١٠٨٧ ومكي في المشكل ٢ / ٢٣٣ و ٢٣٤ وأبو حيان في البحر ٧ / ٣٥٢ والسمين في الدر ٤ / ٥٣٨ وبالأولى الزجاج ٤ / ٢٩٨ والنحاس في الإعراب ٣ / ٤١٠ وبالثانية والثالثة الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٣٥.

(١٠) انظر : المراجع السابقة.

٢٧٦

ارتفع الكواكب به ، وإن جعلتها اسما لما يزان به فعلى هذا ترتفع «الكواكب» بإضمار مبتدأ أي هي الكواكب. وهي في قوة البدل (١) ، ومنع الفراء إعمال المصدر المنون وزعم أنه لم يسمع (٢) ، وهو غلط لقوله تعالى : (إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) كما سيأتي إن شاء الله. قوله : «وحفظا» منصوب على المصدر ، بإضمار فعل أي حفظناها حفظا (٣) ، وإما على المفعول من أجله على زيادة الواو (٤) ، والعامل فيه زيّنّا ، أو على أن يكون العامل مقدرا أي لحفظها زيّنّاها أو على الحمل على المعنى المتقدم أي(٥) : إنا خلقنا السماء الدنيا زينة وحفظا ، و (مِنْ كُلِّ) متعلق «بحفظا» إن لم يكن مصدرا مؤكدا(٦) ، وبالمحذوف إن جعل مصدرا مؤكدا (٧) ؛ ويجوز أن يكون صفة «لحفظا» (٨) ، قال المبرد : إذا ذكرت فعلا ثم عطفت عليه مصدر فعل آخر نصبت المصدر لأنه قد دل على فعله كقولك : أفعل وكرامة لما قال أفعل علم أن الأسماء لا تعطف على الأفعال فكان المعنى أفعل ذاك وأكرمك كرامة (٩).

فصل

قال ابن عباس (زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) بضوء (١٠) الكواكب «وحفظناها من كل شيطان مارد» متمرد يرمون بها ، وتقدم الكلام على المارد عند قوله : (مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ)(١١) [التوبة : ١٠١]. واعلم أنه تعالى بين أنه زين السماء لمنفعتين :

إحداهما : تحصيل الزينة.

والثانية : الحفظ من الشيطان المارد.

فإن قيل : ثبت في علم الهيئة أن هذه الكواكب الثوابت مركوزة في الكرة الثامنة وأن السيارات مركوزة في الكرات السّتّة المحيطة بسماء الدنيا فكيف يصح قوله : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ)؟.

__________________

(١) السمين ٤ / ٥٣٨.

(٢) انظر : المعاني ١ / ١٤٥ و ٣١٨ و ٣١٩ و ٣٤٦ و ٤٠٦ و ٣ / ٢٣٤ و ٢٤٩.

(٣) قاله الزجاج ٤ / ٢٩٨ والنحاس ٣ / ٤١١ ومكي في المشكل ٢ / ٢٣٤ والتبيان ١٠٨٨ والأخفش في معانيه ٢ / ٦٦٨.

(٤) قاله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٣٥ معنى وأبو حيان والسمين في كتابيهما لفظا انظر : البحر ٧ / ٣٥٢ والدر ٤ / ٥٣٩ وانظر : المغني لابن هشام في باب العطف على المعنى ٤٧٩.

(٥) المراجع السابقة.

(٦) السمين في الدر ٤ / ٥٣٩.

(٧) أبو البقاء في التبيان ١٠٨٨.

(٨) السمين المرجع السابق.

(٩) قاله في المقتضب. وقد نقله عنه الإمام الرازي ٢٦ / ١٢٠.

(١٠) في ب : وضوء. وانظر : الخازن ٦ / ١٨.

(١١) وأوضح هناك أن المارد هو العاتي. ويقولون مرد على الأمر يمرد مرودا ومرادة فهو مارد ومريد.

وتمرد : أقبل.

٢٧٧

فالجواب : أن الناس الساكنين على سطح كرة الأرض إذا نظروا إلى السماء فإنهم يشاهدو (ن) ها (١) مزينة بهذه الكواكب فصح قوله تعالى : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ). وأيضا فكون هذه الكواكب مركوزة في الفلك الثامن لم يتم دليل الفلاسفة عليه.

فن قيل : هذه الشهب التي يرمى بها هل هي من الكواكب التي زين الله السماء بها أم لا؟ والأول باطل لأن هذه الشهب تبطل وتضمحّل فلو كانت هذه الشهب تلك الكواكب الحقيقية لوجب أن يظهر نقصان كثير في أعداد كواكب السماء ولم يوجد ذلك فإن أعداد كواكب السماء باقية لم تتغير ألبتة وأيضا فجعلها رجوما للشياطين مما يوجب وقوع النقصان في زينة السماء فكان الجمع بين هذين المقصودين كالمتناقض (٢). وإن كانت هذه الشهب جنسا (٣) آخر غير الكواكب المركوزة في الفلك فهو (٤) أيضا مشكل لأنه تعالى قال في سورة الملك : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) [الملك : ٥] فالضمير في قوله : (وَجَعَلْناها) عائد إلى المصابيح فوجب أن تكون تلك المصابيح هي الرجوم بأعيانها.

فالجواب : أن الشهب غير تلك الكواكب الثاتبة وأما قوله تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) فنقو (ل) (٥) كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض إلا أن تلك المصابيح منها باقية على وجه الأرض آمنة من التغير والفساد ومنها (٦) ما لا يكون كذلك وهي هذه الشهب التي يحدثها الله تعالى ويجعلها رجوما للشياطين إلى حيث يعلمون وبهذا يزول الإشكال.

فإن قيل : كيف يجوز أن تذهب الشياطين حيث يعلمون أن الشهب تحرقهم ولا يصلون إلى مقصودهم البتة وهل يمكن أن يصدر (مثل) (٧) هذا الفعل عن عاقل فكيف من الشياطين الذين لهم مزيّة في معرفة الحيل الدقيقة؟.

فالجواب : أن حصول هذه الحالة ليس له موضع معين وإلا لم يذهبوا إليه وإنما يمنعون من المصير إلى مواضع الملائكة ومواضعها مختلفة فربما صاروا إلى موضع تصيبهم الشهب وربما صاروا إلى غيره ولا صادفوا الملائكة ولا تصيبهم الشهب فلما هلكوا في بعض الأوقات وسلموا في بعض الأوقات جاز أن يصيروا إلى مواضع يغلب على ظنونهم أنهم لا تصيبهم الشهب فيها كما يجوز فيمن سلك البحر أن يسلكه في موضع يغلب على ظنه حصول النجاة. هذا ما ذكره أبو عليّ الجبّائي (٨) في الجواب عن

__________________

(١) تصحيح لغوي على النسختين.

(٢) في ب : كالمناقض.

(٣) في ب : جنس بالرفع.

(٤) في ب : في.

(٥) سقط من ب.

(٦) انظر تفسير الإمام الرازي ٢٦ / ١١٩ و ١٢٠.

(٧) سقط من ب.

(٨) هو محمد بن عبد الوهاب بن سلام من معتزلة البصرة وهو الذي ذلّل الكلام وسهّله وكان من المتكلمين الكبار ، مات سنة ٣٠٣ ه‍ ، وانظر : الفهرست ٦.

٢٧٨

(هذا) (١) السؤال في تفسيره وفي هذا الجواب نظر فإن السموات ليس فيها موضع خال من الملائكة لقوله ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ : «أطّت السّماء وحقّ لها أن تئطّ ما فيها موضع قدم إلّا وفيه ملك قائم أو ساجد» (٢) ، قال ابن الخطيب : ولقائل أن يقول : إنهم إذا صعدوا إما أن يصلوا إلى مواضع (الملائكة) (٣) وإلى غير (تلك) المواضع فإن وصلوا إلى مواضع الملائكة احترقوا (٤) وإن وصلوا إلى غير مواضع الملائكة لم يفوزوا بمقصود أصلا وعلى كلا التقديرين فالمقصود غير حاصل. وإذا كان الفوز بالمقصود محالا وجب أن يمتنعوا عن هذا الفعل وألا يقدموا عليه أصلا بخلاف حال المسافر في البحر فإن الغالب عليهم‌السلامة والفوز بالمقصود وأما ههنا فالشيطان الذي يسلم من الإحراق إنما يسلم إذا لم يصل إلى مواضع (٥) الملائكة وإذا لم يصل إلى ذلك الموضع لم يفز بالمقصود فوجب أن لا يعود إلى هذا العمل البتة والأقرب في الجواب أن يقال هذه الواقعة إنما تتفق في الندرة (٦) فلعلها لا تشتهر بسبب ندرتها فيما بين الشياطين. والله أعلم (٧). فإن قيل : دلتنا التواريخ المتواترة على أن حدوث الشهب كان حاصلا قبل مجيء النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (ولذلك) (٨) فإن (٩) الحكماء الذين كانوا موجودين قبل مجيء النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بزمان طويل ذكروا ذلك وتكلموا في سبب حدوثه وإذا ثبت أن ذلك كان موجودا قبل مجيء النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ امتنع حمله على مجيء النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أجاب القاضي (١٠) بأن الأقرب أنّ هذه الحالة كانت موجودة قبل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولكنها كثرت في زمان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فصارت بسبب الكثرة معجزة (١١).

فإن قيل : الشيطان مخلوق من النار كما حكي عن قول إبليس (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ) [الأعراف: ١٢] وقال : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) [الحجر : ٢٧] ولهذا السبب يقدر على الصعود إلى السموات وإذا كان كذلك فكيف يعقل إحراق النار بالنار؟.

فالجواب : يحتمل أن الشياطين وإن كانوا من النّيران إلا أنّها نيران ضعيفة ونيران الشهب أقوى حالا منهم ولا جرم صار الأقوى للأضعف مبطلا ، ألا ترى أن السراج

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) رواه أبو هريرة. وهو في ابن ماجه باب الزهد ٢ / ١٣٨٨.

(٣) سقط من ب. وهي في الرازي.

(٤) كذا في الرازي ، وفي ب : أحرقوا.

(٥) كذا في الرازي وفي ب : موضع بالإفراد.

(٦) كذا في الرازي وفي ب : القدرة وهو تحريف.

(٧) انظر : تفسير الرازي ٢٦ / ١٢١.

(٨) زيادة من ب.

(٩) في ب : قال بدل فإن.

(١٠) هو عبد الجبار بن أحمد بن الخليل أبو الحسن الهمذاني وهو الذي تلقبه المعتزلة قاضي القضاة كان إمام أهل الاعتزال له من التصانيف التفسير. روى عنه القاضي أبو يوسف مات سنة ٤١٥ بالرّيّ ودفن في داره. انظر : طبقات الداودي ١ / ٢٦٣.

(١١) انظر الرازي ٢٦ / ١٢١.

٢٧٩

الضعيف إذا وضع في النار القوية فإنه ينطفىء فكذلك ههنا (١).

قوله : (لا يَسَّمَّعُونَ) قرأ الأخوان وحفص بتشديد السين (فالميم) (٢) والأصل يستمعون فأدغم ، والباقون بالتخفيف (٣) فيهما. واختار أبو عبيد الأولى وقال : لو كان مخففا لم يتعد بإلى (٤). وأجيب عنه بأن معنى الكلام لا يسمعون إلى الملأ ، وقال مكي : لأنه جرى مجرى مطاوعه وهو يسّمّعون فكما كان يسمع يتعدى (٥) «بإلى» تعدى سمع بإلى ، وفعلت وافتعلت في التعدي سواء فتسمع مطاوع سمع واستمع أيضا مطاوع سمع فتعدى سمع تعدّي مطاوعه (٦). وهذه الجملة منقطعة عما قبلها ولا يجوز فيها أن تكون صفة لشيطان على المعنى إذ يصير (٧) التقدير : من كلّ شيطان مارد غير سامع أو مستمع وهو فاسد ، ولا يجوز أن يكون جوابا لسؤال سائل : لم تحفظ من الشياطين؟ إذ يفسد معنى ذلك (٨). وقال بعضهم : أصل الكلام لئلا يسمعوا فحذفت «اللام وأن» فارتفع الفعل وفيه تعسف (٩). وقد وهم أبو البقاء فجوّز أن تكون صفة وأن تكون حالا وأن تكون مستأنفة (١٠) فالأولان ظاهرا الفساد والثّالث إن عني به الاستئناف (١١) البياني فهو فاسد أيضا. وإن أراد الانقطاع على ما تقدم فهو صحيح(١٢).

فصل

واحتجوا لقراءة التخفيف بقوله تعالى : (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) [الشعراء : ٢١٢]. وروى مجاهد عن ابن عباس : أن الشياطين يسمعون إلى الملأ الأعلى ثم يمنعون ولا يسمعون وللأولين أن يجيبوا فيقولوا التنصيص على كونهم معزولين عن السمع لا يمنع من كونهم معزولين أيضا عن التسمع (١٣) بدلالة هذه الآية بل هذا أقوى في ردع الشياطين ومنعهم من استماع أخبار السماء فإن الذي منع من الاستماع بأن يكون ممنوعا

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) سقط من ب.

(٣) من القراءات المتواترة انظر : السبعة ٥٤٧ والإتحاف ٣٦٨ ، والقرطبي ١٥ / ٦٥ والنشر ٢ / ٣٥٦ ومعاني الفراء ٢ / ٣٨٣.

(٤) القرطبي ١٥ / ٦٥ والسمين ٤ / ٥٣٩.

(٥) في ب : تعدى.

(٦) قاله في مشكل إعراب القرآن ٢ / ٢٣٤ ، وانظر أيضا الكشف له ٢ / ٢٢٢.

(٧) في ب : يعتبر.

(٨) هذا توجيه الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٣٥ و ٣٣٦ وأبي حيان في البحر ٧ / ٢٥٢ و ٣٥٣ وانظر : الدر المصون ٤ / ٥٣٩.

(٩) نقلته المراجع الثلاثة السابقة.

(١٠) التبيان ١٠٨٨.

(١١) هو أن تكون الثانية ـ أي الجملة الثانية ـ بمنزلة جواب لسؤال اقتضته الجملة الأولى ، الإيضاح للقزويني ١١٥ ـ ١١٧ وهذا ليس منه بالطبع.

(١٢) الكشاف ٣ / ٣٣٦ والدر المصون ٤ / ٥٤٠.

(١٣) في ب : التسميع.

٢٨٠