اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٧٤

وأجاب فقال : فإن قلت : فكيف جعلت (جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدلا من «الفضل» الذي هو السبق بالخيرات (المشار (١) إليه بذلك؟ قلت : لما كان السبب في نيل الثواب نزل منزلة المسبب كأنه هو الثواب) فأبدل (٢) عنه (جَنَّاتُ عَدْنٍ). وقرأ زرّ (٣) والزّهري جنّة (٤) مفردا. والجحدريّ جنات بالنصب على الاشتغال (٥) وهي تؤيد رفعها بالابتداء (٦). وجوز أبو البقاء أن كون «جنات» بالرفع خبرا ثانيا لاسم الإشارة وأن يكون خبر مبتدأ محذوف (٧). وتقدمت قراءة يدخلونها مبنيا للفاعل أو المفعول وباقي الآية في الحجّ (٨).

فصل

قيل : المراد بالداخلين الأقسام الثلاثة. وهذا على قولنا بأنهم أقسام المؤمنين. وقيل : الذين يتلون كتاب الله وقيل : هم السابقون. وهو أقوى لقرب ذكرهم ولأنه ذكر إكرامهم بقوله : «يحلّون» والمكرم هو السابق (٩).

فإن قيل : تقديم الفاعل على الفعل وتأخير المفعول عنه موافق لترتيب المعنى إذا كان المفعول حقيقيّا كقولنا : الله الّذي خلق السّموات وقول القائل : زيد بنى الجدار ، فإن الله موجود قبل كل شيء ثم له فعل هو الخلق ثم حصل به المفعول وهو السّموات وكذا زيد ثم البناء ثم الجدار من البناء وإذا لم يكن المفعول حقيقيا كقولنا : دخل الداخل الدار ، وضرب عمرا فإن «الدار» في الحقيقة ليس مفعولا للداخل وإنما فعله متحقق بالنسبة إلى الدار وكذلك عمرو فعل (من أفعال) (١٠) زيد تعلق به فسمي مفعولا ولكن الأصل تقديم الفعل على المفعول ولهذا يعاد الفعل المقدّم بالضمير تقول : عمرا ضربه

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من «ب».

(٢) في «ب» وأبدل وفي الكشاف فأبدلت.

(٣) هو زر بن حباشة أبو رويم الأسديّ الكوفيّ أحد الأعلام عرض على ابن مسعود وعثمان وعرض عليه عاصم مات سنة ٨٢ ه‍.

(٤) انظر : ابن خالويه ١٢٤ والبحر ٧ / ٣١٤ والقرطبي ١٤ / ٣٥٠ بدون نسبة وهي شاذة.

(٥) ذكره ابن خالويه في المختصر ١٢٤ و ١٢٣ والقرطبي بدون نسبة في الجامع ١٤ / ٣٥٠ وكذلك الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٠٩ وقد نسبها أبو حيان للجحدريّ وهارون عن عاصم. انظر : البحر المحيط ٧ / ٣١٤.

(٦) المرجع السابق.

(٧) التبيان له ١٠٧٥.

(٨) يشير إلى الآية ٢٣ منها : «يَدْخُلُونَها» بالبناء للمجهول منسوبة لأبي عمرو ورويت عن ابن كثير.

والجمهور مبنيا للفاعل وانظر : الكشاف ٣ / ٣٠٩ والبحر ٧ / ٣١٤ والقرطبي ١٤ / ٣٥٠ والإتحاف ٣٦٢. وقرىء يحلون وهي قراءة العامة وقرىء بفتح الياء وسكون الحاء وتخفيف اللام ونسبت لابن عباس. والجمهور على لؤلؤ بهمزتين وقرىء ولؤلؤ بهمز الأولى دون الثانية ونسبت للمعلى عن عاصم ولوليا الفياض ولولي طلحة وليليا ابن عباس. وانظر : مختصر ابن خالويه ٩٤ و ٩٥ والكشاف ٣ / ٣١٠ والقرطبي ١٢ / ٢٨.

(٩) هذا قول الرازي في تفسيره ٢٦ / ٢٦.

(١٠) ما بين القوسين ساقط من «ب».

١٤١

زيد فتوقعه بعد الفعل بالهاء العائدة إليه وحينئذ يطول الكلام فلا يختاره الحكيم إلا لفائدة (١) فما الفائدة في تقديم «الجنات» على الفعل الذي هو الدخول وإعادة (٢) ذكرها بالهاء في «يدخلونها» وما الفرق بين هذا و (بين) (٣) قول القائل : يدخلون جنّات عدن؟

فالجواب : أن السامع إذا علم له مدخلا من المداخل وله دخول ولم يعلم غير المدخل فإذا قيل له: أنت تدخل مال إلى (٤) أن يسمع الدار والسوق فيبقى متعلق القلب بأنه في أي المداخل يكون. فإذا قيل: «الدّار تدخلها» فيذكر الدار يعلم مدخله وبما عنده من العلم السابق بأن له دخولا يعلم الدخول فلا يبقى متعلق (٥) القلب ولا سيما الجنة والنار فإن بين المدخلين بونا بعيدا.

قوله : (يُحَلَّوْنَ فِيها) إشارة إلى سرعة الدخول فإن التحلية لو وقعت خارجا لكان فيه تأخير المدخول (٦) فقال : «يدخلونها» وفيها يقع تحليتهم ، وقوله : (مِنْ أَساوِرَ) بجمع الجمع فإنه جمع «أسورة» وهي جمع «سوار» (مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) ، وقوله : «ولباسهم» أي ليس كذلك لأن الإكثار من اللباس يدل على حاجة من دفع برد أو غيره والإكثار من الزينة لا يدل (إلا) (٧) على الغنى ، وذكر الأساور من بين سائر الحليّ في مواضع كثيرة كقوله تعالى : (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) [الإنسان: ٢١] وذلك لأن التحلي بمعنيين (٨) :

أحدهما : إظهار كون المتحلّي غير مبتذل في الأشغال (٩) لأن التحلّي لا يكون (حاله) (١٠) حالة (١١) الطبخ والغسل.

وثانيهما : إظهار الاستغناء عن الأشياء وإظهار القدرة على الأشياء لأن التحلي إما باللآلىء والجواهر وإما بالذهب والفضة والتحلّي بالجواهر واللآلىء يدل على أن المتحلّي لا يعجز عن الوصول إلى الأشياء الكثيرة عند الحاجة حيث لم يعجز عن الوصول إلى الأشياء العزيزة الوجود لا لحاجة والتحلّي بالذهب والفضة يدل على أنه غير محتاج (١٢) حاجة أصلية وإلا لصرف الذهب والفضة إلى دفع حاجته(١٣). وإذا عرف هذا فنقول : الأساور محلّها الأيدي وأكثر الأعمال باليد فإذا حليت بالأساور علم الفراغ من الأعمال (١٤).

__________________

(١) انظر في هذا القيل المرجع السابق أيضا.

(٢) في «ب» وإعادته وما في الفخر يوافق ما هنا.

(٣) سقطت من «ب» فقط.

(٤) في الفخر : فإلى أن يسمع الدار أو السوق يبقى متعلق القلب.

(٥) في الرازي : فلا يبقى له توقف.

(٦) كذا في النسختين وفي الرازي : الدخول.

(٧) زيادة من الرازي.

(٨) في «ب» لمعنيين.

(٩) في «ب» الاشتغال.

(١٠) سقط من «أ» وزيادة من «ب» فقط.

(١١) في «ب» حال.

(١٢) في «ب» محتاجة بالتأنيث.

(١٣) في «ب» حاجة وفي الفخر : الحاجة.

(١٤) وانظر : الرازي ٢٦ / ٢٦ و ٢٧.

١٤٢

قوله تعالى : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) قرأ العامة «الحزن» بفتحتين وجناح بن حبيش بضم الحاء وسكون (١) الزاي. وتقدم من ذلك أول القصص (٢). والمعنى يقولون إذا دخلوا الجنة الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن. والحزن والحزن واحد كالبخل والبخل ، قال ابن عباس : حزن النار. وقال قتادة : حزن الموت وقال مقاتل : لأنهم كانوا لا يدرون ما يصنع (٣) بهم. وقال عكرمة : حزن السيئات والذنوب وخوف ردّ الطاعات وقال القاسم : حزن زوال النعم وخوف العاقبة. وقيل : حزن أهوال يوم القيامة. وقال الكلبي : ما كان يحزنهم في الدنيا من أمر يوم القيامة ، وقال سعيد بن جبير : الخبز في الدنيا. وقيل : هم المعيشة (٤) ، وقال الزجاج : أذهب الله عن أهل الجنة كلّ الأحزان ما كان منها لمعاش أو معاد (٥). وقال ـ عليه (الصلاة (٦) و) السلام ـ ليس على أهل لا إله إلّا الله وحشة في قبورهم ولا في منشرهم (٧) وكأنّي بأهل لا إله إلّا الله ينفضون (٨) التّراب عن رؤوسهم ويقولون : الحمد لله الّذي أذهب عنّا الحزن (٩). ثمّ قالوا : إنّ ربّنا لغفور شكور. ذكر الله عنهم أمورا كلها تفيد الكرامة : الأول (أن) (١٠) الحمد لله فإن الحامد مثاب. الثاني : قولهم : ربّنا فإن الله (تعالى) (٤) إذا نودي بهذا اللفظ استجاب للمنادي اللهم إلا أن يكون المنادي يطلب ما لا يجوز. الثالث (١١) : قولهم : غفور شكور. والغفور إشارة إلى ما غفر لهم في الآخرة بحمدهم في الدنيا ، والشكور إشارة إلى ما يعطيهم الله ويزيدهم بسبب حمدهم في الآخرة.

قوله : (الَّذِي أَحَلَّنا) أي أنزلنا (دارَ الْمُقامَةِ) مفعول ثان «لأحلّنا». ولا يكون ظرفا لأنه مختص فلو كان ظرفا لتعدى إليه الفعل بفي (١٢). والمقامة الإقامة (١٣). والمفعول قد يجيء بالمصدر يقال : ما له معقول أي عقل. قال تعالى : (مُدْخَلَ صِدْقٍ) [الإسراء : ٨٠] (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) [سبأ : ١٩] وكذلك المستخرج للإخراج لأن المصدر هو (١٤)

__________________

(١) ذكره ابن خالويه في المختصر ١٢٤ وذكرها الزمخشري في الكشاف بدون نسبة ٣ / ٣١٠ وانظر : البحر المحيط ٧ / ٣١٤ والدر المصون ٤ / ٤٨٣.

(٢) ويشير إلى قوله : «لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً» وهما لغتان والآية ٨ منها.

(٣) في «ب» صنع بالماضي.

(٤) وانظر هذه الأقوال في معالم التنزيل للبغوي ٥ / ٣٠٤ ولباب التأويل للخازن ٥ / ٣٠٤ وزاد المسير ٦ / ٤٩١ و ٤٩٢ والجامع للقرطبي ١٤ / ٣٥١ والكشاف ٣ / ٣١٠.

(٥) انظر : إعراب القرآن ومعانيه له ٤ / ٢٧٠.

(٦) سقط من «ب».

(٧) في «ب» حشرهم.

(٨) في «ب» يفوضون. تحريف.

(٩) أخرجه البغويّ بسنده إلى ابن عمر. المرجع السابق.

(١٠) ما بين الأقواس ساقط من «ب».

(٤) وانظر هذه الأقوال في معالم التنزيل للبغوي ٥ / ٣٠٤ ولباب التأويل للخازن ٥ / ٣٠٤ وزاد المسير ٦ / ٤٩١ و ٤٩٢ والجامع للقرطبي ١٤ / ٣٥١ والكشاف ٣ / ٣١٠.

(١١) في «ب» الثالثة تأنيثا.

(١٢) قاله أبو البقاء في تبيانه ١٠٧٦ والسمين في الدر ٤ / ٤٨٣.

(١٣) الكشاف ٣ / ٣١٠.

(١٤) في «ب» غير لحن وتغيير للمعنى.

١٤٣

المفعول في الحقيقة فإنه هو الذي فعل (فجاز (١) إقامة المفعول مقامه).

فصل

في قوله : (دارَ الْمُقامَةِ) إشارة إلى أن الدنيا منزلة ينزلها المكلف ويرتحل عنها إلى منزلة القبور ومن القبور إلى منزلة العرصات (٢) التي فيها الجمع ومنها التفريق وقد يكون النار لبعضهم منزلة أخرى والجنة دار البقاء وكذا النار لأهلها.

قوله : (مِنْ فَضْلِهِ) متعلق «بأحلّنا» (٣) و «من» إما للعلّة وإما لابتداء الغاية (٤). ومعنى فضله أي يحكم وعده لا بإيجاب من عنده.

قوله : (لا يَمَسُّنا) حال من مفعول «أحلّنا» الأول (٥) والثاني (٦) ، لأن الجملة مشتملة على ضمير كل منهما وإن كان الحال من الأول أظهر (٧). والنّصب التّعب (٨) والمشقّة ، واللّغوب الفتور النّاشىء عنه (٩) وعلى هذا فيقال إذا انتفى السّبب نفي المسبّب فإذا قيل : لم آكل فيعلم انتفاء الشبع فلا حاجة إلى قوله ثانيا فلم أشبع بخلاف العكس ألا ترى أنه يجوز لم أشبع ولم آكل و (في) (١٠) الآية الكريمة على ما تقرر من نفي السبب فما فائدته؟ وقد أجاب ابن الخطيب : بأنه بين مخالفة الجنة لدار الدنيا فإن أماكنها على قسمين موضع يمس فيه المشاق كالبراري وموضع يمس فيه الإعباء كالبيوت والمنازل التي في الأسفار فقيل : لا يمسّنا فيها نصب لأنها ليست مظانّ المتاعب كدار الدنيا ولا يمسّنا فيها لغوب أي لا يخرج منها إلى موضع يتعب (١١) ويرجع إليها فيمسنا فيها الإعياء وهذا الجواب ليس بذاك (١٢). والذي يقال : إن النصب هو تعب البدن واللغوب تعب النفس. وقيل :

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق فإن «مدخلا» مفعول به وهو مصدر ميمي مفعول لقوله : «أدخلني» قبله و «كلّ ممزق» مفعول مطلق نائب عن المصدر الذي من الفعل أي مزّقناهم تمزيقا. والمقامة مصدر ميمي من غير الثلاثي وهو مفعول بالدخول والإحلال.

(٢) كذا هي بالصاد هنا. وفي «ب» العرضات بالضاد. تحريف والعرصات جمع عرصة وتجمع أيضا على عراص وعرصة الدار وسطها. وقيل : ما لا بناء فيه والعرصة أيضا كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء ، وفي حديث قسّ : في عرصات بجثجات. بتصرف من اللسان عرص والصّحاح. وانظر : اللسان ٢٨٨٣.

(٣) الدر المصون ٤ / ٤٨٣.

(٤) السابق.

(٥) التبيان ١٠٧٦.

(٦) السمين السابق ويقصد بالأول «نا» وبالثاني «دار المقامة».

(٧) الدر المصون السابق.

(٨) قاله النحاس في الإعراب ٤ / ٣٧٤ والزجاج في المعاني ٤ / ٢٧١.

(٩) قاله في القرطبي ١٤ / ٣٥١ وفي معاني الفراء ٢ / ٣٧٠ وفي معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٢٧١ وفي الكشاف ٣ / ٣١٠.

(١٠) سقط من «ب».

(١١) في «ب» التعب.

(١٢) التفسير الكبير للرازي ٢٦ / ٨.

١٤٤

اللغوب الوجع وعلى هذين فالسؤال زائل (١). وقرأ عليّ والسّلميّ بفتح لام لغوب (٢) وفيه أوجه :

أحدها : أنه مصدر على فعول (٣) كالقبول.

والثاني : أنه اسم لما يلغب (٤) به كالفطور والسّحور. قاله الفراء (٥).

الثالث : أنه صفة لمصدر مقدر أي لا يمسّنا لغوب لغوب نحو : شعر شاعر وموت مائت (٦). وقيل : صفة لشيء غير مقدر أي أمر لغوب (٧).

قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ) عطف على قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) وما بينهما كلام يتعلق (٨) «بالذين يتلون كتاب الله» على ما تقدم.

قوله : «فيموتوا» العامة على نصبه لحذف النون جوابا للنفي (٩) وهو على أحد معنيين نصب : «ما تأتينا فتحدثنا» أي ما يكون منك إتيان ولا حديث. انتفى السبب وهو الإتيان فانتفى مسببه (١٠) ، وهو الحديث. والمعنى الثاني : إثبات الإتيان ونفي الحديث أي ما تأتينا محدّثا بل تأتينا غير محدث. وهو لا يجوز في الآية البتّة (١١) وقرأ عيسى والحسن «فيموتون» بإثبات النون (١٢). قال ابن عطية : وهي ضعيفة (١٣) ، قال شهاب الدين (١٤) وقد

__________________

(١) انظر : البحر المحيط لأبي حيان ٧ / ٣١٥ والدر المصون للسمين ٤ / ٤٨٣.

(٢) نسبها كل من الزجاج والفراء في المعاني إلى السلمي فقط انظر : معاني الزجاج ٤ / ٢٧١ ومعاني الفراء ٢ / ٣٧٠ ونسبها ابن خالويه له ولعليّ ولسعيد بن جبير. المختصر ١٢٤ ونسبها ابن جني في المحتسب إلى السلمي وعليّ كما فعل المؤلف أعلى. المحتسب ٢ / ٢٠٠.

(٣) قاله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣١٠ وابن جني في المحتسب ٢ / ٢٠٠.

(٤) في «ب» يلقب بالقاف تحريف.

(٥) المعاني ٢ / ٣٧٠ قال : «كأنه جعله ما يلغب».

(٦) الكشاف ٣ / ٣١٠ والمحتسب ٢ / ٢٠١ وانظر كذا كله الدر المصون ٤ / ٤٨٣ والبحر المحيط ٧ / ٣١٥.

(٧) ذكر هذا الرأي صاحب اللوامح فيما نقله عنه أبو حيان في البحر المحيط ، وهو أبو الفضل الرازي رحمه‌الله. انظر : البحر المحيط ٧ / ٣١٥.

(٨) في «ب» متعلق بالاسمية وانظر الفخر الرازي ٢٦ / ٢٨.

(٩) قاله أبو البقاء في التبيان ١٠٧٦ وابن الأنباري في البيان ٢ / ٢٨٩ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٣١٠ والزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٢٧١ ، والنحاس في الإعراب ٤ / ٣٧٤.

(١٠) في «ب» سببه تحريف.

(١١) لأن الله لم يرد أن يميتهم فلو أماتهم لأراحهم ومن هنا لا يصح أن نثبت الموت لهم. وانظر : البحر ٧ / ٣١٦.

(١٢) الكشاف بدون نسبة ٣ / ٣١٠ ونسبت في إعراب النحاس ٣ / ٣٧٤ والمحتسب ٢ / ٢٠١ و ٢٠٢ والبحر ٧ / ٦ له ولعيسى البصريّ.

(١٣) البحر السابق.

(١٤) الدر المصون ٤ / ٤٨٥.

١٤٥

وجّهها المازنيّ (١) على العطف على (لا يُقْضى) أي لا يقضى عليهم فلا يموتون. وهو أحد (٢) الوجهين في معنى الرفع في قولك : ما تأتينا فتحدّثنا أو (٣) انتفاء الأمرين معا كقوله (٤) : (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات : ٣٦] أي فلا يعتذرون. و «عليهم» قائم مقام الفاعل وكذلك «عنهم» بعد (٥) «يخفّف». ويجوز أن يكون القائم (٦)(مِنْ عَذابِها) و «عنهم» منصوب المحل ، ويجوز أن يكون «من» مزيدة عند الأخفش فيتعين قيامه مقام الفاعل لأنه هو المفعول به (٧). وقرأ أبو عمرو ـ في رواية ـ ولا يخفّف بسكون الفاء (٨) ـ شبه المنفصل بعضد كقوله :

٤١٦٢ ـ فاليوم أشرب غير مستحقب

 ..........(٩)

فصل (١٠)

(لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) أي لا يهلكون فيستريحوا كقوله : (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) أي قتله. لا يقضي عليهم الموت (١١) فيموتوا كقوله : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) [الزخرف : ٧٧] أي الموت فنستريح بل العذاب دائم (١٢)(وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) أي من عذاب النار. وفي الآية لطائف :

الأولى : أن العذاب في الدنيا إن دام قتل وإن لم يقتل يعتاده البدن ويصير مزاجا

__________________

(١) هو أبو عثمان المازني أستاذ المبرّد بكر بن محمد بن بقية مات سنة ٢٤٩ ه‍ ، انظر : إنباه الرواة للقفطيّ ١ / ٢٤٦ ـ ٢٥٦ وانظر رأيه في البحر ٧ / ٣١٦ بينما نسب رأيه هذا النحاس في الإعراب ٣ / ٣٧٤ إلى الكسائي.

(٢) في «ب» إحدى. تحريف.

(٣) في «ب» أي انتقى.

(٤) في «ب» لقوله.

(٥) التبيان ١٠٧٥.

(٦) في «ب» الفاعل.

(٧) انظر : المرجع السابق وانظر الدر المصون ٤ / ٤٨٤.

(٨) وهي من الشواذ غير المتواترة. انظر : مختصر الإمام ابن خالويه ١٢٤ والبحر المحيط لأبي حيان ٧ / ٣١٦ وهي قراءة عبد الوارث عن أبي عمرو.

(٩) صدر بيت من السّريع لامرىء القيس عجزه :

 ..........

إثما من الله ولا واغل

والمستحقب : الذي جمع متاعه في حقيبة أي المدّخر. والواغل : الدّاخل إلى القوم في طعامهم وشرابهم. وشاهده : «أشرب» حيث سكن الباء فيه ضرورة في حال الرفع والوصل. وهناك من يخرج البيت على أن البيت مسكّن للتخفيف بمثابة عضد. وانظر : الكتاب ٤ / ٢٠٤ وحجة أبي علي ١ / ٨٦ والخصائص ١ / ٧٤ و ٢ / ٣١٧ و ٣٤٠ و ٣ / ٩٦ وشرح ابن يعيش ١ / ٤٨ والتصريح ١ / ٨٨ والهمع ١ / ٥٤ والبحر المحيط ٧ / ٣١٦ وديوان المفضليات ٤٨٠ وديوانه (١٢٢). وقد روي البيت (فأسقى) كما روي : فاشرب أمرا. وعليهما فلا شاهد حينئذ.

(١٠) في «ب» قوله ، بدل فصل.

(١١) في «ب» بالموت.

(١٢) في «ب» : قائم.

١٤٦

فاسدا لا يحسّ به المعذب فقال عذاب نار الآخرة ليس كعذاب الدنيا إما أن يفنى وإما أن يألفه البدن بل هو في كل زمان شديد والمعذب فيه دائم.

الثانية : دقيق (١) العذاب بأنه لا يفتر ولا ينقطع ولا بأقوى الأسباب وهو الموت حتى يتمنوه ولا يجابون (٢) كما قال تعالى : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) أي بالموت.

الثالثة : ذكر في المعذبين الأشقياء بأنه لا ينقص عذابهم ولم يقل : يزيدهم (٣) ، وفي المثابين قال : (يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ).

قوله : «كذلك» إما مرفوع المحل (٤) أي الأمر كذلك ، وإما منصوبه أي مثل ذلك الجزاء يجزى(٥). وقرأ أبو عمرو «يجزى» مبنيا للمفعول كلّ رفع به (٦). والباقون نجزي بنون العظمة مبنيا للفاعل كلّ مفعول به. والكفور الكافر.

قوله : (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ) يستغيثون ويصيحون «فيها» وهو يفتعلون من الصّراخ وهو الصّياح. وأبدلت الفاء صادا لوقوعها قبل الطاء ، «يقولون (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها) من النار فقوله : «ربنا» على إضمار القول وذلك القول إن شئت قدرته فعلا مفسرا ليصطرخون أي يقولون في صراخهم كما تقدم وإن شئت قدرته حالا من فاعل «يصطرخون» أي قائلين ربّنا (٧).

قوله : (صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) يجوز أن يكونا نعتي (٨) مصدر محذوف أي عملا صالحا غير الذي كنا نعمل وأن يكونا نعتي (٩) مفعول به محذوف أي نعمل شيئا صالحا غير الذي كنا نعمل وأن يكون «صالحا» نعتا لمصدر و (غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) هو المفعول به. وقال الزمخشريّ : فإن قلت : فهلا اكتفي بصالحا كما اكتفي به في قوله : فارجعنا نعمل صالحا؟ وما فائدة زيادة غير الذي كنا نعمل؟ على أنه يوهم أنهم يعملون صالحا آخر غير الصالح الذي عملوه؟ قلت : فائدته زيادة التحسّر على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به وأما الوهم فزائل بظهور حالهم في الكفر وظهور المعاصي ولأنهم كانوا يحسبون أنهم على سيرة صالحة كما قال تعالى : (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) [الكهف : ١٠٤] فقالوا : أخرجنا نعمل صالحا غير الّذي كنا نحسبه صالحا فنعمله (١٠).

__________________

(١) في «ب» : وصف العذاب وهو الأصح.

(٢) في «ب» ولا يجابوه.

(٣) في «ب» كزيدهم. وانظر : الرازي ٢٦ / ٢٩.

(٤) نقله السمين في الدر ٤ / ٤٨٤.

(٥) السابق وانظر : التبيان ١٠٧٦.

(٦) ذكرت في السبعة لابن مجاهد ٥٣٥ والإتحاف للبناء ٣٦٢ وغيرهما.

(٧) انظر : البحر المحيط ٧ / ٣١٦.

(٨ و ٩) في النسختين بمعنى خطأ. والتصحيح ما أثبت أعلى حيث إنّ المعنى والقاعدة تؤيدان أن ما ذهبت إليه. وقد ذكر كل هذه الأوجه أبو البقاء في التبيان ١٠٧٦ والسمين في الدر ٤ / ٤٨٥.

(٨ و ٩) في النسختين بمعنى خطأ. والتصحيح ما أثبت أعلى حيث إنّ المعنى والقاعدة تؤيدان أن ما ذهبت إليه. وقد ذكر كل هذه الأوجه أبو البقاء في التبيان ١٠٧٦ والسمين في الدر ٤ / ٤٨٥.

(١٠) المرجع السابق.

١٤٧

قوله : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ) (أي فيقول (١) لهم توبيخا : أو لم نعمركم أي عمّرناكم مقدارا يمكن التذكر فيه.

قوله) : «ما يتذكّر» جوزوا في «ما» هذه وجهين :

أحدهما ـ ولم يحك أبو حيان غيره ـ : أنها مصدرية (٢) ظرفية قال : أي مدّة تذكّر ، وهذه غلط لأن الضمير (في) (٣) (فيه) يمنع ذلك لعوده على «ما» ولم يقل باسمية ما المصدرية إلا الأخفش وابن السّرّاج (٤).

والثاني : أنها نكرة موصوفة أي تعمّرا يتذكّر فيه أو زمانا يتذكّر (٥) فيه. وقرأ الأعمش ما يذّكّر بالإدغام من «اذّكّر» (٦) ، قال أبو حيان : بالإدغام واجتلاب همزة الوصل ملفوظا بها في الدّرج (٧) وهذا غريب حيث أثبت همزة الوصل مع الاستغناء عنها إلّا أن يكون حافظ على (٨) سكون «من» وبيان ما بعدها.

فصل

معنى قوله : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) قيل : هو البلوغ. وقال قتادة وعطاء والكلبي : ثماني عشرة سنة وقال الحسن : أربعون سنة. وقال ابن عباس : ستون سنة. روي ذلك عن عليّ وهو العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم (٩). قال ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ : «أعذر الله إلى ابن آدم امرىء أخّر أجله حتّى بلغ ستّين سنة» (١٠) وقال ـ عليه (الصّلاة و) السلام ـ : «أعمار أمّتي ما بين السّتّين إلى السّبعين وأقلّهم من يجوز ذلك» (١١).

قوله : (وَجاءَكُمُ) عطف على (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ) ؛ لأنه في معنى (١٢) قد عمّرناكم

__________________

(١) ما بين القوسين كله ساقط من «ب».

(٢) البحر ٧ / ٣١٦ وكما ذكر هذا الوجه أيضا أبو حيان في البحر ذكره أبو البقاء في التبيان ١٠٧٦.

(٣) سقط من «ب».

(٤) وقال بذلك المصدر أبو عبيدة في المجاز وهو قبل الأخفش وفاة فقد قال في كتابه مجاز القرآن : «ومجاز «ما» هاهنا مجاز المصدر أو لم نعمركم عمرا يتذكر فيه» المجاز ٢ / ١٥٦.

(٥) قال بذلك الوجه أبو البقاء في التبيان ١٠٧٥ وانظر : الدر المصون ٤ / ٤٨٥.

(٦) ذكرها أبو حيان ٧ / ٣١٦ والسمين في الدر ٤ / ٤٨٥ وفي مختصر ابن خالويه ما يدّكّر فيه من ـ ادّكّر ـ بالدال ـ الأعمش وكذلك في مصحف ابن مسعود. المختصر لابن خالويه ١٢٤ وانظر أيضا الزمخشري في كشافه ٣ / ٣١١ موافقا لما ذكر أعلى وهي من الشواذ.

(٧) البحر ٧ / ٣١٦.

(٨) نقله السّمين في الدر ٤ / ٤٨٦.

(٩) وانظر هذه الأقوال في القرطبي ١٤ / ٣٥٣ وزاد المسير ٦ / ٤٩٤.

(١٠) أخرجه البخاريّ عن أبي هريرة ٤ / ١١٦.

(١١) أخرجه البغوي في معالم التنزيل عن أبي هريرة ٥ / ٣٠٥.

(١٢) قاله شهاب الدين السمين في الدر ٤ / ٤٨٦ والزّمخشريّ في الكشاف ٣ / ٣١١ وأبو حيان في البحر ٧ / ٣١٦.

١٤٨

كقوله : (أَلَمْ نُرَبِّكَ) [الشعراء : ١٨] ثم قال : ولبثت (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ) [الشرح : ١] ثم قال: (وَوَضَعْنا) [الشرح : ٢] ، إذ هما في معنى ربّيناك وشرحنا ، والمراد بالنّذير محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في قول أكثر المفسرين. وقيل : القرآن. وقال عكرمة وسفيان بن عيينة ووكيع : هو الشيب (١). والمعنى أو لم نعمركم حتى شبتم. ويقال : الشّيب نذير الموت. وفي الأثر : ما من شعرة تبيضّ إلّا قالت لأختها : استعدّي فقد قرب الموت (٢). وقرىء : النّذر جمعا (٣).

قوله : «فذوقوا» أمر إهانة (فَما لِلظَّالِمِينَ) الذين وضعوا أعمالهم وأقوالهم في غير موضعها. (مِنْ نَصِيرٍ) في وقت الحاجة ينصرهم ، و (مِنْ نَصِيرٍ) يجوز أن يكون فاعلا بالجار لاعتماده وأن يكون مبتدأ مخبرا عنه بالجار قبله (٤).

قوله : (إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قرأ العامة عالم غيب على الإضافة تخفيفا. وجناح بن حبيش بتنوين عالم ونصب (غيب) (٥) إنّه عليم بذات الصّدور. وهذا تقرير لدوامهم في العذاب وذلك من حيث إن الله تعالى لما أعلم أنّ جزاء السّيئة سيئة مثلها ولا يزاد عليها فلو قال (قائل) (٦) : الكافر ما كفر بالله إلا أياما معدودة فينبغي أن لا يعذّب إلا مثل تلك الأيام فقال : إنّ الله لا يخفى عليه غيب السموات والأرض فلا يخفى (٧) عليه ما في الصدور وكان يعلم من الكافر أنّ في قلبه تمكّن الكفر لو دام إلى الأبد لما أطاع الله (٨).

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ

__________________

(١) انظر في هذا القرطبي ١٤ / ٣٥٣ وزاد المسير ٦ / ٤٩٤ و ٤٩٥ والبغوي ٥ / ٣٠٥ ومعاني الفراء ٢ / ٣٧٠ ومعاني الزجاج ٤ / ٣٧٢.

(٢) قاله الخازن والبغوي ٥ / ٣٠٥.

(٣) القرطبي ١٤ / ٣٥٣ والكشاف ٣ / ٣١١ بدون نسبة وكذلك فعل أبو حيان في بحره ٧ / ٣١٦ ونسبها صاحب الشواذ إلى ابن مسعود. انظر الشواذ ١٠٣.

(٤) نقله في الدر ٤ / ٤٨٦.

(٥) شاذة في الرواية وهي جائزة من حيث القياس العربيّ. وقد ذكرها في المختصر بدون ضبط. انظره ١٢٤. وانظر : البحر المحيط ٧ / ٢١٦.

(٦) سقط من «ب».

(٧) في «ب» فلا يعلم تحريف.

(٨) وانظر : التفسير الكبير للإمام الرازي ٢٦ / ٣٠ و ٣١.

١٤٩

حَلِيماً غَفُوراً (٤١) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً)(٤٣)

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) أي يخلف بعضكم بعضا. وقيل : جعلكم أمة واحدة خلت من قبلها ما ينبغي أن يعتبر به (١) فجعلكم خلائف في الأرض أي خليفة بعد خليفة تعلمون حال الماضين وترضون (٢) بحالهم ، فمن كفر بعد هذا كله (فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي وبال كفره (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً) أي غضبا لأن الكافر (و) (٣) السابق كان ممقوتا(٤)(وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً) أي الكفر لا ينفع عند الله حيث لا يزيد إلا المقت ولا ينفعهم في أنفسهم حيث لا يفيدهم إلا الخسار لأن العمر كرأس (مال) (٥) من اشترى به رضى الله ربح ومن اشترى به سخطه خسر (٦).

قوله : «أرأيتم» فيها وجهان :

أحدهما : أنها ألف استفهام على بابها ولم تتضمن هذه الكلمة معنى أخبروني بل هو استفهام حقيقي وقوله : «أروني» أمر تعجيز.

والثاني : أنّ الاستفهام غير مراد وأنها ضمّنت معنى أخبروني. فعلى هذا يتعدى لاثنين :

أحدهما : شركاءكم.

والثاني : الجملة الاستفهامية من قوله (ما ذا خَلَقُوا)(٧). و «أروني» يحتمل أن تكون جملة اعتراضية.

والثاني : أن تكون المسألة من باب الإعمال فإنّ «أرأيتم» يطلب (ما ذا خَلَقُوا) مفعولا ثانيا و «أروني» أيضا يطلبه معلقا له وتكون المسألة من باب إعمال الثاني على مختار (٨) البصريّين (٩) ، و «أروني» هنا بصريّة تعدت للثاني بهمزة النقل والبصرية قبل النقل تعلق بالاستفهام كقولهم : «أما ترى أيّ برق ههنا» (١٠) وقد تقدم الكلام على (أن) (١١) «أرأيتم»

__________________

(١) نقله البغوي ٥ / ٣٠٥.

(٢) نقله الرازي في المرجع السابق.

(٣) زيادة من «أ» لا معنى لها.

(٤) في «ب» محقوقا.

(٥) سقط من «ب».

(٦) الرازي ٢٦ / ٣١.

(٧) نقله السمين في الدر ٤ / ٤٨٦ و ٤٨٧ عن البحر لأبي حيان ٧ / ٣١٧.

(٨) في «ب» : «ما اختار البصريّون» بفعلية الجملة.

(٩) وانظر : البحر والدر المرجعين السابقين.

(١٠) نقله السمين في الدر ٤ / ٤٨٧.

(١١) زيادة من «أ» لا معنى لها.

١٥٠

هذه في الأنعام (١). وقال ابن (٢) عطية هنا : «أرأيتم» ينزل (٣) عند سيبويه منزلة أخبروني (٤) ولذلك لا يحتاج إلى مفعولين. وهو غلط بل يحتاج كما تقدم تقريره. وجعل الزمخشري الجملة من قوله «أروني» بدلا من قوله : «أرأيتم» قال : لأن معنى أرأيتم أخبروني (٥). وردّه أبو حيان بأن البدل إذا دخلت عليه أداة الاستفهام (لا) (٦) يلزم إعادتها في المبدل ولم تعد هنا وأيضا فإبدال جملة من جملة لم يعهد في لسانهم (٧). قال شهاب الدين : والجواب عن الأول أن الاستفهام فيه غير مراد قطعا فلم تعد أداته (٨) ، وأما قوله : لم يوجد في لسانهم فقد وجد (٩) ومنه :

٤١٦٣ ـ متى تأتنا تلمم بنا ...

 ..........(١٠)

(و) (١١) :

٤١٦٤ ـ إنّ عليّ الله أن تبايعا

تؤخذ كرها وتجيب طائعا (١٢)

وقد نص النحويون على أنه متى كانت (١٣) الجملة في معنى الأول ومبنية لها أبدلت منها.

فصل

هذه الآية تقرير للتوحيد وإبطال للإشراك والمعنى جعلتموهم شركائي بزعمكم يعني الأصنام «أروني» أخبروني (ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) فقال : «شركاءكم» (١٤) فأضافهم إليهم

__________________

(١) عند قوله تعالى : «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ» وهي الآية ٤٦.

(٢) البحر المحيط ٧ / ٣١٧.

(٣) في «ب» منزل.

(٤) قال سيبويه : «ونقول : أين ترى عبد الله قائما وهل ترى زيدا ذاهبا ؛ لأن هل وأين كأنك لم تذكرهما لأن ما بعدهما ابتداء ، كأنك قلت : أترى زيدا ذاهبا وأ تظنّ عمرا منطلقا. فإن قلت : أين وأنت تريد أن تجعلها بمنزلة (فيها) إذا استغنى بها الابتداء قلت : أين ترى زيد ، وأين ترى زيدا» الكتاب ١ / ١٢١.

(٥) الكشاف ٣ / ٣١١ وفي «ب» كذلك.

(٦) زيادة في «أ» عن المعنى المراد.

(٧) انظر : البحر المحيط ٧ / ٣١٧.

(٨ و ٩) الدر المصون ٤ / ٤٨٧.

(١٠) هذا جزء من بيت من الطويل لعبيد الله بن الحر أو الحطيئة وبقيته :

 .......... في ديارنا

تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا

والبيت من قصيدة قالها وهو في سجن مصعب بن الزبير ، وهو يفتخر بقومه هؤلاء الذي عدهم بأنهم لا يطفئون النار ، كناية عن الطعام الكثير للضيوف. والشاهد فيه «تلمم» هو وفاعله بدل مما قبله وهو جملة «تأتنا» وهذا إبدال جملة من جملة بدليل جزم الفعل «تلمم» كأنه أراد متى تلمم بنا ، لأنّ الإتيان يشتمل عليه. وقد تقدم.

(١١) زيادة يتم بها الكلام.

(١٢) من بحر الرجز وهو مجهول القائل. وشاهده كسابقه حيث أبدل جملة من جملة البدل وهو «تؤخذ» والمبدل منه «تبايعا» وكلا الفعلين فيهما ضمير مستتر من الفاعلية ونائب الفاعل.

(١٣) في (ب) كان وكلاهما صحيح.

(١٤) في «ب» شركاؤكم بالرفع.

١٥١

من حيث إنّ الأصنام في الحقيقة لم تكن شركاء لله وإنما هم الذين جعلوها شركاء فقال شركاءكم أي الشركاء بجعلكم. ويحتمل أن يقال : معنى شركاءكم أي (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨]. ويحتمل أن يكون معنى «أرأيتم» أي أعلمتم هذه الأصنام التي تدعونها هل لها قدرة أم لا؟ فإن كنتم تعلمونها عاجزة فكيف تعبدونها؟ وإن كنتم تعلمون أن لها قدرة فأروني قدرتها في أي شيء أهي في الأرض كما قال بعضهم : إن الله إله السماء وهؤلاء آلهة الأرض (١) وهم الذين قالوا : أمور الأرض من الكواكب والأصنام صورها أم هي في السموات كما قال بعضهم : إن السموات خلقت باستعانة الملائكة شركاء في خلق السموات وهذه الأصنام صورها أم قدرتها في الشفاعة لكم كما قال بعضهم : «إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى» فهل معهم كتاب من الله؟ قال مقاتل : هل أعطينا كفار مكة كتابا فهم على (٢) بينة منه؟

قوله : (آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ) الأحسن في هذا الضمير أن يعود على «الشّركاء» ليتناسق (٣) الضمائر. وقيل : يعود على المشركين كقول مقاتل فيكون التفاتا من خطاب إلى غيبة (٤). وقرأ أبو عمرو وحمزة وابن كثير وحفص بيّنة بالإفراد والباقون بيّنات (٥) بالجمع أي دلائل واضحة منه ممّا (٦) في ذلك الكتاب من ضروب البيان.

قوله : (بَلْ إِنْ يَعِدُ) «إن» نافية والمعنى ما يعد الظالمون (بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) غرهم الشيطان وزين لهم عبادة الأصنام. والغرور ما يغر الإنسان مما لا أصل له ، قال مقاتل : يعني (٧) ما يعد (٨) الشيطان كفار بني آدم من شفاعة الآلهة في الآخرة غرور باطل (٩).

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) لما بين أنه لا خلق للأصنام ولا قدرة لها بين أن الله قادر بقوله : إن الله يمسك السموات والأرض. ويحتمل أن يقال : لما بين شركهم قال : مقتضى شركهم زوال السموات والأرض كقوله تعالى : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) [مريم : ٩٠ ، ٩١] ويؤيد هذا قوله تعالى في آخر الآية «ان الله كان حليما غفورا» حليما ما ترك تعذيبهم إلا حلما منه وإلا كانوا يستحقون إسقاط السّماء وانطباق الأرض عليهم. وإنما أخّر إزالة

__________________

(١) وانظر كل هذه المعاني في الفخر الرازي ٢٦ / ٣٢.

(٢) المرجع السابق.

(٣) البحر ٧ / ٣١٨ والسمين ٤ / ٤٨٧.

(٤) المرجع السابق.

(٥) زاد المسير ٦ / ٤٩٦ والبحر المحيط ٧ / ٣١٨ والسبعة ٥٣٥ والإتحاف ٣٦٢ وإبراز المعاني ٦٥٧ والكشاف ٣ / ٣١٢ بدون نسبة والقرطبي ١٤ / ٣٥٦.

(٦) في «ب» ما.

(٧) في (ب) معنى.

(٨) في (ب) ما يعده الشيطان.

(٩) في (ب) غرور باطل.

١٥٢

السموات لقيام الساعة حكما. ويحتمل أن يقال : إن ذلك من باب التسليم وإثبات المطلوب كأنه تعالى قال : شركاؤكم ما خلقوا من الأرض شيئا ولا من السماء جزءا (١) لا قدرة لهم على الشفاعة فلا عبادة لهم وهب أنهم فعلوا شيئا من الأشياء فهل يقدرون على إمساك السموات والأرض ولا يمكنهم القول بأنهم يقدرون لأنهم ما كانوا يقولون ذلك كما قال تعالى عنهم : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥] ويؤيد هذا قوله : (وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) فإذن تبين أن لا معبود إلّا الله من حيث إن غيره لم يخلق شيئا من الأشياء وإن قال كافر بأن غيره خلق فما خلق مثل ما خلق فلا شريك (٢).

قوله : (أَنْ تَزُولا) يجوز أن يكون مفعولا من أجله أي كراهة أن تزولا (٣). وقيل : لئلا تزولا(٤) ، ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا على إسقاط الخافض أي يمنعهما من أن تزولا. كذا قدره أبو إسحاق (٥). ويجوز أن يكون بدل اشتمال أي يمنع (٦) زوالهما (٧).

قوله : (إِنْ أَمْسَكَهُما) جواب القسم الموطأ له بلام القسم (٨) وجواب الشرط محذوف (٩) يدل عليه جواب القسم ولذلك كان فعل الشرط ماضيا. وقول الزمخشري : إنه سدّ مسد الجوابين (١٠) يعني أنه دال على جواب الشرط.

قال أبو حيان ؛ وإن أخذ كلامه على ظاهره لم يصح لأنه لو سد مسدهما لكان له موضع من الإعراب من حيث إنه سد مسدّ جواب الشرط ولا موضع له من حيث إنه سد مسد جواب القسم ، والشيء الواحد لا يكون معمولا غير معمول (١١). و (مِنْ أَحَدٍ) من مزيدة لتأكيد الاستغراق و (مِنْ بَعْدِهِ) من لابتداء الغاية (١٢) والمعنى أحد سواه (١٣)(إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) ، «حليما» حيث لم يعجل في إهلاكهم بعد إصرارهم على إشراكهم «غفورا» لمن تاب ويرحمه وإن استحق (١٤) العقاب.

__________________

(١) في «ب» جره.

(٢) انظر : تفسير الرازي ٢٦ / ٣٣.

(٣) التبيان ١٠٧٦.

(٤) البحر نقلا عن قراءة ابن مسعود ٧ / ٣١٨.

(٥) قاله في معاني القرآن وإعرابه له ٤ / ٢٧٣.

(٦) في ب «منع».

(٧) نقله في البحر ٧ / ٣١٨. وذكر النحاس في «الإعراب» الوجه الأول والثالث انظره ٤ / ٣٧٦.

(٨) وهو : «وَلَئِنْ زالَتا».

(٩) وهو : غير إن أمسكهما من أحد وإنما إن زالتا «فإن هنا نفي».

(١٠) الكشاف ٣ / ٣١٢.

(١١) قاله في البحر ٧ / ٣١٨.

(١٢) نقله الزمخشريّ وأبو حيان في المرجعين السابقين.

(١٣) قاله الإمام البغوي في معالم التنزيل ٥ / ٣٠٦. وقال الفراء في المعاني : «وَلَئِنْ زالَتا» بمنزلة قوله : «ولو زالتا» (إن أمسكهما) «إن» بمعنى ما وهو بمنزلة قوله : «وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ» المعاني ٢ / ٣٧٠.

(١٤) نقله الإمام الفخر الرازي ٢٦ / ٣٣.

١٥٣

فإن قيل : ما معنى ذكر الحليم ههنا؟ قيل : لأن السموات والأرض همت بما همت من عقوبة الكفار فأمسكهما الله ـ عزوجل ـ عن الزوال لحلمه وغفرانه أن يعاجلهم بالعقوبة.

قوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ) يعني كفار مكة لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم وأقسموا بالله وقالوا : «لو أتانا رسول لنكونن أهدى» دينا منهم وذلك قبل مبعث النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فلما بعث محمد كذبوه فأنزل الله ـ عزوجل ـ (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ) رسول (لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) يعني اليهود والنصارى (١). وقيل : المعنى أهدى (٢) مما نحن عليه. وعلى هذا فقوله (مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) للتبيين كما يقال : زيد من المسلمين ، ويؤيده قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) أي صاروا أضل مما كانوا يقولون : نكون أهدى. وقيل : المراد أهدى من إحدى (٣) الأمم كقولك : زيد أولى من عمرو. وقيل : المراد بإحدى الأمم العموم أي إن إحدى الأمم يفرض واعلم أنه لما بين إنكارهم للتوحيد من تكذيبهم للرسول ومبالغتهم فيه حيث كانوا يقسمون على أنهم لا يكذبون الرسل إذا تبين لهم كونهم رسلا وقالوا إنما نكذب محمدا ـ عليه (الصلاة (٤) و) السلام ـ لكونه كاذبا ولو تبين لنا كونه رسولا لآمنّا كما قال تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها) [الأنعام : ١٠٩] وهذا مبالغة في التكذيب.

قوله : «ليكوننّ» (٥) جواب القسم المقدر والكلام فيه كما تقدم (٦). وقوله : (لَئِنْ جاءَهُمْ) حكاية لمعنى كلامهم لا للفظه إذ لو كان كذلك لكان التركيب لئن جاءنا لنكوننّ.

قوله : (مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) أي من الأمة التي يقال فيها : هي إحدى الأمم تفضيلا لها كقولهم: هو إحد (ى) (٧) الأحدين قال :

٤١٦٥ ـ حتّى استثاروا بي إحدى الإحد

ليثا هزبرا في سلاح معتد (٨)

قوله : (ما زادَهُمْ) جواب «لمّا». وفيه دليل على أنها حرف لا ظرف إذ لا يعمل ما

__________________

(١) نقله الإمام البغوي في تفسيره ٥ / ٣٠٦ وكذلك الخازن ٥ / ٣٠٦.

(٢) الفخر الرازي ٢٦ / ٣٤.

(٣) السابق.

(٤) زيادة من «ب».

(٥) في قوله : «وَلَئِنْ زالَتا».

(٦) في «ب» : لنكوننّ. تحريف.

(٧) زيادة من «أ» خطأ.

(٨) بيتان من الرجز وقد نسبا للمرّار الفقعسيّ ويروى البيت الثاني هكذا في اللسان :

ليثا هزبرا ذا سلاح معتدي

والشاهد «إحدى الإحد» حيث أن هذه (الإحدى) لا مثيلة ومفضلة في كل الإحد. قال ابن الأعرابي : «واحد لا مثيل له يقال : هذا إحدى الإحد وأحد الأحدين».

١٥٤

بعد «ما» النافية فيما قبلها (١) ، وتقدمت له نظائر (٢). وإسناد الزيادة للنذير مجاز لأنه سبب في ذلك كقوله : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٥].

فصل

معنى فلما جاءهم أي صح لهم مجيئه بالمعجزة وهو محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) أي ما زادهم بمجيئه إلا تباعدا عن الهدى.

قوله : «استكبارا» يجوز أن يكون مفعولا له أي لأجل الاستكبار (٣). وأن يكون بدلا من (٤) «نفورا» وأن يكون حالا أي حال كونهم مستكبرين (٥). قاله الأخفش.

قوله : (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) فيه وجهان :

أظهرهما : أنه عطف على «استكبارا».

والثاني : أنه عطف على «نفورا» (٦). وهذا من إضافة الموصوف إلى صفته (٧) في الأصل إذ الأصل والمكر والسيّىء (٨). وقرأ العامّة بخفض همزة «السيّىء». وحمزة والأعمش بسكونها وصلا (٩). وقد تجرأت النحاة وغيرهم على هذه القراءة ونسبوها للّحن

__________________

(١) قال بظرفيتها ابن السّراج والفارسيّ وابن جنّي. وهي حرف وجود لوجود. وبعضهم يقول : حرف وجوب لوجوب. وقال ابن مالك : هي ظرف بمعنى «إذا» ووجهه المغني قال : «وهو حسن لأنها مختصة بالماضي وبالإضافة إلى الجملة». وقد رد ابن خروف ردا طريفا على مدعي الاسمية قائلا يجوز أن يقال : «لما أكرمتني أمس أكرمتك اليوم» ، لأنها إذا قدرت ظرفا كان عاملها الجواب ، والواقع في اليوم لا يكون في الأمس (بتصرف من المغني ١ / ٢٨٠).

(٢) كقول الله : (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) الآية ٧٨ من يوسف وكقوله تعالى في الإسراء : (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) ٦٧ ، وكقوله في هود : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً) ٥٨ ، و (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً) ٦٦ ، (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً) ٩٤ ومواضع أخرى من آي القرآن الكريم.

(٣) قاله الفراء في المعاني ٢ / ٣٧١ ومكي في المشكل ٢ / ٢١٨ والزجاج في معانيه ٤ / ٣٧٤ ، والنحاس في الإعراب ٤ / ٣٧٧ ، وابن الأنباري في البيان ٢ / ٢٨٩ ، والزمخشري في الكشاف ٣ / ٣١٢ والسمين في الدر ٤ / ٤٨٩ وأبو حيان في البحر ٧ / ٣١٩ وأبو البقاء في التبيان ١٠٧٧.

(٤ و ٥) ذكرهما الزمخشري وأبو حيان والسمين في المراجع السابقة.

(٦) نقله الزمخشري والنحاس وأبو حيان وأبو البقاء المراجع السابقة.

(٧) مشكل إعراب القرآن ٢ / ٢١٨ والبحر ٧ / ٣١٩.

(٨) فهم يرون أن الموصوف والصفة شيء واحد لأنهما لعين واحدة فإذا قلت : «جاءني زيد العاقل» ، «فالعاقل» هو «زيد» وزيد هو العاقل فلما كانا كذلك لم يجز إضافة أحدهما إلى الآخر وإذا ورد ما يوهم ذلك أول على أنه صفة لموصوف محذوف مثل الآية هنا. بتصرف من المفصل وشارحه ابن يعيش ٣ / ١٠.

(٩) من القراءة المتواترة وقد نسبها ابن مجاهد في السبعة ٥٣٥ إلى حمزة وحده بينما في الإتحاف ذكر الأعمش وحمزة والأعمش موافقا لحمزة. الإتحاف ٣٦٢. وانظر معاني الفراء ٢ / ٣٧١ قال : «وقد ـ

١٥٥

ونزهوا الأعمش من (١) أن يكون قرأ بها. قالوا : وإنما وقف (٢) مسكنا فظنّ أنه واصل فغلط عليه (٣). وقد احتج لها قوم بأنه إجراء الوصل مجرى الوقف أو أجري المنفصل مجرى المتصل وحسّنه كون الكسرة على حرف ثقيل بعد ياء مشددة مكسورة (٤). وقد تقدّم أنّ أبا عمرو يقرأ : (إِلى بارِئِكُمْ) (عِنْدَ بارِئِكُمْ)(٥) بسكون الهمزة. فهذا أولى لزيادة الثقل هنا. وقد تقدم هنا (ك) (٦) أمثلة وشواهد ، وروي عن ابن كثير «ومكر السأي» بهمزة ساكنة بعد السين ثم ياء مكسورة (٧). (و) (٨) خرجت على أنها مقلوبة من السّيء ، والسّيء مخفف (من السيّىء) (٩) كالميّت من الميّت قال الحماسيّ :

٤١٦٦ ـ ولا يجزون من حسن بسيء

ولا يجزون من غلظ بلين (١٠)

وقد كثر في قراءته القلب نحو ضياء ، وتأيسوا ولا يأيس (١١) ، كما تقدم تحقيقه. وقرأ عبد الله : «ومكرا سيئا» بالتنكير وهو موافق لما قبله (١٢). وقرىء : ولا يحيق بضم

__________________

ـ جزمها الأعمش وحمزة لكثرة الحركات كما قال : «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» وكما قال الشاعر :

إذا اعوججن قلت صاحب قوم

يريد صاحب قوم فجزم الباء لكثرة الحركات». المعاني ٢ / ٣٧١. وانظر : الكشاف ٣ / ٣١٢ فكثرة الحركات هي التي دعت إلى تلك القراءة.

(١) في «ب» عن.

(٢) في «ب» وقعت تحريف.

(٣) من هؤلاء الذين أدانوا تلك القراءة من النحاة المفسرين أبو إسحاق الزجاج فقد قال في معاني القرآن وإعرابه : ٤ / ٢٧٥ : «وهذا عند النحويين الحذّاق لحن ولا يجوز وإنما يجوز مثله في الشعر في الاضطرار قال الشاعر : إذا اعوججن قلت صاحب قوم ... والأصل : يا صاحب قوم. ولكنه حذف مضطرا».

(٤) قال بهذا المعنى ابن خالويه في الحجة ١٩٧ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٣١٢ والبناء في الإتحاف ٣٦٢ وباللفظ السمين في الدر ٤ / ٤٨٩.

(٥) الآية ٥٤ من البقرة وانظر المراجع السابقة واللباب ١ / ١١٧ ب.

(٦) سقط من «ب».

(٧) ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٢٤ وأبو حيان في البحر ٧ / ٣٢٠.

(٨ و ٩) سقط من «ب».

(١٠) من الوافر وهو لأبي الغول الطهويّ ويروى (بسوءي) كما يروى : (بسوء) وشاهده (بسيىء) على أنها مخفف سيّيء وانظر : شرح المفصل لابن يعيش ٥ / ٥٥ و ٦ / ١٠٢ والبحر ٧ / ٣٢٠ والدر ٤ / ٤٩٠ وأمالي القالي ١ / ٢٦٠ والخزانة ٦ / ٤٣٤ و ٨ / ٣١٤.

(١١) يشير إلى كلمة الضياء واليأس التي وردت في قوله تعالى : «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً» الآية (٥) من يونس «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً» ١٤٨ الأنبياء «ومَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ»١٧١ القصص.

(١٢) ذكره القرطبي ١٤ / ٣٥٩ وأبو حيان في البحر ٧ / ٣٢٠ والكشاف ٣ / ٣١٢ وابن جني في المحتسب ٢ / ٢٠٢ والفراء ٢ / ٣٧١.

١٥٦

الياء المكر السّيّىء بالنصب (١) على أن الفاعل ضمير الله تعالى ؛ أي لا يحيط الله المكر السّيّىء إلّا بأهله.

فصل

المراد بالمكر السيّىء أي القبيح أضيف المكر إلى صفته قال الكلبي : هو اجتماعهم على الشرك (٢). وقيل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) ـ وقال ابن الخطيب : هذا من إضافة الجنس إلى نوعه (٤) كما يقال : علم الفقه وحرفة الحدادة ومعناه : ومكروا مكرا سيئا ثم عرّف لظهور مكرهم ثم ترك التعريف باللام وأضيف إلى السيّىء لكون السر فيه أبين الأمور. ويحتمل أن يقال : بأن المكر استعمل استعمال العمل كما ذكرنا في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ)(٥) أي يعملون السيئات.

قوله : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ) أي لا يحل ولا يحيط (٦) ، وقوله : «يحيق» ينبىء عن الإحاطة التي هي فوق اللحوق.

فإن قيل : كثيرا ما نرى الماكر يمكر ويفيده المكر ويغلب الخصم بالمكر والآية تدل على عدم ذلك.

فالجواب من وجوه :

أحدها : أن يكون المكر المذكور في الآية هو المكر الذي مكروه مع النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من العزم على القتل والإخراج ولم يحق إلا بهم حيث قتلوا يوم بدر وغيره.

وثانيها : أن نقول : المكر عام وهو الأصح ، فإن النبي ـ عليه (الصلاة (٧) و) السلام ـ نهى عن المكر وأخبر بقوله : «لا تمكروا ولا تعينوا ماكرا فإنّ الله يقول : ولا يحيق المكر السّيّىء إلّا بأهله» (٨) وعلى هذا (فذلك) (٩) الرجل الماكر يكون أهلا فلا يرد نقضا.

وثالثها : أن الأعمال بعواقبها ومن مكر غيره ونفذ فيه المكر عاجلا في الظاهر فهو في الحقيقة هو الفائز والماكر هو الهالك كمثل راحة الكافر ومشقّة المسلم في الدنيا ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) يعني إن كان لمكرهم في الحال رواج فالعاقبة للتقوى والأمور بخواتيمها.

__________________

(١) ولم يعزها أبو حيان في بحره ٧ / ٣٢٠ وانظر الدر المصون ٤ / ٤٩٠.

(٢) وقد ذكره الطبري عن قتادة. وانظر : زاد المسير ٦ / ٤٩٨.

(٣) المرجع السابق.

(٤) المرجع السابق.

(٥) قاله الرازي في تفسيره ٢٦ / ٣٤.

(٦) في «ب» معنى. وانظر : معاني الزجاج ٤ / ٢٧٥ والمجاز لأبي عبيدة ٢ / ١٥٦.

(٧) زيادة من «ب».

(٨) ذكره القرطبي ١٤ / ٣٦٠ عن الزهري والرازي ٢٦ / ٣٤.

(٩) سقط من «ب».

١٥٧

قوله : (سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) مصدر مضاف لمفعوله و (لِسُنَّتِ اللهِ) مصدر مضاف لفاعله لأنه سنّها بهم فصحت إضافتها إلى الفاعل والمفعول. وهذا جواب (عن) (١) سؤال وهو أن الإهلاك ليس سنة الأولين إنما هو سنة الله في الأولين والجواب عن هذا السؤال من وجهين :

أحدهما : أن المصدر الذي هو المفعول المطلق يضاف إلى الفاعل والمفعول لتعلقه بهما من وجه دون وجه فيقال فيما إذا ضرب زيد عمرا : عجبت من ضرب عمرو وكيف ضرب مع ما له من القوم (٢) والقوة؟ وعجبت من ضرب عمرو وكيف ضرب مع ماله من العلم والحلم (٣)؟ فكذلك سنة الله بهم أضافها إليهم لأنها (سنة) (٤) سنت بهم وإضافتها إلى (٥) نفسه بعدها بقوله : (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ) لأنها سنة من الله ، فعلى هذا نقول : أضافها في الأول إليهم حيث قال : سنة الأولين ، لأن سنة الله الإهلاك بالإشراك والإكرام على الإسلام فلا يعلم أنهم ينتظرون أيتهما فإذا قال : سنة الأولين تميزت وفي الثاني أضافها (٦) إلى الله لأنها لما علمت فالإضافة إلى الله تعظيما وتبين أنها أمر واقع ليس لها من دافع.

وثانيهما : أن المراد من سنة الأولين استمرارهم على الإنكار واستكبارهم عن الإقرار وسنة الله استئصالهم بإصرارهم فكأنه قال : أنتم تريدون الإتيان بسنة الأولين والله يأتي بسنة لا تبديل لها ولا تحويل عن مستحقّها.

فإن قيل : ما الحكمة في تكرار التبديل والتحويل؟

فالجواب : أن المراد بقوله : (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً) حصول العلم بأن العذاب لا يبدل بغيره وبقوله : (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) حصول العلم بأن العذاب مع أنه لا يتبدل بالثواب لا يتحول عن مستحقه إلى غيره فيتم تهديد المسيء.

فصل

المعنى فهل ينتظرون إلا أن ينزل بهم العذاب كما نزل بمن مضى (٧) من الكفار والمخاطب بقوله : (فَلَنْ تَجِدَ) عام كأنه قال : لن تجد أيها السامع وقيل : الخطاب مع محمد ـ عليه (الصلاة (٨) و) السلام ـ.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ

__________________

(١) كذلك.

(٢) في «ب» العزم وهو موافق للرازي.

(٣) في «ب» الحكم.

(٤) سقط من «ب».

(٥) وانظر في هذا كله الرازي ٢٦ / ٣٤ و ٣٥.

(٦) في «ب» إضافتها.

(٧) بمن مضى كذا هنا هو الأصح في «أ». وفي «ب» عن معنى تحريف.

(٨) زيادة من «ب» وانظر هذا كله في الرازي ٢٦ / ٣٥ و ٣٦.

١٥٨

وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً)(٤٥)

قوله : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) لما ذكر الأولين وسنته في إهلاكهم نبههم بتذكير الأولين فإنهم كانوا يمرون على ديارهم ويرون آثارهم وأملهم كان فوق أملهم وعملهم كان دون عملهم وكانوا أطول أعمارا منهم وأشد اقتدارا ومع هذا لم يكذبوا مثل محمد وأنتم يا أهل مكة كفرتم محمدا ومن تقدّمه.

قوله : (وَكانُوا أَشَدَّ) جملة في موضع نصب على الحال (١) ونظيرتها في الروم : «كانوا» (٢) بلا «واو» على أنها مستأنفة فالمقصدان مختلفان.

وقال ابن الخطيب : الفرق بينهما أن قول القائل : «أما رأيت زيدا كيف أكرمني هو أعظم منك» يفيد أن القائل يخبره بأن زيدا أعظم وإذا قال : ما (٣) رأيته (٤) كيف أكرمني وهو أعظم (منك) (٥) يفيد أن يقرر أن المعنيين حاصلان عند السامع كأنه رآه أكرمه ورآه أكرم منه (و) (٦) لا شك في أن هذه العبارة الأخيرة تفيد كون الأمر الثاني في الظهور مثل الأول بحيث لا يحتاج إلى إعلام من المتكلم ولا إخبار. وإذا علم هذا فنقول : المذكور ههنا كونهم أشدّ منهم قوة لا غير ولعل ذلك كان ظاهرا عندهم فقال «بالواو» أي نظركم كما يقع على عاقبة أمرهم يقع على قوتهم وأما هناك فالمذكور أشياء كثيرة فإنه قال : (أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ) [الروم : ٩]. وفي موضع آخر قال : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) [غافر : ٨٢] ولعل علمهم لم يحصل بإثارتهم (٧) في الأرض أو (٨) بكثرتهم ولكن نفس القوة ورجحانهم كان معلوما عندهم فإن كل طائفة تعتقد فيمن تقدمها أنها (٩) أقوى منها ولا تنازع فيه.

__________________

(١) قاله السمين في الدر ٤ / ٤٩٠.

(٢) الآية ٩ منها وانظر : البحر المحيط ٧ / ٣٢٠ والسمين ٤ / ٤٩٠.

(٣) في الرازي «أما» لا (ما) كما في النسختين.

(٤) في «ب» رأيت وما هنا موافق للفخر الرازي.

(٥) ساقط من «ب» وهو في الفخر.

(٦) كذلك.

(٧) الأصح كما أثبت أعلى وهو موافق للرازي وفي النسختين بإثارهم.

(٨) في «ب» أي. والرازي موافق لما هنا.

(٩) في الفخر (أنهم) بالجمع وفي «ب» أنه بالإفراد المذكر.

١٥٩

قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ) أي ليفوت عنه. وهذا يحتمل شيئين (١) :

أحدهما : أن يكون المراد بيان أن الأولين مع شدة قوتهم ما عجزوا الله وما فاتوه فهم أولى بأن لا يعجزوه.

والثاني : أن يكون قطعا لاعتقاد الجهال فإنّ قائلا لو قال : هب أن الأولين كانوا أشدّ قوة وأطول أعمارا لكنا نستخرج بذكائنا ما يزيد على قواهم ونستعين بأمور أرضيّة لها خواص أو كواكب سماوية لها آثار فقال الله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ، وَكانَ اللهُ عَلِيماً)(٢) بأفعالهم وأقوالهم «قديرا» على إهلاكهم واستئصالهم.

قوله : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا) من الجرائم (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) يعني على ظهر الأرض كناية عن (٣) غير مذكور. وتقدم نظيرها في النحل (٤) ، إلّا أن هناك لم يجر للأرض ذكر بل عاد الضمير على ما فهم من السّياق وهنا قد صرح بها في قوله : (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) فيعود الضمير إليها لأنها أقرب ، وأيضا فلقوله : (مِنْ دَابَّةٍ) والدب إنما يكون على ظهر الأرض وهنا قال : (عَلى ظَهْرِها) استعارة من ظهر الدابة دلالة على التمكن والتقلب عليها والمقام هنا يناسب ذلك لأنه حث على السير للنظر والاعتبار.

قوله : (مِنْ دَابَّةٍ) أي كما كان في زمن نوح ـ عليه (الصلاة (٥) و) السلام ـ أهلك الله ما على ظهر الأرض من كان في السفينة مع نوح.

فإن قيل : إذا كان الله يؤاخذ الناس بما كسبوا فما (بال) (٦) الدوابّ يهلكون؟

فالجواب من وجوه :

أحدها : أن خلق الدواب نعمة فإذا كفر الناس يزيل الله النعم والدوابّ أقرب النعم ، لأن المفرد (أولا) (٧) ثم المركب والمركب إما أن يكون معدنا وإما أن يكون ناميا والنامي إما أن يكون حيوانا أو نباتا والحيوان إما (٨) إنسانا أو غير إنسان فالدوابّ أعلى درجات المخلوقات في عالم العناصر للإنسان.

الثاني : أن ذلك بيان لشدة العذاب وعمومه فإن بقا (ء الأشياء) (٩) بالإنسان كما أنّ بقاء الإنسان بالأشياء لأن الإنسان يدبر الأشياء ويصلحها فتبقى الأشياء ثم ينتفع بها

__________________

(١) في الفخر وجهين وفي «ب» معنيين.

(٢) في «أ» عالما والصحيح من «ب».

(٣) في «ب» من.

(٤) عند قوله : «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ» وهي الآية (٦١) منها.

(٥) زيادة من «ب».

(٦) تصحيح لغوي عن النسختين.

(٧) سقط من «ب».

(٨) كذا هنا. وفي الرازي وفي «ب» إما أن يكون إنسانا.

(٩) سقط من النسختين وهو تكملة من الرّازي.

١٦٠