اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٧٤

قوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ) أي نفس وازرة بحذف الموصوف للعلم به (١). ومعنى «تزر» تحمل ، أي لا تحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى.

قوله : (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ) أي نفس مثقلة (٢) بالذنوب نفسا إلى حملها فحذف المفعول به للعلم (٣) به. والعامة (لا يُحْمَلْ) مبنيا للمفعول و «شيء» قائم مقام الفاعل ، وأبو السّمّال وطلحة ـ وتروى عن الكسائي ـ بفتح التاء من فوق وكسر (٤) الميم. أسند الفعل إلى ضمير النفس المحذوفة التي هي مفعولة «لتدع» أي لا تحمل تلك النفس الدّعوة (و) شيئا مفعول «بلا تحمل» (٥).

قوله : (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) أي ولو كان المدعو ذا قربى (٦) ، وقيل : التقدير ولو كان الدّاعي ذا قربى (٧) ، والمعنيان حسنان ، وقرىء : «ذو» بالرفع على أنها التامة أي ولو حضر ذو قربى نحو : قد كان من مطر (٨) ، (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) [البقرة : ٢٨٠]. قال الزمخشري : ونظم الكلام أحسن ملاءمة للنّاقصة لأن المعنى على أن المثقلة إذا دعت أحدا إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان مدعوها ذا قربى وهو ملتئم ولو قلت : ولو وجد ذو قربى لخرج عن التئامه (٩) ، قال أبو حيان : وهو ملتئم على المعنى الذي ذكرناه (١٠). قال شهاب الدين : والذي قاله هو أي ولو حضر إذ ذاك ذو قربى (١١). ثم قال : وتفسيره «كان» وهو مبني للفاعل ب «وجد» وهو مبني للمفعول تفسير معنى والذي يفسر النّحويّ به كان التامة نحو : حدث وحضر ووقع (١٢).

فصل

المعنى وإن تدع مثقلة بذنوبها غيرها إلى حملها أي يحمل ما عليه من الذنوب لا

__________________

(١) البحر ٧ / ٣٠٧ والدر المصون ٤ / ٤٧٢.

(٢) المرجعان السابقان.

(٣) الدر المصون ٤ / ٤٧٢.

(٤) المرجعان السابقان.

(٥) وقد قال الأخفش في المعاني : وقال : «وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها» فكأنه قال : «وإن تدع إنسانا لا يحمل من ثقلها شيئا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى» فأقر بحذف مفعول «تدع» وانظر المعاني له ٢ / ٦٦٤ و ٦٦٥ ، والجامع ١٤ / ٣٣٨ وإعراب القرآن ٤ / ٣٦٨.

(٦) هذا رأي الأخفش في المعاني السابق ، وانظر : إعراب القرآن ٣ / ٣٦٨ والبيان ١٠٧٤ والكشاف ٣ / ٣٠٥.

(٧) هذا رأي ابن عطية نقله عنه العلامة أبو حيان في بحره ٧ / ٣٠٨.

(٨) وجد في البحر : «وقالت العرب : قد كان لبن أي حضر وحدث» والشاهد في هذا المثال الوارد عن العرب استعمال كان تامة بمعنى حضر وحدث و «مطر» فاعل به «بوجد».

(٩) مع تغيير طفيف في بعض الكلم وانظر : الكشاف ٣ / ٣٠٥.

(١٠) البحر ٧ / ٣٠٨.

(١١) يقصد شيخه أبا حيان وهذه مقولته في البحر انظر المرجع السابق.

(١٢) السابق.

١٢١

يحمل منه شيء ولو كان المدعو ذا قرابة له ابنه أو أباه أو أمّه أو أخاه. قال ابن عباس : يلقى الأب أو الأمّ ابنه فيقول يا بني احمل عني بعض ذنوبي فيقول لا أستطيع حسبي ما عليّ (١).

قوله : (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) ولم يروه. قال الأخفش : تأويله إنذارك إنما ينفع الذين يخشون ربهم بالغيب (٢).

قوله : «بالغيب» حال من الفاعل أي يخشونه غائبين عنه. أو من المفعول أي غائبا عنهم (٣). وقوله : (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) في المعنى (٤).

قوله : (وَمَنْ تَزَكَّى) قرأ العامة «تزكّى» تفعّل (فَإِنَّما يَتَزَكَّى) يتفعل. وعن أبي عمرو «ومن يزكى فإنما يزكى» والأصل فيهما يتزكّى فأدغمت التاء في الزاي كما أدغمت في الدال نحو «يذّكّرون» في «يتذكّرون» (٥) ، وابن مسعود وطلحة : «ومن ازكى» والأصل (٦) تزكّى فأدغم (باجتلاب همزة (٧) الوصل «فإنما يزكى» أصله «يتزكى فأدغم») كأبي عمرو في غير المشهور عنه.

فصل

معنى (وَمَنْ تَزَكَّى) صلى وعمل خيرا (فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) لها ثوابه (٨). (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) أي التزكي إن لم تظهر فائدته عاجلا فالمصير إلى الله يظهر عنده يوم القيامة في دار البقاء. والوازر إن لم تظهر تبعة وزره في الدنيا فهي تظهر في الآخرة إذ المصير إلى الله. ثم لما بين الهدى والضلالة ولم يهتد الكافر وهدى الله المؤمن ضرب له مثلا بالبصير والأعمى فالمؤمن بصير حيث أبصر الطريق الواضح والكافر أعمى (٩).

قوله : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) استوى من الأفعال التي لا يكتفى (١٠) فيها بواحد لو قلت : استوى زيد لم يصح فمن ثمّ لزم العطف على الفاعل أو تعدده و «لا»

__________________

(١) معالم التنزيل ٥ / ٣٠٠.

(٢) السابق.

(٣) قال الزمخشري في كشافه ٣ / ٣٠٥ والبحر المحيط ٧ / ٣٠٨ ، والدر المصون ٤ / ٤٧٣ «بالغيب» غائبين «ويخشون العذاب» غائبا عنهم.

(٤) أي في ذلك المعنى المشار إليه. وانظر : الفخر الرازي ٢٦ / ١٥.

(٥) لم أجدها في المتواتر عن أبي عمرو أحد القراء السبعة فهي في ابن خالويه ١٢٣ والبحر ٧ / ٣٠٨ وهي من الشواذ.

(٦) ذكرها الكشاف بدون نسبة إلى من قرأ بها انظر : الكشاف ٣ / ٣٠٦ وفي مختصر الإمام ابن خالويه ١٢٣ «ومن ازّكّى : ابن مسعود ولكن صاحب الشواذ عزاها لابن مصرف». انظر : الشواذ ٢٠٠.

(٧) ما بين القوسين كله ساقط من «ب».

(٨) نقله البغويّ في معالم التنزيل ٥ / ٣٠٠.

(٩) قاله الإمام الفخر في تفسيره ٢٦ / ١٥ و ١٦.

(١٠) قاله شهاب الدين في الدر ٤ / ٤٧٤.

١٢٢

في قوله : (وَلَا الظُّلُماتُ) إلى آخره مكررة لتأكيد النفي (١). وقال ابن عطية : دخول «لا» إنما هو على نية التكرار كأنه قال : ولا الظلمات والنور ولا النور (٢) والظلمات فاستغنى بذكر الأوائل عن الثّواني ودل مذكور الكلام على متروكه. قال أبو حيان : وهذا غير محتاج إليه لأنه إذا نفي استواؤهما أولا فأي فائدة في نفي (٣) استوائهما ثانيا؟ وهو كلام حسن إلا أن أبا حيان هنا قال : فدخول «لا» في النفي لتأكيد معناه (٤) كقوله : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) [فصلت : ٣٤] وللناس في هذه الآية قولان :

أحدهما : ما ذكر.

والثاني : أنها غير مؤكدة إذ يراد بالحسنة الجنس وكذلك السّيّئة فكل واحد منهما متفاوت في جنسه لأن الحسنات درجات متفاوته وكذلك السيئات (٥). وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله تعالى. فعلى هذا يمكن أن يقال بهذا هنا (٦) في الظاهر ؛ إذ المراد مقابلة هذه الأجناس بعضها ببعض لا مقابلة بعض أفراد كل جنس على حدته ويرجح هذا الظاهر التصريح بهذا في قوله أولا : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) حيث لم يكررها وهذا من المواضع الحسنة المفيدة. «والحرور» شدة حر الشمس (٧) ، وقال الزمخشري : الحرور السّموم إلا أنّ السّموم بالنهار والحرور فيه وفي الليل (٨). قال شهاب الدّين : وهذا (٩) مذهب الفراء (١٠) وغيره. وقيل : السموم بالنهار والحرور بالليل خاصة. نقله ابن عطية عن (١١) رؤبة. وقال : ليس بصحيح بل الصحيح ما قاله الفراء. وهذا عجيب منه كيف يرد على أصحاب اللّسان بقول من يأخذ عنهم (١٢)؟ وقرأ الكسائي ـ في رواية زاذان (١٣) ـ عنه

__________________

(١) المرجع السابق وانظر أيضا : البحر المحيط لأبي حيان ٧ / ٣٠٨.

(٢) نقله عنه الإمام أبو حيان في البحر المرجع السابق. وقال أبو البقاء في التبيان : «لا» فيها زائدة لأن المعنى : الظلمات لا تساوي النور ، وليس المراد أن النور في نفسه لا يستوي وكذلك (لا) في «ولا الأموات». انظر : التبيان ١٠٧٤.

(٣) في البحر : «في تقدير نفي».

(٤) قال : «وأنت تقول : ما قام زيد ولا عمرو فتؤكد بلا معنى النفي فكذلك هذا». البحر ٧ / ٣٠٨.

(٥) قاله الكشاف ٣ / ٣٠٦ معنى والدر المصون ٤ / ٤٧٤ لفظا.

(٦) وهو أن المراد نفي استواء الظلمات ونفي استواء النور إلا أن هذا غير مراد هنا في الظاهر وانظر : الدر المصون ٤ / ٤٧٤ والكشاف ٣ / ٤٥٣ و ٤٥٤.

(٧) قال في الغريب : «هذا المثل للجنّة والنار» انظر : الغريب ٣٦١.

(٨) قاله في الكشاف ٣ / ٣٠٦.

(٩) الدر المصون ٤ / ٤٧٤.

(١٠) لم أجدها في معانيه ونقلها عنه القرطبي في الجامع ١٤ / ٣٣٩ والسمين في الدر ٤ / ٤٧٤.

(١١) نقله أبو حيان في البحر ٧ / ٣٠٩ كما نقله أبو عبيدة في المجاز ٢ / ١٥٤ عنه.

(١٢) البحر المحيط السابق.

(١٣) هو إبراهيم بن زاذان روى عن عليّ بن حمزة الكسائي. انظر ترجمته في غاية النهاية ١ / ١٤ وانظر القراءة في البحر المحيط ٧ / ٣٠٨ ومختصر ابن خالويه ١٢٣ والدر المصون ٤ / ٤٧٥.

١٢٣

«وما تستوي الأحياء» بالتأنيث على معنى الجماعة. وهذه الأشياء جيء بها على سبيل الاستعارة والتمثيل فالأعمى والبصير الكافر والمؤمن والظلمات والنور الكفر والإيمان والظّلّ والحرور الحقّ والباطل والأحياء والأموات لمن دخل في الإسلام ولمن لم يدخل فيه. وجاء ترتيب هذه المنفيّات (١) على أحسن الوجوه فإنه تعالى لما ضرب الأعمى والبصير مثلين للكافر والمؤمن عقبه بما كل منهما فيه فالكافر في ظلمة والمؤمن في نور لأن البصير وإن كان حديد النظر لا بدّ له من ضوء يبصر فيه وقدم الأعمى ؛ لأن البصير فاصلة فحسن تأخيره ولما تقدم الأعمى في الذكر ناسب تقديم (٢) ما هو فيه فلذلك قدمت الظلمة على النور ولأن النور فاصل. ثم ذكر ما لكلّ منهما فللمؤمن الظل وللكافر الحرور ، وأخّر الحرور لأجل الفاصلة كما تقدم. وقولنا : لأجل الفاصلة هنا وفي غيره من الأماكن أحسن من قبل بعضهم لأجل السجع لأن القرآن ينزّه عن ذلك. وقد منع الجمهور أن يقال في القرآن سجع (٣) ، وإنما كرر الفعل في قوله : (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ) مبالغة في ذلك لأن المنافاة بين الحياة والموت أتم من المنافاة المتقدمة وقدم الأحياء لشرف الحياة ولم يعد «لا» تأكيدا في قوله الأعمى والبصير وكررها في غيره لأن منافاة ما بعده أتمّ فإن الشخص الواحد قد يكون بصيرا ثم أعمى فلا منافاة إلا من حيث الوصف بخلاف الظّلّ والحرور والظلمات والنور فإنها متنافية أبدا لا تجتمع اثنان منها في محلّ فالمنافاة بين الظل والحرور وبين الظلمة والنور دائمة.

فإن قيل : الحياة والموت بمنزلة العمى والبصر فإن الجسم قد يكون متصفا بالحياة ثم يتصف بالموت!

فالجواب : أن المنافاة بينهما أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير لأن الأعمى والبصير يشتركان في إدراكات كثيرة ولا كذلك الحي والميت فالمنافاة بينهما أتمّ. وأفرد (الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) لأنه قابل الجنس بالجنس إذ قد يوجد في أفراد العميان ما يساوي بعض أفراد البصراء كأعمى ذكي له بصيرة يساوي بصيرا بليدا فالتفاوت بين الجنسين مقطوع به لا بين الأفراد (٤).

وجمع الظلمات لأنها عبارة عن الكفر والضلال وطرقهما (٥) كثيرة متشعبة. ووحد

__________________

(١) في «ب» المنقبات. تحريف.

(٢) في «ب» تقدم.

(٣) شنّع السيوطيّ على من وصف القرآن بالسجع فقال في الإتقان ٢ / ١٢٥ : «وأمّا ما جاء في القرآن من سجع فهو كثير لا يصح أن يتفق غير مقصود إليه ولو كان القرآن سجعا لكان غير خارج عن أساليب كلامهم ولو كان داخلا فيها لم يقع بذلك إعجاز».

(٤) بالمعنى قليلا من الفخر ٢٦ / ١٦ و ١٧ وباللفظ من الدر المصون والبحر. الدر ٤ / ٤٧٥ و ٤٧٦ والبحر ٧ / ٣٠٩.

(٥) في «ب» وطرقها إفرادا لا تثنية راجعة إلى الظلمات.

١٢٤

النور لأنه عبارة عن التوحيد وهو واحد فالتفاوت (١) بين كل فرد من أفراد الظلمة وبين هذا الفرد الواحد والمعنى الظلمات كلها لا تجد فيها ما يساوي هذا الواحد (٢). قال شهاب الدين : كذا قيل. وعندي (أنه) (٣) ينبغي أن يقال : إن هذا الجمع لا يساوي هذا الواحد فنعلم انتفاء مساواة (٤) (فرد منه) (٥) (ل) هذا الواحد بطريق أولى وإنما جمع الأحياء والأموات لأن التفاوت بينهما أكثر إذ ما من ميّت يساوي في الإدراك حيّا فذكر أن الأحياء لا يساوون الأموات سواء قابلت الجنس بالجنس أم الفرد بالفرد(٦).

فصل

قال ابن الخطيب : قدم الأشرف في مثلين وهو (٧) الظّل والحيّ (٨) وأخّره في مثلين وهو البصر والنور وفي مثل هذا يقول المفسرون : إنه لتواخي أواخر الآيات. وهذا ضعيف لأن تواخي الأواخر راجع إلى السجع ومعجزة القرآن في المعنى لا في مجرد اللفظ فالشاعر يقدم ويؤخر للسجع فيكون اللفظ حاملا له على تغيير المعنى وأما القرآن فحكمة بالغة المعنى فيه صحيح واللفظ يصح فلا يقدم ويؤخر اللفظ بلا معنى فنقول (٩) : الكفار قبل النبي ـ عليه الصلاة (١٠) والسلام ـ كانوا في ضلالة فكانوا كالعمي وطريقتهم كالظلمة ثمّ لما جاء النبي ـ عليه (الصلاة (١١) و) السلام ـ وبين الحق واهتدى به منهم قوم فصاروا بصيرين وطريقتهم كالنّور فقال : (لا يَسْتَوِي) من كان قبل البعث على الكفر ومن اهتدى بعده إلى الإيمان فلما كان الكفر قبل الإيمان في زمان محمد ـ عليه (الصلاة (١٢) و) السلام ـ والكافر قبل المؤمن قدم المقدم. ثم لما ذكر المآل والمرجع قدم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب لقوله ـ عليه (الصلاة (١٣) و) السلام ـ في الإلهيات : «سبقت رحمتي غضبي» (١٤) ، ثم إن الكافر المصر بعد البعث (١٥) صار أضلّ من الأعمى وشابه الأموات في عدم إدراك الحق من جميع الوجوه فقال : (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ) أي

__________________

(١) في «ب» والتفاوت بالواو.

(٢) من كلام أبي حيان في البحر المحيط مع تغيير طفيف في بعض الكلمات. وقد قال أبو حيان : إن هذا من كلام أبي عبد الله الرازي البحر ٧ / ٣٠٩.

(٣) سقط من «ب» وهي موجودة في السمين.

(٤) في السمين كما هنا وفي «ب» تساوي بالفعلية.

(٥) ساقط من «ب».

(٦) انظر الدر المصون ٤ / ٤٧٦.

(٧) كذا هي في الفخر وفي «ب» هي.

(٨) التصحيح من الرازي عن النسختين «الحرور» فما أثبته أعلى خطأ.

(٩) كذا هي في الفخر وفي «ب» تقول.

(١٠) في «ب» ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ موافقة للفخر.

(١١) سقط من «أ».

(١٢) سقط من «أ» أيضا.

(١٣) سقط من «أ».

(١٤) وانظر : تفسير الرازي ٢٦ / ١٧.

(١٥) كذا في النسختين. وما في الفخر البعثة.

١٢٥

المؤمنون (١) الذين آمنوا بما أنزل الله والأموات الذين تليت عليهم الآيات البينات ولم ينتفعوا بها وهؤلاء كانوا بعد الإيمان (٢) من آمن فأخرهم عن المؤمنين لوجود حياة المؤمنين قبل ممات الكافرين المعاندين. وقدم الأعمى على البصير لوجود الكفار الضالّين قبل البعثة (٣) على المؤمنين المهتدين بها.

فصل

قال المفسرون : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) (يعني) (٤) الجاهل والعالم. وقيل الأعمى عن الهدى والبصير بالهدى أي المؤمن والمشرك (وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ) يعني (٥) الكفر والإيمان (وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) يعني الجنة والنار (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) يعني المؤمنين والكفار. وقيل : العلماء والجهال. (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) حتى يتعظ ويجيب (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) يعني الكفار شبههم بالأموات في القبور حين لم يجيبوا (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) ما أنت إلا منذر فخوّفهم بالنار(٦).

قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)(٢٦)

قوله : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) لما قال : إن أنت إلا نذير بين أنه ليس نذيرا من تلقاء نفسه إنما هو نذير بإذن الله تعالى وإرساله (٧).

قوله : «بالحقّ» يجوز فيه أوجه :

أحدها : أنه حال من الفاعل أي أرسلناك محقّين. أو من المفعول أي محقّا أو نعت لمصدر محذوف أي إرسالا ملتبسا بالحق. أو متعلق ببشير (٨) ، ونذير ، قال الزمخشري : بشيرا بالوعد (٩) ونذيرا بالوعيد الحق.

قال أبو حيان : ولا يمكن أن يتعلق «بالحق» هذا ببشيرا ونذيرا معا بل ينبغي أن

__________________

(١) المثبت في النسختين : المؤمنين تحريف والصواب ما أثبت.

(٢) في الفخر : بعد إيمان من آمن.

(٣) في «ب» البعث. بدون تاء.

(٤) سقط من «ب».

(٥) في «ب» أي الكفر.

(٦) انظر في هذا معالم التنزيل للبغوي ولباب التأويل للخازن ٥ / ٣٠٠ و ٣٠١.

(٧) هكذا كلام الفخر الرازي في التفسير الكبير ٢٦ / ١٨.

(٨) قال بكل هذه الأوجه الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٠٦ وأبو حيان في البحر ٧ / ٣٠٩ والسمين في الدر ٤ / ٤٧٦.

(٩) الكشّاف المرجع السابق لكنه عبر عن التعلق «بَشِيراً وَنَذِيراً» بالصلة فقال : «أو صلة لبشيرا ونذيرا الخ ..» المرجع السابق.

١٢٦

يتأول كلامه على أنه أراد أنّ ثمّ محذوفا والتقدير : بشيرا بالوعد الحقّ ونذيرا بالوعيد الحقّ (١) ، قال شهاب الدين : قد صرح الرجل بهذا (٢).

قوله : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ) أي وما من أمّة فيما مضى. وقوله : (إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) خبر (مِنْ أُمَّةٍ). ومعنى «خلا» أي سلف فيها نذير نبي منذر. وحذف من هذا ما أثبته في الأول ، إذ التقدير: إلّا خلا فيها نذير وبشير (٣).

قوله : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ) أي الكتب (وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) أي الواضح. وكرر ذكر الكتاب بعد ذكر الزبر على طريق التأكيد. وقيل : البينات المعجزات ، والزبر : هي الكتب التي فيها مواعظ وشبهات لا تحتمل النّسخ. والمراد بالكتاب المنير الشريعة والأحكام الموافقة (٤) للحكمة الإلهية وهي المحتملة للنسخ. وهذا تسلية للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حيث يعلم أن غيره كان مثله محتملا لأذى القوم وأن غيره أيضا أتاهم بمثل ذلك فكذبوه وآذوه وصبروا على تكذيبهم (ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)؟ وهذا سؤال تقرير فإنهم علموا شدة إنكار الله عليهم واستئصالهم (٥).

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا

__________________

(١) قاله في البحر ٧ / ٣١٠ مع تقديم وتأخير ففيه : «بالوعد الحق بشيرا وبالوعيد الحق نذيرا».

(٢) الدر المصون ٤ / ٤٧٦ أي صرح في الكشاف المرجع السابق.

(٣) معنى كلام أبي حيان ولفظ السمين. انظر المرجعين السابقين.

(٤) في «ب» الواقعة. خطأ.

(٥) وانظر : معالم التنزيل للبغوي ٥ / ٣٠١ وتفسير الرازي ٢٦ / ١٨.

١٢٧

لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(٣٨)

قوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً). قيل : الخطاب للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) ـ وفيه حكمة وهي أن الله تعالى لما ذكر الدلائل ولم ينتفعوا قطع الكلام منهم والنعت إلى غيرهم كما أن السيد إذا نصح بعض عبيده ولم ينزجر يقول لغيره : اسمع ولا تكن مثل هذا. ويكرر معه ما ذكره للأول ويكون فيه إشعار بأن الأول فيه نقيصة لا يصلح للخطاب فيتنبّه له ويدفع عن نفسه تلك النقيصة وأيضا فلا يخرج إلى كلام أجنبيّ عن الأول بل يأتي بما يقاربه لئلا يسمع الأول كلاما آخر فيترك التفكر فيما كان من النصيحة (٢).

قوله : «فأخرجنا» هذا التفات من الغيبة إلى التكلم وإنما كان كذلك لأن المنة بالإخراج أبلغ من إنزال الماء و «مختلفا» نعت «لثمرات» (٣) و «ألوانها» فاعل (٤) به. ولو لا ذلك لأنّث «مختلفا» ولكنه لما أسند إلى جميع تكسير غير عاقل جاز تذكيره ولو أنث فقيل مختلفة كما يقول اختلفت ألوانها لجاز. وبه قرأ (٥) زيد بن علي.

قوله : (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ) العامة على ضم الجيم وفتح الدال جمع «جدّة» وهي الطريقة. قال ابن بحر (٦) : قطع من قولك : جددت الشّيء قطعته (٧). وقال أبو الفضل الرازي : هي ما يخالف من الطرائق لون ما يليها (٨). ومنه جدّة الحمار للخط الذي في ظهره (٩). وقرأ الزّهريّ (١٠) جدد بضم الجيم والدال (١١) جمع جديدة يقال : جديدة وجدد وجدائد ، قال أبو ذؤيب :

__________________

(١) في «ب» ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

(٢) نقله الرازي في تفسيره ٢٦ / ١٩ و ٢٠.

(٣) وهو نعت سببي فقد خالف المنعوت وهو «ثمرات» من حيث التذكير والتأنيث. ووافقه الإعراب نصبا بينما وافق ما بعده وهو «ألوان» في التذكير. وانظر في إعرابه القرطبي ١٤ / ٣٤١ والبحر ٧ / ٣١٠ والدر المصون ٤ / ٤٧٧.

(٤) التبيان للعكبري ١٠٧٥.

(٥) من شواذ القراءات وإن كانت العربية تبيحها انظر : المرجعين السابقين البحر ٧ / ٣١١ والدر ٤ / ٤٧٧.

(٦) عمرو بن عليّ بن بحر بن كثير ، الإمام أبو حفص الباهلي الصيرفي أحد الأعلام ، وصاحب التفسير.

مات سنة ١٦٠ ه‍ ، وانظر : طبقات المفسرين للداودي ٢ / ١٩ و ٢٠.

(٧) نقل عنه في البحر ٧ / ٣١١ والقرطبي ١٤ / ٤٣٢.

(٨) البحر المحيط ٧ / ٣١١.

(٩) الكشاف ٣ / ٣٠٧ والبحر المرجع السابق ومعاني الفراء ٢ / ٣٦٩ ومعاني الزجاج ٤ / ٢٦٩.

(١٠) في «ب» الزهوي تحريف.

(١١) نقلها القرطبي في ١٤ / ٣٤٢ وابن جني في المحتسب ٢ / ١٩٩.

١٢٨

٤١٥٨ ـ ..........

جون السّراة له جدائد أربع (١)

نحو : سفينة وسفن وسفائن. وقال أبو الفضل : جمع جديد بمعنى : آثار جديدة واضحة الألوان(٢). وعنه أيضا جدد (٣) بفتحهما ، وقد رد أبو حاتم هذه القراءة من حيث الأثر والمعنى (٤). وقد صححها غيره وقال : الجدد الطريق الواضح البيّن ، إلا أنه وضع المفرد موضع الجمع إذ المراد الطرائق والخطوط (٥).

قوله : (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها) مختلف صفة «لجدد» أيضا و «ألوانها» فاعل به كما تقدم في نظيره(٦) ولا جائز أن يكون «مختلف» (٧) خبرا مقدما و «ألوانها» مبتدأ مؤخر والجملة صفة ؛ إذ كان يجب أن يقال مختلفة لتحمّلها ضمير المبتدأ (٨). وقوله : «ألوانها» يحتمل معنيين :

أحدهما : أن البياض والحمرة يتفاوتان بالشدة والضعف فربّ أبيض أشدّ من أبيض وأحمر أشدّ من أحمر فنفيس (٩) البياض مختلف وكذلك الحمرة فلذلك جمع ألوانها (١٠) فيكون من باب المشكل.

والثاني : أن الجدد كلها على لونين بياض وحمرة فالبياض والحمرة وإن كانا لونين إلا أنهما جمعا باعتبار محالّهما (١١).

قوله : (وَغَرابِيبُ سُودٌ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه معطوف على «حمر» عطف ذي لون على ذي لون (١٢).

__________________

(١) عجز بيت من الكامل صدره : «والدّهر لا يبقى على حدثانه». والجون : الأسود ، والسراة الظهر ، والجدائد : الأتن التي جف لبنها. والبيت في الرّثاء. وجيء بالبيت على أن «جدائد» جمع «جديدة» أو «جديد». وانظر : القرطبي ١٤ / ٣٤٢ والدر المصون ٤ / ٤٧٧ وديوان المفضليات ٨٥٨ والهذليين ١ / ٤ وشرح شواهد الكشاف ٤٤٨ و ٤٤٩ وفتح القدير للشوكاني ٤ / ٤٣٧ والكشاف للزمخشري ٣ / ٣٠٧ والبحر ٧ / ٣١١.

(٢) المرجع السابق.

(٣) ذكرها في المحتسب ٢ / ١٩٩ والمختصر ١٢٣ وهي شاذة ، كذلك نسبها الزمخشريّ في الكشاف ٣ / ٣٠٧ له.

(٤) نقل عنه أبو حيان في البحر ٧ / ٣١١ والمحتسب لابن جني هذا المعنى فقال ابن جني «قال أبو حاتم لا قراءة فيه غير جدد». المحتسب ٢ / ١٩٩.

(٥) قال الزمخشري «وضعه في موضع الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض». الكشاف ٣ / ٣٠٧.

(٦) قال بذلك العكبري في التبيان ١٠٧٥ ومكي في المشكل ٢ / ٢١٦.

(٧) في «ب» مختلفا تحريف.

(٨) الدر المصون ٤ / ٤٧٨.

(٩) في «ب» فنضرة.

(١٠) البحر المحيط ٧ / ٣١١ نقلا عن أبي الفضل الرازي.

(١١) الدر المصون ٤ / ٤٧٨.

(١٢) هذا ترجيح ورأي أبي حيان قال : «والظاهر عطف «وغرابيب» على «حمر» عطف ذي لون على ذي لون». البحر ٧ / ٣١١.

١٢٩

الثاني : أنه معطوف على «بيض».

الثالث : أنه معطوف على «جدد» (١) ، قال الزمخشري : معطوف على بيض (أ) (٢) وعلى «جدد» كأنه قيل : ومن الجبال مخطّط ذو جدد ومنها ما هو على لون واحد. ثم قال : ولا بد من تقدير حذف مضاف في قوله : (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ) بمعنى ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر وسود حتى يؤول إلى قولك : ومن الجبال مختلف ألوانها» (٣) ، كما قال (ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها)(٤). ولم يذكر بعد غرابيب سود (مختلفا ألوانها) كما ذكر ذلك بعد «بيض وحمر» ، لأن الغربيب هو البالغ في السواد فصار لونا واحدا غير متفاوت بخلاف ما تقدم.

وغرابيب : جمع غربيب وهو الأسود المتناهي في السواد (٥).

فهو تابع للأسود كقان (٦) وناصع (٧) وناضر (٨) ويقق (٩) ، فمن ثم زعم بعضهم أنه في نية التأخير (١٠). ومن مذهب هؤلاء أنه يجوز تقديم الصفة على موصوفها وأنشدوا :

٤١٥٩ ـ والمؤمن العائذات الطّير يمسحها

 ..........(١١)

__________________

(١) رأي الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٠٧.

(٢) الهمزة سقطت من «ب». وهي في الكشاف.

(٣) المرجع السابق.

(٤) المرجع السابق.

(٥) قال في اللسان غرب ٣٢٣٠ : «وأسود غرابي وغربيب شديد السواد ، والغربيب ضرب من العنب بالطائف شديد السواد وهو أرقّ العنب وأجوده وأشده سوادا». وانظر : معاني القرآن للزجاج ٤ / ٢٦٩ ، وغريب القرآن لابن قتيبة ٣٦١ ومجاز القرآن لأبي عبيدة ٢ / ١٥٤.

(٦) من قولهم : «أحمر قان» أي شديد الحمرة. وفي الحديث : «حتّى قنا لونها» أي احمرّ. اللسان «ق ن ا» ٣٧٦٢.

(٧) النّاصع والنّصيع البالغ من الألوان الخالص منها الصافي أي لون كان وأكثر ما يقال في البياض وأبيض ناصع ويقق وأصفر ناصع بالغوا به كما قالوا أسود حالك. اللسان : «ن ص ع» ٤٤٤٢.

(٨) يقال : أخضر ناضر كما يقال : أبيض ناصع وأصفر فاقع وقد يبالغ بالناضر في كل لون يقال : أحمر ناضر. اللسان «ن ض ر» ٤٤٥٤.

(٩) قال : أبيض يقق ويقق شديد البياض ناصعه. وفي الحديث : ولفّه في بيضاء كأنّها اليقق. اللسان : «ي ق ق» ٤٩٦٤.

(١٠) قال أبو عبيدة في المجاز : «مقدم ومؤخر لأنه يقال : أسود غربيب». المجاز ٢ / ١٥٤.

(١١) صدر بيت من بحر البسيط عجزه :

 ..........

ركبان مكّة بين الغيل والسّعد

والنابغة قائله. والمؤمن الله ـ عزوجل ـ والغيل والسعد الشجر الملتف ، والعائذات التي عاذت بالحرم والشاهد هنا : «العائذات الطير» فقدم على الموصوف وهو «الطير» صفته وهي «العائذات» على زعم الزمخشري وتابعيه. وانظر : الكشاف ٣ / ٣٠٧ وشرح شواهده ٣٨٥ وشرح الكافية للرّضي ١ / ٣١٧ و ٣١٨ وابن يعيش ٣ / ١١ والخزانة ٥ / ٧١ ـ ٧٣ والدر المصون ٤ / ٤٧٩ والديوان (٢٥).

١٣٠

يريد : والمؤمن الطير العائذات ، وقول الآخر :

٤١٦٠ ـ وبالطّويل العمر عمرا حيدرا

 ..........(١)

يريد : وبالعمر الطويل. والبصريون لا يرون ذلك ويخرجون هذا وأمثاله على أن الثّاني بدل من الأول «فسود والطير والعمر» أبدال مما قبلها (٢). وخرّجها الزّمخشريّ وغيره على أنه حذف الموصوف وقامت صفته مقامه وأن المذكور بعد الوصف دال على الموصوف قال الزمخشري : الغربيب تأكيد للأسود ومن حق التأكيد أن يتبع المؤكد كقولك أصفر فاقع وأبيض يقق (٣) ، ووجهه أن يضمر المؤكد قبله فيكون الذي بعده تفسيرا لما أضمر كقوله : «والمؤمن العائذات الطير» وإنما يفعل ذلك لزيادة التوكيد حيث يدل على المعنى الواحد من طريقي الإظهار والإضمار (٤) ، يعني فيكون الأصل وسود غرابيب سود والمؤمن الطير العائذات الطير. قال أبو حيان : وهذا لا يصح إلا على مذهب من يجوّز حذف (٥) المؤكد ومن النحويين من منعه وهو اختيار ابن مالك (٦). قال شهاب الدين : ليس (٧) هذا هو التوكيد المختلف في حذف مؤكده لأن هذا من باب الصّفة والموصوف ومعنى تسمية الزمخشري لها تأكيدا من حيث إنّها لا تفيد معنى زائدا إنما تفيد المبالغة والتوكيد في ذلك اللون والنحويون قد سموا الوصف إذا لم يفد غير الأول تأكيدا فقالوا وقد يجيء لمجرد التوكيد نحو : (نَعْجَةٌ واحِدَةٌ) [ص : ٢٣] و (إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) [النحل : ٥١] والتوكيد المختلف في حذف مؤكده إنما هو في باب التوكيد الصّناعيّ (٨). ومذهب سيبويه جوازه ، أجاز : «مررت بأخويك أنفسهما» بالنصب والرفع على تقدير أعينهما أنفسهما أو هما أنفسهما فأين هذا من ذاك إلا أنه يشكل على الزمخشري هذا المذكور بعد «غرابيب» ونحوه بالنسبة إلى أنه جملة مفسرا لذلك المحذوف وهذا إنما

__________________

(١) من الرجز لأبي النجم العجلي وعجزه :

 ..........

كما اشترى المسلم إذ تنصّرا

والمراد بالمسلم جبلة بن الأيهم أحد ملوك غسّان. والشاهد فيه كسابقه في «وبالطّويل العمر» حيث قدم الصفة على الموصوف والأصل: وبالعمر الطويل. والحيدر : القصير. وقد تقدم.

(٢) قال الرضي في شرح الكافية ١ / ٣١٨ : «اعلم أنه إن صلح النعت لمباشرة العامل إياه جاز تقديمه وإبدال المنعوت منه نحو : مررت بظريف رجل. قال : والمؤمن العائذات الطّير يمسحها ... ركبان مكة بين الغيل والسند وقريب منه قوله : «وغرابيب سود» لأن حقّ غربيب أن يتبع أسود ؛ لكونه تأكيدا له نحو أحمر قانىء وإن لم يصلح لمباشرة العامل إياه لم يقدم إلا ضرورة والنية التأخير كما تقول في : إنّ رجلا ضربك في الدار إنّ ضربك رجلا». شرح الكافية له ١ / ٣١٧ و ٣١٨.

(٣) فيه : وما أشبه ذلك. قلت : وجهه.

(٤) الكشاف ٣ / ٣٠٧.

(٥) البحر المحيط ٧ / ٣١١.

(٦) قال في التسهيل : «ولا يحذف المؤكّد ويقام المؤكّد مقامه على الأصح» ١٦٥.

(٧) الدر المصون ٤ / ٤٧٩ و ٤٨٠.

(٨) أي الاصطلاحي المصطلح عليه.

١٣١

عهد في الجمل لا في المفردات إلا في باب البدل وعطف البيان فبأي شيء يسميه؟ والأولى فيه أن يسمى توكيدا لفظيا إذ الأصل سود غرابيب سود (١).

قوله : (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) «مختلف» نعت لمنعوت محذوف هو مبتدأ والجار قبله خبره أي ومن النّاس صنف أو نوع مختلف (٢) ولذلك عمل اسم الفاعل كقوله :

٤١٦١ ـ كناطح صخرة يوما ليفلقها

 ..........(٣)

وقرأ ابن السّميقع ألوانها (٤). وهو ظاهر. وقرأ الزهري (٥)(وَالدَّوَابِّ) خفيفة الباء (٦) هربا من التقاء ساكنين (٧) كما حرك أولهما في الضّالين (٨) وجانّ.

فصل

قال ابن الخطيب في هذه الآية لطائف الأولى : قوله : «أنزل» وقال : «أخرجنا» وفائدته أن قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) فإن كان جاهلا يقول نزول الماء بالطبع لثقله فيقال له فالإخراج لا يمكنك أن تقول فيه إنه بالطبع فهو بإرادة الله فلما كان ذلك أظهر أسنده إلى المتكلم. وأيضا فإن الله تعالى لما قال إن الله أنزل علم الله بالدليل وقرب التفكر فيه إلى الله فصار من الحاضرين فقال : أخرجنا ، لقربه وأيضا فالإخراج أتم نعمة من الإنزال ، لأن الإنزال لفائدة الإخراج فأسند (تعالى) (٩) الأتمّ إلى نفسه بصيغة المتكلم وما دونه بصيغة المخاطب الغائب. الثانية : قال تعالى : (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ) كأنّ قائلا قال : اختلاف الثمرات لاختلاف البقاع ألا ترى أن بعض

__________________

(١) كقولنا : جاء جاء عليّ نفسه.

(٢) قاله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٠٧ ومكي في المشكل ٢ / ٣١٦ وابن الأنباري في البيان ٢ / ٢٨٨.

(٣) صدر بيت من البسيط للأعشى وعجزه : فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل.

ويروى : ليوهنها. والوعل : التيس الجبلي. وهو يتحدث عن إنسان مغرض له ويشبهه بعدم نيل غرضه كالوعل الناطح.

والشاهد : «كناطح» فإن الأصل كوعل ناطح ، فحذف الموصوف وحلت الصفة مقام المحذوف بدليل عملها أي الصفة عمل فعلها. وقد تقدم.

(٤) البحر المحيط ٧ / ٣١١ ، والكشاف ٣ / ٣٠٧ ، وهي شاذة.

(٥) في «ب» الزهوي ، تحريف.

(٦) ذكرها أبو الفتح في المحتسب ٢ / ٧٦ و ٢٠٠ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٠٧ بدون نسبة.

(٧) الكشاف والبحر ٧ / ٣١٢.

(٨) فقد همزت وقرىء : «وَلَا الضَّالِّينَ» هروبا من الساكنين كما قال : وتحكى عن أيوب السختياني.

وحكاها أبو زيد عن عمرو بن عبيد في قوله : (وَلا جَانٌّ) من سورة الرحمن والفاتحة. وانظر : مختصر ابن خالويه ١ / ١٤٩ و ١٥٠.

(٩) زيادة عن «أ» والفخر الرازي.

١٣٢

النباتات لا تنبت (١) ببعض البلاد كالزّعفران فقال تعالى : اختلاف البقاع ليس إلا بإرادة الله (تعالى) (٢) وإلا فلم صار بعض الجبال فيه مواضع حمر ومواضع بيض.

فإن قيل : الواو في (وَمِنَ الْجِبالِ) ما تقديرها؟ فنقول : هي تحتمل وجهين :

أحدهما : أن تكون للاستئناف كأنه تعالى قال : أخرجنا بالماء ثمرات مختلفة الألوان وفي الجبال (٣) جدد بيض دالة على القدرة الرادة على من (٤) ينكر الإرادة في اختلاف ألوان (٥) الثمار.

ثانيهما : أن تكون للعطف والتقدير وخلق من الجبال جدد «بيض».

قال الزمخشري : أراد ذو جدد.

الثالثة (٦) : ذكر الجبال ولم يذكر الآية في (الأرض) كما قال في موضع آخر : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) [الرعد : ٤] مع أن هذا الدليل مثل ذلك وذلك لأن الله تعالى لما ذكر في الأول : (فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ) كان نفس إخراج الثّمار (٧) دليلا على القدرة. ثم زاد عليه بيانا وقال : «مختلفا» كذلك في الجبال في نفسها دليل القدرة (٨) والإرادة لكن كون الجبل في بعض نواحي الأرض دون بعضها وكون بعضها أخفض وبعضها أرفع دليل القدرة والاختيار. ثم زاد بيانا وقال : (جُدَدٌ بِيضٌ) أي دلالتها بنفسها هي دالة باختلاف ألوانها كما أن إخراج الثّمرات في نفسها دلائل واختلاف ألوانها دليل.

الرابع : قوله : (مُخْتَلِفاً (٩) أَلْوانُها) الظاهر أن الاختلاف راجع إلى كل لون أي بيض مختلف ألوانها وحمر مختلف ألوانها لأن الأبيض قد يكون على لون الجصّ وقد يكون على لون التّراب الأبيض وبالجملة فالأبيض تتفاوت درجاته في البياض وكذلك الأحمر تتفاوت درجاته في الحمرة ولو كان المراد البيض والحمر مختلف الألوان لكان لمجرد التأكيد والأول أولى. وعلى هذا ذكر (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها) في البيض والحمر وأخر «السود الغرابيب» لأن الأسود لما ذكره مع المؤكد وهو الغربيب يكون بالغا غاية السواد فلا يكون فيه اختلاف.

قوله : (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ) استدلال آخر على قدرة الله وإرادته فكان تعالى قسم الدلائل دلائل الخلق في هذا العالم وهو عالم المركبات قسمين حيوان وغير

__________________

(١) كذا هي في «أ» هنا والفخر. وما في (ب) ينبت بصيغة التذكير.

(٢) زيادة عن (أ) والفخر أيضا.

(٣) في «الفخر» وفي الأشياء الكائنات من الجبال جدد بيض.

(٤) وفيه «رادة على من ينكر الإرادة».

(٥) زيادة عن (أ) وعن الفخر أيضا. وانظر تفسير الرازي ٢٦ / ٢٠.

(٦) أي اللطيفة الثالثة.

(٧) كذا هي هنا وفي «ب» الثمرات.

(٨) في الفخر : دليلا على القدرة.

(٩) في الفخر : مختلف بالرفع.

١٣٣

حيوان وهو إما نبات وإما معدن والنبات أشرف فأشار إليه بقوله : (فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ) ثم ذكر المعدن بقوله : (وَمِنَ الْجِبالِ) ثم ذكر الحيوان وبدأ بالأشرف منها وهو الإنسان فقال : (وَمِنَ النَّاسِ) ثم ذكر الدواب ، لأن منافعها في حياتها والأنعام منفعتها في الأكل منها أو لأن الدابة (١) في العرف تطلق (٢) على الفرس وهو بعد الإنسان أشرف من غيره. وقوله : (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) القول فيه كما تقدم أنها في أنفسها دلائل كذلك باختلافها دلائل. وقوله : (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) مذكرا ؛ لكون (٣) الإنسان من جملة المذكور فكان التذكير أولى (٤).

قوله : «كذلك» فيه وجهان :

أظهرهما : أنه متعلق بما قبله أي مختلف اختلافا مثل (٥) الاختلاف في الثّمرات والجدد والوقف على «كذلك» (٦).

والثاني : أنه متعلق بما بعده والمعنى مثل ذلك المطر والاعتبار بمخلوقات (٧) الله واختلاف ألوانها يخشى الله العلماء. وإلى هذا نحا ابن عطيّة (٨). وهو فاسد من حيث إن ما بعد «إنّما» مانع من العمل فيها قبلها (٩). وقد نصّ أبو عمرو الدّانيّ (١٠) على أن الوقف على «كذلك» تام. ولم يحك فيه خلافا(١١).

قوله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ) العامة على نصب الجلاله ورفع «العلماء» وهي واضحة. وقرأ عمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة ـ فيما نقله الزمخشريّ (١٢) ـ وأبو حيوة ـ فيما نقله الهذلي (١٣) في كامله ـ بالعكس. وتؤوّلت على معنى التعظيم أي إنما يعظم الله من

__________________

(١) كذا هنا وفي الفخر وما في «ب» لأن الدواب.

(٢) في «ب» يطلق.

(٣) في «ب» اللون خطأ وفي الفخر : فذكر الكون.

(٤) انظر : الرازي ٢٦ / ٢٠.

(٥) قاله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٠٧ والنحاس في الإعراب ٤ / ٣٧١ ومكي في المشكل ٢ / ٢١٧ وأبو البقاء في التبيان ١٠٧٥ وأبو حيان في البحر ٧ / ٣١٢.

(٦) حسن. قال بذلك أبو حيان في السابق.

(٧) في «ب» في مخلوقات الله.

(٨) البحر المحيط ٧ / ٣١٢.

(٩) قاله أبو حيان في المرجع السابق والسمين في الدر ٤ / ٤٨١.

(١٠) عثمان بن سعيد بن عثمان أبو عمرو الداني الأموي مولاهم القرطبي المعروف في زمانه بابن الصيرفي الإمام الحافظ أستاذ وشيخ مشايخ المقرئين. أخذ القراءة عن خلف بن إبراهيم وغيره وقرأ عليه إسحاق بن إبراهيم الفيسوني وغيره له مؤلفات ضخمة ونافعة مات سنة ٤٤٤ ه‍ الغاية ١ / ٥٠٣ ـ ٥٠٥.

(١١) انظر : المكتفى في الوقف والابتدا ٢٦٦ وقال القرطبي «كذلك» هنا تمام الكلام أي كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية ثم استأنف فقال : «إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ».

(١٢) نقله في الكشاف ٣ / ٣٠٨ وقد نقلها القرطبي أيضا في الجامع ١٤ / ٣٤٤.

(١٣) الهذليّ : يوسف بن عليّ بن جبارة أبو القاسم الهذلي اليشكريّ الأستاذ الكبير والرحال والعلم الشهير أخذ عن أناس كثيرين وكتابه الكامل مشهور مات سنة ٤٦٥ ه‍. الغاية ٢ / ٣٩٧ : ٤٠١.

١٣٤

عباده العلماء. وهذه القراءة شبيهة بقراءة : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) برفع إبراهيم ونصب «ربّه»(١).

فصل

قال ابن عباس (٢) : إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزّتي وسلطاني. واعلم أنّ الخشية بقدر معرفة المخشي والعالم يعرف الله فيخافه ويرجوه. وهذا دليل على أنّ العالم أعلى درجة من العابد ؛ لقوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٣] بين أن الكرامة بقدر التقوى والتقوى بقدر العلم لا بقدر العمل قال ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ : «والله إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية» (٣) ، وقال ـ عليه (الصلاة (٤) و) السلام ـ : «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» (٥) وقال مسروق : كفى بخشية علما وكفى بالاغترار (٦) بالله جهلا. ثم قال : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) أي عزيز في ملكه غفور لذنوب عباده فذكر ما يوجب الخوف والرجاء فكونه عزيزا يوجب (٧) الخوف التام وكونه غفورا لما دون ذلك يوجب (٨) الرجاء البالغ. وقراءة من قرأ بنصب العلماء ورفع الجلالة تقدّم معناه. قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ) في خبر «إن» وجهان :

أحدهما : الجملة من قوله : «يرجون» أي (إنّ) (٩) التالين يرجون (١٠) و (لَنْ تَبُورَ) صفة «تجارة» و «ليوفّيهم» متعلق «بيرجون» (١١) أو «بتبور» (١٢) أو بمحذوف أي فعلوا ذلك ليوفّيهم(١٣) ، وعلى الوجهين الأولين يجوز أن تكون لام العاقبة (١٤).

__________________

(١) وقد اعترض على هذه القراءة أبو حيان في البحر ٧ / ٣١٢ بأنها في غاية الشذوذ وانظر : القرطبي ١٤ / ٣٤٤ والآية ١٢٤ من البقرة.

(٢) البغوي ٥ / ٣٠١.

(٣) الحديث رواه الإمام البخاري عن عائشة ١ / ١٢ و ١٣ وانظر : البغوي ٥ / ٣٠١.

(٤) زيادة من «ب».

(٥) المرجع الأخير وانظر : الموطأ الكسوف رقم ١ ومسند الإمام أحمد ٢ / ٢٥٧ و ٣١٢ و ٤١٨ و ٤٣٢ و ٤٥٣ و ٤٦٧ و ٤٧٧ و ٥٠٢.

(٦) في «ب» بالإغرار تحريف وانظر : البغوي المرجع السابق.

(٧ و ٨) في «ب» : «موجب» بالاسمية.

(٧ و ٨) في «ب» : «موجب» بالاسمية.

(٩) سقط من «ب».

(١٠) قاله أبو البقاء في التّبيان ١٠٧٥ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٠٨ والنحاس في الإعراب ٣ / ٣٧١ والفراء في المعاني ٢ / ٣٦٩.

(١١) التبيان والبحر ٧ / ٣١٣.

(١٢) المرجع الأخير السابق والكشاف ٣ / ٣٠٨.

(١٣) التبيان والبحر السابقان.

(١٤) قال أبو البقاء : «وهي لام الصيرورة» على التعلق بيرجونه. التبيان ١٠٧٥.

١٣٥

والثاني : أن الخبر (إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)(١). (و) جوزه الزمخشري على حذف العائد أي غفور لهم (٢). وعلى هذا «فيرجون» حال من «أنفقوا» أي أنفقوا ذلك راجين (٣).

فصل

المراد بالذين يتلون كتاب الله أي قراء القرآن لما بين (٤) العلماء بالله وخشيتهم وكرامتهم بسبب خشيتهم ذكر العالمين بكتاب الله العاملين بما فيه فقوله : (يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) إشارة إلى الذكر وقوله: (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) إشارة إلى العمل البدنيّ وقوله : (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) إشارة إلى العمل الماليّ. وفي الآية حكمة بالغة وهي قوله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ) إشارة إلى عمل القلب. وقوله: (الَّذِينَ يَتْلُونَ) إشارة إلى عمل اللّسّان وقوله : (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) إشارة إلى عمل الجوارح. ثم إن هذه الأشياء الثلاثة متعلقة بجانب تعظيم الله وقوله : (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) يعني الشفقة على خلقه. وقوله : (سِرًّا وَعَلانِيَةً) حثّ على الإنفاق كيفما تهيأ فإن تهيأ سرا فذاك وإلّا فعلانية ولا يمنعه ظنه (٥) أن يكون رياء فإن (٦) ترك الخير مخافة ذلك هو عين الرياء ويمكن أن يكون المراد بالسّرّ الصدقة المطلقة وبالعلانية الزكاة فإن الإعلان بالزكاة كالإعلان بالفرض وهو مستحب. (يَرْجُونَ تِجارَةً) وهي ما وعد الله من الثواب (لَنْ تَبُورَ) لن تفسد ولن تهلك (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ) جزاء أعمالهم بالثواب (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) قال ابن عباس : يعني سوى الثواب ما لم تر عين ولم تسمع أذن. ويحتمل أن يزيدهم النظر إليه كما جاء في تفسير الزيادة (٧)(نَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ). قال ابن عباس : يغفر الذنب العظيم من ذنوبهم ويشكر اليسير (٨) من أعمالهم. وقيل : غفور عند (٩) الإبطاء شكور عند إعطاء الزيادة.

قوله : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) يعني القرآن (١٠). وقيل : اللّوح المحفوظ لما بين الأصل (الأول) (١١) وهو وجود الله الواحد بالدلائل في قوله : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) وقوله : (اللهُ (الَّذِي) (١٢) خَلَقَكُمْ) وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً)

__________________

(١) الكشاف ٣ / ٣٠٨.

(٢) قال أيضا : «شكور على أعمالهم».

(٣) السابق.

(٤) نقله الفخر الرازي في تفسيره ٢٦ / ٢٢.

(٥) كذا في الفخر كما هنا وفي «ب» بأن يكون.

(٦) كذا هنا كما في الفخر وفي «ب» بأن. تحريف.

(٧) من قوله تعالى : «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ» وهي الآية ٢٦ من يونس. وانظر : زاد المسير ٦ / ٤٨٧.

(٨) نقله البغوي في تفسيره ٦ / ٣٠٣.

(٩) قاله الرازي ٢٦ / ٢٢.

(١٠) البغوي المرجع السابق.

(١١) زيادة من «أ».

(١٢) زيادة من «ب» وهو ليس في القرآن.

١٣٦

ذكر الأصل الثاني وهو الرسالة فقال : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ).

قوله : (مِنَ الْكِتابِ) يجوز أن تكون للبيان كما يقال : «أرسل إلي فلان من الثياب (١) جملة» ، وأن تكون للجنس وأن تكون لابتداء الغاية كما يقال : «جاءني كتاب من الأمير» وعلى هذا فالكتاب يمكن أن يراد به اللوح يعني الذي أوحينا إليك من اللوح المحفوظ إليك حق ، ويمكن أن يراد به القرآن يعني الإرشاد والتبيين الذي أوحينا إليك من القرآن ويمكن أن تكون للتبعيض (٢) و «هو» فصل أو مبتدأ (٣) و «مصدّقا» حال (٤).

فصل

(هُوَ الْحَقُّ) آكد من قول القائل : «الذي أوحينا (٥) حق إليك» من وجهين :

أحدهما : أن التعريف للخبر يدل على أن الأمر في غاية الظهور لأن الخبر في الأكثر يكون نكرة.

الثاني : أن الإخبار في الغالب يكون إعلاما بثبوت أمر لا يعرفه السامع كقولنا : «زيد قام» فإن السامع ينبغي أن يكون عارفا بزيد ولا يعرف قيامه فيخبره به فإذا كان الخبر معلوما فيكون الإخبار للتنبيه فيعرّفان باللّام كقولنا : «إنّ زيدا العالم في هذه المدينة» إذا كان علمه مشهورا. وقوله (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب وهذا تقرير لكونه وحيا لأن النبي ـ عليه (الصلاة (٦) و) السلام ـ لم يكن قارئا كاتبا وأتى ببيان ما في كتاب الله ولا يكون ذلك إلا بوحي من الله تعالى. أو يقال : إن هذا الوحي مصدّق لما تقدم لأن الوحي لو لم يكن موجودا لكذب موسى وعيسى ـ عليهما (الصلاة و) السلام ـ في إنزال التوراة والإنجيل فإذا وجد الوحي ونزل على محمد ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ علم جوازه وصدق ما تقدم في إنزال التوراة. وفي هذا لطيفة وهي أنه تعالى جعل القرآن مصدّقا لما مضى ، لأن ما مضى أيضا مصدق له لأن الوحي إذا نزل على واحد جاز أن ينزل على غيره وهو محمد ـ عليه (الصلاةو) السلام ـ ولم يجعل ما تقدم مصدقا للقرآن لأن القرآن كونه معجزة يكفي في تصديقه بأنه وحي وأما ما تقدم فلا بدّ فيه من معجزة تصدّقه (٧). ثم قال : (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) خبير بالبواطن بصير بالظواهر فلا يكون الوحي من الله باطلا لا في الباطن ولا في الظاهر ويمكن أن يكون جوابا لقولهم إنّ القرآن لو ينزل على رجل من القريتين عظيم فقال : (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ) يعلم بواطنهم وبصير يرى ظواهرهم لخبير

__________________

(١) وانظر : الرازي ٢٦ / ٢٣.

(٢) المرجع السابق وانظر أيضا الكشاف للزمخشري ٣ / ٣٠٨ والدر المصون للسمين ٤ / ٤٨٢.

(٣) نقله في التبيان ١٠٧٥.

(٤) السابق وانظر أيضا الكشاف ٣ / ٣٠٨ والبحر ٧ / ٣١٣ ومعاني الأخفش ٢ / ٦٦٥.

(٥) قاله الرازي في تفسيره ٢٦ / ٢٣.

(٦) ما بين الأقواس كلها زيادة من «ب».

(٧) المرجع السابق.

١٣٧

فاختار محمّدا ولم يختر غيره (١) ، كقوله : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤].

قوله : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا) (الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا) مفعولا أورثنا و «الكتاب» هو الثاني قدم لشرفه إذ لا لبس (٢). وأكثر المفسرين على أن المراد بالكتاب القرآن. وقيل: المراد جنس الكتاب ينتهي إلى الذين اصطفينا من عبادنا وتجويز أن يكون ثم بمعنى الواو وأورثنا كقوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ (٣) الَّذِينَ آمَنُوا) ومعنى أورثنا أعطينا لأن الميراث عطاء. قاله مجاهد. وقيل : أورثنا : أخرنا ومنه الميراث لأنه أخر عن الميّت ومعناه : أخرنا (٤) القرآن من الأمم السالفة وأعطيناكموه وأهلناكم له(٥).

قوله : (مِنْ عِبادِنا) يجوز أن يكون للبيان على معنى إنّ المصطفين هم عبادنا وأن يكون للتبعيض أي إنّ المصطفين بعض عبادنا لا كلهم (٦). وقرأ أبو عمران الجوني (٧) ويعقوب وأبو عمرو ـ في رواية ـ سبّاق مثال مبالغة (٨).

فصل

قال ابن عباس : يريد بالعباد أمة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثم قسّمهم ورتّبهم فقال : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ). وروى أسامة بن زيد في هذه الآية قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كلهم من هذه الأمة (٩) ، وروى أبو عثمان النهدي قال : سمعت عمر بن الخطاب قرأ على المنبر (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) الآية فقال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له (١٠).

وروى أبو الدّرداء قال : سمعت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قرأ هذه الآية (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ ...) الآية وقال : أما السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا وأما الظالم لنفسه فيجلس في المقام حتى يدخله الهم ثم يدخل الجنة ثم قرأ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ)(١١).

__________________

(١) السابق.

(٢) نقله في الدر ٤ / ٤٨٢.

(٣) معالم التنزيل للبغوي ٥ / ٢ والآية ١٧ من سورة البلد أي وكان من الذين آمنوا.

(٤) في «ب» أخّر بدون «نا».

(٥) نقله البغوي في تفسيره المرجع السابق.

(٦) قاله السمين في الدر ٤ / ٤٨٢.

(٧) هو : عبد الملك بن حبيب الأزدي أبو عمران الجوني البصري أحد العلماء عن جندب وأنس وعنه سليمان التّيميّ والحمّادان مات سنة ١٢٨ ه‍. الخلاصة ٢٤٣.

(٨) البحر ٧ / ٣١٣ والمختصر ١٢٤ وفي البحر : أبو عمران الحوفي تحريف.

(٩) كذا أورده البغوي في تفسيره عن أسامة.

(١٠) المرجع السابق ٥ / ٣٠٢ وانظر فيهما الخازن في لباب التأويل ٥ / ٣٠٢ و ٣٠٣.

(١١) أخرجه البغوي بسنده عن أبي ثابت. البغوي ٥ / ٣٠٣ و ٣٠٢ وكذلك الخازن في لباب التأويل.

١٣٨

وقال عقبة بن صهبان : سألت عائشة عن قول الله ـ عزوجل ـ : أورثنا الكتاب الذين اصطفينا الآية. فقالت : يا بنيّ كلّهم في الجنة أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ شهد له رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالخير (١) وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به وأما الظالم فمثلي ومثلكم. فجعلت نفسها معنا (٢). وقال مجاهد والحسن وقتادة : فمنهم ظالم لنفسه هم أصحاب المشأمة ، ومنهم مقتصد أصحاب الميمنة ومنهم سابق بالخيرات السابقون المقربون من الناس كلهم. وعن ابن عباس قال : السابق المؤمن المخلص والمقتصد المرائي والظالم الكافر نعمة الله غير الجاحد لها لأنه حكم للثلاثة بدخول (٣) الجنة. وقيل : الظالم هو الرّاجح السيئات والمقتصد هو الذي تساوت سيّئاته وحسناته والسابق هو الذي رجحت حسناته. وقيل : الظالم هو الذي ظاهره خير من باطنه والمقتصد من تساوى ظاهره وباطنه والسابق من باطنه خير من ظاهره. وقيل الظالم هو الموحد بلسانه الذي تخالفه جوارحه ، والمقتصد هو الموحّد الذي يمنع جوارحه من المخالفة بالتكليف والسابق هو الموحد الذي ينسيه التوحيد غير التوحيد. وقيل : الظالم صاحب الكبيرة والمقتصد التالي العالم والسابق التالي العالم العامل. وقيل : الظالم الجاهل والمقتصد المتعلم والسابق العالم (٤). وقال جعفر الصادق : بدأ بالظالم إخبارا أنه لا يتقرب إليه إلا بكرمه وأن الظالم لا يؤثر في الاصطفاء ، ثم ثنى بالمقتصد لأنه بين الخوف والرجاء ثم ختم بالسابق لئلا يأمن أحد مكره وكلهم في الجنة (٥). وقال أبو بكر الوراق (٦) : رتبهم على مقامات الناس لأن أحوال العبد ثلاثة معصية وغفلة ثم توبة ثم قربة فإذا عصى دخل في حيّز الظالمين وإذا تاب دخل في جملة المقتصدين فإذا صحت له التوبة وكثرت العبادة والمجاهدة دخل في عداد السابقين. وقيل غير ذلك (٧). وأما من قال : المراد بالكتاب جنس الكتاب كقوله : (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) فالمعنى أنا أعطيناك الكتاب الذين اصطفينا وهم الأنبياء لأن لفظ المصطفى إنما يطلق في الأكثر على الأنبياء لا على غيرهم ولأن قوله : (مِنْ عِبادِنا) يدل على أن العباد أكابر مكرّمون لأنه أضافهم إليه ثم المصطفين (منهم) (٨) أشرف

__________________

(١) في «ب» بالجنة فهو الأصح.

(٢) السابقان.

(٣) في «ب» بدخوله.

(٤) وانظر هذه الأقوال في معالم التنزيل للبغوي ٥ / ٣٠٣ ولباب التأويل للخازن ٥ / ٣٠٣ وزاد المسير لابن الجوزي ٦ / ٤٨٩ و ٤٩٠ ومعاني الفراء ٣٦٩ و ٣٧٠ والفخر الرازي ٢٦ / ٢٤ و ٢٥ والقرطبي ١٤ / ٣٤٨ و ٣٤٩.

(٥) المرجعان السابقان البغوي والخازن ٥ / ٣٠٢ و ٣٠٣.

(٦) هو : محمّد بن محمّد بن عبد الله بن محمد أبو بكر الوراق أخذ القراءة عن عبد الرحمن بن عبد الله بن غسّان روى عنه عبد الله بن محمد بن هارون الأنصاريّ انظر : غاية النهاية ٢ / ٢٤١.

(٧) البغوي والخازن ٤ / ٣٠٣ و ٣٠٤.

(٨) سقط من «ب».

١٣٩

ولا يليق بمن يكون أشرف من الشرفاء أن يكون ظالما مع أن لفظ الظالم أطلقه الله في كثير من المواضع على الكافر وسمى الشرك ظلما.

فإن قيل : كيف قال في حق من ذكر في حقه أنه من عباده (١) وأنه مصطفى ظالم مع أن الظالم يطلق على الكافر في كثير من المواضع؟

فالجواب : أن المؤمن عند المعصية يضع نفسه في غير موضعها فهو ظالم لنفسه حال المعصية قال ـ عليه (الصلاة (٢) و) السلام ـ : «لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمن» الحديث. وقال آدم ـ عليه‌السلام ـ مع كونه مصطفى : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) [الأعراف : ٢٣]. وأما الكافر فيضع قلبه الذي به اعتماد الجسد في غير موضعه فهو ظالم على الإطلاق وأما قلب المؤمن فمطمئن بالإيمان لا يضعه في غير التفكر في آلاء الله (٣). ووجه آخر وهو أن قوله : «منهم» غير راجع إلى الأنبياء المصطفين بل المعنى : إنّ الذي أوحينا إليك هو الحق وأنت المصطفى كما اصطفينا رسلنا وآتيناهم كتبا «ومنهم» أي ومن قومكم (٤) «ظالم» كفر بك وبما أنزل إليك ومقتصد أمر به (٥) ولم يأت بجميع ما أمر به وسابق آمن وعمل صالحا. وقال الكلبي : المراد (٦) بالظالم لنفسه هو الكافر. وقيل : المراد منه (٧) المنافق وعلى هذا لا يدخل الظالم في قوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) وحمل هذا القائل الاصطفاء على أن الاصطفاء في الخلقة وإرسال الرسول إليهم وأنزل (٨) الكتاب. والذي عليه عامة أهل العلم أن المراد من جميعهم (٩) المؤمنون.

فصل

معنى سابق بالخيرات أي الجنة وإلى رحمة الله بالخيرات أي بالأعمال الصالحة بإذن الله أي بأمر الله وإرادته (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) يعني إيراثهم الكتاب ، ثم أخبر بثوابهم فقال : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) يعني الأصناف الثلاثة.

قوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ) يجوز أن يكون مبتدأ والجملة بعدها الخبر (١٠) ، وأن يكون بدلا من(١١) «الفضل». قاله الزمخشري (١٢) ، وابن عطية (١٣) إلّا أنّ الزمخشري اعترض

__________________

(١) في «ب» عبادنا.

(٢) زيادة من «ب».

(٣) وانظر هذا كله في تفسير الرازي ٢٦ / ٢٤.

(٤) في «ب» من قومك.

(٥) في (ب) آمن به.

(٦) البغوي ٥ / ٣٠٣.

(٧) في (ب) به.

(٨) في (ب) وإنزال وهو الأصح.

(٩) في (ب) جمعهم. خطأ. وانظر : البغوي ٥ / ٣٠٣ و ٣٠٤.

(١٠) قال بذلك أبو البقاء في التبيان ١٠٧٥ وابن الأنباري في التبيان ٢ / ٢٨٨ ومكي في مشكل الإعراب ٢ / ٢١٧.

(١١) قاله ابن الأنباري في المرجع السابق والكشاف ٣ / ٣٠٩ وابن عطية في البحر ٧ / ٣١٤.

(١٢) المرجع السابق. وقد جوز أبو البقاء فيه وجهين آخرين وهما : أن يكون خبرا ثانيا لذلك أو خبر مبتدأ محذوف أي هي جنات عدن «التبيان» ١٠٧٥.

(١٣) البحر ٧ / ٣١٤.

١٤٠