اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٧٤

قوله : (مِنْ رَحْمَةٍ) تبيين (١) أو حال من (٢) اسم الشرط ولا يكون صفة ل «ما» لأن اسم الشرط لا يوصف (٣) قال الزمخشري : وتنكير الرحمة للإشاعة والإبهام كأنه قيل : أيّ رحمة كانت سماوية أو أرضية؟ (٤) قال أبو حيان : والعموم مفهوم من اسم الشرط و (مِنْ رَحْمَةٍ) بيان لذلك العام من أي صنف هو وهو مما اجتزىء فيه بالنكرة المفردة عن الجمع المعرف المطابق في العموم لاسم الشرط وتقديره من الرحمات. و «من» في موضع الحال. انتهى (٥).

قوله (وَما يُمْسِكْ) يجوز أن يكون على عمومه أي أيّ شيء أمسكه (٦) من رحمة أو غيرها. فعلى هذا التذكير في قوله له ظاهر لأنه عائد على (ما يُمْسِكْ). ويجوز أن يكون قد حذف المبيّن من الثاني لدلالة الأول عليه تقديره وما يمسك من رحمة فعلى هذا التذكير في قوله : «له» على لفظ «ما» وفي قوله أولا : فلا ممسك لها التأنيث فيه حمل على معنى «ما» لأن المراد به الرحمة فحمل أولا على المعنى وفي الثاني على اللفظ (٧). والفتح والإمساك استعارة حسنة (٨)(وَهُوَ الْعَزِيزُ) فيما أمسك أي كامل القدرة «الحكيم» فيما أرسل أي كامل العلم. قال ـ عليه (الصلاة (٩) و) السلام «اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد» (١٠).

قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) لما بين أن الحمد لله وبين بعض وجوه النعمة التي تستوجب الحمد على سبيل التفصيل بين النعمة على سبيل الإجمال فقال : (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) وهي مع كونها منحصرة في قسمين نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء فقال : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) إشارة إلى نعمة الإيجاد في الابتداء وقال : «يرزقكم» إشارة إلى نعمة الإبقاء بالرزق في الانتهاء(١١).

قوله : (مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) قرأ الأخوان «غير» بالجر نعتا «لخالق» على (١٢) اللّفظ و (مِنْ خالِقٍ) مبتدأ مراد فيه «من» وفي خبره قولان :

أحدهما : هو الجملة من قوله : «يرزقكم».

__________________

(١) قاله العكبري في التبيان ١٠٧٢.

(٢) البحر المحيط ٧ / ٢٩٩.

(٣) السابق.

(٤) انظر : الكشاف.

(٥) البحر المحيط ٧ / ٢٩٩.

(٦) في «ب» : يمسكه بالمضارعة.

(٧) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٦٦ ومعاني الزجاج ٤ / ٢٦٢ والبحر ٧ / ٢٩٩.

(٨) البحر والكشاف المرجعان السابقان.

(٩) زيادة من «ب».

(١٠) الحديث رواه الإمام مالك في الموطأ قدر برقم ٨ ومسند الإمام أحمد ٣ / ٨٧ و ٤ / ٩٣ و ٩٥ و ٩٧ و ٢٤٥ و ٢٤٧ و ٢٥٠ و ٢٥٤ و ٢٥٥ و ٢٨٧.

(١١) قاله الرازي في «التفسير الكبير» ٢٦ / ٤.

(١٢) ذكرت في الإتحاف ٣٦١ والسبعة ٥٣٤ وزاد المسير ٦ / ٤٧٤.

١٠١

والثاني : أنه محذوف تقديره : «لكم» ونحوه (١) ، وفي «يرزقكم» على هذا وجهان :

أحدهما : أنه صفة أيضا لخلق فيجوز أن يحكم على موضعه بالجر اعتبارا باللفظ وبالرفع اعتبارا بالموضع (٢).

والثّاني : أنه مستأنف (٣). وقرأ الباقون بالرفع وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه خبر المبتدأ (٤).

والثاني : أنه صفة لخالق على الموضع (٥) والخبر إما محذوف وإما «يرزقكم».

والثالث : أنه مرفوع باسم الفاعل على جهة الفاعلية لأن اسم الفاعل قد اعتمد على أداة الاستفهام (٦) إلّا أن أبا حيان توقف في مثل هذا من حيث إن اسم الفاعل وإن اعتمد إلا أنه لم يحفظ (فيه) (٧) زيادة «من» قال : فيحتاج مثله إلى سماع (٨). ولا يظهر التوقف فإن شروط الزيادة والعمل موجودة ، وعلى هذا الوجه «فيرزقكم» إما صفة أو مستأنف (٩). وجعل أبو حيان استئنافه أولى ، قال: لانتفاء صدق «خالق» على غير الله بخلاف كونه صفة فإن الصفة تقيّد فيكون ثمّ خالق غير الله لكنه ليس برازق (١٠). وقرأ الفضل بن إبراهيم النحويّ (١١) «غير» بالنصب (١٢) على الاستثناء والخبر «يرزقكم» أو محذوف و «يرزقكم» مستأنفة أو صفة (١٣).

فصل

قال المفسرون : هذا استفهام على طريق التنكير كأنه قال : لا خالق غير الله يرزقكم

__________________

(١) قاله في البحر ٧ / ٣٠٠ والتبيان ١٠٧٣ والكشاف ٣ / ٢٩٩.

(٢) البحر ٧ / ٣٠٠ والكشاف ٣ / ٢٩٩ والدر ٤ / ٣٦٣ والتبيان لأبي البقاء العكبري ١٠٧٣ والبيان لابن الأنباري ٢ / ٢٨٦ ومشكل إعراب مكي ٢ / ٢١٤.

(٣) المراجع السابقة.

(٤) ذكره أبو حيان في بحره ٧ / ٣٠٠ وكذلك السمين في الدّر ٤ / ٤٦٣.

(٥) البحر المحيط والدر السابقان والكشاف ٣ / ٢٩٩ والتبيان ١٠٧٣ والبيان ٢ / ٢٨٦ ومشكل الإعراب لمكي ٢ / ٢١٤ والقرطبي ١٤ / ٣٢١.

(٦) المراجع السابقة عدا القرطبي والكشاف.

(٧) سقط من «ب».

(٨) بالمعنى من البحر ٧ / ٣٠٠ والكشاف ٣ / ٢٩٩ قال : «فإن قلت : هل فيه دليل على أن الخالق لا يطلق على غير الله تعالى؟ قلت : نعم إن جعلت «يرزقكم» كلاما مبتدأ وهو الوجه الثالث وأما على الوجهين الآخرين وهما الوصف والتفسير فقد تقيد فيهما بالرزق من السماء والأرض».

(٩ و ١٠) السابق.

(١١) الكوفي روى عن الكسائي وعنه عبيد الله بن الآملي. غاية النهاية ٢ / ٨.

(١٢) ذكرها في المختصر ١٢٣.

(١٣) الكشاف ٣ / ٢٩٩ ومعاني الفراء ٢ / ٦٦ والقرطبي ١٤ / ٣٢١ والبيان ٢ / ٢٨٦ والمشكل ٢ / ٢١٤ ومعاني الزجاج ٤ / ٢٦٢.

١٠٢

من السماء والأرض أي من السماء المطر ومن الأرض النبات (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) مستأنف (١)(فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي فأنى تصرفون عن هذا الظاهر فكيف تشركون المنحوت بمن (٢) له الملكوت؟ ثم لما بين الأصل الأول وهو التوحيد ذكر الأصل الثاني وهو الرّسالة فقال : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) يسلي (٣) نبيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثم بين من حيث الإجمال أن المكذب في العذاب (و) (٤) غير المكذب له الثواب بقوله : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) ثم بين الأصل الثالث وهو الحشر فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) يعني وعد القيامة (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) أي الشيطان (٥). وقرأ العامة بفتح «الغرور» وهو صفة مبالغة كالصّبور والشّكور. وأبو السّمّال وأبو حيوة بضمّها (٦) ؛ إما جمع غار كقاعد وقعود وإمّا مصدر كالجلوس.

قوله تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨) وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ)(٩)

قوله : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) لما قال تعالى : (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) ذكر ما يمنع العاقل من الاغترار وقال (٧) : (الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) ، ولا تسمعوا قوله. وقوله: (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) أي اعملوا ما يسوؤه وهو العمل الصالح. ثم قال : (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا) أي أشياعه (لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ). (و) (٨) في الآية إشارة إلى معنى لطيف وهو أن من يكون له عدو فإما أن يعاديه مجازاة له وإما أن يرضيه فلما قال تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) أمرهم بالعداوة وأشار إلى أن الطريق ليس إلا هذا. وأما الإرضاء فلا فائدة فيه لأنكم إن أرضيتموه (٩) واتّبعتموه فهو لا يؤدّيكم إلا إلى السعير. واعلم أن من علم أن له عدوا لا مهرب له منه وجزم بذلك فإنه يقف له ويصبر معه على

__________________

(١) الكشاف ٣ / ٢٩٩.

(٢) الرازي ٢٦ / ٤ و ٥.

(٣) في «ب» ليسلّي.

(٤) ساقط من «أ» وهي كما في «أ» في الفخر الرازي.

(٥) انظر ما سبق في تفسير الفخر الرازي ٢٦ / ٤ و ٥.

(٦) ذكرها الزمخشري في كشافه بدون نسبة انظر : الكشاف ٣ / ٣٠٠ ونسبت في القرطبي ١٤ / ٣٢٣ والبحر ٧ / ٣٠٠ وهي شاذة.

(٧) في «ب» : فقال وفي الفخر كما هنا في «أ».

(٨) زيادة من «ب».

(٩) في «ب» أوصيتموه وفي الرازي راضيتموه.

١٠٣

قتاله (١) إلى أن يظفر به وكذلك الشيطان لا يقدر الإنسان (أن) (٢) يهرب منه فإنه يقف معه ولا يزال ثابتا على الجادّة والاتّكال على العبادة (٣). ثم بين تعالى ما حال حزبه وحال حزب الله وهو قوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا) يجوز رفعه ونصبه وجره فرفعه من وجهين :

أظهرهما : أن يكون مبتدأ والجملة بعده خبره (٤). والأحسن أن يكون «لهم» هو الخبر (٥) و «عذاب» فاعله.

الثاني : أنه بدل من واو «ليكونوا» (٦). ونصبه من أوجه : البدل من «حزبه» (٧) أو النعت له (٨) أو إضمار فعل «أذمّ» ونحوه (٩) ، وجره من وجهين : النعت (١٠) أو البدلية من (أَصْحابِ السَّعِيرِ)(١١) وأحسن الوجوه الأول لمطابقة التقسيم (١٢). واللام في «ليكونوا» إما للعلة على المجاز من إقامة السّبب مقام المسبب (١٣) وإما الصّيرورة (١٤) ثم قال : (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) وهذا حال حزب الشيطان. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) فالإيمان في مقابلته المغفرة فلا يؤبّد (١٥) مؤمن في النار والعمل الصالح في مقابلته «الأجر الكبير».

قوله : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) «من» موصول مبتدأ وما بعده صلته والخبر محذوف فقدره الكسائيّ (تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) لدلالة : (فَلا تَذْهَبْ) عليه (١٦). وقدره الزجاج : «وأضله الله كمن هداه» (١٧) وقدره غيرهما كمن لم يزيّن له. وهو

__________________

(١) وكذا في «ب» والرازي ويصبر على قتاله والصبر معه الظفر.

(٢) ساقط من «ب».

(٣) الرازي ٢٦ / ٥.

(٤) قيل في القرطبي ١٤ / ٣٢٤ والتبيان ١٠٧٣ وإعراب النحاس ٣ / ٣٦٢ والبحر المحيط ٧ / ٣٠٠ والدر المصون ٤ / ٤٦٤.

(٥) المرجع الأخير السابق.

(٦) التّبيان والبيان ومشكل الإعراب لمكي ٢ / ٢١٥ وإعراب النحاس والبحر المراجع السابقة.

(٧) التبيان والبيان والمشكل وإعراب النحاس والبحر والقرطبي المراجع السابقة.

(٨) التبيان والبحر والدر المصون المراجع السابقة.

(٩) الدر المصون ٤ / ٤٦٤ السابق.

(١٠) لأصحاب السّعير. وانظر : التبيان ١٠٧٣ والبحر ٧ / ٣٠٠ والدر المصون ٤ / ٤٦٤.

(١١) المراجع السابقة. وانظر : البيان والمشكل والقرطبي المراجع السابقة وكذلك إعراب النحاس.

(١٢) قاله النحاس والقرطبي وأبو حيان في المراجع السابقة.

(١٣) اختيار أبي حيان في البحر ٧ / ٣٠٠.

(١٤) اختيار ابن عطية نقلا عن أبي حيان في بحره السابق.

(١٥) كذا هي هنا وفي «ب» يؤيد وفي الرازي : يؤيده انظر الرازي ٢٦ / ٦.

(١٦) ذكره القرطبي ١٤ / ٣٢٤ والكشاف ٣ / ٣٠١ والنحاس ٣ / ٣٦٢ وأبو حيان ٧ / ٣٠٠ والفراء في المعاني ٢ / ٣٦٦ و ٣٦٧.

(١٧) نقله عنه الكشاف السابق.

١٠٤

أحسن ، لموافقته لفظا ومعنى (١). ونظيره (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ) (هو أعمى)»(٢)(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) [الرعد : ١٩]. والعامة على «زيّن» مبنيا للمفعول «سوء» رفع (٣) وعبيد بن عمير (٤) زيّن مبنيا للفاعل وهو الله «سوء» بالنصب به. وعنه «أسوأ» بصيغة التفضيل منصوبا (٥). وطلحة (٦) «أمن» بغير فاء (٧). قال أبو الفضل : الهمزة للاستخبار بمعنى العامة للتقرير ويجوز أن تكون بمعنى حرف النداء فحذف التّمام كما حذف من المشهور (٨) الجواب ، يعني أنه يجوز في هذه القراءة أن تكون الهمزة للنداء وحذف التّمام أي ما (٩) نودي لأجله كأنه قيل : يا من زين له سوء عمله ارجع إلى الله وتب إليه ، وقوله : «كما حذف الجواب» يعني به خبر المبتدأ الذي تقدّم تقريره (١٠).

فصل

قال ابن عباس : نزلت في أبي جهل ومشركي مكة (١١). وقال سعيد بن جبير : نزلت في أصحاب الأهواء والبدع (١٢) فقال (١٣) قتادة : منهم الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم فأما أهل الكبائر فليسوا منهم لأنهم لا يستحلون الكبائر. ومعنى زين له سوء عمله شبه له وموه عليه وحسن له سوء عمله أي قبح (١٤) عمله فرآه حسنا زين له الشيطان ذلك بالوسواس. وفي الآية حذف مجازه : أفمن زيّن له سوء عمله فرأى الباطل حقّا كمن هداه الله فرأى الحق حقا والباطل باطلا (١٥)؟ (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي

__________________

(١) قاله أبو حيان في البحر ٧ / ٣٠٠.

(٢) الآية ١٤ من محمد وهي : «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ».

(٣) على أنه نائب عن الفاعل.

(٤) هو عبيد بن عمير بن قتادة أبو عاصم الليثي المكي القاصّ روى عن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب وعنه مجاهد وعطاء وعمرو بن دينار مات سنة ٨٤ ه‍ ، انظر : غاية النهاية لابن الجزري ١ / ٤٩٦ و ٤٩٧.

(٥) ذكرها أبو حيان في البحر المحيط وكذلك السمين في الدر المصون ٤ / ٤٦٥ والبحر في ٧ / ٣٠١ وهما قراءتان شاذتان.

(٦) لعله طلحة بن مصرف الذي له اختيار في القراءة ينسب إليه وقد ترجم له آنفا.

(٧) المرجعان السابقان.

(٨) كذا نقل أبو حيان في البحر عن أبي الفضل الرازيّ صاحب كتاب اللوامح وما في «ب» من المبهم والجواب وهو تحريف. وانظر : البحر ٧ / ٣٠١.

(٩) كذا هي هنا وفي الدر المصون نودي لأجله وفي «ب» والبحر المحيط أي ما يؤدي أجله وكلا المعنيين متقارب.

(١٠) المرجع السابق.

(١١) زاد المسير ٦ / ٤٧٥.

(١٢) السابق.

(١٣) في «ب» قال.

(١٤) معالم التنزيل للبغوي ٥ / ٢٩٧.

(١٥) السابق.

١٠٥

مَنْ يَشاءُ) وذلك لأن أشخاص الناس متساوية في الحقيقة والإساءة والإحسان والسيئة والحسنة تمتاز بعضها عن بعض فإذا عرفها البعض دون البعض لا يكون ذلك باستقلال منهم فلا بدّ من الاستناد إلى إرادة الله تعالى (١).

ثم سلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حيث حزن على إصرارهم بعد إتيانه بكل آية ظاهرة وحجة قاهرة(٢) فقال : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) كقوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا) [الكهف : ٦] أي لا تغتمّ بكفرهم وهلاكهم إن لم يؤمنوا.

قوله : (فَلا تَذْهَبْ) العامة على فتح التاء مسندا «لنفسك» من باب «لا ارينك هاهنا»(٣) أي لا تتعاط أسباب ذلك. وقرأ أبو جعفر (٤) وقتادة والأشهب (٥) بضم التاء وكسر الهاء مسندا لضمير المخاطب (و) نفسك مفعول به (٦).

قوله : «حسرات» فيه وجهان :

أحدهما : أنه مفعول من أجله أي لأجل الحسرات.

والثاني : أنه في موضع الحال على المبالغة (٧) كأن كلها صا (ر) (٨) ت حسرات لفرط التحسر كما قال :

٤١٥٢ ـ مشق الهواجر لحمهنّ مع السّرى

حتّى ذهبن كلاكلا وصدورا (٩)

يريد : رجعن كلاكلا وصدورا ، أي لم يبق إلا كلاكلها وصدورها كقولهم (شعر) (١٠) :

__________________

(١) نقله الإمام الفخر في تفسيره ٢٦ / ٦.

(٢) في الرازي باهرة.

(٣) أتى بهذا المثال استئناسا لإسناد الفعل «ذهب» إلى لفظ «نفسك» أي لا يكن منك ذلك ، وكذلك معنى المثال أي لا تكن بحيث أراك ها هنا. وهذا المثال حكاه سيبويه في الكتاب ٣ / ١٠١ في باب الحروف التي تنزّل بمنزلة الأمر والنهي ، لأن فيها معنى الأمر والنهي.

(٤) أحد العشرة القراء وقد ترجم له.

(٥) تقدم.

(٦) ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٢٣ وأبو حيان ٧ / ٣٠١ والفراء ٢ / ٣٦٧ قال : «وكلّ صواب» وانظر : الإتحاف ٣٦١.

(٧) ذهب إلى هذين الوجهين ابن الأنباري في البيان ٢ / ٢٨٧ وأبو البقاء في التبيان ١٠٧٣ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٠١ وأبو حيان في البحر ٧ / ٣٠١.

(٨) ما بين القوسين سقط من «أ».

(٩) بيت من بحر الكامل التام لجرير. ومعنى مشق : برى والهواجر جمع «الهاجرة» وهي وقت انتصاف النهار في شدة الحر. والسّرى : السّير ليلا. والكلاكل : هي الصدور. والشاهد : مجيء كلاكلا حال من النون في «ذهبن» مبالغة في أن هذه الخيل تصير عظاما من كثرة السير ليلا. وانظر : البحر المحيط ٧ / ٣٠١ والكتاب ١ / ١٦٢ والكشاف ٣ / ٣٠١ وشرح شواهده ٤١٨ والقرطبي ١٤ / ٣٢٦ وديوان زهير ١٩١ وديوانه ٣٢٣ و ٣٥٣ دار صادر.

(١٠) زيادة من «ب».

١٠٦

٤١٥٣ ـ فعلى إثرهم تساقط نفسي

حسرات وذكرهم لي سقام (١)

وكون «كلاكل وصدور» حال قول (٢) سيبويه (٣). وجعلهما المبرّد تمييزين منقولين من الفاعلية(٤). والحسرة شدة الحزن على ما فات من الأمر. ثم قال : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) أي الله عالم بفعلهم (٥) يجازيهم على ما يصنعونه ، ثم عاد إلى البيان وقال : (اللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ) وهبوب الرياح دليل ظاهر على الفاعل المختار ، لأن الهواء قد يسكن وقد يتحرك وعند حركته قد يتحرك إلى اليمين وقد يتحرك إلى الشمال وفي حركاته المختلفة قد ينشىء السّحاب وقد لا ينشىء. فهذه الاختلافات دليل على مسخّر مدبّر مؤثّر مقدّر (٦).

قوله : «فتثير» عطف على «أرسل» لأن «أرسل» بمعنى المستقبل فلذلك عطف عليه وأتى بأرسل لتحقّق وقوعه. و «تثير» لتصور الحال واستحضار الصورة البديعة كقوله : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) [الحج : ٦٣] وكقول تأبّط شرّا :

٤١٥٤ ـ ألا من مبلغ فتيان فهم

بما لاقيت عند رحامطان

بأنّي قد رأيت الغول تهوي

بسهب كالصّحيفة صحصحان

فقلت لها كلانا نضو أرض

أخو سفر فخل لي مكاني

فشدّت شدّة نحوي فأهوت

لها كفّي بمصقول يماني

فأضربها بلا دهش فخرّت

صريعا لليدين وللجران (٧)

__________________

(١) من الخفيف وهو مما جهل قائله. و «تساقط» أصلها تتساقط فحذفت إحدى التاءين تخفيفا. والشاهد هنا معنوي أن نفسه هلكت حسرة على هؤلاء الأحبة. ومن الإمكان أن نعتبر الشاهد لفظي كسابقه حيث يجيء «حسرات» حال من «نفسي» مبالغة ، وانظر : الكشاف ٣ / ٣٠١ وشرح شواهده ١٨ والقرطبي ١٤ / ٣٢٦ ، والبحر المحيط ٧ / ٣٠١ ، والدر المصون ٤ / ٤٦٦.

(٢) في «ب» ، قال بالفعلية وليس المراد.

(٣) قال : «فإنما هو على قوله : ذهب قدما وذهب آخرا» الكتاب ١ / ١٦٢.

(٤) قال : «ولا أرى نصب هذا إلا على التبيين ؛ لأن التبيين إنما هو بالأسماء فهو الذي أراه». المقتضب ٣ / ٢٧٢ وهو يعني بالتبيين التمييز ونقل التمييز أي ذهبت كلاكلها وصدورها.

(٥) في «ب» بفعالهم.

(٦) تفسير الرازي ٢٦ / ٧.

(٧) أبيات من الوافر له و «فهم» قبيلة عربية و «رحامطان» مكان و «السّهب» الفضاء الشاسع من الأرض و «الصحصحان» المستوي. والنضو : الدابة الهزيلة من كثرة السفر. والمصقول : السيف والجران مقدم عنق البعير من مذبحه إلى منحره. والشاهد في «فأضربها» حيث عبر بلفظ المستقبل تحققا لوقوعه وأنه واثق في النصر فقصد الصورة الماضية في الذهن. وانظر : الكشاف ٣ / ٣٠٢ والبحر ٧ / ٣٠٢ وكذلك القرطبي ١٤ / ٣٢٧ والمثل السائر ٦٩ ومعجم البلدان «رحامطان» وشرح شواهد الكشاف ٥٥٧.

١٠٧

حيث قال : «فأضربها» ليصور لقومه حاله وشجاعته وجرأته وقوله : «فسقناه وأحيينا» معدولا بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدلّ عليه (١).

فصل

قال : أرسل بلفظ الماضي وقال : (فَتُثِيرُ سَحاباً) بلفظ المستقبل ، لأنه لما أسند فعل الإرسال إلى الله وما يفعله يكون بقوله كن فلا يبقى في العدم لا زمانا ولا جزءا من الزّمان فلم يقل بلفظ المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة كونه كأنه كان ، ولأنه فرغ (٢) من كل شيء فهو قدّر الإرسال في الأوقات المعلومة وإلى المواضع المعينة. ولما أسند فعل الإشارة إلى الريح وهي (٣) تؤلّف في زمان فقال : تثير أي على هيئتها وقال : «سقنا» أسند الفعل إلى المتكلم وكذلك في قوله : «فأحيينا» ، لأنه في الأول عرف نفسه بفعل من الأفعال وهو الإرسال ثم لما عرف قال : أنا الذي بعثت (٤) السّحاب وأحييت الأرض. ففي الأول كان تعريفا بالفعل العجيب وفي الثاني كان تذكيرا بالنعمة فإن كمال نعمة الرياح والسحاب بالسّوق والإحياء وقوله : «سقنا وأحيينا» بصيغة الماضي يؤيد ما ذكرنا من الفرق بين قوله : «أرسل» وبين قوله : «تثير». ثم قال : (كَذلِكَ النُّشُورُ) أي من القبور ووجه التشبيه من وجوه :

أحدها : أن الأرض الميتة لما وصلت (٥) الحياة اللائقة بها كذلك الأعضاء تقبل الحياة.

وثانيها : كما أن الريح تجمع القطع السحابية كذلك نجمع أجزاء الأعضاء وأبعاض الأشياء.

وثالثها : كما أنّا نسوق الرّيح والسحاب إلى البلد كذلك نسوق الرّوح إلى الجسد الميّت.

فإن قيل : ما الحكمة في هذه الآية من بين الآيات مع أن الله تعالى له في كل شيء آية تدل على أنه واحد؟

فالجواب : أنه تعالى لما ذكر أنه فاطر السماوات والأرض وذكر من الأمور السماوية والأرواح وإرسالها بقوله : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ) ذكر من الأمور الأرضية الرّياح (٦).

__________________

(١) قاله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٠٢ وأبو حيان في البحر ٧ / ٣٠٢ أيضا.

(٢) كذا هي في «أ» وفي الرازي وكأنه قرع.

(٣) كذا في «ب» وفي الرازي : وهو يؤلف بالتذكير.

(٤) في الرازي : عرفتني سقت السحاب وعرفتني أحييت الأرض.

(٥) في «ب» قبلت وكذا في الرازي.

(٦) الرازي ٢٦ / ٧.

١٠٨

قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠) وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)(١٤)

قوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ) شرط جوابه مقدر باختلاف التفسير في قوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) (فقال مجاهد (١) : معناه) من كان يريد العزة بعبادة الأوثان فيكون تقديره فليطلبها. وقال قتادة : من كان يريد العزة وطريقه القويم ويحبّ نيلها على وجهها. فيكون تقديره على هذا فليطلبها (٢)

وقال الفراء : من كان يريد علم (٣) العزة فيكون التقدير : فلينسب ذلك إلى الله. وقيل : من كان يريد العزة التي لا يعقبها (٤) ذلّة. فيكون التقدير : فهو لا يبالها. ودل على هذه الأجوبة قوله : (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ) وإنما قيل : إن الجواب محذوف وهو هذه الجملة لوجهين :

أحدهما : أن العزة لله مطلقا من غير ترتبها على شرط إرادة أحد.

والثاني : أنه لا بدّ في الجواب من ضمير يعود على اسم الشرط إذا كان غير ظرف ولم يوجد هنا ضمير (٥) ، و «جميعا» حال ، والعامل فيها الاستقرار (٦).

فصل

قال قتادة : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) فليتفرد بطاعة (٧) الله ـ عزوجل ـ ومعناه الدعاء إلى

__________________

(١) سقط كله من «ب».

(٢) ذكر هذين الرأيين أبو حيان في بحره ٧ / ٣٠٣ والسّمين في الدر ٤ / ٤٦٧.

(٣) قاله في المعاني ٢ / ٣٦٧.

(٤) نقله أبو حيان في البحر ٧ / ٣٠٣.

(٥) المرجع السابق وانظر أيضا الدر المصون ٤ / ٤٦٧ و ٤٦٨.

(٦) قاله النحاس في الإعراب ٣ / ٣٦٤ والقرطبي في الجامع ١٤ / ٣٢٨.

(٧) في «ب» لطاعة الله باللام.

١٠٩

طاعة من له العزة أي فليطلب العزة من عند الله بطاعته كما يقال : من كان يريد المال فالمال لفلان (أي) (١) فليطلبه من عنده وذلك أن الكفار عبدوا الأصنام وطلبوا بها التعزيز كما قال تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا) [مريم : ٨١ ـ ٨٢] وقال : (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [النساء : ١٣٩].

قوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ) العامة على بنائه للفاعل من «صعد» ثلاثيا (الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) (برفعهما (٢) فاعلا (٣) ونعتا (٤). وعليّ وابن مسعود يصعد (٥) من أصعد الكلم (٦) الطّيّب) منصوبان على المفعول والنعت وقرىء يصعد (٧) مبنيا للمفعول. وقال ابن عطية : قرأ الضحاك يصعد بضم الياء لكن لم يبيّن كونه مبنيا للفاعل أو المفعول (٨).

فصل

قال المفسرون : الكلم الطيّب قول لا إله إلا الله. وقيل : هو قول الرجل : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر. وعن ابن مسعود قال : إذا حدّثتكم حديثا أنبأتكم بمصداقه من كتاب الله ـ عزوجل ـ ما من عبد مسلم يقول خمس كلمات سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وتبارك الله إلا أخذهنّ ملك فجعلهنّ تحت جناحه ثم صعد بهنّ ، فلا يمرّ بهن على جمع من الملائكة إلّا استغفروا لقائلهن حتى يجيء بهنّ وجه ربّ العالمين ومصداقه من كتاب الله عزوجل قوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ).

وقيل : الكلم الطيب : ذكر الله. وعن قتادة : إليه يصعد الكلم الطيب أي يقبل الله الكلم الطيب(٩).

قوله : (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ) العامة على الرفع وفيه وجهان :

أحدهما : أنه معطوف على (الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) فيكون صاعدا أيضا. و «يرفعه» على هذا استئناف إخبار من الله برفعهما. وإنما وحّد الضمير وإن كان المراد الكلم والعمل

__________________

(١) سقط من «ب» وانظر في هذا تفسير الإمام البغويّ معالم التنزيل ٥ / ٢٩٨.

(٢) ما بين القوسين كله ساقط من «أ» وموجود في (ب).

(٣) وهو الكلم.

(٤) وهو الطيب.

(٥) رواها الزمخشري كما أوردها المؤلف هنا قال : «وقرىء إليه يصعد الكلم الطيب على تسمية الفاعل من أصعد : والمصعد هو الرجل». الكشاف ٣ / ٣٠٢.

(٦) ولكن ابن خالويه والبحر لأبي حيان روياها «الكلام الطيب» لا الكلم. وانظر : المختصر ١٢٣ والبحر ٧ / ٣٠٣.

(٧) الكشاف والبحر المرجعان السابقان.

(٨) نقله عنه في البحر أبو حيان ٧ / ٣٠٣.

(٩) ذكر كل هذه الأقوال الإمام البغوي في معالم التنزيل ٥ / ٢٩٨ وكذلك الخازن ٥ / ٢٩٨. وقد ضعّف الخازن الحديث الذي رواه البغوي عن ابن مسعود.

١١٠

ذهابا بالضمير مذهب اسم الإشارة (١). كقوله (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة : ٦٨] وقيل : لاشتراكهما في صفة واحدة وهي الصّعود.

والثاني : أنه مبتدأ و «يرفعه» الخبر (٢) ولكن اختلفوا في فاعل «يرفع» على ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه ضمير الله تعالى أي والعمل الصالح يرفعه الله إليه (٣).

والثاني : أنه ضمير العمل الصالح (٤). وضمير النصب على هذا فيه وجهان :

أحدهما : أنه يعود على صاحب العمل أي يرفع صاحبه.

والثاني : أنه ضمير الكلم الطيب أي العمل الصالح يرفع الكلم الطيب. ونقل هذا عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وعكرمة وأكثر المفسرين (٥) إلّا أنّ ابن عطية منع (٦) هذا عن ابن عباس وقال : لا يصح ؛ لأن مذهب أهل السنة أن الكلم الطيب مقبول وإن كان صاحبه عاصيا.

والثالث : أن ضمير الرفع للكلم والنصب للعمل أي يرفع العمل (٧) ، وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى بالنّصب العمل الصّالح على الاشتغال والضمير المرفوع للكلم أو لله (٨) والمنصوب للعمل.

فصل

قال الحسن وقتادة : الكلم الطّيّب ذكر الله والعمل الصالح أداء فرائضه ، فمن ذكر الله ولم يؤد فرائضه ردّ كلامه على عمله وليس الإيمان بالتمني ولا بالتّخلّي لكن ما وقر في القلوب وصدقه الأعمال فمن قال حسنا وعمل غير صالح ردّ الله عليه قوله ومن قال حسنا وعمل صالحا رفعه العمل لقوله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ

__________________

(١) البحر المحيط ٧ / ٣٠٤ والدر المصون ٤ / ٤٦٨.

(٢) السابقان.

(٣) البيان ٢ / ٢٨٧ والكشاف ٣ / ٣٠٢.

(٤) البيان ٢ / ٢٨٧ والتبيان ١٠٧٣.

(٥) نقل هذين أبو حيان في بحره ٧ / ٣٠٤ بينما ارتأى ابن الأنباري أن الهاء تعود على «العمل» نفسه فقال : «والعمل الصّالح يرفعه الكلم» فالهاء تعود على العمل. ورأي الفراء كرأي ابن الأنباري يعود على العمل نفسه فكل من الفراء وابن الأنباري في النصب قد وافقا أبا حيان في وجه وخالفاه في آخر ، انظر : معاني القرآن ٢ / ٣٦.

(٦) البحر المحيط ٧ / ٣٠٣.

(٧) أوضحت منذ قليل أن هذا رأي ابن الأنباري والفراء وقال به الزّجّاج أيضا في معاني القرآن ٤ / ٢٦٥ قال «ويجوز أن يكون «والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب» أي لا يقبل العمل الصالح إلا من موحّد».

وانظر أيضا البحر فيما نقله عن شهر بن حوشب.

(٨) نقله الزمخشري في الكشاف وأبو حيان في البحر ٧ / ٣٠٤ وانظر كذلك مختصر ابن خالويه ١٢٣ ومعاني الفراء ٢ / ٣٦٧.

١١١

يَرْفَعُهُ). وقال ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ «لم يقبل الله قولا إلّا بعمل ولا قولا وعملا إلّا بنيّة». ومن قال الهاء في قوله «يرفعه» راجعة إلى العمل الصالح أي الكلم الطيب يرفع العمل الصالح فلا يقبل عمل إلا أن يكون صادرا عن التوحيد. وهذا معنى قول الكلبي ومقاتل. وقال سفيان بن عيينة : العمل الصالح هو الخالص يعني أن الإخلاص سبب قبول الخيرات من الأقوال والأفعال لقوله تعالى : (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف : ١١٠] فجعل نقيض العمل الصالح الشّرك والرياء(١).

فصل

قوله : (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) ، «يمكرون» أصله قاصر فعلى هذا ينتصب (٢) «السيّئات» على نعت مصدر محذوف أي المكرات السيئات (٣) أو نعت لمضاف إلى (مصدر) (٤) أي أصناف المكرات السيئات (٥). ويجوز أن يكون «يمكرون» مضمنا معنى يكسبون فينتصب «السيّئات» مفعولا به (٦). قال الزمخشري (٧) : ويحتمل أن يقال استعمل المكر استعمال العمل فمعناه تعديته كما قال : (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) [النساء : ١٨] قال مقاتل : يعني الشرك. وقال أبو العالية : يعني الذين مكروا برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في دار النّدوة (٨) كما قال تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ) [الأنفال : ٣٠].

قوله : (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) هو مبتدأ و «يبور» خبره والجملة خبر قوله : (وَمَكْرُ أُولئِكَ)(٩) وجوّز الحوفيّ وأبو البقاء أن يكون «هو» فصلا بين المبتدأ أو الخبر وخبره (١٠). وهذا مردود بأن الفصل لا يقع قبل الخبر إذا كان فعلا إلّا أن الجرجانيّ (١١)

__________________

(١) نقل هذه الأقوال كلها الإمام البغوي في تفسيره معالم التنزيل ٥ / ٢٩٩ وانظر : لباب التأويل للإمام الخازن ٥ / ٢٩٨ و ٢٩٩.

(٢) في «ب» تنتصب بالتأنيث.

(٣) فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه وانظر البيان ٢ / ٢٨٧ ومشكل إعراب القرآن لمكي ٢ / ٢١٥ والكشاف ٣ / ٣٠٣ والبحر ٧ / ٣٠٤.

(٤) سقط من «ب».

(٥) البحر المحيط ٧ / ٣٠٤ والدر المصون ٤ / ٤٦٩.

(٦) المرجعان السابقان وانظر أيضا مشكل مكي ٢ / ٢١٥ والبيان ٢ / ٢٨٧ ، وإعراب النحاس ٣ / ٣٦٥ ، والكشاف ٣ / ٣٠٣.

(٧) الأصح أن هذا القول للفخر الرازي لا للزمخشري وقد نقل المؤلف عبارة الرازي خطأ وذلك أن الرازي نقل رأي الزمخشري السابق وعقب بعدها قائلا : «ويحتمل أن يقال : استعمل المكر استعمال العمل فعداه تعديته كما قال : الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ». وانظر : التفسير الكبير للفخر الرازي ٢٦ / ٩.

(٨) معالم التنزيل ٥ / ٢٩٩.

(٩) هذا رأي أبي حيان ٧ / ٢٠٤ ومن بعده تلميذه السّمين في الدر المصون ٤ / ٤٦٩.

(١٠) وهذا رأي ابن الأنباري أيضا في البيان ٢ / ٢٨٧ فقد قال : «وهو فصل بين المبتدأ والخبر وقد قدمنا أن الفصل يجوز أن يدخل بين المبتدأ والخبر إذا كان ـ أي الخبر ـ فعلا مضارعا و «يبور» فعل مضارع».

وانظر : التبيان ١٠٧٣ والبحر ٧ / ٢٠٤ والبيان ٢ / ٢٨٧.

(١١) الجرجاني هو الإمام عبد القاهر صاحب النظم المعروف والمؤلف قد نقل كلام أبي حيان من البحر ـ

١١٢

جوز ذلك ، وجوز أبو البقاء أيضا أن يكون «هو» تأكيدا (١) وهذا مردود بأن المضمر لا يؤكد الظاهر(٢). ومعنى «يبور» يهلك ويبطل (٣) في الآخرة.

قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ...) الآية» قد تقدم أن الدلائل مع كثرتها منحصرة في قسمين : دلائل الآفاق ودلائل الأنفس كما قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) فلما ذكر دلائل الآفاق من السموات وما يرسل منها من الرياح شرع في دلائل الأنفس وتقدم ذكره مرارا أن قوله : (مِنْ تُرابٍ) إشارة إلى خلق آدم (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) إشارة إلى خلق أولاده. وتقدم أن الكلام غير محتاج إلى هذا التأويل بل خلقكم خطاب مع الناس وهم أولاد آدم ، وكلهم من تراب ومن نطفة لأن كلهم من نطفة والنطفة من غذاء والغذاء (ينتهي) (٤) بالآخرة إلى الماء والتراب فهو من تراب صار (٥) نطفة (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً ذُكْراناً وَإِناثاً).

قوله : (مِنْ أُنْثى) من مزيدة في «أنثى» (٦) وكذلك في : (مِنْ مُعَمَّرٍ)(٧) إلا أن الأول فاعل وهذا مفعول قام مقامه و (إِلَّا بِعِلْمِهِ)(٨) حال أي إلّا ملتبسة بعلمه.

قوله : (مِنْ عُمُرِهِ) في هذا الضمير قولان :

أحدهما : أنه يعود على «معمّر» آخر (٩) لأن المراد بقوله : (مِنْ مُعَمَّرٍ) الجنس فهو يعود عليه لفظا لا معنى ، لأنه بعد أن فرض كونه معمرا استحال أن ينقص من عمره نفسه كقوله (١٠) :

٤١٥٥ ـ وكلّ أناس قاربوا قتل فحلهم

ونحن خلعنا قيده فهو سارب (١١)

ومنه : عندي درهم ونصفه أي ونصف درهم آخر.

__________________

ـ فقد قال أبو حيان : «ولم يذهب إلى ذلك أحد فيما علمناه إلا عبد القاهر الجرجاني في شرح الإيضاح له فإنه أجاز «كان زيد هو يقوم» أن يكون «هو» فصلا وردّ ذلك عليه». البحر المحيط ٧ / ٣٠٤.

(١) التبيان ١٠٧٤.

(٢) البحر المحيط ٧ / ٣٠٤ والدر المصون ٤ / ٤٧٠.

(٣) غريب القرآن ٣٦٠.

(٤) سقط من «ب».

(٥) تفسير الرازي ٢٦ / ٩ و ١٠.

(٦) الدر المصون ٤ / ٤٧٠.

(٧) الدر المصون ٤ / ٤٧٠ والبحر المحيط ٧ / ٣٠٤.

(٨) قاله الكشاف ٣ / ٣٠٣ وانظر المرجعين السابقين.

(٩) قاله الفراء في معانيه ٢ / ٣٦٨ وانظر : البحر والدر السابقين.

(١٠) في «ب» كقول الشاعر.

(١١) من الطويل للأخنس بن شهاب ويروى : «شدّدوا» بدل قاربوا كما يروى : أرى كل قوم بدل «وكل أناس». وهو يفتخر بقومه وبحيواناتهم وغير قومه قد ربطوا وقيدوا حيواناتهم حتى لا تجور على الغير أما هم فلم يقيدوها فهي سارحة في الشاسع من الأرض. والشاهد : في «قيده» حيث أن الهاء لا تعود على ضمير الفحل الذي يخص غيرهم وإنما يعود على فحل الشاعر وقومه. وبهذا يصح التنظير بالآية ، وقد تقدم.

١١٣

والثاني : أنه يعود على «معمّر» لفظا ومعنى (١). والمعنى أنه إذا مضى من عمره حول أحصي وكتب ثم حول آخر كذلك فهذا هو النقص. وإليه ذهب ابن عباس وابن جبير وأبو مالك (٢) ؛ ومنه قول الشاعر :

٤١٥٦ ـ حياتك أنفاس تعدّ فكلما

مضى نفس منك انتقصت به جزءا (٣)

وقرأ يعقوب وسلّام (٤) ـ وتروى عن أبي عمرو ـ ولا ينقص مبنيا (٥) للفاعل. وقرأ الحسن : من عمره بسكون (٦) الميم.

فصل

معنى (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) لا يطول عمره ولا ينقص من عمره أي من عمر آخر كما يقال : لفلان عندي درهم ونصفه أي ونصف درهم آخر (إِلَّا فِي كِتابٍ). وقيل : قوله ولا ينقص من عمره ينصرف إلى الأول. وقال سعيد بن جبير : مكتوب في أم الكتاب عمر فلان كذا وكذا سنة ثم يكتب أسفل (من) (٧) ذلك ذهب يوم ذهب يومان ذهب ثلاثة أيام حتى ينقطع عمره. وقال كعب الأحبار حين حضر الوفاة عمر : والله لو دعا عمر ربه أن يؤخر أجله لأخر فقيل له : إن الله عزوجل يقول: (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) فقال : هذا إذا حضر الأجل فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد و (أن) ينقص ، وقرأ هذه الآية (٨).

فصل

(وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ) إشارة إلى كمال قدرته فإن ما في الأرحام قبل التخليق بل بعده ما دام في البطن لا يعلم حاله أحد كيف والأم الحامل لا تعلم منه شيئا فلما ذكر بقوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) كمال قدرته بين بقوله : (ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ

__________________

(١) بالمعنى من البحر المحيط ٧ / ٣٠٤ ومعاني الفراء ٢ / ٣٦٨ وانظر الرأيين في زاد المسير ٦ / ٤٨٠ والقرطبي ١٤ / ٣٣٣.

(٢) المراجع السابقة.

(٣) من الطويل أيضا وقائله مجهول وأتى به كشاهد معنوي حيث إن كل وقت يمر على الإنسان محسوب من عمره الذي لا يزيد ولا ينقص عما هو في اللوح. وهذا يؤيد الرأي الثاني في «المعمّر» ، وانظر : البحر المحيط ٧ / ٣٠٤ ، والدر المصون ٤ / ٤٧٠.

(٤) سبق التعريف به.

(٥) رواها ابن خالويه عن الحسن وابن سيرين ويعقوب انظر المختصر ١٢٣ والإتحاف ٣٦١ وهي من المتواتر من الأربع فوق العشر المتواترة. وانظر القرطبي ١٤ / ٣٣٤.

(٦) نسبها القرطبي للأعرج والزهري المرجع السابق وفي السبعة والمختصر أنها مروية عن أبي عمرو انظر : السبعة ٥٣٤ والمختصر ١٢٣.

(٧) زيادة من «أ».

(٨) انظر : الفصل السابق في معالم التنزيل للبغوي ٥ / ٢٩٩.

١١٤

إِلَّا بِعِلْمِهِ) كمال علمه. ثم بين نفوذ إرادته بقوله : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) فبين أنه هو القادر العليم (١) المريد والأصنام لا قدرة لها (ولا علم) (٢) ، ولا إرادة فكيف يستحق شيء منها العبادة. ثم قال : (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي الخلق من التراب. ويحتمل أن يكون المراد إن التعمير والنقصان على الله يسير. ويحتمل أن يكون المراد : إن العلم بما تحمله الأنثى يسير والكل على الله يسير. والأول أشبه لأن استعمال اليسير في الفعل (٣) أليق.

قوله : (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ) يعني العذب والملح ثم ذكرهما فقال : (هذا عَذْبٌ فُراتٌ) طيب (سائِغٌ شَرابُهُ) جائز في الحلق هنيء (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) شديد الملوحة. وقال الضحاك : هو المرّ (٤).

قوله : (سائِغٌ شَرابُهُ) يجوز أن يكونا (٥) مبتدأ وخبرا ، والجملة خبر ثان وأن يكون «سائغ» خبرا و «شرابه» فاعلا به لأنه اعتمد (٦) ، وقرأ عيسى ـ ويروى عن أبي عمرو وعاصم ـ سيّغ مثل سيّد وميّت (٧). وعن عيسى (٨) بتخفيف يائه كما يخفف هيّن وميّت. وقرأ طلحة وأبو نهيك ملح بفتح الميم وكسر (٩) اللام ، فقيل : هو مقصور من مالح ومالح لغيّة (١٠) شاذة. وقيل : ملح بالفتح والكسر لغة في ملح ، بالكسر والسكون (١١).

فصل

قال أكثر المفسرين : إن المراد من الآية ضرب المثل في حق الكفر والإيمان أو الكافر والمؤمن فالإيمان لا يشبّه بالكفر كما لا يشبه البحر العذب الفرات بالبحر الملح الأجاج ثم على هذا فقوله : (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) فالبيان أن حال الكافر والمؤمن أو الكفر والإيمان دون حال البحرين لأن الأجاج يشارك الفرات في خير ونفع إذ اللحم

__________________

(١) في «ب» العالم.

(٢) سقط من «ب».

(٣) انظر : الفصل السّابق في تفسير الرازي ٢٦ / ١٠.

(٤) انظر هذه المعاني في القرطبيّ ١٤ / ٣٣٤ والبغوي ٥ / ٢٩٩.

(٥) في «ب» يكون بالإفراد وانظر : التبيان ـ في الإعراب الثاني ـ ١٠٧٤ والدّرّ المصون والتبيان في الإعرابين ١٠٧٤ والدر ٤ / ٤٧١.

(٦) أي على نفي وهو «ما» في أول الآية.

(٧) كذا رواها ابن خالويه في المختصر ١٢٣ بالتشديد وانظر البحر المحيط ٧ / ٣٠٥.

(٨) أورد ابن جني في المحتسب هذه القراءة ولم يورد الأولى ولعل ابن خالويه ومن تابعوه قد رووها خطأ عنه ولعلهما قراءتان تنسبان له. وانظر : البحر المحيط ٧ / ٣٠٥ والمحتسب ٢ / ١٩٨.

(٩) المحتسب والبحر المرجعان السابقان. وأبو نهيك هو : علباء بن أحمد أبو نهيك اليشكريّ الخراسانيّ له حروف من الشواذ تنسب إليه عرض على شهر بن حوشب ، انظر : غاية النهاية ١ / ٥١٥.

(١٠) تصغير لغة. وانظر المحتسب ١ / ١٧١ و ٢ / ٨٢ و ١٩٩.

(١١) انظر : البحر المحيط ٧ / ٣٠٥.

١١٥

الطريّ يوجد فيهما والحلية تؤخذ منهما والفلك تجري فيهما ولا نفع في الكفر والكافر. وهذا على (١) نسق قوله تعالى : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) [الأعراف : ١٧٩] وقوله : (كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ) [البقرة : ٧٤]. قال ابن الخطيب : والأظهر أن المراد منه ذكر دليل آخر على قدرة الله تعالى وذلك من حيث إن البحرين يستويان في الصورة ويختلفان في الماء (٢) ، فإن أحدهما فرات والآخر ملح أجاج ولو لا ذلك بإيجاب (٣) موجب (٤) ، لما اختلف المستويان ثم إنهما بعد اختلافهما يوجد (٥) منهما أمور متشابهة فإن اللحم الطريّ يوجد فيهما والحلية تؤخذ منهما ومن يوجد من المتشابهين اختلافا ومن المختلفين اشتباها لا يكون إلا قادرا مختارا فقوله : (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ) إشارة إلى أن عدم استوائهما دليل على كمال قدرته ونفوذ إرادته.

فصل

قال أهل اللغة : لا يقال لماء البحر إذا كان فيه ملوحة مالح وإنما يقال له : ملح. وقد يذكر في بعض كتب الفقه يصير بها ماء البحر مالحا. ويؤاخذ (٦) قائله (به) (٧). وهو أصح مما يذهب إليه القوم وذلك لأن الماء العذب إذا ألقي فيه ملح حتى ملح لا يقال له إلا مالح. وماء ملح يقال للماء الذي صار من أصل خلقته كذلك لأن المالح (٨) شيء فيه ملح ظاهر في الذّوق والماء الملح ليس ماء وملحا بخلاف الطعام المالح فالماء العذب الملقى فيه الملح ما فيه ملح ظاهر في الذّوق بخلاف (ما هو ملح ظاهر (٩) في الذّوق بخلاف) ما هو من أصل خلقته كذلك (فلما) (١٠) قال الفقيه : الملح أجزاء أرضيّة سبخة يصير بها ماء البحر مالحا راعى فيه الأصل فإنّه جعله ماء جاوره ملح. وأهل اللغة حيث قالوا في البحر ماؤه ملح جعلوه كذلك من أصل الخلقة والأجاج المرّ كما تقدم.

قوله : (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) من الطّير والسّمك من العذب والملح جميعا (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً) يعني من الملح دون العذب «تلبسونها» من اللّؤلؤ والمرجان. وقيل : نسب اللؤلؤ إليهما لأنه قد يكون في البحر الأجاج (عيون) (١١) عذبة تمتزج بالملح فيكون

__________________

(١) في «ب» نسق على بتقديم وتأخير.

(٢) كذا هي في الرازي وما في «ب» المادة. وانظر في هذا تفسير الرازي ٢٦ / ١٠ و ١١.

(٣) في «ب» بإيجاد وفي الفخر كما في «أ» بإيجاب.

(٤) في «ب» موجد ولم توجد تلك اللفظة في الرازي.

(٥) في «ب» يؤخذ وما هنا يوافق الفخر الرازي.

(٦) كذا في الرازي وما في «ب» يؤخذ.

(٧) زيادة من «ب» والرازي.

(٨) في «ب» الملح وهو تحريف.

(٩) ما بين القوسين ساقط من «ب».

(١٠) زيادة من الرازي عن النسختين.

(١١) سقط من «ب».

١١٦

اللؤلؤ من ذلك. وقرىء (١)(الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ) أي ماخرات تمخر البحر بالجريان أي تشقّ جواري مقبلة ومدبرة بريح واحدة (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) بالتجارة (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الله على نعمه وهذا يدل على أن المراد من الآية الاستدلال بالبحرين وما فيهما على وجود الله ووحدانيته وكمال قدرته(٢).

قوله : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) وهذا استدلال آخر باختلاف الأزمنة وقوله : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) جواب لسؤال يذكره المشركون وهو أنهم قالوا اختلاف الليل والنهار بسبب اختلاف القسيّ الواقعة فوق (٣) الأرض وتحتها فإن في الصيف تكون الشمس على سمت الرّؤوس في بعض البلاد المائلة الآفاق (٤) وحركة الشمس هناك مائلة فتقع تحت الأرض أقل من نصف دائرة فيقل زمان مكثها تحت الأرض فيقصر الليل وفي الشتاء بالضّدّ فيقصر النهار فقال الله تعالى: (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) يعني سبب (٥) الاختلاف وإن كان ما ذكرتم لكن سير الشمس والقمر بإرادة الله وقدرته فهو الذي فعل ذلك (٦)(كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى).

قوله : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) ذلكم مبتدأ و «الله» خبره و «ربكم» خبر ثان (٧) أو نعت (٨) لله. وقال الزمخشري : ويجوز في حكم الإعراب إيقاع اسم الله صفة لاسم الإشارة أو عطف بيان و «ربكم» خبر لو لا أن المعنى يأباه (٩). ورده أبو حيان بأن «الله» علم لا جنس فلا يوصف به (١٠). ورد قوله إنّ المعنى يأباه قال : لأنه يكون قد أخبر عن المشار إليه بتلك الصفات (١١) أنه مالككم ومصلحكم.

فصل

المعنى ذلك الذي فعل هذه الأشياء من فطر السّموات والأرض وإرسال الأرواح وخلق الإنسان من تراب وغير ذلك له الملك كله فلا معبود إلا هو فإذا كان له الملك كله فله العبادة كلها. ثم بين ما ينافي صفة الإلهية فقال : (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) يعني الأصنام (ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ)(١٢).

__________________

(١) الأصح : «وترى» لا قرىء كما في الرازي و «ب».

(٢) وانظر في هذا التفسير الكبير للرازي ٢٦ / ١١. وانظر اللّغة في اللسان لابن منظور م. ل. ج.

(٣) في «ب» في الأرض تحريف.

(٤) وفيها : إلى الآفاق وفي الرازي : في الآفاق.

(٥) في «ب» بسبب.

(٦) نقله الإمام الفخر الرازي في تفسيره ٢٦ / ١١ و ١٢.

(٧) نقله أبو حيان في البحر ٧ / ٣٠٥ والسمين في الدر ٤ / ٤٧١.

(٨) الدر المصون المرجع السابق وانظر في الأخبار المترادفة الكشاف ٣ / ٣٠٤.

(٩) المرجع السابق.

(١٠) البحر المحيط ٧ / ٣٠٥.

(١١) «والأفعال المذكورة أي مالككم أو مصلحكم» قال : «وهذا معنى لائق» البحر ٧ / ٣٠٥.

(١٢) نقله الرازي في تفسيره ٢٦ / ١٢.

١١٧

قوله : (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) العامة على الخطاب في «تدعون» لقوله : «ربّكم». وعيسى وسلّام ويعقوب ـ وتروى عن أبي عمرو ـ بياء الغيبة (١) إمّا على الالتفات وإمّا على الانتقال إلى الإخبار. والفرق بينهما أن يكون في الالتفات المراد بالضميرين واحدا بخلاف الثاني فإنهما غيران (٢). و «يملكون» هو خبر الموصول و «من قطمير» مفعول به. و «من» فيه مزيدة (٣). والقطمير المشهور فيه أنه لفافة النّواة. وهو مثل في القلّة كقوله :

٤١٥٧ ـ وأبوك يخصف نعله متورّكا

ما يملك المسكين من قطمير (٤)

وقيل : هو القمع وقيل : ما بين القمع والنّواة (٥). وقد تقدم أن النّواة أربعة أشياء يضرب بها المثل في القلّة : الفتيل وهو ما في شقّ النّواة ، والقطمير وهو اللفافة والنّقير والثفروق وهو ما بين القمع والنّواة (٦).

قوله : (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) يعني الأصنام (وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) وهذا إبطال لما كانوا يقولون : إن في عبادة الأصنام عزّة من حيث القرب منها والنظر إليها وعرض الحوائج عليها والله لا يرى ولا يصل إليه أحد فقال مجيبا لهم : إن هؤلاء لا يسمعون كما تظنون فإنهم كانوا يقولون: إن الأصنام تسمع وتعلم ولكن لا يمكنهم أن يقولوا بأنها تجيب لأن ذلك إنكار للمحسوس فقال: (وَلَوْ سَمِعُوا) كما تظنون (مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ)(٧).

قوله : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) أي يتبرءون (٨) منكم ومن عبادتكم إيّاها ويقولون (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ). واعلم أنه لما بين عدم النفع فيهم في الدنيا بين عدم النفع فيهم في الآخرة ووجود الضرر منهم في القيامة بقوله : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ

__________________

(١) ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٢٣ وكذلك أبو حيان في البحر ٧ / ٣٠٥ ونقل أبو حيان هذا عن ابن جبارة وهو صاحب الكامل في القراءات الخمسين.

(٢) نقله صاحب الدر المصون في تفسيره ٤ / ٤٧٢.

(٣) المرجع السابق والتقدير «والذين تدعون من دونه ما يملكون قطميرا».

(٤) من تمام الكامل ، ولم أعرف قائله ومعنى خصف النّعل وضع بعضها على بعض قال صاحب اللسان : «خصف النعل يخصفها خصفا ظاهر بعضها على بعض وخرزها وهي نعل خصيف وكل ما طورق بعضه على بعض فقد خصف وفي الحديث : أنّه كان يخصف نعله». اللسان ١١٧٤ خ ص ف. وانظر البيت في البحر ٧ / ٣٠٥ فقد أتى به استشهادا على أن القطمير هو لفافة النواة الضعيفة الهيّنة.

(٥) انظر : اللسان «ق ط م ر» ٣٦٨٢ وغريب القرآن ٣٦٠ والقرطبي ١٤ / ٣٣٦ والبحر ٧ / ٣٩٦ وتأويل المشكل ١٠٥ وزاد المسير ٦ / ٤٨١.

(٦) عند قوله : «وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً» الآية ٧٧ من النساء وانظر : اللباب ٢ / ٥٣ ب.

(٧) نقله الرازي عند قوله تعالى : «إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا». وانظر تفسيره ٢٦ / ١٢.

(٨) في «ب» يقهرون وانظر : معالم التنزيل للبغوي ٥ / ٣٠٠.

١١٨

بِشِرْكِكُمْ) أي بإشراككم بالله (١) غيره وهذا مصدر مضاف لفاعله ثم قال : (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) يعني نفسه أي لا ينبئك أحد مثل خبير عالم بالأشياء وهذا الخطاب يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون خطابا للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ووجهه أن الله تعالى لما أخبر أن (٢) الخشب والحجر يوم القيامة ينطق ويكذب عابده وذلك ما لا يعلم بالعقل المجرد لو لا إخبار الله تعالى عنه بقوله : «إنهم يكفرون بهم يوم القيامة» فهذا القول مع كون (٣) المخبر عنه أمرا عجيبا قال إن المخبر عنه خبير.

والثاني : أن ذلك الخطاب غير مختص بأحد أي هذا الذي ذكر هو كما ذكر ولا ينبئك أيّها السّامع كائنا من كنت مثل خبير.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (١٨) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ)(٢٣)

قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) (أي) إلى فضل الله. والفقير هو المحتاج (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ) عن خلقه «الحميد» أي المحمود في إحسانه إليهم. واعلم أنه لما كثر الدعاء من النبي ـ عليه‌السلام ـ والإصرار من الكفار قالوا إن الله لعله محتاج إلى عبادتنا حتى يأمرنا بها أمرا بالغا ويهددنا على تركها مبالغا فقال الله : (أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ) فلا يأمركم بالعبادة لاحتياجه إليكم وإنما هو لإشفاقه عليكم (٤).

فصل

التعريف في الخبر قليل والأكثر أن يكون الخبر نكرة والمبتدأ معرفة لأن المخبر لا يخبر في الأكثر إلا بأمر يعلمه المخبر أو في ظن المتكلم أن السامع لا علم له به ثم إنّ المبتدأ لا بدّ وأن يكون معلوما عند السامع حتى يقول له : أيها السامع الأمر الذي تعرفه ثبت له قيام لا علم عندك به فإن الخبر معلوم عند السامع والمبتدأ كذلك ويقع الخبر

__________________

(١) في «ب» والله على القسم وهذا غير مراد.

(٢) في «ب» بأن بزيادة الباء على «أن».

(٣) في «ب» كونه تحريف.

(٤) كله تلخيص من تفسير الإمام الفخر التفسير الكبير ٢٦ / ١٢ و ١٣.

١١٩

تنبيها لا تفهيما فإنه يحسن تعريف الخبر كقول القائل : «الله ربنا ومحمد نبينا» حيث عرف كون الله ربنا وكون محمد نبينا وههنا لما كان كون الناس فقراء أمرا ظاهرا لا يخفى على أحد قال : (أَنْتُمُ الْفُقَراءُ)(١) ، وقوله : (إِلَى اللهِ) إعلام بأنه لا افتقار إلا إليه ولا اتّكال إلا عليه. وهذا يوجب عبادته لكونه مفتقرا إليه وعدم عبادة غيره لعدم الافتقار إلى غيره ثم قال : (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ) أي هو مع استغنائه يدعوكم كل الدعاء وأنتم مع احتياجكم لا تجيبونه (٢).

قوله : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) وهذا بيان لغناه وفيه بلاغة كاملة لأن قوله تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أي ليس إذهابكم موقوفا إلا على مشيئته بخلاف الشيء المحتاج إليه فإن المحتاج إلى الشيء لا يقال فيه : إن شاء فلان هدم داره (٣) ، وإنما يقال (٤) : لو لا حاجة السّكنى إلى الدار لبعتها ، ثم إنه تعالى زاد على بيان الاستغناء (٥) بقوله : (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) يعني إن كان يتوهم متوهم أنّ هذا الملك كمال وعظمة فلو أذهبه لزال ملكه وعظمته فهو قادر أن (٦) يخلق خلقا جديدا أحسن من هذا (وأجمل) (٧).

(وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) أي الإذهاب والإتيان. واعلم أن لفظة «العزيز» استعمله الله تارةفي القائم بنفسه فقال في حق نفسه : (وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) [الأحزاب : ٢٥] وقال في هذه السورة : (عَزِيزٌ غَفُورٌ) واستعمله تارة في القائم بغيره فقال : (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) وقال: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) [التوبة : ١٢٨] فهل هما بمعنى واحد أو بمعنيين؟ فنقول : العزيز في اللغة هو الغالب والفعل (٨) إذا كان لا يطيقه شخص يقال (٩) : هو مغلوب بالنسبة إلى ذلك الفعل فقوله (١٠): (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) أي ذلك الفعل لا يغلبه بل هو هيّن على الله وقوله : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) أي يحزنه ويؤذيه كالشّغل (الشّاغل) الغالب (١١).

__________________

(١) نقله الإمام الرازي في تفسيره في إحدى مسائله التي تكلم فيها مع تغيير طفيف في عبارته. وقد نقل الشيخ يس في حاشيته على التصريح تقريرا يؤكد قول الرازي حيث قال : «المبتدأ حقه أن يكون معلوما لأن الحكم على المجهول بعيد عن التحصيل والخبر أن يكون مجهولا لأن الحكم بالمعلوم سعي في تحصيل الحاصل» انظر حاشية الشيخ يس على شرح التصريح للشيخ خالد الأزهري ١ / ١٦٨ وانظر : تفسير الرازي ٢٦ / ١٣.

(٢) ولا تدعونه فيجيبكم. وانظر : المرجع السابق.

(٣) وأعدم عقاره.

(٤) في الفخر : «وإنما يقول».

(٥) المرجع السابق.

(٦) في (ب) بأن.

(٧) زيادة من (ب.

(٨) في (ب) : والعقل وهو تحريف.

(٩) في «ب» : فقال تحريف.

(١٠) في (ب) : بقوله تحريف.

(١١) وانظر الرازي ٢٦ / ١٤.

١٢٠