اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٧٤

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة سبأ

مكية (١) وهي خمس وخمسون آية وثمان مائة وثلاث وثمانون كلمة وأربعة آلاف وخمسمائة واثنا عشر حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(٦)

قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ)(٢) اعلم أن السور المفتتحة بالحمد خمس ، سورتان منها في النصف الأول وهما الأنعام والكهف وسورتان في النصف الأخير وهما هذه وسورة الملائكة ، والخامسة وهي سورة فاتحة الكتاب تقرأ مع النصف الأول ومع النصف الأخير. والحكمة فيها أن نعم الله مع كثرتها وعدم قدرتنا على إحصائها منحصرة في قسمين نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء فإن الله خلقنا أولا برحمته وخلق لنا ما نقوم به وهذه النعمة توجد مرة أخرى بالإعادة فإنه خلقنا مرة أخرى ويخلق لنا ما ندوم به فلنا حالتان الإبداء والإعادة وفي كل حالة له تعالى علينا نعمتان نعمة الإيجاد

__________________

(١) قال ابن الجوزي في تفسيره ٦ / ٤٣١ وهي مكية بإجماعهم ، وقال الضحاك وابن السائب ومقاتل : فيها آية مدنية وهي قوله : «وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» وهذه الآية قال بمكيتها ابن عباس فيما نقله القرطبي في الجامع ١٤ / ٢٥٨.

(٢) بالمعنى من تفسير الرازي ٢٥ / ٢٣٨.

٣

ونعمة الإبقاء فقال في النصف الأول : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) إشارة إلى الشكر على نعمة الإيجاد ، ويدل عليه قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) فأشار إلى الإيجاد الأول وقال في السورة الثانية : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً لِيُنْذِرَ) فأشار إلى الشكر على نعمة الإبقاء فان الشرائع بها البقاء ولو لا شرع ينقاد له لاتّبع كلّ واحد هواه ووقعت المنازعات وأدت إلى التقاتل والتّفاني وقال ههنا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) إشارة إلى نعمة الإيجاد الثاني بدليل قوله : (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) [سبأ : ١] وقال في الملائكة : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [فاطر : ١] إشارة إلى نعمة الإبقاء بدليل قوله تعالى : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) أي يوم القيامة يرسلهم الله مسلمين على المسلمين كما قال تعالى : (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) [الأنبياء : ١٠٣] وقال تعالى عنهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [الزمر : ٧٣] وفاتحة الكتاب لما اشتملت على ذكر نعمتين أشار بقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : ١] إلى النعمة العاجلة ، وأشار بقوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) إلى النعمة الآجلة ، فرتب الافتتاح والاختتام عليهما.

فإن قيل : قد ذكرتم أن الحمد ههنا إشارة إلى النعم التي في الآخرة فلماذا ذكر الله السموات والأرض؟

فالجواب : أن نعم الآخرة غير مرئية فذكر الله النعم المرئية وهي ما في السموات وما في الأرض ثم قال : (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) لتنقاس نعم الآخرة بنعم الدنيا ويعلم فضلها بدوامها(١).

قوله : (الَّذِي لَهُ) يجوز فيه أن يكون تابعا وأن يكون مقطوعا نصبا ورفعا على المدح فيهما (٢) و (ما فِي السَّماواتِ) يجوز أن يكون فاعلا به وهو الأحسن وأن يكون مبتدأ (٣).

قوله : (فِي الْآخِرَةِ) يجوز أن يتعلق بنفس الحمد ، وأن يتعلق بما تعلق به خبره (وهو الحكيم) (٤) يجوز أن يكون معترضا (٥) إذا أعربنا «يعلم» حالا مؤكدة من ضمير الباري تعالى ، ويجوز أن يكون «يعلم» مستأنفا ، وأن يكون حالا من الضمير في «الخبير».

فصل

له ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وله الحمد في الآخرة كما هو له في

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٥ / ٢٣٨.

(٢) الدر المصون ٤ / ٤٠٧.

(٣) المرجع السابق.

(٤) السابق وقد قال أبو البقاء في التبيان ١٠٦٢ : قوله تعالى : «فِي الْآخِرَةِ» يجوز أن يكون ظرفا العامل فيه الحمد ، أو الظرف وأن يكون حالا من الحمد والعامل فيه الظرف.

(٥) الدر المصون ٤ / ٤٠٧ والتبيان ١٠٦٢ ومشكل إعراب القرآن ٢ / ٢٠٣ والبيان في غريب إعراب القرآن لابن الأنباري ٢ / ٣٧٤.

٤

الدنيا ؛ لأن النعم في الدين كلها منه وقيل : الحمد في الآخرة هو حمد أهل الجنة كما قال تعالى : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) [فاطر : ٣٤] و (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) [الزمر : ٧٤] وهو الحكيم الخبير فالحكمة (١) هي العلم الذي يتصل به الفعل فإن من يعلم أمرا ولا يأتي بما يناسب علمه لا يقال له حكيم ، والفاعل الذي فعله على وفق العلم هو الحكيم ، والخبير هو الذي يعلم عواقب الأمور وبواطنها (٢) ، فقوله حكيم أي في ابتداء الخلق كما ينبغي وخبير أي بالانتهاء يعلم ما يصدر من المخلوق وما لا يصدر فهو حكيم في الابتداء خبير في الانتهاء (٣) ثم بيّن كمال خيره بقوله : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) أي ما يدخل فيها من الماء والأموات وما يخرج منها من النبات والأموات إذا حشروا.

قوله : (وَما يَنْزِلُ) العامة على «ينزل» مفتوح الياء مخفف الزاي مسند إلى ضمير «ما» وعليّ ـ رضي الله عنه ـ والسّلميّ بضمها وتشديد الزاي أي الله تعالى (٤). والمراد الأمطار والملائكة والقرآن. (وَما يَعْرُجُ فِيها) من الكلام الطيب لقوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر : ١٠] والملائكة والأعمال الصالحة لقوله : «والعمل الصّالح يرفعه» وقدم (٥) : (ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) على : (ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) ؛ لأن الحبة تبذر أولا ثم تسقى ثانيا. وقال : (وَما يَعْرُجُ فِيها) ولم يقل : «ما يعرج إليها» إشارة إلى قبول الأعمال الصالحة لأن كلمة : «إلى» للغاية فلو قال وما يعرج إليها لفهم الوقوف عند السموات فقال : وما يعرج فيها ليفهم نفوذها فيها وصعودها منها ولهذا قال في الكلم الطيب : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) ؛ لأن الله هو المنتهى ولا مرتبة فوق الوصول إليه ثم قال : (وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) رحيم عند الإنزال حيث ينزل الرزق من السماء غفور عند ما يعرج إليه الأرواح والأعيان والأعمال. ثم بين (٦) أن هذه النعمة التي يستحق الله بها الحمد هي نعمة الآخرة أنكرها قوم فقال : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ). قوله : «بلى» جواب لقولهم (٧) : (لا تَأْتِينَا) وما بعدها قسم على ذلك. وقرأ العامة : لتأتينّكم بالتأنيث ، وقرأ (طلق) (٨) بالياء (٩) فقيل : (أي) (١٠) البعث. وقيل : على معنى الساعة أي اليوم. قاله الزمخشري (١١) ورده أبو حيان (١٢) بأنه ضرورة كقوله :

__________________

(١) في «ب» والحكمة وانظر : معالم التنزيل للبغوي ٤ / ٢٨١.

(٢) في «ب» ومواطنها.

(٣) انظر : تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ٢٣٩.

(٤) أي ينزل وقد ذكرت في مختصر ابن خالويه ١٢١ والكشاف ٣ / ٢٧٩.

(٥) ذكره الرازي في تفسيره ٢٥ / ٢٤٠.

(٦) المرجع السابق.

(٧) في «ب» لقوله.

(٨) سقط من «ب» ولم أعثر على ترجمة له.

(٩) ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٢١ وابن جني في المحتسب ٢ / ١٨٦ «هارون عن طليق».

(١٠) سقط من «ب»

(١١) قاله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٧٩.

(١٢) البحر المحيط ٧ / ٢٥٧ قال : «ويبعد أن يكون ضمير الساعة لأنه مذهوب به مذهب التذكير لا يكون إلا في الشعر».

٥

٤١٠١ ـ ..........

ولا أرض أبقل إبقالها (١)

وليس مثله ، وقيل : (أي) (٢) الله بمعنى أمره. ويجوز على قياس هذا الوجه أن يكون : «عالم» فاعلا لتأتينّكم في قراءة من رفعه.

قوله : «عالم» قرأ الأخوان : علّام على صيغة المبالغة وخفضه نعتا ل «ربّي» (٣) أو بدلا منه. وهو قليل ؛ لكونه مشتقا. ونافع وابن عامر عالم بالرفع (٤) على هو عالم ، أو على أنه مبتدأ وخبره «لا يعزب» (٥) أو على أن خبره مضمر أي هو ذكره الحوفيّ (٦). وفيه بعد (٧) ، والباقون عالم بالخفض على ما تقدم وإذا جعل نعتا فلا بدّ من تقدير تعريفه. وقد تقدم أن كل صفة يجوز أن تتعرف بالإضافة إلا الصفة المشبهة ، وتقدمت قراءتا «يعزب» في يونس (٨).

فصل

اعلم أن الله تعالى ردّ على منكري الساعة فقال : (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) فأخبر بإتيانها وأكدها باليمين.

فإن قيل : إنهم يقولون لا ريب أو إن كانوا يقولون به لكن المسألة الأصولية لا تثبت باليمين فأجاب عن هذا بأنه لم يقتصر على اليمين بل ذكر الدليل وهو قوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ). وبيان كونه دليلا هو أن المسيء قد يبقى في الدنيا مدة مديدة في اللذات العاجلة ويموت عليها والمحسن قد يدوم في الدنيا في الآلام الشديدة ويموت فيها فلو لا دار تكون للجزاء لكان الأمر على خلاف الحكمة (٩).

__________________

(١) عجز بيت من المتقارب صدره :

فلا مزنة ودقت ودقها

 ..........

وهو لعامر بن جوين وشاهده : «أبقل إبقالها» حيث ذكر الفعل «أبقل» الذي يعود على الأرض المؤنثة وهذا خاص بالشعر وضرورته. وقد تقدم.

(٢) سقط من «ب».

(٣) في «ب» لرب بدون ياء.

(٤) القراءتان سبعيّتان وانظر الإتحاف ٣٥٧ والسبعة ٥٢٦ ومعاني الفراء ٢ / ٣٥١ وإبراز المعاني ٦٥١ والنشر ٢ / ٣٤٩ وتقريبه ١٦٢ وحجة ابن خالويه ٢٩١.

(٥) قاله السمين ومكي في الدر ٤ / ٤٠٨ ومكي في الكشف ٢ / ٢٠١.

(٦) البحر المحيط ٧ / ٢٥٧ و ٢٥٨.

(٧) ففيه لجوء إلى التكلف وما يحتاج إلى تقدير لا يقدم على الذي لا يحتاج إلى تقدير.

(٨) عامة القراء بضم الزاي إلا الكسائي فإنه يكسرها حيث يقع والفراء فضل الكسر حيث قال وهو أحب إلي. وقد قال هناك في يونس يقرأ الكسائي هنا وفي سبأ : «يعزب» بكسر الزاي ويعزب لغتان وانظر : الإتحاف ٣٥٧ والسبعة ٣٢٨ ومعاني الفراء ٢ / ٣٥١ واللباب ٤ / ٤٣ ب.

(٩) الفخر الرازي ٢٥ / ٢٤٠ و ٢٤١.

٦

قوله : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) فيه لطيفة وهي أن الإنسان له جسم وروح ، فالأجسام أجزاؤها في الأرض والأرواح في السماء فقوله : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ) إشارة إلى علمه بالأرواح ، وقوله : (وَلا فِي الْأَرْضِ) إشارة إلى عمله بالأجسام فإذا علم الروح والأجسام قدر على جمعها فلا استبعاد في (١) الإعادة.

قوله : (وَلا أَصْغَرُ) العامة على رفع «أصغر وأكبر». وفيه وجهان :

أحدهما : الابتداء ، والخبر قوله (إِلَّا فِي كِتابٍ).

والثاني : النّسق على «مثقال» وعلى هذا فيكون : (إِلَّا فِي كِتابٍ) تأكيدا للنفي في: (لا يَعْزُبُ) كأنه قال لكنه في كتاب مبين (٢). وقرأ قتادة والأعمش ورويت عن أبي عمرو ونافع أيضا بفتح الراءين (٣). وفيها وجهان :

أحدهما : أنها «لا» التبرئة وبني اسمها معها ، والخبر قوله : (إِلَّا فِي كِتابٍ)(٤).

والثاني : النسق على «ذرّة» (٥) وتقدم في يونس أن حمزة قرأ بفتح راء «أصغر وأكبر» (٦) وهنا وافق على الرفع وتقدم البحث هناك.

قال الزمخشري : فإن قلت : هلّا جاز عطف : «ولا أصغر» على «مثقال» وعطف (وَلا أَكْبَرُ) على ذرة؟

قلت : يأبى ذلك حرف الاستثناء إلا إذا جعلت الضمير في «عنه» للغيب وجعلت الغيب اسما للخفيات قبل أن تكتب في اللوح المحفوظ لأن إثباتها في اللوح نوع من البروز عن الحجاب على معنى أنه لا ينفصل عن الغيب شيء ولا يزال عنه إلا مسطورا في اللوح (٧). قال أبو حيان : ولا يحتاج إلى هذا التأويل إذا جعلنا الكتاب ليس اللوح

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) السمين ٤ / ٤٠٨. وقد أجاز أبو البقاء في الرفع وجها واحدا وهو النسق فقال : «وبالرفع عطفا على مثقال» كما أجاز الجر فقال «وَلا أَصْغَرُ» بالجر عطفا على ذرة. التبيان ١٠٦٢.

(٣) ذكرها البناء في الإتحاف عن المطوعي وهي من الأربعة الشاذة فوق العشرة وانظر المختصر ١٢١.

(٤) يجوز في «لا» أن تكون عاملة ومهملة يقول ابن هشام في المغني ١ / ٢٤١ : «فأما قوله تعالى : وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ فظاهر الأمر جواز كون «أصغر وأكبر» معطوفين على لفظ «مثقال» أو على محله ، وجواز كون «لا» مع الفتح تبرئة ، ومع الرفع مهملة أو عاملة عمل ليس ويقوي العطف أنه لم يقرأ في سورة سبأ في قوله سبحانه وتعالى : «عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ» إلا بالرفع لما لم يوجد الخفض في لفظ مثقال». ولكن يشكل عليه أنه يفيد ثبوت العزوب عند ثبوت الكتاب فكأن ابن هشام رجح الرفع في لفظ «أصغر وأكبر».

(٥) وتقدم أنه رأي أبي البقاء في التبيان.

(٦) مراجع القراءات السابقة.

(٧) قاله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٧٩ و ٢٨٠.

٧

المحفوظ (١) ، وقرأ زيد بن علي بخفض راء أصغر وأكبر (٢) وهي مشكلة جدّا ، وخرجت على أنهما في نية الإضافة إذ الأصل : «ولا أصغره ولا أكبره» وما لا ينصرف إذا أضيف انجر في موضع الجر ثم حذف المضاف إليه ونوي معناه فترك المضاف بحاله (٣) وله نظائر كقولهم :

٤١٠٢ ـ بين ذراعي وجبهة الأسد (٤)

٤١٠٣ ـ يا تيم تيم عديّ (٥)

على خلاف (٦). وقد يفرق بأن هناك ما يدل على المحذوف لفظا بخلاف هنا.

وقد ردّ بعضهم هذا التخريج لوجود «من» ؛ لأنّ «أفعل» متى أضيف لم يجامع «من» وأجيب عن ذلك بوجهين :

أحدهما : أن (من) ليست متعلقة «بأفعل» بل بمحذوف على سبيل البيان ؛ لأنه لما حذف المضاف إليه أبهم المضاف فبين «بمن» ومجرورها أي أعني من ذلك.

والثاني : أنه مع تقديره للمضاف إليه نوي طرحه ، فلذلك أتى «بمن» (٧) ويدل على ذلك أنه قد ورد التصريح بالإضافة مع وجود «من» قال الشاعر :

٤١٠٤ ـ نحن بغرس الوديّ أعلمنا

منّا بركض الجياد في السّدف (٨)

__________________

(١) البحر المحيط ٧ / ٢٥٨.

(٢) المرجع السابق. وقال صاحب شواذ القرآن : وقرىء بالجر والتنوين منصرفا. الشواذ ١٩٦ وهي قراءة شاذة لما أخبر فوق ولما سيأتي بعد.

(٣) هذا التعليل والتوجيه من كلام أبي حيان في البحر ٧ / ٢٥٨.

(٤) سبق هذا البيت.

(٥) هذا بعض بيت من البسيط وهو بتمامه :

 ... لا أبا لكم

لا يلفينكم في سوأة عمر

وعمر هو ابن لجأ التيمي كان بينه وبين جرير مهاجاة. والشاهد في «تيم» الأولى حيث حذف المضاف إليه ونوى معناه وترك المضاف بحاله. وهذا زعم أبي حيان ومن حذا حذوه والأصل : يا تيم عدي يا تيم عدي.

(٦) فمن العلماء ـ كسيبويه ـ يرى أن الثاني مقحم بين المضاف والمضاف إليه ، ويجوز أن يكون الأول مضموما على أنه منادى علم ، والثاني : بدلا من الأول أو عطف بيان أو منادى مضاف وحذف المضاف إليه لدلالة الثاني عليه ، انظر : الكتاب ١ / ٥٣ و ٢ / ٢٥ والمقتضب ٤ / ٢٢٩ والأشموني ٣ / ١٥٥.

(٧) هذان التخريجان قالهما أبو حيان ـ بالمعنى ـ في بحره ٧ / ٢٥٨ ومن بعده السمين في الدّر المصون ٤ / ٤٠٩.

(٨) البيت من المنسرح وهو لسعد القرقرة ، أو قيس بن الخطيم والوجه الأول. ويروى «بالخيل» بدل «بالجياد» وهو الأصح حتى لا ينكسر البيت عروضيا. والوديّ النخل الصغير واحدته : ودية ، السّدف : الصبح في أوله ، ونحن مبتدأ ، وأعلمنا هو الخبر وهو موطن الشاهد حيث جمع بين الإضافة مع وجود «من» وقد خرج على التعلق بمحذوف وإما نية طرح المضاف إليه. وانظر : البحر المحيط ٧ / ٢٥٨ والأشموني ٣ / ٤٧ والمغني ٤٤١ وشرح شواهده للسيوطي ٨٤٥ ولسان العرب (سدف) وملحقات ديوان قيس بن الخطيم ٢٣٦ وتوضيح المقاصد ٣ / ١١٩.

٨

وخرج على هذين الوجهين إما التعلق بمحذوف وإما نية طرح المضاف إليه وهذا كما احتاجوا إلى تأويل الجمع بين «أل» ومن في أفعل كقوله :

٤١٠٥ ـ ولست بالأكثر منهم حصّى

 ..........(١)

وهذه توجيهات شذوذ ويكفي فيها مثل ذلك.

فصل (٢)

قوله : (وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ) إشارة إلى أن مثقال لم يذكر للتحديد بل الأصغر منه لا يعزب.

فإن قيل : فأيّ حاجة إلى ذكر الأكبر وإنّ من علم الأصغر من الذرة لا بدّ وأن يعلم الأكبر؟

فالجواب : لما كان الله تعالى أراد بيان إثبات الأمور في الكتاب فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهم أنه يثبت الصغائر لكونها محل النّسيان وأما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته فقال الإثبات في الكبائر ليس كذلك فإن الأكبر فيه أيضا مكتوب ثم لما بين علمه بالصغائر والكبائر ذكر أن جميع ذلك وإثباته للجزاء فقال : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ)(٣).

قوله : «ليجزي» فيه أوجه :

أحدها : أنه متعلق (٤) (بلا) وقال أبو البقاء و (يعزب) (٥) بمعنى لا يعزب أي يحصي ذلك ليجزي (٦). وهو حسن. أو بقوله : «ليأتينكم» أو بالعامل في قوله : (إِلَّا فِي كِتابٍ) أي إلا استقر ذلك (فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ليجزي (٧).

__________________

(١) هذا صدر بيت من السريع للأعشى ميمون عجزه :

 ..........

وإنّما العزّة للكاثر

ديوانه ٩٤ والحصى العدد هنا والكاثر : الكثير وهو في تفضيل أحد الناس على بعض والشاهد قوله : «بالأكثر منهم» فقد جمع بين الألف واللام ومن وذلك ممتنع نحويا وخرج على أن «من» للبيان لا للتفضيل أو أنها للتفضيل ولكنها متعلقة بفعل آخر غير المذكور. والتقدير : بالأكثر أكثر منهم وقد قيل إن من هنا بمعنى (في) ويتعلق بالأكثر. وقيل : إن الألف واللام زائدة ، انظر في هذا : الخزانة ٨ / ٢٥٠ ـ ٢٦٠ والمغني ٥٧٢ وشرح شواهده للسيوطي ٩٠٢ والتصريح ٢ / ١٠٤ والأشموني ٣ / ٤٧ وابن يعيش ٣ / ٦ و ٦ / ١٠٠ و ١٠٣ و ١٠٥.

(٢) زيادة من «ب» عن «أ».

(٣) تفسير الرازي ٢٥ / ٢٤١.

(٤) التبيان ١٠٦٢ والبيان ٢ / ٤٧٤ والبحر المحيط ٧ / ٢٥٨.

(٥) سقط من «ب».

(٦) التبيان ١٠٦٢.

(٧) البحر المحيط ٧ / ٢٥٨ والدر المصون ٤ / ٤١٠.

٩

فصل

اعلم أنه تعالى ذكر منهم أمرين الإيمان والعمل الصالح وذكر لهم أمرين المغفرة والرّزق الكريم فالمغفرة جزاء الإيمان فكل مؤمن مغفور له لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ١١٦] وقوله عليه (الصلاة و) (١) السلام : «يخرج من النّار من قال لا إله إلّا الله ومن (في) (٢) قلبه وزن ذرّة من إيمان» (٣) والرزق الكريم مرتب على العمل الصالح وهذا مناسب فإن من عمل لسيد كريم عملا فعند فراغه من العمل لا بدّ وأن ينعم عليه. وتقدم وصف الرزق بالكريم أنه (٤) بمعنى ذا كرم أو مكرم أو لأنه يأتي من غير طلب بخلاف رزق الدنيا فإنه إن لم يطلب ويتسبب إليه لا يأتي(٥).

فإن قيل : ما الحكمة في تمييزه الرزق بوصفه بأنّه كريم ولم يضف المغفرة؟

فالجواب : لأنّ المغفرة واحدة وهي للمؤمنين وأما الرزق فمنه شجرة الزّقّوم والحميم ومنه الفواكه والشّراب الطهور فميز الرزق لحصول الانقسام فيه ولم يميز المغفرة لعدم الانقسام فيها (٦).

فصل

قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون ذلك لهم جزاء فيوصله إليهم لقوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا).

وثانيهما : أن يكون ذلك لهم والله يجزيهم بشيء آخر لأن قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ) جملة (تامة اسمية (٧) ، وقوله تعالى : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) جملة) فعلية مستقلة وهذا أبلغ في البشارة من قول القائل : ليجزي الّذين آمنوا وعملوا الصالحات رزقا» (٨).

فصل

اللام في «ليجزي» للتعليل ومعناه الآخرة للجزاء.

فإن قيل : فما وجه المناسبة؟

فالجواب : أن الله تعالى أراد أن لا يقطع ثوابه فجعل للمكلف دارا باقية تكون ثوابه

__________________

(١) زيادة من «ب».

(٢) سقط من «ب».

(٣) أورده الفخر الرازي في تفسيره ولم أجده في الكتب المعتمدة في الحديث بهيئته هذه فقد أسنده إلى محمد بن إسماعيل البخاري بسنده إلى محمد بن يوسف الفريري.

(٤) في «ب» لأنه وما في «أ» هو الأصح وهو الموافق لتفسير الرازي.

(٥ و ٦) تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ٢٤١.

(٧) ما بين القوسين ساقط من (ب).

(٨) قاله الفخر الرازي ٢٥ / ٣٤١.

١٠

واصلا إليه فيها دائما أبدا وجعل قبلها دارا فيها الآلام والأسقام وفيها الموت ليعلم المكلف مقدار ما يكون فيه في الآخرة إذا نسبه (١) إلى ما قبله (٢).

قوله : (وَالَّذِينَ سَعَوْا) يجوز فيه وجهان :

أظهرهما : أنه مبتدأ و «أولئك» (و) (٣) ما بعده خبره.

والثاني : أنه عطف على الذي قبله أي ويجزي الذين سعوا ويكون «أولئك» الذي بعده مستأنفا و «أولئك» الذي قبله وما في خبره معترضا بين المتعاطفين (٤).

قوله (٥) : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) أي في إبطال أدلّتنا معاجزين يحسبون أنهم يفوتوننا(٦) وقد تقدم في الحج قراءتا معاجزين (٧). واعلم أنه تعالى لما بين حال المؤمنين يوم القيامة بين حال الكافرين والمراد بهم الذين كذبوا بآياتنا وقوله : «معاجزين» أي سعوا في إبطالها لأن المكذّب آت بإخفاء آيات بينات فيحتاج إلى السعي العظيم والجدّ البليغ ليروّج كذبه لعله يعجز المتمسك به.

قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) قرأ ابن كثير وحفص هنا وفي الجاثية (٨) أليم بالرفع (٩) والباقون بالخفض. فالرفع علىّ أنه نعت «لعذاب» والخفض على أنه نعت «لرجز» ، إلا أن مكّيّا ضعف قراءة الرفع واستبعدها قال : لأنّ الرّجز هو العذاب فيصير التقدير عذاب أليم من عذاب وهذا المعنى غير ممكن (١٠). قال : والاختيار خفض «أليم» لأنه أصحّ في التقدير والمعنى إذ تقديره لهم عذاب من عذاب أليم أي هذا الصّنف من أصناف العذاب ، لأن العذاب بعضه آلم من بعض (١١). وأجيب : بأن الرجز مطلق العذاب فكأنه قيل : لهم هذا الصنف من العذاب من جنس العذاب (١٢) ، وكأن أبا البقاء لحظ هذا حيث قال : وبالرفع صفة (١٣) لعذاب ، والرّجز مطلق العذاب.

__________________

(١) في (ب) النسبة.

(٢) الفخر الرازي ٢٥ / ٢٤١.

(٣) سقط من (ب).

(٤) انظر : البحر المحيط ٧ / ٢٥٩ والدر المصون ٤ / ٤١٠.

(٥) في (ب) فصل بدل من قوله.

(٦) انظر : تفسير البغوي والخازن ٥ / ٢٨٢.

(٧) يقصد قوله عزت حكمته «وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» الآية ٥١ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : معجزين بغير ألف مشددة والباقون بألف. النشر ٢ / ٣٤٩ والحجة لابن خالويه ٢٩٠ والسبعة ٥٢٦ و ٤٣٩ والإتحاف ٣١٦ وإبراز المعاني ٦٠٦ ومعاني الفراء ٢ / ٣٥١ و ٣٥٢.

(٨) وهو قوله :«هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ».

(٩) الإتحاف ٣٥٧ والسبعة ٥٢٦ والمعاني للفراء ٢ / ٣٥١ و ٣٥٢ والنشر ٢ / ٣٤٩ ، وانظر أيضا البحر المحيط ٧ / ٢٥٩ وزاد المسير ٦ / ٤٣٣.

(١٠) في الكشف متمكن.

(١١) وفيه الم من هذا الصنف وانظر : الكشف ٢ / ٢٠٢.

(١٢) قاله شهاب الدين السمين ٤ / ٤١٠.

(١٣) انظر : التبيان لأبي البقاء ١٠٦٣.

١١

فصل

قال قتادة : الرجز أسوأ (١) العذاب فيكون «من» لبيان الجنس كقولك : خاتم من فضّة. قال ابن الخطيب : قال هناك (٢) : لهم رزق كريم ولم يقدر بمن التبعيضية فلم يقل : لهم نصيب من رزق ، ولا رزق من جنس كريم ، وقال ههنا : (لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) بلفظة صالحة للتبعيض ، وذلك إشارة إلى سعة الرحمة وقلة الغضب وقال هناك : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) ثم قال : (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال : ٤] وههنا لم يقل إلا : (لَهُمْ عَذابٌ) فزادهم هناك الرزق الكريم ، وههنا لم يزدهم على العذاب وفيما قاله نظر ، لقوله تعالى في موضع آخر : (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) [النحل : ٨٨].

قوله : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه عطف على «ليجزي» (٣). قال الزمخشري : أي وليعلم الذين أوتوا العلم عند مجيء الساعة (٤). وإنما قيده بقوله عند مجيء الساعة لأنه علق : «ليجزي» بقوله : (لَتَأْتِيَنَّكُمْ) فبنى هذا عليه وهو من أحسن ترتيب (٥).

والثاني : أنه مستأنف أخبر عنهم بذلك (٦) و (الَّذِي أُنْزِلَ) هو المفعول الأول وهو فصل ، و «الحقّ» مفعول ثان ، لأن الرؤية علميّة (٧) ، وقرأ ابن أبي عبلة (٨) الحقّ بالرفع على أنه خبر «هو» والجملة في موضع المفعول الثاني وهي لغة تميم يجعلون ما هو فصل مبتدأ وخبر (٩) و (مِنْ رَبِّكَ) حال على القراءتين (١٠).

__________________

(١) معالم التنزيل والخازن ٥ / ٢٨٢.

(٢) تفسير الرازي ٢٥ / ٢٤٢.

(٣) الدر المصون ٤ / ٤١٠ والتبيان ١٠٦٣ وبيان ابن الأنباري ٢ / ٢٧٤.

(٤) قال : «أي وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق علما لا يزاد عليه في الإيقان ويحتجوا به على الذين كذبوا وتولوا». الكشاف ٣ / ٢٨٠.

(٥) الدر المصون ٤ / ٤١٠.

(٦) المراجع السابقة.

(٧) التبيان ١٠٦٣ والدر المصون ٤ / ٤١١ ومعاني الفراء ٢ / ٣٥٢ الذي أسماه ـ أي الضمير ـ بالعماد.

(٨) لم يحددها أبو البقاء ١٠٦٣ وقال ابن خالويه في المختصر : «مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ» بالرفع حكاه أبو معاذ. ابن خالويه ١٢١.

(٩) قال في المغني ٤٩٦ : «زعم البصريون أنه لا محل له ثم قال أكثرهم : إنه حرف فلا إشكال. وقال الخليل : اسم وقال الكوفيون : له محل. ثم قال الكسائي : محله بحسب ما بعده. وقال الفراء بحسب ما قبله فمحله بين المبتدأ والخبر رفع وبين معمولي «ظن» نصب ، وبين معمولي كان رفع عند الفراء ونصب عند الكسائي وبين معمولي إن بالعكس. وقال الفراء في معانيه : ولو رفعت الحق على أن تجعل وهو اسما كان صوابا» المعاني ٢ / ٣٥٢. وقال في البحر ٧ / ٢٥٩ : و «هو» فصل وهو مبتدأ والحق خبره والجملة في موضع المفعول الثاني ليرى وهي لغة تميم يجعلون ما هو فصل عند غيرهم مبتدأ. قاله أبو عمر الجرمي.

(١٠) الدر المصون ٤ / ٤١١.

١٢

فصل

لما بين حال من يسعى في التكذيب في الآخرة بين حاله في الدنيا وهو أن سعيه باطل فإن من أوتي علما لا يعتبر تكذيبه وهو يعلم أن ما أنزل إلى محمد عليه (الصلاة و) (١) السلام حق وصدق وقوله: هو الحقّ يفيد الحصر أي ليس الحق إلا ذلك وأما قول المكذب فباطل بخلاف ما إذا تنازع خصمان والنزاع لفظي فيكون قول كل واحد حقا في المعنى (٢) ، قال المفسرون : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) يعني مؤمني أهل (٣) الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) يعني القرآن هو الحق يعني أنه من عند الله.

قوله : «ويهدي» فيه أوجه :

أحدها : أنه مستأنف (٤) وفي فاعله احتمالان : أظهرهما : أنّه ضمير «الّذي» وهو القرآن. والثاني : ضمير الله تعالى ويتعلق (٥) هذا بقوله : (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ؛ إذ لو كان كذلك لقيل: إلى صراطه ويجاب بأنه من الالتفات ومن إبراز المضمر ظاهرا تنبيها على وصفه بهاتين الصّفتين (٦).

الوجه الثاني : أنه معطوف على موضع «الحقّ» و «أن» معه مضمرة تقديره هو الحق والهداية.

الثالث : أنه عطف على «الحق» عطف فعل على اسم لأنه في تأويله (٧) كقوله تعالى : (صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) [الملك : ١٩] أي وقابضات كما عطف الاسم على الفعل بمعناه كقوله:

٤١٠٦ ـ فألفيته يوما يبير عدوّه

ومجر عطاء يستخفّ المعابرا (٨)

كأنه قيل : وليروه الحق وهاديا.

الرابع : أن «ويهدي» حال من (الَّذِي أُنْزِلَ) ولا بدّ من إضمار مبتدأ أي وهو يهدي كقوله:

__________________

(١) سقط من «أ».

(٢) هذا قول الفخر الرازي في تفسيره المسمى بالتفسير الكبير ٢٥ / ٢٤٣.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ١٤ / ٢٦١.

(٤) الدر المصون ٤ / ٤١١.

(٥) الأصح كما في «أ» والسمين «ويقلق».

(٦) أورد هذه التوجيهات السمين في الدر ٤ / ٤١١ وانظر : التبيان ١٠٦٣ والبحر المحيط ٧ / ٢٥٩.

(٧) المراجع السابقة.

(٨) البيت لنابغة ذبيان وهو من الطويل ويبير : يهلك ، والمعابر : جمع معبر وهو الجمل الكثير الوبر ، والشاهد : «ومجر عطاء» عطف الاسم هذا على الفعل وهو يبير. ديوان النابغة ٧١ ، وقد تقدم.

١٣

٤١٠٧ ـ ..........

نجوت وأرهنهم مالكا (١)

وهو قليل جدا ، ثم قال : (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) وهاتان الصفتان يفيدان الرهبة والرغبة فالعزيز يفيد التخويف والانتقام من المكذّب والحميد يفيد الترغيب في الرحمة للمصدق.

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ)(٩)

قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) لما بين حالة المكذب بالساعة ورد عليه بقوله: (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) ثم بين ما يكون بعد إتيانها من جزاء المؤمن على عمله الصالح وجزاء الساعي في تكذيب الآيات بالتعذيب على السيئات وبين حال الكافر والمؤمن بعد قوله عليه (الصلاة (٢) و) السلام ـ (بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) فقال المؤمن الذي أنزل إليك من ربّك الحق وهو يهدي وقال الكافر المنكر للبعث متعجبا : (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ) يخبركم يعنون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهذا كقول القائل في الاستبعاد : جاء رجل يقول : إنّ الشمس تطلع من المغرب ؛ إلى غير ذلك من المحاولات (٣).

فصل

إذا مزّقتم «إذا» منصوب بمقدر أي تبعثون وتحشرون وقت تمزيقكم لدلالة : (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) عليه ولا يجوز أن يكون العامل «ينبّئكم» لأن التنبئة لم تقع ذلك الوقت ولا (خَلْقٍ جَدِيدٍ) لأن ما بعد «إنّ» لا يعمل فيما قبلها (٤). ومن توسع في الظرف أجازه

__________________

(١) هذا عجز بيت من المتقارب أنشده صاحب اللسان لهمام بن مرة بينما نسبه الجوهري لعبد الله بن همام السلولي وصدره :

فلمّا خشيت أظافيرهم

 ..........

وقد روي البيت : «بأرهنهم» و : «أرهنتهم» وأنكر بعضهم الرواية الأخيرة ، وانظر : اللسان : «رهن» والصّحاح للجوهري. وقال ثعلب : الرواة كلهم على أرهنتهم. والشاهد «وأرهنهم» حيث هو خبر لمبتدأ محذوف والجملة حالية وحتى تكون في حاليتها تلك يتحتم علينا أن نقدر أحد جزئيها وهو المبتدأ كقولهم : قمت وأصكّ عينه أي وأنا أصكّ. وقد تقدم.

(٢) سقط من «ب».

(٣) انظر : تفسير الرازي ٢٥ / ٢٤٣.

(٤) قاله ابن الأنباري في البيان ٢ / ٢٧٥ ومكي في المشكل ٢ / ٢٠٣ والزجاج في «معاني القرآن وإعرابه» ٤ / ٢٤١ والنحاس في تفسيره إعراب القرآن ٤ / ٣٣٣.

١٤

هذا إذا جعلنا «إذا» ظرفا محضا ، فإن جعلناه شرطا كان جوابها مقدرا أي تبعثون وهو العامل في «إذا» عند جمهور (١) النحاة. وجوّز الزجاج أن تكون معمولة لمزّقتم (٢) ، وجعله ابن عطية خطأ وإفسادا للمعنى(٣) ، قال أبو حيان : وليس بخطأ ولا إفساد (٤).

وقد اختلف في العامل في «إذا» الشرطية ، والصحيح أن العامل فيها فعل الشرط كأخواتها من أسماء الشرط (٥). وقال شهاب الدين : والجمهور على خلافه (٦) ، ثم قال أبو حيان : والجملة الشرطية تحتمل أن تكون معمولة «لينبّئكم» لأنه في معنى : يقول لكم إذا مزقتم (٧) تبعثون ، ثم أكد ذلك بقوله: (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) ويحتمل أن يكون : (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ)(٨) معلقا «لينبّئكم» سادّا مسد المفعولين ولو لا اللام لفتحت «أن» وعلى هذا فجملة الشرط اعتراض ، وقد منع قوم التعليق في «اعلم» وبابها والصحيح جوازه (٩) ، قال :

٤١٠٨ ـ حذار فقد نبّئت إنّك للّذي

ستجزى بما تسعى فتسعد أو تشقى (١٠)

وقرأ زيد بن عليّ بإبدال الهمزة ياء (١١) ، وعنه ينبئكم من «أنبأ» كأكرم (١٢) و «ممزّق» فيه وجهان :

أحدهما : أنه اسم «مصدر» (١٣) وهو قياس كلّ ما زاد على الثلاث أن يجيء مصدره وزمانه ومكانه على زنة اسم مفعوله أي كلّ تمزيق (١٤).

والثاني : أنه ظرف مكان ، قاله الزمخشري (١٥) ، أي كل تمزيق (١٦) من القبور وبطون

__________________

(١) قاله أبو حيان في البحر المحيط ٧ / ٢٥٩ والسمين في الدر المصون ٤ / ٤١١.

(٢) قال ذلك في إعراب القرآن ٤ / ٣٣٣ وقد نقل رأي أبي إسحاق الزجاج كما سبق وانظر رأي الزجاج في كتابه معاني القرآن ٤ / ٢٤١.

(٣) البحر المحيط ٧ / ٢٥٩.

(٤) المرجع السابق.

(٥) وهو قول المحققين فتكون بمنزلة متى وحيثما ، وأيّان.

انظر : الهمع ٢ / ٦٤ ، والمغني ٩٦ «إذا».

(٦) انظر : الدر المصون ٤ / ٤١٢.

(٧) في البحر مزقتم كل ممزق.

(٨) وفيه : خلق جديد.

(٩) بالمعنى والتقديم والتأخير من كلام أبي حيان ٧ / ٣٥٩.

(١٠) البيت مجهول القائل وهو من بحر الطويل ، وحذار : اسم فعل أمر بمعنى احذر ، ونبّئت : أخبرت وهو فعل ونائب فاعل. والشاهد : تعليق الفعل «نبّئت» عن الجملة «إنك للذي» باللام ولذا كسرت «إن» وهذا شاهد على تعليق «اعلم» وبابها ، البحر المحيط ٧ / ٢٥٩ والدر المصون ٤ / ٤١٢ ، والهمع ١ / ١٥٨ والتصريح ١ / ٢٦٦.

(١١) أتى بهذه القراءة أبو حيان في البحر المحيط ٧ / ٢٥٩ والدر المصون ٤ / ٤١٢.

(١٢) المرجعان السابقان وانظر : شواذ القرآن ١٩٦.

(١٣) ويريد به المصدر الميمي الذي يبدأ بميم وهو يجيء من فعل ثلاثي وغير ثلاثي كما هو معروف.

(١٤) وانظر المرجعين السابقين أيضا.

(١٥) الكشاف ٣ / ٢٨٠.

(١٦) قال : «فإن قلت قد جعلت الممزق مصدرا كبيت الكتاب :

ألم تعلمي مسرحي القوافي ـ

١٥

الوحش والطير ، ومن مجيء مفعّل مجيء التّفعيل قوله :

٤١٠٩ ـ ألم تعلمي مسرّحي القوافي

فلا عيّا بهنّ ولا اجتلابا (١)

أي تسريحي ، والتمزيق التخريق والتقطيع ، يقال ثوب ممزّق وممزوق ويقال : مزّقه فهو مازق ومزق (٢) أيضا قال :

٤١١٠ ـ أتاني أنّهم مزقون عرضي

 ..........(٣)

وقال الممزق العبدي ـ وبه سمي الممزّق ـ :

٤١١١ ـ فإن كنت مأكولا فكن خير آكل

وإلّا فأدركني ولمّا أمزّق (٤)

أي ولما أبلى وأفنى (٥) ، و «جديد» عند البصريين بمعنى فاعل يقال : جدّ الشّيء فهو جادّ وجديد وعند الكوفيين بمعنى مفعول من جددته أي قطعته (٦).

فصل

المعنى أن الكفار قالوا لقومهم متعجبين : إن محمدا يقول : إنكم إذا متّم ومزقتم كل تمزيق وصرتم ترابا إنكم لفي خلق جديد أي تخلقون خلقا جديدا.

__________________

ـ البيت فهل يجوز أن يكون مكانا؟ قلت : نعم ومعناه ما حصل من الأموات في بطون الطير والسباع وما مرت به السيول فذهبت به كل مذهب وما سفته الرياح فطرحته كل مطرح».

(١) من تمام الوافر وهو لجرير الخطفيّ يفتخر بشاعريته وبتنظيمها وبأنه يسرح القوافي فلا يجتلبها ولا يسرقها من غيره. والشاهد في : «مسرّحي» حيث أتى بلفظ مفعّل بمعنى التفعيل فالمسرح بمعنى التسريح. وقد تقدم.

(٢) في «ب» ومزاق ولم أجدها في اللسان مزق. وانظر اللسان «م ز ق» ٤١٩٣.

(٣) هذا صدر بيت من الوافر عجزه :

 ..........

جحاش الكرملين لها فديد

وهو لزيد الخيل ، والكرملين اسم ماء في جبل طيّىء ، والفديد : الصوت. والشاهد في : «مزقون عرضي» حيث إن «مزقا» بمعنى مخرق ومقطع. وفيه شاهد نحوي لا مجال لنا فيه الآن. والبيت في ابن عقيل رقم ٣٥٨ ص ١١٤ وتوضيح المقاصد ٣ / ٢٥ والأشموني ٢ / ٢٩٨ وابن الناظم ١٦٤ والدر المصون ٤ / ٤١٣.

(٤) من الطويل وهو للممزق العبدي كما أخبر واسمه ـ كما في المزهر للسيوطي ـ شاس بن نهار العبدي جاهليّ وهذا غير الممزق الحضرمي وجاء به المؤلف دلالة على التمزيق والتقطيع ، وانظر : المزهر ٢ / ٤٤٣ واللسان : «م ز ق» ٤١٩٤ والبحر ٧ / ٢٥٤ والمغني ٢٧٨ وشرح شواهده للسيوطي ٦٨٠ ، والأشموني ٤ / ٥ ، والأصمعيات ١٦٦ ، والكامل للمبرد ١ / ١٧١ وديوان المفضليات ٥٩١.

(٥) هكذا جيئت بتلك الكلمتين والأصح : ولمّا أبل وأفن حيث الجزم.

(٦) قال في الكشاف : فإن قلت : الجديد فعيل بمعنى فاعل أم مفعول؟ قلت : هو عند البصريين بمعنى فاعل تقول : جدّ فهو جديد كحدّ فهو حديد وقلّ فهو قليل. وعند الكوفيين بمعنى مفعول من جدّه إذا قطعه وقالوا : هو الذي جدّه الناسج الساعة في الثوب. ثم شاع ولهذا قالوا : ملحفة جديد وهي عند البصريين كقوله تعالى : «إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» وانظر : أيضا البحر المحيط ٧ / ٢٦٠.

١٦

(قوله) (١) : «أفترى» هذه همزة الاستفهام وحذفت لأجلها همزة الوصل فلذلك ثبتت همزة الهمزة وصلا وابتداء. قال البغوي : هذه ألف (٢) استفهام دخلت على ألف (٣) الوصل فلذلك نصب(٤)(عَلَى اللهِ كَذِباً) وبهذه الآية استدل الجاحظ (٥) على أن الكلام ثلاثة أقسام صدق وكذب ولا صدق ولا كذب ووجه الدلالة عنه على القسم.

الثالث : أن قوله «به جنّة» لا جائز أن يكون كذبا لأنه قسيم الكذب وقسيم الشيء غيره ولا جائز أن يكون صدقا لأنهم لم يعتقدوه فثبت قسم ثالث (٦). وأجيب عنه بأنّ المعنى : أم لم يفتر ، ولكن عبر عن هذا بقولهم : «أم به جنّة» ؛ لأن المجنون لا افتراء له (٧) ، والظاهر في «أم» هذه أنها متصلة لأنها تقدر بأيّ الشّيئين ويجاب بأحدهما لأنه قيل : أي الشيئين واقع افتراؤه الكذب أم كونه مجنونا ولا يضر كونها بعدها جملة لأن الجملة بتأويل المفرد كقوله :

٤١١٢ ـ لا أبالي أنبّ بالحزن تيس

أم جفاني بظهر غيب اللّئيم (٨)

ومثل قول الآخر :

٤١١٣ ـ لعمرك ما أدري وإن كنت داريا

شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر (٩)

لأن «منقر» خبر لا نعت كذا أنشده بعضهم مستشهدا على أنها جملة وفيه حذف التنوين بما قبل «ابن» وليس بصفة ، وهذا إشارة إلى البحث المتقدم في سورة التوبة (١٠).

__________________

(١) ساقط من «ب».

(٢) في «ب» همزة بدل ألف.

(٣) في «ب» نصبت بالتاء.

(٤) معالم التنزيل ٥ / ٢٨٢ وانظر المرجعين السابقين.

(٥) هو أبو عمرو بن بحر الجاحظ إمام أهل البيان والبلاغة له من المصنفات البيان والتبيين ، الحيوان ، وغير ذلك توفي سنة ٢٥٥ ، انظر : معجم الأدباء ١٦ / ١٠٩.

(٦) الدر المصون ٤ / ٤١٤ وإيضاح القزويني ١٣.

(٧) السابقان.

(٨) من الخفيف وهو لحسان بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ ويروي : ما أبالي بدل من لا أبالي الرواية العليا هنا ، والحزن الأرض الغليظة ، والتيس : ذكر الماعز و «جفاني» يروى بدل منه «لحاني» أي شتمني ولامني يريد أن يبين أن نبيب التيس وتصويته وشتم اللئيم عنده سواء. وشاهده : «أم جفاني» ؛ حيث إن «أم» معادلة لهمزة الاستفهام والجملة بعدها في تأويل المفرد ، كما أخبر فوق أي لا أبالي أيّ الفعلين كان. وانظر : الكتاب ٣ / ١٨١ وابن الناظم ٢٠٦ والمقتضب ٣ / ٢٩٨ وديوانه ٨٩.

(٩) هو من الطويل وهو للأسود بن يعفر ، وينسب أيضا للعين المنقريّ ، وأوس بن حجر. والشاهد فيه كسابقه حيث وقعت «أم» معادلة للهمزة الاستفهامية المحذوفة لدلالة «أم» عليها بتقدير : أشعيث بعضهم أم .. ولا يخفى أن «أم» هنا متصلة كالسابقة ولكنها في تلك المرة وقعت بين جملتين اسميتين وكانت الأولى قد وقعت بين فعليتين وقد تقدم.

(١٠) يقصد قول الله : «وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ» وهي الآية ٣٠ حيث قرأ الكسائي وعاصم بتنوين : «عزير» والباقي بلا تنوين وخرجت على أن التنوين حذف لالتقاء الساكنين ولوقوع ابن صفة له وهكذا التنظير بالآية.

١٧

فصل

قوله : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) يحتمل أن يكون من تمام قول الكافر (١) أولا أي من كلام القائلين : (هَلْ نَدُلُّكُمْ) ويحتمل أن يكون من كلام السامع المجيب للقائل : (هَلْ نَدُلُّكُمْ) كأن السامع لما قيل له : هل ندلكم على رجل قال له وهو (٢) يفتري على الله كذبا إن كان يعتقد خلافه «أو (٣) به جنّة» مجنون (٤)؟ إن كان لا يعتقد خلافه ، وفي هذا لطيفة وهي أن الكافر لا يرضى بأن يظهر كذبه ولهذا قسم ولم يجزم بأنه مفتر بل قال مفتر أو مجنون احترازا من أن يقول قائل : كيف يقول بأنه مفتر مع أنه جاز أن يظن أن الحق (٥) ذلك ، وظن الصدق يمنع تسمية القائل مفتريا وكاذبا في بعض المواضع ألا ترى أن من يقول : جاء زيد فإذا تبين أنه لم يجىء وقيل له : لم كذبت؟ يقول : ما كذبت وإنما سمعت من فلان فظننت أنه صادق فيدفع الكذب عن نفسه بالظن فهم احترزوا عن تبيين كذبهم فكل عاقل ينبغي أن يحترز عن ظهور كذبه عند الناس ولا يكون العاقل أدنى درجة من الكافر ، ثم إنه تعالى أجابهم مرة أخرى ردا عليهم فقال : «بل الذين كفروا في العذاب» في مقابلة قولهم : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً).

وقوله : (وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) عن الحق في الدنيا ، وهذا في مقابلة قولهم : «به جنّة» وكلاهما مناسب أما العذاب فلأن نسبة المكذب (٦) إلى الصادق مؤذ ، لأنه شهادة عليه بأنه يستحق العذاب فجعل العذاب عليهم حيث نسبوا العذاب إلى البريء وأما الجنون فلأن نسبة الجنون إلى العاقل (٧) دونه في الإيذاء فإنه لا يشهد عليه بأنه يعذب وإنما ينسبه إلى عدم الهداية فبين أنّهم هم الضالون ، ثم وصف ضلالهم بالبعد لأن من يسمي المهتدي ضالّا يكون أضلّ ، والنبي عليه (الصلاة (٨) و) السلام (كان) (٩) هادي كل مهتد (١٠).

قوله : «أفلم» فيه الرأيان المشهوران ، قدّره الزمخشري أعموا فلم يروا (١١) ، وغيره يدّعي أن الهمزة مقدمة على حرف العطف (١٢).

قوله : (مِنَ السَّماءِ) بيان للموصول ، فيتعلق بمحذوف ، ويجوز أن يكون حالا فيتعلق به أيضا قيل : (و) (١٣) ثمّ حال محذوفة تقديره : أفلم يروا إلى كذا مقهورا تحت

__________________

(١) في «ب» الكافرين.

(٢) في الفخر الرازي : أهو يفتري بصيغة الاستفهام.

(٣) وفيه : أم به جنّة.

(٤) في «ب» والرازي : جنون.

(٥) انظر : تفسير الرازي ٢٥ / ٢٤٤.

(٦) في «ب» الكذب وكذا هي في الفخر الرازي.

(٧) في «ب» القائل.

(٨) سقط من «أ» وهي في الفخر و «ب».

(٩) سقط من «ب».

(١٠) انظر : تفسير الفخر الرازي المرجع السابق ٢٥ / ٢٤٤.

(١١) قال ذلك في كشافه ٣ / ٢٨١.

(١٢) هذا مذهب الجمهور. وانظر : البحر المحيط ٧ / ٢٦٠ والمغني ١٦ ، والهمع ٢ / ٦٩.

(١٣) سقط من «ب».

١٨

قدرتنا ، أو محيطا (١) بهم فيعلموا أنّهم حيث كانوا فإنّ أرضي وسمائي محيطة بهم لا يخرجون من أقطارها وأنا القادر عليهم (٢).

قوله : «إن نشأ» قرأ الأخوان يشأ يخسف يسقط بالياء في الثلاثة (٣) ، والباقون بنون العظمة فيها ، وهما واضحتان ، وأدغم الكسائي الفاء في الباء (٤) واستضعفها الناس من حيث أدغم الأقوى في الأضعف (٥) ، قال الفارسي : وذلك لا يجوز لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء فلا يدغم (٦) فيها وإن كانت الباء يدغم (٧) فيها نحو : اضرب فلانا كما تدغم الباء في الميم كقولك : اضرب مالكا وإن كانت الميم لا تدغم في الباء نحو : اضمم بكرا ؛ لأن (٨) الباء انحطت عن الميم بفقد الغنّة (٩) ، وقال الزمخشري : وليست بالقوية (١٠) ، وهذا لا ينبغي لأنها تواترت(١١).

فصل

لما ذكر الدليل بكونه عالم الغيب وكونه جازيا على السّيّئات والحسنات ذكر دليلا آخر فيه التهديد والتوحيد فأما دليل التوحيد فذكره السماء والأرض فإنهما يدلان على الوحدانية كما تقدم مرارا ويدلان على الحشر والإعادة لأنهما يدلان على كمال القدرة بقوله تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى) [يس : ٨١] وأما التهديد فقوله : (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) أي نجعل عين نافعهم ضارهم بالحق (١٢) والكشف ثم قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ) أي فيما يرون من السماء والأرض آية تدل على قدرتنا على البعث (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) تائب

__________________

(١) الدر المصون ٤ / ٤١٥.

(٢) معالم التنزيل للبغوي ٥ / ٢٨٢.

(٣) وهي قراءة عيسى والأعمش وابن وثاب أيضا انظر البحر ٧ / ٢٦٠ والإتحاف ٣٥٧ والسبعة ٥٢٧ والقرطبي ١٤ / ٢٦٤ والكشاف ٣ / ٢٨١ والكشف ٢ / ٢٠٢.

(٤) ذكر ذلك ابن مجاهد في السبعة ٥٢٧ والبناء في الإتحاف ٢٥٧ وأبو حيان في البحر ٧ / ٢٦٠.

(٥) الدر المصون ٤ / ٤١٥ ومن هؤلاء الناس كما أخبر هو أعلى الزمخشري والفارسي في كتابيهما الكشاف والحجة.

(٦) في «ب» فلا تدغم بالتاء يقصد الباء.

(٧) وفيها أيضا تدغم.

(٨) في «ب» إلا أن.

(٩) قال بذلك الفارسيّ في الحجة مع اختلاف طفيف في عبارته. الحجة ٦ / ١٦٤ ، و ١٦٥ وأبو حيان في البحر ٧ / ٢٦٠.

(١٠) الكشاف ٣ / ٢٨١.

(١١) ردّ صحيح من المؤلف لأن القراءة سنة متبعة ويوجد فيها الفصيح والأفصح كما يقول أبو حيان وقد أجازها أبو البقاء في التبيان قال «والإدغام جائز ، لأن الفاء والباء متقاربان» البحر المحيط ٧ / ٢٦٢.

(١٢) الأصح كما في الفخر الرازي بالخسف.

١٩

راجع إلى الله بقلبه. ثم إنه تعالى لما ذكر من ينيب من عباده ذكر منهم من أناب وأصاب ومن جملتهم داود (١) كما قال تعالى عنه : (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ)(١٤)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) فقوله : «منّا» إشارة إلى بيان فضل داود لأن قوله: (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) مستقبل (٢) بالمفهوم وتام كما يقول القائل : آتى الملك زيدا خلعة ، فإذا قال القائل : آتاه منه خلعة يفيد أنه كان من خاصّ ما يكون له فكذلك إيتاء الله الفضل عام لكن النبوة من عنده خاص بالبعض ، ونظيره قوله تعالى : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ) [التوبة : ٢١] فإنّ رحمة الله واسعة تصل إلى كل أحد لكن رحمته في الآخرة على المؤمنين رحمة من عنده لخواصّه (٣) ، والمراد بالفضل النبوة والكتاب ، وقيل : الملك ، وقيل : جميع ما أوتي من حسن الصوت وتليين الحديد وغير ذلك مما خصّ به (٤).

قوله : «يا جبال» محكيّ بقول مضمر (٥) ، ثم إن شئت قدرته مصدرا ويكون بدلا من «فضلا» على جهة تفسيره به كأنه قيل : آتيناه فضلا قولنا يا جبال ، وإن (٦) شئت جعلته مستأنفا.

قوله : «أوّبي» العامة على فتح الهمزة ، وتشديد الواو ، أمرا من التّأويب وهو

__________________

(١) الفخر الرازي ٢٥ / ٢٤٤ و ٢٤٥.

(٢) في «ب» هكذا وما في «أ» والفخر الرازي مستقل وهو الأصح.

(٣) المرجع السابق.

(٤) البغوي والخازن ٥ / ٢٨٢ و ٢٨٣.

(٥) هذا قول أبي البقاء في التبيان ١٠٦٤ والزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٢٤٣ والدر المصون ٤ / ٤١٦.

(٦) الحق أن الاستئناف لا يجوز إلا بعد أن يقدر القول المضمر هذا ومن الإمكان أن يقدر مصدرا أو فعلا فإن قدر فعلا لنا فيه وجهان : أحدهما : ما ذكره وهو الاستئناف. والثاني : جعله بدلا من «آتينا» فكلمة الجبال محكية بقول إما مصدر وإما فعل. انظر ذلك في الكشاف ٣ / ٢٨١ والدر المصون ٤ / ٤١٦ والبحر ٧ / ٢٦٢.

٢٠