اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦١٥

فصل

معنى أجرها مرّتين أي مثل أجر غيرها ، قال مقاتل (١) : مكان كل حسنة عشرون حسنة (وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) يعني الجنة ، ووصف رزق الآخرة بكونه كريما مع أن الكرم لا يكون وصفا إلا للرزاق (٢) ، وذلك إشارة إلى أن الرزق في الدنيا مقدر على أيدي الناس ، التاجر يسترزق من السوقة ، والعاملين والصناع من المتعلمين والملوك من الرعية منهم ، فالرزق في الدنيا لا يأتي بنفسه وإنما هو مستمر للغير يمسكه ويرسله إلى الأغيار (٣) ، وأما في الآخرة فلا يكون له ممسك ومرسل في الظاهر فهو الذي يأتي بنفسه فلأجل هذا لا يوصف في الدنيا بالكريم إلا الرازق وفي الآخرة يوصف بالكريم نفس الرزق(٤).

قوله : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) قال الزمخشري : «أحد» في الأصل (٥) يعني وحد وهو الواحد ، ثم وضع في النفي العام مستويا فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه والمعنى لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء (أي) (٦) إذا تقصّيت (٧) جماعات النساء (٨) واحدة واحدة لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة. ومنه قوله عزوجل : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) [النساء : ١٥٢] يريد بين جماعة واحدة منهم تسوية بين جميعهم في أنهم على الحق البين (٩). قال أبو حيان أما قوله : «أحد» في الأصل بمعنى «وحد» وهو الواحد فصحيح (١٠) ، وأما قوله : وضع إلى قوله وما وراءه. فليس بصحيح ، لأن الذي يستعمل في النفي العام مدلوله غير مدلول واحد لأن «واحد» ينطلق (١١) على شيء اتصف بالوحدة «وأحدا» المستعمل في النفي العام مختص (١٢) بمن يعقل ، وذكر النحويون أن مادّته همزة وحاء ودال ومادة «أحد» بمعنى واحد واو وحاء ودال فقد اختلفا مادة ومدلولا ، وأما قوله : «لستن كجماعة واحدة» فقد قلنا إن معناه ليست كل واحدة منكن فهو حكم على كل واحدة لا على المجموع من حيث هو مجموع ، وأما (وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) فيحتمل أن يكون الذي يستعمل في النفي العام ولذلك جاء في سياق النفي فعم وصلحت

__________________

(١) وفسّره أبو عبيدة في المجاز بالثواب فقال : «نعطها ثوابها» المجاز ٢ / ١٣٧.

(٢) في «ب» الرازق.

(٣) في كلتا النسختين الأعيان وفي الفخر الرازي الأغيار كأعلى ب.

(٤) تفسير الرازي ٢٥ / ٢٠٨.

(٥) قاله في الكشاف ٣ / ٣٥٩.

(٦) سقطت من «ب».

(٧) هكذا هي في الكشاف وما في «ب» نقصت.

(٨) وهي أمة النساء وجماعة لم توجد منهن جماعة.

(٩) في الكشاف المبين.

(١٠) البحر المحيط ٧ / ٢٢٩.

(١١) في «ب» مطلقة.

(١٢) في «ب» وهو ما في البحر مخصوص.

٥٤١

التثنية للعموم ، ويحتمل أن يكون «أحد» بمعنى «واحد» وحذف معطوف ، أي بين أحد وأحد (١) (كما قال (٢) :)

٤٠٨٦ ـ فما كان بين الخير لو جاء سالما

أبو حجر إلا ليال قلائل (٣)

أي بين الخير وبيني انتهى ، قال شهاب الدين «أما قوله فإنهما مختلفان مدلولا ومادة فمسلّم ، ولكن الزمخشري لم يجعل أحدا الذي أصله واحد ـ بمعنى أحد المختص بالنفي ، ولا يمنع أن «أحدا» الذي أصله «واحد» أن يقع في سياق النفي ، وإنما الفارق بينهما أن الذي همزته أصل لا يستعمل إلا في النفي كأخواته من غريب (٤) ، وكيتع ودابر (٥) ، وتامر (٦) والذي أصله واحد يجوز أن يستعمل إثباتا ونفيا وأيضا المختص بالنفي مختص بالعقلاء ، وهذا لا يختص ، وأما معنى النفي فإنه ظاهر على ما قاله الزمخشري من الحكم على المجموع ولكن المعنى على ما قاله أبو حيان أوضح وإن كان خلاف الظاهر»(٧).

قوله : «إن اتّقيتنّ» في جوابه وجهان :

أحدهما : أنه محذوف لدلالة ما تقدم عليه أي إن اتّقيتنّ الله فلستنّ كأحد ، فالشرط قيد في نفي أن يشبّهن بأحد من النساء (٨).

والثاني : أن جوابه قوله (فَلا تَخْضَعْنَ)(٩) والتقوى على بابها ، وجوز أبو حيان على هذا أن يكون «اتّقى» بمعنى استقبل أي استقبلتن (١٠) أحدا فلا تلنّ له القول ، واتّقى بمعنى استقبل معروف في اللغة ، وأنشد :

__________________

(١) البحر ٧ / ٢٢٨.

(٢) ساقط من «ب».

(٣) البيت من بحر الطويل وهو للنابغة الذبياني ، وأبو حجر كناية عن النعمان بن الحارث وشاهده : حذف الواو ومعطوفها والأصل : بين الخير وبيني فقد حذف الواو مع معطوفها وهذا تقرير لقول أبي حيان الذي أجاز هذا الاحتمال. انظر : البحر المحيط ٧ / ٢٢٩ وابن الناظم بدر الدين على الألفية ٢١٤ وأوضح المسالك لابن هشام ١٩٢ والأشموني ٣ / ١١٦ والتصريح ٢ / ١٥٣ والديوان (١٢٠).

(٤) يقال : ما في الدار غريب في النفي ولا يقال : في الدار غريب لعدم الفائدة وكذا : ما بالدار كيتع ، أي أحد اللسان : «ك ت ع» ٣٨٢٠ وإصلاح المنطق ٣٩١.

(٥) من أقوالهم : ما يعرف قبيله من دبيره ، وفلان ما يدري قبيلا من دبير ، المعنى ما يدري شيئا اللسان : «د ب ر» ١٣١٩.

(٦) قالوا : ما في الدار تامور وتومور ، وما بها تومري أي ليس بها أحد. وقال أبو زيد : ما بها تأمور أي ما بها أحد اللسان «ت م ر» ٤٤٦.

(٧) انظر : الدر المصون ٤ / ٣٨٣ و ٣٨٤.

(٨) قاله السمين في الدر ٤ / ٣٨٤ وقدره ابن الأنباري في البيان انفردتن بخصائص من جملة سائر النساء البيان ٢ / ٢٦٨.

(٩) المرجعان السابقان.

(١٠) البحر المحيط ٧ / ٢٢٩ واستدل بالبيت الأعلى.

٥٤٢

٤٠٨٧ ـ سقط النّصيف ولم ترد إسقاطه

فتناولته واتّقتنا باليد (١)

أي واستقبلتنا باليد قال : «ويكون على هذا المعنى أبلغ من مدحهن ؛ إذ لم يعلق فضيلتهن على التقوى ولا على نهيه عن الخضوع (٢) بها إذ هنّ متقيات لله في أنفسهن ، والتعليق يقتضي ظاهره أنهن لسن متحليات بالتقوى» (٣) ، قال شهاب الدين : هذا خروج عن الظاهر من غير ضرورة وأما البيت فالاتّقاء أيضا على بابه أي صانت وجهها بيدها (٤) عنا.

قوله : «فيطمع» العامة على نصبه جوابا للنهي ، والأعرج (٥) بالجزم فيكسر (٦) العين لالتقاء الساكنين (٧) وروي عنه وعن أبي السّمّال وعيسى بن عمر وابن محيصن بفتح الياء وكسر الميم (٨) ، وهذا شاذ حيث توافق الماضي والمضارع في حركة. وروى عن الأعرج أيضا أنه قرأ بضم الياء وكسر الميم (٩) من «أطمع» وهي تحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون الفاعل ضميرا مستترا عائدا على الخضوع المفهوم من الفعل و «الذي» مفعوله أي لا تخضعن فيطمع الخضوع المريض القلب ، ويحتمل أن يكون «الذي» فاعلا ، ومفعوله محذوف أي فيطمع المريض نفسه (١٠).

فصل

قال ابن عباس : معنى لستنّ كأحد من النساء يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء(١١) الصالحات أنتن أكرم عليّ ، وثوابكن أعظم لديّ ، ولم يقل كواحد لأن (١٢) الأحد عام يصلح للواحد ، والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث. قال تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥] وقال : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة : ٤٧] وقوله : (إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) الله فأطعتنّه ولما منعهن من الفعل القبيح منعهن من مقدماته وهي

__________________

(١) البيت من الكامل وهو للنابغة في مدح «المتجردة» زوج النعمان بن المنذر ، والنصيف غطاء الرأس للمرأة وهو الخمار ، وقيل : ما تشد به رأسها وهو المعجر والشاهد فيه : استعمال «اتقى» بمعنى استقبل كما قرره أبو حيان ، أي استقبلتنا باليد. انظر : ديوانه ٩٣ والأشموني ٢ / ١٩١ ولسان العرب «نصف» والبحر المحيط ٧ / ٢٢٩ والدر المصون ٤ / ٣٨٥.

(٢) في البحر : «ولا علق نهيهنّ عن الخضوع».

(٣) البحر المحيط لأبي حيان ٧ / ٢٢٩.

(٤) ذكره في الدر المصون ٤ / ٣٨٥.

(٥) هو عبد الرحمن بن هرمز قد عرفت به فيما سبق.

(٦) في «ب» بكسر ـ بالباء ـ.

(٧) ذكرها كل من ابن جني وابن خالويه في كتابيهما الأول في المحتسب ٢ / ١٨١ والثاني في المختصر ص ١١٩ وهي من الشواذ غير المتواترة. البحر المحيط لأبي حيان ٧ / ٢٣٠.

(٨) ابن خالويه ١١٩ وهي من الأربع الشواذ فوق العشرة المتواترة الإتحاف ٣٥٥ والبحر ٧ / ٢٣٠.

(٩) انظر : شواذ القرآن ١٩٤ والبحر ٧ / ٢٣٠ مروية عن ابن محيصن أيضا.

(١٠) قاله السمين في الدر ٤ / ٣٨٥.

(١١) نقله ابن الجوزي في زاد المسير ٦ / ٣٧٨.

(١٢) قاله القرطبي في ١٤ / ١٧٧.

٥٤٣

المحادثة مع الرجال فقال : (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) أي تلنّ القول للرجال ولا ترفضن الكلام (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) أي فسق وفجور وشهوة ، وقيل : نفاق أي لا تقولن قولا يجد منافق أو فاجر به سبيلا إلى المطامع (١) فيكنّ والمرأة مندوبة إلى الغلظة في المقالة إذا خاطبت الأجانب لقطع الأطماع(٢)(وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) أي ذكر الله (٣) وما تحتجن إليه من الكلام مما يوجب الدين والإسلام بتصريح أو بيان من غير خضوع.

قوله : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) قرأ نافع وعاصم بفتح القاف والباقون بكسرها (٤) ، فأما الفتح فمن وجهين :

أحدهما : أنه أمر من قررت ـ بكسر الراء الأولى ـ في المكان أقرّ به ـ بالفتح ـ فاجتمع راءان في : «اقررن» فحذفت الثانية تخفيفا ، ونقلت حركة الراء الأولى إلى القاف فحذفت همزة الوصل استغناء عنها فصار «قرن» على وزن (٥) «فعن» فإن المحذوف هو اللام لأنه حصل به الثقل ، وقيل : المحذوف الراء الأولى لأنه لما نقلت حركتها بقيت ساكنة وبعدها أخرى ساكنة فحذفت الأولى لالتقاء الساكنين ، ووزنه على هذا «فلن» فإن المحذوف هو العين (٦) ، وقال أبو علي : أبدلت الراء الأولى ياء ونقلت حركتها إلى القاف ، فالتقى ساكنان فحذفت الياء لالتقائهما (٧) ، فهذه ثلاثة أوجه في توجيه أنها أمر من «قررت بالمكان».

والوجه الثاني : أنها أمر من «قار ـ يقار» كخاف يخاف إذا اجتمع ، ومنه «القارة» (٨) لاجتماعها ، فحذفت العين لالتقاء الساكنين ، فقيل : «قرن» «كخفن» ووزنه على هذا أيضا : فلن ، إلا أن بعضهم تكلم في هذه القراءة من وجهين :

__________________

(١) في «ب» إلى الطامع.

(٢) نقله الإمام أبو الفرج ابن الجوزي في تفسيره المسمى زاد المسير ٦ / ٣٧٩.

(٣) وقد فسره ابن عباس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر انظر : القرطبي ١٤ / ١٧٨.

(٤) ذكرها في الإتحاف ٣٥٥ والسبعة ٥٢١ و ٢٢٢ وإبراز المعاني ٤٦٩ وانظر أيضا القرطبي ١٤ / ١٧٨ وزاد المسير ٦ / ٣٧٩ والكشف ٢ / ١٩٧ والتبيان ١٠٥٦.

(٥) قاله ابن قتيبة في غريب القرآن ٣٥٠ والتبيان ١٠٥٧ وانظر البيان ٢ / ٣٦٨ ومشكل إعراب القرآن ٢ / ١٩٦ والدر المصون ٤ / ٣٨٥ ومعاني القرآن للفراء ٢ / ٣٤٢ وإعراب القرآن للنحاس ٢ / ٣١٣ ومعاني القرآن وإعرابه لأبي إسحاق الزجاج ٤ / ٢٢٥ واللسان «ق ر ر» ٣٥٧٩ و ٣٥٨٠ وهذه القراءة جاءت في مراجع جمة وقد ذكرت ما فيه الكفاية من المراجع.

(٦) المراجع السابقة.

(٧) قاله أبو علي في الحجة مع تغيير في النص انظر : الحجة ٦ / ١٥٤ ولم يرتض رأيه أبو حيان حيث قال «وهذا غاية في التحميل كعادته» انظر البحر المحيط ٧ / ٢٣٠.

(٨) يطلق هذا الوصف على قبيلة بعينها وقد سموا كذلك لاجتماعهم والتفافهم اللسان «ق ور» ٣٧٧٢ وقد قاله الزمخشري أيضا في الكشاف ٣ / ٢٦٠ قال : ألا ترى إلى قول عضل والديش اجتمعوا فكونوا قارة الكشاف ٣ / ٢٦٠.

٥٤٤

أحدهما : قال أبو حاتم (١) يقال : قررت بالمكان ـ بالفتح ـ أقرّ به ـ بالكسر ـ وقرّت عينه ـ بالكسر ـ تقرّ ـ بالفتح ـ فكيف تقرأ وقرن بالفتح؟! والجواب عن هذا أنه قد سمع في كل منهما الفتح والكسر ، حكاه أبو عبيد (٢) ، وتقدم ذلك في سورة مريم (٣).

الثاني : سلمنا أنه يقال قررت بالمكان ـ بالكسر ـ أقرّ به ـ بالفتح ـ وأن الأمر منه اقررن إلا أنه لا مسوغ (٤) للحذف ، لأن الفتحة خفيفة ، ولا يجوز قياسه على قولهم : «ظلت» في «ظللت» قال تعالى : (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) [الواقعة : ٦٥] و (ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً) [طه : ٩٧] وبابه ، لأن هناك شيئين ثقيلين التضعيف والكسرة (فحسن (٥) الحذف وأما هنا فالتضعيف فقط) ، والجواب أن المقتضي للحذف إنما هو التكرار ويؤيد هذا أنهم لم يحذفوا مع التكرار ووجود الضمة وإن كان أثقل نح و «اغضضن أبصاركن» وكان أولى بالحذف فيقال : غضن لكن السماع خلافه قال تعالى : (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ) على أن ابن مالك قال : إنه (٦) يحذف في هذا بطريق الأولى. أو نقول : إن هذه القراءة إنما هي من «قار ـ يقار» بمعنى اجتمع وهو وجه حسن بريء من التكلف فيندفع اعتراض أبي حاتم وغيره لولا أن المعنى على الأمر بالاستقرار لا بالاجتماع. وأما الكسر فمن وجهين أيضا :

أحدهما : أنه أمر من قرّ في المكان ـ بالفتح ـ في الماضي والكسر في المضارع ، وهي اللغة الفصيحة (٧) ، ويجيء فيها التوجيهات الثلاث المذكورة أولا ، أما حذف الراء الثانية أو الأولى أو إبدالها ياء وحذفها كما قاله (٨) الفارسيّ ، ولا اعتراض على هذه (٩) القراءة لمجيئها على مشهور اللغة ، فيندفع اعتراض أبي حاتم ، ولأن الكسر ثقيل فيندفع الاعتراض الثاني ومعناها مطابق لما يراد بها من الثبوت والاستقرار.

الوجه الثاني : أنها أمر من «وقر» «يقر» أي ثبت واستقر ومنه «الوقار» وأصله اوقرن فحذفت الفاء ـ وهو الواو ـ واستغني عن همزة الوصل فبقي «قرن» ، وهذا كالأمر من

__________________

(١) هو سهل بن محمد السجستاني كان عالما ثقة ، قيّما بعلم اللغة والشعر ، أخذ عن أبي زيد وأبي عبيدة والأصمعيّ ، وأخذ عنه ابن دريد أبو بكر توفي فيما قبل سنة خمسين ومائتين في خلافة المستعين وقال ابن دريد : توفي سنة خمس وخمسين ومائتين انظر نزهة الألباء ١٣٣.

(٢) هو القاسم بن سلام أبو عبيد كان إمام أهل عصره في كل فن من العلم ، أخذ عن أبي زيد ، وأبي عبيدة والأصمعي ، واليزيديّ وغيرهم له غريب القرآن والحديث ومعاني القرآن وغير ذلك مات سنة ٢٢٠ ه‍ انظر بغية الوعاة ٢ / ٢٥٣ و ٢٥٤ وانظر مشكل الإعراب ٢ / ١٩٦ والبحر ٧ / ٢٣٠ والقرطبي ١٤ / ١٧٨.

(٣) عند قوله تعالى : «وَقَرِّي عَيْناً» وهي الآية ٢٦ وانظر اللباب ٦ / ٢٣٧ «ب».

(٤) في «ب» يسوع بالياء.

(٥) ما بين القوسين ساقط من «ب».

(٦) شرح الكافية الشافية له ٩٠٩ و ٩١٠.

(٧) معاني الفراء ٢ / ٢٤٣.

(٨) في «ب» فيما قال.

(٩) وانظر في هذا كله الدر المصون ٤ / ٣٨٥ : ٣٨٧.

٥٤٥

وعد سواء ، ووزنه على هذا «علن» ، قال البغوي : الأصح (١) أنه أمر من «الوقار» كقولك من الوعد «عدنا» ، ومن الوصل «صلنا». وهذه الأوجه المذكورة إنما يهتدي إليها من مرن في علم التصريف وإلا ضاق بها ذرعا.

قوله : (تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ) مصدر تشبيهيّ أي مثل تبرج والتبرج الظهور من البرج لظهوره ، وقد تقدم (٢) ، وقرأ البزّيّ : «ولا تبرجن» بإدغام التاء في التاء ، والباقون بحذف إحداهما وتقدم تحقيقه في البقرة (٣) في : (وَلا تَيَمَّمُوا).

فصل

قال المفسرون وقرن أي الزمن بيوتكنّ من قولهم : قررت بالمكان أقر قرارا يقال : قررت : أقر وقررت : أقر ، وهما لغتان ، فإن كان من الوقار أي كن أهل وقار وسكون من قولهم : وقر فلان يقر وقورا إذا سكن واطمأن ، و (لا تَبَرَّجْنَ) قال مجاهد وقتادة التبرج هو التكسر والتغنج ، وقال ابن أبي نجيح(٤) : هو التبختر ، وقيل : هو إظهار الزينة (٥) ، وإبراز المحاسن للرجال (تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) قال الشعبي (٦) : هي ما بين عيسى ومحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقال أبو العالية : هي (٧) بين داود وسليمان ـ عليهما‌السلام ـ ، وكانت المرأة تلبس قميصا من الدر غير مخيط الجانبين فيرى حلقها فيه ، وقال الكلبي : كان ذلك في زمن نمروذ ، وكانت المرأة تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه ، وتمشي وسط الطريق ليس عليها شيء غيره ، وتعرض نفسها على الرجال ، وروى عكرمة عن ابن عباس أنه (٨) قال : الجاهلية الأولى أي فيما بين نوح وإدريس وكانت ألف سنة وإن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل وكان رجال الجبل صباحا وفي النساء دمامة ، وكان نساء السهل صباحا وفي الرجال دمامة ، وإن إبليس أتى رجلا من أهل السهل وأجر

__________________

(١) قاله البغوي في معالم التنزيل ٤ / ٣٥٨ بلفظ «عدن وصلن».

(٢) في سورة النور من قوله تعالى : «غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ»وهي الآية ٦٠ من سورة النور. وانظر اللباب ٦ / ٣٠١.

(٣) الإتحاف ٣٥٥ ، والدر المصون ٤ / ٣٨٧ وقد قال هناك من الآية (٢٧٦) بعدم تشديد التاء في تلك الآية وما أشبهها من مواضع في القرآن وحجته هو من التثاقل الناشىء من اجتماع مثلين وتعذر إدغام الثانية في تاليها نزل اتصال الأولى بسابقتها منزلة اتصالها بكلمتها فأدغمت في الثانية تخفيفا مراعاة للأصل والرسم اللباب ١ / ٢٠١.

(٤) هو عبد الله بن أبي نجيح ، الثقفي مولاهم أبو يسار المكي عن طاوس ومجاهد وعنه عمرو بن شعيب وأبو إسحاق الفزاري وشعبة روى عنه ابن عيينة مات سنة ١٣١ ه‍ الخلاصة ٢١٧ وانظر رأيه في القرطبي ١٢ / ٣٠٩.

(٥) هذا قول الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٢٢٥.

(٦) زاد المسير ٦ / ٣٨٠ والقرطبي ١٤ / ١٨٠.

(٧) السابقان.

(٨) زاد المسير ٦ / ٣٨١.

٥٤٦

نفسه منه فكان يخدمه واتخذ شيئا مثل الذي يزمر به الرعاء فجاء بصوت لم يسمع الناس مثله فبلغ ذلك من حولهم فانتابوهم يسمعون إليه واتخذوه عيدا يجتمعون إليه في السنة فتتبرج النساء للرجال وتتزين الرجال لهن ، وإن رجلا من أهل الخيل هجم عليهم في عيدهم فرأى النساء وصباحتهن فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فنزلوا معهم فظهرت الفاحشة فذلك قوله : (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى)(١) ، وقيل : الجاهلية الأولى ما ذكرنا والجاهلية الأخرى قوم يفعلون مثل فعلهم في آخر الزمان (٢) ، وقيل : قد تذكر الأولى وإن لم يكن لها أخرى كقوله تعالى : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) [النجم : ٥٠] ولم يكن لها أخرى (٣).

قوله : (وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) يعني ليس التكليف في النهي وحده حتى يحصل بقوله : «ولا تخضعن. ولا تبرجن» بل في النهي وفي الأوامر فأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله فيما أمر به ، ونهى عنه (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) قال مقاتل : الرجس : الإثم الذي نهى الله النساء عنه (٤) ، وقال ابن عباس يعني عمل الشياطين وما ليس (٥) لله فيه رضا. وقال قتادة يعني السوء (٦) ، وقال مجاهد : الرّجس (٧) : الشّكّ.

قوله : (أَهْلَ الْبَيْتِ) فيه أوجه : النداء والاختصاص (٨) ، إلا أنه في المخاطب أقل منه في المتكلم وسم ع «بك الله نرجو الفضل» (٩) ، والأكثر إنما هو في التكلم كقولها :

٤٠٨٨ ـ نحن بنات طارق

نمشي على النّمارق (١٠)

__________________

(١) ورد هذا الأثر في تفسير الحافظ الإمام ابن كثير ٣ / ٤٨٣.

(٢) قال ابن عطية والذي يظهر عندي أنه أشار للجاهلية التي لحقتها فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة لأنهم كانوا لا غيرة عندهم. انظر : تفسير الشّوكانيّ ٤ / ٢٧٨ والقرطبي ١٤ / ١٨٠.

(٣) هذا رأي فخر الدين الرازي حيث قال : «إن هذه ليست أولى تقتضي أخرى بل معناه تبرج الجاهلية القديمة كقول القائل : أين الأكاسرة الجبابرة الأولى» انظر : التفسير الكبير للإمام الفخر ٢٥ / ٢٠٩.

(٤) وهو رأي السدي أيضا انظر : زاد المسير ٦ / ٣٨٠.

(٥) وهو رأي ابن زيد المرجع السابق.

(٦) حكى هذين الرأيين الماوردي المرجع السابق.

(٧) المرجع السابق.

(٨) ذكرهما أبو البقاء في التبيان ١٠٥٧.

(٩) قاله سيبويه في الكتاب ٢ / ٢٣٤ : وزعم الخليل ـ رحمه‌الله ـ أن قولهم : «بك الله نرجو الفضل ، وسبحانك الله العظيم» نصبه كنصب ما قبله يشير إلى قولهم : «نحن العرب أقرى الناس للضيف» وفيه معنى التعظيم. وانظر أيضا همع الهوامع للسيوطي ١ / ١٧١ وشرح ابن يعيش على المفصل ٢ / ١٧.

(١٠) رجز لهند بنت عتبة في تحريض الجند المشرك ضد الإسلام في غزوة أحد والشاهد «بنات طارق» فإنها منصوبة على الاختصاص بفعل مضمر وجوبا تقديره «أعني» أو أريد ، أو أخص وهذا على الغالب في ـ

٥٤٧

(وقوله (١) :)

٤٠٨٩ ـ نحن ـ بني ضبّة ـ أصحاب الجمل

الموت أحلى عندنا من العسل (٢)

(و) «نحن العرب أقرى النّاس للضّيف» (٣) (و) : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث (٤)» أو على المدح أي أمدح أهل البيت ، واختلف في أهل البيت ، فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنهم نساء النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأنهن في بيته (٥) ، وتلا قوله : (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ) وهو قول عكرمة ومقاتل. وذهب أبو سعيد الخدري وجماعة من التابعين منهم مجاهد وقتادة وغيرهم إلى أنهم عليّ ، وفاطمة ، والحسن (٦) والحسين ، لما روت عائشة قالت : خرج رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ذات غداة وعليه مرط مرجّل من شعر أسود فجلست (٧) فأتت فاطمة فأدخلها فيه ثم جاء علي فأدخله فيه ثم جاء حسين فأدخله فيه ، ثم قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

وروت أم سلمة قالت : في بيتي أنزل : إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت قالت : فأرسل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى فاطمة وعلي والحسين والحسن فقال : هؤلاء أهل بيتي. فقلت : يا رسول الله أما أنا من أهل البيت قال : بلى إن شاء الله (٨) ، وقال

__________________

ـ الاختصاص في التكلم. انظر : سيرة ابن هشام ٥٦٢ والأغاني ١٤ / ١٦ والمغني ٣٨٧ وشرح شواهده للإمام السيوطي ٨٠٩ ، وطبقات الشافعية ١ / ٢٥٤ والهمع ١ / ١٧١ ، والبحر ٧ / ٢٣١ وإعراب ثلاثين سورة ٣٨ والبداية والنهاية ٤ / ١٦.

(١) زيادة يقتضيها السياق والمعنى.

(٢) رجز ـ أيضا ـ كسابقه من البيت الشعري. وقد اختلف في نسبته فمن قائل : إنه للحارث الضبيّ ، ومن قائل : إنه للأعرج المعنى ، ومن قائل إنه لعمرو بن يثربي ، والشاهد فيه : «بني ضبة» وهو اختصاص وقد وقع بعد تكلم وهو «نحن» وهذا هو الغالب ، ولا يخفى أن المختص وهو : «بني» منصوب بالياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم و «بنات» الكلمة السابقة منصوبة بالكسرة نيابة عن الفتحة للجمع المؤنث السالم والبيت من شواهد شذور الذهب لابن هشام ، واللسان : «ب ج ل» ٢١٣ ورد فيه :

نحن بني ضبة أصحاب الجمل

ردوا علينا شيخنا ثم بجل

وانظر الهمع ١ / ١٧١ والأشموني ٣ / ١٣٧ والكامل للمبرد ٣ / ١١٢ والعقد الفريد ٤ / ٣٢٧.

(٣) الحديث هذا جاء في الكتاب ٢ / ٢٣٤.

(٤) رواه الإمام أحمد في مسنده ٢ / ٤٦٣.

(٥) قاله ابن الجوزي في زاد المسير ٦ / ٣٨١ والقرطبي في الجامع ١٤ / ١٨٢ والزجاج في المعاني ٤ / ٢٢٦.

(٦) المرجع السابق.

(٧) ذكره الشوكاني في فتح القدير ٤ / ٢٧٩. وأمرط الخفيف شعر الجسد والحاجبين والعينين ورجل أمرط : لا شعر على جسده.

(٨) ذكره البغوي في معالم التنزيل ٤ / ٢٥٩ والخازن في تفسيره ٤ / ٢٥٩ والقرطبي في ١٤ / ١٨٣ وابن كثير في ٣ / ٤٨٤.

٥٤٨

زيد (١) بن أرقم : أهل بيته من حرم الصدقة بعده ، آل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل عباس (٢) ، قال ابن الخطيب : والأولى أن يقال : هم أولاده وأزواجه والحسن والحسين ، وعليّ منهم لأنه كان من أهل بيته لمعاشرته بنت النبي عليه (الصلاة (٣) و) السلام وملازمته (٤) له.

قوله : (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ) يعني القرآن والحكمة ، قال قتادة يعني السنة (٥) ، وقال مقاتل : أحكام القرآن (٦) ومواعظه ، و (مِنْ آياتِ اللهِ) بيان للموصول فيتعبلق «بأعني» ويجوز أن يكون حالا إما من الموصول ، وإما من عائده المقدر فيتعلق بمحذوف أيضا (٧)(إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً) بأوليائه «خبيرا» بجميع خلقه.

قوله : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) قال مقاتل : قالت أم سلمة بنت أبي أمية ، ونسيبة بنت كعب الأنصارية للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه نخشى أن لا يكون فيهن خير فنزلت فيهن هذه الآية (٨) ، ويروى (٩) أن أزواج النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ قلن : يا رسول الله ذكر الرجال في القرآن ولم يذكر النساء بخير فما فينا خير نذكر به إنا نخاف أن لا تقبل منا طاعة ، فأنزل (١٠) الله هذه الآية ، وروي أن أسماء بنت عميس (١١) رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب فدخلت على نساء النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقالت : هل نزل فينا شيء من القرآن قلن : لا فأتت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقالت : يا رسول الله إن النساء لفي خيبة وخسارة ، قال : وممّ ذلك؟ قالت : لأنهن لا يذكرن بخير كما تذكر الرجال فأنزل الله (١٢) ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ) المطيعين (وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ) في إيمانهم ، وفيما سرهم وساءهم (١٣)(وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ) على أمر الله (وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ)

__________________

(١) زيد بن أرقم بن زيد بن قيس بن النعمان روى عن ابن أبي ليلى ، وطاوس ومحمد بن كعب والنضر بن أنس مات سنة ٦٦ ه‍ انظر خلاصة الكمال ١٢٦.

(٢) السابق.

(٣) زيادة من «ب».

(٤) انظر : تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ٢٠٩.

(٥ و ٦) ذكرهما ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير ٦ / ٣٨٢ و ٣٨٣.

(٧) قاله شهاب الدين السمين في الدر المصون ٤ / ٣٨٨.

(٨) انظر : معالم التنزيل للبغوي ٤ / ٢٥٩ و ٢٦٠.

(٩) في «ب» روي.

(١٠) المرجع السابق.

(١١) هي الخثعمية وأخت ميمونة لأمها ولها ستون حديثا وتزوجها أبو بكر بعد جعفر. انظر : خلاصة الكمال ٤٨٨ ه‍.

(١٢) انظر : تفسير الخازن ٤ / ٢٦٠ وانظر في هذا كله أسباب النزول للسيوطي ١٣٩.

(١٣) في «ب» وأساءهم.

٥٤٩

المتواضعين «والخاشعات». وقيل : أراد به الخشوع في الصلاة ومن الخشوع أن لا يلتفت (وَالْمُتَصَدِّقِينَ) مما رزقهم الله (وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ) عما لا يحل (وَالْحافِظاتِ). وحذف مفعول الحافظات لتقدم ما يدل عليه والتقدير : والحافظاتها وكذلك : والذاكرات ، وحسن الحذف رؤوس الفواصل (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) ، قال مجاهد : لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا (١). وروي أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال سبق المفردون ، قالوا : وما المفردون؟ قال : الذاكرون الله كثيرا والذاكرات (٢). قال عطاء بن أبي رباح من فوض أمره إلى الله عزوجل فهو داخل في قوله : (إِنَ (٣) الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) ومن أقر بأن الله ربه ، ومحمدا رسوله ، ولم يخالف قلبه لسانه فهو داخل في قوله : (وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) ومن أطاع الله في الفرض ، والرسول في السنة فهو داخل في قوله : (وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ) ومن صان قوله عن الكذب فهو داخل في قوله : (وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ) ومن صبر على الطاعة وعن المعصية وعلى الرزية فهو داخل في قوله : (وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ) ومن صلى ولم يعرف من يمينه عن يساره فهو داخل في قوله : (وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ) ومن تصدق في كل أسبوع بدرهم فهو داخل في قوله : (وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ) ، ومن صام في كل شهر أيام البيض الثالث عشر ، والرابع عشر ، والخامس عشر فهو داخل في قوله : (وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ). ومن حفظ فرجه فهو داخل في قوله (وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ) ومن صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله : (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) وغلب المذكر على المؤنث في «لهم» ولم يقل: «لهن» (لشرفهم) (٤).

قوله : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ) نزلت الآية في زينب بنت جحش الأسدية (٥) ، وأخيها عبد الله بن جحش وأمها أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خطب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ زينب على مولاه زيد بن حارثة وكان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ اشترى زيدا في الجاهلية بعكاظ ، فأعتقه وتبناه ، فلما خطب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ زينب رضيت وظنت أنه يخطبها لنفسه فلما علمت أنه يخطبها لزيد أبت وقالت : أنا ابن عمتك (٦) يا رسول الله فلا

__________________

(١) ذكره كلّ من البغوي والخازن في تفسيريهما ٤ / ٢٦٠.

(٢) سبق.

(٣) المرجعان السابقان.

(٤) سقط من «أ».

(٥) انظر : أسباب النزول في القرطبي ١٤ / ١٨٦ وزاد المسير ٦ / ٣٨٥ وتفسير الخازن ٤ / ٢٦١ والبغوي ٤ / ٢٦١ والطبري ٢٢ / ٩ وفتح القدير للشوكاني ٤ / ٢٨٣ وابن كثير ٣ / ٤٨٩ ، والكشاف ٣ / ٢٦١ وأسباب النزول للسيوطي ١٣٩.

(٦) في «ب» أنا ابن عمة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

٥٥٠

أرضاه لنفسي وكانت بيضاء جميلة فيها حدة وكذلك كره أخوها ذلك فأنزل الله (١) عزوجل : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ) يعني عبد الله بن جحش وأخته زينب (إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً) (أي أراد الله ورسوله (٢) أمرا) وهو نكاح زيد لزينب (أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ). والخيرة الاختيار أي يريد غير ما أراد الله ويمتنع مما أمر الله ورسوله.

قوله : (أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (أَنْ يَكُونَ) هو اسم كان ، والخبر الجار متقدم (٣) وقوله: (إِذا قَضَى اللهُ) يجوز أن يكون محض ظرف معموله الاستقرار الذي تعلق به الخبر ، أي وما كان مستقرا لمؤمن ولا مؤمنة وقت قضاء الله كون خيرة وأن تكون شرطية ويكون جوابها مقدرا مدلولا عليه بالنفي (٤) المتقدم. وقرأ الكوفيون وهشام «يكون» ـ بالياء من أسفل ؛ لأن «الخيرة» مجازيّ التأنيث ، وللفصل أيضا ، والباقون بالتاء من فوق مراعاة للفظها (٥) ، وقد تقدم أن «الخيرة» مصدر «تخيّر» «كالطّيرة» من «تطيّر» (٦) ، ونقل عيسى بن سليمان (٧) أنه قرىء الخيرة ـ بسكون الياء (٨) ـ و (مِنْ أَمْرِهِمْ) حال من الخيرة ، وقيل : «من» بمعنى «في» وجمع الضمير في «أمرهم» وما بعده لأن المراد بالمؤمن والمؤمنة الجنس. وغلب المذكر على المؤنث (٩) ، وقال الزمخشري : «كان من حق الضمير أن يوحّد كما تقول : ما جاءني من رجل ولا امرأة إلّا كان من شأنه كذا» (١٠) قال أبو حيان : «وليس بصحيح ؛ لأن العطف بالواو ، فلا يجوز ذلك إلا بتأويل الحذف» (١١).

قوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) أخطأ خطأ ظاهرا. فلما سمعا ذلك رضيا بذلك وسلما وجعلت أمرها بيد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكذلك أخوها فأنكحها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ زيدا فدخل بها. وساق رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إليها عشرة دنانير وستّين درهما وخمارا ودرعا وإزارا وملحفة وخمسين مدّا من الطّعام وثلاثين صاعا من تمر (١٢).

__________________

(١) انظر : المراجع السابقة.

(٢) ما بين القوسين ساقط من «ب».

(٣) قاله السمين في الدر ٤ / ٣٨٨.

(٤) المرجع السابق.

(٥) ذكره في الحجة لابن خالويه ٢٩٠ كما ذكره ابن الجزري في النشر ٢ / ٣٥٠ وانظر الإتحاف ٣٥٥ والسبعة ٥٢٢ وقد نقل القرطبي اختيار أبي عبيد لقراءة الكوفيين قال : «قرأ الكوفيون بالياء وهو اختيار أبي عبيد لأنه قد فرق بين المؤنث وفعله». انظر : الجامع ١٤ / ١٨٧.

(٦) يشير إلى الآية ٦٨ من القصص «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ» وقال هناك : إن الخيرة كالطيرة من التطير فيستعملونه استعمال المصدر انظر : اللباب ٦ / ٣٣٢.

(٧) هو عيسى بن سليمان أبو موسى الحجازي المعروف بالشيزري الحنفي مقرىء عالم نحويّ معروف أخذ القراءة عرضا وسماعا عن الكسائي وروى الفقه عن أحد أصحاب أبي حنيفة والحروف عن نافع وجعفر وشيبة انظر : غاية النهاية ١ / ٦٠٩.

(٨) من القراءة الشاذة غير المتواترة مختصر ابن خالويه ١١٩ وهي قراءة ابن السميقع. القرطبي ١٤ / ١٨٧.

(٩) السمين قرره في إعرابه ٤ / ٣٨٨.

(١٠) قاله في الكشاف ٣ / ٢٦٢.

(١١) قاله في البحر المحيط ٧ / ٢٣٤.

(١٢) قاله الإمام البغوي في تفسيره المسمى بمعالم التنزيل ٥ / ٢٦١ وانظر كذلك الخازن ٥ / ٢٦١.

٥٥١

قوله تعالى : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٣٧) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٣٩) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)(٤٠)

قوله : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ) وهو زيد بن حارثة أنعم الله عليه بالإسلام (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) بالتحرير والإعتاق (١).

قوله : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ) نص بعض النحويين على أن «على» في مثل هذا التركيب اسم قال : لئلا يتعدى فعل المضمر المتصل إلى ضمير المتصل في غير باب «ظنّ» وفي لفظتي : فقد وعدم وجعل من ذلك :

٤٠٩٠ ـ هوّن عليك فإنّ الأم

ور بكفّ الإله مقاديرها (٢)

وكذلك حكم على «عن» في قوله :

٤٠٩١ ـ [ف] دع عنك نهبا صيح في حجراته (٣)

__________________

(١) قاله القرطبي في ١٤ / ١٨٨.

(٢) قائله الأعور الشّنّي وهو بشر بن منقذ. وهو من بحر المتقارب والشاهد فيه : «عليك» فإن «على» هنا اسم لأن مجرورها وفاعل ما تعلقت به ضميران لمسمى واحد وذلك لأنه لا يتعدى فعل المضمر المتصل في غير باب «ظن وفقد وعدم» فلا يقال : «ضربتني ، ولا فرحت بي» وقد نسب هذا القول لأبي الحسن الأخفش. وقد رد عليه بأنها لو كانت اسما لصح حلول «فوق» محلها. وهذا لا يصح ويتخرج هذا إما على التعليق بمحذوف كما في نحو : سقيا لك ، أو على حذف مضاف أي هوّن على نفسك. وقد تقدم.

(٣) صدر بيت لامرىء القيس من الطويل وتمامه :

 ..........

ولكن حديثا ما حديث الرّواحل

ويروى : «فدع» كما في اللسان وهو الأصح لاستقامة وزن البيت شعريا. وشاهده : «عنك» حيث تعدى فعل المضمر المتصل إلى ضميره المتصل ، وقد قال الأخفش : إن «عن» هنا اسم والقول فيه كسابقه ، وصدر البيت يضرب مثلا لمن ذهب من ماله شيء ثم ذهب بعده ما هو أجل منه. ولهذا البيت مناسبة ذكرها ابن منظور في اللسان نقلا عن ابن الأثير وانظر اللسان : «ح ج ر» ٧٨٣ وديوانه (٩٤) والهمع ٢ / ٩٢ والبحر المحيط ٧ / ٢٣٠ ومغني اللبيب ١٥٠ وتوضيح المقاصد ٢ / ٢١٩ ، والدر المصون ٤ / ٣٨٦ والارتشاف ٧٣.

٥٥٢

وقد تقدم ذلك مشبعا في النّحل في قوله : (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ)(١) ، وفي قوله : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) [مريم : ٢٥] (وقوله) (٢) : (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ) [القصص : ٣٢].

قوله : «وتخفي» فيه أوجه :

أحدها : أنه معطوف على «تقول» أي وإذ تجمع بين قولك كذا وإخفاء كذا وخشية الناس (٣) قاله الزمخشري.

الثاني : أنها واو الحال أي تقول كذا في هذه الحالة. قاله الزمخشري أيضا (٤) ، وفيه نظر حيث إنه مضارع مثبت فكيف تباشره الواو؟ وتخريجه كتخري ج «قمت وأصك عينه» أعني على إضمار مبتدأ.

الثالث : أنه مستأنف قاله الحوفي (٥) ، وقوله : (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) تقدم مثله في براءة(٦).

فصل

قال المفسرون إن الآية نزلت في زينب بنت جحش ، وذلك أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لما زوج «زينب» من «زيد» مكثت عنده حينا ثم إن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أتى زيدا ذات يوم لحاجة فأبصر زينب قائمة في درع وخمار ، وكانت بيضاء وجميلة ذات خلق من أتمّ نساء قريش فوقعت في نفسه ، وأعجبه حسنها فقال : سبحان (٧) الله مقلّب القلوب وانصرف فلما جاء زيد ذكرت ذلك له ، ففطن زيد فألقي في نفس زيد كراهتها في الوقت فأتى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : إن أريد أن أفارق صاحبتي قال : ما لك أرابك (٨) منها شيء قال : لا والله يا رسول الله ما رأيت منها إلا خيرا ، ولكنها تتعظم عليّ لشرفها وتؤذيني بلسانها. فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أمسك عليك زوجك يعني زينب بنت جحش واتّق الله في أمرها ثم طلّقها زيد ، فذلك قوله عزوجل : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ) بالإسلام وأنعمت عليه بالإعتاق وهو زيد بن حارثة (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ) فيها ولا تفارقها (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) أي تسرّ في نفسك ما الله مظهره أي كان في قلبه لو فارقها تزوجها. وقال ابن عباس (٩) : حبها ، وقال قتادة : ودّ أنه لو طلقها (١٠)(وَتَخْشَى النَّاسَ) قال ابن عباس والحسن (١١) : تستحييهم ، وقيل : تخاف لائمة (١٢) الناس أن يقولوا

__________________

(١) من الآية ٥٧ منها.

(٢) زياد يتم بها الكلام.

(٣) الكشاف ٣ / ٢١٣ قال : كأنه قيل : وإذ تجمع بين قولك أمسك وإخفاء خلافه وخشية الناس والله أحق أن تخشاه حتى لا تفعل مثل ذلك.

(٤) المرجع السابق.

(٥) ذكره أبو حيان في البحر ٧ / ٢٣٥.

(٦) يشير إلى قوله : «أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ» من الآية ١٣.

(٧) وهذا هو رأي مقاتل ، انظر : تفسير القرطبي ١٤ / ١٩٠.

(٨) في «ب» ما رأيك منها شيء.

(٩) المرجع السابق.

(١٠) وهذا رأي مقاتل وابن جريج أيضا ، انظر : زاد المسير ٦ / ٣٨٧.

(١١) قاله الإمام القرطبي في تفسيره ١٤ / ١٩٠.

(١٢) نقله ابن الجوزي في الزاد المرجع السابق.

٥٥٣

أمر رجلا بطلاق امرأته ثم نكحها ، (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ) يخشاه». قال عمر وابن مسعود وعائشة : ما نزلت على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ آية هي أشد عليه من هذه (الآية (١)). وروي عن مسروق قال : قالت عائشة : لو كتم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ شيئا ممّا أوحي إليه لكتم هذه (٢) الآية : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) وروي عن سفيان بن عيينة عن عليّ بن جدعان قال : سألني عليّ بن الحسين زين العابدين ما يقول الحسن في قوله : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) قال : قلت : (تقول (٣)) : لمّا جاء زيد إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال له : يا نبي الله إني أريد أن أطلق زينب فأعجبه ذلك قال : أمسك عليك زوجك واتق الله فقال علي بن الحسين ليس كذلك كان الله قد أعلمه أنها ستكون من أزواجه وأن زيدا سيطلقها فلما جاء زيد قال : أريد أن أطلقها قال له : أمسك عليك زوجك فعاتبه الله وقال : لم قلت : أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك وهذا هو (٤) الأولى والأليق بحال الأنبياء وهو مطابق للتلاوة لأن الله تعالى أعلم أنه يبدي ويظهر ما أخفاه ولم يظهر غير تزويجها منه فقال : (زَوَّجْناكَها) فلو كان الذي أضمره رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ محبتها أو إرادة طلاقها لكان يظهر ذلك لأنه لا يجوز أنه يخبر أنه يظهره ثم يكتمه فلا يظهره فدل على أنه إنما عوتب على إخفاء ما أعلمه الله أنها ستكون زوجة له ، وإنما أخفاه استحياء أن يقول لزيد : إن الذي تحتك في نكاحك ستكون امرأتي وهذا حسن (٥) وإن كان الآخر وهو أنه أخفى محبتها أو نكاحها لو طلقها لا يقدح في حال الأنبياء ؛ لأن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه من مثل هذه الأشياء ما لم يقصد فيه المأثم ؛ لأن الودّ وميل النفس من طبع البشر ، وقوله : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ) أمر بالمعروف وهو خشية الإثم فيه وقوله : (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ (٦) تَخْشاهُ) لم يرد به أنه لم يكن يخشى الله فيما سبق فإنه عليه (الصلاة (٦) و) السلام قد قال : «أنا أخشاكم لله وأتقاكم له» (٧) ولكن المعنى الله أحقّ أن تخشاه وحده ، ولا تخشى أحدا معه وأنت تخشاه وتخشى الناس أيضا ، فلما ذكر الخشية من الناس ذكر أن الله أحق بالخشية في عموم الأحوال وفي جميع الأشياء (٨).

قوله : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها) ، «وطرا» مفعول «قضى» ، والوطر الشهوة والمحبة (٩) قاله المبرد وأنشد :

__________________

(١) سقط من «ب» وانظر المرجع السابق.

(٢) السابق.

(٣) سقط من «ب».

(٤) قال القرطبي بعد إيراده هذا الأثر : «وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسّرين والعلماء الراسخين كالزهري ، والقاضي أبو بكر بن العلاء القشيري والقاضي أبو بكر بن العربي وغيرهم». انظر : تفسير الجامع «١٤ / ١٩١».

(٥) نقله ابن الجوزي في تفسيره ٦ / ٣٩٠ وهذا رأي الثعلبي والواحديّ.

(٦) زيادة من «ب».

(٧) الحديث رواه الإمام مالك في الموطأ عن عائشة انظر : الموطأ ١٩٣ و ١٩٤.

(٨) نقله ابن الجوزي ٦ / ٣٨٨.

(٩) في البحر ٧ / ٢١١.

٥٥٤

٤٠٩٢ ـ وكيف ثوائي بالمدينة بعد ما

قضى وطرا منها جميل بن معمر (١)

وقال أبو عبيدة : الوطر : الأرب والحاجة ، وأنشد الربيع بن ضبع الفزاريّ :

٤٠٩٣ ـ ودّعنا قبل أن نودّعه

لمّا قضى من شبابنا وطرا (٢)

وقرأ العامة : «زوّجناكها» ، وقرأ علي وابناه الحسنان ـ رضي الله عنهم ، وأرضاهم ـ «زوّجتكها» (٣) ، بتاء المتكلم و «لكيلا» متعلق «بزوجناكها». وهي هنا ناصبة فقط لدخول الجار عليها (٤). واتصل الضميران بالفعل ، لاختلافهما رتبة.

فصل

المعنى فلما قضى زيد منها حاجة (٥) من نكاحها زوجناكها ، وذكر قضاء الوطر ليعلم أن زوجة المتبنّى تحلّ بعد الدخول بها إذا طلقت وانقضت عدتها ؛ لأن الزوجة ما دامت في نكاح الزوج فهي تدفع حاجته وهو محتاج إليها فلم يقض منها الوطر بالكلية ولم يستغن عنها ، وكذلك إذا كانت في العدة له بها تعلق لأجل شغل الرحم فلم يقض منها بعد وطر ، فإذا طلقت وانقضت عدتها استغنى عنها ولم يبق له معها تعلق فقضى منها الوطر (٦). قال أنس : كانت زينب تفتخر على أزواج النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ زوّجكنّ أهاليكنّ ، وزوّجني الله من فوق سبع سماوات ، وقال الشعبيّ : كانت زينب تقول للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إني لأدلّ عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدلّ بهن ، جدّي وجدّك واحد ، وإني أنكحنيك الله في السّماء وإنّ السفير لجبريل (٧).

قوله : (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ) إثم (فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) فالأدعياء جمع أدعى وهو المتبنّى بخلاف امرأة ابن الصلب لا تحل للأب (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) أي قضاء الله ماضيا وحكمه نافذا ، وقد قضى في زينب أن يتزوجها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

__________________

(١) البيت من الطويل وقائله مجهول. وانظر مجمع البيان ٧ / ٥٦٢ وفتح القدير ٤ / ٢٨٤ والكامل للمبرد ٢ / ٥٠ ، والبحر المحيط ٧ / ٢٠٩ و ٢١١ ، والدر المصون ٤ / ٣٩٠ والقرطبي ١٤ / ١٩٤.

(٢) من المنسرح وهو للربيع بن ضبع الفزاري. انظر : مجاز القرآن ٢ / ١٣٨ ونوادر أبي زيد ٤٤٦ وفتح القدير ٤ / ٢٨٤ والمحتسب ١ / ١٦٧ والطبري ٢٢ / ١١ والبحر المحيط ٧ / ٢٠٩ والدر المصون ٤ / ٣٩٠ والمغني ٦٨٩ وقد روي :

فارقنا قبل أن نفارقه

لمّا قضى من جماعتنا وطرا

(٣) من القراءات الشاذة غير المتواترة وانظر : مختصر ابن خالويه ١١٩ و ١٢٠ والقرطبي ١٤ / ١٩٤.

(٤) هذا هو القسم الثالث من أقسام «كي» وهو أن تجيء بمنزلة «أن» المصدرية معنى وعملا وذلك إذا وقعت بعد اللام وليس بعدها «أن».

(٥) في «ب» حاجته.

(٦) قاله الإمام الفخر في تفسيره ٢٥ / ٢١٢.

(٧) قاله القرطبي في تفسيره ١٤ / ١٩٥.

٥٥٥

قوله : (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) أي فيما أحل الله له.

قوله : (سُنَّةَ اللهِ) منصوب على المصدر (١) ك (صُنْعَ اللهِ) [النمل : ٨٨] و (وَعْدَ اللهِ) [الزمر : ٢٠] أو اسم وضع موضع (٢) المصدر أو منصوب «بجعل» أبو بالإغراء أي فعليه سنة الله ، قاله (٣) ابن عطية ورده أبو حيان بأن عامل الإغراء لا يحذف ، وبأن فيه إغراء الغائب وما ورد منه مؤول على ندوره نحو : «عليه رجلا ليسني» (٤). قال شهاب الدين : وقد (٥) ورد قوله عليه‌السلام : «وإلا فعليه بالصوم» (٦) فقيل : هو إغراء ، وقيل : ليس به وإنما هو مبتدأ وخبر ، والباء زائدة في المبتدأ وهو تخريج فاسد المعنى ، لأن الصوم ليس واجبا على ذلك. وقال البغوي : نصب (٧) بنزع الخافض أي كسنّة الله.

فصل

المراد بسنة الله في الذين خلوا من قبل أي في الأنبياء الماضين أن لا يؤاخذهم بما أحل لهم ، قال الكلبي ومقاتل (٨) : أراد داود حين جمع بينه وبين المرأة التي هويها فكذلك جمع بين محمد وبين زينب ، وقيل : أراد بالسنة النكاح ، فإنه من سنة الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) مقضيّا كائنا ماضيا. واعلم أن في قوله أولا : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) ، وقوله ثانيا : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) لطيفة وهي أن الله تعالى لما قال : (زَوَّجْناكَها) قال : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) ، أي تزويجنا زينب إياك كان مقصودا شرعيا مقضيّا مراعى ، ولما قال : (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا) أشار إلى قصة داود حين افتتن بامرأة «أوريا» قال : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) أي كان ذلك حكما تبعيا (٩).

قوله : (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ) يجوز أن يكون تابع ا «للذين خلوا» وأن يكون مقطوعا عنه رفعا ونصبا على إضمار : «هم» أو أعني ، أو أمدح (١٠).

__________________

(١) قاله في المشكل ٢ / ١٩٨ والسمين في الدر ٤ / ٣٩١.

(٢) قاله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٦٤.

(٣) ذكره أبو حيان في البحر ٧ / ٢٣٦.

(٤) المرجع السابق ويقصد أبو حيان أن الإغراء لا يكون إلا للمخاطب وأما ما ورد من قولهم : «عليه رجلا» فمؤول أي ليلزم رجلا غيري. انظر : ابن يعيش ٢ / ٢٩ ، والأشموني ٣ / ١٩٢ والتصريح ٢ / ١٩٥.

(٥) الدر المصون ٤ / ٣٩١.

(٦) أورده الإمام البخاري في صحيحه كتاب النكاح ٢ / ١٥٨.

(٧) قاله في معالم التنزيل ٥ / ٢٦٤ وقال : «وقيل نصب على الإغراء».

(٨) المرجع السابق. وانظر : زاد المسير ٦ / ٣٩٢.

(٩) انظر : تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ٢١٣.

(١٠) انظر : التبيان ١٠٥٧ والدر المصون ٤ / ٣٩١ والكشاف ٣ / ٢٦٤.

٥٥٦

فصل

المعنى إنّ الذين يبلغون رسالات الله كانوا أيضا رسلا مثلك ، ثم ذكر حالهم بأنهم جرّبوا الخشية ووجدوها فيخشون الله ولا يخشون أحدا سواه فصار كقوله : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) ولا يخشى قالة الناس فإنهم ليسوا بمتهمين فيما أحل الله لهم وفرض عليهم ، (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) حافظا لأعمال خلقه ومحاسبتهم فلا يخشى غيره.

قوله : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) لما تزوج النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ زينب قال الناس : إن محمدا تزوج امرأة ابنه فأنزل الله ـ عزوجل (١) ـ (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) يعني زيد بن حارثة أي ليس أبا أحد من رجالكم الذين لم يلده فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إياها. فإن قيل : أليس أنه كان له أبناء القاسم والمطهر ، وإبراهيم ، والطّيّب ، وكذلك الحسن ، الحسين ، قال ـ عليه (الصلاة (٢) و) السلام ـ : «إن ابني هذا سيد؟».

فالجواب : هؤلاء كانوا صغارا ولم يكونوا رجالا ، والصحيح أنه أراد أبا أحد من رجالكم الذي لم يلده (٣).

قوله : (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ) العامة على تخفيف «لكن» ونصب «رسول» ، ونصبه إما على إضمار «كان» لدلالة «كان» السابقة عليها ، أي ولكن كان (٤) ، وإما بالعطف على (٥)(أَبا أَحَدٍ) : والأول أليق ؛ لأن «لكن» ليست عاطفة لأجل الواو ، فالأليق بها أن تدخل على الجمل «كبل» التي ليست عاطفة (٦). وقرأ أبو عمرو ـ في رواية ـ بتشديدها (٧) ، على أن (رَسُولَ اللهِ) اسمها وخبرها محذوف للدلالة ، أي ولكن رسول الله هو أي محمد ، وحذف خبرها سائغ وأنشد :

٤٠٩٤ ـ فلو كنت ضبّيّا عرفت قرابتي

ولكنّ زنجيّا عظيم المشافر (٨)

__________________

(١) قاله القرطبي في الجامع الكبير ١٤ / ١٩٦ وابن الجوزي في الزاد ٦ / ٣٩٣.

(٢) زيادة من «ب».

(٣) قاله القرطبي في المرجع السابق وانظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٢٢٩ و ٢٣٠ والخازن ٥ / ٢٦٤ و ٣٦٥ والبغوي ٥ / ٢٦٤ و ٢٦٥ وفيه «الذين لم يلدهم» بلفظ الجمع.

(٤) هذا رأي أبي الحسن الأخفش فقد قال في المعاني ٢ / ٦٦٠ : «أي ولكن كان رسول الله» واستحسن رأيه ابن الأنباري في غريب إعراب القرآن ٢ / ٢٧٠ وانظر : الدر للسمين ٤ / ٣٩١ وإعراب القرآن للزجاج ٤ / ٢٣٠ والتبيان ١٠٥٨ ومعاني الفراء ٢ / ٣٤٤.

(٥) قاله أبو حيان في البحر ٧ / ٢٣٦ والسمين في الدر ٤ / ٣٩١.

(٦) المرجع السابق.

(٧) مختصر ابن خالويه ١٢٠ والمحتسب ٢ / ١٨١ وهي من الشّواذّ.

(٨) البيت من الطويل يهجو به رجلا من «ضبة» وهو للفرزدق والمشافر جمع مشفر وهو من البعير كالشفة ـ

٥٥٧

أي أنت ، وهذا البيت يروونه أيضا «ولكن زنجيّ» بالرفع ، شاهدا على حذف اسمها ، أي «ولكنك». وقرأ زيد بن علي ، وابن أبي عبلة بتخفيفها (١) ورفع «رسول» على الابتداء ، والخبر مقدر أي هو ، أو بالعكس أي ولكن هو رسول كقوله :

٤٠٩٥ ـ ولست الشّاعر السّفساف فيهم

ولكن مدره الحرب العوان (٢)

أي ولكن أنا مدره.

قوله : (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) قرأ عاصم بفتح التاء (٣) والباقون بكسرها ، فالفتح اسم للآلة التي يختم (٤) بها كالطّابع والقالب ، لما يطبع به ، ويقلب فيه هذا هو المشهور ، وذكر أبو البقاء فيه أوجها أخر منها أنه في معنى المصدر قال : كذا (٥) ذكر في بعض الأعاريب ، قال شهاب الدين : وهو غلط (٦) محض كيف وهو محوج (٧) إلى تجوّز أو إضمار ، ولو حكى هذا في خاتم ـ بالكسر ـ لكان أقرب ، لأن قد يجيء المصدر على فاعل وفاعلة وسيأتي ذلك قريبا ، ومنها أنه اسم بمعنى (٨) «آخر» ومنها أنه فعل ماض مثل «قاتل» فيكون «النّبيّين» مفعولا به ، قال شهاب الدين : ويؤيد هذا قراءة عبد الله المتقدمة (٩). وقال بعضهم هو بمعنى المفتوح يعني بمعنى آخرهم لأنه قد ختم النبيين فهو خاتم (١٠).

فصل

قال ابن عباس : يريد لو لم أختم به النبيين لجعلت له ابنا (١١) يكون من بعده نبيّا ، وروى عطاء عن ابن عباس : أن الله تعالى لما حكم أنه لا نبي بعده لم يعطه ولدا ذكرا

__________________

ـ للإنسان وشاهده : ولكنّ زنجيا ، حيث حذف خبر «لكن» أي «لا يعرف قرابتي» ، وإذا رفع زنجيّ فإن المحذوف هو الاسم ، والبيت لا يوجد بديوان الفرزدق وانظر : الكتاب ٢ / ١٣٦ والبحر ٧ / ٢٣٦ ، والإفصاح ٢١٣ والمحتسب ٢ / ١٨٢ والإنصاف ١٨٢ وأسرار البلاغة ١٢٩ وابن يعيش ٨ / ٨١ والهمع ١ / ١٣٦ ومجالس ثعلب ١٠٥ ، وأمالي السهيلي ١١٦ ، وتمهيد القواعد ٢ / ١١٧ ، واللسان «شفر» والمقرب ١ / ١٠٨ ، والمغني ٢٩١ وشرح شواهده للسيوطي ٧٠١ والمنصف ٣ / ١٢٩ وقد وجد بديوانه بلفظ «مشافره».

(١) ذكر تلك القراءة الشاذة ابن خالويه في المختصر ١٢٠ وانظر : معاني الفراء ٢ / ٣٤٤ والبحر المحيط ٧ / ٢٣٦ والأخفش في معانيه ٦٦٠.

(٢) البيت من تمام الوافر وهو مجهول القائل. وقد تقدم.

(٣) الحجة لابن خالويه ٢٩٠ والنشر ٢ / ٣٤٨ وتقريبه ١٦١ والسبعة ٥٢٤ والإتحاف ٣٥٥.

(٤) انظر : اللسان : «خ ت م» ١١٠١.

(٥) التبيان ١٠٥٨.

(٦) الدر المصون ٤ / ٣٩٢.

(٧) وفيه : «يحوج» بالمضارعة.

(٨) المرجعان السابقان.

(٩) لم يذكر المؤلف تقدما لتلك القراءة وهي : «وختم النّبييّن» بلفظ الماضي وهي قراءة ابن مسعود ومن حذا حذوه ، وانظر : مختصر ابن خالويه ١٢٠ ومعاني الفراء ٢ / ٢٤٤.

(١٠) المرجعان السابقان.

(١١) نقله في زاد المسير ٦ / ٣٩٣.

٥٥٨

يصير رجلا (١) ، وقيل : من لا نبي بعده يكون أشفق على أمته وأهدى لهم إذ هو كالوالد لولد ليس له غيره (٢). (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) أي علمه بكل شيء دخل فيه أن لا نبي بعده ، فعلم أن من الحكمة إكمال شرع محمد عليه (الصلاة (٣) و) السلام أن زوجه بزوجة (٤) دعيّه تكميلا للشرع ، وذلك من حيث إنّ قول النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يفيد شرعا لكن إذا امتنع هو عنه يفيد في بعض النفوس نفرة ، ألا ترى أنه ذكر بقوله ما فهم منه حلّ أكل الضّبّ ، ثم لما لم يأكله بقي في النفوس شيء ، ولما أكل لحم الجمل طاب أكله ، مع أنه في بعض الملل لا يؤكل وكذلك الأرنب (٥) ، روى أبو هريرة أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحكم بنيانه ترك منه موضع لبنة فطاف به النّظّار يتعجّبون من حسن بنائه إلّا موضع تلك اللّبنة لا يجيبون سواها فكنت أنا موضع تلك اللّبنة ختم به البنيان ، وختم بي الرّشد» (٦) ، وقال ـ عليه (الصلاة (٧) و) السلام : «إنّ لي (٨) أسماء أنا محمّد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الّذي يحشر الله النّاس على قدمي وأنا العاقب» والعاقب الّذي ليس بعده شيء.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً)(٤٨)

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) قال ابن عباس (٩) : لم يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها حدّا معلوما ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر فإنه لم

__________________

(١) ذكره الخازن والبغوي في تفسيريهما ٥ / ٢٦٥.

(٢) ذكره الفخر الرازي ٢٥ / ٢١٤.

(٣) زيادة من «ب».

(٤) في «ب» بزوجته وما هنا هو الموافق لتفسير الرازي.

(٥) قاله الإمام الرازي في التفسير الكبير ٢٥ / ٢١٤.

(٦) الحديث رواه الإمام السيوطي في كتابه : «جامع الأحاديث» عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

وانظر كذلك مجمع البيان للطبرسي ٨ / ٥٦٧.

(٧) زيادة من «ب».

(٨) الحديث رواه جابر بن مطعم عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولقد أورده الإمام البخاري في صحيحه ٣ / ٢٠١.

والإمام مالك في الموطأ رقم «١» من أسماء النبي وأورده أحمد في مسنده ٤ / ٨٠ و ٨١ و ٨٤.

(٩) تفسير البغوي ٥ / ٢٦٥ و ٢٦٦.

٥٥٩

يجعل له حدا ينتهي إليه ولم يعذر أهله في تركه إلا مغلوبا على عقله وأمرهم به في الأحوال كلها ، فقال : (فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) [النساء : ١٠٣] وقال : (اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) أي بالليل والنهار ، والبرّ والبحر والصحة والسّقم في السر والعلانية وقال مجاهد : الذكر الكثير أن لا ينساه (١) أبدا (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي صلوا له بكرة يعني صلاة الصبح و «أصيلا» يعني صلاة العصر ، وقال الكلبي : «وأصيلا» صلاة الظهر والعصر والعشاء ، وقال مجاهد معناه : قولوا : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله فعبر بالتسبيح عن أخواته ، وقيل : المراد من قوله : (ذِكْراً كَثِيراً) هذه الكلمات يقولها الطاهر والخبيث والمحدث (٢).

قوله : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) الصلاة من الله الرحمة ، ومن الملائكة الاستغفار للمؤمنين فذكر صلاته تحريضا للمؤمنين على الذكر (٣) والتسبيح ، قال السدي : قالت (٤) بنو إسرائيل لموسى : أيصلي ربنا؟ فكبر هذا الكلام على موسى فأوحى الله إليه قل لهم : إنّي أصلي وإن صلاتي رحمتي وقد وسعت رحمتي كلّ شيء. وقيل : الصلاة من الله هي إشاعة الذكر الجميل له في عباده ، وقيل : الثناء عليه. قال أنس : لما نزلت إن الله وملائكته يصلون على النبي قال أبو بكر : ما خصّك الله يا رسول الله بشرف إلا وقد أشركنا فيه فأنزل الله عزوجل هذه (٥) الآية.

قوله : (وَمَلائِكَتُهُ) إما عطف على فاعل «يصلي» ، وأغنى الفصل بالجار عن التأكيد بالضمير (٦) ، وهذا عند من يرى الاشتراك أو القدر المشترك أو المجاز (٧) ؛ لأن صلاة الله غير صلاتهم. وإما مبتدأ وخبره محذوف ، أي (وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ) وهذا عند من يرى شيئا مما تقدم جائزا إلا أن فيه بحثا ، وهو أنهم نصوا على أنه إذا اختلف مدلولا الخبرين فلا يجوز حذف أحدهما لدلالة الآخر عليه وإن كانا بلفظ واحد ، فلا تقول : «زيد ضارب وعمرو» يعني وعمرو ضارب في الأرض أي مسافر(٨).

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) ذكرت هذه الآراء في زاد المسير لابن الجوزي ٦ / ٣٩٨ ومعالم التنزيل للبغوي ٥ / ٢٦٦.

(٣) قاله الإمام الفخر الرازي في تفسيره ٢٥ / ٢١٥.

(٤) ذكر الخازن والبغوي في تفسيريهما هذه الأقوال ٥ / ٢٦٦ وانظر : القرطبي ١٤ / ١٩٨.

(٥) معالم التنزيل للبغوي المرجع السابق ٥ / ٢٦٦.

(٦) حيث إن من شرط العطف على الضمير المرفوع المنفصل بظاهر أن يؤكد هذا الضمير بضمير مثله كقوله تعالى : «اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ».

(٧) قال الزمخشري : «جعلوا لكونهم مستجابي الدعوة كأنهم فاعلون الرحمة والرأفة» فكأنه يرى صحة العطف وانظر الدر المصون ٤ / ٢٩٣.

(٨) يعني لأن الصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار فقد اختلف المعنيان وإن كانا بلفظ واحد.

وانظر الدر المصون للسمين ٤ / ٢٩٣٩.

٥٦٠