اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦١٥

الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً)(٢٧)

قوله : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) المثبّطين الناس عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا) ارجعوا إلينا ودعوا محمدا فلا تشهدوا معه الحرب فإنا نخاف عليكم الهلاك ، قال قتادة : هم ناس من المنافقين كانوا يثبّطون أنصار النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويقولون لإخوانهم : إن محمدا وأصحابه لو كانوا (لحما (١) لالتهمهم (٢)) أبو سفيان وأصحابه دعوا الرجل فإنه هالك. وقال مقاتل (٣) : نزلت في المنافقين فإنّ اليهود أرسلوا إلى المنافقين قالوا ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان ومن معه فإنهم إن قدروا عليكم في هذه المرة لم يستبقوا منكم أحدا وإنّا نشفق عليكم أنتم إخواننا وجيراننا هلمّ إلينا فأقبل عبد الله بن أبيّ وأصحابه على المؤمنين يعوّقونهم ويخوّفونهم بأبي سفيان وبمن معه قالوا : لئن قدروا عليكم لم يستبقوا منكم أحدا ما ترجون من محمد ، ما عنده خير ما هو إلا أن يقتلنا (٤) ههنا انطلقوا بنا إلى إخواننا يعني اليهود فلم يزدد المؤمنون بقول المنافقين إلا إيمانا واحتسابا.

قوله : «هلمّ» (تقدّم (٥)) الكلام فيه آخر الأنعام (٦). وهو هنا لازم ، وهناك متعدّ لنصبه مفعوله وهو «شهداءكم» بمعنى أحضروهم ، وههنا بمعنى «احضروا» وتعالوا ، وكلام الزمخشري (٧) هنا مؤذن بأنه متعد أيضا وحذف مفعوله ، فإنه قال : «وهلموا إلينا» أي قربوا أنفسكم إلينا (قال (٨)) : «وهي (٩) صوت سمي به فعل متعد مثل : احضر وقرّب» ، وفي تسميته إياه صوتا (١٠) نظر إذ أسماء الأصوات محصورة ليس هذا منها. ولا يجمع في لغة الحجاز ويجمع في غيرها فيقال للجماعة : هلمّوا وللنساء هلممن.

قوله : (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ) الحرب (إِلَّا قَلِيلاً) رياء وسمعة أي لا يقاتلون معكم ويتعللون عن الاشتغال (١١) بالقتال وقت الحضور معكم ولو كان ذلك القليل لكان كثيرا (١٢).

__________________

(١) ساقط من «ب».

(٢) في القرطبي ١٤ / ١٥٢ «ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس».

(٣) حكاه في زاد المسير ٦ / ٣٦٤.

(٤) في «ب» إلا أن يقتل.

(٥) ساقط من «ب».

(٦) يقصد الآية ١٥٠ من سورة الأنعام ، وهي قوله : «قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا».

(٧) الكشاف ٣ / ٢٥٥.

(٨) ساقط من «ب».

(٩) في الكشاف «وهو».

(١٠) ذكره في الدر المصون ٤ / ٣٧٣.

(١١) في «ب» بالاشتغال.

(١٢) في «ب» ولو كان ذي القائل لله لكان خيرا كثيرا.

٥٢١

قوله : «أشحّة» العامة على نصبه وفيه وجهان :

أحدهما : أنه منصوب على الشّتم (١).

والثاني : على الحال وفي العامل فيه أوجه :

أحدها : (وَلا يَأْتُونَ) قاله الزجاج (٢).

الثاني : (هَلُمَّ إِلَيْنا). قاله الطبري (٣).

الثالث : «يعوقون» مضمرا ، قاله الفراء (٤).

الرابع : «المعوّقين» (٥).

الخامس : «القائلين» (٦) ورد هذان الوجهان الأخيران بأن فيهما الفصل بين أبعاض الصلة بأجنبي ، وفي الرد نظر لأن الفاصل بين أبعاض الصلة من متعلقاتها ، وإنما يظهر الرد على الوجه الرابع لأنه قد عطف على الموصول (٧) قبل تمام صلته فتأمله فإنه حسن وأما (وَلا يَأْتُونَ) فمعترض والمعترض لا يمنع من (٨) ذلك. وقرأ ابن أبي عبلة أشحّة (٩) بالرفع على خبر ابتداء مضمر أي هم أشحة وأشحة جمع «شحيح» وهو جمع لا ينقاس ؛ إذ قياس «فعيل» الوصف الذي عينه ولامه من واد (١٠) واحد أن يجمع على أفعلاء نحو خليل وأخلّاء وظنين وأظنّاء ، وضنين وأضنّاء ، وقد سمع أشحّاء وهو القياس (١١). والشّحّ البخل ، وقد تقدم في آل عمران (١٢).

فصل

المعنى أشحة عليكم بخلاء بالنفقة في سبيل الله والنصرة ، وقال قتادة (١٣) بخلاء عند الغنيمة وصفهم الله بالبخل والجبن فقال : (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ) في الرؤوس من الخوف والجبن (كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي

__________________

(١) في «ب» على القسم بدل الشتم وهو تحريف وانظر : الدر المصون ٤ / ٣٧٣ والبيان ٢ / ٢٦٦.

(٢) انظر : معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٢٢٠ وهو قول أبي البقاء في التبيان ١٠٥٤ والنحاس في إعراب القرآن ٣ / ٣٠٨ وانظر البيان ٢ / ٢٦٦ ومشكل القرآن لمكي ٢ / ١٩٥.

(٣) الطبري ٢١ / ٨٩ في جامع البيان.

(٤) معاني القرآن للفراء ٢ / ٣٣٨.

(٥ و ٦) قالهما أبو حيان في البحر ٧ / ٢٢٠ وكذلك السمين في الدر ٤ / ٣٧٣.

(٧) قاله شهاب الدين في الدر المصون ٤ / ٣٧٣.

(٨) المرجع السابق.

(٩) شواذ القرآن ١٩٣ والبحر ٢٢٠٧ والكشاف ٣ / ٣٥٥.

(١٠) في «ب» من مادة واحدة.

(١١) نقله السمين في الدر ٤ / ٣٧٤.

(١٢) انظر : اللباب ١ / ٣٤٣ ب.

(١٣) انظر : القرطبي ١٤ / ١٥٢.

٥٢٢

كدوران عين الذين يغشى عليه من الموت وذلك أن من قرب من الموت وغشيته أسبابه يذهب عقله ويشخص بصره فلا يطرف ، واعلم أن البخل شبيه الجبن فلما ذكر البخيل بين سببه وهو الجبن لأن الجبان يبخل بماله ولا ينفقه في سبيل الله لأنه لا يتوقع الظفر فلا يرجو الغنيمة فيقول هذا إنفاق لا بدل(١) له فيتوقف فيه ، وأما الشجاع فيتيقن (٢) الظفر والاغتنام فيهون عليه إخراج المال في القتال طمعا فيما هو أضعاف ذلك (٣).

قوله : (يَنْظُرُونَ) في محل (نصب (٤)) حال من مفعول «رأيتهم» لأن الرؤية بصرية (٥).

قوله : «تدور» إما حال (٦) ثانية وإما حال من «ينظرون» (٧)(كَالَّذِي يُغْشى) يجوز فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون حالا من : «أعينهم» أي تدور أعينهم حال كونها مشبهة عين الذي يغشى عليه من الموت (٨).

الثاني : أنه نعت مصدر مقدر لقوله «ينظرون» تقديره : ينظرون إليك نظرا مثل نظر الذي (٩) يغشى عليه من الموت ويؤيده (١٠) الآية الأخرى : (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) [محمد : ٢٠] المعنى يحسبون أي هؤلاء المنافقون يحسبون الأحزاب يعني قريشا وغطفان واليهود (لَمْ يَذْهَبُوا) لم ينصرفوا عن قتالهم من غاية الجبن عند ذهابهم كأنهم غائبون حيث لا يقاتلون كقوله : (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) أي يرجعون إليهم للقتال بعد الذهاب(١١)(يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) من الخوف والجبن.

(قوله) (١٢) : «بادون» هذه قراءة العامة جمع «باد» وهو المقيم بالبادية يقال : بدا يبدو بداوة إذا خرج إلى البادية (١٣) ، وقرأ عبد الله وابن عباس (١٤) وطلحة وابن يعمر بدّى

__________________

(١) في «ب» لا بد له.

(٢) في «ب» متيقن.

(٣) ذكره في التفسير الكبير ٢٥ / ٢٠١ و ٢٠٢.

(٤) ساقطة من «أ».

(٥) حكاه أبو البقاء في التبيان ١٠٥٤ والبيان ٢ / ٢٦٦ والدر المصون ٤ / ٣٧٤.

(٦) ذكره ابن الأنباري في البيان المرجع السابق والسمين في الدر المرجع السابق.

(٧) البيان لأبي البقاء ١٠٥٤ وانظر المرجعين السابقين.

(٨) هذا رأي أبي البقاء في التبيان ٢ / ١٠٥٤ والدر المصون ٤ / ٣٧٤.

(٩) البحر المحيط ٧ / ٢٢٠ والدر المصون ٤ / ٣٧٤.

(١٠) في «ب» وأيده.

(١١) انظر : الجامع لأحكام القرآن ١٤ / ١٥٤.

(١٢) زيادة من «ب».

(١٣) قال في اللسان ٢٣٥ : «تبدّى الرّجل : أقام بالبادية ، وتبادى : تشبّه بأهل البادية.

(١٤) هو ابن مصرف وقد سبق التعريف به.

٥٢٣

ـ بضم الباء وفتح الدال مشدّدة ـ مقصورا (١) كغاز وغزّى ، وسار وسرّى. وليس بقياس ، وإنما قياسه في باد وبداة ، كقاض وقضاة ، ولكن حمل على الصحيح كقولهم : «ضرّب» (٢). وروي عن ابن عباس قراءة ثانية بزنة «عدّى» وثالثة : «بدوا» فعلا ماضيا(٣).

(قوله) (٤) : «يسألون» يجوز أن يكون مستأنفا (٥) ، وأن يكون حالا من فاعل «يحسبون(٦)» والعامة على سكون (٧) السين بعدها «همزة» ، ونقل ابن عطية عن أبي عمرو وعاصم بنقل حركة الهمزة إلى السين كقوله : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ) [البقرة : ٢١١]. وهذه ليست بالمشهورة عنهما ، ولعلها نقلت عنهما شاذة ، وإنما هي معروفة بالحسن والأعمش (٨) ، وقرأ زيد بن عليّ والجحدريّ وقتادة والحسن «يسّاءلون» بتشديد (٩) السين والأصل «يتساءلون» فأدغم ، أي يسأل بعضهم بعضا.

فصل

(يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) أخباركم ، وما آل إليه أمركم (وَلَوْ كانُوا) يعني هؤلاء المنافقين (فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً). أي يقاتلون قليلا يقيمون به عذرهم فيقولون : قد قاتلنا ، قال الكلبيّ: (إِلَّا قَلِيلاً) أي رميا بالحجارة. وقال مقاتل : إلّا رياء وسمعة من غير احتساب (١٠).

(قوله) تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) قرأ عاصم : «أسوة» بضم الهمزة حيث وقعت هذه اللفظة والباقون بكسرها (١١). وهما لغتان كالغدوة والغدوة (١٢) والقُدوة والقِدوة والأسوة بمعنى الاقتداء أي قدوة صالحة ، وهي اسم وضع موضع المصدر وهو «الايتساء» فالأسوة من الايتساء كالقدوة من الاقتداء ، وائتسى فلان بفلان أي اقتدى به (١٣) ، وأسوة اسم «كان» وفي الخبر وجهان :

__________________

(١) ذكرها في القرطبي ١٤ / ١٥٥ و ١٥٤ وهي من القراءات الشاذة غير المتواترة ، وقد ذكرها ابن خالويه في المختصر ١١٩ وقال : «بادون جمع سلامة وبدّى جمع تكسير» ثم قال : «ورويت عن ابن مسعود».

وانظر كذلك المحتسب لابن جني ٢ / ١٧٧ وشواذ القرآن ١٩٣.

(٢) قاله السمين في الدر المصون ٤ / ٣٧٥.

(٣) ذكرها أبو حيان في بحره ٧ / ٢٢١ وذكر الزمخشري القراءة الأولى في الكشاف ٣ / ٢٥٦.

(٤) ساقط من «أ» وزيادة من «ب».

(٥) ذكره السمين في الدر ٤ / ٣٧٥.

(٦) المرجع السابق والتّبيان ١٠٥٤.

(٧) فتكون «يسألون» وانظر البحر ٧ / ٢٢١.

(٨) المرجع السابق وانظر : معاني الفرّاء ٢ / ٣٣٩.

(٩) المرجعان السابقان والإتحاف ٣٥٤ والقرطبي ١٤ / ١٥٥ وهي قراءة يعقوب أيضا في رواية رويس.

(١٠) حكاهما القرطبي في المرجع السابق.

(١١) السبعة ٥٢٠ والإتحاف ٣٥٤ ومعاني الفراء ٢ / ٣٣٩.

(١٢) فالضم لقيس والحسن وأهل الحجاز يقرؤون إسوة ـ بالكسر ـ حكاه الفراء في معانيه ٢ / ٣٣٩.

(١٣) نقله السمين في الدر ٤ / ٣٧٦.

٥٢٤

أحدهما : هو «لكم» (١) فيجوز في الجار الآخر (٢) وجوه : التعلق بما يتعلق به الخبر (٣) ، أي بمحذوف على أنه حال من «أسوة» (٤) ؛ إذ لو تأخر لكان صفة أو «بكان» على مذهب من يراه(٥).

الثاني : أن الخبر هو : (فِي رَسُولِ اللهِ) و «لكم» على ما تقدم في (رَسُولِ اللهِ) أو يتعلق بمحذوف على التبيين أعني لكم (٦).

قوله : (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا) فيه أوجه :

أحدها : أنه بدل من الكاف في «لكم» قاله الزمخشري (٧) ، ومنعه أبو البقاء ، وتابعه أبو حيان ، قال أبو البقاء : وقيل : هو بدل من ضمير المخاطب بإعادة الجارّ ، ومنع منه الأكثرون ؛ لأن ضمير المخاطب لا يبدل منه (٨). وقال أبو حيان (٩) : قال الزمخشري بدل من «لكم» كقوله : (اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) [الأعراف : ٧٥]. قال : ولا يجوز على (١٠) مذهب جمهور البصريين أن يبدل من ضمير المتكلم ولا من ضمير المخاطب بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة وأجاز ذلك الكوفيون والأخفش وأنشد :

٤٠٧٧ ـ بكم قريش كفينا كلّ معضلة

وأمّ نهج الهدى من كان ضلّيلا (١١)

قال شهاب الدين : لا نسلم أن هذا بدل (١٢) شيء من شيء وهما لعين واحدة ، بل بدل بعض من كل باعتبار الواقع لأن الخطاب في قوله : «لكم» أعمّ من : «من كان يرجوا الله وغيره» ثم خصص ذلك العموم لأن المتأسّي به عليه (الصلاة (١٣) و) السلام في الواقع إنما هم المؤمنون ويدل عليه(١٤) ما قلته ظاهر تشبيه الزمخشري هذه الآية بآية الأعراف ، وآية الأعراف البدل فيها بدل كل من كل ومجاب (١٥) بأنه إنما قصد التشبيه في مجرد إعادة العامل.

__________________

(١) المرجع السابق وانظر كذلك التبيان ١٠٥٤.

(٢) وهو : «فِي رَسُولِ اللهِ».

(٣) وهو الاستقرار لا بأسوة.

(٤) قالهما السمين في الدر ٤ / ٣٧٦ وأبو البقاء في التبيان ١٠٥٥.

(٥) أي على مذهب من يرى أن كان وأخواتها تعمل في الخبر «جارّا وظرفا».

(٦) قالهما أبو حيان في البحر ٧ / ٢٢٢ وأبو البقاء في التبيان ١٠٥٥ والسمين في الدر ٤ / ٣٧٦.

(٧) انظر : الكشاف ٣ / ٢٥٦.

(٨) التبيان ١٠٥٥.

(٩) البحر المحيط ٧ / ٢٢٢.

(١٠) المرجع الأخير السابق.

(١١) البيت من بحر البسيط وهو مجهول قائله وشاهده في «بكم قريش» حيث أبدل «قريشا» من الكاف في «بكم» وعامة الجمهور لا يجيزه وأجازه الأخفش والكوفيون وعلى ذلك استشهدوا بهذا البيت. وقد تقدم.

(١٢) نقله شهاب الدين السمين في الدر ٤ / ٣٧٦ و ٣٧٧.

(١٣) زيادة من «ب».

(١٤) في الدر : «ويدلك».

(١٥) في «ب» والسمين «ويجاب» بلفظ الفعلية.

٥٢٥

والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة «لحسنة» (١).

والثالث : أن يتعلق بنفس «حسنة» قالهما (٢) أبو البقاء ، ومنع أن يتعلق بأسوة قال : لأنها قد(٣) وصفت و «كثيرا» أي ذكرا كثيرا (٤).

فصل

لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة أي قدوة صالحة أن تنصروا دين الله وتؤازروا الرسول ولا تتخلفوا عنه وتصبروا على ما يصيبكم كما فعل هو إذ كسرت رباعيّته ، وجرح وجهه وقتل عمه ، وأوذي بضروب من الأذى فواساكم مع ذلك بنفسه فافعلوا أنتم كذلك أيضا ، واستنوا بسنته (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) قال ابن عباس لمن كان (٥) يرجو ثواب الله. وقال مقاتل : يخشى الله واليوم الآخر (٦) أي يخشى يوم البعث الذي فيه جزاء الأعمال وذكر الله كثيرا في جميع المواطن على السراء والضراء ، ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب فقال : (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ) لما بين حال المنافقين ذكر حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب وهو أنهم لما رأوا الأحزاب قالوا تسليما لأمر الله وتصديقا بوعده وهو قولهم : (هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) ، وقولهم (وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) ليس بإشارة إلى (٧) ما وقع فإنهم كانوا يعرفون صدق الله قبل الوقوع وإنما هو إشارة إلى بشارة وهو أنهم قالوا : (هذا ما وَعَدَنَا اللهُ) وقد وقع صدق الله في جميع ما وعد فيقع الكل مثل فتح مكة وفتح الروم وفارس (وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) (عند وجوده (٨) ووعد الله إياهم ما ذكر في سورة البقرة : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) إلى قوله : (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) فالآية تتضمن أن المؤمنين يلحقهم مثل ذلك البلاء فلما) (رأوا الأحزاب وما أصابهم من الشدة قالوا (٩) : هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما) أي تصديقا لله وتسليما له.

قوله : (وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) من تكرير الظاهر تعظيما كقوله :

__________________

(١) قال ابن الأنباري في البيان «الجار والمجرور في موضع رفع لأنه صفة «لأسوة» وتقديره : أسوة حسنة كائنة لمن كان يرجو الله ولا يجوز أن يتعلق بنفس «أسوة» إذا جعل بمعنى التأسي لأن «أسوة» وصفت وإذا وصف المصدر لم يعمل فكذلك ما كان في معناه». وانظر : البيان ٢ / ٢٦٧.

(٢) في «ب» قاله وهو خطأ وانظر التبيان ١٠٥٥.

(٣) المرجع السابق وانظر : الدر ٤ / ٣٧٦ و ٣٧٧.

(٤) المراجع السابقة.

(٥ و ٦) ذكرهما القرطبي في تفسيره ١٤ / ١٥٦ وانظر كذلك زاد المسير ٦ / ٣٦٨.

(٧) ذكره الفخر الرازي في تفسيره ٢٥ / ٢٠٣.

(٨) ما بين القوسين كله ساقط من «ب».

(٩) ما بين القوسين كله ساقط من «ب».

٥٢٦

٤٠٧٨ ـ لا أرى الموت يسبق الموت شيء

 ............. (١)

ولأنه لو أعادهما مضمرين لجمع بين اسم الباري تعالى واسم رسوله في لفظة واحدة فكان يقال : «وصدقا» ، والنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قد كره ذلك ورد على من قال حيث قال : من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فقد غوى فقال له بئس خطيب القوم أنت قل : ومن يعص الله ورسوله قصدا إلى تعظيم(٢) الله. وقيل إنما رد عليه لأنه وقف على «يعصهما» وعلى الأولى استشكل بعضهم قوله : «حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» (٣) فقد جمع بينهما في ضمير واحد وأجيب : بأن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أعرف بقدر الله منا فليس لنا أن نقول كما يقول.

قوله : (وَما زادَهُمْ) فاعل «زادهم» ضمير الوعد أي وما زادهم وعد الله أو الصدق. وقال مكي ضمير (٤) النظر لأن قوله «لما رأى» بمعنى لما نظر. وقال أيضا : وقيل ضمير الرؤية (٥) ، وإنما ذكر لأن تأنيثها (٦) غير حقيقي ولم يذكر غيرهما ، وهذا عجيب منه حيث حجّروا واسعا (٧) مع الغنية عنه. وقرأ ابن أبي عبلة «وما زادوهم» بضمير الجمع (٨) ، ويعود للأحزاب لأن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أخبرهم أن الأحزاب يأتيهم بعد عشر أو تسع.

قوله : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) ووفوا به.

قوله : «صدقوا» صدق يتعدى لاثنين لثانيهما بحرف الجر (٩) ، ويجوز حذفه (١٠) ومنه المثل : «صدقني سن بكرة» (١١) أي في سن. والآية يجوز أن تكون من هذا ، والأول محذوف أي صدقوا الله فيما عاهدوا الله عليه ، ويجوز أن يتعدى لواحد كقولك «صدقني

__________________

(١) هو من الخفيف وهو لعدي بن زيد ، وعجزه :

 ...........

نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا

وشاهده : تكرير كلمة الموت تأكيدا واهتماما به أو نقول وضع الظاهر موضع المضمر فكان من الإمكان القول «لا أرى الموت يسبقه شيء» وهنا هو المألوف عادة ولكنه خرج هنا عنها لغرض بلاغي وهو الاهتمام بالأمر وتأكيده ، وقد عدوه من الضرورات الشعرية. وقد تقدم.

(٢) صحيح البخاري ١ / ٧ و ٤ / ٣٩.

(٣) مشكل الإعراب ٢ / ١٩٥.

(٤) السابق.

(٥) في «ب» لأن باعثهما وانظر : البيان ٢ / ٢٦٧ ومعاني الفراء ٢ / ٣٤٠.

(٦) يريد أن هذين الوجهين مشهوران عن غيره وقد نسبهما أي مكي لنفسه وفي الحديث : «لقد تحجرت واسعا» أي ضيقت ما وسعه الله وخصصت به.

(٧) ذكرهما أبو حيان في البحر المحيط ٧ / ٢٢٣.

(٨) قاله السمين في الدر ٤ / ٣٧٨.

(٩) أي حذف حرف الجر.

(١٠) ذكره الميداني في مجمع الأمثال وهو يضرب للصادق في قوله. وله قصة انظر : المجمع للميداني ٢ / ٢١٢ ، واللسان : «ص د ق» ٢٤١٧ ، وشاهده : تعدي «صدق» للمفعول الثاني المجيء بحرف جر والذي حذف جوازا وهو «سن» حيث كان «في سن» فحذفت «في» جوازا.

(١١) قاله أبو حيان في البحر ٧ / ٢٢٣ ، والسمين في الدر ٤ / ٣٧٨.

٥٢٧

زيد ، وكذبني عمرو» أي قال لي الصدق وقال الكذب ، ويكون المعاهد عليه مصدوقا مجازا كأنهم قالوا للشيء المعاهد عليه لنوفين بك وقد فعلوا (١) و «ما» بمعنى الذي ، ولذلك عاد عليها الضمير في «عليه» (٢) ، وقال مكي «ما» في موضع نصب «بصدقوا» وهي والفعل مصدر تقريره «صدقوا» العهد أي وفوا به (٣). وهذا يرده عود المضير إلا أن الأخفش وابن السراج (٤) يذهبان إلى اسمية «ما» المصدرية.

(قوله (٥)) : (قَضى نَحْبَهُ) النحب ما التزمه الإنسان واعتقد الوفاء به قال :

٤٠٧٩ ـ عشيّة فرّ الحارثيّون بعدما

قضى نحبه في ملتقى القوم هوبر (٦)

وقال :

٤٠٨٠ ـ بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا

عشيّة بسطام جرين على نحب (٧)

أي على أمر عظيم ، ولهذا يقال : نحب فلان أي نذر نذرا التزمه ويعبر به عن الموت كقولهم «قضى أجله» (٨) لما كان الموت لا بد منه جعل كالشيء الملتزم والنحيب البكاء معه صوت.

فصل

قال المفسرون معنى (صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) أي وفوا بعهدهم الذي عاهدوا الله (فَمِنْهُمْ نَحْبَهُ) أي فرغ من نذره ووفاه بعهده فصبر على الجهاد وقاتل حتى قتل

__________________

(١) المرجعان السابقان.

(٢) انظر : مشكل الإعراب لمكي ٢ / ١٩٥ ثم البيان ٢ / ١٦٧.

(٣) هو أبو بكر محمد بن السري المعروف بابن السراج كان أحد العلماء المذكورين وأئمة النحو المشهورين أخذ عن أبي العباس المبرد وأخذ عنه الزجاجي والسيرافي وغيرهما مات سنة ٣١٠ ه‍ انظر : نزهة الألباء ١٦٦.

(٤) زيادة من «ب».

(٥) قاله القرطبي في ١٤ / ١٥٨ و ١٦٠ وغريب القرآن ٣٤٩ وتأويل مشكل القرآن ـ وكلاهما لابن قتيبة ١٨٣.

(٦) هو من بحر الطويل وهو لذي الرمة ، ويروى : «في ملتقى الخيل» بدل «القوم» وهو يفتخر بشجاعة قومه وإقدامهم. و «هوبر» اسم رجل والشاهد في «نحبه» فهو هنا بمعنى الوفاء والأجل والعهد الذي التزم الإنسان به على نفسه وهو الشاهد المراد وهناك شاهد آخر لا صلة لنا به الآن وهو حذف المضاف دون ما دليل يدل عليه وهو من ضرورات الشعر التي لا يقاس عليها والأصل : ابن هوبر فحذف «ابن» وهذا قد يؤدي إلى اللبس انظر : ابن يعيش ٣ / ٢٤ والقرطبي ١٤ / ١٦٠ برواية «الخيل» وفتح القدير ٤ / ٢٧١ والهمع ٢ / ٥١ والطبري ٢١ ص ٩٢ ، والدر المصون ٤ / ٣٧٨.

(٧) البيت من الطويل وهو لجرير وطخفة مكان وبسطام : يوم لهم وشاهده «نحب» فإن المعنى الخطر العظيم وانظر : ديوانه ٨٢ واللسان : «ن ح ب» ٤٣٦٢ والبحر ٧ / ٢٠٨ ، وفتح القدير ٤ / ٢٧١ ومجمع البيان ٧ / ٥٤٨ والدر المصون ٤ / ٣٧٨.

(٨) قاله الفراء في معانيه ٢ / ٣٤٠ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٥٦.

٥٢٨

والنحيب (١) النذر قال القرطبي : من قضى نحبه (٢) أجله فقتل على الوفاء يعني حمزة وأصحابه ، وقيل : قضى نحبه أي (٣) بذل جهده في سبيل الوفاء بالعهد من قول العرب «نحب فلان في سيره يومه وليلته أجمع» إذا مد فلم ينزل (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) الشهادة يعني من بقي من المؤمنين ينتظرون أحد أمرين إما الشهادة أو النصر (وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) بخلاف المنافقين فإنهم قالوا : لا نولي الأدبار وبدلوا قولهم وولوا أدبارهم.

قوله : (لِيَجْزِيَ اللهُ) فيه وجهان :

أحدهما : أنها لام العلة.

والثاني : أنها لام الصيرورة ، وفيما يتعلق به أوجه إما «بصدقوا» وإما «بزادهم» وإما بما بدّلوا(٤) وعلى هذا قال الزمخشري : جعل المنافقون كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بتبديلهم كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم لأن كلا الفريقين مسوق إلى عاقبته من الثواب والعقاب فكأنهما استويا في طلبهما والسعي لتحصيلها ، والمعنى ليجزي الله الصادقين بصدقهم أي جزاء صدقهم وهو الوفاء بالعهد. (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ) أي الذين كذبوا وأخلفوا ، وقوله : (إِنْ شاءَ) ذلك فيمنعهم من الإيمان أو يتوب عليهم إن أراد («وأو (٥)») وجواب إن شاء مقدر وكذلك مفعول «شاء» أي إن شاء تعذيبهم عذّبهم (٦) فإن قيل : عذابهم متحتم فكيف يصح تعليقه على المشيئة وهو قد شاء تعذيبهم إذا ماتوا على النفاق؟!. فأجاب ابن عطية بأن تعذيب المنافقين ثمرة إدامتهم الإقامة على النفاق إلى موتهم ، والعقوبة (٧) موازية لتلك الإقامة وثمرة التوبة تركهم دون عذاب فهما درجتان إقامة على نفاق ، أو توبة منه وعنهما ثمرتان تعذيب أو رحمة فذكر تعالى على جهة الإيجاز واحدة من هاتين وواحدة (من (٨) هاتين) ما ذكر على ما ترك ذكره ، ويدل على أن معنى قوله : «ليعذّب» ليديم على النفاق ، قوله : (إِنْ شاءَ) ومعادلته بالتوبة وحرف «أو (٩)». قال أبو حيان وكان ما ذكر يؤول إلى أن التقدير : ليقيموا على النفاق فيموتوا عليه إن شاء فيعذبهم أو يتوب عليهم فيرحمهم فحذف سبب التعذيب وأثبت المسبّب وهو التعذيب (١٠) ، وأثبت سبب الرحمة والغفران وحذف المسبب وهو الرحمة والغفران ،

__________________

(١) في القرطبي ١٤ / ١٥٨.

(٢) المرجع السابق.

(٣) السابق.

(٤) الدر المصون ٤ / ٣٧٩ وانظر : البحر ٧ / ٢٢٣ والكشاف ٣ / ٢٥٧.

(٥) زيادة لا معنى لها.

(٦) قاله السمين في الدر المصون ٤ / ٣٧٩.

(٧) في البحر والسمين و «ب» والتوبة دون العقوبة.

(٨) في المرجعين السابقين ولكنه ساقط من «ب».

(٩) انظر : البحر ٧ / ٢٢٣ والدر المصون ٤ / ٣٧٩.

(١٠) المرجع السابق قال : وهذا من الإيجاز الحسن البحر ٧ / ٢٢٣.

٥٢٩

وقال ابن الخطيب إنما قال ذلك حيث لم يكن قد حصل ما بين (١) النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن إيمانهم وآمن بعد ذلك ناس «و (كانَ) الله (غَفُوراً) حيث ستر ذنبهم و «رحيما» حيث رحمهم ورزقهم الإيمان فيكون هذا فيمن آمن بعده. أو نقول (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ) مع أنه كان غفورا رحيما لكثرة ذنوبهم وقوة جرمهم ولو كان دون ذلك لغفر لهم ثم بين بعض ما جزاهم (٢) الله على صدقهم فقال : (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ) وهم قريش وغطفان ردّهم بغيظهم لم تشف صدورهم بنيل ما أرادوا لم ينالوا خيرا «ظفرا» وكفى الله المؤمنين القتال بالملائكة والريح أي لم يحوجهم إلى القتال (وَكانَ اللهُ قَوِيًّا) في ملكه غير محتاج إلى قتالهم «عزيزا» في انتقامه قادرا على استئصال الكفار.

قوله : «بغيظهم» يجوز أن تكون الباء سببية وهو الذي عبر عنه أبو البقاء بالمفعول أي (٣) أنها معدّية.

والثاني : أن تكون للمصاحبة (٤) فتكون حالا أي مغيظين.

قوله : (لَمْ يَنالُوا (٥) خَيْراً) حال ثانية أو حال من الحال الأولى فهي متداخلة ، ويجوز (٦) أن تكون حالا من الضمير المجرور (٧) بالإضافة. وجوز الزمخشري فيها أن تكون بيانا للحال الأولى أي مستأنفة (٨) ، ولا يظهر البيان إلا على البدل والاستئناف بعيد (٩).

قوله : (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ) أي أنزل الله الذين «ظاهروهم» أي عاونوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والمسلمين وهم بنو قريظة (١٠).

قوله : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) بيان للموصول فيتعلق بمحذوف (١١) ، (ويجوز أن يكون (١٢) حالا) (مِنْ صَياصِيهِمْ) متعلق «بأنزل» و «من» لابتداء الغاية (١٣) ، والصياصي جمع صيصية(١٤) وهي الحصون والقلاع والمعاقل ويقال لكل ما يمتنع به ويتحصن

__________________

(١) في تفسيره «يأس النبي».

(٢) وفيه : «جازاهم» بصيغة التفاعل وانظر : تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ٢٠٤.

(٣) قال في التبيان ١٠٥٥ «يجوز أن يكون حالا ، وبأن يكون مفعولا».

(٤ و ٥ و ٦) أقوال شهاب الدين السمين في الدر ٤ / ٣٧٩ والحال المتداخلة التي تدخل تحت الأولى كالجملة الصغرى التي تحت الكبرى.

(٧) من «بغيظهم».

(٨) قال في الكشاف ٣ / ٢٥٧ : «ويجوز أن تكون الثانية بيانا للأولى أو استئنافا».

(٩) قاله أبو حيان في رده عليه في البحر ٧ / ٢٢٤ وكذلك السمين في الدر ٤ / ٣٧٩.

(١٠) قاله الإمام القرطبي في الجامع ١٤ / ١٦١.

(١١) قاله في السمين ٤ / ٣٧٩.

(١٢) ما بين القوسين ساقط من «ب».

(١٣) المرجع السابق.

(١٤) قاله في اللسان «صيا» ٢٥٣٩ وانظر المجاز ٢ / ١٣٦.

٥٣٠

«صيصية» ومنه قيل لقرن الثّور ولشوكة الديك : صيصية ، والصّياصي أيضا شوك الحاكة ، ويتخذ من حديد قال دريد بن الصّمّة :

٤٠٨١ ـ ............

كوقع الصّياصي في النّسج الممدّد (١)

قوله : (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) حتى سلموا أنفسهم للقتل وأولادهم ونساءهم للسبي.

قوله : (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ) منصوب بما بعده وكذلك «فريقا» منصوب بما قبله (٢) ، والجملة مبينة ومقررة لقذف الرعب في قلوبهم والعامة على الخطاب في الفعلين ، وابن ذكوان (٣) ـ في رواية ـ بالغيبة فيهما (٤) ، واليماني بالغيبة في الأول فقط (٥) ، وأبو حيوة «تأسرون» (٦) بضم السين.

فإن قيل : ما فائدة التقديم تقديم المفعول في الأول حيث قال : تقتلون وتأخيره حيث قال (وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً)؟!.

فالجواب : قال ابن الخطيب إن القائل يبدأ بالأهم فالأهم والأقرب فالأقرب والرجال كانوا مشهورين وكان القتل واردا عليهم والأسراء كانوا هم النساء والذّراري (٧) ولم يكونوا مشهورين (٨) والسبي والأسر أظهر من القتل لأنه يبقي فيظهر لكل أحد أنه أسير فقدم من المحلّين ما هو أشهر على الفعل القائم به ومن الفعلين ما هو أشهر قدمه

__________________

(١) هذا عجز بيت من الطويل له وصدره :

وما راعني إلّا الرّماح تنوشه

 ............

ويروى : فجئت إليه والرماح تنوشه ، ويروى أيضا : غداة دعاني والرماح ينشنه والبيت كناية عن شدة البأس والبلاء في الحرب لأن معناه أن رماح القوم اجتمعت عليه تتناوله بالطعن ليتأكد موته والشاهد : «الصياصي» حيث استعملت في تلك الآلة التي تتخذ من حديد وانظر : مجاز القرآن ٢ / ١٣٦ والدر المصون ٤ / ٣٨٠ والأصمعيات ١٠٩ ، والقرطبي ١٤ / ١٦١ برواية «فجئت إليه» وانظر : اللسان «ص ي أ» ٣٥٣٩ و «ن وش» ٤٥٧٥ و «ص ي ص» والأغاني ٩ / ٤.

(٢) قاله أبو البقاء ١٠٥٦ والسمين ٤ / ٣٨٠.

(٣) هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن ذكوان أبو الزناد فقيه المدينة سمع أنسا ، وأبا أمامة وعنه السفيانان والليث مات سنة ٩٣١ ه‍ ، انظر : تذكرة الحفاظ للذهبي ١ / ١٣٤ وانظر : البحر ٧ / ٢٢٥.

(٤) في «تقتلون» و «تأسرون».

(٥) الذي ذكره ابن خالويه في الشواذ ١١٩ أن اليماني يقرأ بالغيبة في الثاني وهو «تأسرون» وليس في الأول وهو «تقتلون» ولعل ما ذكره المؤلف ـ تبعا للسمين ـ سهو أراد الثاني وقصد الأول سهوا فالله أعلم.

(٦) المرجع السابق ١١٩ ومعاني الفراء ٢ / ٣٦ فقد قال «وتأسرون» لغة ولم يقرأ بها أحد فعلى ذلك تكون شاذة الرواية.

(٧) هم الولد قال في اللسان : «وذرية الرجل ولده والجمع الذراري والذريات» انظر : اللسان ١٤٩٤.

(٨) تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ٢٠٤ و ٢٠٥.

٥٣١

على المحل الخفي ووجه آخر وهو أن قوله (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ) فعل ومفعول والأصل في الجمل الفعلية تقديم الفعل على المفعول والفاعل أما أنها جملة فعلية فلأنها لو كانت اسمية لكان الواجب في «فريق» الرفع ، كأنه يقول فريق منهم تقتلونهم (فلما نصب (١) كان ذلك بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره : «تقتلون فريقا تقتلون») والحامل على مثل هذا الكلام شدة الاهتمام ببيان المفعول ، وههنا كذلك لأنه تعالى لما ذكر حال الذين ظاهروهم وأنه قد قذف في قلوبهم الرعب فلو قال : تقتلون أوهم أن يسمع السامع مفعول «تقتلون» يكون زمان وقد يمنعه مانع فيفوته ولا يعلم أيهم هم المقتولون فأما إذا قال : «فريقا» سبق في قلوبهم الرعب إلى سمعهم فيستمع إلى تمام الكلام ، وإذا كان الأول فعلا ومفعولا قدم المفعول لفائدة عطف الجملة الثانية عليها على الأصل (فعدم) (٢) تقديم الفعل لزوال موجب التقديم إذ عرف حالهم وما يجيء بعده يكون مصروفا إليهم فلو قال بعد ذلك : «وفريقا تأسرون» فمن سمع «فريقا» ربما يظن أنه يقال فيهم يطلقون أو لا يقدرون عليهم فكان تقديم الفعل ههنا أولى وكذا الكلام في قوله : (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ)(٣) وقوله : «قذف» ، فإن قذف الرعب قبل الإنزال لأن الرعب صار سبيل الإنزال ولكن لما كان الفرح في إنزالهم أكثر قدم الإنزال على قذف الرعب (٤) والله أعلم.

فصل

فريقا تقتلون هم الرجال قيل : كانوا ستمائة ، و (تَأْسِرُونَ فَرِيقاً) وهم النساء والذراري ، قيل: كانوا سبعمائة وخمسين ، وقيل تسعمائة (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) بعد ؛ قال ابن زيد ومقاتل يعني خيبر (٥) وقال قتادة (٦) : كنا نحدث أنها مكة ، وقال الحسن (٧) : فارس والروم وقيل : القلاع وقال عكرمة (٨) : كل أرض تفتح إلى يوم القيامة.

قوله : (لَمْ تَطَؤُها) الجملة صفة «لأرضا» (٩) والعامة على همزة مضمومة ثم واو ساكنة ، وزيد بن علي «تطوها» بواو بعد طاء مفتوحة (١٠) ووجهها أنها كبدل الهمزة ألفا على الإسناد كقوله :

__________________

(١) ما بين القوسين ساقط من «ب» وهو في المرجع السابق.

(٢) زيادة يقتضيها المعنى وهي في الفخر الرازي.

(٣) ساقط من «ب».

(٤) المرجع السابق.

(٥) في القرطبي نسب هذا الرأي إلى هؤلاء على أنها «حنين» ١٤ / ١٦١. وما في زاد المسير ٦ / ٣٧٥ يوافق ما قاله المؤلف.

(٦ و ٧ و ٨) المرجعان السابقان.

(٩) قاله السمين ٤ / ٣٨٠.

(١٠) هذه قراءة عشرية متواترة أوردها البناء في الإتحاف ٣٥٤ وأبو حيان في البحر ٧ / ٢٢٥ وهو وجه شاذ كما سيتبين بعد.

٥٣٢

٤٠٨٢ ـ إنّ الأسود لتهدى في مرابضها

 ............. (١)

فلما أسنده (٢) للواء التقى ساكنان محذوف أولهما نحو «لم تروها» وهذا أحسن من أن تقول ثم أجرى الألف المبدلة من الهمزة مجرى الألف المتأصلة فحذفها جزما لأن الأحسن هناك أن لا يحذف اعتدادا بأصلها (٣) ، واستشهد بعضهم على الحذف بقول زهير :

٤٠٨٣ ـ جريء متى يظلم يعاقب بظلمه

سريعا وإلا يبد بالظّلم يظلم (٤)

قوله : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) هذا يؤكد قول من قال : إن المراد من قوله : (وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) ما يؤخذ (٥) بعد من بني قريظة لأن الله تعالى لما ملكهم تلك البلاد ووعدهم بغيرها دفع استبعاد (٦) من لا يكون قوي الاتكال على الله تعالى وقال أليس الله ملككم هذه فهو على كل شيء قدير يملككم غيرها ، روى أبو هريرة ـ أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يقول : «لا إله إلا الله وحده ، أعزّ جنده ، ونصر عبده ، وغلب الأحزاب وحده ، فلا شيء بعده» (٧).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ

__________________

(١) هذا صدر بيت من البسيط لابن هرمة ، وعجزه :

 .............

والنّاس لا يهتدى من شرّهم أبدا

والبيت في ذم حال الناس وقد رواه ابن منظور في اللسان :

إن السباع لتهدا عن فرائسها

والناس ليس بهاد شرهم أبدا

وشاهده تخفيف الهمزة في «هدأ» تخفيفا على غير قياس لأنها مفردة متحركة وقبلها متحرك والتخفيف بقلبها ألفا محضة إنما هو غير قياس ويؤخذ سماعا فالقياس أن تكون بين بين. وانظر : الخصائص ٣ / ١٥٢ واللسان «ه د أ» ٤٦٢٨ والبحر المحيط ٧ / ٢٢٥ والممتع لابن عصفور ٣٨٢ والدر المصون ٧ / ٣٨٠ ، والتاج «ه د أ».

(٢) وهو الفعل «وطىء» قال في اللسان وطىء الشيء يطؤه وطئا داسه قال سيبويه : أما وطىء يطأ فمثل ورم يرم ولكنهم فتحوا يفعل وأصله الكسر. اللسان : «وطأ» ٤٨٦٢.

(٣) قاله السمين في الدر ٤ / ٣٨١.

(٤) من الطويل له في مدح الحسين بن ضمضم وشاهده : «يبد» حيث حذف الألف المنقلبة عن الهمزة فهي «يبدأ» وعاملها كالألف المتأصلة وحذفها للجزم وحري بالقول أن الفعل مجزوم لأنه وقع بعد فعل شرط وقد يقال عن ذلك : إن الهمزة حذفت بحركتها للوزن الشعري. على أنه ورد عن الأنصار : بديت بالشيء أي قدمته فهذا منه. وقد تقدم.

(٥) في «ب» سيؤخذ.

(٦) في «ب» استبطان.

(٧) الحديث تقدم.

٥٣٣

بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥) وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)(٣٦)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا) الآية وجه التعلق (هو) (١) أن مكارم الأخلاق (٢) منحصرة في شيئين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وإلى هذا أشار عليه (الصلاة (٣) و) السلام بقوله : «الصلاة وما ملكت أيمانكم» (٤) فالله (تعالى (٥) لما) أرشد نبيه إلى ما يتعلق بجانب التعظيم لله بقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) ذكره ما يتعلق بجانب الشفقة وبدأ بالزوجات فإنهن أولى الناس (٦) بالشفقة ولهذا قدّمهنّ في النفقة.

فصل

قال المفسرون : سبب نزول هذه الآية نساء النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (سألنه) (٧) عن عرض الدنيا (شيئا) (٨) وطلبن منه زيادة في النفقة وآذينه بغيرة بعضهن على بعض فهجرهن (٩) رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وآلى أن لا يقربهن شهرا ولا يخرج إلى أصحابه فقالوا ما شأنه وكانوا يقولون طلق رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نساءه فقال عمر : لأعلمنّ لكم شأنه قال : فدخلت على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقلت يا رسول الله : أطلقتهن قال : لا ، فقلت : يا رسول الله إني

__________________

(١) زيادة من «أ» عن «ب».

(٢) ذكره الفخر الرازي في تفسيره ٢٥ / ٢٠٥.

(٣) زيادة من «ب».

(٤) المرجع السابق.

(٥) ساقط من «ب».

(٦) المرجع السابق.

(٧) ساقط من «ب».

(٨) ساقط من «ب».

(٩) ذكره الإمام أبو الفرج ابن الجوزي في زاد المسير ٦ / ٣٧٦.

٥٣٤

دخلت المسجد والمسلمون يقولون طلق رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نساءه أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن قال : نعم إن شئت فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نساءه ونزلت هذه الآية : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء : ٨٣] فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر وأنزل الله آية التخيير وكانت تحت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يومئذ تسع نسوة خمس من قريش عائشة بنت أبي بكر ، وحفصة بنت عمر ، وأمّ حبيبة بنت أبي سفيان وأمّ سلمة بنت أمية ، وسودة بنت زمعة وغير القرشيات زينب بنت جحش الأسدية ، وميمونة بنت الحارث الهلالية وصفية بنت حييّ بن أخطب الخيبريّة وجويرية بنت الحارث المصطلقيّة ، فلما نزلت آية التخيير بدأ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعائشة وكانت أحبهن إليه فخيرها فقرأ عليها (القرآن) (١) فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة. ورؤي الفرح في وجه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتابعنها على ذلك ، قال قتادة فلما اخترن الله (٢) ورسوله شكرهن الله على ذلك وقصره عليهن فقال : «لا تحل لك النساء من بعد». وعن جابر بن عبد الله قال (٣) : دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لواحد (٤) منهم قال : فأذن لأبي بكر فدخل ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له فوجد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ جالسا حوله نساؤه واجما (٥) ساكنا قال : فقال : لأقولنّ شيئا أضحك النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها فضحك النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقال : هن حولي كما ترى يسألنني النفقة فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها كلاهما يقول (٦) : تسألن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ شيئا أبدا ليس عنده ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين يوما ثم نزلت هذه الآية : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) حتى بلغ (لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) قال : فبدأ بعائشة فقال : يا عائشة إني أعرض عليك أمرا لا أحب أن تعجلي حتى تستشيري أبويك ، قالت : وما هو يا رسول الله فتلا عليها الآية فقالت : أفيك يا رسول الله أستشير أبويّ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي (٧) قلت ، قال : لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها إنّ الله لم يبعثني معنتا (٨) ولا متعنتا ولكن بعثني معلما مبشرا. وروى الزهري

__________________

(١) سقط من «ب».

(٢) قاله ابن الجوزي في تفسيره ٦ / ٣٧٨.

(٣) رواه الإمامان البخاري ومسلم واللفظ للإمام مسلم انظر : صحيح مسلم «باب الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن» ٢ / ١١٠٥ و ١١٠٦ وانظر : الدر المنثور للسيوطي ٥ / ١٩٤ وقد زاد نسبته للإمام أحمد والنسائي وابن مردويه عن جابر ، وانظر القرطبي ٤ / ١٦٢ و ١٦٣.

(٤) في صحيح مسلم «لأحد منهم» وهو ما في «ب».

(٥) في «ب» ورجع ساكتا وهو خلاف ما في مسلم وغيره.

(٦) في «ب» لا تسألن بالنفي وهو بخلاف ما في المراجع.

(٧) في «ب» و «أ» ما الذي بصيغة الاستفهام.

(٨) في «ب» مفتنا ولا متفتنا.

٥٣٥

أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهرا قال الزهري : فأخبرني عروة عن عائشة قالت (١) : فلما مضت تسع وعشرون أعدّهن دخل عليّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقلت : بدأ بي فقلت : يا رسول الله إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا وإنك دخلت من تسع وعشرين أعدهن فقال : إن الشهر تسع وعشرون.

فصل

اختلف العلماء في هذا الخيار هل كان ذلك تفويض الطلاق إليهن حتى يقع بنفس الاختيار أم لا؟ فذهب الحسن وقتادة (٢) وأكثر أهل العلم إلى أنه لم يكن تفويض للطلاق ، وإنما خيرهن على أنهن إذا اخترن الدنيا فارقهن لقوله تعالى : (فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَ) ويدل عليه أنه لم يكن جوابهن على الفور فإنه قال لعائشة : «لا تعجلي حتى تستشيري أبويك» وفي تفويض الطلاق يكون الجواب على الفور. وذهب آخرون إلى أنه كان تفويض طلاق ولو اخترن أنفسهن كان طلاقا ، واختلف العلماء في حكم التخيير فقال عمر وابن مسعود وابن عباس إذا خير رجل امرأته فاختارت زوجها لا يقع شيء (٣) ، ولو اختارت نفسها وقع طلقة واحدة وهو قول عمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى (٤) وسفيان والشافعي وأصحاب الرأي إلا أن عند أصحاب الرأي تقع طلقة بائنة (٥) إذا اختارت نفسها ، وعند الآخرين رجعية ، وقال زيد بن ثابت : إذا اختارت الزوج يقع طلقة واحدة وإذا اختارت نفسها فثلاث وهو قول الحسن ، ورواية عن مالك (٦). وروي عن علي أيضا أنها إذا اختارت زوجها يقع طلقة (٧) واحدة وإذا اختارت نفسها فطلقة ثانية ، وأكثر العلماء (٨) على أنها إذا اختارت زوجها لا يقع شيء لما روت

__________________

(١) في «ب» قال.

(٢) ذكره الإمام القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن ١٤ / ١٧٠ وقال : ومن الصحابة علي فيما رواه عنه أحمد بن حنبل أنه قال : لم يخير رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نساءه إلا بين الدنيا والآخرة.

(٣) هذا رأي علماء الصحابة ومن علماء التابعين الذين اختاروا هذا الرأي عطاء ومسروق ، وسليمان بن يسار وربيعة وابن شهاب وانظر : المرجع السابق ١٤ / ١٧١.

(٤) ابن أبي ليلى : عبد الرحمن الأنصاري الأوسي أبو عيسى الكوفي عن عمر ومعاذ وبلال وأبي ذر ، أدرك مائة وعشرين من الصحابة الأنصاريين وعنه ابنه عيسى ومجاهد وعمرو بن ميمون مات سنة ٨٣ ه‍ ، انظر : الخلاصة ٢٣٤.

(٥) وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ورواه ابن خويزمنداد عن مالك. القرطبي ١٤ / ١٧١.

(٦) هو الإمام مالك بن أنس أحد أئمة المذاهب الأربعة الذين كان لهم فضل في معرفة الدّين وأحكامه الفقهية وانظر المرجع السابق وحجة مالك ومن معه أن الملك إنما يكون بذلك.

(٧) رجعية كما روي عنه أنها إذا اختارت نفسها فليس بشيء ، انظر : المرجع السابق.

(٨) وهو الصحيح ، لقول عائشة الأعلى الذي أخرجه الصحيحان البخاري ومسلم ، وقد قال ابن المنذر : وحديث عائشة يدل على أن المخيرة إذا اختارت نفسها أنها تطليقة يملك زوجها رجعتها إذ غير جائز أن يطلق رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بخلاف ما أمره الله. الجامع ١٤ / ١٧١.

٥٣٦

عائشة قالت : خيرنا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فاخترنا الله ورسوله فلم يعد ذلك شيئا.

قوله : (أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ) العامة على جزمهما ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنه مجزوم على جواب الشرط ، وما بين الشرط وجوابه (١) معترض ، ولا يضر دخول الفاء على جملة الاعتراض ومثله في دخول الفاء قوله :

٤٠٨٤ ـ واعلم فعلم المرء ينفعه

أن سوف يأتي كلّ ما قدرا (٢)

يريد : واعلم أن سوف يأتي.

والثاني : أن الجواب قوله «فتعالين» و «أمتعكن» جواب لهذا الأمر ، وقرأ زيد بن علي «أمتعكنّ» بتخفيف التاء من «أمتعه» (٣) وقرأ حميد الحزّاز (٤) «أمتعكن وأسرحكن» بالرفع فيهما على الاستئناف (٥) و «سراحا» قائم مقام التّسريح.

فصل

قال ابن الخطيب : وههنا (٦) مسائل منها هل كان هذا التخيير واجبا على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٧)) أم لا والجواب أن التخيير كان قولا واجبا من غير شك لأنه إبلاع للرسالة لأن الله تعالى لما قال (له (٨)) : «قل لهم» صار من الرسالة ، وأما التخيير معنى فمبني على أن الأمر للوجوب أم لا ، والظاهر أنه للوجوب ومنه أن واحدة منهم لو اختارت الفراق هل كان يصير اختيارها فراقا. والظاهر أنه لا يصير فراقا وإنما تبين المختارة نفسها فإنه من جهة النبي عليه (٩) السلام لقوله : (فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) ومنها أن واحدة منهن لو اختارت نفسها وقلنا إنها لا تبين إلا بإبانة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فهل كان يجب على النبي عليه (الصلاة (١٠) و) السلام الطلاق أم لا؟ الظاهر نظرا إلى منصبه عليه (الصلاة (١١)و) السلام أنه كان طلاقا لأن الخلف في الوعد من النبي غير جائز بخلاف أحدنا فإنه لا يلزمه شرعا الوفاء بما يعد ، ومنها أن المطلقة بعد البينونة هل كانت تحرم

__________________

(١) ذكرها السمين في الدر ٤ / ٣٨١ وفيه «وجزائه» بدلا من «وجوابه».

(٢) البيت من تام الكامل وهو مجهول القائل. وانظر : البحر المحيط ٧ / ٢٢٧ وشذور الذهب ٣٤٧ ، ومعاهد التنصيص ١ / ١٢٨ والأشموني ١ / ٢٩٢ والهمع ١ / ١٤٨ وشرح شواهد المغني ٨٢٨ والمغني ٣٩٨ وشواذ القرآن «١٩٣» و «١٩٤».

(٣) ذكرها أبو حيان في بحره ٧ / ٢٢٧ وانظر : شواذ القرآن ١٩٤ للكرماني.

(٤) هو حميد بن ربيع أبو القاسم السابوري الحزّاز ، روى القراءة عن الكسائي وعنه محمد بن إسحاق السراج غاية النهاية ١ / ٢٦٥.

(٥) ذكرها ابن خالويه في المختصر ١١٩ وانظر ما سبق من المراجع.

(٦) الرازي ٢٥ / ٢٠٥ و ٢٠٦.

(٧) ساقط من «ب».

(٨) كذلك.

(٩) في «ب» صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(١٠ و ١١) زيادة من نسخة «ب».

٥٣٧

على غيره أم لا؟ والظاهر أنها لا تحرم وإلا لم يكن التخيير ممكنا لها من التمتع بزينة الدنيا ومنها أن من اختارت الله ورسوله هل كان يحرم على النبي عليه (الصلاة (١) و) السلام طلاقها أم لا؟ الظاهر الحرمة نظرا إلى منصب الرسول عليه‌السلام على معنى أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يمتنع منه أصلا لا بمعنى أنه لو أتى به لعوقب أو لعوتب.

قوله : (أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ) أي من عمل صالحا منكن كقوله تعالى : (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) [لقمان : ٢٢] والأجر العظيم : الكثير الزائد في الطول وفي العرض وفي العمق حتى لو كان زائدا في الطول يقال له طويل ولو كان زائدا في العرض يقال له : عريض وكذلك العميق فإذا وجدت (منه) الأمور الثلاثة قيل عظيم ، فيقال : جبل عظيم إذا كان عاليا ممتدا في الجهات ، وإن كان مرتفعا حيث يقال : جبل عال. إذا عرف هذا فأجر الدنيا في ذاته قليل وفي صفاته غير خال عن جهة قبح لما في مأكوله ومشروبه من الضرر وغيره ، وأيضا فهو غير دائم ، وأجر الآخرة كثير خال عن جهات القبح دائم فهو عظيم (٢).

قوله تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ ...) الآية العامة على «يأت» بالياء من تحت حملا على لفظ «من» لأن «من» أداة تقوم مقام الاسم يعبر به عن الواحد والجمع (و) المذكر والمؤنث ، وزيد بن علي ، والجحدريّ ، ويعقوب بالتاء (٣) من فوق حملا على معناها لأنه يرشح بقوله : «منكنّ» (٤) حال من فاعل «يأت» وتقدم القراءة في «مبينة» (٥) بالنسبة لكسر الياء وفتحها ، في النساء.

قوله : «يضاعف» قرأ عمرو «يضعّف» (٦) ـ بالياء من تحت وتشديد العين مفتوحة على البناء للمفعول ـ العذاب بالرفع لقيامه مقام الفاعل ، وقرأ ابن كثير وابن عامر «يضعّف (٧)» ـ بنون العظمة وتشديد العين مكسورة على البناء للفاعل ـ العذاب بالنصب على المفعول به وقرأ الباقون «يضاعف» من المفاعلة مبنيا للمفعول العذاب بالرفع لقيامه مقام الفاعل (وقد (٨)) تقدم توجيه التضعيف والمضاعفة في سورة البقرة (٩).

__________________

(١) زيادة من نسخة «ب».

(٢) قاله الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره ٢٥ / ٢٠٦.

(٣) ذكرها في البحر ٧ / ٢٢٨ وفي المحتسب ٢ / ١٧٩ وهي من القراءات الشاذة.

(٤) حكاه السمين في الدر ٤ / ٣٨٢.

(٥) يقصد الآية ١٩ من سورة النساء وهي قوله تعالى : «إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ».

(٦) معاني الفراء ٢ / ٣٤١ والسبعة ٥٢١ ، وإبراز المعاني ٦٤٨.

(٧) المراجع السابقة وانظر في توجيه هذه القراءات الكشف لمكي ٢ / ١٩٦ والحجة «لابن خالويه» ٣٨٩ كما قرر هو أعلى في النص.

(٨) ساقط من «ب».

(٩) يشير إلى قوله تعالى : «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ» ... وهي الآية ٢٤٥ وقرر ـ

٥٣٨

فصل

قال ابن عباس المراد هنا بالفاحشة النشوز وسوء (١) الخلق ، وقيل : هو كقوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥]. واعلم أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) ـ لما خير نساءه واخترن الله ورسوله أدبهن الله وهددهن بالتوقي عما يسوء النبي ويقبح بهن من الفاحشة التي هي أصعب على الزوج من كل ما يأتي به زوجته وأوعدهن بتضعيف العذاب وفيه حكمتان (٣) :

إحداهما (٤) : أن زوجة الغير تعذب على الزنا بسبب ما في الزنا من المفاسد وزوجة النبي تعذب إن أتت به لذلك لإيذاء قلبه والإزراء بمنصبه وعلى هذا بنات النبي عليه (٥) السلام كذلك ولأن امرأة لو كانت تحت النبي عليه‌السلام وأتت بفاحشة تكون قد اختارت غير النبي على النبي ويكون ذلك الغير خيرا عندها من النبي وأولى والنبي أولى من النفس التي هي أولى من الغير فقد نزلت منصب النبي مرتبتين فتعذب من العذاب ضعفين.

وثانيهما : أن هذا إشارة إلى شرفهن ؛ لأن الحرة عذابها ضعف عذاب الأمة إظهارا لشرفها ونسبة النبي إلى غيره من الرجال نسبة السادات إلى العبيد لكونه أولى بهم من أنفسهم فكذلك زوجاته اللائي هن أمهات المؤمنين ، وأم الشخص امرأة حاكمة عليه واجبة الطاعة وزوجته مأمورة محكومة له وتحت طاعته فصارت زوجة الغير بالنسبة إلى زوجة النبي عليه‌السلام كالأمة (٦) بالنسبة إلى الحرة ، واعلم أن قول القائل من يفعل ذلك في قوة قوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) من حيث إن ذلك ممكن الوقوع في أول النظر ولا يقع في بعض الصور جزما وفي بعض (يقع) (٧) جزما ، وفي البعض يتردد السامع في الأمرين ، فقوله تعالى : (مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ) من القبيل الأولى فإن الأنبياء صان الله زوجاتهم عن الفاحشة ثم قال : (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) أي ليس كونكن تحت النبي عليه‌السلام وكونكنّ شريفات جليلات مما يدفع العذاب عنكن فليس أمر الله كأمر الخلق حيث يتعذر عليهم تعذيب الأعزة بسبب كثرة أوليائهم وأعوانهم وشفعائهم وإخوانهم.

__________________

ـ هناك أن التضعيف والمضاعفة بمعنى واحد. وقيل : إن المضعف للتكثير وقيل : لما جعل مثلين أما المضاعفة ـ بصيغة المفاعلة ـ لما زيد عليه أكثر من ذلك ، اللباب ١ / ٦١٧.

(١) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير ٦ / ٣٧٨.

(٢) هذا كله قول الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير ٢٥ / ٢٠٧.

(٣) في «ب» حكمان.

(٤) في «ب» أحدهما موافقة «لحكمان».

(٥) في «ب» صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٦) في «ب» كالابنة بالنسبة إلى الجدة وهو خلاف ما في تفسير الرازي.

(٧) سقط من «ب».

٥٣٩

قوله : (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ) أي يطع الله ورسوله (١) وهذا بيان لزيادة ثوابهن كما بين زيادة عقابهن (نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) في مقابلة قوله : (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) وفيه لطيفة وهي أن عند إيتاء الأجر ذكر الموفي وهو الله وعند العذاب لم يصرح بالعذاب (٢) فقال : «يضاعف» وهذا إشارة إلى كمال الرحمة والكرم (٣). قوله : (وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها) قرأ الأخوان «ويعمل ويؤت» ـ بالياء من تحت فيهما ، والباقون «وتعمل» (٤) بالتاء من فوق و «نؤتها» بالنون ، فأما الياء في «ويعمل» فلأجل الحمل على لفظ «من» وهو الأصل والتاء من فوق على معناها إذ المراد بها مؤنث (٥) ويرشح هذا بتقدم لفظ المؤنث وهو «منكنّ» ومثله قوله :

٤٠٨٥ ـ وإنّ من النّسوان من هي روضة

 ............. (٦)

لما تقدم قوله «من النّسوان» يرجع المعنى فحمل عليه ، وأما «يؤتها» بالياء من تحت فالضمير لله تعالى لتقدمه في (لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) وبالنون فهي نون العظمة ، وفيه انتقال من الغيبة إلى التكلم ، وقرأ الجحدريّ ويعقوب وابن عامر ـ في رواية ـ وأبو جعفر وشيبة (٧) : «تقنت» (٨) بالتاء من فوق حملا على المعنى وكذلك «وتعمل». وقال أبو البقاء : إن بعضهم قرأ «ومن تقنت» (٩) بالتأنيث حملا على المعنى ويعمل بالتذكير حملا على اللفظ قال : فقال بعض النحويين : هذا ضعيف لأن التذكير أصل فلا يجعل تبعا للتأنيث وما عللوه به قد جاء مثله في القرآن قال تعالى : (خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) [الأنعام : ١٣٩].

__________________

(١) قاله القرطبي ١٤ / ١٧٦ و ٢ / ٨٦ و ٣ / ٢١٣.

(٢) في «ب» بالمعذب وكذا هي في تفسير الرازي ٢٥ / ٢٠٨.

(٣) المرجع السابق.

(٤) ذكرت في السبعة ٥٢١ والإتحاف ٣٥٥ ومعاني القرآن للفراء ٢ / ٣٤١ و ٣٤٢ وإعراب القرآن للنحاس ٣ / ٣١٢ ، وإبراز المعاني ٦٤٨ والكشف ٢ / ١٩٦ والتبيان ١٠٥٦.

(٥) وهو ظاهر كلام السمين في الدر ٤ / ٣٨٢ وابن خالويه في الحجة ٢٩٠.

(٦) صدر بيت من تام الطويل وعجزه :

 .............

تهيج الرّياض قبلها وتصوح

وينسب لجران العود وليس بديوانه و «تصيح» : تثور ، و «تصوح» الأصل : «تتصوّح» ، فحذفت إحدى التاءين تخفيفا ويقال : تصوح البقل إذا يبس أعلاه وهنا تشبيه بعض النساء بالروضة التي تتأخر في هيجان نباتها عن غيرها من الرياض ويقصد المرأة التي تتأخر عن الولادة في وقتها ، وشاهده : «هي روضة» حيث راعى المعنى معنى «من» ولو أراد اللفظ لقال : «من هو». وقد تقدم.

(٧) شيبة بن نصاح بن سرجس إمام ثقة مقرىء المدينة مع أبي جعفر وقاضيها ومولى أم سلمة من قراء التابعين أول من ألف كتاب الوقوف. مات سنة ١٣٠ ه‍ انظر : الغاية ١ / ٣٣٠.

(٨) ذكرها أبو حيان ٧ / ٢٢٨ وابن مجاهد في السبعة وأنكرها. السبعة ٥٢١ والمختصر لابن خالويه ١١٩.

(٩) التبيان ١٠٥٦.

٥٤٠