اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦١٥

وبهذا يظهر فساد قول من قال : إن في هذه القراءة يتعين (القول (١)) بالعطف على «أن» كأنه يوهم أنه ليس ثمّ مسوّغ ، وقرأ عبد الله وأبيّ «تمدّه» بالتأنيث (٢) لأجل «سبعة» (٣) والحسن ، وابن هرمز (٤) ، وابن مصرف (٥) «يمدّه» بالياء من تحت مضمومة وكسر الميم من أمدّه (٦) وقد تقدم اللغتان في آخر (٧) الأعراف وأوائل البقرة (٨) ، والألف واللام في البحر لاستغراق الجنس أي (وكل (٩)) بحر مداد.

فصل

المعنى والبحر يمده ، أي يزيده ، وينصب فيه من بعده أي من بعد خلقه سبعة أبحر ، وهذا إشارة إلى بحار غير موجودة يعني لو مدت البحار الموجودة سبعة أبحر أخرى ، وقوله : «سبعة» ليس لانحصارها في سبعة وإنما الإشارة إلى المدد والكثرة ، ولو بألف بحر ، وإنما خصّت السبعة بالذكر من بين الأعداد لأنها عدد كثير يحصر المعدود (١٠) في العادة ، ويدل على ذلك وجوه :

الأول : أن المعلوم عند كل أحد لحاجته (١١) إليه هو الزمان والمكان فالزمان

__________________

ـ التسويغ أنها ـ أي النكرة ـ وهي نجم ـ واقعة بعد واو الحال.

وانظر : البحر المحيط ٧ / ١٩١ ، والمغني ٤٧١ ، والأشموني ١ / ٢٠٦ ، والهمع ١ / ١٠١ ، وابن الناظم ٤٥ ، وابن عقيل ٣٤.

(١) سقط من «ب».

(٢) ذكر هذه القراءة ابن خالويه في مختصره ١١٧ حيث يقول : «والبحر تمده» بالتاء بعضهم وقد نسب أبو حيان في بحره تلك القراءة إلى ابن عباس أيضا ، انظر : البحر المحيط ٧ / ١٩١.

(٣) أي سبعة أبحر الواردة في الآية الشريفة.

(٤) هو أبو داود الأعرج عبد الرحمن بن هرمز بن الأعرج كان مولى لمحمد بن ربيعة كان أحد القراء عالما بالعربية ، وأعلم الناس بأنساب العرب مات بالإسكندرية سنة ١٧ ه‍ انظر : نزهة الألباء للأنباري ٩ و ١٠.

(٥) ابن مصرف هو طلحة بن مصرف بن عمرو بن كعب أبو محمد الهمداني الكوفي تابعي كبير ، له اختيار في القراءة ينسب إليه أخذ القراءة عن إبراهيم النخعي والأعمش وابن وثاب وعنه ابن أبي ليلى ، وعيسى الهمداني ، مات سنة ١١٢ ه‍ انظر : الغاية في طبقات القراء ١ / ٣٤٣.

(٦) ذكرها ابن جني في محتسبه ٢ / ١٦٨ وانظر القرطبي ١٤ / ٧ والبحر المحيط ٧ / ١٩١.

(٧) عند الآية ٢٠٢ وهي : «وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ» قال : إن نافعا قرأ بضم الياء وكسر الميم من «أمد» والباقون بفتح الياء وضم الميم من «مد» الثلاثي. انظر اللباب ٤ / ١٧ ب ميكروفيلم.

(٨) عند الآية ١٥ وهي قوله تعالى : «اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» اللباب ١ / ٤٧ ب ميكروفيلم.

(٩) سقط من «ب».

(١٠) في «ب» المعدودات ، وانظر الفخر الرازي ٢٥ / ١٥٧.

(١١) في «ب» الحاجة إليه.

٤٦١

منحصر في سبعة أيام (١) ، ولأن الكواكب السيارة سبعة ، والمنجمون ينسبون إليها أمورا فصارت السبعة كالعدد الحاصر للمكثرات الواقعة في العادة فاستعملت في كلّ كثير.

الثاني : أن في السبعة معنى يخصها ولذلك كانت السماوات سبعا ، والأرضين سبعا ، (وأبواب(٢) جهنم سبعا) ، وأبواب الجنة ثمانية لأنها الحسنى وزيادة فالزيادة هي الثامن (٣) ؛ لأن العرب عند الثامن (٤) يزيدون واوا ، يقول الفراء : إنها واو الثمانية وليس ذلك إلا للاستئناف ؛ لأن العدد تم بالسبعة. واعلم أن في الكلام اختصارا تقديره : ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر يكتب بها كلام (٥) الله ما نفدت كلمات الله.

قوله : (كَلِماتُ اللهِ) قال الزمخشري (٦) : فإن قلت : الكلمات جمع قلّة ، والموضع موضع تكثير (٧) فهلا قيل : كلم؟ (٨) قلت : معناه أن كلماته لا يقع (٩) بكتبها البحار فكيف بكلمه ، يعني أنه من باب (١٠) التنبيه بطريق الأولى. ورده أبو حيان بأن جمع السلامة متى عرف (١١) «بأل» (غير العهدية (١٢) ، أو أضيف عمّ). قال شهاب الدين : للناس (١٣) خلاف في «أل» هل تعم أو لا؟ وقد يكون الزمخشري ممّن لا يرى العموم ولم يزل الناس يشكون (١٤) في بيت حسّان ـ رضي الله عنه ـ :

٤٠٥٩ ـ لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضّحى

 ............ (١٥)

ويقولون : كيف أتى بجمع القلة في مقام المدح ولم لم يقل «الجفان» وهو تقرير

__________________

(١) في تفسير الفخر الرازي : «لأن المكان فيه الأجسام ، والزمان فيه الأفعال لكن المكان منحصر في سبعة أقاليم والزمان في سبعة أيام ...».

(٢) ساقط من «ب».

(٣) في «ب» وزيادة باب هي الثامن.

(٤) انظر في هذا تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ١٥٧ و ١٥٨.

(٥) في «ب» كلمات.

(٦) الكشاف ٣ / ٢٣٦.

(٧) وفيه موضع التكثير لا التقليل.

(٨) وفيه كلم الله.

(٩) وفيه : لا تفي بكتبها.

(١٠) الدر المصون ٤ / ٣٤٩.

(١١) انظر : البحر المحيط ٧ / ١٩١.

(١٢) ما بين القوسين كله ساقط من «ب» وموجود في البحر.

(١٣) الدر المصون ٤ / ٣٤٩.

(١٤) في الدر (يسألون).

(١٥) البيت من الطويل وعجزه :

 ...........

وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

والشاهد فيه : «الجفنات» حيث أتى بأل غير العهدية داخلة على جمع المؤنث المفيد للقلة وهي لا تؤثر بأي حال وهي هكذا على عموم المتكلم فيه وهذا رأى الزمخشري ومن حذا حذوه ، وكما قال الرضي : إن الجمع طالما دل على جمع السلامة لا يقيد بقلّة أو كثرة بينما قال سيبويه : وقد يجمعون بالتاء وهم يريدون الكثير انظر : ديوان حسان (١٣١) والرضي ٢ / ١٩١ والخزانة ٨ / ١١٦ و ١١٨ والكتاب ٣ / ٥٧٨ وابن يعيش ٥ / ١٠ و ١١ والخصائص ٢ / ٢٠٦ والمقتضب ٢ / ١٨٦ والحماسة البصرية ٢ / ١٢.

٤٦٢

لما قاله الزمخشري ، واعتراف بأن «أل» لا تؤثر في جمع القلة تكثيرا (١). ثم قال تعالى : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي كامل القدرة لا نهاية لمقدوراته «حكيم» كامل العلم لا نهاية لمعلوماته ، وهذه الآية على قول عطاء بن يسار مدنية ، وعلى قول غيره مكية (٢).

قوله : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) لما بين كمال قدرته وعلمه ذكر ما يبطل استبعادهم للحشر فقال : «خلقكم وبعثكم كنفس واحدة» ، فقوله : (إِلَّا كَنَفْسٍ) خبر (ما خَلْقُكُمْ) والتقدير : إلا كخلق نفس واحدة وبعثها لا يتعذر عليه شيء (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) «سميع» لما يقولون «بصير» بما يعملون فإذا كان قادرا على البعث ومحيطا بالأقوال والأفعال وجب الاحتراز الكامل ، وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) في النظم وجهان :

الأول : أن الله تعالى لما قال : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ) ما في السماوات و (ما فِي الْأَرْضِ) على وجه العموم ذكر منها بعض ما فيها على الوجه المخصوص بقوله : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) وقوله : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) إشارة إلى ما في السموات.

الثاني : أن الله تعالى لما ذكر البعث فكان من الناس من يقوله : (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية : ٢٤] والدهر هو بالليالي والأيام فقال الله تعالى هذه الليالي والأيام التي ينسبون إليها الموت والحياة هي بقدرة الله فقال : ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ثم قال : إن ذلك باختلاف مسير (٣) الشمس فتارة تكون القوس التي هي (٤) فوق الأرض أكبر من التي (٥) تحت الأرض فيكون الليل أقصر والنهار أطور وتارة (يكون (٦)) العكس (فيكون (٧) بالعكس) ، وتارة يتساويان (فيتساويان (٨)) فقال (تعالى (٩)) : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) يعني إن كنتم لا تعرفون بأن هذه الأشياء كلها من الله فلا بد من الاعتراف بأنها بأسرها عائدة إلى الله فالآجال إن كانت بالمدد والمدد يسيّر الكواكب فسير الكواكب ليس إلا بالله وقدرته.

فصل

قال : «يولج» بصيغة الفعل المستقبل وقال في الشمس والقمر «وسخّر» بصيغة الماضي ؛ لأن إيلاج الليل في النهار أمر يتجدد كل يوم وتسخير الشمس والقمر أمر مستمر كما قال تعالى : (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [يس : ٣٩] وقال ههنا : (إِلى أَجَلٍ) وفي

__________________

(١) الدر المصون ٤ / ٣٥٠.

(٢) انظر : زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي ٦ / ٣١٤ والجامع في أحكام القرآن للقرطبي ١٤ / ٥٠.

(٣) في «ب» تسيير.

(٤) في «ب» الذي هو فوق الأرض.

(٥) وفيها «الذي».

(٦) ساقط من «ب».

(٧) كذلك.

(٨) كذلك.

(٩) زيادة من «أ» هنا.

٤٦٣

الزمر (١) «لأجل» ؛ لأن المعنيين لائقان بالحرفين فلا عليك في أيهما وقع. قال الأكثرون : هذا خطاب للنبي ـ عليه (٢) السلام ـ والمؤمنين ، وقيل : عام ، ثم قال : (وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي لما كان الليل والنهار محلّ الأفعال بين أن ما يقع في هذين الزمانين اللذين هما بتصرف الله لا يخفى على الله ، وقرأ أبو عمرو في رواية ـ «وأن الله بما يعملون» (٣) ـ بياء الغيبة ، والباقون بتاء الخطاب. قوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ) أي ذلك الذي ذكرت ، لتعلموا أن الله هو الحق (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ) أي الزائل يقال : بطل ظله ، إذا زال (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ) أي في ذاته.

قوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ) لما قال ألم تر أن الله يولج الليل في النهار وسخر الشمس والقمر ذكر آية سماوية وأشار إلى السبب والمسبّب ذكر بعده آية أرضية وأشار إلى السبب والمسبب بقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) ، وقوله : (بِنِعْمَتِ اللهِ) أي الريح التي هي بأمر الله (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ) يعني يريكم بإجرائها (٤)(بِنِعْمَتِ اللهِ) بعض آياته وعجائبه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ) على أمر الله «شكور» على نعمه.

قوله : (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ) لما قال : إنّ في ذلك لآيات لكلّ صبّار ذكر أن الكلّ معترف به غير أن البصير يدركه أولا ومن في بصيرته ضعف لا يدركه أولا فإذا غشيه موج ووقع في شدة اعترف بأن الكل لله (٥) ودعاه مخلصا. وقوله : «كالظلل» قال مقاتل : كالجبال (٦) ، وقال الكلبي (٧) : كالسحاب. والظلل جمع الظّلة شبه بها الموج في كثرتها وارتفاعها (٨) ، وجعل الموج وهو واحد كالظّلل وهو جمع لأن الموج (٩) يأتي منه شيء بعد شيء وقوله : (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي يتركون كل من دعوهم (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ) أي نجاهم (١٠) من تلك الشدة فمنهم من يبقى على تلك الحالة ووصفهم بقوله : (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) أي عدل موف في البر بما عاهد (١١) الله عليه في البحر من التوحيد له يعني على إيمانه. قيل : نزلت في عكرمة بن أبي جهل هرب عام الفتح في البحر فجاءهم ريح عاصف فقال عكرمة : لئن أنجاني (١٢) الله من هذا الأمر لأرجعن إلى محمد ولأضع (١٣)

__________________

(١) هي الآية ٥ من الزمر «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى».

(٢) في «ب» صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) انظر : الإتحاف ٣٥٠ ، والسبعة ٥١٤ ومختصر ابن خالويه ١١٧.

(٤) في «ب» من إجرائها.

(٥) في «ب» الكل من الله.

(٦) القرطبي ١٤ / ٨٠.

(٧) القرطبي ١٤ / ٨٠.

(٨) المرجع السابق.

(٩) انظر : التفسير الكبير للفخر الرازي ٢٥ / ١٦٢ بالمعنى منه.

(١٠) في «ب» أنجاهم.

(١١) في «ب» بما عاهده الله.

(١٢) في «ب» أنجانا.

(١٣) في «ب» ولأضعن.

٤٦٤

يدي في يده. فسكنت الريح فرجع عكرمة إلى مكة فأسلم وحسن إسلامه (١) ، وقال مجاهد : مقتصد (٢) في القول أي من الكفار لأن منهم من كان أشد قولا من بعض.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله في العنكبوت : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) وقال ههنا : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ)؟!.

فالجواب : لما ذكر ههنا أمرا عظيما وهو الموج الذي كالجبال بقي أثر ذلك في قلوبهم فخرج منهم مقتصد أي في الكفر وهو الذي انزجر بعض الانزجار (٣) ، ومقتصد في الإخلاص فيبقي معه شيء منه ولم يبق على ما كان عليه من الإخلاص ، وهناك لم يذكر مع ركوب البحر معانيه مثل ذلك الأمر فذكر إشراكهم حيث لم يبق عندهم أثر.

قوله : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) في مقابلة قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) يعني يعترف بها الصبار والشكور ، ويجحدها الختّار الكفور فالصّبّار في موازنة الختار لفظا ومعنى ، والكفور في موازنة الشكور أمّا لفظا فظاهر ، وأما معنى فلأن الختار هو الغدار الكثير الغدر ، أو شديد الغدر مثال مبالغة من الختر وهو أشد الغدر (قال الأعشى) :

٤٠٦٠ ـ بأبلق الفرد من تيماء منزله

حصن حصين وجار غير ختّار (٤)

وقال عمرو بن معديكرب :

٤٠٦١ ـ فإنّك لو رأيت أبا عمرو

ملأت يديك من غدر وختر (٥)

وقالوا : «إن مددت لنا يدا من غدر مددنا لك باعا من ختر» (٦) والغدر لا يكون إلا من قلة الصبر لأن الصبور إن لم يعقد مع أحد لا يعهد منه الإضرار فإنه يصبر ويفوض الأمر إلى الله ، وأما الغدار فيعاهدك ولا يصبر على العهد (٧) فينقضه وأما أن الكفور في مقابلة الشكور معنى ظاهر.

__________________

(١) نقله ابن الجوزي في زاد المسير ٦ / ٣٢٨.

(٢) انظر : القرطبي ١٤ / ٨٠.

(٣) في «ب» بعض انزجاره.

(٤) هو له كما أخبر أعلى من البسيط والرواية في اللسان والقرطبي : «بالأبلق» وهو قصر السموءل بن عادياء. وتيماء : موضع ورواية القافية في الديوان : «غير غدار» بدل من ختار محل الشاهد حيث جيء به استدلالا على أن الختر هو أشد الغدر وأفظعه وانظر مجاز القرآن ٢ / ٢٩ والقرطبي ١٤ / ٨٠ ولسان العرب : «ت ي م» ٤٦٢ و «ب ل ق» وديوانه ٦٩ ، وانظر كذلك صحاح الجوهرة : «خ ت ر».

(٥) من الوافر له والأصح : أبا عمير «بدل من عمرو» حتى يتسنى الوزن والغدر : غير الختر بدليل عطف الختر عليه وقيل : هما بمعنى. والشاهد فيه كسابقه حيث تعني كلمة «الختر» أشد الغدر وأسوأه. وانظر البيت في مجاز القرآن ٢ / ١٢٩ والقرطبي ١٤ / ٨٠ والبحر المحيط ٧ / ١٨٢ والطبري ٢١ / ٤ والكشاف ٣ / ٢٣٨ وتفسير ابن كثير ٣ / ٤٥٣ ، ومجمع البيان للطبرسي ٧ / ٥٠٥ وديوانه (١٠٩).

(٦) ذكر هذا الخبر ابن منظور في اللسان : «خ ت ر» ١٠٩٩ بصيغة : «لن تمد لنا شبرا من غدر إلا مددنا لك باعا من ختر».

(٧) في «ب» الغدر.

٤٦٥

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(٣٤)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) لما ذكر الدلائل من أول السورة إلى آخرها وعظ بالتقوى فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي) لا يقضي ، ولا يغني (والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً). قال ابن عباس : كل امرىء تهمه نفسه ، واعلم أنه تعالى ذكر شخصين في غاية الشفقة والحنان والحنوّ وهو الوالد والولد ، فاستدل بالأولى على الأعلى فذكر الوالد والولد جميعا لأن من الأمور ما يبادر الأب إلى تحمّله عن الولد كدفع المال ، وتحمّل الآلام والولد لا يبادر إلى تحمله عن الوالد (مثل (١) ما يبادر الوالد إلى تحمله عن الولد) ، ومنها ما يبادر الولد إليه كالإهانة فإن من يريد (إحضار (٢)) والد آخر عند وال (٣) أو قاض يهون على الابن أن يدفع الإهانة عن والده ويحضر هو بدله وإذا انتهى الأمر إلى الإيلام يهون على الأب أن يدفع الألم عن ابنه ويتحمله هو بنفسه (٤). فقوله : (لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) في دفع الآلام (وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) في دفع الإهانة ثم قال : (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) أي إن هذا اليوم الذي هذا شأنه هو كائن لأن الله وعد به ووعده حق ، وقيل : وعد الله حق بأنه لا يجزي والد عن ولده لأنه وعد بأن لا تزر وازرة وزر أخرى ووعد الله حق (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي لا تغتروا بالدنيا (٥) فإنها زائلة لوقوع اليوم المذكور بالوعد الحق.

(وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) يعني الشيطان يزين في عينه الدنيا ويؤمله يقول : إنك تحصل بها الآخرة أو تلتذ بها ثم تتوب فتجتمع (٦) لك الدنيا والآخرة فنهاهم عن الأمرين.

قوله : (وَلا مَوْلُودٌ) جوزوا فيه وجهين :

أحدهما : أنه مبتدأ (٧) ، وما بعده الخبر.

والثاني : أنه معطوف على «والد» وتكون (٨) الجملة صفة له. وفيه إشكال وهو أنه

__________________

(١) ساقط من «ب» وانظر في هذا تفسير الإمام فخر الدين الرازي ٢٥ / ١٦٣.

(٢) سقط من «ب».

(٣) في «ب» عند قاض أو وال بتقديم أحدهما على الآخر.

(٤) في «ب» هو عن نفسه.

(٥) في «ب» لا تغروا بالدنيا.

(٦) في «ب» فتجمع.

(٧) انظر : التبيان ١٠٤٦ والبحر المحيط ٧ / ١٩٤.

(٨) المرجعان السابقان والبيان لابن الأنباري ٢ / ٢٥٧.

٤٦٦

نفى عنه أن يجزي ثم وصفه بأنه جاز ، وقد يجاب عنه : بأنه وإن كان جازيا عنه في الدنيا فليس جازيا عنه يوم القيامة ، (فالحالان) (١) باعتبار زمنين (٢). وقد منع المهدويّ (٣) أن يكون مبتدأ ، قال لأن الجملة بعده صفة له فيبقى بلا خبر ، ولا مسوغ غير الوصف (٤) ، وهو سهو لأن النكرة متى اعتمدت على نفي ساغ الابتداء بها ، وهذا من أشهر مسوغاته ، وقال الزمخشري : فإن (٥) قلت : (قوله (٦)) (وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) هو وارد على طريق من التوكيد لم يرد عليه ما هو معطوف عليه قلت : الأمر كذلك لأن الجملة الاسمية آكد من الفعلية ، وقد انضم إلى ذلك قوله : «هو» وقوله : «مولود» قال : ومعنى التوكيد في لفظ المولود أن الواحد منهم لو شفع للوالد الأدنى الذي ولد منه لم يقبل منه ، فضلا أن يشفع لمن فوقه من أجداده ؛ لأن الولد يقع (٧) على الولد وولد الولد بخلاف المولود فإنه الذي ولد منك قال : والسبب في مجيئه على هذا السّنن أن الخطاب للمؤمنين وعليتهم قبض آباؤهم في الكفر فأريد حسم (٨) أطماعهم وأطماع الناس فيهم. والجملة من قوله «لا يجزي» صفة (ليوم) ، والعائد محذوف أي (فيه) فحذف برمّته أو على التدريج ، وقرأ عكرمة «لا يجزى» مبنيا (٩) للمفعول ، وأبو السّمّال (١٠) وأبو السّوّار (١١) لا يجزىء بالهمز (١٢) من «أجزأ عنه» أي أغنى ، وقوله «شيئا» منصوب على المصدر وهو من الإعمال ، لأن «يجزي» و «جاز» يطلبانه ، والعامل «جاز» على ما هو المختار للحذف من الأول (١٣).

قوله : (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ) العامة على تشديد النون ، وابن أبي إسحاق وابن أبي عبلة

__________________

(١) سقط من «ب».

(٢) في «ب» زمن معين وانظر : الدر المصون ٤ / ٣٥١.

(٣) سبق التعريف به.

(٤) البحر ٧ / ١٩٤.

(٥) الكشاف ٣ / ٢٣٨.

(٦) ساقط من «ب» وهي في المرجع السابق.

(٧) في «ب» لأن الوالد ينتفع الولد وهذا تحريف وخطأ وبخلاف ما في الكشاف المرجع المعمول عليه.

(٨) بالمعنى من كشاف الزمخشري المرجع السابق ٣ / ٢٣٨.

(٩) ذكر هذه القراءة أبو حيان في بحره ٧ / ١٩٤.

(١٠) أبو السّمّال : قعنب بن أبي قعنب أبو السّمال العدويّ البصري له اختيار في القراءة شاذّ عن العامة رواه عنه أبو زيد سعيد بن أوس وهشام البربري.

انظر : غاية النهاية في طبقات القراء ٢ / ٢٧.

(١١) لم أتوصل إلى ترجمته وقد أسماه ابن خالويه في مختصره «أبو السّرّار». انظر : مختصر ابن خالويه ١١٧.

(١٢) مختصر ابن خالويه وشواذ القرآن ١٩١.

(١٣) ذكره أبو حيان في البحر ٧ / ١٩٤.

٤٦٧

ويعقوب بالتخفيف (١) وسمّاك بن حرب (٢) «الغرور» (٣) ـ بالضم ـ وهو (٤) مصدر ، والعامة بالفتح صفة مبالغة كشكور وفسر بالشيطان على أنه يجوز أن يكون المضموم مصدرا واقعا وصفا للشيطان.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ...) الآية ، نزلت في الوارث (٥) بن حارثة محارب بن خصفة أتى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من البادية فسأله عن الساعة ووقتها ، وقال إن أرضنا أجدبت فمتى ينزل الغيث؟ وتركت امرأتي حبلى فمتى تلد؟ وقد علمت أين ولدت فبأي أرض أموت؟ فأنزل الله هذه الآية روي أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «مفاتيح الغيب خمس إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ما ذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير» (٦). قال ابن الخطيب : قال بعض المفسّرين : إن الله تعالى نفى (علم (٧)) أمور خمسة عن غيره بهذه الآية وهو كذلك لكن المقصود ليس ذلك لأن الله يعلم الجوهر الفرد والطوفان وتقلب الريح من المشرق إلى المغرب كم مرة ويعلم أين هو ولا يعلمه غيره ويعلم أنه (ذرّه (٨)) في بريّة لا يسلكها أحد ولا يعلمها غيره فلا وجه لاختصاص هذه الأشياء بالذكر وإنّ الحق فيه أن نقول لما قال : اخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده وذكر أنه كائن بقوله : (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) كأن قائلا قال : فمتى يكون هذا اليوم؟ فأجيب بأن هذا العلم مما لم يحصل لغير الله ولكن هو كائن (٩).

قوله : (ما ذا تَكْسِبُ) يجوز أن تكون «ما» استفهامية فتعلق الدراية ، وأن تكون موصولة فينتصب (١٠) بها ، وقد تقدم حكم «ماذا» أول الكتاب وتكرر في غضونه.

قوله : (بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) (بِأَيِّ أَرْضٍ) متعلق «بتموت» وهو متعلق للدراية فهو في محل نصب ، وقرأ أبيّ بن كعب وموسى (١١) الأهوازيّ «بأية أرض» على تأنيثها (١٢) ، وهي

__________________

(١) في «ب» بالخفيفة أي بالنون الخفيفة. وانظر هذه القراءة في البحر ٧ / ١٩٤ والدر المصون ٤ / ٣٥٢.

(٢) سمّاك بن حرب بن أوس البكري الذّهليّ أبو المغيرة الكوفي أحد الأعلام التابعين عن جابر بن سمرة ، والنعمان بن بشير له نحو مائتي حديث.

انظر : خلاصة الكمال ١٥٥ و ١٥٦ وقد مات سنة ١٢٣ ه‍.

(٣) ذكر هذه القراءة ابن جني في المحتسب ٢ / ١٧٢.

(٤) البحر المحيط ٧ / ١٩٤.

(٥) انظر : الكشاف ٣ / ٢٣٨ والقرطبي ١٤ / ٨٣ وزاد المسير ٦ / ٣٢٩ و ٣٣٠.

(٦) الحديث رواه الإمام البخاري ٣ / ١٧٤ و ١٧٥ عن ابن عمر ، وانظر مسند الإمام أحمد ٢ / ٢٤ ، ٥٢ ، ٥٨.

(٧) ساقط من «ب».

(٨) ساقط من «ب».

(٩) انظر : تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ١٦٤.

(١٠) ذكره ابن الأنباري في البيان ٢ / ٢٥٧.

(١١) لم أقف عليه.

(١٢) نقلها ابن خالويه في المختصر ١١٧.

٤٦٨

لغة ضعيفة كتأنيث «كلّ» حيث قالوا : كلّهنّ (فعلن (١) ذلك) والمشهور بأيّ أرض ؛ لأن الأرض ليس فيها من علامات التأنيث شيء ، وقيل : أراد بالأرض المكان. نقله البغوي (٢) والباطن فيه بمعنى في أي (في (٣)) أرض نحو : زيد بمكّة أي فيها ، ثم قال : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) لما خصص أولا علمه بالأشياء المذكورة بقوله : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) ذكر أن علمه غير مختصّ بل هو عليم مطلقا بكل شيء وليس علمه بظاهر الأشياء فقط بل هو خبير بظواهر الأشياء وبواطنها.

روى الثعلبي عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «من قرأ سورة لقمان كان له لقمان رفيقا يوم القيامة وأعطي من الحسنات عشرا بعدد من عمل بالمعروف ونهى عن المنكر» (٤).

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق من البحر المحيط ٧ / ١٩٥ والكشاف ٣ / ٢٣٨.

(٢) البغوي : الإمام الحافظ الفقيه المجتهد أبو محمد الحسين بن مسعود الشافعي صاحب معالم التنزيل وشرح السنة وغير ذلك. انظر : تذكرة الحفاظ ٤ / ١٢٥٧. وانظر القرطبي ١٤ / ٨٣.

(٣) زيادة من «ب».

(٤) الكشاف ٣ / ٢٣٩.

٤٦٩

سورة السجدة

مكية (١) ، وهي ثلاث وثلاثون آية وستمائة وثمانون كلمة ، وألف وخمسمائة وثمانية عشر حرفا.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) (١٢)

قوله تعالى : (الم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ).

في «تنزيل» خمسة أوجه :

أحدها : أنه خبر «الم» (٢) ، (لأن الم) (٣) يراد به السورة وبعض القرآن ، و «تنزيل» بمعنى منزل ، والجملة من قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) حال من «الكتاب». والعامل فيها «تنزيل»

__________________

(١) هذا بإجماعهم. وقد نقل ابن الجوزي في زاد المسير أن الكلبي قال : فيها من المدني ثلاث آيات.

وقال مقاتل : فيها آية مدنية ، وقال غيرهما : فيها خمس آيات مدنيات ، وانظر : زاد المسير ٦ / ٣٣٢.

(٢) نقله صاحب التبيان ١٠٤٧.

(٣) ساقط من «ب».

٤٧٠

لأنه مصدر. و (مِنْ رَبِّ) متعلق به أيضا. ويجوز أن يكون حالا من الضمير في «فيه» ؛ لوقوعه خبرا ، والعامل فيه الظرف ، أو الاستقرار (١).

الثاني : أن يكون «تنزيل» مبتدأ و (لا رَيْبَ فِيهِ) خبره (٢). «و (مِنْ رَبِّ) حال من الضمير في «فيه» ولا يجوز حينئذ أن يتعلق ب «تنزيل» ؛ لأن المصدر قد أخبر عنه فلا يعمل. ومن يتسع في الجار لا يبالي بذلك (٣).

الثالث : أن يكون «تنزيل» مبتدأ أيضا و (مِنْ رَبِّ) خبره ، و (لا رَيْبَ) حال أو معترض (٤).

الرابع : أن يكون (لا رَيْبَ) و (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) خبرين ل «تنزيل» (٥).

الخامس : أن يكون «تنزيل» خبر مبتدأ (٦) (مضمر) (٧) ، وكذلك (لا رَيْبَ) ، وكذلك (مِنْ رَبِّ) فتكون كل جملة مستقلة برأسها.

ويجوز أن يكونا حالين من «تنزيل» ، وأن يكون (مِنْ رَبِّ) هو الحال و (لا رَيْبَ) معترض (٨) وأول البقرة مرشد لهذا.

وجوز ابن عطية (٩) أي يكون (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) متعلقا ب «تنزيل». قال : على التقديم والتأخير. ورده أبو حيان : بأنا إذا قلنا : (لا رَيْبَ فِيهِ) اعتراض لم يكن تقديما وتأخيرا بل لو تأخر لم يكن اعتراضا (١٠). وجوز أيضا أن يكون متعلقا بلا ريب فيه من جهة رب العالمين وإن وقع شك الكفرة فذاك لا يراعى (١١) ، قال مقاتل : لا شك فيه أنه تنزيل من رب العالمين (١٢).

قوله : (أَمْ يَقُولُونَ) هي المنقطعة ، والإضراب للانتقال لا للإبطال ، وقيل : الميم صلة أي أيقولون افتراه.

وقيل : فيه إضمار مجازه فهل يؤمنون أم يقولون افتراه. وقوله : (بَلْ هُوَ الْحَقُّ) إضراب ثان ولو قيل : بأنه إضراب إبطال لنفس «افتراه» وحده لكان صوابا وعلى هذا يقال : كل ما في القرآن إضراب وهو انتقال إلا هذا فإنه يجوز أن يكون إبطالا لأنه إبطال لقولهم ، أي ليس هو كما قالوا مفترى بل هو الحق. وفي كلام الزّمخشري ما يرشد إلى (١٣) هذا فإنه قال : والضمير

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) السابق وانظر أيضا البيان ٢ / ٢٥٨ ومشكل إعراب القرآن ٢ / ١٨٦.

(٣) الدر المصون ٤ / ٣٥٣.

(٤) التبيان السابق. والبحر ٧ / ١٩٦.

(٥) الدر والتبيان السابقين.

(٦) البيان والمشكل السابقين.

(٧) ساقط من «ب».

(٨) نقله في الدر المصون ٤ / ٣٥٣.

(٩) فيما نقله عنه أبو حيان في البحر ٧ / ١٩٦.

(١٠) المرجع السابق.

(١١) البحر المحيط ٧ / ١٩٦.

(١٢) فليس بسحر ولا حصانة ولا أساطير الأولين. انظر : القرطبي ١٤ / ٨٥.

(١٣) نقله في الدر المصون ٤ / ٣٥٣ و ٣٥٤.

٤٧١

في «فيه» راجع إلى مضمون الجملة (١) كأنه قيل لا ريب في ذلك أي في كونه من رب العالمين ويشهد لواجهته (٢) : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) ؛ لأن قولهم مفترى إنكار لأن يكون من رب العالمين وكذلك قوله: (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) وما فيه من تقرير أنه من الله وهذا أسلوب صحيح محكم (٣).

قوله : (مِنْ رَبِّكَ) حال من «الحقّ» والعامل فيه محذوف على القاعدة وهو العامل في «لتنذر» ويجوز أن يكون العامل في : «لتنذر» غيره أي أنزله لتنذر.

قوله : (قَوْماً ما أَتاهُمْ) الظاهر أن المفعول الثاني للإنذار محذوف ، و «قوما» هو الأول ، إذ التقدير : لتنذر قوما العقاب و (ما أَتاهُمْ) جملة منفية في محل نصب صفة «لقوما» يريد الذين في الفترة (٤) بين عيسى ومحمد عليهما‌السلام. وجعله الزمخشري (٥) كقوله : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) [يس : ٦] فعلى هذا يكون «من نذير» هو فاعل «أتاهم» و «من» مزيدة فيه و (مِنْ قَبْلِكَ) صفة «لنذير» ، ويجوز أن يتعلق (مِنْ قَبْلِكَ) «بأتاهم». وجوز أبو حيان (٦) أن تكون «ما» موصولة في الموضعين والتقدير : لتنذر قوما العقاب الذي أتاهم من نذير من قبلك و «من نذير» متعلق «بأتاهم» أي أتاهم على لسان نذير من قبلك وكذلك (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) أي العقاب الذي أنذره آباؤهم ، «فما» مفعولة في الموضعين ، و «أنذر» يتعدى إلى اثنين قال الله تعالى : (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً) [فصلت : ١٣] وهذا القول جار على ظواهر القرآن قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر : ٢٤] (أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) [المائدة : ١٩] وهذا الذي قال ظاهر ، ويظهر أن في الآية الأخرى وجها آخر وهو أن تكون «ما» مصدرية تقديره لتنذر قوما إنذار آبائهم لأن الرسل كلّهم متفقون (٧) على كلمة الحق.

فصل

المعنى بل هو يعني القرآن الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك. قال قتادة : كانوا أمة لهم يأتهم نذير قبل محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (قال ابن عباس (٨) ومقاتل : ذاك في الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ) (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ).

قوله : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) لما ذكر الرسالة ، وبين ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد وإقامة الدليل فقال : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ، (والله (٩) مبتدأ ، وخبره (الَّذِي خَلَقَ) يعني الله هو الذي خلق

__________________

(١) الكشاف ٣ / ٢٤٠.

(٢) في الكشاف : ويشهد لوجاهته قوله. وهو الأصح.

(٣) المرجع السابق.

(٤) القرطبي ١٤ / ١٥.

(٥) الكشاف ٣ / ٢٤٠.

(٦) البحر المحيط ٧ / ١٩٧.

(٧) في «ب» كلهم متفقة.

(٨) ساقط من «ب» وانظر : القرطبي ١٤ / ٨٥.

(٩) ساقط من «ب».

٤٧٢

السموات) ولم يخلقها إلا واحد فلا إله إلا واحد. وقد تقدم الكلام في معنى قوله : (سِتَّةِ (١) أَيَّامٍ).

قوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) اختلف (٢) العلماء في هذه الآية ونظائرها على قولين :

أحدهما : ترك التعرض إلى بيان المراد.

والثاني : التعرض إليه. والأول أسلم ؛ لأن صفة الاستواء مما لا يجب العلم بها فمن لم يتعرض إليه لم يترك واجبا ومن تعرض إليه فقد يخطر فيعتقد خلاف ما هو عليه فالأول غاية ما يلزمه أنه لا يعلم ، والثاني يكاد يقع في أن يكون جاهلا وعدم العلم والجهل المركب كالسكوت والكذب ولا شك أن السكوت خير من الكذب وأيضا فإنه أقرب إلى الحكمة لأن من يطالع كتابا صنفه إنسان وكتب له شرحا والشارح دون المصنّف فالظاهر أنه لا يأتي على جميع ما أتى عليه المصنف ولهذا كثيرا ما نرى أن الإنسان يورد الإشكالات على المصنّف المتقدم ثم يجيء من ينصر كلام المصنّف ويقول : لم يرد المصنف هذا وإنما أراد كذا وكذا ، وإذا كان حال الكتب الحادثة التي تكتب من علم قاصر هكذا فما ظنك بالكتاب العظيم الذي فيه كل حكمة كيف يجوز أن يدعي جاهل أني علمت كل سر في هذا الكتاب؟ فلو ادعى عالم أني علمت كل سر وكل فائدة يشتمل عليها الكتاب الفلانيّ يستقبح منه ذلك فكيف من يدعي أنه علم كل ما في كتاب الله (٣)؟

(وليس لقائل أن يقول : بأن الله بين كل (٤) ما أنزله) ؛ لأن تأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز. ولعل في القرآن ما لا يحتاج إليه أحد غير نبيه فبين (٥) له لا لغيره.

وإذا ثبت هذا علم أن في القرآن ما لا يعلم ، وهذا أقرب إلى ذلك (الذي) (٦) لا يعلم للتشابه البالغ الذي فيه (٧). قوله : (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ). لما ذكر أن الله خالق السموات والأرض قال بعضهم : نحن معترفون بأن خالق السموات والأرض واحد هو إله السموات والأرض وهذه الأصنام صور كواكب منها نصرتنا وقوتنا.

وقال آخرون : هذه صور ملائكة شفعاء لنا عند الله ، فقال تعالى : لا إله غير (٨) الله ،

__________________

(١) أي إلى ستة أحوال في نظر الناظرين وذلك لأن السموات والأرض وما بينهما ثلاثة أشياء ولكل واحد منها ذات وصفة ونظرا إلى خلقه ذات السموات حالة ، ونظرا إلى خلقه صفاتها أخرى ، ونظرا إلى ذات الأرض وإلى صفاتها كذلك ، ونظرا إلى ذوات ما بينهما وإلى صفاتها كذلك فهي ستة أشياء على ستة أحوال. وانظر : اللباب ٣ / ١٢٧ ب ، وسورة الأعراف الآية ٥٤.

(٢) انظر : التفسير الكبير للإمام الفخر ٢٥ / ١٦٧ و ١٦٨.

(٣) المرجع السابق.

(٤) ما بين القوسين ساقط من «ب».

(٥) في «ب» فبيّن بالمضارع.

(٦) ساقط من «ب».

(٧) تفسير الرازي ٢٥ / ١٦٩.

(٨) في «ب» إلّا الله.

٤٧٣

ولا نصرة من غير الله ، ولا شفاعة (١) إلا بإذن الله فعبادتكم لهذه الأصنام باطلة ضائعة.

ثم قال : (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) ما علمتموه من أنه خالق السموات والأرض ، وخالق لهذه الأجسام العظام ، لا يقدر (٢) عليه مثل هذه الأصنام حتى ينصروكم وتكون لها (٣) شفاعة.

قوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) لما بين الخلق بين الأمر كما قال تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف : ٥٤] يحكم الأمر ، وينزل القضاء ، والقدر من السماء إلى الأرض. وقيل : ينزل الوحي مع جبريل ـ عليه‌السلام ـ بالأمر (٤).

قوله : (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) العامة على بنائه للفاعل. وابن أبي عبلة على بنائه للمفعول (٥). والأصل يعرج به ، ثم حذف الجار فارتفع الضمير واستتر. وهو شاذ (٦) يصلح لتوجيه مثلها ، والمعنى : أن أمره ينزل من السماء على عباده ويعرج إليه أعمالهم الصالحة الصادرة على موافقة ذلك الأمر (٧).

قوله : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) (أي في يوم (٨) واحد يعني نزول وعروج العمل في مسافة ألف سنة ممّا تعدّون) ، وهو بين السماء والأرض فإن مسافته خمسمائة سنة (فينزل (٩) في مسيرة خمسمائة سنة ويعرج في خمسمائة سنة فهو مقدار ألف سنة) يقول لو سار أحد من بني آدم لم يقطعه إلا في ألف سنة والملائكة يقطعونه في يوم واحد هذا في وصف عروج الملائكة (١٠) من الأرض إلى السماء وأما قوله : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [المعارج : ٤] أراد مدة المسافة من الأرض إلى سدرة المنتهى التي هي مقام جبريل ـ عليه‌السلام ـ يسير جبريل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد من أيام الدنيا. قاله مجاهد (١١) والضحاك ، وقيل : إن ذلك (١٢) إشارة إلى امتداد نفاذ الأمر وذلك لأن من نفذ أمره غاية النّفاذ في يوم أو يومين وانقطع لا يكون مثل من ينفذ أمره في سنين متطاولة ، فقوله : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) ، يعني يدبر الأمر في زمان يوم منه ألف سنة فكم يكون شهر منه (وكم تكون سنة) (١٣) منه وكم يكون دهر منه ، وعلى هذا فلا فرق بين هذا وبين قوله : (مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) لأن ذلك (إذا كان إشارة (١٤) إلى دوام إنفاذ الأمر ،

__________________

(١) وفيها : إذ لا شفاعة.

(٢) في «ب» : لا قدرة لهذه الأصنام.

(٣) في «ب» : فكيف ينصرونكم ويكونون لكم شفعاء.

(٤) وانظر في هذا كله الرازي ٢٥ / ١٦٩ و ١٧١ و ١٧٢.

(٥) وهي قراءة معاذ القارىء وابن السميقع أيضا. وانظر : زاد المسير ٦ / ٣٣٤ والكشاف ٣ / ٢٤٠.

(٦) نقله صاحب الدر المصون ٤ / ٣٥٥.

(٧) وانظر : الرازي السابق ٢٥ / ١٧٢.

(٨) ساقط من «ب».

(٩) ساقط من «ب» كذلك.

(١٠) في «ب» الملك بصيغة الإفراد.

(١١) القرطبي ١٤ / ٨٩.

(١٢) التفسير الكبير ٢٥ / ١٧٢.

(١٣) ساقط من «ب».

(١٤) ساقط من «ب».

٤٧٤

فسواء يعبّر بألف سنة أو بخمسين ألف سنة) لا يتفاوت إلا أن المبالغة بالخمسين أكثر ، وسيأتي بيان فائدتها في موضعها إن شاء الله تعالى. وقيل : ألف سنة وخمسون ألف سنة كلها في القمة (١) يكون على بعضهم أطول (٢) ، وعلى بعضهم أقصر معناه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض مدة أيام الدنيا ثم يعرج أي يرجع الأمر والتدبير إليه بعد فناء الدنيا وانقطاع أمر الأمراء أو حكم الحكماء في يوم مقداره ألف سنة وهو يوم القيامة فأما قوله (خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) فإنه أراد على الكافر يجعل ذلك اليوم عليه مقدار خمسين ألف سنة وعلى المؤمن دون ذلك حتى جاء في الحديث أنه يكون على المؤمن كقدر صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا ، وقال إبراهيم التيميّ (لا) (٣) يكون على المؤمن (إلا) (٤) كما بين الظّهر والعصر ، ويجوز أن يكون هذا إخبارا عن شدته ومشقته وهوله (٥) ، وقال ابن أبي مليكة (٦) : دخلت أنا وعبد الله بن فيروز (٧) علي ابن عباس فسألناه عن هذه الآية وعن قوله : (خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) فقال ابن عباس : أيام سماها الله لا أدري ما هي أكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم (٨).

قوله : (مِمَّا تَعُدُّونَ) العامة على الخطاب ، والحسن ، والسّلميّ ، وابن وثّاب والأعمش بالغيبة (٩) ، وهذا الجار صفة «لألف» أو «لسنة».

قوله : (ذلِكَ عالِمُ) العامة على رفع «عالم» و «العزيز» و «الرّحيم» ، على أن يكون «ذلك» مبتدأ ، و «عالم» خبره و «العزيز والرحيم» خبران أو نعتان (١٠) أو (الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) مبتدأ وصفة. و (الَّذِي أَحْسَنَ) خبره ، أو (الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) خبر مبتدأ مضمر. وقرأ زيد (بن علي) (١١) بجر الثلاثة وتخريجها على إشكالها : أن يكون «ذلك» إشارة إلى الأمر المدبّر ، ويكون فاعلا (ليعرج) ، والأوصاف الثلاثة بدل من الضمير في «إليه» (١٢) أيضا. وتكون الجملة بينهما اعتراضا.

__________________

(١) في القيامة وهو أقرب للمراد.

(٢) في «ب» كالحول.

(٣) ساقط من «ب».

(٤) كذلك.

(٥) فيكون نسبة مفترضة.

(٦) هو أبو بكر وأبو محمد عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة زهير بن عبد الله بن جدعان القرشي التيمي المكي الأصولي روى عن جده وعائشة وعنه عمرو بن دينار ، وابن عباس وغيرهما ، مات سنة ١١٧ ه‍. انظر : تذكرة الحفاظ ١ / ١٠٢.

(٧) محمد بن محمد بن فيروز أبو عبد الله الكرجيّ شيخ جليل مقرىء ، قرأ على أحمد بن عبد الله الهاشميّ ، ومحمد بن الحسين الكوفي مات سنة ٣٨٦ ه‍. انظر : غاية النهاية ٢ / ٢٤٧.

(٨) القرطبي ١٤ / ٨٨.

(٩) البحر المحيط ٧ / ١٩٩ والإتحاف ٣٥١ ومختصر ابن خالويه ١١٧.

(١٠) في «ب» صفتان.

(١١) سقطت من «ب» وانظر هذه الإعرابات في الدر المصون ٤ / ٣٥٥ والقراءة في البحر ٧ / ١٩٩.

(١٢) في الدر المصون بعد هذه العبارة : كأنه قيل : ثم يعرج الأمر المدبر إليه عالم الغيب أي إلى عالم ـ

٤٧٥

قوله : (الَّذِي أَحْسَنَ) يجوز أن يكون تابعا لما قبله في قراءتي الرفع والخفض ، وأن يكون خبرا آخر وأن يكون خبر مبتدأ مضمر ، وأن يكون منصوبا على المدح.

قوله : «خلقه» قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر (١) : بسكون اللام ، والباقون بفتحها (٢) فأما الأولى ففيها أوجه :

أحدها : أن يكون «خلقه» بدلا من : (كُلَّ شَيْءٍ)(٣) بدل اشتمال والضمير عائد على (كُلَّ شَيْءٍ) وهذا هو المشهور.

الثاني : أنه بدل كل من كل. والضمير في (٤) «هذا» عائد على «الباري» تعالى ، ومعنى «أحسن» حسن لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما يقتضيه الحكمة ، فالمخلوقات كلها حسنة (٥).

الثالث : أن يكون (كُلَّ شَيْءٍ) مفعولا أول ، و «خلقه» مفعولا ثانيا ، على أن يضمن «أحسن» معنى أعطى وألهم. قال مجاهد : وأعطى كل جنس شكله ، والمعنى خلق كل شيء على شكله الذي خص به (٦).

الرابع : أن يكون (كُلَّ شَيْءٍ) مفعولا ثانيا قدّم و «خلقه» مفعولا أول أخّر على أن يضمن «أحسن» (٧) معنى ألهم وعرّف.

قال الفراء : ألهم كل شيء خلقه (٨) فيما يحتاجون إليه فيكون أعلمهم ذلك. (وقال أبو البقاء : ضمن (٩) «أحسن» معنى «عرّف» وأعرب على نحو ما تقدم إلا أنه لا بدّ أن يجعل الضمير) لله تعالى ، ويجعل الخلق بمعنى المخلوق أي عرف مخلوقاته كلّ شيء يحتاجون إليه فيؤول المعنى إلى معنى قوله : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٥٠].

الخامس : أن تعود الهاء على «الله» تعالى وأن يكون «خلقه» منصوبا على المصدر المؤكد لمضمون الجملة (١٠) كقوله : (صُنْعَ اللهِ) [النمل : ٨٨] ، وهو مذهب سيبويه

__________________

ـ الغيب وأبو زيد برفع «عالم» وخفض «العزيز الرحيم» على أن يكون ذلك عالم مبتدأ وخبر ، و «الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» بدلان من الهاء في «إليه.

(١) مشكل إعراب القرآن لمكي ٢ / ١٨٦ ، وإعراب القرآن للنحاس ٢ / ٢٩٢ والسبعة ٥١٦ والإتحاف ٣٥١ والنشر ٢ / ٣٤٧ وحجة ابن خالويه ٢٨٧.

(٢) وهم نافع وعاصم وحمزة والكسائي وخلف وانظر المراجع السابقة.

(٣) البيان ٢ / ٢٥٩ ومشكل إعراب القرآن ٢ / ١٨٦ و ١٨٧ والتبيان ١٠٤٨.

(٤) المشكل ٢ / ١٨٦.

(٥) البحر المحيط ٧ / ١٩٩.

(٦) المرجع السابق.

(٧) الدر المصون ٤ / ٣٥٦.

(٨) انظر : معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٣٠ و ٢٣١.

(٩) ما بين القوسين ساقط من «ب» وانظر : التبيان ١٠٤٨.

(١٠) انظر : مشكل إعراب القرآن لمكي ٢ / ١٨٦.

٤٧٦

أي (١) خلقه خلقا ، ورجّح على (٢) بدل الاشتمال بأن فيه إضافة المصدر إلى فاعله ، وهو أكثر من إضافته إلى المفعول وبأنه أبلغ في الامتنان (٣) لأنه إذا قال : (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ) كان أبلغ م ن «أحسن خلق كل شيء» ؛ لأنه قد يحسن الخلق وهو المحاولة ولا يكون الشيء في نفسه «حسنا» وإذا قال : (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ) اقتضى أن كل (شيء) خلقه حسن بمعنى أنه وضع كل شيء في موضعه(٤). وأما القراءة الثانية «فخلق» فيها فعل ماض ، والجملة صفة للمضاف أو أو المضاف إليه فتكون منصوبة المحل أو مجرورته (٥).

قوله : (وَبَدَأَ) العامة على الهمز. وقرأ الزّهريّ (٦) «بدأ» بألف خالصة وهو خارج عن قياس تخفيفها إذ قياسه (٧) بين بين على أنّ الأخفش حكى قريبا (٨). وجوز أبو حيان أن يكون من (٩) لغة الأنصار ، يقولون في «بدا» «بدي» بكسر وبعدها ياء كقول عبد الله بن رواحة الأنصاري :

٤٠٦٢ ـ باسم الإله وبه بدينا

ولو عبدنا غيره شقينا (١٠)

قال : وطيىء تقول في تقى تقاء (١١) ، قال : فاحتمل أن تكون قراءة الزهري من هذه اللغة أصله «بدي» ثم صار (١٢) «بدأ» ، قال شهاب الدين : فتكون القراءة مركبة من (١٣) لغتين.

فصل

(ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) يعني ذلك الذي صنع ما ذكر من خلق السماوات والأرض عالم ما غاب عن الخلق وما حضر (الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) لما بين أنه عالم ذكر أنه «عزيز» قادر على الانتقام من الكفرة «رحيم» واسع الرحمة على البررة (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) أي أحسن خلق كلّ شيء (١٤). قال ابن عباس : أتقنه (١٥) وأحكمه وقال

__________________

(١) انظر : الكتاب ١ / ٣٨١.

(٢) في «ب» ورجع الأمر على بدل الاشتمال.

(٣) في «ب» في الإضافة.

(٤) انظر : البحر المحيط ٧ / ١٩٩.

(٥) انظر : مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٨٧ والبيان ٢ / ٢٥٨ والتبيان ١٠٤٨ وتفسير القرطبي ١٤ / ٩٠ والدر المصون ٤ / ٣٥٦.

(٦) ذكرها ابن جني في المحتسب ٢ / ١٧٣ وانظر البحر ٧ / ١٩٩.

(٧) ذكره في المرجع السابق.

(٨) عبارة البحر : «على أن الأخفش حكى في قرأت : قريت» ، انظر : البحر ٧ / ١٩٩.

(٩) المرجع السابق.

(١٠) رجز لعبد الله بن رواحة والشاهد : «بدينا» والأصل : «بدأنا» فقلبت الهمزة ياء على لغة الأنصار وانظر : بحر أبي حيان ٧ / ١٩٩ ، والأشموني ٣ / ٤٢ واللسان (بدا) والبداية والنهاية لابن كثير ٤ / ٩٧ وإعراب ثلاثين سورة ١١ ، وتاج اللغة «بدي» وتاج العروس للزّبيدي ١ / ١٣٩.

(١١) في البحر بقي ـ بقاء.

(١٢) المرجع السابق.

(١٣) الدر المصون ٤ / ١٣٩.

(١٤) انظر : التفسير الكبير للفخر الرازي ٢٥ / ١٧٣.

(١٥) القرطبي ١٤ / ٩٠.

٤٧٧

مقاتل (١) : علم كيف يخلق كل شيء من قولك : فلان يحسن كذا ، إذا كان يعلمه. وقيل : خلق كل حيوان على صورة لم يخلق البعض على صورة البعض فكل حيوان كامل في خلقه حسن ، وكل عضو من أعضائه مقدر بما يصلح معاشه. واعلم أنه تعالى لما ذكر الدليل على الوحدانية من الآفاق بقوله : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) أتبعه بذكر الدليل الدال عليها من الأنفس فقال : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) يعني آدم ، ويمكن أن يقال : الطين ماء وتراب مجتمعان ، والآدمي (٢) أصله مني ، والمني أصله غذاء ، والأغذية إما حيوانية وإما نباتية (والحيوانية(٣) ترجع إلى نباتية) والنبات وجوده بالماء والتراب الذي هو الطين (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ) أي جعل ذريته من نطفة سميت سلالة ؛ لأنها تنسل من الإنسان ، هذا على التفسير الأول ؛ لأن آدم كان من طين ، ونسله من سلالة (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) أي ضعيف وهو نطفة الرجل (ثُمَّ سَوَّاهُ) سوى خلقه (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) يعني آدم ؛ لأن كلمة «ثمّ» للتراخي فتكون التسوية بعد جعل النسل من سلالة ، وذلك بعد خلق آدم ، ثم عاد إلى ذريته فقال : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) (أي (٤) جعل لكم بعد أن كنتم نطفا السمع والأبصار) والأفئدة (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) يعني لا تشكرون رب هذه النعم فتوحدونه ، فقوله (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ) هذه التفات من ضمير (غائب) (٥) مفرد في قوله : «نسله» إلى آخره إلى خطاب جماعة. وفي هذا الخطاب لطيفة وهي أن الخطاب يكون مع الحي فلما قال : (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) خاطبه من بعد وقال : (وَجَعَلَ لَكُمُ).

فإن قيل : الخطاب واقع قبل ذلك كما في قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) [الروم : ٢٠].

فالجواب : هناك لم يذكر الأمور المترتبة وهي كون الإنسان طينا ثم ماء مهينا ، ثم خلقا مسوى (٦) بأنواع القوى فخاطبه في بعض المراتب دون بعض.

فإن قيل : ما الحكم في ذكر المصدر في السمع وفي البصر والفؤاد الاسم ، ولهذا جمع الأبصار والأفئدة ولم يجمع السمع ؛ لأن المصدر لا يجمع؟

فالجواب : أن السمع قوة واحدة ولها محلّ واحد وهو الأذن ولا اختيار لها فيه فإن الصوت من أي جانب كان يصل إليه ولا قدرة للأذن على تخصيص السمع بإدراك البعض دون البعض ، وأمّا الإبصار فمحلّه العين ولها فيه اختيار فإنها تتحرك إلى جانب (٧) المرئيّ

__________________

(١) وهو رأى السدي أيضا وانظر : زاد المسير لابن الجوزي ٦ / ٣٣٤.

(٢) في «ب» وآدم.

(٣) ما بين القوسين ساقط من «ب».

(٤) ما بين القوسين ساقط من «ب».

(٥) ساقط من «ب».

(٦) هكذا هي في تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ١٧٤.

(٧) انظر في هذا كله الإمام الفخر الرازي ٢٥ / ١٧٣ : ١٧٥.

٤٧٨

دون غيره وكذلك الفؤاد محل الإدراك وله نوع اختيار يلتفت إلى ما يريد دون غيره ، وإذا كان كذلك فلم يكن للمحل في السمع تأثير ، والقوة مستبدة (١) فذكر القوة في العين والفؤاد ؛ (لأن للمحل نوع (٢) اختيار ، فذكر المحل لأن الفعل مسند إلى المختار ألا ترى أنك) تقول : سمع زيد ، ورأى عمرو ، ولا تقول : «سمع أذن زيد» ولا «رأى عين عمرو» إلا نادرا لأن المختار هو الأصل وغيره آلته (٣) ، فالسمع أصل دون محله لعدم له لاختيار له والعين كالأصل وقوة الإبصار آلتها والفؤاد كذلك وقوة الفهم آلته فذكر في السمع المصدر الذي هو القوة ، وفي الإبصار والأفئدة الاسم الذي هو محلّ القوة ولأن السمع قوة واحدة لها محل واحد ولهذا لا يسمع الإنسان في زمان واحد كلامين على وجه يضبطهما ويرى في زمان واحد صورتين فأكثر ويتقنهما (٤).

قوله تعالى : (أَإِذا ضَلَلْنا) تقدم خلاف القراء في الاستفهامين (٥) ، والواو للعطف على ما سبق فإنهم قالوا محمد ليس برسول ، والله ليس بواحد وقالوا : الحشر ليس بممكن ، فالعامل في «إذا» محل تقديره (٦) «نبعث أو نخرج» لدلالة : (خَلْقٍ جَدِيدٍ) عليه ولا يعمل فيه (خَلْقٍ جَدِيدٍ) ؛ لأن ما بعد «إنّ» والاستفهام لا يعمل فيما قبلهما ، وجواب «إذا» محذوف إذا جعلتها شرطية (٧). وقرأ العامة «ضللنا» بضاد معجمة ، ولام مفتوحة بمعنى ذهبنا (٨) ، وضعنا من قولهم : ضلّ اللبن في الضرع وقيل : غيّبنا ، قال النابغة :

٤٠٦٣ ـ فآب مضلّوه بعين جليّة

وغودر بالجولان حزم ونائل (٩)

والمضارع من هذا : يضل بكسر العين وهو كثير ، وقرأ يحيى بن يعمر وابن

__________________

(١) في «ب» مستندة.

(٢) ما بين القوسين ساقط من «ب».

(٣) في «ب» مانع إليه.

(٤) انظر : تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ١٧٥.

(٥) يشير إلى الآية (٥) من سورة الرعد وهي قوله : «أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ».

(٦) انظر : مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٨٧.

(٧) بخلاف لو كانت غير شرطية كالظرفية فتكون في موضع نصب «بضللنا» ويؤيد هذا قراءة «أئنا» على الإخبار. والمعنى : أنبعث إذا ضللنا في الأرض.

(٨) غريب القرآن لابن قتيبة ٣٤٦ والقرطبي ١٤ / ١١٠.

(٩) له من بحر الطويل وقبله :

فإن تحي لا أملك حياتي وإن تمت

فما في حياة بعد موتك طائل

وهو يرثي بهما النعمان بن الحارث الغساني. والشاهد فيه كلمة : «مضلّوه» أي دافنوه وهذه الكملة تؤكد معنى ضللنا فعلى هذا الرأي وهو التغيّب كما يغيّب المدفون في التراب. وانظر : ديوان النابغة ١٢١ و ٢٥٤ و «الجولان» موضع معروف بسوريّا ، وبعين جلية : أي بخبر صادق فالكرم والجود ذهبا بذهابه. انظر : القرطبي ١٤ / ٩١ واللسان : «ض ل ل» ٢٦٠٤ والكشاف ٣ / ٢٤٢ ورواية الكشاف : «وآب» بالواو.

٤٧٩

محيصن وأبو رجاء : بكسر اللام (١) وهي لغة العالية ، والمضارع من هذا يضلّ بالفتح ، وقرأ علي وأبو حي (وة) (٢) «ضلّلنا» بضم الضاد وكسر اللام المشددة من «ضلّله» بالتشديد (٣) ، وقرأ عليّ أيضا وابن عباس والحسن والأعمش وأبان بن سعيد : «صللنا» بصاد مهملة ، ولام مفتوحة ، وعن الحسن أيضا صللنا بكسر اللام. وهما لغتان (٤) ، يقال : صلّ اللحم بفتح الصاد وكسرها لمجيء الماضي مفتوح العين ومكسورها ، ومعنى صلّ اللّحم أنتن وتغيّرت رائحته ويقال أيضا : أصلّ بالألف قال :

٤٠٦٤ ـ تلجلج مضغة فيها أنيض

أصلّت فهي تحت الكشح داء (٥)

وقال النحاس : لا يعرف في (٦) اللغة «صللنا» ولكن يقال : صلّ اللّحم وأصلّ ، وخمّ وأخمّ وقد عرفها غير أبي جعفر (٧).

فصل

قال في تكذيبهم بالرسالة : (أَمْ يَقُولُونَ) بلفظ المستقبل وقال في تكذيبهم بالحشر : «وقالوا» بلفظ الماضي ؛ لأن تكذيبهم بالرسالة لم يكن قبل وجوده ، وإنما كان حال وجوده فقال : «يقولون» يعني هم فيه. وأما إنكار الحشر فكان سابقا صادرا منهم ومن آبائهم فقال : (وَقالُوا) وصرح بقولهم في الرسالة فقال : (أَمْ يَقُولُونَ) وفي الحشر فقال : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا) ولم يصرح بقولهم في الوحدانية ؛ لأنهم كانوا مصرين في جميع الأحوال على إنكار الحشر والرسالة وأما الوحدانية فكانوا يعترفون بها في بعض الأحوال في قوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥] فلم يقل : قالوا إن الله ليس بواحد وإن كانوا قالوه في الظاهر.

__________________

(١) ذكرها ابن خالويه في مختصره ١١٧ ، وانظر أيضا إعراب القرآن للنحّاس ٤ / ٢٩٣ والبحر ٧ / ٢٠٠ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٢٠٥ ومعاني القرآن للفراء ٢ / ٣٢١.

(٢) تصحيح لأبي حيوة فكانت في كلتا النسختين «حياة».

(٣) مختصر ابن خالويه أيضا وهي قراءة شاذة ١١٧ وانظر أيضا معاني الفراء ٢ / ٢٣١ ومعاني الزجاج ٤ / ٢٠٥ وإعراب القرآن للنحاس ٣ / ٢٩٣ والمحتسب ٢ / ١٧٤.

(٤) انظر : إعراب القرآن للنحاس ٤ / ٢٩٣ ومعاني الفراء ٢ / ٢٣١ ومعاني الزجاج ٤ / ٢٠٥.

(٥) من تمام الوافر لزهير بن أبي سلمى ، والشاهد فيه «أصلّ» حيث جاء الفعل بهمزة وهو معنى الفعل الثلاثي «صلّ» فالمعنى واحد وهو التغير والتنتّن. وانظر : اللسان مادة : «ص. ل. ل» ٢٤٨٧ والمحتسب ٢ / ١٧٤ وكامل المبرد ١ / ١٤ وديوانه ٨٣ ، والأنيض مصدر لقولنا : أنض اللحم يأنض إذا تغير.

(٦) انظر : إعراب القرآن للنحاس ٣ / ٢٩٣.

(٧) هذا كلام الشارح أي إنها عرفت لدى العلماء على خلاف زعم أبي جعفر النحاس ووجهة نظر النحاس أن السماع هو المعمول عليه ولذلك قال : سمع صللنا بالفتح ، وانظر : الدر المصون ٤ / ٣٥٨ والبحر المحيط ٧ / ٢٠٠.

٤٨٠