اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦١٥

إسناد عمل السيئة إليهم مكررا فضل تهجين لحالهم ، وزيادة تبغيض للسيئة إلى السامعين ، وهذا من فضله العظيم أنه لا يجزي بالسيئة إلا مثلها ، ويجزي بالحسنة بعشر (١) أمثالها (٢).

فإن قيل : قال تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧] كرر ذكر الإحسان واكتفى في ذكر الإساءة بمرة واحدة ، (وفي هذه الآية كرر الإساءة واكتفى في ذكر الإحسان بمرة واحدة) (٣) فما السبب؟

والجواب (٤) : أن هذا المقام مقام الترغيب في الدار الآخرة فكانت المبالغة في النهي (٥) عن المعصية مبالغة في الدعوة إلى الآخرة ، وأما الآية الأخرى فهي في شرح حالهم فكانت المبالغة في ذكر محاسنهم أولى (٦). فإن قيل : كيف لا تجزى السيئة إلا بمثلها مع أن المتكلم بكلمة الكفر إذا مات في الحال عذب أبد الآباد؟ فالجواب : لأنه كان على عزم أنه لو عاش أبدا لقال ذلك فعومل بمقتضى عزمه(٧).

قوله (٨) : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) قال أبو علي (٩) : فرض عليك أحكامه وفرائضه «لرادّك» بعد الموت «إلى معاد» وتنكير المعاد لتعظيمه ، كأنه قال : معاد وأي معاد ، أي ليس لغيرك من البشر مثله ، وقيل : المراد به مكة وترداده إليها يوم الفتح ، ووجه تنكيره إياها كانت في ذلك اليوم معادا لها شأن عظيم لاستيلاء رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عليها ، وقهره لأهلها وإظهار (١٠) عز الإسلام وإذلال (١١) حزب الكفرة ، والسورة مكية ، فكأن الله تعالى وعده وهو بمكة حين أوذي وهو في غلبة من أهلها أنه يهاجر منها ، ويعيده إليها ظاهرا ظافرا ، وقال مقاتل : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج من الغار وسار في غير الطريق مخافة الطلب فلما رجع إلى الطريق نزل بالجحفة (١٢) بين مكة والمدينة ، وعرف الطريق إلى مكة واشتاق إليها وذكر مولده ومولد أبيه ، فنزل جبريل فقال : أتشتاق إلى بلدك ومولدك؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم» فقال جبريل إنّ الله (١٣) يقول : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ)(١٤). يعني مكة ظاهرا عليهم قال المحققون : وهذا حد ما يدل على نبوته ، لأنه أخبر عن الغيب ووقع ما أخبر به فيكون معجزا (١٥).

__________________

(١) في ب : عشر.

(٢) انظر الكشاف ٣ / ١٨١. بتصرف.

(٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(٤) في ب : فالجواب.

(٥) في ب : المنهي.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ٢٢.

(٧) المرجع السابق.

(٨) في ب : قوله تعالى.

(٩) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٥ / ٢٢.

(١٠) في ب : فإظهار.

(١١) في ب : إذلال.

(١٢) الجحفة : موضع بين مكة والمدينة. المعجم الوسيط (جحف).

(١٣) في ب : الله تعالى.

(١٤) انظر الدر المنثور ٥ / ١٣٩.

(١٥) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٥ / ٢٢.

٣٠١

قوله : (مَنْ جاءَ بِالْهُدى) منصوب بمضمر ، أي : يعلم (١) أو «أعلم» إن جعلناها بمعنى عالم وأعملناها إعماله (٢) ، ووجه تعلقه بما قبله أنّ الله تعالى لما وعد رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الرد إلى معاد قال : قل للمشركين (رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى) يعني نفسه وما يستحقه من الثواب في المعاد والإعزاز بالإعادة إلى مكة (وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يعنيهم وما يستحقونه من العذاب في معادهم (٣).

قوله (٤) : (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ) أي : يوحى إليك القرآن (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) قال الفراء هذا استثناء منقطع (٥) ، أي : لكن رحمة من ربك فأعطاك القرآن وقيل : متصل. قال الزمخشري : هذا كلام محمول على المعنى ، كأنه قيل : وما ألقي إليك (٦) الكتاب إلا رحمة (٧). فيكون استثناء من الأحوال ومن المفعول له (٨) ، (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) أي : معينا لهم على دينهم ، قال مقاتل : وذلك حين دعي إلى دين آبائه فذكره الله نعمه ونهاه عن مظاهرتهم على ما هم عليه (٩).

قوله : (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ) قرأ العامة بفتح الياء وضم الصاد ، من : صدّه يصدّه ، وقرىء بضم الياء وكسر الصاد ، من : أصده بمعنى صدّه ، حكاها أبو زيد عن كلب (١٠). قال الشاعر:

٤٠٢٣ ـ أناس أصدّوا النّاس بالسّيف عنهم

صدود السّواقي عن أنوف الحوائم (١١)

__________________

(١) قال ابن الأنباري : (ووجه التقدير لامتناع الإضافة ، ولأن «أعلم» لا يعمل في المفعول لأنه من المعاني ، والمعاني لا تنصب المفعول) البيان ٢ / ٢٣٩ ، وانظر البحر المحيط ٧ / ١٣٦.

(٢) قال أبو حيان : (ومن أجاز أن يأتي أفعل بمعنى فاعل ، وجاز مع ذلك أن ينصب به جاز أن ينتصب به إذ يؤوله بمعنى عالم ويعطيه حكمه) البحر المحيط ٧ / ١٣٦.

(٣) انظر الكشاف ٣ / ١٨١ ، الفخر الرازي ٢٥ / ٢٢.

(٤) في ب : قوله تعالى.

(٥) معاني القرآن ٢ / ٣١٣ ، وقال الأخفش : (استثناء خارج من أول الكلام في معنى لكن) المعاني ٢ / ٦٥٥.

(٦) في الكشاف : عليك.

(٧) الكشاف ٣ / ١٨١.

(٨) انظر البحر المحيط ٧ / ١٣٧.

(٩) انظر البغوي ٦ / ٣٧٢.

(١٠) لم أعثر على ذلك في النوادر ، وفي المختصر : قال ابن خالويه :(«وَلا يَصُدُّنَّكَ» حكاه أبو زيد عن رجل من كلب ، وقال : هي لغة قومه) ١١٤ ، وانظر البحر المحيط ٧ / ١٣٧.

(١١) البيت من بحر الطويل ، قاله ذو الرّمة ، وهو في ديوانه ٢ / ٧٧١ ، الكشاف ٣ / ١٨١. القرطبي ١٣ / ٣٢٢ ، اللسان (صدد) البحر المحيط ٧ / ١٣٧ ، وروي :

صدود السّواقي عن رؤوس المخارم

السواقي : مجاري الماء. المخرم : منقطع أنف الجبل ، يقول : صدوا الناس عنهم بالسيف كما صدّت هذه الأنهار عن المخارم ، فلم تستطع أن ترتفع إليها. الحوائم : الجمال العطاش ، لأنها تحوم حول الماء جمع حائم. والشاهد فيه قوله : (أصدّوا) فإنه بمعنى صدوا.

٣٠٢

وأصل «يصدّنك» «يصدّوننّك» ، ففعل فيه ما فعل في (لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ)(١) [هود : ٨] ، والمعنى لا تلتفت إلى هؤلاء ولا تركن إلى قولهم فيصدوك عن اتباع آيات الله (٢) يعني القرآن. (بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ (٣) إِلَيْكَ ، وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) أي : إلى دين ربك وإلى معرفته وتوحيده (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) قال ابن عباس : الخطاب في الظاهر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد به : أهل دينه (٤) ، أي : لا تظاهروا الكفار ولا توافقوهم ومثله : (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) وهذا وإن كان واجبا على الكلّ إلا أنه تعالى خاطبه به خصوصا لأجل (التعليم (٥)) (٦) ، فإن قيل : الرسول كان معلوما منه أنه لا يفعل شيئا من ذلك ألبتة ، فما فائدة ذلك النهي؟ فالجواب : أنّ الخطاب وإن كان معه لكن المراد غيره ، ويجوز أن يكون المعنى : لا تعتمد على غير الله ولا تتخذ غيره وكيلا في أمورك ، فإن وثق بغير الله فكأنّه لم يكمل طريقه في التوحيد (٧) ، ثم بيّن أنه لا إله إلّا هو أي : لا نافع ولا ضار ولا معطي ولا مانع إلّا هو كقوله : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) [المزمل : ٩] فلا يجوز اتخاذ إله سواه(٨).

قوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) من جعل شيئا يطلق (٩) على الباري تعالى ـ وهو الصحيح ـ قال : هذا استثناء متصل ، والمراد بالوجه الذات ، وإنّما جرى على عادة العرب في التعبير بالأشرف عن الجملة (١٠) ، ومن لم يطلق عليه جعله متصلا أيضا ، وجعل الوجه ما عمل لأجله أو الجاه الذي بين الناس ، أو يجعله منقطعا أي : لكن هو تعالى لم يهلك (١١).

فصل

استدلت المعتزلة على أن الجنة والنار غير مخلوقتين بأنّ هذه الآية تقتضي فناء الكل ، فلو كانتا مخلوقتين لكان هذا يناقض قوله تعالى في صفة الجنة (أُكُلُها دائِمٌ) [الرعد : ٣٥] ، والجواب : هذا معارض بقوله تعالى (في صفة الجنة) (١٢)(أُعِدَّتْ

__________________

(١) يعني بذلك أن الفعل هنا وفي سورة «هود» معرب لأن النون مفصولة تقديرا ، إذ الأصل : يصدوننّك ، ليقولوننّ ، النون الأولى للرفع وبعدها نون مشددة فاستثقل توالي الأمثال ، فحذفت نون الرفع ، لأنها لا تدل من المعنى على ما تدل عليه نون التوكيد ، فالتقى ساكنان ، فحذفت الواو التي هي ضمير الفعل ، لالتقائها ساكنة مع النون. انظر الباب ٤ / ٣٣١.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ٢٣.

(٣) في ب : أنزل. وهو تحريف.

(٤) انظر البغوي ٦ / ٣٧٢ ـ ٣٧٣.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ٢٣.

(٦) في الفخر الرازي : التعظيم.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ٢٣.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ٢٣.

(٩) في ب : ينطلق.

(١٠) ويسمى هذا مجازا مرسلا علاقته الجزئية حيث أطلق الجزء وأراد الكل.

(١١) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ١٥٨ ، تفسير ابن عطية ١١ / ٣٥٠ ، البيان ٢ / ٢٣٩ ـ ٢٤٠ ، التبيان ٢ / ١٠٢٨.

(١٢) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

٣٠٣

لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : ١٣٣] وفي صفة النار : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [البقرة : ٢٤] ثم إما أن يحمل قوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ) على الأكثر كقوله : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ٢٤] أو يحمل على الفناء القليل كقوله : (أُكُلُها دائِمٌ) [الرعد : ٣٥] على أن فناءها لما كان قليلا بالنسبة إلى زمان بقائها لا جرم أطلق لفظ الدوام عليها (١).

قوله : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي (٢) : في الآخرة ، والعامة على بنائه للمفعول ، وعيسى على بنائه للفاعل (٣) ، روى الثعالبي في تفسيره عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «من قرأ طسم القصص لم يبق في السموات والأرض إلا شهد له يوم القيامة أنّه كان مصدّقا أن كلّ شيء هالك إلّا وجهه له الحكم وإليه ترجعون» (٤).

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ٢٥ ـ ٢٦.

(٢) أي : سقط من الأصل.

(٣) أي : يرجعون. انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٣٥١ ، البحر المحيط ٧ / ١٣٧ ، الإتحاف (٣٤٤).

(٤) انظر الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١٢٧).

٣٠٤

سورة العنكبوت

مكية (١) إلا عشر آيات من أولها إلى قوله : (وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ). قال الشّعبيّ (٢) : فإنها مدنية. وهي تسع وستون آية ، وألف وتسعمائة وإحدى وثمانون كلمة ، وأربعة آلاف ومائة وخمسة وتسعون (حرفا) (٣).

قوله تعالى : (الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ)(٣)

اعلم أن منكري الحشر يقولون لا فائدة في التكاليف ، فإنها مشاق في الحال ، ولا فائدة لها في المآل ؛ إذ لا مآل ولا مرجع بعد الهلاك والزوال ، فلما بين الله تعالى أنهم إليه يرجعون في آخر السورة قبلها (٤) بين أن الأمر ليس على ما حسبوه ، بل (حسن التكليف) (٥) ، لأنه يهذب الشكور ويعذب الكفور ، فقال : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا) غير مكلفين من غير عمل يرجعون به إلى ربهم.

فصل في حكمة افتتاح هذه السّور (٦) بحروف التّهجّي

ولنذكر كلاما كلّيّا في افتتاح السور بالحروف.

اعلم أن الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة ، أو من يكون مشغول البال بشغل يشغله يقدم على الكلام المقصود سببا غيره ليلتفت المخاطب (إليه) (٧) بسببه ، ويقبل بقلبه عليه ، ثم يشرع في المقصود.

واعلم أن ذلك المتقدم على الكلام (المقصود (٨) قد يكون كلاما له معنى مفهوما ، كقول القائل: «زيد ، ويا زيد» و «ألا زيد».

__________________

(١) أحد ثلاثة أقوال في كونها مكية أو مدنية ، فمن قائل : إنها مكية كلها ، ومن قائل : إنها مدنية كلها ومن قائل : هذا القول الأعلى ومنهم الشعبي ، وينظر : فتح القدير للشوكاني ٤ / ١٩١ دار إحياء التراث العربي ببيروت ، والقرطبي ١٣ / ٣٢٣ الهيئة العامة للكتاب ٨٧ ، والبحر المحيط لأبي حيان دار الفكر الطبعة الثانية ١٩٨٣ (٧ / ١٣٨ ، ١٣٩).

(٢) تقدم.

(٣) سقط من ب.

(٤) [القصص : ٨٨] «لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».

(٥) سقط من «ب» وينظر : في تفسير الرازي ٢٥ / ٢٥.

(٦) في «ب» السورة بالإفراد.

(٧) سقط من «ب».

(٨) سقط من «ب» بسبب انتقال النظر.

٣٠٥

وقد يكون المقدم صوتا) غير مفهوم ، كمن يصفّر خلف إنسان ليلتفت وقد يكون الصوت بغير الفم ، كتصفيق الإنسان بيده ، ليقبل السامع عليه.

ثم إن توقع (١) الغفلة (كلما كان أتم ، والكلام المقصود كان أهم) (٢) ، كان المقدم على الكلام المقصود أكثر ولهذا ينادى القريب «بالهمزة» فيقال : «أزيد» ، والبعيد ب «يا» ، فيقال : «يا زيد» ، والغافل ينبه أولا ، فيقال : «ألا يا زيد».

إذا تقرر هذا فنقول : النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وإن كان يقظان الجنان (٣) لكنه إنسان يشغله شأن عن شأن ، فحسن من الحكيم أن يقدم على الكلام المقصود حروفا هي كالمنبّهات.

وتلك الحروف إذا لم يفهم معناها تكون أتم في إفادة المقصود الذي هو التنبيه من تقديم الحروف المفهومة ، لأن الحروف إذا كانت مفهومة المعنى ، وذكرت لإقبال السامع على المتكلم لكي يسمع ما بعد ذلك فربما يظن السامع أنه كل المقصود و «لا» (٤) كلام بعد ذلك فيقطع الالتفات عنه أما إذا سمع صوتا بلا معنى فإنه يقبل عليه ولا يقطع نظره عنه ما لم يسمع غيره ، لجزمه بأن ما سمعه ليس هو المقصود.

فإذن تقديم الحروف التي لا يفهم معناها على الكلام المقصود فيه حكمة بالغة (٥).

فإن قيل : فما الحكمة في اختصاص بعض السور بهذه الحروف؟

فالجواب : قال ابن الخطيب : عقل (٦) البشر يعجز عن إدراك الأشياء الكلّيّة على تفاصيلها ، لكن نذكر ما يوفقنا الله له فنقول : كل سورة في أوائلها (حروف التهجي فإن في أوائلها) (٧) ذكر الكتاب أو التنزيل ، أو القرآن كقوله تعالى : (الم ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : ١ ـ ٢] ، (الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) [آل عمران : ١ ـ ٣] ، (المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ) [الأعراف : ١ ـ ٢] ، (يس وَالْقُرْآنِ) [يس : ١ ـ ٢] ، (الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ) [السجدة : ١ ـ ٢] ، (حم تَنْزِيلُ) [غافر : ١ ـ ٢] ، (ق

__________________

(١) في الرازي موقع.

(٢) ساقط من «ب» فهو بياض فيها ولا كذلك في الرازي ونسخة «أ».

(٣) الجنان ـ بالفتح ـ القلب ، لاستتاره في الصدر ، وقيل : لوعيه الأشياء وجمعه لها ، وقيل : هو روع القلب ، وذلك أذهب في الخفاء ، وينظر: اللسان «ج ن ن» ٧٠٢.

(٤) لا : ساقط من «أ».

(٥) ينظر : تفسير الرازي ٢٥ / ٢٦.

(٦) كذا هي في الرازي كما في «أ» هنا وفي «ب» اتيان البشر.

وابن الخطيب هو : محمد بن عمر بن الحسين بن الحسين بن علي ، الإمام فخر الدين الرازي ، القرشي ، البكري ، من ذرية أبي بكر الصديق ، الشافعي ، المفسر ، المتكلم ، فريد عصره ، ونسيج وحده ، له من الكتب التفسير الكبير وغير ذلك ، مات سنة ٦٢٢ ه‍ ، وينظر : طبقات المفسرين للسيوطي ١١٥ / ١١٦.

(٧) ما بين القوسين ساقط من «ب». وهو في الرازي كما في «أ».

٣٠٦

وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) [ق : ١ ـ ٢]. (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) [ص : ١ ـ ٢] (إلا ثلاث سور) (١)(كهيعص) [مريم : ١] (الم أَحَسِبَ النَّاسُ) [العنكبوت : ١ ـ ٢] (الم غُلِبَتِ الرُّومُ) [الروم : ١ ـ ٢].

والحكمة في افتتاح السور التي فيها الكتاب والتنزيل والكتاب بالحروف (و) (٢) هي أن القرآن عظيم ، والإنزال له أثقل ، كما قال تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل : ٥] ، فكذلك قدم عليها تنبيه يوجب ثبات المخاطب لاستماعه.

لا يقال : كل سورة قرآن ، واستماعها استماع للقرآن ، سواء كان فيها ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن أو لم يكن فيجب أن يكون في أول كل سورة (منبه) (٣) ، وأيضا فقد وردت سور فيها ذكر الإنزال ، والكتاب ، وليس فيها حروف ، كقوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) [الكهف : ١] (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها) [النور : ١] (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان : ١] (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر : ١] لأنا نقول جوابا عن الأول : (لا ريب) (٤) في أن كل سورة من القرآن ، لكن السورة التي فيها ذكر القرآن والكتاب ـ مع أنهما من القرآن ـ فيها تنبيه على كل القرآن ، فإن قوله تعالى : (طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) [طه : ١ ـ ٢] مع أنها بعض القرآن فيها ذكر جميع القرآن ، فيصير مثاله كتاب يرد من ملك على مملوكه فيه شغل ما ، وكتاب آخر يرد منه عليه فيه : «إنّا كتبنا إليك كتابا فيه (٥) أمرنا فامتثله» فلا شك أن هذا الكتاب الآخر أكثر ثقلا من الأول.

وعن الثاني : أن قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَتَبارَكَ الَّذِي) تسبيحات مقصودة ، وتسبيح الله لا يغفل عنه العبد ، فلا يحتاج إلى منبه ، بخلاف الأوامر والنواهي ، وأما ذكر الكتاب فيها فلبيان وصف عظمة من له التسبيح ، و (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) قد بينا أنها بعض من القرآن فيها ذكر إنزالها ، وفي السورة التي ذكرناها ذكر جميع القرآن فهو أعظم وأثقل (٦).

وأما قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) فهذا ليس ورودا (٧) على مشغول القلب بشيء غيره ، بدليل أنه ذكر الكتابة فيها وهي ترجع إلى مذكور سابق أو معلوم عند النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فكان منبها له فلم ينبّه.

واعلم أن التنبيه قد حصل في القرآن بغير الحروف التي لا يفهم معناها ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج : ١] ، وقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) [الأحزاب : ١] ، (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ) [التحريم : ١] لأنها أشياء هائلة

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من «ب».

(٢) زيادة من «ب».

(٣) ساقط من «ب».

(٤) ساقط من «ب».

(٥) في الرازي : أنا كتبنا إليك كتبا فيها أوامرنا فامتثلها.

(٦) في الرازي : أعظم في النفس وأثقل.

(٧) في النسختين «ورود» بالرفع ، وفي الرازي واردا على ... الخ.

٣٠٧

عظيمة ، فإن تقوى الله حق تقاته أمر عظيم فقدم عليها النداء الذي يكون للبعيد الغافل عنها. وأما هذه السور افتتحت بالحروف وليس فيها الابتداء بالكتاب والقرآن ، وذلك لأن ثقل القرآن هو ما فيه من التكاليف والمعاد ، وهذه السورة فيها ذكر جميع التكاليف حيث قال : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا) يعني لا يتركون بمجرد ذلك ، بل لا بدّ وأن يؤمنوا بأنواع التكاليف ، ففيها المعنى الذي في السورة التي ذكر فيها القرآن المشتمل على الأوامر والنواهي.

فإن قيل : فهذا المعنى ورد في سورة التوبة وهو قوله : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ١٦] ولم يقدم عليه حروف التهجي!

فالجواب : أن هذا ابتداء كلام ، ولهذا وقع الاستفهام بالهمزة ، فقال : «أحسب» ، وذلك وسط كلام بدليل وقوع الاستفهام تاما ، والتنبيه (يكون) (١) في أول الكلام ، لا في أثنائه.

وأما (الم غُلِبَتِ الرُّومُ) فسيجيء في موضعه إن شاء الله تعالى (٢).

قوله تعالى : (أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا).

قوله : (أَنْ يُتْرَكُوا) سد مسد مفعولي «حسب» عند الجمهور (٣) ، ومسد أحدهما عند الأخفش (٤).

قوله : (أَنْ يَقُولُوا) فيه أوجه :

أحدها : أنه بدل من (أَنْ يُتْرَكُوا)(٥) ، أبدل مصدرا مؤولا من مثله.

الثاني : أنها على إسقاط الخافض (٦) ، وهو الباء واللام ، أي : بأن يقولوا ، أو لأن يقولوا.

__________________

(١) سقط من «ب».

(٢) وانظر كل هذا في تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٥ / ٢٧ ، و ٢٦ بالمعنى.

(٣) قال ابن الأنباري في البيان : «أن وصلتها في موضع نصب «بحسب» ، وقد سدت بصلتها مسدّ مفعولي حسب. البيان ٢ / ٢٤١ ، الهيئة العامة للكتاب تحقيق د / طه عبد الحميد طه ومراجعة مصطفى السقا ١٤٠٠ ه‍ ١٩٨٠ م ، وانظر أيضا التبيان لأبي البقاء العكبري تحقيق على محمد البجاوي دار إحياء الكتب العربية ، وإعراب القرآن للنحاس ٣ / ٢٤٧ تحقيق د / زهير غازي زاهد عالم الكتب ط ثانية ـ ١٤٠٥ ه‍ / ١٩٨٥ م ، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ١٥٩ ط أولى ١٤٠٨ ه‍ / ١٩٨٨ م عالم الكتب بيروت تحقيق عبد الجليل شلبي.

(٤) هو أبو الحسن سعيد بن مسعدة ، من مشهوري نحويي البصرة ، وله كتب كثيرة في النحو والعروض مات سنة ٢١٨ ه‍ ؛ انظر أخبار النحويين البصريين ٣٩ ط أولى ١٣٧٤ ه‍ / ١٩٥٥ م تحقيق طه الزيني ومحمد عبد المنعم خفاجي ، ونزهة الألباء ١٦٨ جمعية إحياء مآثر علماء العرب بدون تاريخ. وانظر رأيه في الدر المصون ٤ / ٢٩١ رسالة دكتوراه إعداد / مصطفى خليل خاطر ، إشراف د / إبراهيم حسن ١٩٨٥ م ، وآخر مخطوط بمكتبة البلدية بالإسكندرية.

(٥) وقد أنكره الفارسي فيما نقله ابن الأنباري في البيان ٢ / ٢٤١.

(٦) مشكل إعراب القرآن لمكي ٢ / ١٦٦ ، دار المأمون للتراث ، تحقيق / ياسين محمد السواس ط الثانية.

٣٠٨

قال ابن عطية (١) وأبو البقاء : إذا قدرت الباء كان حالا.

قال ابن عطية : والمعنى في الباء واللام مختلف ، وذلك أنه في الباء ، كما تقول : تركت زيدا بحاله وهي في اللام بمعنى من أجل ، أي : أحسبوا أنّ إيمانهم علة للترك انتهى.

وهذا تفسير معنى ، ولو فسر الإعراب لقال : أحسبانهم الترك لأجل تلفظهم بالإيمان.

وقال الزمخشري (٢) : فإن قلت : فأين الكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان (٣) (في الآية) (٤)؟

قلت : هو في قوله : (أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) ، وذلك أن تقديره : أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم : آمنا ، فالترك أولى مفعولي «حسب» ، وقولهم آمنا هو الخبر ، وأما غير مفتونين فتتمة الترك ، لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير ، كقوله :

٢٠٢٤ ـ فتركته جزر السّباع ينشنه

 ............. (٥)

ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان تقدر أن تقول : (تركهم) (٦) غير مفتونين لقولهم آمنا ، على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام.

فإن قلت : أن يقولوا هو علة تركهم غير مفتونين فكيف يصح أن يقع خبر مبتدأ؟

قلت : كما تقول : خروجه لمخافة الشر ، وضربه للتأديب وقد كان التأديب والمخافة في قولك : خرجت (مخافة) (٧) الشر وضربته تأديبا تعليلين. وتقول أيضا : حسبت خروجه لمخافة الشّرّ ، وظننت ضربه للتأديب فتجعلهما مفعولين كما جعلتهما مبتدأ وخبرا (٨).

قال أبو حيان : وهذا كلام فيه اضطراب ، ذكر أولا أن تقديره غير مفتونين تتمة يعني أنه

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) كذا في «أ» والكشاف وفي «ب» الحساب.

(٤) زيادة من الكشاف.

(٥) صدر بيت من الكامل لعنترة ، عجزه :

ما بين قلة رأسه والمعصم

ويروى غادرته ، والجزر جمع جزرة ، وهي الشاة التي تذبح وتنحر ، وينشنه : يتناولنه بالأكل ، والشاهد : أن ترك بمعنى صير ومعناه صيرته بقتلي إياه جزرة للسباع.

وانظر : ديوان عنترة ٢٦ تعليق كرم البستاني ، دار صادر ، شرح الكافية للرضي ، دار الكتب بيروت ٢ / ٢٨٧ ، والحماسة البصرية ، السبع الطوال لابن الأنباري ٣٤٧ ، ٣٤٩ تحقيق عبد السلام هارون دار المعارف ١٤٠٠ ه‍ / ١٩٨٠ م ، والبحر المحيط ٧ / ١٣٩ ، والكشاف ٣ / ١٩٥.

(٦) ما بين القوسين ساقط من النسختين وزيادة من الكشاف.

(٧) كذا في الكشاف وفي النسخ : خرجت للشر.

(٨) كذا في الكشاف للزمخشري ٣ / ١٩٥ ، دار الفكر بحاشية السيد الشريف وكتاب الإنصاف لابن المنير المالكي.

٣٠٩

حال ، لأنه سبك ذلك من قوله : (وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) وهي (١) جملة حالية ، ثم ذكر (أَنْ يُتْرَكُوا) هنا من الترك الذي هو تصيير (٢) ، وهذا لا يصح ، لأن مفعول «صير» الثاني لا يستقيم أن يكون لقولهم ، إذ يصير التقدير : أن يصيروا لقولهم وهم لا يفتنون وهذا كلام لا يصحّ.

وأما ما مثله به من البيت فإنه يصح أن يكون «جزر السباع» مفعولا ثانيا لترك ـ بمعنى صير ـ بخلاف ما قدر في الآية.

وأما تقديره : تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام فلا يصح ؛ إذ كان تركهم بمعنى تصييرهم كان غير مفتونين حالا ، إذ لا ينعقد من تركهم بمعنى تصييرهم ولقولهم (٣) مبتدأ وخبر لاحتياج تركهم بمعنى تصييرهم إلى مفعول ثان ، لأن غير مفتونين عنده حال ، لا مفعول ثان.

وأما قوله : فإن قلت : أن يقولوا إلى آخره فيحتاج إلى فضلة (٤) (فهم) (٥) ، وذلك أن قوله : أن يقولوا هو علة تركهم ، فليس كذلك ، لأنه لو كان علة لكان به متعلّقا كما يتعلق بالفعل ، ولكنه علة الخبر المحذوف الذي هو مستقر أو كائن ، والخبر غير المبتدأ ، ولو كان «لقولهم» علة للترك لكان من تمامه فكان يحتاج إلى خبر.

وأما قوله : كما تقول : خروجه لمخافة الشرّ ، فلمخافة ليس علة للخروج ، بل للخبر المحذوف الذي هو مستقر أو كائن (٦) انتهى.

قال شهاب الدين (٧) : «ويجاب الشيخ بأن الزمخشري إنما نظر إلى جانب المعنى ، وكلامه عليه صحيح.

وأما قوله : ليس علة للخروج ونحو ذلك ، يعني في اللفظ ، فأما في المعنى فهو علة قطعا ، ولو لا خوف الخروج فات المقصود» (٨).

فصل

معنى الآية : أحسب الناس أن يتركوا بغير اختبار ولا ابتلاء أن يقولوا آمنا (وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) وهم لا يبتلون في أموالهم وأنفسهم ، كلا لنختبرنهم ، ليتبين المخلص من المنافق ، والصادق من الكاذب(٩).

__________________

(١) في البحر وهذه.

(٢) وفيه : من التصيير.

(٣) في البحر : تقولهم.

(٤) في النسختين فصل وما هو مذكور موافق لما في البحر.

(٥) ساقط من النسختين وهو تكملة من البحر.

(٦) انظر : البحر المحيط ٧ / ١٤٠.

(٧) هو أحمد بن يوسف بن عبد الدائم بن محمد الحلبي ، شهاب الدين المقرىء ، نزيل القاهرة المعروف بالسمين ، تعانى النحو فمهر فيه ، ولازم أبا حيان إلى أن فاق أقرانه ، له تفسير القرآن وغير ذلك مات سنة ٧٥٦ ه‍ ، انظر : بغية الوعاة ١ / ٤٠٢.

(٨) الدر المصون ٤ / ٢٩٢.

(٩) انظر : فتح القدير للشوكاني ٤ / ١٩٢.

٣١٠

واختلفوا في سبب نزول هذه الآية ، قال الشعبي : نزلت في ناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام ، فكتب إليهم أصحاب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا يقبل منكم إقرار باللسان حتى تهاجروا ، فخرجوا عامدين إلى المدينة ، فاتبعهم المشركون فقاتلوهم ، فقتل بعضهم ونجا بعضهم ، فأنزل الله هاتين الآيتين (١).

وقال ابن عباس (٢) : نزلت في الذين آمنوا بمكة ، وكانوا يعذبون سلمة بن هشام (٣) وعياش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد ، وعمار بن ياسر (٤) وغيرهم.

وقال مقاتل (٥) : نزلت في مهجع بن عبد الله ، مولى عمر بن الخطاب ، كان أول قتيل من المسلمين يوم بدر فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «سيّد الشّهداء مهجع ، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة» (٦) ، فجزع أبواه وامرأته ، فأنزل الله فيه هذه الآية ، وقيل : وهم لا يفتنون بالأوامر والنواهي ، وذلك أن الله تعالى أمرهم في الابتداء بمجرد الإيمان ، ثم فرض عليهم الصلاة والزكاة وسائر الشرائع فشق على بعض فأنزل الله هذه الآية.

ثم عزاهم فقال : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني الأنبياء والمؤمنين ، فمنهم من نشر بمنشار ، ومنهم من قتل ، وابتلي بنو إسرائيل بفرعون ، فكان يسومهم سوء العذاب.

قوله : (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا) العامة على فتح الياء مضارع «علم» المتعدية لواحد كذا قالوا وفيه إشكال تقدم وهو أنها إذا تعدت لمفعول كانت بمعنى عرف ، وهذا المعنى لا يجوز إسناده إلى الباري تعالى ، لأنه يستدعي سبق حصل ولأنه يتعلق بالذات فقط ، دون ما عليه من الأحوال (٧).

وقرأ عليّ وجعفر بن محمد (٨) بضم الياء (٩) مضارع «أعلم» ، (ويحتمل (١٠) أن

__________________

(١) أخرجه السيوطي في أسباب النزول عن الشعبي عن ابن أبي حاتم ص ١٣٣ ، التحرير القاهرة ١٣٨٢ ه‍ ، وانظر القرطبي ١٣ / ٣٢٣.

(٢) تقدم.

(٣) سلمة بن هشام بن المغيرة القرشي المخزومي ، أسلم قديما ، وكان من خيار الصحابة وهاجر إلى الحبشة ومات مقتولا ، انظر : أسد الغابة ٣ / ٣٤٠ دار إحياء التراث العربي بيروت.

(٤) ابن عامر بن مالك حليف بني مخزوم ، وأمه سمية ، روى عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عدة أحاديث ، انظر الإصابة في معرفة أخبار الصحابة ٤ / ٥٧٥ دار نهضة مصر الفجالة القاهرة.

(٥) مقاتل بن سليمان بن كثير الأزدي المفسر ، روى عن مجاهد وعطاء وعنه عبد الرزاق وغيره ، انظر : طبقات الداودي ٢ / ٣٢٩ و ٣٣٠ دار الكتب العلمية ط ١ ، ١٤٠٣ ه‍ / ١٩٨٣ م.

(٦) الكشاف ٣ / ١٩٦ وانظر هذه الأقوال في الرازي ٢٥ / ٢٨ ، والبحر المحيط ٧ / ١٣٩.

(٧) البحر المحيط السابق والدر المصون ٤ / ٢٩٣.

(٨) تقدم.

(٩) ذكرها ابن جني في المحتسب ٢ / ١٥٩ ، نشر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ١٣٨٩ ه‍.

وابن خالويه في مختصر الشواذ ط المتنبي ١١٤ ، وانظر كذلك القرطبي ١٣ / ٣٢٦ بدون نسبة.

(١٠) ما بين القوسين كله ساقط من «ب».

٣١١

يكون من علم بمعنى عرف (١) ، فلما جيء بهمزة النقل أكسبتها مفعولا آخر ، فحذف.

ثم هذا المفعول) يحتمل أن يكون هو الأول ، أي ليعلمن الله النّاس الصّادقين وليعلمهم الكاذبين أي بشهرة (٢) يعرف لها هؤلاء من هؤلاء ، وأن يكون الثاني ، أي ليعلمن هؤلاء منازلهم ، وهؤلاء منازلهم في الآخرة ، ويحتمل أن يكون من العلامة ، وهي السّيما ، فلا يتعدى إلا لواحد أي ليجعلن لهم علامة يعرفون بها (٣).

وقرأ الزّهريّ (٤) الأولى كالمشهورة والثانية كالشاذة (٥).

فصل

المعنى : فليعلمن الله الذين صدقوا في قولهم : آمنّا ، وليعلمن الكاذبين.

قال المفسرون : ظاهر الآية يدل على تجدد العلم ، والله تعالى عالم بهم قبل الاختبار. ومعنى الآية: فليظهرن الله الصادقين من الكاذبين حتى يوحد معلومه.

وقال مقاتل : فليرينّ الله. وقيل : ليميز الله ، كقوله : «ليميز (الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ).

وقال ابن الخطيب : الآية محمولة على ظاهرها ، وذلك أن علم الله صفة يظهر فيها كل ما هو واقع كما هو واقع ، فقبل التكليف كان الله تعالى يعلم أنّ زيدا مثلا سيطيع وعمرا سيعصي ثم وقت التكليف بالإتيان يعلم أنه أطاع ، والآخر عصى ، ولا يتغير علمه في شيء من الأحوال ، وإنما المتغير المعلوم.

ومثال ذلك في الحسّيّات أن المرآة الصافية الصقيلة إذا علقت في موضع ، وقوبل بوجهها جهة (ولم تحرك) ثم عبر عليها زيد لابسا ثوبا أبيض يظهر فيها زيد في ثوب أبيض ، وإذا عبر عليها «عمرو» في ثوب أصفر يظهر فيها كذلك. فهل يقع في ذهن أحد أن المرآة في كونها حديدا تغيرت ، أو يقع له أنها في تدويرها تبدلت أو أنها في صقالتها اختلفت ، أو يخطر بباله أنها عن مكانها انتقلت؟ لا يقع لأحد شيء من هذه الأشياء ويقطع بأن المتغير إنما هو الخارجات.

فعلم الله من هذا المثال بل أعلى من هذا المثال ، فإن المرآة ممكنة التغيير ، وعلم الله غير ممكن التغيير ، فقوله : (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ) من هذا المثال يعني يعلم من علم الله أنه يأتي بالطاعة فيعلم أنه مطيع بذلك العلم. وليعلمن الكاذبين ، يعني من قال : أنا مؤمن ،

__________________

(١) الدر المصون ٤ / ٢٩٣.

(٢) في «ب» بشهوة.

(٣) باللفظ من الدر المصون السابق وبالمعنى من البحر المحيط ٧ / ١٤٠.

(٤) الزهري أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب المدني أحد الأعلام ، وعالم الحجاز والشام روى عن ابن عمر ، وسهل بن سعد وغيرهم ، وعنه أبان بن صالح وإبراهيم وغيرهما مات سنة ١٢٤ ه‍. انظر خلاصة الكمال ٣٥٩.

(٥) المحتسب والمختصر السابقين.

٣١٢

وكان كذابا فبفرض العبادات عليه يظهر منه ذلك ويعلم.

وفي قوله : (الَّذِينَ صَدَقُوا) بصيغة الفعل ، وفي قوله : «الكاذبين» فائدة مع أن الاختلاف في اللفظ أدل على الفصاحة وهي أن اسم الفاعل يدل في كثير من المواضع على ثبوت المصدر في الفاعل ورسوخه فيه ، والفعل الماضي لا يدلّ عليه ، كما يقال : فلان شرب الخمر ، وفلان شارب الخمر ، وفلان نفذ أمره ، وفلان نافذ أمره ، لا يفهم من صيغة الفعل التكرار والرسوخ ، ويفهم من اسم الفاعل ذلك إذا ثبت هذا فنقول : وقت نزول الآية كانت الحكاية في قوم قرباء العهد بالإسلام في أوائل إيجاب التكاليف ، وعن قوم قديمين في الكفر ، مستمرين فيه. فقال في حق المؤمنين : (الَّذِينَ صَدَقُوا) بصيغة الفعل أي وجد منهم الصدق وقال في حق الذين كفروا : «الكاذبين» بالصيغة المفهمة للثبات والدوام ، فلهذا قال : (يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [المائدة : ١١٩] بلفظ اسم الفاعل ، لأن في اليوم المذكور يكون الصدق قد رسخ في المؤمن وهو اليوم الآخر (١).

قوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ)(٩)

قوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) «أم» هذه منقطعة (٢) ، فتقدر ببل والهمزة عند الجمهور (٣) ، والإضراب انتقال لا إبطال.

قال ابن عطية : أم معادلة (٤) للألف في قوله : «أحسب» وكأنه عزوجل قرر الفريقين ، قرر المؤمنين أنهم لا يفتنون ، وقرر الكافرين أنهم يسبقون نقمات الله (٥).

__________________

(١) وانظر في هذا كله تفسير الإمام الرازي ٢٥ / ٢٩.

(٢) معنى أم المنقطعة التي لا يفارقها الإضراب ثم تارة تكون له مجردا ، وتارة تتضمن مع ذلك استفهاما إنكاريا أو استفهاما طلبيا. والآية التي معنا من العنكبوت من النوع الثاني أي التي تتضمن استفهاما إنكاريا ، وهي شبيهة بقوله تعالى : «أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِه»[الأعراف : ١٩٥].

(٣) هذا هو رأي البصريين أنها أبدا بمعنى بل والهمزة ، وقد خالفهم الكوفيون في ذلك.

(٤) مقصودة أن أم هنا متصلة ، فالمعادلة هي التي تعادل الهمزة في إفادة التسوية أو الاستفهام ، أو يقال : هي التي لا يستغني ما بعدها عما قبلها.

(٥) البحر المحيط ٧ / ١٤٠ ، والدر المصون ٤ / ٢٩٣.

٣١٣

قال أبو حيان : «ليست معادلة» ؛ إذ لو كانت كذلك لكانت متصلة ، ولا جائز أن تكون متصلة لفقد شرطين :

أحدهما : أن ما بعدها ليس مفردا ، ولا ما في قوته.

والثاني : أنه لم يكن هنا ما يجاب به من أحد شيئين أو أشياء (١).

وجوز الزمخشري في «حسب» هذه أن تتعدى لاثنين ، وجعل «أن» وما في خبرها سادة مسدهما ، كقوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) [البقرة : ٢١٤] ، وأن تتعدى لواحد على أنها مضمنة معنى «قدر» (٢) ، إلا أن التضمين لا ينقاس (٣).

قوله : (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) يجوز أن تكون «ساء» بمعنى بئس فتكون «ما» إما موصولة بمعنى الذي ، و «يحكمون» صلتها ، وهي فاعل ساء ، والمخصوص بالذم محذوف أي حكمهم (٤).

ويجوز أن تكون «ما» تمييزا ، و «يحكمون» صفتها ، والفاعل مضمر يفسره «ما» والمخصوص أيضا محذوف (٥).

ويجوز أن تكون ساء بمعنى قبح ، فيجوز في «ما» أن تكون مصدرية ، وبمعنى الذي ، ونكرة موصوفة (٦) ، وجيء ب «يحكمون» دون «حكموا» إما للتنبيه على أن هذا ديدنهم وإما لوقوعه موقع الماضي لأجل الفاصلة.

ويجوز أن تكون ما مصدرية وهو قول ابن كيسان (٧) فعلى هذا يكون التمييز محذوفا ، والمصدر المؤوّل مخصوص بالذم أي ساء حكما حكمهم (٨).

__________________

(١) بالمعنى من البحر له ٧ / ١٤٠ وباللفظ من الدر المصون ٤ / ٢٩٣.

(٢) وعلى هذا فأم منقطعة قال في الكشاف ٣ / ١٩٦ : فإن قلت : أين مفعولا حسب؟ قلت : اشتمال صلة أن على مسند ومسند إليه سد مسد مفعولين ، كقوله تعالى :«أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ»ويجوز أن يضمن حسب معنى قدر وأم منقطعة.

(٣) قاله السمين في الدر ٤ / ٢٩٣.

(٤) نقله في التبيان ٢ / ١٠٢٩ وإعراب القرآن للنحاس ٣ / ٢٤٨ ، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ١٦٠.

(٥) الدر المصون ٤ / ٢٩٣.

(٦) المرجع السابق ومشكل إعراب القرآن ٢ / ١٦٦.

(٧) هو أبو الحسن محمد بن أحمد بن كيسان النحوي ، كان أحد المشهورين بالعلم ، والمعروفين بالفهم أخذ عن المبرد ، وثعلب ، وكان قيما بمذهب البصريين والكوفيين ، له المهذب في النحو ، وشرح السبع الطوال إلى غير ذلك ، مات سنة ٢٩٩ ه‍ ، انظر : النزهة ١٦٢ ، ١٦١.

(٨) إعراب النحاس ٢ / ٢٤٨ ، والمشكل المرجع السابق ، والبحر المحيط ٧ / ١٤١ ، والقرطبي ١٣ / ٣٢٧.

وقد نقل القرطبي قولا عن ابن كيسان : قال أبو الحسن بن كيسان : وأنا أختار أن أجعل ل «ما» موضعا في كل ما أقدر عليه نحو قوله عزوجل فيما رحمة من الله لنت لهم ، وكذا : فبما نقضهم ميثاقهم ، وكذا (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ) القرطبي ١٣ / ٣٢٧.

٣١٤

وقد تقدم حكم «ما» إذا اتصلت ببئس مشبعا في البقرة (١).

فصل

لما بين حسن التكليف بقوله : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا) بين أن من كلف بشيء ولم يأت به يعذب ، وإن لم يعذب في الحال فسيعذب في الاستقبال ، ولا يفوت الله شيء في الحال ولا في المآل.

فقوله : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) يعني الشرك «أن يسبقونا» أي يعجزونا ويفوتونا ، فلا نقدر على الانتقام منهم (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) بئس ما حكموا حين ظنوا ذلك.

قوله : (مَنْ كانَ يَرْجُوا) يجوز أن تكون من شرطية ، وأن تكون موصولة ودخلت الفاء لشبهها بالشرطية.

فإن قيل : المعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط ، فمن لا يرجو لقاء الله لا يكون أجل الله آتيا له ، وهذا باطل ، لأن أجل الله آت لا محالة من غير تقييد بشرط؟

فالجواب : أن قوله : (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) ليس بجواب ، بل الجواب محذوف ، أي فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا كما قد صرح به.

وقال ابن الخطيب : المراد من ذكر إتيان الأجل وعد المطيع بما يعده من الثواب أي من كان يرجو لقاء الله فإن أجره لآت بثواب الله ، أي يثاب على طاعته ، ومن لا يرجو لقاء الله آتيا له على وجه الثواب.

فصل

قال ابن عباس ومقاتل : من كان يخشى البعث والحساب (٢). والرجاء بمعنى الخوف. وقال سعيد بن جبير (٣) : من كان يطمع في ثواب الله فإن أجل الله يعني ما وعد الله من الثواب والعقاب.

__________________

(١) يشير إلى الآية ٩٠ من البقرة وهي قوله : «بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ» وقد بين هناك أن «ما» إما أن تكون في موضع رفع فاعل بئس ، وعليه فيجوز أن تكون اسما تامّا معرفة ويكون الفعل وصفا لموصوف محذوف هو المخصوص أو تكون موصولة ، والفعل بعدها صلة لها ، والمخصوص محذوف ، أو يكتفى بها عن المخصوص وأن تكون مصدرية أو نكرة موصوفة والمخصوص محذوف.

والوجه الثاني : أن تكون «ما» كافة كما في طال ، وكثر وغير ذلك. والوجه الثالث : أن تكون تمييزا فموضعها نصب وعليه فهي إما أن تكون نكرة موصوفة بالفعل بعدها أو نكرة ثابتة ، وانظر : اللباب بتصرف ٣٠١ ب.

(٢) في «ب» والعقاب.

(٣) مولى بني والبة بن الحارث من بني أسد ، كان فقيها ورعا ، قرأ القرآن على ابن عباس ، وقرأ عليه أبو عمرو ، والمنهال بن عمرو ، مات سنة ١٧٥ ه‍ مقتولا ، وانظر : طبقات المفسرين للداودي دار الكتب العلمية ط ١ / ١٤٠٣ ه‍ / ١٩٨٣ م.

٣١٥

وقال مقاتل : يعني أن يوم القيامة لكائن (١) والمعنى : أن من يخشى الله ويأمله فليستعد له ، وليعمل لذلك (٢) اليوم ، كقوله : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً) [الكهف : ١١٠] الآية كما تقدم.

(وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ولم يذكر صفة غيرهما ، لأنه سبق القول في قوله : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا) وسبق القول بقوله : (وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) وبقوله : (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا) وقوله : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) ولا شك أن القول يدرك بالسمع والعمل منه ما يدرك بالبصر ، ومنه ما لا يدرك به ، والعلم يشملهما ، فقال : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي يسمع ما قالوه ، ويعلم من صدق فيما قال ، ومن كذب أو عليم بما يعمل فيثيب ويعاقب.

قوله : (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) أي له ثوابه ، والجهاد هو الصبر على الشدة ، ويكون ذلك في الحرب ، وقد يكون على مخالفة النفس.

فإن قيل : هذه الآية تدل على أن الجزاء على العمل واجب ، فإن قوله : (فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) يفهم منه أن من جاهد ربح بجهاده ما لولاه لما ربح.

فالجواب : هو كذلك ولكن بحكم الوعد لا بالاستحقاق.

فإن قيل : قوله : «فإنما» يقتضي الحصر ، فيكون جهاد المرء لنفسه فقط ولا ينتفع به غيره وليس كذلك ، فإن من جاهد ينتفع به هو ، ومن يريد نفعه حتى إن الوالد والولد ببركة المجاهد وجهاده ينتفعون به.

فالجواب : أن ذلك نفع له ، فإن انتفاع الولد انتفاع للأب ، والحصر هنا معناه أن جهاده لا يصل إلى الله منه نفع ، ويدل عليه قوله : (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)(٣) أي عن أعمالهم وعبادتهم.

قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) يجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء والخبر جملة القسم المحذوفة وجوابها أي: والله لنكفرن. ويجوز أن يكون منصوبا بفعل مضمر على الاشتغال ، أي : وليخلص الذين آمنوا من سيئاتهم (٤).

والتفكير : إذهاب السيئة بالحسنة ، والمعنى : لنذهبنّ سيئاتهم حتى تصير بمنزلة من لم يعمل.

فإن قيل : قوله : فلنكفرن (عنهم سيئاتهم يستدعي وجود السيئات حتى تكفر ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بأسرها من أين يكون) لهم سيئة؟

فالجواب : ما من مكلف إلا وله سيئة ، أما غير الأنبياء فظاهر ، وأما الأنبياء فلأن

__________________

(١) انظر : فتح القدير ٤ / ١٩٢.

(٢) قاله الرازي في التفسير الكير ٢٥ / ٣٢.

(٣) الرازي ٢٥ / ٣٢.

(٤) قاله العكبري في التبيان ١٠٣٠ والسمين في الدر المصون ٤ / ٢٩٤.

٣١٦

ترك الأفضل منهم كالسيئة من غيرهم ، ولهذا قال تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [التوبة : ٤٣].

قوله : (أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا) ، قيل : على حذف مضاف ، أي : ثواب الذي فالمراد بأحسن هنا مجرد الوصف (١)

قيل : لئلا يلزم أن يكون جزاؤهم مسكوتا عنه (٢) ، وهذا ليس بشيء (٣) ، لأنه من باب الأولى إذا جازاهم بالأحسن جازاهم بما دونه فهو من التنبيه على الأدنى بالأعلى.

قال المفسرون : يجزيهم بأحسن أعمالهم وهو الطاعة (٤).

وقيل : يعطيهم أكثر مما عملوا وأحسن ، كما قال : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠].

قوله : «حسنا» فيه أوجه :

أحدها : أنه نعت مصدر محذوف أي (إيصاء) (٥) حسنا ، إما على المبالغة جعل نفس الحسن ، وإما على حذف مضاف (أي : ذا حسن) (٦).

الثاني : أنه مفعول به (٧) ، قال ابن عطية : «وفي ذلك تجوز» ، والأصل ووصينا الإنسان بالحسن في فعله مع والديه (٨) ، ونظير ذلك قول الشاعر :

٤٠٢٥ ـ عجبت من دهماء إذ تشكونا

ومن أبي دهماء إذ يوصينا

خيرا بها كأنّما خافونا (٩)

ومنه قول الحطيئة :

٤٠٢٦ ـ (وصّيت(١٠)من برّة قلبا حرّا

بالكلب خيرا وبالحماة شرّا) (١١)

__________________

(١) في ب : الوقف وهو خطأ وتحريف.

(٢) بالمعنى من البحر المحيط ٧ / ١٤١ ، ١٤٢ وباللفظ من الدر المصون ٤ / ٢٩٥.

(٣) المرجع السابق. وفي ب : مشكورا وليس مسكوتا وهو تحريف.

(٤) نقله ابن الجوزي في زاد المسير ٦ / ٢٥٦ المكتب الإسلامي ـ بيروت ـ دمشق ط ٣ ، ١٤٠٤ ه‍ / ١٩٨٤ م.

(٥) سقط من ب.

(٦) سقط من ب كذلك.

(٧) وانظر هذا في مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٦٦ والبحر المحيط ٧ / ١٤٢ ، والدر المصون ٤ / ٢٩٥.

(٨) البحر المحيط ٧ / ١٤١.

(٩) أرجاز مجهولة القائل والشاهد : يوصينا خيرا بها» حيث تعدى الفعل إلى المفعول الثاني بالباء وهو الأصل في تعدية هذا الفعل وأشباهه حيث لا يقال : وصيته خيرا ، وانظر : القرطبي ١٣ / ٣٢٩ ، والبحر المحيط ٧ / ١٤٢ ومعاني الفراء ، تحقيق محمد علي النجار ـ الهيئة العامة للكتاب ٢ / ١٢٠ ، وفتح القدير ٤ / ١٩٣ ، والدر المصون ٤ / ٢٩٥.

(١٠) البيت كله سقط من ب.

(١١) الرواية المشهورة في الشطر الثاني : «والحماة شرّا» بدون الباء. وقد نسب إلى الحطيئة خطأ ، وإنما هو لأبي النجم العجلي وبعده : ـ

٣١٧

وعلى هذا فيكون الأصل : وصيناه بحسن في بر والديه ، ثم جر «الوالدين» بالهاء فانتصب حسنا وكذلك البيتان. والباء في الآية والبيتين في هذه الحالة للظرفية (١).

الثالث : أن «بوالديه» هو المفعول الثاني ، فنصب «حسنا» بإضمار فعل ، أي يحسن حسنا ، فيكون مصدرا مؤكدا كذا قيل (٢).

وفيه نظر ، لأنّ عامل المؤكد لا يحذف (٣).

الرابع : أنه مفعول به على التضمين أي من ألزمناه حسنا (٤).

الخامس : أنه على إسقاط الخافض أي «بحسن» (٥).

وعبر صاحب التحرير (٦) عن ذلك بالقطع (٧).

السادس : أن (بعض) (٨) الكوفيين قدره ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه حسنا (٩). وفيه حذف «أن» وصلتها ، وإبقاء معمولها ، ولا يجوز عند البصريين (١٠).

السابع : أن التقدير : وصيناه بإيتاء والديه حسنا (١١). وفيه حذف المصدر وإبقاء معموله ولا يجوز (١٢).

الثامن : أنه منصوب انتصاب «زيدا» في قولك لمن رأيته متهيئا للضرب «زيدا» أي اضرب زيدا ، والتقدير هنا : أولهما حسنا ، أو افعل بهما حسنا. قالهما الزمخشري (١٣).

__________________

 ـ لا تسأمي نهكا لها وضرّا

والحيّ عمّيهم بشرّ طرّا

وشاهده : «وصيت من برة» حيث عدى الفعل «وصى» إلى المفعول الثاني بالباء. ويروى : «أوصيت» وهو فرق لفظي لا معنوي. وانظر : الكامل للمبرد ٢ / ٩٤ ، ٩٥ تحقيق محمد أبو الفضل نهضة مصر ١٩٨١ م والمسائل العسكرية للفارسي ١٦٣ تحقيق د / محمد الشاطر ط المدني ١٤٠٣ ه‍ / ١٩٨٢ م ، ومعاهد التنصيص للعباسي البهية ١٣١٦ ه‍ (١ / ٩) والدر المصون (٤ / ٢٩٥).

(١) قاله أبو حيان في البحر بالمعنى والسمين في الدر باللفظ ٤ / ٢٩٥.

(٢) وهو رأي ابن عطية فيما نقله أبو حيان في البحر المرجع السابق.

(٣) قاله السمين في الدر ٤ / ٢٩٥.

(٤) قيل في المرجع السابق وقاله أيضا أبو البقاء في التبيان ١٠٢٩.

(٥) نقله أبو حيان في بحره ولم يعينه أي لم يعين من قال به. وانظر كذلك الدر المصون ٤ / ٢٩٥.

(٦) لعله التحرير والتخيير لأقوال أئمة التفسير في معاني كلام السميع البصير للشيخ العلامة جمال الدين أبي عبد الله محمد بن سليمان المعروف بابن النقيب المقدسي الحنفي المتوفى سنة ٦٩٨ ه‍ وهو كبير في نيف وخمسين مجلدا ، انظر : كشف الظنون لحاجي خليفة ١ / ٣٠٨ دار العلوم الحديثة بيروت.

(٧) القرطبي ١٣ / ٣٢٧ ، ٣٢٨ وانظر : البحر المحيط أيضا المرجع السابق.

(٨) سقط من ب.

(٩) المرجعين السابقين.

(١٠) في الكتاب ١ / ٣٠٧. تحقيق هارون ، الخانجي أن حذف أن دون صلتها يجوز في الشعر للاضطرار ، يقول : «فحملوه على أن ، لأن الشعراء قد يستعملون أن ههنا مضطرين».

(١١) الكشاف ٣ / ١٩٧.

(١٢) قاله أبو حيان في البحر ٧ / ١٤٢.

(١٣) الكشاف ٣ / ١٩٧ ، ١٩٨.

٣١٨

وقرأ عيسى (١) والجحدري (٢) : «حسنا» (٣) وهما لغتان ، كالبخل والبخل. وقد تقدم ذلك في أوائل البقرة (٤).

وقرىء : إحسانا (٥) ، من قوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء : ٢٣].

فصل

معنى حسنا أي برّا بهما ، وعطفا عليهما ، والمعنى : ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه ما يحسن(٦). نزلت هذه الآية ، والتي في سورة لقمان (٧) والأحقاف (٨) في سعد بن أبي وقاص (٩) ، وهو سعد بن مالك أبو إسحاق الزهري وأمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية من عبد شمس ، لما أسلم ، وكان من السابقين الأولين وكان بارا بأمه ، قالت أمه : ما هذا الدين الذي أحدثت؟ والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت فتعير بذلك أبد الدهر ، ويقال : يا قاتل أمّه. ثم إنها مكثت يوما وليلة لم تأكل ولم تشرب (ولم تستظلّ فأصبحت قد جهدت ، ثم مكثت يوما آخر لم تأكل ولم تشرب) (١٠) فجاء «سعد» إليها ، وقال يا أمّاه : لو كانت مائة نفس (فخرجت نفسا) (١١) نفسا ما تركت ديني فكلي ، وإن شئت فلا تأكلي فلما أيست منه أكلست وشربت فأنزل الله هذه الآية (١٢) ، وأمره الله بالبر بوالديه والإحسان إليهما.

واعلم أنه إنما أمر بالإحسان للوالدين لأنهما سبب وجود الولد بالولادة وسبب بقائه بالتربية المعتادة ، والله تعالى بسبب (١٣) له في الحقيقة بالإرادة ، وسبب بقائه بالإعادة للسعادة ، فهو أولى بأن يحسن العبد حاله (معه) (١٤).

__________________

(١) المراد به عند الإطلاق عيسى بن عمر الثقفي ، أخذ عن عبد الله بن أبي إسحاق ، وغيره ، وأخذ عنه الخليل له كتابات في النحو وكان مشهورا في القراءات ، ثقة ، عالما بالعربية ، وكان يتقعر في العربية مات سنة ١٤٩ ه‍ ، انظر : أخبار النحويين البصريين ٢٥ ونزهة الألباء جمعية إحياء مآثر علماء العرب ، د. ت ١٣ ، ١٤ ، ١٥.

(٢) تقدم.

(٣) البحر المحيط ٧ / ١٤٢ ، والكشاف ٣ / ١٩٨ ، ومختصر ابن خالويه ١١٤ وهي شاذة.

(٤) يشير إلى قوله تعالى : «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً» [البقرة : ٨٤] ، وانظر : اللباب ١ / ٧٠.

(٥) نقلها الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤ / ١٦١.

(٦) السابق.

(٧) وهي قوله : «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ» [لقمان : ١٤].

(٨) وهي : «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً»[الأحقاف : ١٥].

(٩) انظر تفسير الإمام ابن كثير ٣ / ٤٤٥.

(١٠) ما بين القوسين سقط من ب.

(١١) سقط كذلك من ب.

(١٢) وانظر أيضا أسباب النزول للسيوطي ١٣٣ ، وتفسير فتح القدير ٤ / ١٩٥.

(١٣) كذا في النسختين وفي الرازي : سبب.

(١٤) ساقط من «أ» والأصل.

٣١٩

قوله : (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما).

قال عليه (الصلاة) (١) والسلام : «لا طاعة لمخلوق في معصية الله» (٢) ثم أوعد بالمصير إليه ، فقال : (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أخبركم بصالح أعمالكم وسيئها فأجازيكم عليها كأنه تعالى يقول : لا تظنوا أني غائب عنكم وآباؤكم حاضرون فتوافقون الحاضرين في الحال اعتمادا على غيبتي ، وعدم علمي بمخالفتكم فإني حاضر معكم أعلم ما تفعلون ، ولا أنسى فأنبئكم بجميعه (٣).

قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) يجوز فيه الرفع على الابتداء ، والنصب على الاشتغال.

وقوله : (لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) أي نجعلهم منهم ، وندخلهم في أعدادهم ، كما يقال : الفقيه داخل في العلماء. والمعنى : نجعلهم من (٤) جملة الصالحين وهم الأنبياء والأولياء. وقيل : في مدخل الصالحين وهو الجنة.

فإن قيل : ما الفائدة في إعادة (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ)؟

فالجواب : أنه ذكر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولا ، لبيان حال المهتدي وثانيا ، لبيان حال الهادي لأنه قال أولا : (لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ).

وقال ثانيا : (لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) والصالحين هم الهداة ، لأنها مرتبة الأنبياء ، ولهذا قال إبراهيم ـ عليه (الصلاة و) السلام : (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)(٥).

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ)(١١)

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) المكلفون ثلاثة أقسام : مؤمن ظاهر بحسن اعتقاده ، وكافر مجاهر بكفره وعناده ، ومذبذب بينهما ويظهر الإيمان بلسانه ويضمر الكفر ، فالله تعالى لما بين القسمين الأولين بقوله : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) إلى قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بين القسم الثالث وهو المنافق فقال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ) أصابه بلاء من الناس افتتن ، «وجعل فتنة الناس كعذاب الله» أي جعل أذى الناس وعذابهم كعذاب الله في الآخرة أي جزع من أذى الناس ولم يصبر عليه فأطاع الناس كما يطيع الله من يخاف عذابه ، قال

__________________

(١) زيادة من «ب».

(٢) الحديث رواه ابن ماجة في سننه عن ابن مسعود رضي الله عنه في الجهاد بلفظ «لا طاعة لمن عصى الله» وانظر : ابن ماجة ٢ / ٩٥٦.

(٣) قاله الرازي في التفسير الكبير ٢٥ / ٣٦.

(٤) ذكره الشوكاني في فتح القدير ٤ / ١٩٣.

(٥) [الشعراء : ٨٣]. وانظر : الرازي في التفسير الكبير المرجع السابق.

٣٢٠