اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦١٥

«من» في قوله (١) : (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) يعني سالما لله خالصا لله (٢).

قوله تعالى : (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٨٦)

قوله : (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) أي : مضمون القول ، أو أطلق المصدر على المفعول ، أي : المقول (٣). ومعنى وقع القول عليهم : وجب العذاب عليهم ، وقال قتادة : إذا غضب الله عليهم (أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ).

قوله : «تكلّمهم» العامة على التشديد ، وفيه وجهان :

أظهرهما : أنه من الكلام والحديث ، ويؤيده قراءة أبيّ : «تنبّئهم» (٤) وقراءة يحيى بن سلام (٥) : «تحدثهم» (٦) ـ وهما تفسيران لها.

الثاني : «تجرحهم» ويدل عليه قراءة ابن عباس وابن جبير ومجاهد وأبي زرعة والجحدري «تكلمهم» ـ بفتح التاء وسكون الكاف وضم اللام (٧) ـ من الكلم وهو الجرح (٨) ، وقد قرىء «تجرحهم» (٩) وجاء في الحديث : أنها تسم الكافر.

قوله : (أَنَّ النَّاسَ) قرأ الكوفيون (١٠) بفتح «أن» والباقون بالكسر (١١) ، فأما الفتح فعلى تقدير الباء ، أي : بأن الناس ، ويدل عليه التصريح بها في قراءة عبد الله «بأن الناس» (١٢). ثم هذه الباء يحتمل أن تكون معدية وأن تكون سببيّة ، وعلى التقديرين يجوز أن تكون «تكلّمهم» بمعنييه من الحديث والجرح أي : تحدثهم بأن الناس أو بسبب أن الناس أو تجرحهم بأن الناس ، أي : تسمهم بهذا اللفظ أو تسمهم بسبب انتفاء الإيمان (١٣). وأما

__________________

(١) في النسختين : في قراءة.

(٢) في ب : يعني : سأل الله إخلاصا. انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢١٦ ـ ٢١٧.

(٣) انظر البحر المحيط ٧ / ٩٦.

(٤) المختصر (١١٠) ، البحر المحيط ٧ / ٩٧.

(٥) هو يحيى بن سلام بن أبي ثعلبة ، أبو زكريا البصري ، له اختيار في القراءة عن طريق الآثار ، وكان ثقة ، ذا علم بالكتاب والسنة ومعرفة العربية توفي سنة ٢٠٠ ه‍. طبقات القراءة ٢ / ٣٧٣.

(٦) انظر البحر المحيط ٧ / ٩٧.

(٧) المحتسب ٢ / ١٤٤ ، البحر المحيط ٧ / ٩٧.

(٨) انظر اللسان (كلم).

(٩) المختصر (١١٠) ، البحر المحيط ٧ / ٩٧.

(١٠) وهم : عاصم ، وحمزة ، والكسائي.

(١١) السبعة (٤٨٧) ، الكشف ٢ / ١٦٧ ، الإتحاف (٣٣٩ ـ ٣٤٠).

(١٢) المختصر (١١٠) ، الكشف ٢ / ١٦٧ ، البحر المحيط ٧ / ٩٧.

(١٣) انظر البحر المحيط ٧ / ٩٧.

٢٠١

الكسر فعلى الاستئناف ، ثم هو يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى ـ وهو الظاهر ـ وأن يكون من كلام (١) الدابة ، فيعكر عليه «بآياتنا» ، ويجاب عنه إما باختصاصها صح إضافة الآيات إليها ، كقولك : اتباع الملوك ودوابنا وخيلنا وهي لملكهم (٢) ، وإما على حذف مضاف أي : بآيات ربنا (٣) ، و «تكلّمهم» إن كان من الحديث فيجوز أن يكون إما لإجراء «تكلّمهم» مجرى تقول لهم (٤) ، وإما على إضمار القول أي : فتقول كذا ، وهذا القول تفسير لتكلمهم (٥).

فصل

قال السدي : تكلمهم ببطلان الأديان سوى دين الإسلام (٦). وقيل : تقول للواحد هذا مؤمن وهذا كافر (٧). وقيل كلامهم ما قال (أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) تخبر الناس أن أهل مكة لم يؤمنوا بالقرآن والبعث (٨). قال ابن عمر : وذلك حين لا يؤمر بمعروف ولا ينهى عن منكر (٩). قال (١٠) رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «بادروا بالأعمال ستّا : طلوع الشمس من مغربها ، والدجال ، والدخان والدابة وخاصة أحدكم ، وأمر العامة» (١١) وقال عليه‌السلام (١٢) : «إنّ أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدابة على الناس ضحى ، فأيتهما (١٣) ما كانت قبل صاحبتها ، فالأخرى على أثرها» (١٤). وقال عليه‌السلام (١٥) : يكون للدابة ثلاث خرجات من الدهر ، فتخرج خروجا في (١٦) أقصى اليمن ، فيفشو ذكرها بالبادية ، ولا يدخل ذكرها القرية ـ يعني مكة ـ ثم تكمن (١٧) زمانا طويلا ، ثم تخرج خرجة أخرى قريبا من مكة ، فيفشو ذكرها بالبادية ، ويدخل ذكرها القرية ـ يعني مكة ـ ثم بينا الناس يوما في أعظم المساجد على الله حرمه ، وأكرمها على الله عزوجل يعني المسجد الحرام ، ثم لم يرعهم إلا وهي في ناحية المسجد تدنو وتدنو» ـ قال الراوي : ما بين الركن الأسود إلى باب بني مخزوم عن يمين الخارج في وسط من ذلك ـ «فارفضّ الناس عنها ، وثبت لها عصابة عرفوا أنهم لم يعجزوا الله ، فخرجت عليهم تنفض رأسها من التراب فمرت بهم فجلت عنهم عن وجوههم ، حتى تركتها كأنها الكواكب

__________________

(١) كلام : سقط من ب.

(٢) في ب : ملكهم. وانظر الكشاف ٣ / ١٥٣. البحر المحيط ٧ / ٩٧.

(٣) انظر البحر المحيط ٧ / ٩٧.

(٤) في ب : القول.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ١٥٣ ، البحر المحيط ٧ / ٩٧.

(٦) انظر البغوي ٦ / ٣٠٥.

(٧) المرجع السابق.

(٨) انظر البغوي ٦ / ٣٠٥ ـ ٣٠٦.

(٩) انظر البغوي ٦ / ٣٠٦.

(١٠) في ب : وقال.

(١١) أخرجه مسلم (فتن) ٤ / ٢٢٦٧ ، وأحمد ٢ / ٣٣٧ ، ٣٧٢ ، ٤٠٧ ، ٥١١.

(١٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٣) فأيتهما : سقط من ب.

(١٤) أخرجه أبو داود (ملاحم) ٤ / ١١٤.

(١٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٦) في ب : من.

(١٧) في ب : تمكت.

٢٠٢

الدرية ، ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب ، حتى إن الرجل ليقوم فيتعوذ منها بالصلاة ، فتأتيه من خلفه ، فتقول : يا فلان الآن تصلي ، فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه ، فيتجاور الناس في ديارهم ، ويصطحبون في أسفارهم ويشتركون في الأموال ، يعرف الكافر من المؤمن ، فيقال للمؤمن يا مؤمن ، وللكافر يا كافر» (١). وقال عليه‌السلام (٢) : «تخرج الدابة ومعها عصا موسى وخاتم سليمان ، فتجلو وجه المؤمن بالعصا ، وتخطم (٣) أنف الكافر بالخاتم ، حتى إن أهل الخوان (٤) ليجتمعون (٥) ، فيقول هذا : يا مؤمن ، ويقول هذا : يا كافر» (٦) وروي عن عليّ قال : ليس بدابة لها ذنب ، ولكن لها لحية ، كأنه يشير إلى أنها رجل (٧) ، والأكثرون على أنها دابة (٨) ، لما روى ابن جريج (٩) عن أبي الزبير أنه وصف الدابة فقال : رأسها رأس الثور ، وعينها عين الخنزير ، وأن لها أذنا ، قيل : وقرنها قرن أيل (١٠) وصدرها صدر أسد ، ولونها لون النمر ، وخاصرتها خاصرة هر ، وذنبها ذنب كبش ، وقوائمها قوائم بعير ، بين كل مفصلين اثني عشر ذراعا ، معها عصا موسى وخاتم سليمان ، وذكر باقي الحديث (١١). وروى حذيفة بن اليمان (١٢) قال (١٣) : ذكر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الدابة ، قلت : يا رسول الله : من أين تخرج؟ قال : «من أعظم حرمة المساجد على الله بينما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون إذ تضطرب الأرض تحتهم وينشق الصفا مما يلي المشعر ، وتخرج الدابة من الصفا أول ما يبدو منها رأسها ملمعة ذات وبر وريش لن يدركها طالب ولن يفوتها هارب تسم الناس مؤمنا وكافرا ، أما المؤمن فتترك (١٤) وجهه كأنه كوكب دري ، وتكتب بين عينيه مؤمن ، وأما الكافر فتنكت بين عينيه نكتة سوداء وتكتب بين عينيه : كافر» (١٥). وروي عن ابن عباس أنه قرع الصفا بعصا ـ وهو محرم ـ وقال: إن الدابة لتسمع قرع عصاي هذه (١٦) وروى أبو هريرة عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «بئس الشعب شعب جياد» ،

__________________

(١) أخرجه الطيالسي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن حذيفة بن أسيد الغفاري. انظر البغوي ٦ / ٣٠٧ ـ ٣٠٨ الدر المنثور ٥ / ١١٦ ـ ١١٧.

(٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٣) أي : تسمه بها ، من خطمت البعير إذا كويته خطّا من الأنف إلى أحد خدّيه ، ومعناه أنها تؤثر في أنفه سمة يعرف بها. اللسان (خطم).

(٤) الخوان : المائدة معرب. اللسان (خون).

(٥) في ب : يجتمعون.

(٦) البغوي ٦ / ٣٠٨ ، الدر المنثور ٥ / ١١٦.

(٧) انظر البغوي ٦ / ٣٠٨.

(٨) المرجع السابق.

(٩) في ب : ابن جرير ، والتصويب من البغوي.

(١٠) الأيل : الوعل ، والجمع أيايل وأيائل. المعجم الوسيط (أيل).

(١١) انظر البغوي ٦ / ٣٠٨ ـ ٣٠٩.

(١٢) تقدم.

(١٣) في ب : فقال.

(١٤) في ب : فتنزل.

(١٥) أخرجه ابن جرير عن حذيفة بن اليمان. انظر البغوي ٦ / ٣٠٩ ، الدر المنثور ٥ / ١١٦٧.

(١٦) انظر البغوي ٦ / ٣٠٩.

٢٠٣

مرتين أو ثلاثا ، قيل : ولم ذاك يا رسول الله؟ قال : «تخرج منه الدابة ، فتصرخ ثلاث صرخات يسمعها من بين الخافقين» (١). وقال وهب : وجهها وجه الرجل ، وسائر خلقها خلق الطير فتخبر من رآها (٢) أن أهل مكة كانوا بمحمد والقرآن لا يوقنون (٣). قوله : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً) ، أي من كل قرن جماعة. و (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ) يجوز أن يكون متعلقا بالحشر ، و «من» لابتداء الغاية ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «فوجا» لأنه يجوز أن يكون صفة له في الأصل ، والفوج الجماعة كالقوم ، وقيدهم الراغب فقال : الجماعة المارة المسرعة (٤). وكأن هذا هو الأصل ثم انطلق ، ولم يكن مرور ولا إسراع ، والجمع : أفواج وفووج ، و (مِمَّنْ يُكَذِّبُ) صفة له ، و «من» في «من كلّ» تبعيضية ، وفي (مِمَّنْ يُكَذِّبُ) تبيينية (٥).

قوله : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا ثم يساقون إلى النار ، (حَتَّى إِذا جاؤُ)(٦) يوم القيامة ، قال لهم الله : (أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً) ولم تعرفوها حتى معرفتها. والواو في (وَلَمْ تُحِيطُوا) يجوز أن تكون العاطفة وأن تكون الحالية (٧) ، و «علما» تمييز. قوله : «أمّاذا» أم هنا منقطعة ، وتقدم حكمها ، و «ماذا» يجوز أن يكون برمته استفهاما منصوبا ب «تعملون» الواقع خبرا عن «كنتم» ، وأن تكون «ما» استفهامية مبتدأ ، و «ذا» موصول خبره ، والصلة : (كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، وعائده محذوف ، أي : أي شيء الذي كنتم تعملونه (٨)؟ وقرأ أبو حيوة «أما» بتخفيف الميم ، جعل همزة الاستفهام داخلة على اسمه تأكيدا (٩) كقوله :

٣٩٧٢ ـ أهل رأونا بوادي القفّ ذي الأكم (١٠)

__________________

(١) أخرجه ابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي هريرة. انظر البغوي ٦ / ٣٠٩ ، الدر المنثور ٥ / ١١٧.

(٢) في ب : وراها.

(٣) انظر البغوي ٦ / ٣٠٩.

(٤) المفردات في غريب القرآن ٣٨٦.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ١٥٣.

(٦) في ب : إذا ما جاءوا.

(٧) انظر الكشاف ٣ / ١٥٣.

(٨) انظر البحر المحيط ٧ / ٩٨ ـ ٩٩.

(٩) انظر البحر المحيط ٧ / ٩٩.

(١٠) عجز بيت من بحر الطويل ، قاله زيد الخيل ، وصدره :

سائل فوارس يربوع بشدّتنا

وهو في المقتضب ١ / ١٨٢ ، ٣ / ٢٩١ ، الخصائص ٢ / ٤٦٣ ، أمالي ابن الشجري ١ / ١٠٨ ، ٢ / ٣٣٤ ، ابن يعيش ٨ / ١٥٢ ، ١٥٣ ، المغني ٢ / ٣٥٢ ، شرح شواهده ٢ / ٧٧٢ ، الهمع ٢ / ٧٧ ، ١٣٣ ، الخزانة ١١ / ٢٦١ عرضا ، الأكم جمع أكمة وهي التل.

والشاهد فيه دخول همزة الاستفهام على «هل» التي للاستفهام لتأكيد معنى الاستفهام.

٢٠٤

قوله : (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) حين لم يتفكروا فيها ، كأنه قال : ما لم تشتغلوا بذلك العمل المهم فأي شيء كنتم تعملونه بعد ذلك ثم قال : (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) ، أي : وجب العذاب الموعود عليهم (بِما ظَلَمُوا) ، أي بسبب ظلمهم وتكذيبهم بآيات الله (١) ، ويضعف جعل «ما» بمعنى الذي (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) ، قال قتادة (٢) : كيف ينطقون ولا حجة لهم ، نظيره قوله تعالى : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات : ٣٥ ـ ٣٦] ، وقيل : (لا يَنْطِقُونَ)(٣) لأن أفواههم مختومة (٤). ثم إنه تعالى لما خوّفهم بأحوال القيامة ذكر كلاما يصلح أن يكون دليلا على التوحيد وعلى الحشر وعلى النبوة ، مبالغة في الإرشاد إلى الإيمان والمنع من الكفر ، فقال: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً)(٥) مضيئا يبصر فيه. قوله : (لِيَسْكُنُوا فِيهِ) قيل : فيه حذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني ، ومن الثاني ما أثبت نظيره في الأول ، إذ التقدير : جعلنا الليل مظلما ليسكنوا فيه ، والنهار مبصرا ليتصرفوا فيه ، فحذف «مظلما» لدلالة «مبصرا» و «لتتصرفوا» لدلالة «ليسكنوا» (٦). وقوله : «مبصرا» كقوله : (آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) [الإسراء : ١٢] ، وتقدم تحقيقه في الإسراء (٧) ، قال الزمخشري : فإن قلت : ما للتقايل لم يراع في قوله : «ليسكنوا» و «مبصرة» حيث كان أحدهما علة (٨) ، والآخر حالا؟ قلت : هو مراعى من حيث المعنى وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف (٩) يريد لم لا قال : والنهار لتتصرفوا فيه ، وأجاب (١٠) غيره (١١) بأن السكون في الليل هو المقصود (من الليل وأما الإبصار في النهار فليس هو المقصود) (١٢) لأنه وسيلة إلى جلب المنافع الدينية والدنيوية (١٣). (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يصدقون فيعتبرون ، وخص المؤمنين بالذكر ـ وإن كانت الأدلة للكل ـ لأن المؤمنين هم المنتفعون (١٤) ، كقوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢].

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ)(٨٧)

قوله : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) هذه العلامة الثانية لقيام القيامة ، والصور : قرن ينفخ

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢١٨ ـ ٢١٩.

(٢) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٦ / ٣١١.

(٣) لا ينطقون : سقط من ب.

(٤) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٦ / ٣١١.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢١٩.

(٦) انظر البحر المحيط ٧ / ٩٩.

(٧) عند قوله تعالى : «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً» [الإسراء : ١٢].

(٨) في ب : جملة. وهو تحريف.

(٩) الكشاف ٣ / ١٥٤.

(١٠) في ب : فأجاب.

(١١) وهو ابن الخطيب.

(١٢) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢١٩.

(١٤) المرجع السابق.

٢٠٥

فيه إسرافيل ، فإذا سمع الناس ذلك الصوت يصيحون ثم يموتون ، وهذا قول الأكثرين (١). وقال الحسن : الصور هو الصور (٢) ، وأول بعضهم كلامه أن الأرواح تجتمع في القرن ثم ينفخ فيه فتذهب الأرواح إلى الأجساد ، فتحيا الأجساد (٣). قوله (٤) : (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) قال : «ففزع» بلفظ الماضي ولم يقل (٥) فيفزع لتحققه وثبوته وأنه كائن لا محالة ، لأن الفعل الماضي يدل على وجود الفعل ، كقوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ)(٦) [النحل : ١]. والمعنى : يلقى عليهم الفزع إلى أن يموتوا ، قيل : ينفخ إسرافيل في الصور ثلاث نفخات : نفخة الفزع ، ونفخة الصعق ، ونفخة القيام لرب العالمين(٧).

قوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) فالمراد إلا من ثبّت الله قلبه من الملائكة ، قالوا : وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت (٨) ، وجاء في الحديث : أنهم الشهداء متقلدون أسيافهم حول العرش (٩) ، قال سعيد بن جبير وعطاء عن ابن عباس هم الشهداء ، لأنهم (١٠) أحياء عند ربهم (١١). وعن الضحاك : هم رضوان والحور وخزنة النار وحملة العرش (١٢). و (كُلٌّ أَتَوْهُ) أي الذين أحيوا بعد الموت. قوله : «أتوه» قرأ حمزة وحفص : «أتوه» فعلا ماضيا ومفعوله الهاء ، والباقون : «آتوه» : اسم فاعل مضافا للهاء (١٣) ، وهذا حمل على معنى «كلّ» وهي مضافة تقديرا ، أي : وكلهم. وقرأ قتادة : «أتاه» ماضيا مسندا لضمير «كلّ» على اللفظ ، ثم حمل على معناها ، فقرأ «داخرين»(١٤) ، والحسن (١٥) والأعرج «دخرين» بغير ألف (١٦) أي : صاغرين.

قوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ)(٨٨)

قوله (١٧) : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً) هذه العلامة الثالثة لقيام القيامة ، وهي

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٢٠.

(٢) انظر البغوي ٦ / ٣١١.

(٣) انظر البغوي ٦ / ٣١١.

(٤) قوله : سقط من ب.

(٥) يقل : سقط من ب.

(٦) [النحل : ١]. ووجه الاستشهاد بالآية أنه أمر متحقق الوقوع في المستقبل فصار كأنه قد كان. وانظر البحر المحيط ٧ / ٩٩.

(٧) انظر البغوي ٦ / ٣١٢.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٢٠.

(٩) ذكره البغوي عن أبي هريرة. انظر البغوي ٦ / ٣١٢.

(١٠) في ب : إلا أنهم.

(١١) انظر البغوي ٦ / ٣١٢.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٢٠.

(١٣) السبعة (٤٨٧) ، الكشف ٢ / ١٦٧ ، النشر ٢ / ٣٣٩ ، الإتحاف (٣٤٠).

(١٤) المختصر (١١١) ، المحتسب ٢ / ١٤٥ ، البحر المحيط ٧ / ١٠٠.

(١٥) والحسن : سقط من ب.

(١٦) المختصر (١١١) ، البحر المحيط ٧ / ١٠٠.

(١٧) في ب : قوله تعالى.

٢٠٦

قوله تعالى : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) [الكهف : ٤٧] «جامدة» قائمة واقعة ، و (تَحْسَبُها جامِدَةً) هذه الجملة حالية من فاعل «ترى» أو من مفعوله (١) ، لأن الرؤية بصرية.

قوله : (وَهِيَ تَمُرُّ) الجملة حالية (٢) أيضا ، وهكذا الأجرام العظيمة تراها واقفة وهي مارة (٣) قال النابغة الجعدي (٤) يصف جيشا كثيفا :

٣٩٧٣ ـ بأرعن مثل الطّود تحسب أنّهم

وقوف لحاج والرّكاب تهملج (٥)

و (مَرَّ السَّحابِ) : مصدر تشبيهي (٦) ، قوله : (صُنْعَ اللهِ) مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة عامله مضمر ، أي : صنع الله ذلك صنعا ، ثم أضيف بعد حذف عامله (٧) ، وجعله الزمخشري مؤكدا للعامل في (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) وقدره : ويوم ينفخ وكان كيت وكيت أثاب الله المحسنين وعاقب المسيئين في كلام طويل جريا على مذهبه (٨). وقيل منصوب على الإغراء ، أي : انظروا صنع الله وعليكم به (٩). والإتقان : الإتيان بالشيء على أكمل حالاته ، وهو من قولهم : تقن أرضه إذا ساق إليها الماء الخاثر بالطين (١٠) لتصلح للزراعة ، وأرض تقنة ، والتقن فعل ذلك بها ، والتقن أيضا : ما رمي به في الغدير من ذلك أو الأرض (١١) ، ومعنى (أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) أي : أحكمه. (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) قرأ

__________________

(١) انظر التبيان ٢ / ١٠١٤.

(٢) قال أبو البقاء :(«وهي تمرّ» حال من الضمير المنصوب في «تحسبها» ، ولا يكون حالا من الضمير في «جامدة» ، إذ لا يستقيم أن تكون جامدة مارة مرّ السحاب والتقدير : مرّا مثل مر السحاب) التبيان ٢ / ١٠١٥.

(٣) انظر الكشاف ٣ / ١٥٤.

(٤) هو قيس بن عبد الله بن عدس بن ربيعة الجعدي العامري ، أبو ليلى ، شاعر من المعمرين ، اشتهر في الجاهلية ، وسمي النابغة ، لأنه أقام ثلاثين سنة لا يقول الشعر ثم نبغ فقاله ، وكان ممن هجر الأوثان ، ونهى عن الخمر قبل ظهور الإسلام ، ووفد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. الخزانة ٣ / ١٦٧ ـ ١٧٣.

(٥) البيت من بحر الطويل ، قاله النابغة الجعدي ، وهو في الكشاف ٣ / ١٥٤ ، والسبع الطوال لابن الأنباري (٤٦١) ، تفسير ابن عطية ١١ / ٢٤٢ ، القرطبي ١٣ / ٢٤٢ ، البحر المحيط ٧ / ١٠٠ ، شرح شواهد الكشاف (٢١). الأرعن : الجبل العالي. الطود : الجبل العظيم ، فاستعار الأرعن للجيش ثم شبهه بالطود ليفيد المبالغة في الكثرة. «لحاج» اسم جمع واحدته حاجة ، والرّكاب : المطي لا واحد له من لفظه. والهملجة : السير الرهو السهل ، والهملاج السريع. يقول : حاربنا العدو بجيش عظيم تظنهم واقفين لحاجة لكثرتهم ، والحال أن ركابهم تسرع السير. وهو موطن الشاهد.

(٦) يعني أن المعنى : تمر مرا كمر السحاب. فحذف المشبه به وأداة التشبيه ، وهذا معنى كلام الزمخشري. انظر الكشاف ٣ / ١٥٤.

(٧) انظر التبيان ٢ / ١٠١٥ ، البحر المحيط ٧ / ١٠٠.

(٨) قال الزمخشري :(«صُنْعَ اللهِ» من المصادر المؤكدة كقوله «وَعَدَ اللهُ» * و «صِبْغَةَ اللهِ» إلا أن مؤكده محذوف وهو الناصب ل «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ» ، وكان كيت وكيت ، أثاب الله المحسنين وعاقب المجرمين ، ثم قال : صنع الله يريد به الإثابة والمعاقبة) الكشاف ٣ / ١٥٤.

(٩) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٢٥٢.

(١٠) المقصود : بالطمي.

(١١) انظر اللسان (تقن).

٢٠٧

ابن كثير وأبو عمرو وهشام بالغيبة جريا على قوله (وَكُلٌّ أَتَوْهُ) ، والباقون بالخطاب جريا على قوله (وَتَرَى) ، لأن المراد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأمته (١).

قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٩٠)

قوله (٢) : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) في «خير» وجهان :

أحدهما : أنها للتفصيل باعتبار زعمهم ، أو على حذف مضاف ، أي : خير من قدرها واستحقاقها «منها» في محل نصب ، وألا يكون للتفصيل ، فيكون (منها) في موضع رفع صفة لها (٣). قوله (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ) قرأ أهل الكوفة (٤) «من فزع» بالتنوين ، «يومئذ» بفتح الميم ، وقرأ الآخرون بالإضافة (٥) ، لأنه أعم (٦) فإنه يقتضي الأمن من جميع فزع ذلك اليوم وبالتنوين كأنه فزع دون فزع ، ويفتح أهل المدينة الميم من «يومئذ» وتقدم في هود فتح «يوم» وجره (٧) و «إذ» مضافة للجملة حذفت وعوض عنها التنوين ، والأحسن أن تقدر يومئذ جاء بالحسنة ، وقيل : يومئذ ترى الجبال ، وقيل : يومئذ ينفخ في الصور ، والأول أولى ، لقرب ما قدر منه (٨).

فصل

لما تكلم في علامات القيامة شرح ـ بعد ذلك ـ أحوال المكلفين بعد قيام القيامة ، والمكلف إما أن يكون مطيعا أو عاصيا ، أما (المطيع ، فهو) (٩) الذي جاء بالحسنة (١٠) ، وهي كلمة الإخلاص قال أبو معشر (١١) يحلف ما استثنى : إنّ الحسنة لا إله إلا الله (١٢) ، وقيل : كل طاعة (١٣). (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) ، قال ابن عباس : يعني له من تلك الحسنة خير يوم القيامة ، وهو : الأمن من العذاب ، أما أن يكون له شيء خير من الإيمان ، فإنه ليس شيء

__________________

(١) السبعة (٤٨٧) ، الكشف ٢ / ٣٣٩ ـ ٣٤٠ ، الإتحاف (٣٤٠).

(٢) في ب : قوله تعالى.

(٣) انظر التبيان ٢ / ١٠١٥.

(٤) وهم : عاصم ، وحمزة ، والكسائي.

(٥) السبعة (٤٨٧) ، الكشف ٢ / ١٦٩ ، النشر ٢ / ٣٤٠ ، الإتحاف (٣٤٠).

(٦) في ب : أتم.

(٧) عند قوله تعالى : «فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ» [هود : ٦٦].

(٨) انظر البحر المحيط ٧ / ١٠٢.

(٩) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٢١.

(١١) يوسف بن يزيد أبو معشر البصري العطار ، أخذ عن أبي حازم ، وأخذ عنه محمد بن أبي بكر المقدمي. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ١٣.

(١٢) انظر البغوي ٦ / ٣١٤. وفيه : قال أبو معشر : كان إبراهيم يحلف ولا يستثني أن الحسنة لا إله إلا الله.

(١٣) انظر البغوي ٦ / ٣١٤.

٢٠٨

خيرا من قوله لا إله إلا الله (١) ، وقيل : خير منها يعني رضوان الله ، قال تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ)(٢) [التوبة : ٧٢] ، وقال محمد بن كعب وعبد الرحمن بن زيد : خير منها يعني الأضعاف ، أعطاه الله بالواحدة عشرا ، فصاعدا ، وهذا حسن ، لأن للأضعاف خصائص (٣) وقيل : إن الثواب خير من العمل ، لأن الثواب دائم والعمل منقض ، ولأن العمل فعل العبد ، والثواب فعل (٤) الله. (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) أي : آمنون من كل فزع ، فإن قيل : أليس قال ـ في أول الآية ـ (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ)؟ فكيف نفى (٥) الفزع ههنا؟ فالجواب : أن الفزع الأول ما لا يخلو منه أحد عند الإحساس بشدة تقع أو هول يفجأ ، وإن كان المحسن يأمن وصول ذلك الضرر إليه ، وأما الثاني : فهو الخوف من العذاب (٦).

وأما من قرأ «من فزع» بالتنوين (٧) ، فهو محتمل معنيين : من فزع واحد ، وهو خوف العذاب ، وإما ما يلحق الإنسان من الرعب عند مشاهدته ، فلا ينفك عنه أحد (٨). فإن قيل : الحسنة لفظة مفردة معرفة ، وقد ثبت أنها لا تفيد العموم ، بل يكفي في تحققها حصول فرد من أفرادها ، وإذا كان كذلك فلنحملها على أكمل الحسنات شأنا ، وأعلاها درجة وهو الإيمان ، ولهذا قال ابن عباس : الحسنة كلمة الشهادة ، وهذا يوجب (٩) القطع بأنه لا يعاقب أهل الإيمان ، فالجواب : ذلك الخير هو أن لا يكون عقابه مخلدا (١٠). و «أمن» يتعدى بالجار وبنفسه ، كقوله تعالى : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) [الأعراف : ٩٩].

قوله : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) يعني الإشراك (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) ، يجوز أن يكون ذكر الوجه (١١) إيذانا بأنهم يكبون على وجوههم فيها منكبين (١٢) ، يقال : كببت الرجل إذا ألقيته على وجهه فأكب (١٣) وانكب (١٤).

قوله : (هَلْ تُجْزَوْنَ) على إضمار قول ، وهذا القول حال مما قبله ، أي كبّت وجوههم مقولا لهم ذلك القول (١٥).

قوله تعالى : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ

__________________

(١) انظر البغوي ٦ / ٣١٤.

(٢) انظر البغوي ٦ / ٣١٤.

(٣) انظر البغوي ٦ / ٣١٤.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٢١.

(٥) نفى : سقط من ب.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٢١.

(٧) وهي قراءة أهل الكوفة كما سبق.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٢١.

(٩) في ب : موجب.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٢١.

(١١) في النسختين : الوحدة.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٢١.

(١٣) في ب : فأكبه.

(١٤) انظر اللسان (كبب).

(١٥) انظر التبيان ٢ / ١٠١٥.

٢٠٩

ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٩٣)

قوله : (إِنَّما أُمِرْتُ) أي : قل يا محمد إنما أمرت (أي : أمرت) (١) أن أخص الله وحده بالعبادة ، ثم إنه تعالى وصف نفسه بأمرين :

أحدهما : أنه رب هذه البلدة ، والمراد مكة ، وإنما خصها من بين سائر البلاد بإضافة اسمه إليها لأنها أحب بلاده إليه وأكرمها عليه ، وأشار إليها إشارة تعظيم لها دالّا على أنها وطن نبيه ومهبط وحيه(٢).

قوله : (الَّذِي حَرَّمَها) هذه قراءة الجمهور صفة للربّ ، وابن مسعود وابن عباس «الّتي» صفة للبلدة (٣) ، والسياق إنما هو للرب لا للبلدة ، فلذلك (٤) كانت قراءة (٥) العامة واضحة. والمعنى : جعلها الله حرما آمنا لا يسفك فيها دم (٦) ، ولا يظلم فيها أحد (٧) ، ولا يصطاد صيدها ولا يختلأ خلاؤها ، وله كل شيء خلقا وملكا ، وإنما ذكر ذلك لأن العرب كانوا معترفين (٨) بكون مكة محرمة ، وعلموا أن تلك الفضيلة ليست من الأصنام بل من الله فكأنه قال : لما علمت وعلمتهم أنه سبحانه هو المتولي (٩) لهذه النعم وجب عليّ أن أخصه بالعبادات ، و (أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) لله(١٠).

قوله : (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) العامة على إثبات الواو بعد اللام ، وفيها تأويلان :

أظهرهما : أنه من التلاوة وهي القراءة ، وما بعده يلائمه.

والثاني : من التلو وهو الاتباع (١١) كقوله : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ) [يونس : ١٠٩].

وقرأ عبد الله : «وأن اتل» أمرا له (١٢) عليه‌السلام (١٣) ، ف «أن» يجوز أن تكون المفسرة وأن تكون المصدرية ، وصلت بالأمر (١٤) ، وتقدم ما فيه.

فصل

المعنى : وأمرت أن أتلو القرآن ، ولقد قام بذلك صلوات الله عليه وسلامه أتم قيام (فَمَنِ اهْتَدى) فيما تقدم من المسائل ، وهي التوحيد والحشر والنبوة ، (فَإِنَّما يَهْتَدِي

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من ب.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٢٢.

(٣) انظر المختصر (١١١) ، التبيان ٢ / ١٠١٥ ، البحر المحيط ٧ / ١٠٢.

(٤) في ب : فلهذا.

(٥) قراءة : سقط من الأصل.

(٦) في ب : دما.

(٧) في ب : أحدا.

(٨) في ب : بمعترفين.

(٩) في ب : الولي.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٢٢.

(١١) انظر الكشاف ٣ / ١٥٥ ، البحر المحيط ٧ / ١٠٢.

(١٢) المختصر (١١١) ، البحر المحيط ٧ / ١٠٢ ، وفي ب : أمر.

(١٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٤) انظر البحر المحيط ٧ / ١٠٢.

٢١٠

لِنَفْسِهِ) ، أي منفعة اهتدائه راجعة إليه ، (وَمَنْ ضَلَّ) عن الإيمان وأخطأ طريق الهدى ، (فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) المخوفين فليس عليّ إلا البلاغ ، نسختها آية القتال (١).

قوله : (وَمَنْ ضَلَّ) يجوز أن يكون الجواب قوله : (فَقُلْ إِنَّما أَنَا)(٢) ، ولا بد من حذف عائد على اسم الشرط أي : من المنذرين له (٣) ، لما تقدم في البقرة وأن يكون الجواب محذوفا أي : فوبال ضلاله عليه (٤).

قوله : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على ما أعطاني من نعمة العلم والحكمة والنبوة ، أو (٥) على ما وفقني من القيام بأداء الرسالة والإنذار ، (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ) القاهرة ، (فَتَعْرِفُونَها)(٦) يعني يوم بدر من القتل والسبي ، وضرب الملائكة وجوههم وأديارهم ، نظيره قوله تعالى : (سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ)(٧) [الأنبياء : ٣٧]. وقال مجاهد : «سيريكم آياته في السماوات والأرض وفي أنفسكم» ، كما قال : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ)(٨) [فصلت : ٥٣] «فتعرفونها» أي تعرفون الآيات والدلالات ، (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) قرىء بالتاء والياء (٩) ، وهذا وعيد لهم بالجزاء على أعمالهم.

روى أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «من قرأ طس النمل كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق سليمان ، وكذب به ، وهود وشعيب وصالح وإبراهيم عليهم‌السلام (١٠) ، ويخرج من قبره وهو ينادي : لا إله إلا الله» (١١).

__________________

(١) انظر البغوي ٦ / ٣١٥ ـ ٣١٦.

(٢) أنا : سقط من ب.

(٣) إذ أداة الشرط اسم وليس ظرفا فلا بد في جملة الجواب من ذكر يعود عليه ملفوظ أو مقدر. انظر البحر المحيط ٧ / ١٠٢ ـ ١٠٣.

(٤) وحذف جواب «من ضل» لدلالة جواب ما قبله عليه. انظر البحر المحيط ٧ / ١٠٢.

(٥) في ب : و.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٢٣.

(٧) انظر البغوي ٦ / ٣١٦.

(٨) انظر البغوي ٦ / ٣١٦.

(٩) فقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم بالتاء ، والباقون وأبو بكر عن عاصم بالياء. السبعة (٣٤٠ ، ٤٨٨) ، الكشف ١ / ٥٣٨ ، الإتحاف (٣٤٠).

(١٠) في ب : عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.

(١١) أخرجه الثعلبي وابن مردويه من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه. انظر الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١٢٦).

٢١١

سورة القصص

سورة القصص مكية إلا قوله عزوجل (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) [القصص : ٥٢] إلى قوله: (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ)(١) [القصص : ٥٥] ، وفيها آية نزلت بين مكة والمدينة وهي قوله (٢) : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ)(٣) [القصص : ٨٥] وهي ثمان وثمانون آية ، وألف وأربعمائة وإحدى وأربعون كلمة ، وخمسة آلاف وثمانمائة حرف (٤).

ولقائل أن يقول : لم لا سميت سورة موسى ، لاشتمالها على قصة موسى فقط من حين ولد إلى أن أهلك الله فرعون وخسف بقارون ، كما سميت سورة نوح ، وسورة يوسف ، لاشتمالها على قصتهما ، ولا يقال : سميت (بذلك لذكر) (٥) القصص فيها في قوله : (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) [القصص : ٢٥] ، لأنّ سورة (٦) يوسف فيها ذكر القصص مرتين ، الأولى (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف : ٣] ، والثانية قوله : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ)(٧) فكانت سورة يوسف أولى بهذا الاسم ، وأيضا فكانت (٨) سورة هود أولى بهذا الاسم ، يعني : بسورة القصص ؛ لأنه ذكر فيها قصص (سبعة أنبياء) (٩) وهذه ليس فيها إلّا قصة واحدة ، فكان ينبغي العكس ، أن (١٠) تسمى سورة هود سورة (١١) القصص ، وهذه سورة موسى.

قوله تعالى : (طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ

__________________

(١) وهو قول مقاتل. انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٢٥٧ ، القرطبي ١٣ / ٢٤٧ ، البحر المحيط ٧ / ١٠٤.

(٢) وهي قوله : سقط من الأصل.

(٣) انظر البغوي ٦ / ٣١٦. وهو قول ابن سلام. انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٢٥٧ ، القرطبي ١٣ / ٢٤٧. وقال الحسن وعطاء وعكرمة السورة مكية كلها. انظر القرطبي ١٣ / ٢٤٧ ، البحر المحيط ٧ / ١٠٤.

(٤) في الأصل : حرفا.

(٥) ما بين القوسين في ب : بذكر.

(٦) سورة : سقط من ب.

(٧) في ب : «لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ»[يوسف : ١١١].

(٨) في ب : كانت.

(٩) ما بين القوسين في ب : متعددة.

(١٠) في الأصل : وإنما. وفي ب : وأن.

(١١) في ب : وسورة.

٢١٢

أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ)(٦)

بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى (١) : (نَتْلُوا عَلَيْكَ) يجوز أن يكون مفعول «نتلو» محذوفا دلّت عليه صفته وهي : (مِنْ نَبَإِ مُوسى) (تقديره : نتلو عليك شيئا من نبأ موسى (٢) ، ويجوز أن تكون «من» مزيدة على رأي الأخفش أي : نتلو عليك نبأ موسى) (٣).

قوله : «بالحقّ» يجوز أن يكون حالا من فاعل «نتلو» ، أو (٤) من مفعوله ، أي نتلو عليك بعض خبرهما متلبسين أو متلبسا بالحق (٥) أو متعلقا (٦) بنفس «نتلو» بمعنى : نتلوه بسبب الحق و (٧) «لقوم» متعلق بفعل التلاوة أي : لأجل هؤلاء. و «يؤمنون» يصدقون ، وخصّهم بالذكر لأنهم قبلوا وانتفعوا (٨).

قوله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ) هذا هو المتلوّ جيء به في جملة مستأنفة (٩) مؤكدة (١٠).

وقرىء «فرعون» بضم الفاء وكسرها ، والكسر أحسن (١١) وهو الفسطاط (١٢) ، (عَلا فِي الْأَرْضِ) استكبر وتجبّر (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) فرقا وأصنافا في الخدمة والتسخير ، يتبعونه على ما يريد ويطيعونه (١٣).

قوله : يستضعف (١٤) يجوز فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مستأنف بيان لحال الأهل الذين جعلهم فرقا وأصنافا.

الثاني : أنه حال من فاعل «جعل» أي : جعلهم كذا حال كونه (١٥) مستضعفا طائفة منهم.

الثالث : أنه صفة ل «طائفة» (١٦).

قوله : (يُذَبِّحُ) يجوز فيه الثلاثة الأوجه : الاستئناف تفسيرا ل «يستضعف» (١٧). أو

__________________

(١) تعالى : سقط من ب.

(٢) انظر التبيان ٢ / ١٠٢٦.

(٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(٤) في ب : و.

(٥) انظر التبيان ٢ / ١٠١٦ ، البحر المحيط ٧ / ١٠٤.

(٦) في النسختين : «متعلق» والصواب ما أثبت.

(٧) و : سقط من ب.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٢٥.

(٩) في ب : مبتدأ.

(١٠) انظر الكشاف ٣ / ١٥٦.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٢٥.

(١٢) في ب : الفسطاس.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٢٥.

(١٤) في ب : ويستضعف.

(١٥) في ب : كون.

(١٦) الصواب أنه صفة ل «شيعا». انظر الأوجه الثلاثة في الكشاف ٣ / ١٥٧. التبيان ٢ / ١٠١٦ ، البحر المحيط ٧ / ١٠٤.

(١٧) قال الزمخشري : (و «يذبح» بدل من «يستضعف») الكشاف ٣ / ١٥٧.

٢١٣

الحال من فاعله أو صفة ثانية ل «طائفة» (١). والعامة على التشديد في «يذبّح» للتكثير.

وأبو حيوة وابن محيصن «يذبح» مفتوح الياء والباء مضارع «ذبح» مخففا (٢).

فصل

المراد بالطائفة بنو إسرائيل ، ثم فسّر الاستضعاف فقال : (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) ، سمّى هذا استضعافا ؛ لأنهم عجزوا وضعفوا عن دفعه عن أنفسهم (٣) ، (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) ذكروا في سبب ذبح الأبناء وجوها :

قيل : إنّ كاهنا قال له يولد مولود في بني إسرائيل في ليلة كذا (يذهب ملكك) (٤) على يده ، فولد تلك الليلة اثنا عشر غلاما ، فقتلهم وبقي هذا العذاب في بني إسرائيل سنين كثيرة. قال وهب : قتل القبط (٥) في طلب موسى تسعين ألفا (٦) من بني إسرائيل. وقال السدي : إنّ فرعون رأى في منامه أنّ نارا أقبلت من بيت المقدس إلى مصر فأحرقت القبط دون بني إسرائيل. فسأل عن رؤياه فقيل له : يخرج من هذا البلد من بني إسرائيل رجل يكون هلاك مصر على يده ، فأمر بقتل الذكور ، وقيل : إن الأنبياء الذين كانوا قبل موسى عليه‌السلام (٧) بشروا بمجيئه فسمع فرعون بذلك فأمر بذبح أبناء بني إسرائيل (٨).

قوله : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ) فيه وجهان :

أظهرهما : أنه عطف على قوله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ) عطف فعلية على اسمية ، لأن كلتيهما تفسير للنبأ (٩).

الثاني : أنه حال من فاعل «يستضعف» وفيه (١٠) ضعف من حيث الصناعة ومن حيث المعنى ، أما الصناعة فلكونه (مضارعا) (١١) مثبتا فحقه أن يتجرد من الواو وإضمار مبتدأ قبله ، أي : ونحن نريك ، كقوله :

٣٩٧٤ ـ نجوت وأرهنهم مالكا (١٢)

__________________

(١) انظر الأوجه في التبيان ٢ / ١٠١٦ ، البحر المحيط ٧ / ١٠٥.

(٢) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٢٦٠ ، البحر المحيط ٧ / ١٠٤ ، الإتحاف (٣٤١).

(٣) انظر البغوي ٦ / ٣١٧ ـ ٣١٨.

(٤) ما بين القوسين في الأصل : يذبح هب ملكه. وهو تحريف.

(٥) في النسختين : من القبط. والتصويب من الفخر الرازي.

(٦) في ب : سبعين ألفا.

(٧) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٨) قال ابن الخطيب : (وهذا الوجه هو الأولى بالقبول) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٢٥.

(٩) انظر الكشاف ٣ / ١٥٧ ، البحر المحيط ٧ / ١٠٤.

(١٠) انظر الكشاف ٣ / ١٥٧.

(١١) مضارعا : تكملة ليست من المخظوط.

(١٢) عجز بيت من بحر المتقارب ، قاله عبد الله بن همام ، وصدره :

فلما خشيت أظافيرهم

تقدم تخريجه والشاهد فيه.

٢١٤

وهذا تكلّف لا حاجة إليه. وأما المعنى فكيف يجتمع استضعاف فرعون ، وإرادة المنّة من الله (١) ، لأنه متى منّ الله عليهم تعذّر استضعاف فرعون إياهم.

وقد أجيب عن ذلك بأنه (٢) لما كانت المنّة بخلاصهم من فرعون سريعة الوقوع جعل إرادة وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم (٣).

قوله : (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) قال مجاهد : دعاة إلى الخير ، وقال قتادة : ولاة وملوكا كقوله تعالى: (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً)(٤) ، وقيل : يهتدى بهم في الخير (٥) ، (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) يعني لملك فرعون وقومه يخلفونهم في مساكنهم (٦).

قوله : (وَنُمَكِّنَ) العامة على ذلك من غير لام علّة ، والأعمش : ولنمكّن» بلام العلة (٧) ومتعلقها محذوف ، أي : ولنمكن فعلنا ذلك (٨) ، والمعنى : نوطىء لهم في أرض (٩) مصر والشام ، ونجعلها (١٠) لهم مكانا يستقرون فيه (١١) ، وننفذ (١٢) أمرهم ونطلق أيديهم ، يقال : مكّن له إذا جعل له مكانا يقعد عليه وأوطأه ومهده (١٣).

قوله : (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما) قرأ الأخوان (١٤) : «ويرى» بفتح الياء والراء (١٥) مضارع (رأى) مسندا إلى «فرعون» وما عطف عليه فلذلك رفعوا ، والباقون بضم النون وكسر الراء مضارع (أرى) ، فلذلك نصب «فرعون» وما عطف عليه (١٦) مفعولا أول ، «و (ما كانُوا) هو الثاني (١٧). و «منهم» متعلق بفعل الرّؤية أو الإرادة (١٨) ، لا ب «يحذرون» لأنّ ما بعد الموصول لا يعمل فيما قبله (١٩) ، ولا ضرورة بنا إلى أن نقول اتسع فيه ، والحذر هو التوقي من الضّرر(٢٠) ، والمعنى : وما كانوا خائفين منه.

قوله : (أَنْ أَرْضِعِيهِ) يجوز أن تكون المفسرة والمصدرية (٢١) ، وقرأ عمر بن عبد

__________________

(١) في ب : من الله تعالى.

(٢) في ب : لأنه.

(٣) انظر الكشاف ٣ / ١٥٧ ، البحر المحيط ٧ / ١٠٤.

(٤) من قوله تعالى : «وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً» [المائدة : ٢٠].

(٥) انظر : البغوي ٦ / ٣١٨.

(٦) المرجع السابق.

(٧) في ب : علة. وانظر البحر المحيط ٧ / ١٠٥.

(٨) انظر البحر المحيط ٧ / ١٠٥.

(٩) في ب : الأرض.

(١٠) في ب : ونجعل.

(١١) انظر البغوي ٦ / ٣١٨.

(١٢) في ب : ونبعد.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٢٦.

(١٤) حمزة والكسائي.

(١٥) والراء : سقط من ب.

(١٦) السبعة (٤٩٢) ، الكشف ٢ / ١٧٢ ، النشر ٢ / ٣٤١ ، الإتحاف (٣٤١).

(١٧) انظر البيان ٢ / ٢٢٩.

(١٨) في ب : الإرادة.

(١٩) انظر التبيان ٢ / ١٠١٦.

(٢٠) انظر البغوي ٦ / ٣١٨.

(٢١) انظر التبيان ٢ / ١٠١٦ ، البحر المحيط ٧ / ١٠٥.

٢١٥

العزيز وعمر بن عبد الواحد (١) بكسر النون على التقاء الساكنين ، وكأنه حذف همزة القطع على غير قياس فالتقى ساكنان ، فكسر (٢) أولهما (٣).

فصل

قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)(٩)

قوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) وحي إلهام لا وحي نبوة ، قال قتادة : قذفنا في قلبها ، واسمها يوخابز (٤) ، وقيل أيادخا ، وقيل أيارخت قاله ابن كثير ، بنت لاوي بن يعقوب ، (أَنْ أَرْضِعِيهِ) قيل (٥) : أرضعته ثمانية أشهر ، وقيل أربعة أشهر ، وقيل ثلاثة أشهر ، كانت ترضعه في حجرها وهو لا يبكي ولا يتحرك. (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) يعني من الذبح ، (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) ، واليم البحر وأراد هنا النيل ، (وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي) قيل : ولا تخافي عليه من الغرق وقيل : من الضيعة ، (وَلا تَحْزَنِي) على فراقه ، ف (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ)(٦) لتكوني أنت المرضعة (وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) إلى أهل مصر والشام. قال المفسرون : إنها لما خافت عليه من الذبح ، وضعته في تابوت ، وألقته في النيل ليلا (٧) ، قال (٨) ابن كثير : وقيل إنها ربطت التابوت في حبل (٩) وكانت دارها (١٠) على حافة النيل ، فكانت (١١) ترضعه ، فإذا خشيت من أحد وضعته في ذلك التابوت ، وأرسلته في البحر ، وأمسكت طرف الحبل عندها ، فإذا ذهبوا استرجعته إليها ، وكان (١٢) لفرعون قوابل معهم رجال يطوفون على الحوامل ، فمن وضعت ذكرا ذبحوه ، فأرسلت أم موسى التابوت يوما. وذهلت عن ربطه فذهب مع النيل (١٣). قال ابن عباس وغيره : وكان لفرعون يومئذ بنت لم يكن له ولد غيرها ، وكانت من أكرم الناس عليه ، وكان بها برص شديد ، فقال له

__________________

(١) هو عمر بن عبد الواحد بن قيس أبو حفص الدمشقي ، عرض على يحيى بن الحارث الذماري ، وروى عنه اختياره الذي خالف فيه عبد الله بن عامر ، وروى عنه هشام بن عمار ، مات سنة ٢٠٠ ه‍. طبقات الق راء ١ / ٥٩٤.

(٢) في ب : فكسروا.

(٣) انظر المحتسب ٢ / ١٤٧ ، البحر المحيط ٧ / ١٠٥.

(٤) انظر البغوي ٦ / ٣١٨ ـ ٣١٩.

(٥) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٦ / ٣١٩.

(٦) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٦ / ٣١٩.

(٧) انظر البغوي ٦ / ٣٢٠.

(٨) في الأصل : قاله.

(٩) في ب : وأرسلته في حبل.

(١٠) في ب : وكان ذراعا. وهو تحريف.

(١١) في ب : وكانت.

(١٢) في ب : فكان.

(١٣) انظر تفسير ابن كثير ٣ / ٣٨٠.

٢١٦

الأطباء : أيها الملك إنها لا تبرأ إلا من قبل البحر يؤخذ منه (١) شبه الإنس ، فيؤخذ (٢) من ريقه فيلطخ به برصها ، فتبرأ من ذلك ، وذلك يوم كذا وساعة كذا من (٣) شهر كذا حين تشرق الشمس ، فلما كان ذلك اليوم غدا فرعون من مجلس له كان على شفير (٤) النيل ، ومعه آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد الذي (٥) كان فرعون مصر في زمن يوسف الصديق ، وهي امرأة فرعون.

وقيل : كانت من بني إسرائيل من سبط موسى ، وقيل : كانت عمته ؛ حكاه السهيلي. وأقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على شاطىء النيل ، إذ أقبل النيل بتابوت تضربه الأمواج ، فتعلق بشجرة ، فقال فرعون : ائتوني به ، فابتدروا بالسفن من كل جانب فوضعوه (٦) بين يديه ، فعالجوا (٧) فتحه ، فلم يقدروا عليه ، فنظرت آسية فرأت نورا في جوف التابوت لم يره غيرها ، فعالجته ففتحته ، فإذا هو بصبي صغير في مهده ، و (٨) إذا نور بين عينيه ، فألقى الله محبته في قلوب القوم ، وعمدت ابنة فرعون إلى ريقه ، فلطخت به برصها ، فبرأت ، فقالت الغواة من قوم فرعون : إنّا (٩) نظن أن هذا هو الذي نحذر منه ، رمي في البحر فرقا منك فاقتله ، فهمّ فرعون بقتله ، فاستوهبته امرأة فرعون فترك قتله (١٠).

وقوله : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) أي : جواريه.

قوله : «ليكون» في اللام الوجهان المشهوران : العلية المجازية بمعنى أن ذلك لما كان نتيجة فعلهم وثمرته شبه بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله (١١) ، أو (١٢) الصيرورة (١٣).

وقوله : «وحزنا» قرأ (١٤) العامة (١٥) بفتح الحاء والزاي ، وهي لغة قريش (١٦) ، والأخوان بضم وسكون (١٧) وهما لغتان بمعنى واحد كالعدم والعدم (١٨). (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) العامة على الهمز ، مأخوذ من الخطأ ضد الصواب ،

__________________

(١) في ب : يومئذ. وهو تحريف.

(٢) في الأصل : ويؤخذ.

(٣) في ب : و.

(٤) شفير الوادي : حدّ حرفه.

(٥) في ب : و.

(٦) في ب : ووضعوه.

(٧) في ب : فعالجوه.

(٨) و : سقط من ب.

(٩) في ب : إننا.

(١٠) انظر البغوي ٦ / ٣٢٠ ـ ٣٢١ ، الفخر الرازي ٢٤ / ٢٢٧ ـ ٢٢٨.

(١١) انظر الكشاف ٣ / ١٥٧ ـ ١٥٨.

(١٢) في ب : و.

(١٣) الصيرورة : اصطلاح الكوفيين ، ويسميها البصريون لام العاقبة. انظر البيان ٢ / ٢٢٩ ، التبيان ٢ / ١٠١٦.

(١٤) في ب : وقرأ.

(١٥) غير حمزة والكسائي.

(١٦) انظر البحر المحيط ٧ / ١٠٥ ، اللسان (حزن).

(١٧) السبعة (٤٩٢) ، الكشف ٢ / ١٧٢ ، النشر ٢ / ٣٤١ ، الإتحاف (٣٤١).

(١٨) الكشف ٢ / ١٧٢ ، الكشاف ٣ / ١٥٨ ، التبيان ٢ / ١٠١٦.

٢١٧

وقرىء بياء دون همز ، فاحتمل أن يكون كالأول ، ولكن خفّف ، وأن يكون من خطا يخطو أي : تجاوز الصّواب (١).

قوله : (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) فيه وجهان :

أظهرهما : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو قرّة عين.

الثاني ـ وهو بعيد جدا ـ أن يكون مبتدأ والخبر (لا تَقْتُلُوهُ)(٢). وكان هذا (٣) القائل حقه أن لا (٤) يذكّر ، فيقول : «لا تقتلوها» ، إلا أنه لما كان المراد مذكرا ساغ ذلك ، والعامة من القراء والمفسرين وأهل العلم يقفون على «ولك» (٥). ونقل ابن الأنباري بسنده إلى ابن عباس عنه أنه وقف على «لا» أي : هو (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي) فقط ، (وَلَكَ لا) ، أي : ليس هو لك قرة عين ، ثم يبتدىء بقوله «تقتلوه» ، وهذا لا ينبغي أن يصحّ عنه ، وكيف يبقى «تقتلوه» من غير نون رفع ، ولا مقتضى لحذفها؟ ولذلك (٦) قال الفراء : هو لحن (٧).

قوله : (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً). كانت لا تلد ، فاستوهبت موسى من فرعون ، فوهبه لها (٨) ، وقال (٩) فرعون : أمّا أنا فلا حاجة لي به (١٠) ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو قال يومئذ قرة عين لي كما هو لك ، لهداه الله كما هداها» (١١) وقال (١٢) لآسية سميه ، قالت (١٣) : سميته موسى لأنا وجدناه في الماء والشجر ، (فمو هو الماء ، و (شا) هو البحر ، فذلك قوله : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ). والالتقاط : هو وجود الشيء) (١٤)(١٥).

قوله : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) جملة حالية (١٦) ، وهل هي من كلام الباري تعالى (١٧)

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٧ / ١٠٥.

(٢) فيكون قد عرف أنه قرة عين. انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ١٣٣ ، الكشاف ٣ / ١٥٨ ، البحر المحيط ٧ / ١٠٦ ، وذكر الوجهين ابن الأنباري ، انظر البيان ٢ / ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

(٣) في ب : هو.

(٤) لا : تكملة ليست في المخطوط.

(٥) في ب : ذلك.

(٦) في ب : وكذلك. وهو تحريف.

(٧) قال الفراء : (وفي قراءة عبد الله «لا تقتلوه قرة عين لي ولك» وإنما ذكرت هذا لأني سمعت الذي يقال له ابن مروان السدي يذكر عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال : إنها قالت : «قرة عين لي ولك لا» وهو لحن ، ويقويك على رده قراءة عبد الله) معاني القرآن ٢ / ٣٠٢ ، وانظر المختصر (١١١ ـ ١١٢) وابن الأنباري في كتابه إيضاح الوقف والابتداء (٨٢٢) نقل عبارة الفراء معزوة إليه ولم يزد عليها شيئا.

(٨) انظر القرطبي ١٣ / ٢٥٤.

(٩) في ب : قال. وهو تحريف.

(١٠) في ب : فيه.

(١١) انظر الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١٢٦).

(١٢) في ب : فقال.

(١٣) في ب : قال. وهو تحريف.

(١٤) انظر البغوي ٦ / ٣٢١.

(١٥) ما بين القوسين في ب : من غير طلب.

(١٦) وصاحب الحال : «آل فرعون» وتقدير الكلام : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا وقالت امرأة فرعون كذا وهم لا يشعرون أنهم على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه وتبنّيه. الكشاف ٣ / ١٥٨.

(١٧) أي : لا يشعرون أن هلاكهم بسببه وعلى يده. وهذا قول مجاهد وقتادة والضحاك ومقاتل. وقال ابن ـ

٢١٨

وهو الظاهر ، أو من كلام امرأة فرعون؟ كأنها لما رأت ملأه أشاروا بقتله ، قالت له كذا ؛ أي : افعل أنت ما أقول لك وقومك لا يشعرون أنا التقطناه ـ قاله الكلبي (١) ، وجعل الزمخشري الجملة من قوله : (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ) معطوفة على «فالتقطه» والجملة من قوله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ) إلى «خاطئين» معترضة (٢) بين المتعاطفين ، وجعل متعلق الشعور من جنس الجملة المعترضة أي : لا يشعرون أنهم على خطأ في التقاطه ، أو أن هلاكهم على يديه (٣) ، قال أبو حيان : ومتى أمكن حمل الكلام على ظاهره من غير فصل كان أحسن (٤).

قوله تعالى : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)(١١)

قوله : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) (قال الحسن : فارغا) (٥) من كل همّ إلّا همّ موسى (٦). وقال أبو مسلم (٧) : فراغ (٨) الفؤاد هو الخوف والإشغاف ، كقوله : (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ)(٩) [إبراهيم : ٤٣].

وقال الزمخشري : فارغا صفرا من العقل ، والمعنى أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها من فرط الجزع والخوف (١٠). وقال الحسن ومحمد بن إسحاق : فارغا من الوحي الذي أوحينا إليها أن (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) [القصص : ٧] فجاءها الشيطان وقال لها : كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجرا وثوابا ، وتوليت أنت قتله ، فألقيته في البحر ، وأغرقتيه (١١) ، ولمّا (١٢) أتاها خبر موسى أنه وقع في يد فرعون فأنساها عظيم البلاء ما كان من عهد الله إليها(١٣). وقال أبو عبيدة : فارغا من الحزن لعلمها (١٤) بأنه لا يقتل ، اعتمادا على تكفل الله بمصلحته (١٥). قال ابن قتيبة : وهذا من العجائب ، كيف يكون فؤادها فارغا من الحزن ، والله تعالى يقول : (لَوْ لا

__________________

ـ عباس : يريد ل ا يشعرون إلى ماذا يصير أمر موسى عليه‌السلام. الفخر الرازي ٢٤ / ٢٢٩ ، البحر المحيط ٧ / ١٠٦.

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٢٩ ، البحر المحيط ٧ / ١٠٦.

(٢) في النسختين : معترضا. والصواب ما أثبته.

(٣) انظر الكشاف ٣ / ١٥٨.

(٤) البحر المحيط ٧ / ١٠٦.

(٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٢٩.

(٧) في ب : أبو موسى. وهو تحريف.

(٨) في الأصل : فراق.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٢٩.

(١٠) الكشاف ٣ / ١٥٨.

(١١) في ب : أغرقته.

(١٢) في ب : فلما.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٢٩.

(١٤) في ب : يعلمها.

(١٥) انظر مجاز القرآن ٢ / ٩٨.

٢١٩

أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها)؟ وهل يربط إلا على قلب الجازع المحزون (١)؟ ويمكن أن يجاب عنه بأنه لا يمتنع أنها لشدة ثقتها بوعد الله جاز عندها إظهار عدم الحزن ، وأيقنت أنها ـ وإن أظهرت ذلك ـ فإنه يسلم لأجل ذلك الوعد. إلا أنه كان في المعلوم أن الإظهار (يضر فربط) (٢) الله على قلبها (٣). قال المعربون : «فارغا» خبر أصبح أي : فارغا من العقل (٤) ، أو من الصبر (٥) ، أو من الحزن (٦) ، وهو أبعدها ، ويردّه قراءات تخالفه. فقرأ فضالة (٧) والحسن «فزعا» بالزاي من الفزع (٨) ، وابن عباس «قرعا» بالقاف وكسر الراء وسكونها (٩) ، من قرع رأسه إذا انحسر شعره ، (والمعنى : خلا من كلّ شيء ، وانحسر عنه كلّ شيء إلا ذكر موسى (١٠) ، وقيل : الساكن الراء مصدر قرع يقرع (١١) ، أي : أصيب ، وقرىء «فرغا» بكسر الفاء وسكون الراء ، والغين معجمة أي : هدرا (١٢) ، كقوله) (١٣) :

٣٩٧٥ ـ فإن يك قتلى قد أصيبت نفوسهم

فلن يذهبوا فرغا بقتل حبال (١٤)

فرغا حال من «بقتل» (١٥) ، وقرأ الخليل «فرغا» بضم الفاء وإعجام الغين (١٦) من هذا المعنى ، ومنه قولهم دماهم بينهم فرغ أي : هدر (١٧).

قوله : (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي) «إن» إما مخففة ، وإما نافية ، واللام إمّا فارقة وإمّا بمعنى إلّا (١٨) والباء (١٩) في «به» (مزيدة في المفعول ، أي : لتظهره ، وقيل : ليست زائدة بل سببية ، والمفعول محذوف ، أي : لتبدي القول بسبب موسى أو بسبب الوحي. فالهاء يجوز أن تكون) (٢٠) راجعة إلى موسى (٢١) ، أي : إن كادت لتبدي به أنه (٢٢) ابنها من شدة

__________________

(١) انظر تفسير غريب القرآن (٣٢٨ ـ ٣٢٩).

(٢) ما بين القوسين في الأصل : يعتبر بربط. وفي ب : يعتبرا بربط.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٢٩.

(٤) انظر الكشاف ٣ / ١٥٨.

(٥) انظر البحر المحيط ٧ / ١٠٦.

(٦) انظر : مجاز القرآن ٢ / ٩٨.

(٧) هو فضالة بن عبد الله الليثي ، وقيل : ابن بجرة بن بجيرة ، ويعرف بالزهراني. الإصابة ٣ / ٣٠٣.

(٨) انظر المختصر (١١) ، المحتسب ٢ / ١٤٧ ـ ١٤٨ ، البحر المحيط ٧ / ١٠٧.

(٩) انظر المختصر (١١١) ، المحتسب ٢ / ١٤٨ ، البحر المحيط ٧ / ١٠٧.

(١٠) انظر البحر المحيط ٧ / ١٠٧.

(١١) المرجع السابق.

(١٢) حكاها قطرب عن بعض أصحاب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ المحتسب ٢ / ١٤٨ ، تفسير ابن عطية ١١ / ٢٦٧ ـ ٢٦٨.

(١٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٤) البيت من بحر الطويل ، قاله طلحة بن خويلد الأسدي. وقد تقدّم.

(١٥) في ب : بقتلى.

(١٦) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٢٨٦ ، البحر المحيط ٧ / ١٠٧.

(١٧) انظر الكشاف ٣ / ١٥٨.

(١٨) وهو قول الكوفيين. انظر البحر المحيط ٧ / ١٠٧.

(١٩) في النسختين : والهاء. والصواب ما أثبته.

(٢٠) ما بين القوسين سقط من ب.

(٢١) انظر القرطبي ١٣ / ٢٥٦ ، البحر المحيط ٧ / ١٠٧.

(٢٢) في ب : أن. وهو تحريف.

٢٢٠