اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦١٥

أحدها : أن يكون على حذف الجر ، لأنّا دمّرناهم ، و «كان» تامّة ، و «عاقبة» فاعل بها ، و «كيف» : حال (١).

الثاني : أن يكون بدلا من «عاقبة» ، أي : كيف كان تدميرنا إيّاهم ، بمعنى كيف حدث (٢).

الثالث : أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي : هي أنّا دمّرناهم ، أي : العاقبة تدميرنا إياهم (٣) ، ويجوز مع هذه الأوجه الثلاثة أن تكون كان ناقصة ، ويجعل «كيف» خبرها (٤) ، فتصير الأوجه ستة ، ثلاثة مع تمام «كان» وثلاثة مع نقصانها ، ونزيد مع الناقصة وجها آخر ، وهو أن يجعل «عاقبة» اسمها ، و (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) خبرها ، و «كيف» : حال (٥) ، فهذه سبعة أوجه ، والثامن : أن تكون «كان» زائدة ، و «عاقبة» مبتدأ ، وخبره «كيف» ، و (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) بدل من «عاقبة» أو خبر مبتدأ مضمر (٦) ، وفيه تعسّف.

التاسع : أنها على حذف الجار أيضا ، إلا أنه الباء ، أي : بأنّا دمّرناهم ، ذكره أبو البقاء (٧).

العاشر : أنها بدل من «كيف» (٨) ، وهذا وهم من قائله ، لأن المبدل من اسم الاستفهام يلزم معه إعادة حرف (٩) الاستفهام ، نحو : كم مالكم (١٠) أعشرون أم ثلاثون (١١)؟ وقال مكي : ويجوز في الكلام نصب «عاقبة» ويجعل (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) اسم كان (١٢). انتهى.

بل كان هذا هو الأرجح كما كان النصب في قوله : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا) [العنكبوت : ٢٤] ونحوه (١٣) أرجح ، لما تقدّم شبهه بالمضمر ، لتأويله بالمصدر ، وتقدّم تحقيق هذا(١٤). وقرأ أبيّ : «أن دمرناهم» وهي : أن (١٥) المصدرية التي يجوز أن تنصب المضارع ، والكلام فيها كالكلام على (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ)(١٦) وأمّا قراءة الباقين ، فعلى

__________________

(١) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٥١ ـ ١٥٢ ، الكشاف ٣ / ١٤٧.

(٢) المرجع السابق ٢ / ١٥١ ، الكشاف ٣ / ١٤٧.

(٣) هذا تقدير الزمخشري. الكشاف ٣ / ١٤٧ ، وقدره مكي : «هو أنا ...». مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٥٢.

الكشف ٢ / ١٦٣. التبيان ٢ / ١٠١٠.

(٤) انظر البيان ٢ / ٢٢٥.

(٥) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٥٢ ، الكشاف ٣ / ١٤٧.

(٦) انظر البحر المحيط ٧ / ٨٦.

(٧) قال أبو البقاء : (هو في موضع نصب ، أي : بأنا أو لأنا) التبيان ٢ / ١٠١١.

(٨) حكاه أبو البقاء. التبيان ٢ / ١٠١١.

(٩) في ب : حروف.

(١٠) في ب : مالك.

(١١) انظر التبيان ٢ / ١٠١١.

(١٢) وعبارته : ويجوز في الكلام نصب «عاقبة» على خبر (كان) ، وتجعل «أنّا» اسم (كان) مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٥٢.

(١٣) يريد قوله تعالى : «وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ» [الأعراف : ٨٢].

(١٤) عند قوله تعالى : «وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا»[الأعراف : ٨٢].

(١٥) في ب : أنا. وهو تحريف.

(١٦) انظر البحر المحيط ٧ / ٨٦.

١٨١

الاستئناف ، وهو تفسير للعاقبة (١) ، وكان يجوز فيها التمام والنقصان والزيادة ، و «كيف» وما في حيّزها في محل نصب على إسقاط الخافض ، لأنّه معلق للنظر ، و «أجمعين» : تأكيد للمعطوف والمعطوف عليه.

فصل

قال ابن عباس : أرسل الله الملائكة تلك الليلة إلى دار صالح يحرسونه ، فأتى التسعة دار صالح شاهرين سيوفهم فرمتهم الملائكة بالحجارة من حيث يرون الحجارة ولا يرون الملائكة ، فقتلتهم (٢). وقال مقاتل : نزلوا في سفح جبل ينتظر بعضهم بعضا ، ليأتوا دار صالح ، فجثم عليهم الجبل فأهلكهم وأهلك الله قومهم بالصيحة (٣).

قوله : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً) العامة على نصب «خاوية» حالا ، والعامل فيها معنى اسم الإشارة (٤) ، وقرأ عيسى : «خاوية» بالرفع (٥) ، إمّا على خبر «تلك» ، و «بيوتهم» بدل من «تلك» ، وإمّا خبر ثان ، و «بيوتهم» خبر أول (٦) ، وإمّا على خبر مبتدأ محذوف ، أي : هي خاوية(٧) ، وهذا إضمار مستغنى عنه ، و (بِما ظَلَمُوا) متعلق ب «خاوية» ، أي بسبب ظلمهم.

و «خاوية» أي : خالية (بِما ظَلَمُوا) بظلمهم وكفرهم ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) لعبرة ، (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) قدرتنا. (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) قيل : كان الناجون منهم أربعة آلاف (٨).

قوله تعالى : (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ)(٥٨)

قوله تعالى : (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) الآية ، «ولوطا» إمّا منصوب عطفا على

__________________

(١) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٥١ ، البيان ٢ / ٢٢٤ ، التبيان ٢ / ١٠١٠.

(٢) انظر البغوي ٦ / ٢٩٢ ـ ٢٩٣.

(٣) انظر البغوي ٦ / ٢٩٣.

(٤) انظر الكشاف ٣ / ١٤٧ ، البيان ٢ / ٢٢٥ ، التبيان ٢ / ١٠١١.

(٥) قال ابن خالويه :(«فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً» بالرفع حكاه أبو معاذ) المختصر (١١٠) الكشاف ٣ / ١٤٧ ، البحر المحيط ٧ / ٨٦.

(٦) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٥٢ ، البيان ٢ / ٢٢٥.

(٧) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٥٢ ، الكشاف ٣ / ١٤٧ ، البيان ٢ / ٢٢٥. وجوز مكي وابن الأنباري وجهين آخرين ، وهما : أن تجعل «خاوية» بدلا من «البيوت» ، وأن تجعل «بيوتهم» عطف بيان على «تلك» و «خاوية» خبر «تلك». انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٥٢ ـ ١٥٣ ، البيان ٢٢٥.

(٨) انظر البغوي ٦ / ٢٩٣.

١٨٢

«صالحا» أي : وأرسلنا لوطا (١) ، وإمّا عطفا على (الَّذِينَ آمَنُوا) ، أي : وأنجينا لوطا (٢) ، وإمّا «باذكر» مضمرة (٣) ، و (إِذْ قالَ) : بدل اشتمال من «لوطا» (٤) ، وتقدّم نظيره في مريم (٥) وغيرها.

(أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) استفهام على وجه الإنكار ، والتوبيخ بمثل هذا اللفظ أبلغ ، و «الفاحشة» : الفعلة القبيحة.

قوله : (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) جملة حالية من فاعل «تأتون» أو من «الفاحشة» ، والعائد محذوف ، أي : وأنتم تبصرونها لستم عميا عنها جاهلين بها ، وهو أشنع. وقيل : المعنى يرى بعضكم بعضا ، وكانوا لا يستترون ، عتوّا منهم (٦). فإن قيل : إذا فسرت «تبصرون» بالعلم ، وبعده : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) فكيف يكون علما جهلا؟ فالجواب :

تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمكم بذلك ، أو تجهلون العاقبة ، أو أراد بالجهل : السفاهة والمجانة التي كانوا عليها (٧).

قوله : «شهوة» : مفعول من أجله (٨) ، أو في موضع الحال ، وقد تقدّم (٩).

قوله : فما كان جواب قومه : خبر مقدم ، و (إِلَّا أَنْ قالُوا) في موضع الاسم. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق برفعه اسما ، و (إِلَّا أَنْ قالُوا) خبر (١٠) وهو ضعيف ، لما تقدّم تقريره (١١). وتقدّم قراءتا «قدّرنا» تشديدا وتخفيفا (١٢) ، والمخصوص بالذم محذوف في قوله : (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) أي : مطرهم (١٣).

فصل

لما بيّن تعالى جهلهم ، بيّن أنهم أجابوا بما لا يصلح أن يكون جوابا ، فقال :

__________________

(١) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٥٣ ، الكشاف ٣ / ١٤٧ ، البيان ٢ / ٢٢٥ ، البحر المحيط ٧ / ٨٦.

(٢) انظر البحر المحيط ٧ / ٨٦.

(٣) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٥٣ ، الكشاف ٣ / ١٤٧ ، البيان ٢ / ٢٢٥ ، البحر المحيط ٧ / ٨٦.

(٤) انظر الكشاف ٣ / ١٤٧.

(٥) عند قوله تعالى : «ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا»[مريم : ٢ ، ٣].

(٦) انظر الكشاف ٣ / ١٤٧.

(٧) انظر الكشاف ٣ / ١٤٧ ، الفخر الرازي ٢٤ / ٢٠٤.

(٨) انظر البحر المحيط ٧ / ٨٦.

(٩) عند قوله تعالى : «إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ» [الأعراف : ٨١].

(١٠) المحتسب (١٤١) ، البحر المحيط ٧ / ٨٦.

(١١) وذلك أن علة الضعف فيه أن قوله : «أَنْ قالُوا» يشبه المضمر في أنه لا يوصف والمضمر أعرف من هذا المظهر.

(١٢) بالتخفيف قرأ أبو بكر عن عاصم ، والباقون بالتشديد. السبعة (٤٨٤) ، الإتحاف ٣٣٨.

(١٣) انظر البحر المحيط ٧ / ٨٧. وفي ب : أمطرهم.

١٨٣

(فَما (١) كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) ، أي : يتطهرون من هذا الصنيع الفاحش (٢). وقيل : قالوا ذلك على وجه الهزء (٣).

(فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها) قضينا عليها وجعلناها بتقديرنا (مِنَ الْغابِرِينَ) ، أي : الباقين في العذاب ، و (أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) ، وهو الحجارة (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ)(٤).

قوله تعالى : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ)(٦٠)

قوله تعالى (٥) : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) الآية ، العامة على كسر لام قل ، لالتقاء الساكنين ، وأبو السمال بفتحها (٦) تخفيفا ، وكذا في قوله : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ) [النمل : ٩٣] ، (وَسَلامٌ) : مبتدأ ، سوّغ الابتداء به كونه دعاء.

فصل

المعنى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) على هلاكهم ، وهذا خطاب لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أمر أن يحمد الله على هلاك كفار الأمم الخالية ، و (سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) بأن أرسلهم ونجّاهم (٧). وقيل : هذا كلام مبتدأ ، فإنه تعالى لما ذكر أحوال الأنبياء ـ عليهم‌السلام (٨) ـ وكان محمد ـ عليه‌السلام (٩) ـ كالمخالف لمن قبله ـ في العذاب ؛ لأن عذاب الاستئصال مرتفع عن قومه ـ أمره الله تعالى بأن يشكر ربّه على ما خصّه به من هذه النعم ، وبأن يسلم على الأنبياء الذين صبروا على مشاق الرسالة (١٠).

قوله : (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) قال مقاتل : هم الأنبياء والمرسلون ، بدليل قوله تعالى : (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ)(١١) [الصافات : ١٨١]. وقال ابن عباس ـ في رواية أبي مالك ـ هم أصحاب محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١٢) ـ وقال الكلبي : هم أمة محمد (١٣). وقيل : هم كل المؤمنين من السابقين واللاحقين (١٤).

__________________

(١) في النسختين : وما.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٠٤.

(٣) المرجع السابق ٢٤ / ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

(٤) انظر البغوي ٦ / ٢٩٤.

(٥) تعالى : سقط من ب.

(٦) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٢٢٤ ، البحر المحيط ٧ / ٨٨.

(٧) انظر البغوي ٦ / ٢٩٤.

(٨) في ب : عليهم الصلاة والسلام.

(٩) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٠٥.

(١١) انظر البغوي ٦ / ٢٩٤ ـ ٢٩٥.

(١٢) انظر البغوي ٦ / ٢٩٥.

(١٣) المرجع السابق.

(١٤) المرجع السابق.

١٨٤

قوله : «أمّا» أم هذه متصلة عاطفة ، لاستكمال شروطها (١) ، والتقدير : أيّهما خير ، و «خير» إمّا تفضيل ـ على زعم الكفار ـ وإلزام (٢) الخصم ، أو صفة لا تفضيل فيها (٣). و «ما» في «أم ما» بمعنى الذي ، وقيل : مصدرية ، وذلك على حذف مضاف من الأول ، أي : أتوحيد الله خير أم شرككم (٤)؟ وقرأ أبو عمرو وعاصم : «أما يشركون» بالغيبة حملا على ما قبله من قوله : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ) ، وما بعده من قوله : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ) ، والباقون على الخطاب (٥) ، وهو التفات للكفار ، بعد خطاب نبيه ـ عليه‌السلام (٦) ـ وهذا تبكيت للمشركين بحالهم ، لأنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى ، ولا يؤثر عاقل شيئا على شيء إلا لزيادة خير ومنفعة ، فقيل لهم هذا الكلام تنبيها لهم على نهاية ضلالهم وجهلهم (٧) ، وروي أنّ رسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان إذا قرأها قال : «بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم»(٨).

قوله : (أَمَّنْ خَلَقَ) «أم» هذه منقطعة (٩) ، لعدم تقدّم همزة الاستفهام ولا تسوية ، و «من (خَلَقَ) مبتدأ وخبره محذوف ، فقدّره الزمخشري : خير أمّا يشركون (١٠) ، فقدر ما (١١) أثبت في الاستفهام الأوّل ، وهو حسن ، وقدّره ابن عطية : يكفر بنعمته ويشرك به ، ونحو هذا من المعنى (١٢). وقال أبو الفضل الرازي : لا بدّ من إضمار جملة معادلة ، وصار ذلك المضمر كالمنطوق لدلالة الفحوى عليه ، وتقدير تلك الجملة : أم مّن خلق السّموات والأرض كمن لمن يخلق؟ وكذلك أخواتها ، وقد أظهر في غير هذه المواضع ما أضمر فيها (١٣) ، كقوله : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النحل : ١٧]. وقال أبو حيان : وتسمية هذا المقدر جملة إن أراد أنّها جملة من جهة الألفاظ فصحيح (١٤) ، وإن أراد الجملة المصطلح عليها في النحو ، فليس بصحيح ، بل هو مضمر من قبيل المفرد (١٥). وقرأ الأعمش : «أمن» بتخفيف الميم (١٦) جعلها (من) الموصولة داخلة عليها همزة الاستفهام ، وفيها وجهان :

__________________

(١) لأن «أم» المتصلة هي الواقعة بعد همزة التسوية ، أو همزة يطلب بها وب «أم» التعيين ، وسميت متصلة لأن ما قبلها وما بعدها لا تستغني بأحدهما عن الآخر ، وتسمى معادلة لمعادلتها للهمزة في إفادة التسوية في النوع الأول والاستفهام في النوع الثاني. انظر المغني ١ / ٤١ ، الهمع ٢ / ١٣٢.

(٢) في ب : والدام. وهو تحريف.

(٣) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٥٣ ، البيان ٢ / ٢٢٥.

(٤) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦ ، البحر المحيط ٧ / ٨٨.

(٥) الكشف ٢ / ١٦٣ ـ ١٦٤ ، الإتحاف (٣٣٨).

(٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٠٥.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٠٥ ، القرطبي ١٣ / ١٢١.

(٩) انظر الكشاف ٣ / ١٤٨.

(١٠) المرجع السابق.

(١١) في ب : فقدرنا.

(١٢) تفسير ابن عطية ١١ / ٢٢٧.

(١٣) انظر البحر المحيط ٧ / ٨٩.

(١٤) في ب : صحيح.

(١٥) البحر المحيط ٧ / ٨٩.

(١٦) المختصر (١١٠) ، المحتسب ٢ / ١٤٢.

١٨٥

أحدهما : أن يكون مبتدأ والخبر محذوف وتقديره ما تقدم من الأوجه ، قاله أبو حيان (١).

والثاني : أنها بدل من «الله» ، كأنه قيل : أمن (٢) خلق السموات والأرض خير أمّا يشركون ، ولم يذكر الزمخشري غيره (٣). ويكون قد فصل بين البدل والمبدل منه بالخبر وبالمعطوف على المبدل (٤) منه ، وهو نظير قولك : أزيد خير أم عمرو أأخوك (٥) ، على أن يكون أأخوك (٦) بدلا من : أزيد ، وفي جواز مثل هذا نظر (٧).

قوله : «فأنبتنا» هذا التفات من الغيبة إلى المتكلم ، لتأكيد معنى اختصاص الفعل بذاته ، والإيذان بأنّ إنبات الحدائق المختلفة الألوان والطّعوم ـ مع سقيها بماء واحد ـ لا يقدر عليه إلّا هو وحده ، ولذلك رشحه بقوله : (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها)(٨). فإن الإنسان ربما يقول : أنا الذي ألقي البذر في الأرض وأسقيها الماء وأسعى في تشميسها ، وفاعل السبب فاعل المسبب ، فإذن أنا المنبت للشجرة ، فلمّا كان هذا الاحتمال قائما ، لا جرم أزال الله تعالى هذا الاحتمال ، فرجع من لفظ الغيبة إلى لفظ المتكلم. والحدائق : جمع حديقة وهي البستان ، وقيل القطعة من الأرض ذات الماء (٩). قال الراغب : سمّيت بذلك تشبيها بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيه (١٠). وقال غيره : سمّيت بذلك لإحداق الجدران بها (١١).

وليس بشيء ، لأنها يطلق (١٢) عليها ذلك مع عدم الجدران (١٣) ووقف القراء على «ذات» من «ذات بهجة» بتاء مجهورة ، والكسائي بها ، لأنها تاء تأنيث (١٤). وقيل :

__________________

(١) قال أبو حيان : (وقرأ الأعمش بتخفيفها جعلها همزة الاستفهام أدخلت على (من) و «من» في القرائتين مبتدأ وخبر) البحر المحيط ٢ / ٨٩.

(٢) في الأصل : أما.

(٣) قال الزمخشري : (وقرأ الأعمش «أمن» بالتخفيف ، ووجهه أن يجعل بدلا من «الله» كأنه قال : أمن خلق السموات والأرض خير أم ما تشركون) الكشاف ٣ / ١٤٨.

(٤) في ب : البدل. وهو تحريف.

(٥) في ب : أم أخوك. وهو تحريف.

(٦) في ب : أخوك.

(٧) ما ذكره ابن عادل عن الفصل لا يضر ، لأنهم قد فصلوا بين المتلازمين كالمبتدأ والخبر بجملة الاعتراض ، والفصل هنا بجزء من المبدل منه وهو الخبر وما عطف عليه.

(٨) انظر الكشاف ٣ / ١٤٨.

(٩) المرجع السابق.

(١٠) المفردات في غريب القرآن (١١١).

(١١) قال الفراء : (إنّما يقال : حديقة لكل بستان عليه حائط ، فما لم يكن عليه حائط لم يقل له حديقة) معاني القرآن ٢ / ٢٩٧.

(١٢) في ب : مطلق.

(١٣) قال أبو حيان : (الحديقة : البستان كان عليه جدار أو لم يكن) البحر المحيط ٧ / ٨١.

(١٤) انظر إبراز المعاني (٢٤٧).

١٨٦

«ذات» ، لأنه بمعنى جماعة حدائق ذات بهجة كما تقول (١) : النساء ذهبت ، و «البهجة» : الحسن ، لأن حسّ الناظر يبتهج به (٢). وقرأ ابن أبي عبلة : «ذوات بهجة» بالجمع ، وفتح هاء «بهجة» (٣). قوله : (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا) ، (أَنْ تُنْبِتُوا) اسم كان و «لكم» خبر مقدم ، والجملة المنفية يجوز أن تكون صفة ل «حدائق» (٤) ، وأن تكون حالا : لتخصصها بالصفة.

قوله : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) استفهام بمعنى الإنكار ، هل معبود سواه أعانه على صنعه ، بل ليس معه إله ، وقرىء : أإلها مع الله ، أي : تدعون أو تشركون (٥) ، (بَلْ هُمْ قَوْمٌ) : يعني كفار مكة ، يعدلون : يشركون ، أي : يعدلون بالله (٦) سواه ، وقيل يعدلون عن هذا الحق الظاهر ، ونظير هذه الآية أول سورة الأنعام (٧).

قوله تعالى : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ)(٦٢)

قوله : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) ، قال الزمخشري : «أمّن» وما بعده بدل من (أَمَّنْ خَلَقَ) ، وحكمها حكمه (٨). ومعنى قرارا : لا تميد بأهلها (٩) ، فإنها لو كانت متحركة لما استقر أحد بالسكنى على الأرض. قوله : «خلالها» : يجوز أن يكون ظرفا ، ل «جعل» بمعنى خلق المتعدية لواحد ، وأن يكون في محلّ المفعول الثاني (١٠) على أنها بمعنى صيّر ، وخلالها (١١) : وسطها أنهارا. واعلم (١٢) أنّ المياه المنبعثة في الأرض أربعة :

الأوّل : مياه العيون السيالة ، قال ابن الخطيب : وهي تنبعث من أبخرة كثيرة المادة قوية الاندفاع تفجر الأرض بقوة (١٣).

الثاني : ماء العيون الراكدة ، وهي تحدث من أبخرة بلغت قوتها إلى وجه الأرض ، ولم يبلغ من قوتها وكثرة مادتها أن يطرد (تاليها سابقها) (١٤).

__________________

(١) في ب : يقال.

(٢) انظر الكشاف ٣ / ١٤٨.

(٣) انظر البحر المحيط ٧ / ٨٩.

(٤) انظر التبيان ٢ / ١٠١٢. وفي ب : الحدائق.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ١٤٨ ، البحر المحيط ٧ / ٨٩ ، وفيهما : أتدعون أو أتشركون.

(٦) في ب : الله.

(٧) وهو قوله تعالى : «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» [١]. انظر اللباب ٣ / ٣٧١.

(٨) الكشاف ٣ / ١٤٨.

(٩) انظر البغوي ٦ / ٢٩٦.

(١٠) انظر التبيان ٢ / ١٠١٢.

(١١) في ب : وإخلالها.

(١٢) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٤ / ٢٠٧.

(١٣) الفخر الرازي ٢٤ / ٢٠٧.

(١٤) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

١٨٧

الثالث : ماء القنى والأنهار ، وهي متولدة من أبخرة ناقصة القوة عن أن تشق الأرض ، فإذا أزيل عن وجهها ثقل التراب صار حينئذ لتلك الأبخرة منفذا يندفع إليه بأدنى حركة.

الرابع : مياه الآبار ، وهي منبعثة كمياه الأنهار إلّا أنه لم يحصل لها ميل إلى موضع تسيل إليه. ونسبة القنى إلى الآبار نسبة العيون السيالة إلى العيون الراكدة (١).

قوله : (وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) وهي الجبال ثوابت.

قوله : (بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ) : يجوز فيه ما جاز في «خلالها» (٢) ، والحاجز : الفاصل ، حجز بينهم يحجز أي : منع وفصل ، والمراد بالبحرين : العذب والملح. (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) قرىء «أإله» بتحقيق الهمزتين وتخفيف الثانية ، وإدخال ألف بينهما تخفيفا وتسهيلا (٣) ، وهذا كله معروف من أوّل هذا الكتاب ، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) توحيد ربهم.

قوله : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) المضطر : اسم مفعول مأخوذ من اضطر ، ولا يستعمل إلا مبنيا للمفعول ، وإنّما كرر الجعل هنا ، ولم يشرك (٤) بين المعمولات (٥) في عامل واحد ، لأن كل واحدة من هذه منّة مستقلة ، فأبرزها في جملة مستقلة بنفسها ، قال الزمخشري الضرورة الحال المحوجة إلى الالتجاء ، والاضطرار : افتعال منها ، فيقال : اضطرّ إلى كذا والفاعل والمفعول مضطر (٦). فإن قيل: هذا يعم المضطرين ، وكم من مضطر يدعو فلا يجاب ، فالجواب :

أنه ثبت في أصول الفقه أن المفرد المعرّف لا يفيد العموم ، وإنما يفيد الماهية فقط ، والحكم المثبت للماهية يكفي في صدقه ثبوته في فرد واحد من أفراد الماهية فقط ، فإنه تعالى وعد بالاستجابة ، ولم يذكر أنه يستجيب في الحال (٧).

قوله : (وَيَكْشِفُ السُّوءَ) كالتفسير للاستجابة ، فإنّه لا يقدر أحد على كشف ما دفع إليه من فقر إلى غنى ومرض إلى صحة ، إلّا القادر الذي لا يعجز ، والقاهر الذي لا ينازع (٨) ، (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) أي : يورثكم سكناها (٩) والتصرف فيها قرنا بعد قرن ، وأراد بالخلافة الملك والتسليط(١٠). قوله : (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) قرأ أبو عمرو

__________________

(١) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٤ / ٢٠٧.

(٢) انظر التبيان ٢ / ١٠١٢.

(٣) قال ابن خالويه :(«أإله» بهمزتين بينهما مدة عبد الرحمن الأعرج) المختصر (١١١) وانظر أيضا البحر المحيط ٧ / ٨٩ ، ولم يعز أبو حيان هذين الوجهين إلى من قرأ بهما.

(٤) لم يشرك : سقط من ب.

(٥) في ب : المعمولان.

(٦) الكشاف ٣ / ١٤٩.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٠٨ ـ ٢٠٩.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٠٩.

(٩) في ب : من سكانها.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٠٩.

١٨٨

وهشام : «يذكرون» بالغيبة والباقون بالخطاب (١) ، وهما واضحتان ، وأبو حيوة : «تتذكرون» بتاءين(٢).

قوله تعالى : (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٦٤)

قوله : (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) يهديكم بالنجوم في السماء والعلامات (٣) في البحر (٤) إذا سافرتم بالليل في البر والبحر (٥). و (مَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) ، وهي المطر ، وتقدّم الكلام في «بشرا» في الأعراف (٦) ، (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

قوله : (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) لما عدد نعم الدنيا أتبع ذلك بنعم الآخرة ، وهي لا تتم إلا بالإعادة بعد الابتداء والإبلاغ إلى حد التكليف ، فقد تضمن الكلام كل نعم الدنيا والآخرة ، وهي لا تتمّ إلا بالإرزاق ، فلذلك قال : (وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ)(٧)(مِنَ السَّماءِ) : المطر ، ومن الأرض : النبات ، (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) حجتكم على قولكم : إن مع الله إلها آخر ، (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ولا برهان لكم ، فإذا أنتم مبطلون.

فإن قيل : كيف قيل لهم : أم من يبدؤ الخلق ثم يعيده ، وهم ينكرون الإعادة؟ فالجواب : كانوا معترفين بالابتداء ، ودلالة الابتداء على الإعادة دلالة ظاهرة قوية ، فلما كان الكلام مقرونا بالدلالة الظاهرة ، صاروا كأنهم لم يبق لهم عذر في الإنكار (٨).

قوله تعالى : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ)(٦٦)

قوله (تعالى : (قُلْ (٩) لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) لما بين أنه مختص بالقدرة ، بين أنه المختص بعلم الغيب ، وإذا ثبت ذلك ، ثبت أنه الإله المعبود (١٠).

__________________

(١) السبعة (٤٨٤) ، الكشف ٢ / ١٦٤ ، النشر ٣٣٨ ـ ٣٣٩ ، الإتحاف ٣٣٨.

(٢) المختصر (١١٠) ، البحر المحيط ٧ / ٩٠.

(٣) في النسختين : والولايات. والتصويب من الفخر الرازي.

(٤) في ب : الأرض.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٠٩.

(٦) عند قوله تعالى : «وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ» [الأعراف : ٥٧].

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢١٠.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢١١.

(٩) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢١١.

١٨٩

وفي هذا الاستثناء أوجه :

أحدها : أنه فاعل «يعلم» ، و «من» مفعوله ، و «الغيب» بدل من (مَنْ فِي السَّماواتِ) أي : لا يعلم غيب من في السموات والأرض إلا الله ، أي : الأشياء الغائبة التي تحدث في العالم ، وهو وجه غريب ذكره أبو حيان (١).

الثاني : أنه مستثنى متصل من «من» ، ولكن لا بد من الجمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة على هذا الوجه ، و (٢) بيانه أن الظرفية المستفادة من «من في» حقيقة بالنسبة إلى غير الله تعالى ، ومجاز بالنسبة إلى الله تعالى بمعنى (٣) : أن علمه في السموات والأرض فيندرج (في) (٤)(مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بهذا الاعتبار ، وهو مجاز ، وغيره من مخلوقاته في السموات والأرض حقيقة ، فبذلك الاندراج المؤول استثني من «من» ، وكان الرفع على البدل أولى ، (لأن الكلام غير موجب (٥) ، قال مكي : الرفع في اسم الله ـ عزوجل ـ على البدل) (٦) من من (٧).

ورد الزمخشري هذا بأنه جمع بين الحقيقة والمجاز وأوجب أن يكون منقطعا ، فقال : فإن (٨) قلت : لم رفع اسم الله ، والله يتعالى أن يكون ممن في السموات والأرض؟ قلت : جاء على لغة بني تميم ، حيث يقولون : ما في الدار أحد (٩) إلا حمار ، يريدون : ما فيها إلا حمار ، كأنّ أحدا لم يذكر ، ومنه قوله :

٣٩٦٩ ـ عشيّة ما تغني الرّماح مكانها

ولا النّبل (١٠) إلّا المشرفيّ المصمّم (١١)

وقولهم : ما أتاني زيد «إلا عمرو» ، وما أعانني (١٢) إخوانكم إلا إخوانه ، فإن قلت : ما الداعي إلى اختيار المذهب التميمي على الحجازي؟ قلت : دعيت إليه نكتة سرية ، حيث أخرج المستثنى مخرج قوله : إلّا اليعافير ، بعد قوله : ليس بها أنيس (١٣) : ليؤول

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٧ / ٩١.

(٢) و : سقط من ب.

(٣) في ب : معنى.

(٤) في : تكلمة ليست في المخطوط.

(٥) انظر البيان ٢ / ٢٢٦.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٥٣ ، وانظر التبيان ٢ / ١٠١٢.

(٨) في ب : وإن.

(٩) في ب : واحد.

(١٠) في ب : السبيل.

(١١) البيت من بحر الطويل ، قاله الحصين بن الحمام ، ويروى لضرار بن الأزور. وقد تقدم.

(١٢) في الكشاف : وما أعانه.

(١٣) جزءان من بيتين من الرجز وتمامهما :

وبلدة ليس بها أنيس

إلا اليعافير وإلا العيس

قالهما جران العود ، وهما في الكتاب ١ / ٢٦٣ ، ٢ / ٣٢٢ ، معاني القرآن للفراء ١ / ٤٧٩ ، ٢ / ١٥ ، المقتضب ٢ / ٣١٨ ، ٣٤٦ ، ٤ / ٤١٤ ، الإنصاف ١ / ٢٧١ ، ٣٧٧ ، ابن يعيش ٢ / ٨٠ ، ١١٧ ، ٧ / ٢١ ، ٨ / ٥٢ ، شذور الذهب (٢٦٥) ، المقاصد النحوية ٣ / ١٠٧ ، التصريح ١ / ٣٥٣ ، الهمع ١ / ٢٢٥ ، ٢ / ـ

١٩٠

المعنى إلى قولك : إن كان الله ممن في السموات والأرض ، فهم يعلمون الغيب يعني أن علمهم الغيب ـ في استحالته ـ كاستحالة أن يكون الله منهم ، كما أن معن ى «ما في البيت» إن كانت اليعافير أنيسا ففيها أنيس بتّا للقول بخلوها من الأنيس. فإن قلت : هلا زعمت أن الله ممن في السموات والأرض ، كما يقول المتكلمون : «إن الله في كل مكان» على معنى : أن علمه في الأماكن كلها ، فكأن ذاته فيها حتى لا يحمل على مذهب بني تميم؟ قلت : يأبي ذلك أن كونه في السموات والأرض مجاز ، وكونهم فيهن حقيقة ، وإرادة المتكلم بعبارة واحدة حقيقة ومجازا غير صحيح ، على أن قولك : من في السموات والأرض ، وجمعك بينه وبينهم في إطلاق اسم واحد فيه إيهام وتسوية ، والإيهامات مزالة عنه وعن صفاته ، ألا ترى كيف قال عليه‌السلام (١) لمن قال : ومن يعصهما فقد غوى : «بئس خطيب القوم أنت (٢)» (٣).

فقد رجح الانقطاع ، واعتذر عن ارتكاب مذهب التميميين بما ذكر ، وأكثر العلماء أنه لا يجمع بين الحقيقة والمجاز (٤) في كلمة واحدة ، وقد قال به الشافعي.

فصل

نزلت هذه الآية في المشركين ، حيث سألوا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن وقت قيام الساعة (٥). و (ما يَشْعُرُونَ) صفة لأهل السموات والأرض نفى أن يكون لهم علم بالغيب ، وذكر في جملة الغيب: متى (٦) البعث ؛ بقوله : (أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) ، و «أيّان» بمعنى متى (٧) ، وهي كلمة مركبة من : أي والآن ، وهو (٨) الوقت. وقرىء : «إيّان» بكسر

__________________

ـ ١٤٤ ، الأشموني ٢ / ١٤٧ ، الخزانة ١٠ / ١٥ ، الدرر ١ / ١٩٢ ، ٢ / ٢٠٢ ، الواو في (وبلدة) واو (رب) ، و (بلدة) مجرورة ب (رب) المحذوفة. والبلدة : القطعة من الأرض ، ومطلق الأرض. الأنيس : من يؤنس به من الناس اليعافير : جمع يعفور ، وهو ولد الظبية ، وولد البقرة الوحشية أيضا. وقال بعضهم : اليعفور : تيس الظباء.

والعيس : إبل بيض يخالط بياضها شقرة ، جمع أعيس ، والأنثى عيساء. والشاهد فيه قوله : (إلا اليعافير وإلا العيس) بالرفع بدل من (أنيس) وإن لم يكن من جنسه على لغة بني تميم ، وأهل الحجاز يوجبون في هذا النصب.

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٢) أخرجه مسلم (جمعة) ٢ / ٥٩٤ ، أبو داود (صلاة) ١ / ٦٦٠ ، النسائي (نكاح) ٦ / ٩٠ ، أحمد ٤ / ٢٥٦ ، ٣٧٩.

(٣) الكشاف ٣ / ١٤٩ ـ ١٥٠.

(٤) الحقيقة لغة : ذات الشيء اللازمة له ، وفي الاصطلاح : اللفظ المستعمل فيما وضع له في الاصطلاح الذي به التخاطب ، ولها أقسام بحسب الوضع. والمجاز لغة : اللفظ المستعمل في غير ما وضع له في الاصطلاح الذي به التخاطب لعلاقة ما ، وله أقسام. انظر الإيضاح ٢٧٢ ـ ٢٧٤.

(٥) انظر البغوي ٦ / ٣٠٠.

(٦) في ب : من. وهو تحريف.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢١١.

(٨) في ب : وهي.

١٩١

الهمزة ، قرأ بها السلمي (١) ، وهي لغة قومه بني سليم (٢) ، وهي منصوبة ب «يبعثون» ومعلقة ل «يشعرون» فهي مع ما بعدها في محل نصب (٣) بإسقاط الباء ، أي ما يشعرون بكذا.

قوله : «ادّارك» (٤) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : «أدرك» كأكرم (٥) ، والباقون من السبعة «أدّارك» بهمزة وصل وتشديد الدال المفتوحة بعدها ألف (٦) ـ والأصل (تدارك) وبه قرأ أبي (٧) ، فأريد إدغام التاء في الدال ، فأبدلت دالا وسكنت ، فتعذر (٨) الابتداء بها ، لسكونها ، فاجتلبت (٩) همزة الوصل ، فصار : «ادّارك» كما ترى ـ وتقدم تحقيق هذا في قوله : (فَادَّارَأْتُمْ فِيها)(١٠) [البقرة : ٧٢]. وقراءة ابن كثير ، قيل : يحتمل (١١) أن يكون «أفعل» فيها بمعنى «تفاعل» (١٢) ، فتتحد القراءتان ، وقيل : أدرك (١٣) ، بمعنى بلغ وانتهى (١٤).

وقرأ سليمان وعطاء ابنا (١٥) يسار : «بل ادارك» (١٦) بفتح لام «بل» وتشديد الدال دون ألف بعدها (١٧) وتخريجها : أن الأصل : (ادترك) على وزن افتعل ، فأبدلت تاء الافتعال دالا ، لوقوعها بعد الدال (١٨) ، قال أبو حيان : فصار فيه قلب الثاني للأول ، كقولهم : اثّرد ، وأصله (١٩) : اثترد (٢٠) من الثرد (٢١) ، انتهى.

قال شهاب الدين : ليس هذا مما قلب فيه الثاني للأول لأجل الإدغام ، كاثّرد (٢٢)

__________________

(١) المحتسب ٢ / ١٤٢.

(٢) انظر البحر المحيط ٧ / ٩٢.

(٣) انظر البحر المحيط ٧ / ٩١ ـ ٩٢.

(٤) في ب : ادرك.

(٥) في ب : كالرمك. وهو تحريف.

(٦) السبعة (٤٨٥) ، الكشف ٢ / ١٦٤ ، النشر ٢ / ٣٣٩ ، الإتحاف (٣٣٩).

(٧) المختصر (١١٠) ، المحتسب ٢ / ١٤٢.

(٨) في ب : وتعذر.

(٩) في ب : فانقلبت. وهو تحريف.

(١٠) وذكر هناك : أن أصل «ادارأتم» تفاعلتم من الدرء وهو الدفع فاجتمعت التاء مع الدال ، وهما متقاربان في المخرج فأريد الإدغام فقلبت التاء دالا وسكنت لأجل الإدغام ، ولا يمكن الابتداء بساكن فاجتلبت همزة الوصل ليبتدأ بها فبقي ادّارأتم فأدغم. انظر اللباب ١ / ١٨٠.

(١١) في ب : يحمل.

(١٢) انظر البحر المحيط ٧ / ٩٢.

(١٣) في ب : ادراك. وهو تحريف.

(١٤) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٥٤.

(١٥) في ب : ابن وهو تحريف. وهما سليمان بن يسار أبو أيوب الهلالي المدني مولى ميمونة أم المؤمنين ، وهو أخو عطاء ، وعبد الملك ، وعبد الله ، تابعي جليل ، وردت عنه الرواية في حروف القرآن. مات سنة ١٠٧ ه‍. وقيل غير ذلك. طبقات القراء ١ / ٣١٨ ، وعطاء بن يسار أبو محمد الهلالي المدني ، مولى ميمونة أم المؤمنين وردت عنه الرواية في حروف القرآن. مات سنة ١٠٣ ه‍. طبقات القراء ١ / ٥١٣.

(١٦) في ب : بل ادراك. وهو تحريف.

(١٧) المحتسب ٢ / ١٤٢ ، البحر المحيط ٧ / ٩٢.

(١٨) انظر الممتع ١ / ٣٥٧.

(١٩) في ب : والأصل.

(٢٠) في ب : اتترد.

(٢١) البحر المحيط ٦ / ٩٢.

(٢٢) في ب : كما ترد. وهو تحريف.

١٩٢

في اثترد ، لأن تاء الافتعال تبدل دالا بعد أحرف منها الدال ، نحو : ادّان في افتعل من الدين ، فالإبدال لأجل كون الدال فاء لا للإدغام ، فليس مثل اثّرد (١) في شيء ، فتأمله فإنه حسن ، فلما أدغمت الدال في الدال أدخلت همزة الاستفهام ، فسقطت همزة الوصل ، فصار اللفظ ، أدرك بهمزة قطع مفتوحة ، ثم نقلت حركة هذه الهمزة إلى لام «بل» فصار اللفظ : «بل درك» (٢). وقرأ أبو رجاء وشيبة والأعمش والأعرج وابن عباس وتروى عن عاصم كذلك إلا أنه بكسر لام «بل» على أصل التقاء الساكنين ، فإنهم لم يأتوا بهمزة استفهام (٣).

وقرأ عبد الله (٤) بن عباس والحسن وابن محيصن «آدّرك» بهمزة ثم ألف بعدها (٥) ، وأصلها همزتان أبدلت ثانيهما ألفا تخفيفا ، وأنكرها أبو عمرو (٦). وقد تقدم أول البقرة أنه قرىء «أأنذرتهم» (٧) بألف (٨) صريحة ـ فلهذه بها أسوة (٩).

وقال أبو حاتم : لا يجوز الاستفهام بعد «بل» ، (لأن «بل») (١٠) إيجاب ، والاستفهام في هذا الموضع (١١) إنكار بمعنى : «لم يكن» كقوله تعالى : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) [الزخرف : ١٩] أي : لم يشهدوا ، فلا يصح وقوعهما معا للتنافي الذي بين الإيجاب والإنكار (١٢). قال شهاب الدين : وفي منع هذا نظر ، لأنّ «بل» لإضراب الانتقال ، فقد أضرب عن الكلام الأول ، وأخذ في استفهام ثان ، وكيف ينكر (١٣) هذا والنحويون يقدرون «أم» المنقطعة ببل والهمزة ، وعجبت من الشيخ ـ يعني أبا حيان ـ كيف قال هنا : وقد أجاز بعض المتأخرين الاستفهام بعد «بل» ، وشبهه بقول القائل : أخبزا أكلت بل أماء شربت؟ على ترك الكلام الأول ، والأخذ في الثاني (١٤) انتهى. فتخصيصه ببعض المتأخرين يؤذن بأن المتقدّمين وبعض المتأخرين يمنعونه ، وليس كذلك لما حكيت عنهم في «أم» المنقطعة(١٥). وقرأ ابن مسعود : «أأدرك» (١٦) بتحقيق الهمزتين (١٧) ، وقرأ ورش في رواية : «بل ادرك» بالنقل (١٨) ، وقرأ ابن عباس أيضا : «بلى أدرك» بحرف الإيجاب أخت

__________________

(١) في ب : مثل أن تتردد. وهو تحريف.

(٢) الدر المصون ٥ / ٢٠٥.

(٣) المختصر (١١٠) المحتسب ٢ / ١٤٢ ، البحر المحيط ٧ / ٩٢.

(٤) عبد الله : سقط من ب.

(٥) المختصر (١١٠) المحتسب ٢ / ١٤٢ ، البحر المحيط ٧ / ٩٢.

(٦) انظر البحر المحيط ٧ / ٩٢.

(٧) من قوله تعالى : «سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ» [البقرة : ٦]. انظر اللباب ١ / ٥٣ ـ ٥٤.

(٨) في ب : بالألف.

(٩) في ب : فلهذه استوت. وهو تحريف.

(١٠) ما بين القوسين سقط من ب.

(١١) في ب : في هذه المواضع.

(١٢) انظر البحر المحيط ٧ / ٩٢.

(١٣) في ب : أنكر.

(١٤) البحر المحيط ٧ / ٩٢.

(١٥) الدر المصون ٥ / ٣٠٥.

(١٦) في ب : بل أدرك.

(١٧) المختصر (١١٠) ، البحر المحيط ٧ / ٩٢.

(١٨) المختصر (١١٠) ، البحر المحيط ٧ / ٩٢.

١٩٣

نعم (١) ، و «بلى آأدرك» بألف بين همزتين (٢) ، وقرأ أبي ومجاهد «أن» بدل («بل» (٣)) (٤) وهي مخالفة للسواد.

قوله : (فِي الْآخِرَةِ) فيه وجهان :

أحدهما : أن «في» على بابها و «أدرك» وإن كان ماضيا لفظا فهو (٥) مستقبل معنى ، لأنه كائن قطعا ، كقوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] ، وعلى هذا ف «في» متعلق ب «أدرك»(٦).

والثاني : أنّ «في» بمعنى الباء ، أي : بالآخرة ، وعلى هذا فيتعلق بنفس علمهم ، كقولك : على يزيد كذا (٧). وأمّا قراءة من قرأ «بلى» ، فقال الزمخشري : لمّا جاء ببلى بعد قوله : (وَما يَشْعُرُونَ) كان معناه : بلى يشعرون ، ثم فسر الشعور بقوله : (ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) على سبيل التهكم الذي معناه المبالغة في نفي العلم (٨) ، ثم قال : وأمّا قراءة : «بلى أأدرك» (٩) على الاستفهام فمعناه : بلى (١٠) يشعرون متى يبعثون ، ثم أنكر علمهم (١١) بكونها ، وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصّل لهم شعور بوقت كونها ، لأن العلم بوقت الكائن (١٢) تابع للعلم بكون الكائن (١٣) ، ثم قال : فإن قلت ما معنى هذه الإضرابات الثلاثة؟ قلت : ما هي إلا تنزيل لأحوالهم (١٤) ، وصفهم أولا بأنهم لا يشعرون وقت البعث ، ثم بأنّهم لا يعلمون أن القيامة كائنة ، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية (١٥) انتهى.

فإن قيل : (عمي) يتعدى ب (عن) تقول : عمي فلان عن كذا ، فلم عدي ب (من) (١٦) وقوله (مِنْها عَمُونَ)؟ فالجواب : أنّه جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه (١٧).

فصل

المعنى على قراءة ابن كثير : «أدرك» أي بلغ ولحق ، كما تقول : أدركه علمي ، إذا لحقه وبلغه يريد : ما جهلوا في الدنيا وسقط علمه عنهم علموه في الآخرة (١٨). قال (١٩) مجاهد : يدرك علمهم في الآخرة ويعلمونها إذا عاينوها ، حين لا ينفعهم علمهم (٢٠).

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٧ / ٩٢.

(٢) المحتسب ٢ / ١٤٢.

(٣) المختصر (١١٠) البحر المحيط ٧ / ٩٢.

(٤) ما بين القوسين سقط من ب.

(٥) فهو : سقط من ب.

(٦) انظر البحر المحيط ٧ / ٩٢.

(٧) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٢٣٥ ، مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٥٤.

(٨) الكشاف ٣ / ١٥٠.

(٩) في ب : بل أدرك.

(١٠) في ب : بل.

(١١) في ب : عليهم.

(١٢) في ب : مؤقت كائن.

(١٣) الكشاف ٣ / ١٥٠.

(١٤) في ب : إلا لأحوالهم.

(١٥) الكشاف ٣ / ١٥٠.

(١٦) في ب : من.

(١٧) انظر الكشاف ٣ / ١٥٠.

(١٨) انظر البغوي ٦ / ٣٠١.

(١٩) في ب : وقال.

(٢٠) انظر البغوي ٦ / ٣٠١.

١٩٤

وقال مقاتل : بل (١) علموا في الآخرة حين عاينوها ما شكّوا وعموا عنه في الدنيا ، كقوله : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) ، أي هم اليوم في شك من الساعة (٢). وعلى قراءة «ادّارك» : تتابع (٣) علمهم في الآخرة أنها كائنة «و (هُمْ فِي شَكٍّ) في وقتهم (٤). وقيل استفهام معناه : هل تدارك وتتابع بذلك في الآخرة يعني لم يتتابع ، وضلّ وغاب علمهم به ، فلم يبلغوه ولم يدركوه ، لأنّ في الاستفهام ضربا من الجحد (٥). وقال علي بن عيسى : بل ههنا لو أدركوا في الدنيا ما أدركوا في الآخرة لم يشكّوا بل هم منها عمون جمع عم ، وهو الأعمى القلب (٦).

قوله تعالى :(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(٧٥)

قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني مشركي مكة ، «أئذا» تقدم الكلام في الاستفهامين إذا اجتمعا في سورة الرعد (٧). والعامل في «إذا» محذوف يدلّ عليه «لمخرجون» تقديره : نبعث ونخرج ، ولا يجوز أن يعمل فيها «مخرجون» لثلاثة موانع : الاستفهام ، وأنّ ، ولام الابتداء ، وفي لام الابتداء في خبر إنّ خلاف (٨) ، وذكر الزمخشري هنا عبارة حلوة ، فقال : لأنّ بين يدي عمل اسم الفاعل فيه عقابا ، وهي همزة الاستفهام ، وإن ، ولام الابتداء ، وواحدة منها كافية ، فكيف إذا اجتمعن (٩)؟ وقال أيضا: فإن قلت : لم قدّم في هذه الآية «هذا» على (نَحْنُ وَآباؤُنا) وفي آية أخرى قدّم (نَحْنُ وَآباؤُنا)(١٠) على «هذا»؟ قلت : التقديم دليل على أن المقدّم هو المعنى المعتمد بالذكر وأن الكلام إنّما سيق لأجله ، ففي إحدى الآيتين دلّ على اتخاذ البعث الذي هو يعمد بالكلام ، وفي الأخرى

__________________

(١) بل : سقط من ب.

(٢) انظر البغوي ٦ / ٣٠١.

(٣) في ب : يبالغ.

(٤) انظر البغوي ٦ / ٣٠١.

(٥) انظر البغوي ٦ / ٣٠١ ـ ٣٠٢.

(٦) المرجع السابق ٦ / ٣٠٢.

(٧) يشير إلى قوله تعالى : «وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً» [٥].

(٨) انظر الهمع ١ / ١٤٠.

(٩) الكشاف ٣ / ١٥١. وقول الزمخشري : عمل اسم الفاعل. فيه نظر ، لأن الذي في الآية اسم مفعول هو «لمخرجون».

(١٠) يشير إلى قوله تعالى «لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» [المؤمنون : ٨٣].

١٩٥

على اتخاذ (١) المبعوث بذلك الصدد (٢). و «آباؤنا» عطف على اسم كان (٣) ، وقام الفصل بالخبر مقام الفصل بالتوكيد (٤).

فصل

(إِنَّا لَمُخْرَجُونَ) من قبورنا أحياء ، (لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ) أي : من قبل محمد ، وليس ذلك بشيء ، (إِنْ هذا) ما هذا ، (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها ، (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ). فإن قيل : لم لم يقل (كيف كانت) (٥) عاقبة (٦) المجرمين؟ فالجواب أنّ (٧) تأنيثها غير حقيقي ، ولأنّ المعنى : كيف كان آخر أمرهم؟ (٨). فإن قيل : لم لم يقل عاقبة الكافرين؟ فالجواب : أنّ هذا (٩) يحصل في التخويف لكل العصاة (١٠). ثم إنّه تعالى صبّر رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على ما يناله من الكفار ، فقال : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) على تكذيبهم إيّاك ، (وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) نزلت في المستهزئين الذين اقتسموا أعقاب مكة (١١) ، و «الضّيق» : الحرج ، يقال : ضاق الشيء ضيقا وضيقا بالفتح والكسر (١٢). (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ذكروا ذلك على سبيل السخرية فأجاب (١٣) الله تعالى بقوله : (عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ)(١٤).

قوله : (رَدِفَ لَكُمْ) فيه أوجه :

أظهرها : أنّ «ردف» ضمّن معنى فعل يتعدى باللام ، أي : دنا وقرب وأزف (١٥) ، و (١٦) بهذا فسّره ابن عباس (١٧) ، و (بَعْضُ الَّذِي) فاعل به (١٨) ، وقد عدّي ب (من) أيضا على تضمنه معنى «دنا» (١٩) ، قال :

٣٩٧٠ ـ فلمّا ردفنا من عمير وصحبه

تولّوا سراعا والمنيّة تعنق (٢٠)

__________________

(١) في الأصل : إيجاب.

(٢) الكشاف ٣ / ١٥١.

(٣) وهو الضمير في «كنا».

(٤) انظر التبيان ٢ / ٢٠١٣.

(٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(٦) في الأصل : عاقب.

(٧) أن : سقط من ب.

(٨) انظر الكشاف ٣ / ١٥١ ، الفخر الرازي ٢٤ / ٢١٤.

(٩) في ب : بهذا.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢١٤.

(١١) انظر البغوي ٦ / ٣٠٣ ، القرطبي ١٣ / ٢٢٩.

(١٢) انظر اللسان (ضيق).

(١٣) في ب : وأجاب.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢١٤.

(١٥) في ب : وادف. وهو تحريف.

(١٦) و : سقط من ب.

(١٧) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٢٣٧ ، البحر المحيط ٧ / ٩٥.

(١٨) انظر التبيان ٢ / ١٠١٣.

(١٩) انظر الكشاف ٣ / ١٥١.

(٢٠) البيت من بحر الطويل ، لم أهتد إلى قائله ، وهو في الكشاف ٣ / ١٥١ ، البحر المحيط ٧ / ٩٥ ، شرح شواهد الكشاف (٨٥). والشاهد فيه تعدّي الفعل (ردف) ب (من) لتضمنه معنى دنا ، أي : دنونا من عمير.

١٩٦

أي : دنونا من عمير (١).

والثاني : أنّ مفعوله محذوف واللام للعلّة ، أي : ردف الخلق لأجلكم ولشؤمكم (٢).

الثالث : أنّ اللام مزيدة في المفعول تأكيدا (٣) كزيادتها في قوله :

٣٩٧١ ـ أنخنا للكلاكل فارتمينا (٤)

وكزيادتها في قوله : (لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) [الأعراف : ١٥٤] وكزيادة الباء في قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) [البقرة : ١٩٥] وعلى هذه الأوجه الوقف على «تستعجلون».

الرابع : أن فاعل «ردف» ضمير الوعد ، أي : ردف الوعد ، أي : قرب ودنا مقتضاه و «لكم» خبر مقدّم ، و «بعض» مبتدأ مؤخر ، والوقف على هذا على «ردف» وهذا فيه تفكيك للكلام (٥).

والخامس : أنّ الفعل محمول على مصدره ، أي : الردافة لكم ، وبعض على تقرير ردافة بعض ، يعني : حتى يتطابق الخبر والمخبر عنه ، وهذا أضعف مما قبله (٦).

وقرأ الأعرج : «ردف» بفتح الدال (٧) ، وهي لغة ، والكسر أشهر (٨). (بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) من العذاب حل بهم ذلك يوم بدر.

قوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) قال مقاتل : على أهل مكة ، حيث لم يعجل (٩) عليهم العذاب (١٠). والفضل : الإفضال ومعناه أنه متفضل ، وهذه الآية تبطل قول من قال : إنه لا نعمة لله على الكفار (١١).

قوله : (لا يَشْكُرُونَ) يجوز أن يكون مفعوله محذوفا ، أي : لا يشكرون نعمه (١٢) ، ويجوز أن لا يقدر بمعنى : لا يعترفون بنعمة ، فعبّر عن انتفاء معرفتهم بالنعمة بانتفاء ما يترتب على معرفتها ، وهو الشكر (١٣).

__________________

(١) انظر الكشاف ٣ / ١٥١.

(٢) حكاه أبو حيان فإنه قال : (وقيل : اللام في «لكم» داخلة على المفعول من أجله والمفعول به محذوف تقديره : ردف الخلق لأجلكم ، وهذا ضعيف) البحر المحيط ٧ / ٩٥.

(٣) انظر معاني القرآن للأخفش ٢ / ٦٥١ ، معاني القرآن للفراء ٢ / ٣٠٠ ، البيان ٢ / ٢٢٧.

(٤) عجز بيت من بحر الوافر ، لم أهتد إلى قائله ، وصدره :

فلمّا أن توقفنا قليلا

وقد تقدم.

(٥) انظر البحر المحيط ٧ / ٩٥.

(٦) المرجع السابق.

(٧) المحتسب ٢ / ١٤٣ ، ولم يعزها ابن خالويه إلى قارىء. المختصر (١١٠).

(٨) انظر الكشاف ٣ / ١٥١.

(٩) في ب : يجعل. وهو تحريف.

(١٠) انظر البغوي ٦ / ٣٠٣.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢١٥.

(١٢) انظر البحر المحيط ٧ / ٩٥.

(١٣) المرجع السابق.

١٩٧

قوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ) العامة على ضم تاء المضارعة من : أكنّ ، قال تعالى : (أَوْ أَكْنَنْتُمْ)(١) ، وابن محيصن وابن السميفع وحميد بفتحها وضم الكاف (٢) ، يقال : كننته وأكننته ، بمعنى : أخفيت وسترت (٣).

قوله : (وَما مِنْ غائِبَةٍ) في هذه التاء قولان :

أحدهما : أنّها للمبالغة ، كراوية وعلّامة ، وقولهم : ويل للشاعر من رواية السوء ، كأنه تعالى قال : وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء إلا وقد علمه الله (٤).

والثاني : أنها كالتاء الداخلة على المصادر نحو : العافية والعاقية ، قال الزمخشري : ونظيرها الذبيحة والنطيحة والرّمية في أنها أسماء غير صفات (٥). (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي : في اللوح المحفوظ والمبين : الظاهر المبين لمن ينظر فيه من الملائكة.

قوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ)(٨١)

قوله (٦) : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ) الآية ، لما تمّم الكلام في إثبات المبدأ والمعاد ، ذكر بعده ما يتعلق بالنبوة ، ولمّا كانت العمدة (٧) الكبرى في إثبات نبوة (٨) محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هي القرآن لا جرم بيّن الله تعالى أولا كونه معجزة من وجوه :

أحدها : أنّ الأقاصيص المذكورة في القرآن موافقة للمذكور في التوراة والإنجيل ، مع العلم بأنه ـ عليه‌السلام (٩) ـ كان أمّيّا ـ ولم يخالط العلماء ، ولم يشتغل بالاستفادة والتعلّم ، فإذن لا يكون ذلك إلّا من قبل الله تعالى ، وأراد ما اختلفوا فيه وتباينوا ، وقيل ما حرّفه (١٠) بعضهم ، وقيل : إخبار الأنبياء.

وثانيها : قوله (وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) ، وذلك لأنّا تأملنا في القرآن فوجدنا فيه من الدلائل العقلية على التوحيد والحشر والنشر والنبوّة وشرح صفات الله ما لم نجده

__________________

(١) من قوله تعالى : «أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ»[البقرة : ٢٣٥].

(٢) المختصر (١١٠) ، المحتسب ٢ / ١٤٤ ، الكشاف ٣ / ١٥١ ، البحر المحيط ٧ / ٩٥.

(٣) انظر الكشاف ٣ / ١٥١ ، البحر المحيط ٧ / ٩٥.

(٤) المرجعان السابقان.

(٥) الكشاف ٣ / ١٥٢.

(٦) في ب : قوله تعالى.

(٧) في ب : العهدة. وهو تحريف.

(٨) نبوة : سقط من ب.

(٩) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٠) في النسختين : ما حرم على. والتصويب من الفخر الرازي.

١٩٨

في كتاب من الكتب ، ووجدناه مبرءا من النقص والتهافت ، فكان هدى ورحمة من هذه الوجوه ، ووجدنا القوى البشرية قاصرة عن جمع كتاب على هذا الوجه ، فعلمنا أنه ليس إلا من عند الله تعالى ، فكان القرآن معجزا من هذه الجهة (١).

وثالثها : (إِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) لبلوغه في الفصاحة إلى حيث عجزوا عن معارضته وذلك معجزة (٢).

قوله : «بحكمه» العامة على ضم الحاء وسكون الكاف ، وجناح بن حبيش بكسرها وفتح الكاف (٣) ، جمع حكمة ، أي : نقضي بين المختلفين (٤) يوم القيامة بحكمة الحق (وَهُوَ الْعَزِيزُ) والمنيع فلا يرد له أمر ، «العليم» بأحوالهم فلا يخفى عليه شيء. فإن قيل : القضاء والحكم شيء واحد ، فقوله : (يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ) كقوله يقضي بقضائه ويحكم بحكمه!!

فالجواب : معنى قوله : «بحكمه» أي : بما يحكم به وهو عدله لا يقضي إلا بالعدل ، أو أراد بحكمه على القراءة بكسر الحاء (٥).

قوله : (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) أي البيّن ، (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) يعني الكفار ، وإنّما حسن جعله سببا للأمر بالتوكل ، لأن الإنسان ما دام يطمع في أخذ شيء فإنه لا يقوى قلبه على إظهار مخالفته ، فإذا قطع طمعه عنه (٦) قوي قلبه على إظهار مخالفته ، فالله تعالى قطع طمع محمد ـ عليه‌السلام (٧) ـ بأن بيّن أنهم كالموتى وكالصم (٨) والعمي فلا يسمعون ولا يفهمون ولا يبصرون ولا يلتفتون إلى شيء من الدلائل ، وهذا سبب لقوة قلبه ـ عليه‌السلام (٩) ـ على إظهار الدين كما ينبغي (١٠).

قوله : (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) قرأ ابن كثير : «لا يسمع» بالياء مفتوحة ، وفتح الميم «الصّمّ» رفع وكذلك في سورة الروم (١١) ، وقرأ الباقون بالتاء وضمها وكسر الميم «الصّمّ» نصب (١٢)(إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) : معرضين. فإن قيل : ما معنى قوله : (وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) وإذا كانوا صمّا لا يسمعون (١٣) سواء ولوا أو لم يولوا؟ قيل ذكره تأكيدا ومبالغة ، وقيل : الأصم إذا كان حاضرا قد يسمع برفع الصوت ويفهم بالإشارة ، فإذا ولّى مدبرا لم يسمع ولم يفهم (١٤). قال قتادة : الأصم إذا ولّى مدبرا ثم ناديته لم يسمع ، كذلك الكافر لا

__________________

(١) في الأصل : الجملة.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢١٦.

(٣) المختصر (١١١) ، البحر المحيط ٧ / ٩٦.

(٤) في ب : المختلفين في الدين.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢١٦.

(٦) في ب : عند.

(٧) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٨) في ب : كالصم.

(٩) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢١٦.

(١١) يشير إلى قوله تعالى : «فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ» [الروم : ٥٢].

(١٢) السبعة (٤٨٦ ، ٥٠٨) ، الكشف ٢ / ١٦٥ ، النشر ٢ / ٣٣٩ ، الإتحاف (٣٣٩).

(١٣) في ب : لا ينتفعون.

(١٤) انظر البغوي ٦ / ٣٠٤ ـ ٣٠٥.

١٩٩

يسمع ما يدعى إليه من الإيمان (١). والمعنى : إنهم لفرط إعراضهم عما يدعون (٢) إليه كالميّت الذي لا سبيل إلى إسماعه والأصم الذي لا يسمع (٣). قوله : (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ)(٤) العامة على «بهادي» مضافا ل «العمي» ، وحمزة «تهدي» فعلا مضارعا ، و «العمي» نصب على المفعول به (٥). وكذلك التي في الروم (٦). ويحيى بن الحارث وأبو حيوة «بهاد» منونا «العمي» منصوب (٧) به وهو الأصل. واتفق القراء على أن يقفوا على «هاد» في هذه السورة بالياء ، لأنها رسمت في المصحف ثابتة ، واختلوا في الروم ، فوقف الأخوان عليها بالياء أيضا كهذه ، أما حمزة ، فلأنه يقرأها «تهدي» فعلا مضارعا مرفوعا فياؤه ثابتة (٨). قال الكسائي : من قرأ «تهدي» لزمه أن يقف بالياء ، وإنّما لزمه ذلك لأن الفعل لا يدخله تنوين في الوصل تحذف له الياء ، فيكون في الوقف كذلك ، كما يدخل التنوين على «هاد» ونحوه (٩) ، فتذهب الياء في الوصل ، فيجري الوقف على ذلك لمن وقف بغير ياء (١٠) انتهى. ويلزم على ذلك أن يوقف عل ى «يقضي الحقّ» (١١) و (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ) [الإسراء : ١١] بإثبات الياء والواو ، ولكن يلزم حمزة مخالفة الرسم دون القياس ، وأمّا الكسائي فإنه يقرأ «بهادي» اسم فاعل كالجماعة ، فإثباته للياء بالحمل على «هادي» في هذه السورة ، وفيه مخالفة الرسم السلفي (١٢).

قوله : (عَنْ ضَلالَتِهِمْ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلق ب «تهدي» وعدي ب (عن) لتضمنه معنى تصرفهم.

الثاني : أنه متعلق بالعمي ، لأنك تقول : عمى (١٣) عن كذا ذكره أبو البقاء (١٤).

فصل

المعنى : ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الهدى وأعمى قلبه عن الإيمان أن يسمع (إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) إلا من يصدق بالقرآن أنه من الله ، (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) مخلصون لله (١٥).

__________________

(١) انظر البغوي ٦ / ٣٠٥.

(٢) في ب : يدعونه.

(٣) انظر البغوي ٦ / ٣٠٥.

(٤) العمي : سقط من ب.

(٥) السبعة (٤٨٦) ، الكشف ٢ / ١٦٦ ، النشر ٢ / ٣٣٩ ، الإتحاف (٣٣٩).

(٦) يشير إلى قوله تعالى : «وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ»[الروم : ٥٣].

(٧) المختصر (١١١) ، البحر المحيط ٧ / ٩٦.

(٨) انظر الكشف ٢ / ١٦٦ ، إبراز المعاني (٤٢٦).

(٩) ونحوه : سقط من ب.

(١٠) انظر الكشف ٢ / ١٦٦.

(١١) من قوله تعالى : «وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ» [غافر : ٢٠].

(١٢) انظر إبراز المعاني ٦٣١ ـ ٦٣٢.

(١٣) عمي : سقط من ب.

(١٤) قال أبو البقاء : (و «عن» يتعلق ب «هادي» ، وعداه ب «عن) ، لأن معناه تصرف ، ويجوز أن تتعلق بالعمى ، ويكون المعنى : أن العمى صدر عن ضلالتهم) التبيان ٢ / ١٠١٤.

(١٥) انظر البغوي ٦ / ٣٠٥.

٢٠٠