اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦١٥

وجوّز أبو البقاء أيضا أن تكون صفة ل «آيات» ، وقدّره : واصلة إلى فرعون (١) ، وفيه ما تقدم.

قوله : «مبصرة» حال ، ونسب الإبصار إليها مجازا ، لأن بها يبصر (٢) ، وقيل : بل هي من أبصر المنقولة بالهمزة من بصر ، أي : أنها (٣) تبصر غيرها لما فيها من الظهور ، ولكنه مجاز آخر غير الأول ، وقيل : هو (٤) بمعنى مفعول ، نحو (ماءٍ دافِقٍ) أي : مدفوق (٥).

وقرأ عليّ بن الحسين وقتادة بفتح الميم والصاد (٦) ، أي : على وزن أرض مسبعة ، ذات سباع (٧) ، ونصبها على الحال (٨) أيضا ، وجعلها أبو البقاء في هذه القراءة مفعولا من أجله (٩) ، وقد تقدم ذلك. ومعنى «مبصرة» : بينة واضحة.

(قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) ظاهر.

قوله (١٠) : (وَجَحَدُوا بِها) أي : أنكروا الآيات ، ولم يقروا أنها من عند الله (١١).

قوله : (وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) يجوز أن تكون هذه الجملة معطوفة على الجملة قبلها ، ويجوز أن تكون حالا من فاعل «جحدوا» (١٢) ، وهو أبلغ في الذم ، واستفعل هنا بمعنى «تفعّل» ، نحو : استعظم واستكبر ، والمعنى : أنهم علموا أنها من عند الله ، وفائدة ذكر الأنفس أنهم جحدوا بألسنتهم (١٣) واستيقنوها في قلوبهم وضمائرهم ، والاستيقان أبلغ من الإيقان (١٤).

قوله : (ظُلْماً وَعُلُوًّا) يجوز أن يكونا في موضع الحال ، أي : ظالمين عالين ، وأن يكونا مفعولا من أجلهما (١٥) ، أي : الحامل على ذلك الظلم والعلو.

وقرأ عبد الله وابن وثاب والأعمش وطلحة : «وعليّا» بكسر العين واللام وقلب الواو

__________________

(١) قال أبو البقاء : (ويجوز أن يكون صفة ل «تسع» أو ل «آيات» ، أي : واصلة إلى فرعون) التبيان ٢ / ١٠٠٥.

(٢) وهذا مجاز عقلي لأنه من إسناد الفعل لغير ما هو له.

(٣) في ب : بأنها.

(٤) هو : سقط من ب.

(٥) انظر البحر المحيط ٧ / ٥٨.

(٦) المحتسب ٢ / ١٣٦ ، الكشاف ٣ / ١٣٥ ، البحر المحيط ٧ / ٥٨.

(٧) وجعلها الزمخشري مكانا تكثر فيها التبصرة. الكشاف ٣ / ١٣٥.

(٨) انظر البحر المحيط ٧ / ٥٨.

(٩) قال أبو البقاء : (ويقرأ بفتح الميم والصاد ، وهو مصدر مفعول له ، أي : تبصرة) التبيان ٢ / ١٠٠٦.

(١٠) قوله : سقط من ب.

(١١) انظر البغوي ٦ / ٢٦٣.

(١٢) قال الزمخشري : (الواو في «واستيقنتها» واو الحال وقد بعدها مضمرة) الكشاف ٣ / ١٣٥.

(١٣) في ب : بأنفسهم.

(١٤) انظر الكشاف ٣ / ١٣٥ ، الفخر الرازي ٢٤ / ١٨٤.

(١٥) انظر التبيان ٢ / ١٠٠٦.

١٢١

ياء (١) ، وتقدم تحقيقه في «عتيّا» في مريم (٢) ، وروي عن الأعمش وابن وثاب ضم العين كما في «عتيّا» (٣).

وقرىء : «وغلوا» بالغين المعجمة (٤) ، وهو قريب من هذا المعنى ، وأي ظلم أفحش من ظلم من استيقن أنها آيات بينة من عند الله ثم كابر بتسميتها سحرا بينا (٥)؟

والعلو : الترفع عن (٦) الإيمان ، والشرك وعدم الإيمان بما جاء به موسى (٧) ، كقوله : (فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) [المؤمنون : ٤٦].

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ). قوله : (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ) «كيف» خبر مقدم ، و «عاقبة» اسمها (٨) ، والجملة في محل نصب على إسقاط الخافض لأنها معلقة ل «انظر» بمعنى تفكّر.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ)(١٩)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) الآية .. والمراد بالعلم أي : علم القضاء ومنطق الطير والدواب وتسبيح الجبال ، والمعنى : طائفة من العلم ، أو علما سنيا عزيزا (٩).

قوله : (وَقالا) ، قال الزمخشري : فإن قلت : أليس هذا موضع الفاء دون الواو ، كقولك : أعطيته فشكر ، ومنعته فصبر؟ قلت : بلى ، ولكن عطفه بالواو إشعار (١٠) بأنّ ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم وشيء من مواجبه ، فأضمر ذلك ثم عطف عليه التحميد ، كأنه (١١) قال : ولقد آتيناهما علما (١٢) فعملا به وعلماه وعرفاه حقّ معرفته ، وقالا الحمد لله (١٣) ، انتهى.

__________________

(١) المختصر (١٠٨) ، البحر المحيط ٧ / ٥٨.

(٢) من الآية (٨) ومن الآية (٦٩).

(٣) المختصر (١٠٨) ، البحر المحيط ٧ / ٥٨.

(٤) انظر التبيان ٢ / ١٠٠٦.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ١٣٥ ، الفخر الرازي ٢٤ / ١٨٤.

(٦) في ب : على.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٨٤.

(٨) انظر التبيان ٢ / ١٠٠٦.

(٩) انظر الكشاف ٣ / ١٣٥ ، الفخر الرازي ٢٤ / ١٨٥.

(١٠) في ب : وإشعار. وهو تحريف.

(١١) في ب : كأنهما.

(١٢) في ب : علما به. وهو تحريف.

(١٣) الكشاف ٣ / ١٣٥.

١٢٢

وإنّما نكر «علما» تعظيما له ، أي علما سنيا ، أو دلالة على التبعيض (١) ، لأنه قليل جدا بالنسبة إلى علمه تعالى.

فصل

المعنى : (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا) بالنبوة والكتاب وتسخير الشياطين والجن والإنس (عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ)(٢) ، ولم يفضلوا أنفسهم (٣) على الكل ، وذلك يدل على حسن التواضع. قوله : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) ، قال الحسن : المال لأن النبوة عطية مبتدأة لا تورث (٤) ، وقال غيره : بل النبوة والعلم والملك دون سائر أولاده (٥) ، ولو تأمل الحسن لعلم أن المال لا يورث من الأنبياء ، لقوله عليه‌السلام (٦) : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» (٧) ، وأيضا فإن المال إذا ورثه الولد فهو أيضا عطية مبتدأة من الله تعالى ، ولذلك يرثه الولد إذا كان مؤمنا ، ولا يرث إذا كان كافرا أو قاتلا ، ولا كذلك (٨) النبوة ، لأن الموت (٩) لا يكون سببا لنبوة الولد (١٠) ، وكان لداود تسعة عشر ابنا ، وأعطي سليمان ما أعطي داود من الملك ، وزيد له تسخير الريح وتسخير الشياطين ، قال مقاتل : كان سليمان أعظم ملكا من داود وأقضى منه ، وكان داود أشد تعبدا من سليمان ، وكان سليمان شاكرا لنعم الله (١١).

(وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) ، يعني صوته ، سمي صوت الطير منطقا ، لحصول الفهم منه كما يفهم من كلام الناس ، روي عن كعب قال : صاح ورشان (١٢) عند سليمان عليه‌السلام (١٣) ، فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا لا ، قال : إنه يقول : لدوا للموت ، وابنوا (١٤) للخراب ، وصاحت فاختة (١٥) ، فقال : أتدرون ما تقول؟ قالوا لا ، قال

__________________

(١) في ب : التخصيص.

(٢) انظر البغوي ٦ / ٢٦٤.

(٣) في ب : أنفسهما.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٨٦.

(٥) المرجع السابق.

(٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٧) أخرجه البخاري (فرض الخمس) ٢ / ١٨٦ ، (فضائل أصحاب النبي) ٢ / ٣٠١ ، (مغازي) ٣ / ١٦ ، (نفقات) ٣ / ١٨٧ ، (فرائض) ٤ / ٢١٤ ، مسلم (جهاد) ٣ / ١٣٧٧ ، ١٣٨٢ ، ١٣٨٣ أبو داود (إمارة) ٣ / ٣٦٥ ـ ٣٧١ ، الترمذي (سير) ٣ / ٨٢ ، ومالك (كلام) ٢ / ٩٩٣ ، أحمد ١ / ٤ ، ٦ ، ٩ ، ١٠ ، ٢٥ ، ٤٧ ، ٤٨ ، ٢ / ٤٦٣ ، ٦ / ١٤٥ ، ٧٦٢.

(٨) في ب : وكذلك وهو تحريف.

(٩) في النسختين : النبوة. والتصويب من الفخر الرازي.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٨٦.

(١١) انظر البغوي ٦ / ٢٦٤.

(١٢) الورشان : طائر من الفصيلة الحمامية ، أكبر قليلا من الحمامة المعروفة ، يستوطن أوربة ، ويهاجر في جماعات إلى العراق والشام ، ولكنها لا تمر بمصر ، والجمع ورشان ووراشين. المعجم الوسيط (ورش).

(١٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٤) في ب : وانموا.

(١٥) الفاختة : ضرب من الحمام المطوق إذا مشى توسع في مشيه وباعد بين جناحيه وإبطيه وتمايل ، والجمع : فواخت. المعجم الوسيط (فخت).

١٢٣

فإنها تقول : ليت ذا الخلق لم يخلقوا ، وصاح (١) الطاووس (٢) فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا لا ، قال : فإنه يقول : كما تدين تدان ، قال : وصاح هدهد ، فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا لا ، قال : فإنه يقول : استغفروا الله يا مذنبين ، وصاحت طيطوى (٣) ، فقال أتدرون ما تقول؟ قالوا لا ، قال فإنه يقول: كل حي ميت ، وكل جديد بال ، وصاح خطاف (٤) ، فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا لا ، قال : فإنه يقول : قدّموا خيرا تجدوه ، وهدرت حمامة فقال : أتدرون ما تقول؟ قالوا لا ، قال : فإنها تقول : سبحان ربي الأعلى (ملء سمائه وأرضه ، وصاح قمري (٥) ، فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا لا ، قال : فإنه يقول : سبحان ربي الأعلى) (٦) ، قال : والغراب يدعو (٧) على العشّار ، والحدأة تقول : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] ، والقطاة (٨) تقول : من سكت سلم ، والببغاء (٩) : ويل لمن الدّنيا همّه ، والضفدع يقول : سبحان ربّي القدّوس ، والبازي (١٠) يقول : سبحان ربي وبحمده(١١). وعن مكحول (١٢) قال : صاح درّاج (١٣) عند سليمان ، فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا لا ، قال: فإنه يقول : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)(١٤) [طه : ٥].

قوله : (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) تؤتى الأنبياء (١٥) والملوك ، قال ابن عباس : من أمر الدنيا والآخرة (١٦). وقال مقاتل : يعني النبوة والملك وتسخير الجن والشياطين

__________________

(١) في ب : وصاحت.

(٢) الطاووس : طائر حسن الشكل كثير الألوان ، يبدو كأنه يعجب بنفسه وبريشه ينشر ذنبه كالطاق ، يذكر ويؤنث ، والجمع : طواويس وأطواس. المعجم الوسيط (طوس).

(٣) الطيطوى : ضرب من القطا طوال الأرجل. اللسان (طيط).

(٤) الخطاف : هو ضرب من الطيور القواطع ، عريض المنقار دقيق الجناح طويله ، منتفش الذيل والجمع : خطاطيف. المعجم الوسيط (خطف).

(٥) القمري : ضرب من الحمام مطوق حسن الصوت ، والجمع : قمر. والأنثى : قمرية ، والجمع : قماري المعجم الوسيط (قمر).

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) في ب : يدعوا.

(٨) القطاة : واحدة القطا ، وهو نوع من اليمام ، يؤثر الحياة في الصحراء ويتخذ أفحوصه في الأرض ، ويطير جماعات ، ويقطع مسافات شاسعة ، وبيضه مرقط ، والجمع : قطا ، وقطوات ، وقطيات. المعجم الوسيط (قطو).

(٩) الببغاء : طائر من الفصيلة الببغاوية يطلق على الذكر والأنثى ، يتميز بمنقار معقوف ، وأربع أصابع في كل رجل ، وله لسان لحمي غليظ ، ومن أشهر أوصافه أنه يحاكي كلام الناس. المعجم الوسيط (ببغ).

(١٠) البازي : جنس من الصقور الصغيرة أو المتوسطة الحجم ، من فصيلة العقاب النسرية ، تميل أجنحتها إلى القصر ، وتميل أرجلها وأذنابها إلى الطول ، ومن أنواعه الباشق والبيدق ، والجمع : بواز ، وبزاة.

المعجم الوسيط (بزا).

(١١) انظر البغوي ٦ / ٢٦٤ ـ ٢٦٥.

(١٢) تقدم.

(١٣) الدراج : نوع من الطيور يدرج في مشيه. المعجم الوسيط (درج).

(١٤) انظر البغوي ٦ / ٢٦٥.

(١٥) الأنبياء : سقط من ب.

(١٦) انظر البغوي ٦ / ٢٦٥.

١٢٤

والريح (١)(إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) ، والمراد بقوله (أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) كثرة ما أوتي ، لأن كثرة المشاركة سبب لجواز الاستعارة ، فلا جرم يطلق لفظ الكل على الكثرة ، كقوله : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)(٢) [النمل : ٢٣] وقوله : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) ، أي : الزيادة الظاهرة على ما أعطي غيرنا ، روي أن سليمان أعطي ملك مشارق الأرض ومغاربها ، فملك سبعمائة (سنة) (٣) وستة أشهر ، ملك جميع أهل (٤) الدنيا من الجن والإنس والدواب والطير والسباع ، وأعطي على ذلك منطق كل شيء ، وفي زمانه صنعت الصنائع العجيبة (٥).

فقوله : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) تقرير لقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا) والمقصود منه : الشكر والمحمدة ، كما قال عليه‌السلام (٦) : «أنا سيّد ولد آدم ولا فخر» (٧).

فإن قيل : كيف قال (٨) «علّمنا» و «أوتينا» ، وهو كلام المتكبر؟ فالجواب من وجهين :

الأول : أن يريد نفسه وأباه.

والثاني : أن هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع ، وكان ملكا مطاعا (٩).

قوله : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ) : وجمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير في مسير له ، فقوله : (مِنَ الْجِنِّ) وما بعده بيان ل «جنوده» فيتعلق بمحذوف ، ويجوز أن يكون هذا الجار حالا(١٠) ، فيتعلق بمحذوف أيضا.

قوله : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي : يمنعون ويكفّون ، والوزع : الكف والحبس ، يقال : وزعه يزعه فهو وازع وموزوع (١١) ، وقال عثمان ـ رضي الله عنه ـ : «ما يزع السّلطان (١٢) أكثر ممّا يزع القرآن» (١٣) ، وعنه : «لا بدّ للقاضي من وزعة» (١٤) وقال الشاعر :

٣٩٣٥ ـ ومن لم يزعه لبّه وحياؤه

فليس له من شيب فوديه وازع (١٥)

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٨٦.

(٣) سنة : تكملة من البغوي.

(٤) أهل : سقط من ب.

(٥) انظر البغوي ٦ / ٢٦٥ ـ ٢٦٦.

(٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٧) أخرجه الترمذي (تفسير) ٤ / ٣٧٠ ، أبو داود (سنة) ٥ / ٥٤ ، أحمد ١ / ٢٨١ ، ١٩٥ ، ٢٨٣ ، ١٤٤.

(٨) في ب : قد. وهو تحريف.

(٩) انظر الكشاف ٣ / ١٣٦ ، الفخر الرازي ٢٤ / ١٨٦.

(١٠) انظر التبيان ٢ / ١٠٠٦.

(١١) انظر اللسان (وزع).

(١٢) في النسختين : الشيطان. والصواب ما أثبته.

(١٣) انظر القرطبي ١٣ / ١٦٨ ، البحر المحيط ٦ / ٥١ ، وانظر مجمع الأمثال للميداني ٤ / ٥٢.

(١٤) أي : أعوان يكفونه عن التعدي والشر والفساد. وهذا القول ليس من كلام أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، وإنما هو من كلام الحسن البصري ـ رضي الله عنه ـ لما ولي القضاء.

انظر غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام ٣ / ٢٢٨ ، وتفسير ابن عطية ١١ / ١٨٣ ، القرطبي ١٣ / ١٦٨ ، اللسان (وزع) البحر المحيط ٧ / ٥١.

(١٥) البيت من بحر الطويل ، ولم أهتد إلى قائله ، وهو في البحر المحيط ٧ / ٥١ ، والشاهد فيه قوله : (وازع) فإنه بمعنى الحابس والمانع.

١٢٥

وقوله : (أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ) بمعنى ألهمني (١) من هذا ، لأنّ تحقيقه : اجعلني من حيث أزع نفسي عن الكفر فقوله : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) معناه : يحبسون ، وهذا لا يكون إلا إذا كان في كل قبيل منها وازع متسلط على من يرده ويكفه (٢). قال قتادة : كان كل صنف من جنوده وزعة ترد أولها على آخرها لئلا يتقدموا في المسير (٣) ، والوازع : الحابس والنقيب (٤) ، وقال مقاتل يوزعون يساقون (٥) ، وقال السدي : يوقفون (٦) ، وقيل يجمعون (٧).

قوله : (حَتَّى إِذا) في المغيّا (٨) ب «حتى» وجهان :

أحدهما : هو «يوزعون» ، لأنه مضمن معنى فهم يسيرون ممنوعا بعضهم من مفارقة بعض حتى إذا.

والثاني : أنه محذوف ، أي فساروا حتى (٩) وتقدم الكلام في حتى الداخلة على إذا ، هل هي حرف ابتداء أو حرف جر (١٠).

قوله : «على وادي» متعلق ب «أتوا» ، وإنما عدّي ب «على» ، لأنّ الواقع كذا ، لأنهم كانوا محمولين على الريح ، فهم مستعلون. وقيل : هو من قولهم : أتيت عليه ، أي استقصيته إلى آخره ، والمعنى أنهم قطعوا الوادي كله وبلغوا آخره (١١).

ووقف القراء كلهم على «واد» دون ياء اتباعا للرسم ، ولأنها محذوفة لفظا لالتقاء الساكنين في الوصل ، ولأنها قد حذفت حيث لم تحذف لالتقاء الساكنين (نحو (جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ)(١٢) [الفجر : ٩] فحذفها وقفا ، وقد عهد حذفها دون التقاء الساكنين) (١٣) ، فحذفها عند التقاء الساكنين أولى ، إلا الكسائي ، فإنه وقف بالياء ، قال : لأن الموجب للحذف إنما هو التقاء الساكنين بالوصل ، وقد زال ، فعادت اللام ، واعتذر عن مخالفة الرسم بقوة الأصل (١٤).

والنّمل : اسم جنس معروف واحده نملة ، ويقال : نملة ونمل بضم النون وسكون الميم ، ونملة ونمل بضمّهما (١٥) ، ونملة بالفتح ، والضم بوزن سمرة ، ونمل بوزن رجل ، واشتقاقه من : التّنمّل ، لكثرة حركته ، ومنه قيل للواشي : المنمّل ، يقال : أنمل بين القوم منمل ، أي : وشى ونمّ ؛ لكثرة تردده ، وحركته في ذلك (١٦) ، قال :

__________________

(١) انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٨٩.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٨٧.

(٣) انظر البغوي ٦ / ٢٦٦.

(٤) انظر اللسان (وزع).

(٥) انظر البغوي ٦ / ٢٦٦.

(٦) المرجع السابق.

(٧) المرجع السابق.

(٨) أي : الذي جعل غاية.

(٩) انظر البحر المحيط ٧ / ٦٠.

(١٠) عند قوله تعالى : «حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ» [آل عمران : ١٥٢].

(١١) انظر الكشاف ٣ / ١٣٧.

(١٢) من قوله تعالى : «وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ» [الفجر : ٩].

(١٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٤) انظر حجة القراءات لأبي زرعة (٥٢٣) ، الإتحاف (٣٣٥).

(١٥) في النسختين : بضمها.

(١٦) انظر اللسان (نمل).

١٢٦

٣٩٣٦ ـ ولست بذي نيرب فيهم

ولا منمش منهم منمل (١)

ويقال أيضا : نمل ينمل ، فهو نمل ونمّال ، وتنمّل القوم : تفرقوا للجمع تفرّق النمل ، وفي المثل : «أجمع من نملة» (٢) والنّملة أيضا : قرحة تخرج في الجنب ، تشبيها بها في الهيئة ، والنملة أيضا شقّ في الحافر ، ومنه : فرس منمول القوائم ، والأنملة : طرف الإصبع من ذلك ؛ لدقتها وسرعة حركتها ، والجمع: أنامل (٣).

فصل

قال كعب : كان سليمان إذا سار (٤) بعسكره حملته الريح تهوي بهم (٥) فسار من اصطخر (٦) إلى اليمن ، فمرّ على مدينة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، فقال سليمان : هذه دار هجرة نبي الله في آخر الزمان ، طوبى لمن آمن به ، وطوبى لمن اتبعه ، ورأى حول البيت أصناما تعبد من دون الله ، فلما جاوز سليمان البيت بكى (٧) فأوحى الله إلى البيت : ما يبكيك؟ قال : يا رب أبكاني أن هذا نبي من أنبيائك وقوم من أوليائك مروا عليّ فلم يهبطوا ولم يصلوا عندي والأصنام تعبد حولي من دونك ، فأوحى الله إليه : لا تبك ، فإني سوف أملأك وجوها سجدا ، وأنزل فيك قرآنا جديدا ، وأبعث منك في آخر الزمان أحب أنبيائي إليّ وأجعل فيك عمارا من خلقي يعبدونني ، وأفرض على عبادي فريضة يزفون (٨) إليك زفيف النسور إلى أوكارها ، ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها والحمامة إلى بيضها ، وأطهرك من الأوثان وعبدة الشيطان ، ثم مضى سليمان حتى مرّ بوادي السدير من الطائف ، فأتى على وادي النمل ، هكذا قال كعب إنه واد بالطائف (٩) ، وقال مقاتل : إنه واد بالشام كثير النمل (١٠) ، وقيل واد كان يسكنه الجن ، وأولئك النمل مراكبهم (١١).

قوله : (قالَتْ نَمْلَةٌ) هذه النملة هنا مؤنثة حقيقة ، بدليل لحاق علامة التأنيث فعلها ، لأن نملة تطلق على الذكر وعلى الأنثى ، فإذا أريد تمييز ذلك قيل : نملة ذكر ، ونملة أنثى ، نحو : حمامة ويمامة. وحكى الزمخشري عن أبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ أنه وقف على قتادة وهو يقول : سلوني ، فأمر من سأله عن نملة سليمان : هل كانت ذكرا أو (١٢)

__________________

(١) البيت من بحر المتقارب ، مجهول القائل. وقد تقدم.

(٢) انظر مجمع الأمثال للميداني ١ / ٣٣٥.

(٣) انظر اللسان (نمل).

(٤) في ب : سافر.

(٥) بهم : سقط من ب.

(٦) اصطخر : أطلال مدينة إيرانية قديمة. المنجد في الأعلام (٥٢).

(٧) في ب : أبكى.

(٨) الزفيف : الإسراع ومقاربة الخطو ، وزف يزف زفا وزفيفا وزفوفا ، وزفّ القوم في مشيهم : أسرعوا.

اللسان (زفف).

(٩) انظر البغوي ٦ / ٢٦٦ ـ ٢٦٧.

(١٠) انظر البغوي ٦ / ٢٦٧.

(١١) المرجع السابق.

(١٢) في ب : أم.

١٢٧

أنثى ، فلم يجب ، فقيل لأبي حنيفة في ذلك ، فقال : كانت أنثى ، واستدل بلحاق العلامة (١).

قال الزمخشري : وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها (٢) على المذكر والمؤنث (٣) ، فيميز بينهما بعلامة ، نحو قولهم : حمامة ذكر وحمامة أنثى ، وهو وهي (٤) ، انتهى.

وقد ردّ هذا أبو حيان ، فقال : ولحاق التاء في «قالت» لا يدلّ على أن النملة مؤنثة ، بل يصح أن يقال في المذكر : قالت نملة ؛ لأن نملة وإن كانت بالتاء هو مما (٥) لا يتميز فيه المذكر من المؤنث ، وما كان كذلك كاليمامة والقملة مما بينه في الجمع وبين واحده تاء التأنيث من الحيوان ، فإنه يخبر عنه(٦) إخبار المؤنث ، (ولا يدل كونه يخبر عنه إخبار المؤنث) (٧) على أنه ذكر أو أنثى ، لأن التاء دخلت فيه للفرق لا للدلالة على التأنيث الحقيقي ، بل دالة على الواحد من هذا الجنس ، قال : وكان قتادة بصيرا بالعربية ، وكونه أفحم يدل على معرفته باللسان إذ علم أن النملة يخبر عنها إخبار المؤنث وإن كانت تنطلق على الأنثى والذكر (٨) إذ لا (٩) يتميز فيه أحد هذين ، ولحاق العلامة لا يدل ، فلا يعلم التذكير والتأنيث إلا بوحي من الله ، قال : وإنما استنباط (١٠) تأنيثه من كتاب الله (١١) ب «قالت» (١٢) ، ولو كان ذكرا لقيل : «قال» فكلام النحاة على خلافه ، وأنه لا يخبر عنه إلا إخبار المؤنث ، سواء كان ذكرا أم أنثى.

قال : وأما تشبيه الزمخشري النملة بالحمامة والشاة ، فبينهما قدر مشترك يتميز فيهما المذكر من المؤنث فيمكن أن تقول (١٣) : حمامة ذكر ، وحمامة أنثى فتميزه بالصفة ، وأما تميزه ب (١٤) «هو» و «هي» فإنه لا يجوز ، لا تقول هو الحمامة ، ولا هو الشاة ، وأما النملة والقملة فلا (١٥) يتميز فيه (١٦) المذكر من المؤنث ، ولا يجوز فيه (١٧) في الإخبار إلا التأنيث وحكمه حكم المؤنث بالتاء من الحيوان نحو : المرأة ، أو (١٨) غير العاقل كالدابة ، إلا إن وقع فصل بين الفعل وبين ما أسند إليه من ذلك ، فيجوز أن تلحق العلامة وأن لا تلحقها ، على ما تقرر في علم العربية (١٩). انتهى.

__________________

(١) الكشاف ٣ / ١٣٧. بتصرف.

(٢) في ب : وقوعهما.

(٣) في ب : على الذكر والأنثى.

(٤) الكشاف ٣ / ١٣٧.

(٥) في ب : ما.

(٦) في ب : غير. وهو تحريف.

(٧) ما بين القوسين سقط من ب.

(٨) في ب : الذكر والأنثى.

(٩) في ب : ولا.

(١٠) في ب : استنبط.

(١١) في ب : الله تعالى.

(١٢) بقالت : سقط من ب.

(١٣) في ب : أن يقال.

(١٤) ب : سقط من ب.

(١٥) في ب : و.

(١٦) في ب : فيهما.

(١٧) فيه : تكملة من البحر المحيط.

(١٨) في ب : و.

(١٩) البحر المحيط ٧ / ٦١.

١٢٨

قال شهاب الدين : أما ما ذكره ففيه نظر ، من حيث (١) إن التأنيث إما لفظي أو معنوي (٢) ، واللفظي (٣) لا يعتبر (في لحاق العلامة) (٤) البتة ، بدليل أنه لا يجوز (قامت ربعة وأنت تعني رجلا ، وكذلك) (٤) لا يجوز : قامت طلحة ، ولا حمزة ـ على مذكر ـ فتعين أن يكون اللحاق إنما هو للتأنيث المعنوي ، وإنما يعتبر لفظ التأنيث والتذكير في باب العدد على معنى خاص أيضا ، وهو أنا ننظر (٥) إلى ما عاملت العرب ذلك اللفظ به من تذكير أو تأنيث من غير نظر إلى مدلوله ، فهناك له هذا الاعتبار وتحقيقه هنا يخرجنا عن المقصود وإنما نبهتك على (٦) القدر المحتاج إليه.

وأما قوله : وأما النملة والقملة فلا يتميّز ، يعني لا يتوصّل لمعرفة الذكر منهما ولا الأنثى بخلاف الحمامة والشاة ، فإن الاطلاع على ذلك (٧) ممكن ، فهو أيضا ممنوع إذ (٨) قد يمكن الاطلاع على (ذلك ، وأن الاطلاع على ذكورية الحمامة والشاة أسهل من الاطلاع على) (٩) ذكورية النملة والقملة ، ومنعه أيضا أن يقال هو الشاة وهو الحمامة ممنوع (١٠).

وقرأ الحسن وطلحة ومعتمر (١١) بن سليمان : «النّمل» و «نملة» بضم الميم وفتح النون (١٢) بزنة (١٣) رجل وسمرة ، وسليمان التيمي (١٤) بضمتين فيهما (١٥) ، وتقدم أن ذلك لغات في الواحد والجمع. قوله : (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) ، فيه وجهان :

أحدهما : أنه نهي.

والثاني : أنه جواب للأمر (١٦).

وإذا كان نهيا ففيه وجهان :

أحدهما : أنه نهي مستأنف لا تعلق له بما قبله من حيث الإعراب ، وإنما هو نهي للجنود في اللفظ ، وفي المعنى للنمل ، أي لا تكونوا بحيث يحطمونكم ، كقولهم : لا أرينّك ههنا (١٧).

__________________

(١) في ب : حين.

(٢) المقصود به الحقيقي.

(٣) في ب : فاللفظي.

(٤) ما بين القوسين سقط من ب.

(٥) في ب : أن نظر.

(٦) في ب : عن.

(٧) أي : على ذكورة وأنوثة.

(٨) إذ : تكملة ليست في المخطوط.

(٩) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٠) الدر المصون ٥ / ١٨٢ ـ ١٨٣.

(١١) في النسختين : معمر. والصواب ما أثبته.

(١٢) المختصر (١٠٨) ، البحر المحيط ٧ / ٦١.

(١٣) في ب : بوزنة. وهو تحريف.

(١٤) هو سليمان بن قتة التيمي ، مولاهم البصري ، ثقة ، عرض على ابن عباس ، وعرض عليه عاصم الجحدري. طبقات القراء ١ / ٣١٤.

(١٥) المحتسب ٢ / ١٣٧ ، البحر المحيط ٧ / ٦١.

(١٦) وضعفه أبو البقاء لأن جواب الأمر لا يؤكد بالنون في الاختيار. التبيان ٢ / ١٠٠٦.

(١٧) انظر البحر المحيط ٧ / ٦١.

١٢٩

والثاني : أنه بدل من جملة الأمر قبله ، وهي «ادخلوا» ، وقد تعرض الزمخشري لذلك (١) ، فقال (٢) : فإن قلت : لا يحطمنكم ما هو؟ قلت يحتمل أن يكون جوابا للأمر ، وأن يكون نهيا بدلا من الأمر ، والذي جوّز أن يكون بدلا منه أنه (٣) في معنى : لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم (٤) ، على طريقة : لا أرينّك ههنا ، أرادت : لا يحطمنكم جنود سليمان ، فجاءت بما هو أبلغ ، ونحوه (٥) :

٣٩٣٧ ـ عجبت من نفسي ومن إشفاقها (٦)

قال أبو حيان : أما تخريجه على أنه جواب الأمر ، فلا يكون ذلك إلا على قراءة الأعمش ، فإنه مجزوم مع أنه يحتمل أن يكون استئناف نهي (٧) يعني أن الأعمش قرأ : «لا يحطمكم» بجزم الميم دون نون توكيد ، قال : وأما مع وجود نون التوكيد فلا يجوز ذلك إلا إن كان في شعر ، وإذا لم يجز ذلك في جواب الشرط إلا في الشعر فأحرى أن لا يجوز في جواب الأمر إلا في الشعر ، وكونه جواب الأمر متنازع فيه على ما قرر في علم النحو. ومثال مجيء النون في جواب الشرط قول الشاعر :

٣٩٣٨ ـ نبتّم نبات (٨) الخيزرانة (٩) في الثّرى(١٠)

حديثا متى ما يأتك الخير ينفعا (١١)

وقول الآخر :

٣٩٣٩ ـ فمهما تشأ منه فزارة تعطكم

ومهما تشأ منه فزارة تمنعا (١٢)

__________________

(١) في ب : كذلك وهو تحريف.

(٢) الكشاف ٣ / ١٣٧ ـ ١٣٨.

(٣) في النسختين : أن يكون نهيا بدلا من الأمر لأنه. والتصويب من الكشاف.

(٤) في ب : يحطمنكم.

(٥) ونحوه : مكرر في ب.

(٦) رجز لم أهتد إلى قائله ، وهو في الكشاف ٣ / ١٣٨ ، البحر المحيط ٧ / ٦٢ ، شرح شواهد الكشاف (١٣٧). وأتى به شاهدا على المبالغة في قوله : من نفسي ومن إشفاقها. وكان وجه الكلام أن يقول : من إشفاق نفسي.

(٧) في البحر المحيط : نفي. البحر المحيط ٧ / ٦٢.

(٨) في ب : بيان.

(٩) في ب : الخيزوانة.

(١٠) في ب : في البرى.

(١١) البيت من بحر الطويل قاله النجاشي ، وهو في الكتاب ٣ / ٥١٥ ، المقاصد النحوية ٤ / ٣٤٤ ، الهمع ٢ / ٧٨ ، الأشموني ٣ / ٢٢٠ ، الخزانة ١١ / ٣٩٥ ، الدرر ٢ / ٩٧. وروي : (الخيزراني) مكان (الخيزرانة).

الخيزراني : كل نبت ناعم. وأراد بالخير المال. والشاهد فيه قوله : (ينفعا) فإن أصله (ينفعن) بنون التوكيد الخفيفة ، ثم أبدل منها الألف في الوقف ، وهذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر ، لأنّ جواب الشرط لا يؤكد بالنون ، لأنه خبر يجوز فيه الصدق والكذب ، ولكنه أكد تشبيها بالنهي حين كان مجزوما غير واجب.

(١٢) البيت من بحر الطويل ، نسبه سيبويه إلى ابن الخرع ، وهو عوف بن الخرع ، وينسب أيضا إلى الكميت بن ثعلبة ، وهو في الكتاب ٣ / ٥١٥ ، المقاصد النحوية ٤ / ٣٣٠ ، التصريح ٢ / ٣٠٦ ، الهمع ٢ / ٧٩ ، الأشموني ٢ / ٢٠٢ ، الخزانة ١١ / ٣٨٧ ، الدرر ٢ / ١٠٠ ، والشاهد فيه قوله : (تمنعا) ، والكلام فيه كالكلام في سابقه.

١٣٠

قال سيبويه : وهو قليل في الشعر شبهوه بالنهي حيث كان مجزوما غير واجب (١) ، قال : وأما تخريجه على البدل فلا يجوز ، لأن مدلول (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) مخالف لمدلول «ادخلوا» ، وأما قوله : لأنه بمعنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم (٢) ، فتفسير معنى لا إعراب ، والبدل من صفة الألفاظ ، نعم لو كان اللفظ القرآني : لا تكونوا بحيث لا يحطمنكم ، لتخيّل فيه البدل ، لأن الأمر بدخول المساكن نهي عن كونهم بظاهر الأرض.

وأما قوله : إنه أراد لا يحطمنكم جنود سليمان إلى آخره ، فيسوغ زيادة الأسماء ، وهو (٣) لا يجوز ، بل الظاهر إسناد الحطم (٤) إلى جنوده ، وهو على حذف مضاف ، أي : خيل سليمان وجنوده ، إو نحو ذلك مما يصح تقديره (٥) ، انتهى.

أما منعه كونه جواب الأمر من أجل النون ، فقد سبقه إليه أبو البقاء ، فقال : وهو ضعيف ، لأن جواب الشرط لا يؤكد بالنون في الاختيار (٦). وأما منعه البدل بما ذكر فلا نسلم تغاير المدلول بالنسبة لما يؤول إليه المعنى. وأما قوله : فيسوغ زيادة الأسماء فهو (٧) لم يسوغ ذلك ، وإنما فسر المعنى ـ وعلى تقدير ذلك ـ فقد قيل به شائعا (٨). وجاء الخطاب في قولها «ادخلوا» كخطاب العقلاء لما عوملوا معاملتهم (٩). وقرأ أبيّ : «ادخلن مساكنكن لا يحطمنكن» (١٠) ـ بالنون الخفيفة ـ جاء به على الأصل. وقرأ شهر بن حوشب (١١) : «مسكنكم» بالإفراد (١٢) وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى الهمداني بضم الياء وفتح الحاء وتشديد الطاء والنون مضارع حطمه بالتشديد (١٣). وقرأ الحسن أيضا قراءتان : فتح الياء وتشديد الطاء مع سكون الحاء وكسرها (١٤) والأصل : لا يحطمنّكم ، فأدغم وإسكان الحاء مشكل تقدم نظيره في (لا يَهِدِّي)(١٥) ونحوه ، وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب وأبو عمرو في رواية بسكون نون التوكيد (١٦). والحطم : الكسر ،

__________________

(١) الكتاب ٣ / ٥١٥.

(٢) في البحر المحيط : فيحطمنكم. وفي ب : فتحطموا.

(٣) في ب : وهي.

(٤) في النسختين : الحكم. والتصويب من البحر المحيط.

(٥) البحر المحيط ٧ / ٦٢.

(٦) التبيان ٢ / ١٠٠٦.

(٧) فهو : تكلمة ليست في المخطوط.

(٨) أي : إبدال الفعل من الفعل متى استقام ذلك من جهة المعنى.

(٩) انظر التبيان ٢ / ١٠٠٦.

(١٠) في ب : لا يحطمنكم. وفي البحر المحيط : «ادخلن مساكنكن لا يحطمنكم» ٧ / ٦١ وفي تفسير ابن عطية : (وفي مصحف أبي «لا يحطمنكم» مخففة النون التي قبل الكاف) ١١ / ١٨٧.

(١١) شهر بن حوشب ، أبو سعيد الأشعري الشامي ، ثم البصري ، تابعي ، مشهور عرض عليه أبو نهيك علباء بن أحمد ، مات سنة ١٠٠ ه‍ ، وقيل غير ذلك. طبقات القراء ١ / ٣٢٩.

(١٢) المختصر (١٠٨) ، البحر المحيط ٧ / ٦١.

(١٣) المرجعان السابقان.

(١٤) البحر المحيط ٧ / ٦١ ، وفي المختصر لم ينص على سكون الحاء (١٠٨) ، وفي المحتسب بفتح الياء والحاء وتشديد الطاء والنون ، وروي عنه بكسر الحاء ٢ / ١٣٧.

(١٥) من قوله تعالى : «أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى» [يونس : ٣٥]. انظر اللباب ٤ / ٢٩١ ـ ٢٩٢.

(١٦) في السبعة قال ابن مجاهد : (وقرأ عبيد عن أبي عمرو «لا يحطمنكم» ساكنة النون. وهو غلط) (٤٧٩) ـ

١٣١

يقال منه : حطمته ، ثم استعمل لكل كسر معناه ، والحطام : ما تكسر يبسا (١) وغلب على الأشياء التافهة ، والحطم : السائق السريع ، كأنه يحطم الإبل (٢) ، قال :

٣٩٤٠ ـ قد لفّها اللّيل بسواق حطم

ليس براعي إبل ولا غنم

ولا بجزّار ظهر وضم (٣)

والحطمة : من دركات النار ، ورجل حطمة للأكول (٤) ، تشبيها لبطنه بالنار (٥) ، كقوله :

٣٩٤١ ـ كأنّما في جوفه تنّور (٦)

وقوله : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) جملة حالية (٧).

فصل

قال الشعبي : كانت تلك النملة ذات جناحين (٨) ، فنادت (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) ، ولم تقل : ادخلن ، لأنها لما جعلت لهم قولا كالآدميين خوطبوا بخطاب الآدميين (٩) ، (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) لا يكسرنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ، فسمع (١٠) سليمان قولها ، وكان لا يتكلم خلق إلا حملت الريح ذلك فألقته في مسامع سليمان. فإن قيل : كيف يتصور الحطم من سليمان وجنوده ، وكانت الريح تحمل سليمان وجنوده على بساط بين السماء والأرض؟ قيل : كانت جنوده ركبانا وفيهم مشاة على الأرض تطوى بهم ، وقيل يحتمل أن يكون هذا قبل تسخير الله الريح لسليمان. وقال المفسرون : علم النمل أن سليمان نبي ليس فيه جبرية ولا (١١) ظلم ، ومعنى الآية : أنكم لو لم تدخلوا

__________________

ـ وفي الهامش : قال أبو علي الفارسي معلقا على قول ابن مجاهد : إن هذه القراءة غلط ؛ يريد أنها غلط من طريق الرواية لا أنها لا تتجه في العربية.

(١) في ب : يعسا.

(٢) انظر اللسان (حطم).

(٣) رجز يروى للحطم القيسّي ، أو أبي زغبة الخزرجي ، أو رشيد بن رميض العنزيّ. وهو في الكتاب ٣ / ٢٢٣ ، المقتضب ٢ / ١٩٣ ، ٣ / ٣٢٣ ، الكامل ٢ / ٤٩٤ ، ٤٩٩ ، ٣ / ١٢٣٠ ، المخصص ٥ / ٢٢ ، ابن يعيش ٦ / ١١٣ ، اللسان (حطم). الحطم : الشديد السوق للإبل ، كأنه يحطم ما مر عليه لشدة سوقه.

وهو موطن الشاهد هنا. الوضم : كل ما قطع عليه اللحم.

وفيه شاهد آخر ، وهو نعت (سواق) ب (حطم) ، لأنه نكرة ، وليس بمعدول عن فاعل إلا في باب المعرفة ، نحو : عمر وزفر.

(٤) في ب : أي : أكول.

(٥) انظر اللسان (حطم).

(٦) شطر بيت لم أعثر له على سابق أو لاحق ، ولم أهتد إلى قائله ، وهو في المفردات في غريب القرآن (١٢٣).

(٧) انظر البحر المحيط ٧ / ٦٢.

(٨) انظر البغوي ٦ / ٢٦٧.

(٩) المرجع السابق.

(١٠) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٦ / ٢٦٧.

(١١) لا : سقط من ب.

١٣٢

مساكنكم وطئوكم ولم يشعروا بكم ، وروي أن سليمان لما دخل (١) وادي النمل حبس جنده ، حتى دخل النمل بيوتهم (٢). قال أهل المعاني : في كلام هذه النملة أنواع من البلاغة : نادت ، ونبّهت ، وسمت ، وأمرت ، ونصت ، وحذرت ، وخصت ، وعمت ، وأشارت ، وأعذرت (٣) ، ووجهه : نادت : «يا» نبهت : «ها» (٤) سمت : «النمل» ، أمرت «ادخلوا» ، نصت : «مساكنكم» ، حذرت : (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) ، خصت : «سليمان» ، عمت : و (٥) «جنوده» ، أشارت : «وهم» ، أعذرت : (لا يَشْعُرُونَ).

قوله : «ضاحكا» قيل : هي حال مؤكدة (٦) لأنها مفهومة من (تبسم) ، وقيل : بل هي حال مقدرة ، فإن التبسم ابتداء الضحك ، وقيل : لما كان التبسم قد يكون للغضب ، ومنه : تبسّم تبسّم الغضبان ، أي تضاحكا مسببا له ، قال عنترة :

٣٩٤٢ ـ لمّا رآني قد قصدت أريده

أبدى نواجذه لغير تبسّم (٧)

وتبسّم : تفعّل بمعنى بسم المجرّد ، قال :

٣٩٤٣ ـ وتبسم عن ألمى كأنّ منوّرا

تخلّل حرّ الرّمل دعص له ندي (٨)

وقال بعض المولدين :

٣٩٤٤ ـ كأنّما تبسم عن لؤلؤ

منضّد أو برد أو أقاح (٩)

وقرأ ابن السميفع : «ضحكا» مقصورا (١٠) ، وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مصدر مؤكد معنى تبسم ، لأنه بمعناه (١١).

__________________

(١) في ب : بلغ.

(٢) آخر ما نقله هنا البغوي ٦ / ٢٦٧.

(٣) وأعذرت : سقط من ب.

(٤) في ب : ما.

(٥) في ب : وعمت.

(٦) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ١١٢ ، التبيان ٢ / ١٠٠٦.

(٧) البيت من بحر الكامل ، وهو من معلقة عنترة ، وهو في شرح السبع الطوال لابن الأنباري (٣٥٠) ، الحماسة البصرية ٢ / ٧٩ ، يقول : ليس إبداؤه نواجذه للضحك إنما لكراهة منه وخشية من الموت.

وهذا موطن الشاهد.

(٨) البيت من الطويل ، وهو من معلقة طرفة بن العبد ، وهو في ديوانه (٢١) والسبع الطوال ١٤٣ ـ ١٤٤ ، اللسان (لما) ، البحر المحيط ٧ / ٥١. قوله : عن ألمى : أي عن ثغر ألمى ، فاكتفى بالنعت عن المنعوت. الألمى : أسمر الشفتين. المنور : النبات ذو الزهر. حرّ الرمل : أحسنه لونا ، الدّعص : كثيب الرمل. النّدي : الذي في أسفله الماء. والشاهد فيه قوله : (تبسم). فإنه من الثلاثي (بسم) وهو بمعنى (تبسّم).

(٩) البيت من بحر السريع ، قاله البحتري ، وهو في ديوانه ١ / ٤٣٥ ، المصون (٧٩) ، معاهد التنصيص ١ / ١٦٤ ، المنضّد : المنظم. البرد : حبيبات الثلج النازلة عن الغمام. الأقاح : جمع أقحوان ، وهو نوع من الورود. والشاهد فيه قوله : (تبسم) فإنه من الثلاثي (بسم).

(١٠) المحتسب ٢ / ١٣٩ ، البحر المحيط ٧ / ٦٢.

(١١) المرجعان السابقان.

١٣٣

والثاني : أنه في موضع الحال ، فهو في المعنى كالذي قبله (١).

الثالث : أنه اسم فاعل كفرح ، وذلك لأن فعله على فعل بكسر العين ، وهو لازم ، فهو كفرح وبطر (٢). قوله : (أَنْ أَشْكُرَ) مفعول ثان ل «أوزعني» ، لأن معناه : ألهمني ، وقيل (٣) معناه : اجعلني أزع شكر نعمتك ، أي : أكفه وأمنعه حتى لا ينفلت مني ، فلا أزال شاكرا (٤) ، وتفسير الزجاج له بامنعني أن أكفر نعمتك (٥) من باب تفسير المعنى باللازم.

فصل

قال الزجاج أكثر ضحك الأنبياء التبسم (٦) ، وقوله : «ضاحكا» أي : مبتسما ، وقيل : كان أوله التبسم وآخره الضحك (٧) ، قال مقاتل : كان ضحك سليمان من قول النملة تعجبا ، لأن الإنسان إذا رأى ما لا عهد له به تعجب وضحك (٨) ، وإنما ضحك لأمرين :

أحدهما : إعجابه بما دل من قولها على ظهور رحمته ورحمة جنوده وعلى شهرة حاله وحالهم في التقوى ، وهو قولها : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ).

والثاني : سروره بما آتاه الله ما له يؤت أحدا ، من سمعه كلام النملة وإحاطته بمعناه (٩). ثم حمد سليمان ربه على ما أنعم عليه ، فقال : (رَبِّ أَوْزِعْنِي) ألهمني. (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ).

وهذا يدل على أن دخول الجنة برحمته وفضله ، لا باستحقاق العبد (١٠) ، والمعنى : أدخلني في جملتهم ، وأثبت اسمي في أسمائهم واحشرني في زمرتهم ، قال ابن عباس : يريد مع إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم من النبيين (١١). فإن قيل : درجات الأنبياء أفضل من درجات الأولياء والصالحين ، فما السبب في أن الأنبياء يطلبون جعلهم من الصالحين ، فقال يوسف (١٢) : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف : ١٠١] ، وقال سليمان : (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ)؟.

فالجواب : الصالح الكامل هو الذي لا يعصي الله ولا يهم بمعصية ، وهذه درجة عالية (١٣).

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٧ / ٦٢.

(٢) انظر التبيان ٢ / ١٠٠٦.

(٣) في ب : وفعل. وهو تحريف.

(٤) انظر الكشاف ٣ / ١٣٨.

(٥) انظر معاني القرآن وإعرابه ٤ / ١١٢ ـ ١١٣.

(٦) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ١١٢.

(٧) انظر البغوي ٦ / ٢٦٨.

(٨) المرجع السابق.

(٩) انظر الكشاف ٣ / ١٣٨ ، الفخر الرازي ٢٤ / ١٨٨.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٨٨.

(١١) انظر البغوي ٦ / ٢٦٨.

(١٢) في النسختين : إبراهيم. والتصويب من الفخر الرازي.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٨٨.

١٣٤

قوله تعالى : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ)(٢٥)

قوله تعالى : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ) الآية (تَفَقَّدَ الطَّيْرَ) : طلبها وبحث عنها ، والتفقد طلب ما فقد ، والمعنى طلب ما فقد من الطير ، واختلفوا فيما تفقده من أجله ، فقيل : لأنه أخل بالنوبة التي كان ينوبها (١) ، وقيل : لأن هندسة الماء كانت لديه ، وكان يرى الماء تحت الأرض كما يرى في الزجاجة وكان يعرف قربه وبعده في عمق الأرض (٢). قال سعيد بن جبير : لما ذكر ابن عباس هذا قال له نافع بن الأزرق : يا وصاف ، انظر ما يقول : إن الصبي منا يضع الفخ ويحثو عليه التراب ، فيجيء الهدهد ولا يبصر الفخ ، حتى يقع في عنقه ، فقال له ابن عباس : ويحك إذا نزل القضاء والقدر ذهب اللب وعمي البصر (٣) ، وهذا القول فيه نظر ، لأن الجن أعرف بالأرض من الهدهد ، فإنهم سكانها ، وقيل : لأنه كان يظله من الشمس (٤).

قوله : (ما لِيَ (٥) لا أَرَى الْهُدْهُدَ) ، هذا استفهام توقيف (٦) ولا حاجة إلى ادعاء القلب وأن الأصل : ما للهدهد لا أراه (٧)؟ إذ المعنى قوي دونه ، والهدهد معروف ، وتصغيره على هديهد ، وهو القياس ، وزعم بعض النحويين أنه تقلب ياء تصغيره ألفا ، فيقال : هداهد ، وأنشد :

٣٩٤٥ ـ كهداهد كسر الرّماة جناحه

يدعو بقارعة الطّريق هديلا (٨)

كما قالوا : دوابّة وشوابّة ، في : دويبة وشويبة ، ورده بعضهم بأن الهداهد الحمام الكثير ترجيع الصوت (٩). تزعم العرب أن جارحا في زمن الطوفان اختطف فرخ حمامة

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٨٩.

(٢) انظر البغوي ٦ / ٢٦٩.

(٣) المرجع السابق.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٨٩.

(٥) لي : سقط من ب.

(٦) يريد استفهاما حقيقيّا يقصد منه السؤال عما يسأل عنه.

(٧) انظر القرطبي ١٣ / ١٧٩.

(٨) البيت من بحر الكامل ، قاله النميري ، وهو في الخصائص ٢ / ٩٥ ، المفضليات (٤٥٧) المقرب (٤٣٦) ، جمهرة القرشي (١٧٥) ، اللسان (هدد ، هدل) ، البحر المحيط ٧ / ٥١. الهديل فالمراد به هنا صوت الهدهد. والشاهد فيه أن (هداهد) تصغير (هدهد) بقلب ياء التصغير ألفا.

(٩) انظر المقرب (٤٣٦ ـ ٤٣٧) ، اللسان (هدد).

١٣٥

تسمى الهديل ، قالوا : فكل حمامة تبكي فإنما تبكي على الهديل (١).

قوله : (أَمْ كانَ) ، هذه «أم» المنقطعة ، وتقدم الكلام فيها ، وقال ابن عطية : قوله : (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) مقصد الكلام : الهدهد غاب ، ولكنه أخذ اللازم عن مغيبه وهو أن لا يراه ، فاستفهم على جهة التوقيف (٢) عن اللازم ، وهذا ضرب من الإيجاز ، والاستفهام الذي في قوله (ما لِيَ) ناب مناب الألف التي تحتاجها «أم» (٣) ، قال أبو حيان : فظاهر كلامه أن «أم» متصلة ، وأن الاستفهام الذي في قوله : (ما لِيَ) ناب مناب ألف الاستفهام ، فمعناه : أغاب عني الآن فلم أره حال التفقد أم كان ممن غاب قبل ، ولم أشعر بغيبته؟ (٤).

قال شهاب الدين : ولا يظن بأبي محمد (٥) ذلك ، فإنه لا يجهل أن شرط المتصلة تقدم همزة الاستفهام أو التسوية لا مطلق الاستفهام (٦).

قوله : «عذابا» ، أي تعذيبا ، فهو اسم مصدر أو مصدر على حذف الزوائد ك (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] ، وقد كتبوا : (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) بزيادة ألف بين لام ألف والذال ، ولا يجوز أن تقرأ بها ، وهذا كما تقدم أنهم كتبوا : (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) [التوبة : ٤٧] بزيادة ألف بين لام ألف والواو (٧).

قوله : (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي) ، قرأ ابن كثير بنون التوكيد المشددة بعدها نون الوقاية ، وهذا هو الأصل ، واتبع مع ذلك رسم مصحفه ، والباقون بنون مشددة فقط (٨) ، والأظهر أنها نون التوكيد الشديدة ، توصّل بكسرها لياء المتكلم ، وقيل : بل هي نون التوكيد الخفيفة أدغمت في نون الوقاية ، وليس بشيء لمخالفة الفعلين قبله ، وعيسى بن عمر بنون مشددة مفتوحة لم يصلها بالياء (٩).

فصل

قال المفسرون : معنى الآية : ما للهدهد لا أراه ، تقول العرب : ما لي أراك كئيبا؟ فقال : ما لي لا أرى الهدهد ، على تقدير أنه مع جنوده وهو لا يراه ، ثم أدركه الشك في غيبته فقال : أم كان من الغائبين ، يعني أكان من الغائبين؟ والميم صلة (١٠) ، وقيل : أم

__________________

(١) انظر اللسان (هدل).

(٢) في ب : الوقف.

(٣) تفسير ابن عطية ١١ / ١٨٩.

(٤) البحر المحيط ٧ / ٦٤.

(٥) تفسير ابن عطية ١١ / ١٨٩.

(٦) الدر المصون ٥ / ١٨٥.

(٧) انظر تأويل مشكل القرآن (٥٨).

(٨) السبعة (٤٧٩) ، الكشف ٢ / ١٥٤ ـ ١٥٥ ، النشر (٣٣٧) ، الإتحاف (٣٣٥).

(٩) قال ابن خالويه : (أو ليأتينّن بسلطان عيسى بن عمر) المختصر (١٠٨ ـ ١٠٩) وما ذكره المؤلف في البحر المحيط ٧ / ٦٥.

(١٠) انظر البغوي ٦ / ٢٦٩.

١٣٦

بمعنى بل ، ثم أوعد على غيبته ، فقال : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) ، فقيل : بنتف ريشه ووضعه لهوام الأرض ، وقيل : بحبسه في القفص ، وقيل : بأن يفرق بينه وبين إلفه ، وقيل : بحبسه مع ضده ، (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) حجّة ظاهرة (١).

قوله : «فمكث» قرأ عاصم بفتح الكاف ، والباقون بضمها (٢) ، وهما لغتان ، إلا أن الفتح أشهر ، ولذلك جاءت الصفة (٣) على ماكث ، دون مكيث (٤) ، واعتذر عنه بأن فاعلا قد جاء لفعل بالضم ، نحو : حمض فهو حامض ، وخثر فهو خاثر ، وفره فهو فاره.

قوله : (غَيْرَ بَعِيدٍ) ، يجوز أن يكون صفة للمصدر ، أي مكثا غير بعيد ، وللزمان أي : زمانا غير بعيد (٥) ، وللمكان أي : مكانا غير بعيد (٦) ، والظاهر أن الضمير في مكث للهدهد (٧) ، وقيل : لسليمان (٨) ـ عليه‌السلام (٩) ـ فقال : (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) ، والإحاطة : العلم بالشيء من جميع جهاته ، يقول : علمت ما لم تعلم ، وبلغت ما لم تبلغه أنت ولا جنودك.

قوله : (مِنْ سَبَإٍ) ، قرأ البزّيّ (١٠) ، وأبو عمرو بفتح الهمزة (١١) ، جعلاه اسما للقبيلة أو البقعة ، فمنعاه من الصرف للعلمية والتأنيث ، وعليه قوله :

٣٩٤٦ ـ من سبأ الحاضرين مأرب إذ

يبنون من دون سيله العرما (١٢)

وقرأ قنبل بسكون الهمزة (١٣) ، كأنه نوى الوقف وأجرى الوصل مجراه ، والباقون بالجر والتنوين (١٣) ، جعلوه اسما للحيّ أو المكان ، وعليه قوله :

٣٩٤٧ ـ الواردون وتيم في ذرى سبأ

قد عضّ أعناقهم جلد الجواميس (١٤)

__________________

(١) المرجع السابق ٦ / ٢٧٠.

(٢) السبعة (٤٨٠) ، الكشف ٢ / ١٥٥ ، النشر (٣٣٦) ، الإتحاف (٣٣٥).

(٣) يقصد اسم الفاعل من هذا الفعل.

(٤) انظر الكشف ٢ / ١٥٥.

(٥) انظر البيان ٢ / ٢٢٠.

(٦) انظر التبيان ٢ / ١٠٠٦.

(٧) انظر البحر المحيط ٧ / ٦٥.

(٨) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ١٩٠ ، القرطبي ١٣ / ١٨٠.

(٩) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٠) في الأصل : اليزيدي.

(١١) السبعة (٤٨٠) ، الكشف ٢ / ١٥٥ ، النشر (٣٣٧) ، الإتحاف (٣٣٥).

(١٢) البيت من بحر المنسرح ، قاله النابغة الجعدي ، وهو في الكتاب ٣ / ٢٥٣ ، الكشاف ٣ / ١٣٩ ، تفسير ابن عطية ١١ / ١٩١ ، الإنصاف ٢ / ٥٠٢ ، القرطبي ١٣ / ١٨١ ، اللسان (سبأ ، عرم).

(١٣) السبعة (٤٨٠) ، الكشف ٢ / ١٥٥ ، النشر (٣٣٧) ، الإتحاف (٣٣٥ ـ ٣٣٦).

(١٤) البيت من بحر البسيط ، قاله جرير في هجاء عمرو بن لجأ التيمي ، وهو في معاني القرآن للفراء ٢ / ١٣٩ ، تفسير ابن عطية ١١ / ١٩١ ، أمالي ابن الشجري ٢ / ٣٨ ، ٣٤٣ ، القرطبي ١٣ / ١٨١ ، البحر المحيط ٧ / ٦٦ معنى : (عض أعناقهم جلد الجواميس) : أن الجلود المصنوعة من جلد الجواميس قد أثرت في أعناقهم.

والشاهد فيه هنا أن (سبأ) جعل اسما للحي أو المكان ، ولهذا صرف.

١٣٧

وهذا الخلاف جار بعينه في سورة سبأ (١).

وفي قوله : (مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ) فيه من البديع التجانس ، وهو : تجنيس التصريف ، وهو عبارة عن انفراد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف (٢) كهذه الآية ، ومثله : (تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ)(٣).

وفي الحديث : «الخيل معقود بنواصيها الخير» (٤) ، وقال آخر :

٣٩٤٨ ـ لله ما صنعت بنا

تلك المعاجر والمحاجر (٥)

وقال الزمخشري : وقوله (مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ) من جنس الكلام الذي سماه المحدثون (٦) البديع ، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ بشرط أن يجيء مطبوعا ، أو يصنعه عالم بجوهر هذا الكلام ، يحفظ معه صحة المعنى وسداده ، ولقد جاء هنا زائدا على الصحة ، فحسن وبدع لفظا ومعنى ، ألا ترى أنه لو وضع مكان : «بنبأ» : «بخبر» لكان المعنى صحيحا ، وهو كما جاء أصح لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال (٧).

يريد بالزيادة : أن النبأ أخص من الخبر ، لأنه لا يقال إلا فيما له شأن من الأخبار ، بخلاف الخبر ، فإنه يطلق على ما له شأن ، وعلى ما لا شأن له ، فكلّ نبأ خبر من غير عكس. وبعضهم يعبر عن نحو : (مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ) في علم البديع بالترديد ، قاله صاحب التحرير (٨) ، وقال غيره (٩) : إن الترديد عبارة عن رد أعجاز البيوت على صدورها ، أو ردّ كلمة من النصف الأول إلى النصف الثاني ، فمثال الأول قوله :

٣٩٤٩ ـ سريع إلى ابن العمّ يلطم وجهه

وليس إلى داعي الخنا بسريع (١٠)

__________________

(١) يشير إلى قوله تعالى :«لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ» [سبأ : ١٥].

(٢) انظر الإيضاح (٣٩٦ ـ ٣٩٧.

(٣) [غافر : ٧٥].

(٤) أخرجه البخاري (مناقب) ٢ / ٦٨٣ ، مسلم (زكاة) ٢ / ٦٨٣ ، (إمارة) ٣ / ١٤٩٢ ـ ١٤٩٣ ، أبو داود (جهاد) ٢ / ٩٣٣. ومالك (جهاد) ٢ / ٤٦٧ ، أحمد ٣ / ٣٩ ، ٥ / ١٨١.

(٥) البيت من مجزوء الكامل ، لم أهتد إلى قائله ، وهو في البحر المحيط ٧ / ٦٦. المعاجر : جمع معجر : وهو غطاء الرأس من المرأة والعمامة من الرجل. المحاجر : جمع ـ محجر ـ بكسر الميم وفتحها ـ : ما دار بالعين وظهر من البرقع من جميع العين. والشاهد فيه قوله : (المعاجر والمحاجر) فإنه جناس تصريف لاختلاف اللفظين في حرف واحد.

(٦) في النسختين : النحويون. والتصويب من الكشاف.

(٧) الكشاف ٣ / ١٣٩.

(٨) انظر البحر المحيط ٧ / ٦٦ ، وكتاب التحرير والتحبير لأقوال أئمة التفسير من جمع الشيخ جمال الدين أبي عبد الله محمد بن سليمان بن حسن بن حسين المقدسي ، عرف بابن النقيب ـ رحمه‌الله تعالى ـ هو أحد مصادر أبي حيان في كتابه البحر المحيط.

(٩) هو صاحب كتاب التفريع بفنون البديع. انظر البحر المحيط ٧ / ٦٦.

(١٠) البيت من بحر الطويل ، قاله الأقيشر الأسدي ، وهو في الإيضاح للقزويني (٤٠٠) ، البحر المحيط ٧ / ٦٦ ، معاهد التنصيص ٢ / ٨٢ ، الخزانة ٤ / ٤٨٨. ويروى : إلى داعي الندى. والخنا : من قبيح الكلام.

والشاهد فيه رد العجز على الصدر ، وهو قوله : (سريع ... بسريع.

١٣٨

ومثال الثاني قوله :

٣٩٥٠ ـ واللّيالي إذا نأيتم طوال

واللّيالي إذا دنوتم قصار (١)

وقرأ ابن كثير في رواية : «من سبا» مقصورا منونا (٢) ، وعنه أيضا : «من سبأ» بسكون الباء وفتح (٣) الهمزة (٤) ، جعله على فعل ومنعه من الصرف (٥) ، لما تقدم. وعن الأعمش : «من سبإ» بهمزة مكسورة غير منونة (٦) ، وفيها إشكال ؛ إذ لا وجه للبناء ، والذي يظهر أن تنوينها لا بد وأن يقلب ميما وصلا ، ضرورة ملاقاته للباء ، فسمعها الراوي ؛ فظن أنه كسر من غير تنوين (٧). وروي عن أبي عمرو : «من سبا» بالألف صريحة (٨) ، كقولهم : تفرقوا أيدي سبا (٩). وكذلك قرىء «بنبا» بألف خالصة (١٠) ، وينبغي أن يكونا لقارىء واحد (١١) وسبأ في الأصل : اسم رجل من قحطان ، واسمه: عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، وسبأ لقب له ، وإنما لقب به : لأنه أول من سبأ(١٢).

قوله : (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) لما قال الهدهد لسليمان : (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) ، قال سليمان : وما ذاك؟ قال : (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) وكان اسمها بلقيس بنت شراحيل ، وكان أبوها ملك أرض اليمن من نسل يعرب بن قحطان ، وكان ملكا عظيم الشأن ، وكان يقول لملوك الأطراف : ليس أحد منكم كفؤا لي ، وأبى أن يتزوج منهم فزوجوه امرأة من الجن يقال لها : ريحانة بنت السكن ، فولدت له بلقيس ولم يكن له ولد غيرها ، وفي الحديث : «إن أحد أبوي بلقيس كان جنّيا» وكانت هي وقومها مجوسا يعبدون الشمس (١٣) ، والضمير في «تملكهم» راجع إلى «سبأ» ، فإن أريد به القوم فالأمر ظاهر ، وإن أريد المدينة فمعناه : تملك (١٤) أهلها (١٥) ، (قال عليه‌السلام لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى : «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة») (١٦)(١٧).

__________________

(١) البيت من بحر الخفيف ، ولم أهتد إلى قائله ، وهو في البحر المحيط ٧ / ٦٦.

(٢) المختصر (١٠٩) ، البحر المحيط ٧ / ٦٦.

(٣) في ب : وبفتح.

(٤) ذكره أبو معاذ. انظر المختصر (١٠٩) ، البحر المحيط ٧ / ٦٦.

(٥) قال أبو حيان : (بناه على فعلى فامتنع من الصرف للتأنيث اللازم) البحر المحيط ٧ / ٦٦.

(٦) المختصر (١٠٩) ، تفسير ابن عطية ١١ / ١٩١.

(٧) قال أبو حيان : (يصعب توجيهها) البحر المحيط ٧ / ٦٦.

(٨) قال أبو حيان : (وروى ابن حبيب عن اليزيدي «من سبا» بألف ساكنة ، كقولهم : تفرقوا أيدي سبا) البحر المحيط ٧ / ٦٦.

(٩) مجمع الأمثال للميداني ٢ / ٤.

(١٠) انظر البحر المحيط ٧ / ٦٦.

(١١) في النسختين : واحد. والصواب ما أثبته.

(١٢) انظر البحر المحيط ٧ / ٦٦.

(١٣) انظر البغوي ٦ / ٢٧٣.

(١٤) في ب : ملك.

(١٥) انظر الكشاف ٣ / ١٣٩.

(١٦) أخرجه البخاري ٤ / ٢٢٨ ، النسائي (قضاة) ٨ / ٢٢٧.

(١٧) ما بين القوسين سقط من ب.

١٣٩

قوله : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يجوز أن يكون معطوفا على «تملكهم» ، وجاز عطف الماضي على المضارع ، (لأن المضارع) (١) بمعناه ، أي : ملكتهم ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال من مرفوع «تملكهم». و «قد» معها مضمرة (٢) عند من يرى ذلك.

وقوله : (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) عام مخصوص بالعقل ؛ لأنها لم تؤت ما أوتيه سليمان. قوله : (وَلَها عَرْشٌ) يجوز أن تكون هذه جملة مستقلة بنفسها سيقت للإخبار بها ، وأن تكون معطوفة على «أوتيت» ، وأن تكون حالا من مرفوع «أوتيت» ، والأحسن أن يجعل الحال الجارّ ، «وعرش» مرفوع به ، وبعضهم يقف على «عرش» ويقطعه عن نعته. قال الزمخشري : ومن نوكى (٣) القصّاص من يقف على قوله : (وَلَها عَرْشٌ) ، ثم يبتدىء : (عَظِيمٌ وَجَدْتُها) ، يريد : أمر عظيم أن وجدتها ، فرّ من استعظام الهدهد عرشها ، فوقع في عظيم ، وهي مسخ كتاب الله (٤).

قال شهاب الدين : النّوكى : الحمقى جمع أنوك وهذا الذي ذكره من أمر الوقف نقله الدّاني (٥) عن نافع (٦) وقرره أبو بكر بن الأنباري ورفعه إلى بعض أهل العلم (٧) ، فلا ينبغي أن يقال (نوكى القصّاص) ، وخرجه الداني على أن يكون «عظيم» مبتدأ ، و «وجدتها» الخبر (٨) ، وهذا خطأ ، كيف يبتدىء بنكرة من غير مسوّغ ، ويخبر عنها بجملة لا رابط بينها وبينه ، والإعراب ما قاله الزمخشري من أن عظيما (٩) صفة لمحذوف خبرا مقدما ، و «وجدتها» مبتدأ مؤخرا مقدرا معه حرف مصدري أي: أمر عظيم وجداني إياها وقومها غير عابدي الله (١٠).

قوله : «وجدتها» ، هي التي بمعنى (١١) لقيت وأصبت ، فيتعدى لواحد ، فيكون «يسجدون» حالا من مفعولها وما عطف عليه ، فإن قيل : كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان ، وأيضا : فكيف سوّى بين عرش بلقيس وعرش الله في الوصف بالعظم؟.

فالجواب عن الأول : يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان ، فاستعظم لها (١٢) ذلك العرش ويجوز أن يكون لسليمان ـ مع جلالته ـ مثله كما قد يكون لبعض الأمراء شيء لا يكون مثله للسلطان.

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من ب.

(٢) انظر التبيان ٢ / ١٠٠٧.

(٣) النوكى : الحمقى. اللسان (نوك.

(٤) الكشاف ٣ / ١٤٠.

(٥) في ب : الثاني. وهو تحريف.

(٦) انظر المكتفى في الوقف والابتدا (٤٢٧).

(٧) انظر إيضاح الوقف والابتداء ٢ / ٨١٥ ـ ٨١٦.

(٨) انظر المكتفى في الوقف والابتداء (٤٢٨) وفيه : قال المقرىء أبو عمرو : فيرتفع قوله : «عظيم» على هذا المذهب بالابتداء ، والخبر في قوله «وجدتها».

(٩) في ب : عظيم.

(١٠) الدر المصون ٥ / ١٨٧ ، وانظر الكشاف ٣ / ١٤٠.

(١١) بمعنى : سقط من ب.

(١٢) لها : سقط من ب.

١٤٠