اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٤

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٤

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

ههنا (١) يعني أنه في المعنى يؤول إلى ذلك ولا يؤول إليه البتة (٢).

الثالث : أنها للتبعيض (٣). وقد غلّط ابن عطية القائل بكونها للتبعيض فقال : ومن قال إن «من» للتبعيض قلب معنى الآية فأفسده (٤). وقد يمكن التبعيض فيها بأن معنى الرجس (٥) عبادة الأوثان ، وبه قال ابن عباس وابن جريج فكأنه (٦) قال : فاجتنبوا من الأوثان الرجس وهو العبادة لأن المحرم من الأوثان إنما هو العبادة ، ألا ترى أنه قد يتصور استعمال الوثن في بناء وغيره مما لم يحرم الشرع (٧) استعماله ، فللوثن جهات منها عبادتها وهي بعض جهاتها. قاله أبو حيان (٨). والأوثان جمع وثن ، والوثن يطلق على ما صوّر من نحاس وحديد وخشب (٩) ويطلق أيضا على الصليب ، قال عليه‌السلام (١٠) لعدي بن حاتم وقد رأى في عنقه صليبا : «ألق هذا الوثن عنك» (١١). وقال الأعشى :

٣٧٦٣ ـ يطوف العفاة بأبوابه

كطوف النّصارى ببيت الوثن (١٢)

واشتقاقه من وثن الشيء ، أي أقام بمكانه وثبت فهو واثن ، وأنشد لرؤبة :

٣٧٦٤ ـ على أخلّاء الصّفاء الوثّن (١٣)

أي : المقيمين على العهد ، وقد تقدم الفرق بين الوثن والصّنم (١٤).

فصل

قال المفسرون : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) أي ؛ عبادتها ، أي : كونوا على جانب منها فإنها رجس ، أي سبب الرجس وهو العذاب ، والرجس بمعنى الرجز (١٥).

__________________

(١) التبيان ٣ / ٩٤١.

(٢) الدر المصون ٥ / ٧٣.

(٣) والقائل بأنها للتبعيض الأخفش فإنه قال في معاني القرآن : (وقال : «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ» وكلها رجس ، والمعنى : فاجتنبوا الرجس الذي يكون منها ، أي عبادتها) ٢ / ٦٣٧.

(٤) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٧٣.

(٥) في الأصل : بالرجس. وهو تحريف.

(٦) في الأصل : كأنه.

(٧) في ب : السرع. وهو تحريف.

(٨) البحر المحيط ٦ / ٣٦٦.

(٩) اللسان (وثن).

(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١١) أخرجه الترمذي (تفسير) ٥ / ٢٧٨ ، وانظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير ٥ / ١٥١.

(١٢) البيت من بحر المتقارب ، قاله الأعشى ، وهو في ديوانه (٢٠٩) واللسان (وثن) ، والبحر المحيط ٦ / ٢٤٧. العفاة : السائلون. والشاهد فيه أنه أراد بالوثن الصليب.

(١٣) وجز لرؤبة وهو في ديوانه (١٦٣) ، اللسان (وثن) ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٧. أخلاء : جمع خليل ، وهو المحب الدي ليس في محبته خلل.

الصفاء : ضد الكدر ، وهو مصدر الشيء الصافي.

الوثّن : المقيمون على العهد. وهو موطن الشاهد هنا.

(١٤) عند قوله تعالى :«وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً» [الأنعام : ٧٤].

(١٥) انظر البغوي ٥ / ٥٨٠. وفي اللسان (رجس) : والرجس : العذاب كالرجز. التهذيب : وأما الرجز فالعذاب والعمل الذي يؤدي إلى العذاب. والرجس في القرآن : العذاب كالرجز.

٨١

وقال الزجاج : «من» ههنا للتجنيس (١) ، أي اجتنبوا الأوثان التي هي الرجس (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ). واعلم أنه تعالى (٢) لما حثّ على تعظيم حرماته أتبعه بالأمر باجتناب الأوثان وقول الزور ، لأن توحيد الله وصدق القول أعظم الحرمات ، وإنما جمع الشرك وقول الزور في سلك واحد ، لأن الشرك من باب الزور ، لأن المشرك زاعم أن الوثن يحق له العبادة فكأنه قال : فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور واجتنبوا قول الزور كله ، ولا تقربوا (٣) شيئا منه ، وما ظنك بشيء من قبيله عبادة الأوثان (٤). وسمى الأوثان رجسا لا للنجاسة لكن لأن وجوب تجنبها أوكد من وجوب تجنب الرجس ، ولأن عبادتها أعظم من التلوث بالنجاسات. قال الأصمّ : إنما وصفها بذلك لأن عادتهم في القربان أن يتعمدوا سقوط الدماء عليها. وهذا بعيد ، وإنما وصفها بذلك استحقارا واستخفافا (٥).

والزور (٦) من الازورار وهو الانحراف كما أن الإفك (٧) (من أفكه إذا صرفه) (٨) وذكر المفسرون في قول الزور وجوها :

الأول : قولهم : هذا حلال وهذا حرام ، وما أشبه ذلك.

والثاني : شهادة الزور ؛ لأن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ صلى الصبح فلما سلم قام قائما ، واستقبل الناس بوجهه ، وقال : «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله» وتلا هذه الآية (٩).

الثالث : الكذب والبهتان.

الرابع : قول أهل الجاهلية في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك(١٠).

قوله : (حُنَفاءَ لِلَّهِ) حال من فاعل «اجتنبوا» (١١) ، وكذلك (غَيْرَ مُشْرِكِينَ)(١٢)

__________________

(١) قال الزجاج :(«من» ههنا لتخليص جنس من أجناس المعنى فأجتنبوا الرجس الذي هو الوثن) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤٢٥.

(٢) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٣٢.

(٣) في ب : ولا تقولوا. وهو تحريف.

(٤) في الأصل بعد قوله : (عبادة الأوثان) كرر قوله : التي هي رأس الزور واجتنبوا قول الزور كله.

(٥) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٣٢.

(٦) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٣٢ ـ ٣٣.

(٧) في النسختين : الإبل. والصواب ما أثبته.

(٨) ما بين القوسين بياض في الأصل ، وسقط من ب. والتكملة من الفخر الرازي.

(٩) أخرجه الترمذي (شهادات) ٤ / ٥٤٧ ، أبو داود (أقضية) ٤ / ٥٢٤ ابن ماجه (أحكام) ٢ / ٩٧٤ ، أحمد ٤ / ١٧٨ ، ٢٣٣ ، ٣٢١ ، ٣٢٢.

(١٠) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٣٢ ـ ٣٣.

(١١) في ب : اختلفوا. وهو تحريف.

(١٢) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٧٤ ، وجوز ابن عطية أن يكون قوله : «غَيْرَ مُشْرِكِينَ» صفة لقوله «حنفاء».

٨٢

وهي (١) حال مؤكدة إذ يلزم من كونهم «حنفاء» عدم الإشراك أي مخلصين له ، أي تمسكوا بالأوامر والنواهي على وجه العبادة لله (٢) وحده لا على وجه إشراك غير الله به ، فلذلك قال (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ). ثم قال : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ) أي : سقط من السماء إلى الأرض.

قوله : «فتخطفه». قرأ نافع بفتح الخاء والطاء مشددة (٣) ، وأصلها تختطفه (٤) فأدغم (٥). وباقي السبعة «فتخطفه» بسكون الخاء وتخفيف الطاء (٦). وقرأ الحسن (٧) والأعمش وأبو رجاء بكسر التاء والخاء والطاء مع التشديد (٨). وروي عن الحسن أيضا (٩) بفتح الطاء مشددة مع كسر التاء والخاء (٧). وروي عن الأعمش كقراءة العامة إلا أنه بغير فاء «تخطفه» (٧) وتوجيه هذه القراءات قد تقدم في أوائل البقرة عند قوله : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ)(١٠). وقرأ أبو جعفر «الرياح» جمعا (١١).

وقوله : «خرّ» في معنى (تخر) ، ولذلك عطف عليه المستقبل وهو «فتخطفه» (١٢).

ويجوز أن يكون على بابه ولا يكون «فتخطفه» عطفا عليه بل هو خبر مبتدأ مضمر أي : فهو تخطفه (١٣). قال الزمخشري : يجوز في هذا التشبيه أن يكون من (١٤) المركب (١٥) والمفرق (١٦) فإن كان تشبيها مركبا ، فكأنه قال : من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس وراءه هلاك بأن صور حاله بصورة حال من خرّ من السماء فاختطفته

__________________

(١) في الأصل : وهو.

(٢) لله : سقط من الأصل.

(٣) السبعة (٤٣٦) ، الكشف ٢ / ١١٩ ، النشر ٢ / ٣٢٦ ، الإتحاف (٣١٥).

(٤) في الأصل : تخطفه. وهو تحريف.

(٥) أي أن أصل (تخطّفه) بتشديد الطاء (تختطفه) نقلت حركة التاء إلى الخاء وقلبت التاء طاء وأدغمت الطاء في الطاء فصارت (تخطفه). الممتع ٢ / ٧٢ ـ ٧١٣ ، شرح الشافية ٣ / ٢٨٥.

(٦) أي أنه مضارع (خطف). السبعة (٤٣٦) ، الكشف ٢ / ١١٩ ، النشر ٢ / ٣٢٦ ، الإتحاف ٣١٥.

(٧) الحسن : سقط من ب.

(٨) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٧٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٦.

(٩) أيضا : سقط من ب.

(٧) الحسن : سقط من ب.

(٧) الحسن : سقط من ب.

(١٠) «يخطف» : سقط من ب. [البقرة : ٢٠].

(١١) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٧٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٦.

(١٢) انظر التبيان ٢ / ٩٤١.

(١٣) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٧٥.

(١٤) من : مكرر في الأصل.

(١٥) التشبيه المركب : ما كان وجه الشبه منتزعا من عدة أمور يجمع بعضها إلى بعض ثم يستخرج من مجموعها الشبه. انظر أسرار البلاغة (٧٣).

(١٦) التشبيه المفرق أو المفروق : هو أن يؤتى بمشبه ومشبه به ثم بمشبه ومشبه به أو بأكثر من ذلك كقول الشاعر :

النشر مسك والوجوه دنا

نير وأطراف الأكف عنم

بغية الإيضاح ٣ / ٥٥.

٨٣

الطير فتفرق مزعا (١) في حواصلها ، أو عصفت به الرياح حتى هوت به في بعض المطاوح (٢) البعيدة.

وإن كان مفرقا فقد شبه الإيمان في علوّه بالسماء ، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة ، والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلال بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة (٣). والسحيق البعيد ، ومنه : سحقه الله ، أي : أبعده ، ومنه قول عليه‌السلام (٤) : «سحقا سحقا» (٥) أي بعدا بعدا. والنخلة السحوق الممتدة في (٦) السماء من ذلك (٧).

قوله تعالى (٨) : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) الآية. إعراب «ذلك» كإعراب «ذلك» المتقدم (٩) وتقدم تفسير الشعيرة واشتقاقها في المائدة (١٠). والمعنى : ذلك الذي ذكرت من اجتناب الرجس ، وقول الزور (١١) ، وتعظيم شعائر الله من تقوى القلوب.

قال ابن عباس (١٢) : شعائر الله البدن والهدايا. وأصلها من الإشعار وهو إعلامها لتعرف أنها هدي ، وتعظيمها استحسانها واستسمانها. وقيل : شعائر الله أعلام دينه (١٣).

وقيل : مناسك الحج.

__________________

(١) مزعا : هو جمع مزعة ، وهو القطعة من اللحم ، أي تفرق قطعا من اللحم في حواصلها. انظر اللسان (مزع).

(٢) المطاوح : المقاذف. وطوحته الطوائح : قذفته القذائف. اللسان (طوح).

(٣) الكشاف ٣ / ٣١ ـ ٣٢.

(٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٥) أخرجه البخاري (فتن) ٤ / ٢٢١ ، مسلم (طهارة) ١ / ٢١٨ ، فضائل ٤ / ١٧٩٣ ، ابن ماجه (زهد) ٢ / ١٤٤٠ ، الموطأ (طهارة) ١ / ٣٠ ، أحمد ٢ / ٣٠٠ ، ٤٠٨ ، ٣ / ٢٨ ، ٥ / ٣٣٣ ، ٣٣٩.

(٦) في الأصل : من. وهو تحريف.

(٧) اللسان (سحق).

(٨) تعالى : سقط من الأصل.

(٩) في قوله تعالى : «ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ» من الآية (٣٠) من السورة نفسها.

(١٠) عند قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ» [المائدة : ٢]. وذكر هناك : قال ابن عباس ومجاهد: هي مناسك الحج ، وقال أبو عبيدة : شعائر الله هي الهدايا ، ثم عطف عليه الهدايا ، والمعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف عليه ، والشعائر جمع ، والأكثرون على أنه جمع شعيرة ، وقال ابن فارس : واحدها شعارة ، والشعيرة. فعيلة بمعنى مفعولة ، والشعيرة المعلمة ، والإشعار الإعلام ، وكل شيء علم فقد شعر ، وهو هنا أن يطعن في صفحة سنام البعير بحديدة حتى يسيل الدم ، فيكون ذلك علامة أنها هدي  ..... انظر اللباب ٣ / ٢٠٧.

(١١) انظر البغوي ٥ / ٥٨١.

(١٢) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٥٨١ ـ ٥٨٢.

(١٣) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٥٨١ ـ ٥٨٢.

٨٤

قوله : (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ). أي : فإن تعظيمها (١) من أفعال ذوي تقوى القلوب ، فحذفت هذه المضافات ، ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها ، لأنه لا بد من راجع من الجزاء إلى (من) ليرتبط به (٢) ، وإنما ذكرت القلوب (٣) ، لأن المنافق قد يظهر التقوى من نفسه وقلبه خال عنها ، فلهذا لا يكون مجدّا في الطاعات ، وأما المخلص الذي تمكنت التقوى من قلبه فإنه يبالغ في أداء الطاعات على سبيل الإخلاص (٤).

واعلم أن الضمير في قوله : (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه ضمير الشعائر على حذف مضافه ، أي : فإن تعظيمها من تقوى القلوب.

والثاني : أنه ضمير المصدر المفهوم من الفعل قبله (٥) ، أي : فإن التعظيم من تقوى القلوب والعائد على اسم الشرط من هذه الجملة الجزائية مقدر تقديره : فإنها من تقوى القلوب منهم. ومن جوّز إقامة (أل) (٦) مقام الضمير ـ وهم الكوفيون ـ ، أجاز ذلك هنا ، والتقدير : من تقوى قلوبهم (٧) كقوله : (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى)(٨). والعامة على خفض «القلوب» ، وقرىء برفعها ، فاعلة للمصدر قبلها وهو «تقوى» (٩).

قوله تعالى : (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)(٣٥)

قوله : (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ) أي : في الشعائر بمعنى الشرائع ، أي : لكم في التمسك

__________________

(١) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٣٣ ـ ٣٤.

(٢) في الأصل بعد قوله : ليرتبط به : إلى من. وفي ب : قال الزمخشري. قال أبو حيان : وما قدره عامر من راجع من الضمير من الجزاء إلى (من) ، ألا ترى أن قوله : فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب. ليس في شيء منه ضمير يرجع من الجزاء إلى (من) يربطه ، وإصلاحه أن يقول : فإن تعظيمها منه ، فالضمير في منه عائد على (من). البحر المحيط ٦ / ٣٦٨.

(٣) في ب : المقلوب. وهو تحريف.

(٤) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٣٣ ـ ٣٤.

(٥) في الأصل : قلبه. وهو تحريف.

(٦) في الأصل : إلى. وهو تحريف.

(٧) مذهب الكوفيين وجماعة من البصريين إقامة (ال) مقام الضمير ، وجعلوا منه قوله تعالى : «وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى» [النازعات : ٤١ ، ٤٢) الأصل : مأواه ، ومنع ذلك بعض البصريين ، وقالوا : التقدير : هي المأوى له. انظر التبيان ٢ / ٩٤١ ، المغني ٢ / ٥٠١ ـ ٥٠٢ ، الأشموني ١ / ١٩٥ ـ ١٩٦.

(٨) [النازعات : ٤١].

(٩) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٧٦ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٨.

٨٥

بها. وقيل : في بهيمة الأنعام ، وهو قول مجاهد وقتادة والضحاك. ورواه مقسم عن ابن عباس. وعلى هذا فالمنافع درها ونسلها وأصوافها وأوبارها وركوب ظهرها إلى أجل مسمى ، وهو أن يسميها ويوجبها هديا ؛ فإذا فعل ذلك لم يكن له شيء من منافعها (١).

وروي عن ابن عباس أن في البدن منافع مع تسميتها هديا بأن تركبوها إن احتجتم (٢) إليها ، وتشربوا لبنها إن احتجتم (٧) إليه ، إلى أجل مسمّى إلى أن تنحروها (٣). وهذا اختيار الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق ، وهو أولى ؛ لأن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مرّ برجل يسوق بدنة وهو في جهد ، فقال عليه‌السلام (٤) : «اركبها». فقال يا رسول الله إنها هدي. فقال : «اركبها ويلك» (٥). قال عليه‌السلام (٩) : «اركبوا الهدي بالمعروف حتى تجدوا ظهرا» (٦). واحتج أبو (٧) حنيفة (٨) على أنه لا يملك من منافعها بأنه لا يجوز له أن يؤجرها للركوب فلو كان مالكا لمنافعها لملك عقد الإجارة عليها كمنافع سائر المملوكات. وأجيب بأن هذا قياس في معارضة النص فلا عبرة به ، وأيضا فإن أم الولد لا يملك بيعها ويمكنه الانتفاع بها فكذا ههنا (٩). ومن حمل المنافع على سائر الواجبات يقول : (لَكُمْ فِيها) أي : في التمسك (١٠) بها منافع إلى أجل ينقطع التكليف عنده.

والأول قول جمهور (١١) المفسرين (١٢) لقوله : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي : لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم وأعظم هذه المنافع محلها إلى البيت العتيق ، أي : وقت وجوب نحرها منتهية إلى البيت كقوله (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ)(١٣)(١٤).

وقوله : «محلّها» يعني حيث يحل نحرها ، وأما (الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) فالمراد به الحرم كله لقوله : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا)(١٥) أي : الحرم كله ، فالمنحر على هذا القول مكة ، ولكنها نزهت عن الدماء إلى منى ، ومنى من مكة قال عليه‌السلام (١٦) :

__________________

(١) انظر البغوي ٥ / ٥٨٢.

(٢) في ب : احتجم. وهو تحريف.

(٧) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٢٤.

(٣) انظر البغوي ٥ / ٥٨٢.

(٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٥) أخرجه البخاري (حج) ١ / ٢٩٣ ، مسلم (حج) ٢ / ١٩٦٠ ، ابن ماجه (مناسك) ٢ / ١٠٣٦ ، الدارمي (مناسك) ٢ / ٦٦ ، أحمد ٢ / ٢٤٥ ، ٢٥٤ ، ٢٧٨ ، ٣١٢ ، ٤٦٤ ، ٤٧٣ ، ٤٧٤ ، ٤٨٧ ، ٥٠٥.

(٩) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٢٤.

(٦) أخرجه مسلم (حج) ٢ / ٩٦١ ، أبو داود (مناسك) ٢ / ٣٦٧ ، أحمد ٣ / ٣١٧ ، ٣٢٤ ، ٣٢٥ ، ٣٤٨.

(٧) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٢٤.

(٨) في ب : أبو حنيفة رضي الله عنه.

(٩) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٢٤.

(١٠) في ب : المتمسك.

(١١) جمهور : سقط من ب.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٤.

(١٣) [المائدة : ٩٥].

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٥.

(١٥) من قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا»[التوبة : ٢٨].

(١٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

٨٦

«كل فجاج مكة منحر ، (وكل فجاج منى منحر») (١)(٢). قال القفال : هذا إنما يختص بالهدايا التي تبلغ منى ، فأما الهدي المتطوع به إذا عطب قبل بلوغ مكة فإن محلها موضعه (٣).

ومن قال : الشعائر المناسك فإن (٤) معنى قوله : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي : محل الناس من إحرامهم إلى البيت العتيق أن يطوفوا به طواف الزيارة (يوم النحر) (٥)(٦).

قوله تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) الآية (٧). قرأ الأخوان (٨) هذا وما بعده (٩) «منسكا» بالكسر. والباقون بالفتح (١٠).

فقيل : هما بمعنى واحد ، والمراد بالمنسك مكان النسك أو المصدر (١١). وقيل : المكسور مكان(١٢) ، والمفتوح مصدر (١٣).

قال ابن عطية : والكسر في هذا من الشاذ ولا يسوغ فيه القياس ، ويشبه أن يكون الكسائي سمعه من العرب (١٤). قال شهاب الدين : وهذا الكلام منه غير مرضي ، كيف يقول : ويشبه أن يكون الكسائي سمعه. والكسائي يقول : قرأت به. فكيف يحتاج إلى سماع مع تمسكه بأقوى السماعات ، وهو روايته لذلك قرأنا متواترا. وقوله : من الشاذ : يعني قياسا لا استعمالا فإنه فصيح في الاستعمال ، وذلك أن فعل يفعل بضم العين في المضارع قياس الفعل منه أن يفتح عينه مطلقا ، أي : سواء أريد به الزمان أم المكان أم

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه (مناسك) ٢ / ١٠١٣ ، الدارمي (مناسك) ٢ / ٥٧ ومالك (حج) ١ / ٣٩٣ ، ٨٢٤.

(٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٣٥.

(٤) في ب : قال.

(٥) انظر البغوي ٥ / ٥٨٣ ـ ٥٨٤.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) الآية : سقط من ب.

(٨) الكسائي وحمزة.

(٩) وهو قوله تعالى.«لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ» من الآية (٦٧) من السورة نفسها.

(١٠) السبعة (٤٣٦) ، الكشف ٢ / ١١٩ ، النشر ٢ / ٣٢٦ ، الإتحاف (٣١٥).

(١١) وذلك أن المصدر الميمي من الثلاثي يكون على مفعل بفتح العين إلا إذا كان مثالا واويّا صحيح اللام وقد حذفت فاؤه في المضارع نحو وضع أو كان المثال الواوي من باب فعل يفعل نحو وجل ووجل فالمصدر على مفعل الموحل وموضع واسم المكان من الثلاثي الذي يكون مضارعه على يفعل يكون على مفعل ، فاسم المكان من خرج وكتب مخرج ومكتب. انظر شرح الشافية ١ / ١٦٨ ـ ١٧٠ ، ١٨١.

(١٢) اسم المكان الذي على مفعل من الثلاثي الذي مضارعه يفعل خارج عن القياس إلا أنه قد جاء منه كلمات سمع في عينها الفتح والكسر ، وهي المفرق والمحشر ، والمسجد والمنسك. ولا يخفى أن الكسر وإن كان خارجا عن القياس إلا أنه فصيح الاستعمال. انظر شرح الشافية ١ / ١٨١.

(١٣) انظر التبيان ٢ / ٩٤١.

(١٤) يبدو أن ابن عادل نقل نص ابن عطية من البحر المحيط ٦ / ٣٦٨ ـ ٣٦٩ ، والنص كما في تفسير ابن عطية : (والكسر في هذا من الشاذ في اسم المكان أن يكون (مفعل) من فعل يفعل ، مثل مسجد من ـ

٨٧

المصدر (١) ، وقد شذت ألفاظ ضبطها النحاة في كتبهم (٢) مذكورة في هذا الكتاب (٣).

فصل

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ)(٤) (أي : جماعة مؤمنة سلفت قبلكم من عهد إبراهيم عليه‌السلام (جَعَلْنا مَنْسَكاً)) (٥) أي ضربا من القربان ، وجعل العلة في ذلك أن يذكر اسمه عند ذبحها ونحرها فقال : (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) أي : عند الذبح والنحر لأنها لا تتكلم (٦). وقال : (بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) قيد (٧) بالنعم ، لأن من البهائم ما ليس من الأنعام كالخيل والبغال والحمير لا يجوز ذبحها في القرابين (٨) ، وكانت العرب تسمي ما تذبحه للصّنم العتر والعتيرة (٩) كالذبح والذبيحة.

قوله : (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) في كيفية النظم (١٠) وجهان :

الأول : أن الإله واحد ، وإنما اختلفت التكاليف باختلاف الأزمنة والأشخاص لاختلاف المصالح.

والثاني : (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) لا تذكروا على ذبائحكم غير اسمه. (فَلَهُ أَسْلِمُوا) انقادوا(١١) وأطيعوا ، فمن انقاد لله كان مخبتا فلذلك قال بعده (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ)(١٢).

قال ابن عباس وقتادة : المخبت المتواضع الخاشع (١٣) وقال مجاهد : المطمئن إلى الله. والخبت المكان المطمئن من الأرض (١٤). قال أبو مسلم : حقيقة المخبت من صار في خبت من الأرض تقول : أخبت الرجل إذا صار في الخبت كما يقال : أنجد وأتهم وأشأم (١٤).

__________________

ـ سجد يسجد ، ولا يسوغ فيه القياس ويشبه أن الكسائي سمعه من العرب) ١٠ / ٢٧٨.

(١) انظر شرح الشافية ١ / ١٦٨ ، ١٨١.

(٢) وهذه الألفاظ هي : المنسك ، والمجزر ، والمنبت ، والمطلع ، والمشرق ، والمغرب ، والمفرق ، والمسقط ، والمسكن ، والمسجد ، والمنخر ، والقياس في هذه الألفاظ فتح العين لأن مضارع أفعالها يفعل بضم العين. انظر شرح الشافية ١ / ١٨١.

(٣) الدر المصون : ٥ / ٧٤.

(٤) في ب : ولكلّ أمّة جعلنا منسكا.

(٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٣٥.

(٧) في ب : قد. وهو تحريف.

(٨) انظر البغوي ٥ / ٥٨٤.

(٩) العتر : العتيرة ، وهي شاة كانوا يذبحونها في رجب لآلهتهم ، مثل ذبح وذبيحة والعتيرة : أول ما ينتج ، كانوا يذبحونها لآلهتهم. اللسان (عتر).

(١٠) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٣٥.

(١١) في ب : وانقادوا.

(١٢) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٣٥.

(١٣) البغوي ٥ / ٥٨٥.

(١٤) الفخر الرازي ٢٣ / ٣٥.

٨٨

وقال الكلبي : هم (١) الرقيقة قلوبهم (٢). وقال عمرو بن أوس (٣) : هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا (٤).

قوله : (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ). يجوز أن يكون هذا الموصول في موضع جر أو نصب أو رفع ، فالجر من ثلاثة أوجه : النعت للمخبتين ، أو البدل منهم ، أو البيان لهم. والنصب على المدح. والرفع على إضمارهم (٥) وهو مدح أيضا ، ويسميه النحويون قطعا.

والمعنى : إذا ذكر الله ظهر عليهم الخوف من عقاب الله والخشوع والتواضع لله ، والصابرين على ما أصابهم من البلايا والمصائب من قبل الله ، لأنه الذي يجب الصبر عليه كالأمراض والمحن ، فأما (٦) ما يصيبهم من قبل الظّلمة فالصبر عليه غير واجب بل لو أمكنه دفع ذلك لزمه الدفع ولو بالمقاتلة (٧).

قوله : (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) في أوقاتها. والعامة على خفض «الصّلاة» بإضافة المقيمين إليها(٨).

وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية بنصبها على حذف النون تخفيفا كما تحذف النون لالتقاء الساكنين (٩). وقرأ ابن مسعود والأعمش بهذا الأصل «والمقيمين الصلاة» بإثبات النون ونصب الصلاة(١٠). وقرأ الضحاك : «والمقيم (١١) الصلاة» بميم (١٢) ليس بعدها

__________________

(١) في الأصل : هو.

(٢) انظر البغوي ٥ / ٥٨٥.

(٣) هو عمرو بن أوس بن أبي أوس الثقفي الطائفي أخذ عن أبيه وعبد الله بن عمرو بن العاص وأخذ عنه النعمان بن سالم وعمرو بن دينار. مات سنة ٧٥ ه‍.

خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ٢ / ٢٨٠.

(٤) انظر البغوي ٥ / ٥٨٥ ، الفخر الرازي ٢٣ / ٣٥ ، الدر المنثور ٤ / ٣٦٠.

(٥) انظر التبيان ٢ / ٩٤٢ ، غير أن أبا البقاء لم يذكر في وجه الجر البيان.

(٦) في ب : وأما.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٣٥.

(٨) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٧٩ ، التبيان ٢ / ٩٤٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٩.

(٩) المراجع السابقة. أي أن أصل هذه القراءة : والمقيمين الصلاة حذفت النون كما حذفت من اللذين والذين حيث طال الكلام ، أي أنها حذفت للتخفيف ، ومثل هذا الحذف قول الشاعر :

الحافظو عورة العشيرة لا

يأتيهم من ورائنا نطف

وحذف نون اللذين قول الأخطل :

أبني كليب إنّ عميّ اللذا

سلبا الملوك وفكّكا الأغلالا

انظر الكتاب ١ / ١٤٦.

(١٠) المختصر (٩٥) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٧٩ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٩.

(١١) في الأصل : والمقيمين. وهو تحريف.

(١٢) بميم : سقط من الأصل.

٨٩

شيء (١). وهذه لا تخالف قراءة العامة لفظا وإنما يظهر مخالفتها لها وقفا وخطا. ثم قال : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي : يتصدقون فهم خائفون خاشعون متواضعون لله مشتغلون بخدمة ربهم بالبدن والنفس والمال.

قوله تعالى : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ)(٣٧)

قوله تعالى : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) الآية. العامة على نصب «البدن» على الاشتغال (٢) ، ورجح النصب وإن كان محوجا للإضمار على الرفع الذي لم يحوج إليه ، لتقدم جملة فعلية على جملة الاشتغال وقرىء (٣) برفعها على الابتداء والجملة بعدها الخبر (٤) والعامة أيضا (٥) على تسكين الدال (٦). وقرأ الحسن ويروى عن نافع وشيخه أبي جعفر بضمها (٧) ، وهما جمعان لبدنة نحو ثمرة (٨) وثمر وثمر (٩) ، فالتسكين يحتمل (١٠) أن يكون تخفيفا من المضموم وأن يكون أصلا وقيل : البدن والبدن جمع بدن ، والبدن جمع بدنة نحو خشبة وخشب ثم يجمع خشبا على خشب وخشب (١١). وقيل : البدن اسم مفرد لا جمع يعنون اسم الجنس (١٢). وقرأ ابن أبي إسحاق : «البدنّ» بضم الباء والدال وتشديد النون (١٣) وهي تحتمل وجهين :

أحدهما : أنه قرأ كالحسن فوقف على الكلمة وضعف لامها (١٤) ، كقولهم : هذا فرج ثم أجري الوصل مجرى الوقف في ذلك (١٥) ويحتمل أن يكون اسما على فعل كعتل (١٦).

__________________

(١) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٧٩ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٩.

(٢) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٤٢٧ ، البيان ٢ / ١٧٦ ، التبيان ٢ / ٩٤٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٩.

(٣) في ب : وقرأ. وهو تحريف.

(٤) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٤٢٧ ، التبيان ٢ / ٩٤٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٩.

(٥) في الأصل : بعدها أيضا.

(٦) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٨١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٩.

(٧) المختصر (٩٥) ، وتفسير ابن عطية ١٠ / ٢٨١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٩.

(٨) ثمرة سقط من ب.

(٩) انظر التبيان ٢ / ٩٤٢ ، القرطبي ١٢ / ٦٠.

(١٠) في ب : على.

(١١) انظر التبيان ٢ / ٩٤٢.

(١٢) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٨٠.

(١٣) المختصر (٩٥) ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٩.

(١٤) في ب : لأنها. وهو تحريف.

(١٥) أي : أنه وقف على المنصوب غير المنون بالتضعيف ، ثم وصل ، فأجرى الوصل مجرى الوقف.

انظر ابن يعيش ٩ / ٦٧ ـ ٦٩ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٩.

(١٦) لأن (فعلّ) من أوزان الثلاثي المزيد فيه حرف واحد ، ويكون في الاسم نحو جبنّ والصفة نحو قمدّ ، عتلّ. الممتع ١ / ٨٦ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٩.

٩٠

وسميت البدنة بدنة ، لأنها تبدن أي تسمن (١). وهل تختص بالإبل؟ الجمهور على ذلك ، قال الزمخشري : والبدن جمع بدنة سميت لعظم بدنها وهي الإبل خاصة لأن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ألحق البقر بالإبل حين قال : «البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة» (٢) فجعل البقر في حكم الإبل ، فصارت البدنة متناولة في الشريعة للجنسين عند أبي حنيفة وأصحابه ، وإلا فالبدن هي الإبل ، وعليه تدل الآية(٣).

وقيل : لا تختص بالإبل ، فقال الليث : البدنة بالهاء تقع على الناقة والبقرة والبعير ، وما يجوز في الهدي والأضاحي ، ولا تقع على الشاة (٤). وقال عطاء وغيره : ما أشعر من ناقة أو بقرة (٥) ، لقول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حين سئل عن البقر فقال : «وهل هي إلا من البدن» (وقيل : البدن يراد به العظيم السن من الإبل والبقر) (٦).

ونقل النووي في تحرير ألفاظ التنبيه (٧) عن الأزهري (٨) أنه قال : البدنة تكون من الإبل والبقر والغنم (٩). ويقال للسمين من الرجال ، وهو اسم جنس مفرد (١٠).

قوله : (مِنْ شَعائِرِ اللهِ) هو (١١) المفعول الثاني للجعل بمعنى التصيير (١٢).

وقوله : (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) الجملة حال (١٣) من هاء «جعلناها» ، وإما من (شَعائِرِ اللهِ) وهذان مبنيان على أن الضمير في «فيها» هل هو عائد على «البدن» أو على (شَعائِرِ اللهِ) ، والأول قول الجمهور.

قوله : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ). نصب «صوافّ» على الحال ، أي مصطفة جنب بعضها إلى بعض (١٤). وقرأ أبو موسى الأشعري والحسن ومجاهد وزيد بن أسلم «صوافي» جمع صافية ، أي : خالصة لوجه الله تعالى (١٥). وقرأ عمرو بن عبيد كذلك إلا أنه نون (١٦) الياء فقرأ «صوافيا» (١٧). واستشكلت من حيث إنه جمع متناه ، وخرجت على وجهين :

أحدهما : ذكره الزمخشري : وهو أن يكون التنوين عوضا من حرف الإطلاق عند

__________________

(١) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٨٠.

(٢) أخرجه مسلم (حج) ٢ / ٩٥٥ ، وانظر الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١١٣).

(٣) انظر الكشاف ٣ / ٣٣.

(٤) التهذيب ١٤ / ١٤٤ (بدن) ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٧.

(٥) البحر المحيط ٦ / ٣٤٧.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) التنبيه : سقط من ب.

(٨) تقدم.

(٩) انظر التهذيب (بدن).

(١٠) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٤٧.

(١١) في ب : وهو.

(١٢) انظر التبيان ٢ / ٩٤٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٩.

(١٣) انظر التبيان ٢ / ٩٤٢.

(١٤) انظر البيان ٢ / ١٧٦ ، التبيان ٢ / ٩٤٢.

(١٥) المختصر (٩٥) ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٨١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٩.

(١٦) في ب : ترك. وهو تحريف.

(١٧) في ب : صواف. وهو تحريف. المختصر (٩٥). البحر المحيط ٦ / ٣٦٩.

٩١

الوقف (١) ، يعني أنه وقف على «صوافي» بإشباع فتحة (٢) الياء فتولد (٣) منها ألف ، يسمى (٤) حرف الإطلاق ، ثم عوض عنه هذا التنوين ، وهو الذي يسميه النحويون تنوين الترنم (٥).

والثاني : أنه جاء على لغة من يصرف ما لا ينصرف (٦). وقرأ الحسن «صواف» بالكسر والتنوين (٧) ، وجهها أنه نصبها بفتحة مقدرة فصار حكم هذه الكلمة كحكمها حالة الرفع والجر في حذف الياء وتعويض التنوين نحو هؤلاء جوار ، ومررت بجوار وتقدير الفتحة في الياء كثير (٨) كقولهم :

٣٧٦٥ ـ أعط (٩) القوس باريها (١٠)

وقوله :

٣٧٦٦ ـ كأنّ أيديهنّ بالقاع القرق

أيدي جوار يتعاطين الورق (١١)

__________________

(١) الكشاف ٣ / ٣٣.

(٢) في الأصل : فتجر. وهو تحريف.

(٣) في ب : يتولد.

(٤) في الأصل : ثم.

(٥) تنوين الترنم : هو اللاحق للقوافي المطلقة التي آخرها حرف مد ، وهي الألف والواو والياء المولدات من إشباع الحركة وتسمى أحرف الإطلاق وهذا في لغة تميم وكثير من قيس ، كقول جرير :

أقلّي اللّوم عاذل والعتابن

وقولي إن أصبت لقد أصابن

وقد يبدل التنوين من حرف الإطلاق في غير القوافي كقراءة أبي الدينار الأعرابي : والليل إذا يسر [الفجر : ٤] بالتنوين في «يسر» المختصر (١٧٣). انظر شرح التصريح ١ / ٣٥ ـ ٣٦.

(٦) وذلك أن صرف ما لا ينصرف مطلقا لغة لبعض العرب حكاها الأخفش ، قال : وكانت هذه لغة الشعراء لأنهم قد اضطروا إليه في الشعر فجرت ألسنتهم على ذلك في الكلام. انظر البحر المحيط ٦ / ٣٦٩ ، شرح التصريح ٢ / ٢٢٧ ـ ٢٢٨ ، الهمع ١ / ٣٧.

(٧) المختصر (٩٥) ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٩.

(٨) وذلك أن من العرب من يسكن ياء المنقوص في النصب قال الشاعر :

ولو أن واش باليمامة داره

وداري بأعلى حضر موت اهتدى ليا

قال المبرد : وهو من أحسن ضرورات الشعر ، لأنه حمل حالة النصب على حالتي الرفع والجر.

والأصح جوازه في السعة بدليل قراءة أبي جعفر الصادق «من أوسط ما تطعمون أهاليكم» [المائدة : ٨٩] بسكون الياء.

انظر شرح الأشموني وحاشية الصبان ١ / ١٠٠ ـ ١٠١.

(٩) في الأصل : أعطى.

(١٠) أي : استعن على عملك بأهل المعرفة والحذق فيه وينشد :

يا باري القوس بريا لست تحسنها

لا تفسدنها وأعط القوس باريها

مجمع الأمثال ٢ / ٣٤٥.

(١١) رجز لرؤبة وهو في ملحقات ديوانه (١٧٩) ، الخصائص ١ / ٣٠٦ ، ٢ / ٢٩١ ، المحتسب ١ / ١٤٦ ، ٢٨٩ ، أمالي ابن الشجري ١ / ١٠٥ ، اللسان (قرق) ، الخزانة ٨ / ٢٤٧ ، شواهد الشافية ٤ / ٤٠٥ ، القاع : المكان المستوي. القرق : الأملس. جوار : جمع جارية. يتعاطين: يناول بعضهن بعضا. الورق : ـ

٩٢

وقول الآخر :

٣٧٦٧ ـ وكسوت عار لحمه (١)

ويدل على هذه قراءة بعضهم «صوافي» بياء ساكنة من غير تنوين نحو رأيت القاضي يا فتى. بسكون الياء. ويجوز أن يكون سكن الياء في هذه القراءة للوقف ثم أجرى الوصل مجراه (٢).

وقرأ العبادلة (٣) ومجاهد والأعمش «صوافن» (٤) بالنون جمع صافنة (٥) ، وهي التي تقوم على ثلاثة وطرف الرابعة أي : على طرف سنبكه (٦) ، لأن البدنة تعلق (٧) إحدى يديها ، فتقوم على ثلاثة إلا أن الصوافن إنما يستعمل في الخيل كقوله : (الصَّافِناتُ الْجِيادُ)(٨) كما سيأتي ، فيكون استعماله في الإبل استعارة.

فصل

سميت البدنة بدنة لعظمها يريد الإبل العظام الصحاح الأجسام ، يقال : بدن الرجل بدنا وبدانة: إذا ضخم ، فأما إذا أسن واسترخى يقال : بدّن تبدينا (٩).

(جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) أي : من أعلام دينه ، سميت شعائر ، لأنها تشعر ، وهو أن تطعن بحديدة في سنامها فيعلم أنها هدي. (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) النفع في الدنيا والأجر في العقبى (١٠). (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها) عند نحرها «صوافّ» أي قياما على ثلاث قوائم قد صفت رجليها وإحدى يديها ويدها اليسرى معقولة فينحرها كذلك لما روى زياد بن جبير (١١)

__________________

ـ الدراهم. والشاهد فيه تسكين الياء من (أيديهن) في حالة النصب لأنها اسم (كأن) حملا على المرفوع والمجرور. وهي لغة لبعض العرب.

(١) شطر بيت من الكامل لم أجد له سابقا ولا لاحقا فيما رجعت إليه من مراجع وهو في البحر المحيط ٦ / ٣٦٩ ، والشاهد فيه إجراء (عار) في حالة النصب مجراه في حالة الجر من حذف الياء وتعويض التنوين.

(٢) وذلك أن المنقوص في حالة النصب عند الوقف عليه تثبت الياء لأنها قد قويت بالحركة في حال الوصل وجرت مجرى الصحيح فلم تحذف عند الوقف. شرح المفصل ٩ / ٧٥.

(٣) هم عبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس.

(٤) في الأصل : صواف. وهو تحريف.

(٥) المختصر (٩٥) ، المحتسب ٢ / ٨١ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٨١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٩.

(٦) السنبك : طرف الحافر وجانباه من قدام ، وجمعه سنابك. اللسان (سنبك) وصفنت الدابة تصفن صفونا : قامت على ثلاث وثنت سنبك يدها الرابع.

(٧) في ب : تعقل.

(٨) من قوله تعالى : «إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ»[ص : ٣١].

(٩) انظر البغوي ٥ / ٥٨٥ ـ ٥٨٦.

(١٠) انظر البغوي ٥ / ٥٨٦.

(١١) هو زياد بن جبير بن حية الثقفي ، أخذ عن أبيه وسعد ، وأخذ عنه يونس بن عون وابن عبيد. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ١ / ٣٤٢.

٩٣

قال : رأيت ابن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنة ينحرها فقال : ابعثها قياما مقيدة سنة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) ـ. وقال مجاهد : الصواف إذا علقت (٢) رجلها اليسرى وقامت على ثلاث (٣). قال المفسرون: قوله : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها) فيه حذف أي اذكروا اسم الله على نحرها ، وهو أن يقال عند النحر: باسم الله والله أكبر ولا إله إلا الله والله أكبر اللهم منك وإليك (٤). والحكمة في اصطفافها ظهور كثرتها للناظر (٥) فتقوى نفوس المحتاجين ، ويكون التقرب بنحرها عند ذلك أعظم أجرا ، وإعلاء اسم الله وشعائر دينه (٦).

فصل (٧)

إذ قال : لله عليّ بدنة ، هل يجوز نحرها في غير مكة؟ قال أبو حنيفة ومحمد يجوز وقال أبو يوسف : لا يجوز إلا بمكة. واتفقوا في من نذر هديا أن عليه ذبحه بمكة. ومن قال : لله عليّ جزور أنه يذبحه حيث شاء. وقال أبو حنيفة : البدنة بمنزلة الجزور ، فوحب أن يجوز له نحرها حيث يشاء ، بخلاف الهدي فإنه قال : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ)(٨) فجعل بلوغ الكعبة من صفة الهدي. واحتج أبو يوسف بقوله : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ)(٩) فكان اسم البدنة يفيد كونها قربة فكان كاسم الهدي.

وأجاب أبو حنيفة بأنه ليس كل ما كان ذبحه قربة اختص بالحرم ، فإن الأضحية قربة وهي جائزة في سائر الأماكن.

قوله : (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) أي سقطت بعد النحر فوقعت (١٠) جنوبها على الأرض. وأصل الوجوب السقوط ، يقال : وجبت الشمس إذا سقطت للمغيب (١١) ، ووجب الجدار : أي سقط ، ومنه الواجب الشرعي كأنه وقع علينا ولزمنا. قال أوس بن حجر (١٢) :

٣٧٦٨ ـ ألم تكسف الشّمس شمس النّها

ر والبدر للجبل الواجب (١٣)

__________________

(١) انظر البغوي ٥ / ٣٨٦.

(٢) في ب : عقلت.

(٣) انظر البغوي ٥ / ٣٨٦.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٣٧.

(٥) في ب : للناظرين.

(٦) الفخر الرازي ٢٣ / ٣٧.

(٧) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٣٦ ـ ٣٧.

(٨) [المائدة : ٩٥].

(٩) لفظ الجلالة سقط من الأصل.

(١٠) في الأصل : وقعت.

(١١) انظر البغوي ٥ / ٥٨٧.

(١٢) أوس بن حجر شاعر جاهلي من شعراء تميم ، كان عاقلا في شعره كثير الوصف لمكارم الأخلاق وهو من أوصفهم للحمير والسلاح ولا سيما القوس. الخزانة ٤ / ٣٧٩ ـ ٣٨٠.

(١٣) البيت من بحر المتقارب قاله أوس بن حجر وهو في ديوانه (١٠) ورواية الديوان :

ألم تكسف الشمس والبدر وال

كواكب للجبل الواجب

ومجاز القرآن ٢ / ٥١ ، الطبري ١٧ / ١٠٨ ، سمط اللآلي ٤٦٦ ، وتفسير ابن عطية ١٠ / ٢٨٢ ، والقرطبي ـ

٩٤

قوله : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) أمر إباحة (وأطعموا القانع والمعترّ) (١) اختلفوا في معناهما ، فقال عكرمة وإبراهيم وقتادة : القانع الجالس في بيته المتعفف يقنع بما يعطى ولا يسأل. والمعتر الذي يسأل (٢). قال الأزهري : قال ابن الأعرابي : يقال : عروت فلانا وأعتريته وعررته (٣) واعتررته (٤) : إذا أتيته تطلب معروفه ونحوه (٥).

قال أبو عبيدة : روى العوفي عن ابن عباس : القانع الذي لا يتعرض ولا يسأل ، والمعتر الذي يريك نفسه ويتعرض ولا يسأل (٦). فعلى هذين التأويلين يكون القانع من القناعة ، يقال : قنع قناعة : إذا رضي بما قسم له (٦). وقال سعيد بن جبير والحسن والكلبي : القانع الذي يسأل ، والمعتر الذي يتعرض ولا يسأل (٧). وقيل : القانع الراضي بالشيء اليسير من قنع يقنع قناعة فهو قانع. والقنع بغير ألف هو السائل. ذكره أبو البقاء (٨). وقال الزمخشري القانع السائل من قنعت وكنعت (٩) إذا خضعت له وسألته قنوعا ، والمعترّ : المتعرض بغير سؤال أو (١٠) القانع الراضي بما عنده وبما يعطى من غير سؤال من قنعت قنعا وقناعة ، والمعتر المتعرض للسؤال (١١). انتهى.

وفرق بعضهم بين المعنيين بالمصدر فقال : «قنع يقنع قنوعا» أي : سأل ، وقناعة أي : تعفف ببلغته واستغنى به ، وأنشد للشماخ (١٢) :

٣٧٦٩ ـ لمال المرء يصلحه فيغني

مفاقره أعفّ من القنوع (١٣)

وقال ابن قتيبة : المعتر المتعرض من غير سؤال ، يقال : عره واعترّه وعراه واعتراه أي : أتاه طالبا معروفه (١٤) ، قال :

__________________

ـ ١٢ / ٦٣ ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٧. يقول : إن الشمس والبدر والكواكب كسفت لموت فضالة بن كلدة ، وهو المقصود من قوله: للجبل. لأن البيت من قصيدة يرثيه بها. والشاهد فيه أن وجب بمعنى سقط على جنبه.

(١) ما بين القوسين سقط من ب.

(٢) انظر البغوي ٥ / ٥٨٧ ـ ٥٨٨.

(٣) وعروته : سقط من ب.

(٤) في ب : واعتريت.

(٥) التهذيب : ١ / ٩٩ (عرر).

(٦) انظر البغوي ٥ / ٥٨٨.

(٧) انظر البغوي ٥ / ٥٨٩.

(٨) فإنه قال :(«القانع» بالألف من قولك : قنع به إذا رضي بالشيء اليسير ويقرأ بغير الألف ، من قولك : قنع قنوعا ، إذا سأل) التبيان ٢ / ٩٤٣.

(٩) في الأصل : وكقنعت. وهو تحريف. وكنع يكنع كنوعا وأكنع : خضع ، وقيل : دنا من الذلة ، وقيل : سأل ، وأكنع الرجل للشيء إذا ذل له وخضع. اللسان (كنع).

(١٠) في ب : و.

(١١) الكشاف ٣ / ٣٤.

(١٢) الشماخ هو معقل بن ضرار الغطفاني ، مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام وجعله الجمحيّ في الطبقة الثالثة من شعراء الإسلام. الخزانة ٣ / ١٩٦ ـ ١٩٧.

(١٣) البيت من بحر الوافر قاله الشماخ ، وقد تقدم.

(١٤) بالمعنى من تفسير غريب القرآن (٢٩٣) وبالنص من البحر المحيط ٦ / ٣٤٧.

٩٥

٣٧٧٠ ـ لعمرك ما المعترّ يغشى(١)بلادنا

لنمنعه بالضّائع المتهضّم (٢)

وقول الآخر.

٣٧٧١ ـ سلي الطّارق المعترّ يا أمّ مالك

إذا ما اعتراني بين قدري ومجزري (٣)

وقرأ أبو رجاء : «القنع» دون ألف (٤) ، وفيها وجهان :

أحدهما : أن أصلها القانع فحذف الألف كما قالوا : مقول ، ومخيط وجندل وعلبط في مقوال ، ومخياط ، وجنادل ، وعلابط (٥).

والثاني : أن القانع هو الراضي باليسير ، والقنع السائل كما تقدم تقريره. قال الزمخشري : والقنع الراضي لا غير (٦). وقرأ الحسن : «والمعتري» اسم فاعل من اعترى يعتري (٧) وقرأ إسماعيل ويروى عن أبي رجاء والحسن أيضا «والمعتر» بكسر الراء اجتزاء بالكسر عن لام الكلمة (٨). وقرىء «المعتري» بفتح التاء (٩) ، قال أبو البقاء : وهو في معناه (١٠) أي : في معنى «المعتر» في قراءة العامة (١١). قال بعضهم (١٢) : والأقرب أن

__________________

(١) في ب : نعيش. وهو تحريف.

(٢) البيت من بحر الطويل قاله حسان بن ثابت ، وهو في ديوانه (٤٥١) ومجاز القرآن ٢ / ٥٢ ، وتفسير ابن عطيه ١٠ / ٢٨٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٧ ، المعتر : المتعرض للمعروف من غير أن يسأل. وهو موطن الشاهد هنا. يغش : يأتي. الضائع : المهمل ضاع الشيء يضيع ضيعة وضياعا بالفتح : هلك ، المتهضم : المظلوم المغضوب المقهور.

(٣) البيت من بحر الطويل ، لم أهتد إلى قائله ، وهو في البحر المحيط ٦ / ٣٤٧ ، والشاهد فيه كالشاهد في البيت السابق.

(٤) المحتسب ٢ / ٨٢ ، تفسير ابن عطية ١١٠ / ٢٨٣ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٠.

(٥) أي أن حذف الألف للتخفيف ، وقد استشهد ابن جني على حذف الألف تخفيفا بقول الشاعر :

أصبح قلبي صردا

لا يشتهي أن يردا

إلا عرادا عردا

وصلّيانا بردا

يريد عاردا وباردا. انظر المحتسب ٢ / ٨٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٠ ورجل علبط وعلابط : ضخم عظيم ، وناقة علبطة : عظيمة ، وصدر علبط : عريض ، ولبن علبط : رائب متكبد خاثر جدا ، وقيل كل غليظ علبط ، وكل ذلك محذوف من فعالل ، وليس بأصل ، لأنه لا تتوالى أربع حركات في كلمة واحدة. والعلبط والعلابط : القطيع من الغنم.

انظر اللسان (علبط).

(٦) الكشاف ٣ / ٣٤.

(٧) المختصر (٩٥) ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٠.

(٨) المرجعان السابقان.

(٩) وهي قراءة أبي رجاء ، وعمرو بن عبيد. المحتسب ٢ / ٨٢. تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٨٤ ، البحر البحر المحيط ٦ / ٣٧٠.

(١٠) في الأصل : معنى. وهو تحريف. التبيان ٢ / ٩٤٣.

(١١) قال أبو البقاء : (يقال : عرّهم واعترّهم وعراهم واعتراهم إذا تعرض لهم للطلب) التبيان ٢ / ٩٤٣.

(١٢) وهو أبو عبيد. الفخر الرازي ٢٣ / ٣٧.

٩٦

القانع هو الراضي بما يدفع إليه من غير سؤال وإلحاح ، والمعتر : هو الذي يعترض ويطالب ويعتريهم حالا بعد حال فيفعل ما يدل على أنه لا (١) يقنع بما يدفع إليه أبدا (٢).

وقال ابن زيد : القانع المسكين ، والمعتر الذي ليس بمسكين ، ولا يكون له ذبيحة ، ويجيء إلى القوم فيتعرض لهم لأجل لحمهم (٣).

قوله : (كَذلِكَ سَخَّرْناها). الكاف نعت مصدر (٤) أو حال من ذلك المصدر ، أي مثل وصفنا ما وصفنا من نحرها قياما سخرناها لكم نعمة منا لتتمكنوا من نحرها. (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) لكي تشكروا إنعام الله عليكم.

قوله : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها) العامة على القراءة بياء الغيبة في الفعلين ، لأن التأنيث مجازي ، وقد وجد الفصل بينهما (٥). وقرأ يعقوب بالتاء فيهما اعتبارا باللفظ (٦).

وقرأ زيد بن عليّ «لحومها ولا دماءها» بالنصب والجلالة بالرفع ، (وَلكِنْ يَنالُهُ) بضم الياء(٧) على أن القائم مقام الفاعل «التّقوى». و «منكم» حال من التقوى ، ويجوز أن يتعلق بنفس «يناله».

فصل

لما كانت عادة الجاهلية إذا نحروا البدن لطخوا الكعبة بدمائها قربة إلى الله عزوجل (٨) فأنزل الله هذه الآية (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها)(٩). قال مقاتل : لن يرفع إلى الله لحومها ولا دماؤها. (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) أي ولكن يرفع إليه منكم الأعمال الصالحة ، وهي التقوى والإخلاص وما أريد به وجه الله (١٠).

فصل (١١)

قالت المعتزلة : دلّت هذه الآية على أمور :

أحدها : أن الذي ينتفع به فعله دون الجسم الذي ينحره.

وثانيها : أنه سبحانه غني عن كل ذلك وإنما (١٢) المراد أن يجتهد العبد في امتثال أمره.

__________________

(١) لا : سقط من ب.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٣٧.

(٣) انظر البغوي ٥ / ٥٨٩.

(٤) انظر التبيان ٢ / ٩٤٣.

(٥) انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٢٧ ، البيان ٢ / ١٧٦ ، التبيان ٢ / ٩٤٣ ، الإتحاف (٣١٥).

(٦) انظر البيان ٢ / ١٧٦ ، التبيان ٢ / ٩٤٣ ، الإتحاف (٣١٥).

(٧) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٧٠.

(٨) في ب : الله تعالى.

(٩) انظر البغوي ٥ / ٥٩٠.

(١٠) انظر البغوي ٥ / ٥٩٠.

(١١) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٣٨.

(١٢) إنما : سقط من ب.

٩٧

وثالثها : أنه لما لم ينتفع بالأجسام التي هي اللحوم والدماء وانتفع بتقواه ، وجب أن يكون تقواه فعلا له ، وإلا كان تقواه بمنزلة اللحوم.

ورابعها : أنه لما شرط القبول بالتقوى ، وصاحب الكبيرة غير متّق ، فوجب أن لا يكون عمله مقبولا وأنه لا ثواب له.

والجواب : أما الأولان فحقان ، وأما الثالث فمعارض بالداعي والعلم.

وأما الرابع : فصاحب الكبيرة وإن لم يكن متقيا مطلقا ، ولكنه متّق فيما أتى به من الطاعة على سبيل الإخلاص ، فوجب أن تكون طاعته مقبولة ، وعند هذا تنقلب الآية حجة عليهم.

قوله : (كَذلِكَ سَخَّرَها) الكاف نعت مصدر أو حال من ذلك المصدر (وَلِتُكَبِّرُوا) متعلق به أي إنما سخرها كذلك (١) لتكبروا الله ، وهو التعظيم بما يفعله عند النحر وقبله وبعده. و (عَلى ما هَداكُمْ) متعلق بالتكبير ، عدّي بعلى لتضمنه معنى الشكر على ما هداكم أرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجه ، وهو أن يقول : الله (٢) أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أبلانا وأولانا ، ثم قال بعده على سبيل الوعد لمن امتثل أمره (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) كما قال من قبل (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) قال ابن عباس : المحسنين الموحدين (٣). والمحسن (٤) الذي يفعل الحسن من الأعمال فيصير محسنا إلى نفسه بتوفير الثواب عليه (٥).

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ)(٤١)

قوله تعالى (٦) : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) قرأ ابن كثير وأبو عمرو «يدفع» ، والباقون «يدافع» (٧). وفيه وجهان :

أحدهما : أن (فاعل) بمعنى (فعل) المجرد نحو جاوزته وجزته وسافرت وطارقت (٨).

__________________

(١) في ب : لذلك.

(٢) في النسختين : اللهم.

(٣) انظر البغوي ٥ / ٥٩١.

(٤) في الأصل : والمحسنين. وهو تحريف.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٣٨.

(٦) تعالى : سقط من ب.

(٧) السبعة : (٤٣٧). الكشف ٢ / ١١٩ ـ ١٢٠ ، النشر ٢ / ٣٢٦ ، الإتحاف ٣١٥.

(٨) وذلك لأن المفاعلة قد تكون من واحد نحو : عاقبت اللص ، وداويت العليل وقد تكون فاعل للتكرير ، يدفع عنهم مرة بعد مرة ، وقد يأتي فاعل من واحد ، قالوا : سافر زيد. الكشف ٢ / ١٢٠ ، التبيان ٢ / ٩٤٣ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٣.

٩٨

والثاني : أنه أخرج على زنة المفاعلة مبالغة فيه لأن فعل المبالغة أبلغ من غيره (١).

وقال ابن عطية : يحسن «يدافع» (٢) لأنه قد عن (٣) للمؤمنين من يدفعهم ويؤذيهم فتجيء مقاومته ودفعه عنهم مدافعة (٤). يعني فتختلط فيها المفاعلة.

فصل

لما بيّن الحج ومناسكه ، وما فيه من منافع الدنيا والآخرة ، وذكر قبل ذلك صد الكفار عن المسجد الحرام ، أتبع ذلك ببيان ما يزيل الصد ويؤمن معه التمكن من الحج فقال : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا)(٥) قال مقاتل : إنّ الله يدفع كفار مكة عن الذين آمنوا بمكة ، وهذا حين أمر المؤمنين بالكف عن كفار مكة قبل الهجرة حين آذوهم ، فاستأذنوا النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في قتلهم سرا فنهاهم (٦).

والمعنى : أن الله يدفع غائلة المشركين عن المؤمنين ويمنعهم من المؤمنين (٧) ولم يذكر ما يدفعه حتى يكون أفخم وأعظم وأعم ، وإن كان في الحقيقة أنه يدافع بأس المشركين (٨) ، فلذلك قال بعده (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) فنبه بذلك على أنه يدفع عن المؤمنين كيد من هذا صفته (٩) وهذه بشارة للمؤمنين بإعلائهم على الكفار ، وهو كقوله (١٠)(لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً)(١١) وقوله (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا)(١٢) وقوله : (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ)(١٣)(١٤).

(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ) في أمانة الله «كفور» لنعمته. قال ابن عباس : خافوا الله فجعلوا معه شركاء وكفروا نعمه (١٥). قال الزجاج : من تقرب إلى الأصنام (١٦) بذبيحته وذكر عليها اسم غير الله فهو خوان كفور (١٧). قال مقاتل : أقروا بالصانع وعبدوا غيره فأي خيانة أعظم من هذه (١٨).

قوله : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ). قرأ «أذن» مبنيا للمفعول نافع وأبو عمرو وعاصم ،

__________________

(١) انظر الكشاف ٣ / ٣٤ ، التبيان ٢ / ٩٤٣.

(٢) في النسختين دفاع. والصواب ما أثبته.

(٣) في النسختين : عز. وما أثبته من تفسير ابن عطية.

(٤) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٨٧ ، وفيه (معارضته) مكان (مقاومته).

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٣٩.

(٦) المرجع السابق.

(٧) انظر البغوي ٥ / ٥٩١.

(٨) في النسختين : أنه يدافع بين المشركين. وما أثبته من الفخر الرازي.

(٩) انظر الفخر الرازي : ٢٣ / ٣٩.

(١٠) في الأصل : قوله.

(١١) من قوله تعالى :«لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ» [آل عمران : ١١١].

(١٢) من قوله تعالى : «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ» [غافر : ٥١].

(١٣) [الصافات : ١٧٢].

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٣٩.

(١٥) انظر البغوي ٥ / ٥٩١ ـ ٥٩٢.

(١٦) في ب : الله. وهو تحريف.

(١٧) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤٢٩ بتصرف يسير والبغوي ٥ / ٥٩٢.

(١٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٠.

٩٩

والباقون قرأوه مبنيا للفاعل (١). قال الفراء والزجاج : يعني أذن الله للذين يحرصون على قتال المشركين في المستقبل (٢). وأما «يقاتلون» فقرأه مبنيا للمفعول نافع وابن عامر وحفص ، والباقون مبنيا للفاعل (٣). وحصل من مجموع الفعلين أن نافعا وحفصا بنياهما (٤) للمفعول. وأن ابن كثير وحمزة والكسائي بنوهما للفاعل ، (وأن أبا عمرو) (٥) وأبا بكر بنيا الأول للمفعول والثاني للفاعل ، وأن ابن عامر عكس هذا. فهذه أربع رتب والمأذون فيه محذوف للعلم به أي للذين يقاتلون في القتال (٦). و (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) متعلق ب «أذن» ، والباء سببية ، أي بسبب أنهم مظلومون.

فصل (٧)

قال المفسرون (٨) : كان مشركو مكة يؤذون أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فلا يزالون يجيئون بين مضروب ومشجوج يشكون ذلك إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيقول لهم : «اصبروا فإني لم أومر بالقتال» حتى هاجر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وهي أول آية أذن الله فيها بالقتال ، ونزلت هذه الآية بالمدينة. وقال مقاتل (٩) : نزلت هذه الآية في قوم بأعيانهم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة ، فكانوا يمنعون ، فأذن الله لهم في قتال الكفار الذين يمنعونهم من الهجرة (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) أي بسبب ما ظلموا واعتدوا عليهم بالإيذاء (١٠). (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) وهذا وعد منه تعالى بنصرهم ، كما يقول المرء لغيره : إن أطعتني فأنا قادر على مجازاتك ، لا يعني بذلك القدرة بل يريد أنه سيفعل ذلك(١١).

قوله : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ) يجوز أن يكون «الذين» في محل جر نعتا للموصول الأول (١٢) ، أو بيانا له ، أو بدلا منه وأن يكون في محل نصب على المدح ، وأن يكون في محل رفع على إضمار مبتدأ (١٣).

__________________

(١) فعلى قراءة البناء للمفعول القائم مقام الفاعل «للذين» ، والله هو الفاعل. ومن قرأ بالبناء للفاعل فعلى أنهم بنوا الفعل للفاعل المتقدم الذكر ، وهو الله جل ذكره.

السبعة (٤٣٧) الكشف ٢ / ١٢٠ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٣ ، النشر ٢ / ٣٢٦ ، الإتحاف (٣١٥).

(٢) معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٢٧ ، معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٤٣٠. بتصرف يسير.

والنص بلفظه من الفخر الرازي ٢٣ / ٤٠.

(٣) السبعة (٤٣٧) ، الكشف ٢ / ١٢١ ، النشر ٢ / ٣٢٦ ، الإتحاف (٣١٥).

(٤) في ب : بناهما.

(٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٧٣.

(٧) فصل : سقط من الأصل.

(٨) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٥٩٢ ـ ٥٩٣.

(٩) في النسختين : مجاهد.

(١٠) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٥٩٢ ـ ٥٩٣.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٠.

(١٢) من قوله تعالى : «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا» من الآية السابقة واقتصر ابن الأنباري على هذا الوجه. البيان ٢ / ١٧٦.

(١٣) انظر هذه الأوجه في التبيان ٢ / ٩٤٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٤ ، إلا أن أبا البقاء وأبا حيان لم يذكرا في وجر الجر البيان.

١٠٠