اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٤

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٤

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويعجبه حديثه ، فقدم ذات يوم من سفر ، فصنع (١) طعاما ، ودعا الناس ، ودعا الرسول ، فلما قرب الطعام قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «ما أنا بآكل طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله» فقال عقبة : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد (٢) أنّ محمدا رسول الله ، فأكل الرسول من(٣) طعامه ، وكان عقبة صديقا لأبيّ بن خلف ، فلما أتى أبي بن خلف قال له : يا عقبة صبأت ، قال : لا والله ما صبأت ، ولكن دخل عليّ فأبى أن يأكل طعامي إلا أن أشهد له ، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم فشهدت له ، فطعم. فقال : ما أنا بالذي أرضى منك أبدا إلا أن تأتيه وتبزق (٤) في وجهه ، وتطأ على عنقه (٥) ، ففعل ذلك عقبة ، فقال عليه‌السلام (٦) : لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوتك بالسيف ، فقتل عقبة يوم بدر (٧) صبرا ، وأما أبيّ بن خلف فقتله النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بيده يوم أحد (٨).

قال الضحاك : لما بزق عقبة في وجه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عاد بزاقه (٩) في وجهه ، فاحترق خداه ، فكان أثر ذلك فيه حتى الموت (١٠).

وقال الشعبي : كان عقبة بن أبي معيط خليل أمية (١١) بن خلف فأسلم عقبة فقال أمية : وجهي من (١٢) وجهك حرام إن بايعت محمدا ، فكفر وارتد ، فأنزل الله ـ عزوجل ـ (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ)(١٣) يعني : عقبة ، يقول : (يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) ، أي : ليتني اتبعت محمدا فاتخذت معه سبيلا إلى الهدى. وقرأ أبو عمرو (يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ) بفتح الياء (١٤) ، والآخرون بإسكانها(١٥).

الثاني : قالت الرافضة : الظالم هو رجل بعينه ، وإن المسلمين عرفوا اسمه وكتموه ، وجعلوا فلانا بدلا من اسمه ، وذكروا فاضلين من أصحاب الرسول.

ومن حمل الألف واللام على العموم ، لأنها إذا دخلت على الاسم المفرد أفادت العموم بالقرينة ، وهي أنّ ترتيب الحكم على الوصف مشعر بعلية الوصف ، فدلّ على أنّ المؤثر في العض على اليدين كونه ظالما ، فيعم الحكم لعموم علته.

__________________

(١) في ب : وصنع.

(٢) أشهد : سقط من ب.

(٣) من : سقط من ب.

(٤) في ب : وتبصق.

(٥) في ب : عقبه.

(٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٧) بدر : سقط من ب.

(٨) انظر أسباب النزول للواحدي ٨ / ٢٤ ـ ٢٤٩ ، الفخر الرازي ٢٤ / ٧٥.

(٩) في ب : بصاقه.

(١٠) انظر البغوي ٦ / ١٧٢ ، وأسباب النزول للواحدي (٢٤٩) ، والقرطبي ١٣ / ٢٦.

(١١) في ب : أبي أمية.

(١٢) من : سقط من ب.

(١٣) انظر البغوي ٦ / ١٧٢ ـ ١٧٣.

(١٤) في ب : التاء. وهو تحريف.

(١٥) السبعة (٤٦٤) ، الكشف ٢ / ١٤٩ ، النشر ٢ / ٣٣٥ ، الإتحاف (٣٢٩).

٥٢١

وهذا القول أولى من التخصيص بصورة واحدة ، ونزوله في واقعة خاصة (لا ينافي العموم) (١) ، بل تدخل فيه تلك الصورة وغيرها. والمقصود من الآية زجر الكل عن الظلم ، وذلك لا يحصل إلا بالعموم(٢).

فصل

قال الضحاك : يأكل يديه إلى المرفق ثم تنبت ، ولا يزال هكذا كلما أكلها (٣) نبتت (٤) وقال المحققون : هذه اللفظة (٥) للتحسر والغم ، يقال : عضّ أنامله (٦) ، وعضّ على يديه (٧).

قوله : «يقول» هذه الجملة حال من فاعل «يعضّ» وجملة التمني بعد القول محكية به (٨) ، وتقدم الكلام في مباشرة (يا) ل «ليت» في النساء (٩).

قوله : (يا وَيْلَتى). قرأ الحسن (يا وَيْلَتى) بكسر التاء وياء صريحة بعدها ، وهي الأصل(١٠). وقرأ الدّوريّ (١١) بالإمالة (١٢).

قال أبو علي : وترك الإمالة أحسن ، لأن أصل هذه اللفظة الياء فبدلت الكسرة فتحة والياء ألفا فرارا من الياء ، فمن أمال رجع إلى الذي منه فرّ أولا (١٣). وهذا منقوض بنحو (باع) فإن أصله الياء ، ومع ذلك أمالوا ، وقد أمالوا (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ) [الزمر : ٥٦] و (يا أَسَفى)(١٤) وهما ك (ياء) «ويلتي» في كون ألفهما عن ياء المتكلم. و «فلان» كناية عن علم من يعقل ، وهو متصرف. و «فل» (١٥) كناية عن نكرة من يعقل من الذكور ، و «فلة» (١٥) عن من يعقل من الإناث. والفلان والفلانة بالألف عن (١٦) غير العاقل ، ويختص (فل) ، و (فلة) بالنداء (١٧) إلّا في ضرورة كقوله :

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من ب.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٥ ـ ٧٦. وفيه : (وأما قول الرافضة فذلك لا يتم إلا بالطعن في القرآن ، وإثبات أنه غير وبدل ، ولا نزاع في أنه كفر).

(٣) في ب : كلها.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٦.

(٥) في ب : القصة. وهو تحريف.

(٦) في ب : أنامله غيظا.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٦.

(٨) انظر التبيان ٢ / ٩٨٥.

(٩) عند قوله تعالى : «يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً» [النساء : ٧٣].

(١٠) المختصر (١٠٤) ، الإتحاف (٣٢٩).

(١١) هو حفص بن عمر بن عبد العزيز أبو عمرو الدوري الأزدي البغدادي النحوي الضرير ، إمام القراءة وشيخ الناس في زمانه ، أول من جمع القراءات وقرأ بسائر الحروف السبعة ، وبالشواذ ، وسمع من ذلك شيئا كثيرا ، مات سنة ٢٤٦ ه‍. طبقات القراء ١ / ٢٥٥ ـ ٢٥٧.

(١٢) الإتحاف (٣٢٩).

(١٣) انظر الحجة لأبي عليّ ٦ / ٢٠.

(١٤) من قوله تعالى : «وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ» [يوسف : ٤٨].

(١٥) في ب : وقيل. وهو تحريف.

(١٥) في ب : وقيل. وهو تحريف.

(١٦) في ب : من. وهو تحريف.

(١٧) انظر اللسان (فلن).

٥٢٢

٣٨٧٤ ـ في لجّة أمسك فلانا عن فل (١)

وليس (فل) مرخما من (فلان) خلافا للفراء (٢). وزعم أبو حيان أنّ ابن عصفور (٣) وابن مالك (٤) ، وابن العلج (٥) وهموا في جعلهم (فل) كناية عن علم من يعقل (فلان) (٦). ولام (فل) و (فلان) فيها وجهان :

أحدهما : أنها واو.

والثاني : أنها ياء (٧).

فصل

تقدم الكلام في (يا وَيْلَتى) في هود (٨). (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) يعني أبيّ بن خلف (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ) عن الإيمان والقرآن ، (بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) يعني الذكر مع الرسول (وَكانَ الشَّيْطانُ) وهو كل متمرد عات من الجن والإنس ، وكل من صدّ عن سبيل الله فهو شيطان (٩). وقييل: أشار إلى خليله (١٠). وقيل : أراد إبليس ، فإنه الذي حمله على أن صار خليلا لذلك المضل ، ومخالفة الرسول ، ثم خذله (١١) ، وهو معنى قوله : (لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) أي : تاركا يتركه ويتبرأ منه عند نزول البلاء والعذاب (١٢).

وقوله : (وَكانَ الشَّيْطانُ) يحتمل أن تكون هذه الجملة من مقول الظالم فتكون منصوبة المحل بالقول. وأن تكون من مقول الباري تعالى فلا (١٣) محل لها ، لاستئنافها (١٤).

__________________

(١) رجز قاله أبو النجم. تقدم تخريجه.

(٢) هذا القول منسوب للكوفيين. انظر شرح التصريح ٢ / ١٨٠ ، الهمع ١ / ١٧٧ ونسبه إلى الفراء أبو حيان في البحر المحيط ٦ / ٤٩٦.

(٣) قال ابن عصفور : (وقد اختصت العرب بعض الأسماء بالنداء وهو أبت ، وأمت واللهم ، وفل ، وهو كناية عن العلم) المقرب (١٩٩).

(٤) قال ابن مالك : (فمن ذلك قولهم للرجل : يا فل ـ بمعنى يا فلان ـ وللمرأة يا فلة ـ بمعنى يا فلانة) شرح الكافية الشافية ٣ / ١٣٢٩.

(٥) انظر شرح التصريح ٢ / ١٧٩.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٩٦.

(٧) قال صاحب اللسان : (وروي عن الخليل أنه قال : فلان نقصانه ياء أو واو من آخره ، والنون زائدة ، لأنك تقول في تصغيره : فليان ، فيرجع إليه ما نقص وسقط منه ، ولو كان فلان مثل دخان لكان تصغيره فلين مثل دخين ، ولكنهم زادوا ألفا ونونا على فل) اللسان (فلن). ويرى سيبويه أن لام (فل وفلان) نون فإنه قال : (ومن ذلك فل ، تقول : فلين. وقولهم : فلان دليل على أن ما ذهب لام وأنها نون. وفل وفلان معناهما واحد) الكتاب ٣ / ٤٥٢.

(٨) عند قوله تعالى : «قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً» [هود : ٧٢].

(٩) انظر البغوي ٦ / ١٧٣.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ٧٦.

(١١) المرجع السابق.

(١٢) انظر البغوي ٦ / ١٧٣.

(١٣) في ب : ولا.

(١٤) انظر الكشاف ٣ / ٩٦ ، تفسير ابن عطية ١١ / ٣٤ ـ ٣٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٦.

٥٢٣

قوله تعالى : (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً)(٣١)

قوله تعالى (١) : (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ).

قال أكثر المفسرين : إنّ هذا القول وقع مع الرسول. وقال أبو مسلم : بل المراد أنّ الرسول يقوله في الآخرة كقوله : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١]. والأول أولى ، لأنّ قوله : (وَكَذلِكَ (٢) جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) تسلية للرسول ، ولا يليق ذلك إلا إذا وقع القول منه (٣). و «مهجورا» مفعول ثان ل «اتّخذوا» (٤) ، أو حال. وهو مفعول من الهجر ـ بفتح الهاء ـ وهو التّرك والبعد. أي : جعلوه متروكا بعيدا ، لم يؤمنوا به ، ولم يقبلوه ، وأعرضوا عن استماعه. وقيل : هو من الهجر ـ بالضم ـ أي : مهجورا فيه. ثم حذف الجار (٥) بدليل قوله : (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ) [المؤمنون : ٦٧]. وهجرهم فيه : قولهم فيه (٦) : إنه شعر ، وسحر ، وأساطير الأولين ، وكذب وهجر ، أي : هذيان (٧).

قال عليه‌السلام : «من تعلم القرآن وعلق مصحفا ، ولم يتعاهده ، ولم ينظر فيه ، جاء يوم القيامة متعلقا به ، يقول : يا رب العالمين عبدك هذا اتخذني مهجورا اقض بيني وبينه» (٨). وجعل الزمخشري «مهجورا» (٩) هنا مصدرا بمعنى الهجر قال كالمجلود والمعقول (١٠). قال شهاب الدين : وهو غير مقيس ، ضبطه أهل اللغة في أليفاظ فلا يتعدى إلّا بنقل (١١).

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) الآية. جعل ذكر ذلك تسلية للرسول ، وأن له أسوة بسائر الرسل ، فليصبر على ما يلقاه من قومه كما صبر أولو العزم من الرسل (١٢). (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً).

قال المفسرون : الباء زائدة بمعنى كفى ربك (١٣)(هادِياً وَنَصِيراً) منصوبان على

__________________

(١) تعالى : سقط من ب.

(٢) في ب : كذلك.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٧.

(٤) انظر التبيان ٢ / ٩٨٥.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ٩٦ ، الفخر الرازي ٢٤ / ٧٧.

(٦) فيه : سقط من ب.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٧

(٨) أخرجه ابن حجر في الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١٢١) ، الثعلبي من طريق أبي هدية عن أنس ، وأبو هدية كذاب. وأورده ابن عطية في تفسيره ١١ / ٣٥ ـ ٣٦ ، الفخر الرازي ٢٤ / ٧٧ ، القرطبي ١٣ / ٢٧ ـ ٢٨.

(٩) في الأصل : مفعولا.

(١٠) انظر الكشاف ٣ / ٩٦.

(١١) الدر المصون ٥ / ١٣٧.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٧.

(١٣) هذا هو المشهور ، وقيل : إن الباء معدية دخلت لتضمّن كفى معنى اكتف ، قال ابن هشام : وهو من الحسن بمكان ويصححه قولهم : اتقى الله امرؤ فعل خيرا يثب عليه ، أي : ليتق وليفعل بدليل جزم ـ

٥٢٤

الحال ، وقيل : على التمييز (١) «هاديا» إلى مصالح الدين والدنيا ، «ونصيرا» على الأعداء.

فصل

احتج أهل السنة بهذه الآية على أنه تعالى خلق الخير والشر ، لأنّ قوله : (جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) يدل على أن تلك العداوة من جعل الله تعالى ، وتلك العداوة كفر. قال الجبائي : المراد من الجعل التبيين ، لأنه تعالى لمّا بيّن أنهم أعداؤه ، فقد جعل أنهم أعداء ، كما إذا بيّن الرجل أنّ فلانا لص ، فقد جعله لصا ، وكما يقال في الحاكم : إنه عدّل فلانا ، وفسّق فلانا ، وجرّحه.

وقال الكعبي (٢) : إنه تعالى لما أمر (الأنبياء) (٣) بعداوة الكفار ، وعداوتهم للكفار تقتضي (عداوة الكفار) (٤) لهم ، فلهذا جاز أن يقول : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) ، لأنه ـ سبحانه ـ هو الذي حمله ودعاه إلى ما استعقب تلك العداوة.

وقال أبو مسلم : يحتمل في العدو أنه البعيد الغريب (٥) ، إذ المعاداة المباعدة (٦) ، كما أن النصرة قرب من المظاهرة (٧) ، وقد باعد الله بين المؤمنين والكافرين. والجواب عن الأول : أنّ التبيين لا يسمي التيه جعلا ، لأن من بين لغيره وجود الصانع وقدمه لا يقال : إنه جعل الصانع وجعل قدمه.

والجواب عن الثاني : أنّ الذي أمره (٨) الله تعالى (به) (٩) هل له تأثير في وقوع العداوة في قلوبهم ، أو ليس له فيه تأثير؟.

فإن كان الأول فقد تم الكلام ، لأنّ عداوتهم للرسول كفر ، فإذا أمر الله الرسول بما له أثر في تلك العداوة ، فقد أمر بما له أثر في وقوع الكفر ، وإن لم يكن له (١٠) فيه تأثير ألبتة كان منقطعا عنه بالكلية ، فيمتنع إسناده إليه ، وهذا هو الجواب عن أبي مسلم (١١). فإن قيل : قوله ـ عليه‌السلام (١٢) ـ : ((يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) في

__________________

ـ (يثب) وتوجيه قولهم : كفى بهند ، بترك التاء ، وقيل : الفاعل ضمير الاكتفاء ، فالباء ليست بزائدة ، والتقدير : كفى الاكتفاء بالله. قال الرماني : فيه بعد لقبح حذف الفاعل ، ولأن الاستعمال يدل على خلافه ، ولا تزاد الباء في فاعل (كفى) التي بمعنى أجزأ وأغنى ، ولا التي بمعنى وفى. انظر معاني الحروف للرماني (٣٧) ، تفسير ابن عطية ١١ / ٣٦ ، المغني ١ / ١٠٦ ـ ١٠٧ ، حاشية الشيخ يس على التصريح ١ / ٢٧٠.

(١) انظر القرطبي ١٣ / ٢٨ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٦.

(٢) في ب : الكلبي. وهو تحريف.

(٣) الأنبياء : تكملة من الفخر الرازي.

(٤) ما بين القوسين في النسختين : عداوته. والتصويب من الفخر الرازي.

(٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٦) في ب : والغريب.

(٧) في ب : والمباعدة.

(٨) في ب : الظاهر.

(٩) في الأصل : أمر.

(١٠) به : تكملة من الفخر الرازي.

(١١) له : سقط من ب.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٧.

٥٢٥

المعنى كقول نوح ـ عليه‌السلام) (١) ـ (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) [نوح : ٥ ـ ٦] فكما أن المقصود من هذا إنزال العذاب فكذا هنا (٢) ، فكيف يليق هذا بمن وصفه الله بالرحمة في قوله (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧].

فالجواب : أن نوحا ـ عليه‌السلام (٣) ـ لما ذكر ذلك دعا عليهم وأما محمد ـ عليه‌السلام (٤) ـ لما ذكر هذا ما دعا عليهم بل انتظر ، فلما قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) (من المجرمين) (٥) كان ذلك كالأمر له بالصبر على ذلك وترك (٦) الدعاء عليهم (فافترقا) (٧)(٨). فإن قيل : قوله : «جعلنا» صيغة تعظيم ، والعظيم إذا ذكر نفسه في معرض التعظيم ، وذكر أنه يعطي ، فلا بد وأن تكون العطية عظيمة كقوله : ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم وقوله : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ)(٩) ، فكيف يليق بهذه الصيغة أن تكون تلك العطية هي العداوة التي (١٠) هي منشأ الضرر في الدين والدنيا؟

فالجواب : خلق العدو (١١) تسبب لازدياد المشقة التي هي موجبة لمزيد الثواب (١٢).

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً)(٣٤)

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ١٣) عَلَيْهِ الْقُرْآنُ) الآية.

هذه شبهة خامسة (١٤) لمنكري النبوة ؛ فإن أهل مكة قالوا : تزعم أنك رسول من عند الله ، فهلا تأتينا بالقرآن جملة (واحدة) (١٥) ، كما أتي موسى بالتوراة جملة ، وكما أتي عيسى بالإنجيل جملة ، وداود بالزبور (١٦). قال ابن جريج : من أوله إلى آخره في ثنتين أو ثلاث وعشرين سنة (١٧). و «جملة» حال من «القرآن» ؛ إذ هي في معنى مجتمعا (١٨).

قوله : «كذلك» الكاف إما مرفوعة المحل ، أي : الأمر كذلك (١٩) ، و «لنثبّت» علة

__________________

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(٣) في الأصل : هناك.

(٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٥) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٦) في ب : ونزل. وهو تحريف.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٧ ـ ٧٨.

(٨) ما بين القوسين في ب : فافترقوا.

(٩) من قوله تعالى : «إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ» [الكوثر : ١].

(١٠) التي : سقط من ب.

(١١) في ب : العبد. وهو تحريف.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٨.

(١٣) في الأصل : أنزل. وهو تحريف.

(١٤) خامسة : سقط من ب.

(١٥) واحدة : سقط من الأصل.

(١٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٨ ـ ٧٩.

(١٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٩.

(١٨) انظر التبيان ٢ / ٩٨٥.

(١٩) انظر الكشاف ٣ / ٩٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٦.

٥٢٦

لمحذوف (١) ، أي : لنثبت فعلنا ذلك. وإما منصوبته (٢) على الحال ، أي : أنزل مثل ذلك ، أو على النعت لمصدر محذوف ، و «لنثبت» متعلقة بذلك الفعل المحذوف (٣) وقال أبو حاتم : هي جواب قسم(٤). وهذا قول مرجوح نحا إليه الأخفش (٥) ، وجعل منه «ولتصغى» (٦) ، وقد تقدم في الأنعام. وقرأ عبد الله «ليثبت» بالياء (٧) أي الله تعالى.

فصل

هذا جواب عن شبهتهم ، وبيانه من وجوه :

أحدها : أنه ـ عليه‌السلام ـ لم يكن من أهل الكتابة والقراءة (٨) ، فلو نزل ذلك عليه جملة واحدة كان (٩) لا يضبطه وجاز عليه فيه الخطأ والغلط.

وثانيها : أن من كان الكتاب عنده ، فربما اعتمد على الكتاب وتساهل في الحفظ ، فالله (١٠) تعالى ما أعطاه الكتاب جملة واحدة بل كان ينزل عليه وظيفة ، ليكون حفظه له أكمل ، فيكون أبعد عن المساهمة وقلة التحصيل.

وثالثها : أنه تعالى لو أنزل الكتاب جملة واحدة لنزلت الشرائع بأسرها دفعة على الخلق ، فكان يثقل عليهم ذلك فلما (١١) نزل مفرقا منجما نزلت التكاليف قليلا قليلا ، فكان تحملها أسهل.

ورابعها : أنه إذا شاهد جبريل حالا بعد حال يقوى قلبه بمشاهدته على أداء ما حمل ، وعلى الصبر على عوارض النبوة ، وعلى احتمال الأذى وعلى التكاليف الشاقة.

وخامسها : أنه لما تم (١٢) شرط الإعجاز فيه مع كونه منجما ثبت كونه معجزا ؛ فإنه لو كان ذلك مقدورا للبشر لوجب أن يأتوا بمثله منجما مفرقا ، ولما عجزوا عن معارضة نجومه المفرقة ، فعن معارضة الكل أولى.

وسادسها : كان القرآن ينزل بحسب أسئلتهم ووقائعهم ، فكانوا يزدادون بصيرة ، وكان ينضم إلى الفصاحة الإخبار عن الغيوب.

وسابعها : أن السفارة بين الله وبين أنبيائه ، وتبليغ كلامه إلى الخلق منصب عظيم ، فيحتمل أن يقال : إنه تعالى لو أنزل القرآن على محمد دفعة واحدة لبطل المنصب على

__________________

(١) في ب : بمحذوف.

(٢) في ب : منصوبة.

(٣) انظر التبيان ٢ / ٩٨٥.

(٤) أي : اللام في «لنثبت» ، والتقدير : والله ليثبتن ، فحذفت النون وكسرت اللام. انظر البحر المحيط ٦ / ٤٩٧.

(٥) قال الأخفش :(«ولتصغى إليه أفئدة الّذين لا يؤمنون بالآخرة» أي : ولتصغين) معاني القرآن ٢ / ٥٥٨.

(٦) من قوله تعالى : «وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ»[الأنعام : ١١٣].

(٧) المختصر (١٠٤) ، تفسير ابن عطية ١١ / ٣٧ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٧.

(٨) في ب : القراءة والكتابة.

(٩) في ب : فإنه.

(١٠) في ب : والله.

(١١) في ب : فيما.

(١٢) تم : تكملة من الفخر الرازي.

٥٢٧

جبريل ـ عليه‌السلام ـ فلما أنزله مفرقا منجما بقي ذلك المنصب العالي عليه ، فلذلك جعلة الله تعالى منجما(١).

فصل (٢)

قوله : «كذلك» يحتمل أن يكون من تمام (٣) كلام المشركين ، أي : جملة واحدة كذلك أي كالتوراة والإنجيل. ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى ذكره جوابا لهم ، أي : كذلك أنزلناه ، مفرقا (٤). فإن قيل : «كذلك» إشارة إلى شيء تقدمه ، والذي تقدمه هو إنزالة جملة ، (فكيف فسره ب «كذلك أنزلناه») (٥) مفرقا؟

فالجواب : أن الإشارة (إلى الإنزال مفرقا لا إلى جملة (٦). قوله : (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) الترتيل : التفريق ومجيء الكلمة بعد الأخرى بسكوت) (٧) يسير دون قطع النفس ، ومنه ثغر (٨) رتل ومرتل ، أي: مفلج الأسنان بين أسنانه فرج يسيرة (٩). قال الزمخشري : ونزل هنا بمعنى أنزل لا غير كخبر بمعنى أخبر وإلا تدافعا (١٠). يعني أن نزل بالتشديد يقتضي بالأصالة التنجيم والتفريق ، فلو لم يجعل بمعنى أنزل الذي لا يقتضي ذلك ، لتدافع (١١) مع قوله «جملة» لأن الجملة تنافي التفريق ، وهذا بناء منه على معتقده ، وهو أن التضعيف يدل على التفريق ، وقد نص على كذلك في مواضع من الكشاف في سورة البقرة (١٢) ، وأول (١٣) آل عمران (١٤) ، وآخر الإسراء (١٥) ، وحكى هناك عن ابن عباس ما يقوي ظاهره صحة قوله (١٦).

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٩.

(٢) في الأصل : قوله. وهو تحريف.

(٣) تمام : سقط من ب.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٩.

(٥) ما بين القوسين سقط من الأصل ، وعلى هامشه : لعله : لا اتزالة.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٩.

(٧) ما بين القوسين سقط من ب.

(٨) الثغر : الفم. وقيل : هو اسم الأسنان كلها ما دامت في منابتها قبل أن تسقط ، وقيل : هي الأسنان كلها ، كن في منابتها أو لم تكن ، اللسان (ثغر).

(٩) انظر اللسان (رتل).

(١٠) في الكشاف : وإلا كان متدافعا. الكشاف ٣ / ٩٦.

(١١) في ب : التدافع.

(١٢) عند قوله تعالى : «وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا» [البقرة : ٢٣]. قال الزمخشري : (فإن قلت : لم قيل «مِمَّا نَزَّلْنا» على لفظ التنزيل؟ قلت : لأن المراد النزول على سبيل التدريج والتنجيم ، وهو من مجازه لمكان التحدي) الكشاف ١ / ٤٧.

(١٣) في ب : وأول سورة.

(١٤) عند قوله تعالى : «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ» [آل عمران : ٣]. قال الزمخشري: (فإن قلت : لم قيل : نزّل الكتاب وأنزل التوراة والإنجيل؟ قلت : لأن القرآن نزل منجما ونزل الكتابان جملة) الكشاف ١ / ١٧٤.

(١٥) عند قوله تعالى : «وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً»[الإسراء : ١٠٦]. قال الزمخشري : (وقرأ أبيّ «فرقناه» بالتشديد ، أي : جعلنا نزوله مفرقا منجما ... «وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً» على حسب الحوادث) الكشاف ٢ / ١٣٨.

(١٦) قال الزمخشري عند قوله «وَقُرْآناً فَرَقْناهُ ... الآية» [الإسراء : ١٠٦] : (وعن ابن عباس رضي الله عنه ـ

٥٢٨

فصل

(وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) قال ابن عباس : بيناه بيانا (١). والترتيل : التبيين (٢) في ترسل (٣) وتثبيت(٤). وقال السديّ : فصلناه تفصيلا (٥). وقال مجاهد : بعضه (٦) في أثر بعض (٧). وقال النخعي والحسن (٨) وقتادة : فرقناه تفريقا آية بعد آية (٩). قوله : (وَلا يَأْتُونَكَ) يعني المشركين «بمثل» يضربونه (١٠) في إبطال أمرك (إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ) الذي (١١) يدفع ما جاءوا به من المثل ويبطله كقوله : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) [الأنبياء : ١٨] في ما يريدون من الشبه (مثلا ، وسمى ما يدفع به الشّبه) (١٢) حقا (١٣).

قوله : (إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ) هذا الاستثناء مفرغ ، والجملة في محل نصب على الحال ، أي : لا يأتونك بمثل إلا في حال إيتائنا إياك كذا ، والمعنى : ولا يأتونك بسؤال عجيب إلا جئناك بالأمر الحق ، (وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) أي : بيانا وتفضيلا ، و «تفسيرا» تمييز. والمفضّل عليه محذوف : تفسيرا من مثلهم (١٤).

والتفسير : تفعيل من الفسر (١٥) ، وهو كشف ما قد غطي (١٦).

ثم ذكر مآل المشركين فقال : (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ) بساقون ويجرّون إلى جهنم ، روي أنهم يمشون في الآخرة مقلوبين وجوههم (١٧) على القفا ، وأرجلهم إلى فوق ، وقال عليه‌السلام (١٨) : «إنّ الذين أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم» (١٩). والأول أولى ، لأنه (٢٠) ورد أيضا.

قوله : (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ) يجوز رفعه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين (٢١) ويجوز نصبه على الذم (٢٢) ، ويجوز أن يرتفع بالابتداء وخبره الجملة من قوله «أولئك شرّ

__________________

ـ أنه قرأه مشدّدا (أي : فرّقناه) ، وقال : لم ينزل في يومين أو ثلاثة بل كان بين أوله وآخره عشرون سنة) الكشاف ٢ / ٣٧٨.

(١) انظر البغوي ٦ / ١٧٦.

(٢) في ب : التبيان.

(٣) في ب : ترتل.

(٤) اللسان (رتل).

(٥) انظر البغوي ٦ / ١٧٦.

(٦) في ب : بعض.

(٧) انظر البغوي ٦ / ١٧٦.

(٨) في ب : الحسن والنخعي.

(٩) انظر البغوي ٦ / ١٧٦.

(١٠) في ب : تصرفونه.

(١١) الذي : مكرر في ب.

(١٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٣) انظر البغوي ٦ / ١٧٦.

(١٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٩٧.

(١٥) في ب : المفسر.

(١٦) اللسان (فسر).

(١٧) في ب : على وجوههم.

(١٨) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٩) أخرجه البخاري (تفسير) ٣ / ١٦٩ ، مسلم (منافقين) ٤ / ٢١٦١ ، أحمد ٢ / ٣٥٤ ، ٣٦٣.

(٢٠) لأنه : سقط من ب.

(٢١) انظر التبيان ٢ / ٩٨٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٧.

(٢٢) انظر التبيان ٢ / ٩٨٦.

٥٢٩

مكانا» (١) ، ويجوز أن يكون «أولئك» بدلا أو بيانا للموصول ، و (شَرٌّ مَكاناً) خبر الموصول.

قوله : (أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً) منزلا ومصيرا من أهل الجنة (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) وأخطأ طريقا (٢) وههنا سؤال كما تقدم في قوله : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا)(٣).

ولما تكلم في التوحيد ، ونفي الأنداد (٤) وإثبات النبوة وأحوال القيامة شرع في ذكر القصص على الطريقة المعلومة (٥).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً)(٣٦)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) الآية. لما (٦) قال : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) [الفرقان : ٣١] وذكر ذلك في معرض التسلية له ، ذكر جماعة من الأنبياء ، وعرفه تكذيب أممهم ، والمعنى (٧) : لست يا محمد بأول من أرسلنا فكذب (وآتيناه الآيات فردّ) (٨) : فقد آتينا موسى الكتاب ، وقوينا عضده بأخيه هارون (ومع ذلك فقد ردّ) (٩)(١٠). فإن قيل : كون (١١) هارون وزيرا كالمنافي لكونه شريكا ، بل يجب أن يقال : إنه لما صار (شريكا) (١٢) خرج عن كونه وزيرا. فالجواب : لا منافاة بين الصنفين ، لأنه لا يمنع أن يشركه في النبوة ويكون وزيرا ، وظهيرا (١٣) ، ومعينا له (١٤). ولا (١٥) وجه لقول من قال في قوله : (فَقُلْنَا اذْهَبا) إنه خطاب لموسى عليه‌السلام (١٦) وحده بل يجري مجرى قوله : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى)(١٧) [طه : ٤٣].

قوله (١٨) : «هارون» بدل (١٩) ، أو بيان (٢٠) ، أو منصوب على القطع و «وزيرا» مفعول ثان (٢١) ، وقيل : حال ، والمفعول الثاني قوله «معه» (٢٢). قال الزجاج : الوزير في اللغة الذي يرجع إليه ويعمل (٢٣) برأيه ، والوزر (٢٤) ما يعتصم به ، ومنه : (كَلَّا لا وَزَرَ) [القيامة : ١١]

__________________

(١) انظر التبيان ٢ / ٩٨٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٧.

(٢) انظر البغوي ٦ / ١٧٦.

(٣) من الآية (٢٤) من السورة نفسها.

(٤) في ب : الإنذار. وهو تحريف.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٠.

(٦) في ب : ولما.

(٧) في ب : فالمعنى.

(٨) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٠.

(١٠) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

(١١) في ب : كيف. وهو تحريف.

(١٢) شريكا : تكملة من الفخر الرازي.

(١٣) في ب : ظهيرا.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨١.

(١٥) في ب : فلا.

(١٦) عليه‌السلام : سقط من ب.

(١٧) [طه : ٤٣]. وانظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨١.

(١٨) في ب : فصل. وهو تحريف.

(١٩) انظر التبيان ٢ / ٩٨٦.

(٢٠) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٩٨.

(٢١) المرجع السابق.

(٢٢) المرجع السابق.

(٢٣) في معاني القرآن وإعرابه : ويتحصن.

(٢٤) في ب : والوزير.

٥٣٠

أي : لا منجى ولا ملجأ (١). قال القاضي : ولذلك لا يوصف (٢) تعالى بأن له (٣) وزيرا (٤).

قوله : (فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) يعني القبط.

قوله : (فَدَمَّرْناهُمْ). العامة على «فدمّرنا» فعلا ماضيا معطوفا على محذوف ، أي : فذهبا فكذبوهما (٥)(فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) أهلكناهم إهلاكا. وقرأ عليّ ـ كرم الله وجهه ـ «فدمّراهم» أمر (٦) لموسى وهارون (٧) ، وعنه أيضا : «فدمّرانّهم» كذلك أيضا ، ولكنه مؤكد بالنون الشديدة (٨) ، وعنه أيضا : «فدمّرا بهم» بزيادة باء الجر بعد فعل الأمر (٩) ، وهي تشبه القراءة قبلها في الخط ، ونقل عنه الزمخشري «فدمّرتهم» بتاء المتكلم (١٠). فإن قيل : الفاء للتعقيب ، والإهلاك لم يحصل عقيب بعث موسى وهارون إليهم بل بعد (١١) مدة مديدة.

فالجواب : فاء التعقيب محمولة هنا على الحكم بالإهلاك لا على الوقوع. وقيل : إنه تعالى أراد اختصار القصة (١٢) فذكر المقصود منها أولها وآخرها ، والمراد إلزام الحجة ببعثة الرسل ، واستحقاق التدمير بتكذيبهم (١٣). واعلم أن قوله : (كَذَّبُوا بِآياتِنا) إن حملنا تكذيب الآيات على تكذيب الآيات الإلهية فلا إشكال ، وإن حملناه على تكذيب آيات النبوة ، فاللفظ وإن كان للماضي (١٤) فالمراد به المستقبل (١٥).

قوله تعالى : (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً)(٣٩)

قوله تعالى : (وَقَوْمَ نُوحٍ) الآية. يجوز أن يكون «قوم» منصوبا عطفا على مفعول

__________________

(١) في معاني القرآن وإعرابه : أي لا ملجأ يوم القيامة ولا منجى إلا لمن رحم الله عزوجل. وانظر معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٦٧.

(٢) لا يوصف : سقط من ب.

(٣) في الأصل : بأنه.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨١.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ٧٩ ، التبيان ٢ / ٩٨٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٨.

(٦) في ب : أمر.

(٧) انظر الكشاف ٣ / ٩٧ ، تفسير ابن عطية ١١ / ٣٩ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٨.

(٨) قال ابن جني : (الذي رويناه عن أبي حاتم أنه حكاها قراءة غير معزوّة إلى أحد «فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً» وقال : كأنه أمر موسى وهارون عليهما‌السلام أن يدمراهم. قال أبو الفتح : ألحق نون التوكيد ألف التثنية كما تقول : اضربانّ زيدا ، ولا تقتلان جعفرا) المحتسب ٢ / ١٢٢ ـ ١٢٣. وانظر المختصر (١٠٥) ، تفسير ابن عطية ١١ / ٣٩ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٨.

(٩) المحتسب ٢ / ١٢٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٨.

(١٠) قال الزمخشري : (وعن علي ـ رضي الله عنه ـ «فدمّرتهم») الكشاف ٣ / ٣٧.

(١١) في ب : بعده.

(١٢) في ب : اختصاره الفقه. وهو تحريف.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨١.

(١٤) في ب : الماضي.

(١٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨١.

٥٣١

«دمّرناهم» (١) ، ويجوز أن يكون منصوبا بفعل مضمر قوله : «أغرقناهم» (٢) وترجح هذا بتقديم جملة فعلية قبله. هذا إذا قلنا : إن «لما» ظرف زمان (٣) ، وأما إذا (٤) قلنا إنها حرف وجوب لوجوب فلا يتأتى ذلك ، لأن «أغرقناهم» حينئذ جواب «لما» ، وجوابها لا يفسر (٥) ، ويجوز أن يكون منصوبا بفعل مقدر لا على سبيل الاشتغال ، أي : اذكر قوم نوح (٦).

فصل

إنما قال : (كَذَّبُوا الرُّسُلَ) إما لأنهم كانوا من البراهمة المنكرين لكل الرسل ، أو (٧) لأن تكذيبهم (٨) لواحد تكذيب للجميع ، لأن من كذب رسولا واحدا فقد كذب جميع الرسل (٩).

وقوله «أغرقناهم». قال الكلبي : أمطرنا عليهم السماء أربعين يوما ، وأخرج ماء الأرض أيضا في تلك الأربعين ، فصارت (١٠) الأرض بحرا واحدا (١١). «وجعلناهم» أي : جعلنا إغراقهم وقصتهم «للناس آية» للظالمين أي : لكل من سلك سبيلهم ، (وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ) في الآخرة (عَذاباً أَلِيماً)(١٢).

قوله تعالى : (وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ) الآية ، «وعادا» فيه ثلاثة أوجه :

أن يكون معطوفا على «قوم نوح» (١٣) ، وأن يكون معطوفا على مفعول «جعلناهم» (١٤) وأن يكون معطوفا على محل «للظّالمين» لأنه في قوة وعدنا الظالمين بعذاب (١٥). قوله : (وَأَصْحابَ الرَّسِّ) فيه (١٦) وجهان :

__________________

(١) انظر البيان ٢ / ٢٠٤ ، التبيان ٢ / ٩٨٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٨.

(٢) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٣٩ ، البيان ٢ / ٢٠٤ ، التبيان ٢ / ٩٨٦.

(٣) تبعا لابن السراج والفارسي ومن تبعهما في أنها ظرف بمعنى حين. انظر المغني ١ / ٢٨٠.

(٤) في ب : إن.

(٥) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٩٨.

(٦) انظر البيان ٢ / ٢٠٤ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٨. وقال الفراء : إنه منصوب ب «أغرقناهم». معاني القرآن ٢ / ٢٦٨ وردّه النحاس ، فإنه قال : (وهذا لا يحصل لأن (أغرقنا) ليس مما يتعدى إلى مفعولين فيعمل في المضمر وفي «قوم نوح») إعراب القرآن ٣ / ١٦١.

(٧) في ب : و. وهو تحريف.

(٨) في الأصل : تكذبهم.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨١.

(١٠) في ب : لصارت.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨١.

(١٢) المرجع السابق.

(١٣) انظر إعراب القرآن للنحاس ٣ / ١٦١ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٨.

(١٤) قاله الزجاج. معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٦٩ ، وقال النحاس : (وهو أولى : لأنه أقرب إليه) إعراب القرآن ٣ / ١٦١ ، ورده ابن الأنباري ، فإنه قال : (ولا يجوز أن يكون بالعطف على «وجعلناهم») البيان ٢ / ٢٠٥ ، ولا وجه له لأن جميع هذه الأمم قد صارت آية لمن أتوا بعدهم من الأمم.

(١٥) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٦٩ ، الكشاف ٣ / ٩٧ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٨.

(١٦) فيه : سقط من ب.

٥٣٢

أحدهما : (أنه) (١) من عطف المغاير ، وهو الظاهر.

والثاني : أنه من عطف بعض الصفات على بعض.

والمراد ب (أَصْحابَ الرَّسِّ) ثمود ، لأن الرّسّ البئر التي (٢) التي لم تطو عن أبي عبيدة (٣) ، وثمود أصحاب آبار. وقيل : «الرّسّ» نهر بالمشرق (وكانت قرى أصحاب الرس على شاطىء فبعث الله إليهم نبيا من أولاد يهودا (٤) بن يعقوب فكذبوه ، فلبث فيهم زمانا يشتكي إلى الله منهم ، فحفروا بئرا ورسوه فيها ، وقالوا : نرجو أن يرضى عنا إلهنا ، وكانوا عامة يومهم يسمعون أنين نبيهم وهو يقول : إلهي ترى ضيق مكاني ، وشدة كربي ، وضعف قلبي ، وقلة (٥) صلتي فجعل قبض روحي حتى مات ، فأرسل الله ريحا عاصفة شديدة الحر ، وصارت الأرض من تحتهم كبريتا متوقدا (٦) ، وأظلتهم (٧) سحابة سوداء ، فذابت أبدانهم كما يذوب (٨) الرصاص) (٩) ويقال : إنهم (١٠) أناس عبدة أصنام قتلوا نبيهم ، ورسوه في بئر أي ؛ دسوه (١١) فيها (١٢) وقال قتادة والكلبي : الرس بئر بفلج اليمامة قتلوا نبيهم وهو حنظلة بن صفوان (١٣) وقيل : هم بقية ثمود قوم صالح ، وهم أصحاب البئر التي ذكر الله تعالى (١٤) في قوله : (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ)(١٥) [الحج : ٤٥]. وقال كعب ومقاتل والسدي : الرس (١٦) بأنطاكية قتلوا فيها حبيب النجار ، ورسوه في بئر ، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في سورة يس (١٧). وقيل : هم أصحاب الأخدود ، والرس هو الأخدود الذي حفروه (١٨).

وقال عكرمة : هم قوم رسوا (١٩) نبيهم في بئر (٢٠). وقيل : الرس المعدن ، وجمعه

__________________

(١) أنه : تكملة ليست في المخطوط.

(٢) التي : سقط من ب.

(٣) في النسختين : عبيد. كذا نقل عنه الزمخشري الكشاف ٣ / ٩٧. والفخر الرازي ٢٤ / ٨٢ والذي ذكره أبو عبيدة في مجاز القرآن ٢ / ٧٥ أن الرّسّ : المعدن.

(٤) في ب : هودا. والتصويب من الفخر الرازي.

(٥) في ب : قلته.

(٦) في ب : فيوقده. والتصويب من الفخر الرازي.

(٧) في ب : وأضلتهم. والتصويب من الفخر الرازي.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٢ ـ ٨٣ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٩.

(٩) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(١٠) في الأصل : أنه.

(١١) في ب : ودسوه.

(١٢) انظر الكشاف ٣ / ٩٧ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٩.

(١٣) انظر البغوي ٦ / ١٧٨ ، الكشاف ٣ / ٩٧ ، الفخر الرازي ٢٤ / ٨٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٨ ـ ٤٩٩.

(١٤) تعالى : سقط من ب.

(١٥) [الحج : ٤٥]. وانظر البغوي ٦ / ١٧٨.

(١٦) في ب : البئر.

(١٧) في قوله تعالى : «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ» .. إلخ [يس : ١٣ وما بعدها]. انظر البغوي ٦ / ١٧٨ ، تفسير ابن عطية ١١ / ٤٠ ، القرطبي ١٣ / ٣٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٩.

(١٨) انظر البغوي ٦ / ١٧٨ ، الفخر الرازي ٢٤ / ٨٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٩.

(١٩) في ب : دسوا.

(٢٠) انظر البغوي ٦ / ١٧٨.

٥٣٣

رساس (١) وروي (٢) عن علي ـ رضي الله عنه ـ : أنهم قوم كانوا يعبدون شجرة الصّنوبر وسموا أصحاب الرس ؛ لأنهم رسوا نبيهم في الأرض (٣). وروى ابن جرير عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن الله بعث نبيا إلى أهل قرية ، فلم يؤمن به من أهل القرية أحد إلا عبد أسود ، ثم إنهم حفروا للرسول بئرا وألقوه فيها ، ثم طبقوا عليها حجرا ضخما ، وكان ذلك الرجل الأسود يحتطب ويشتري له طعاما وشرابا ، ويرفع الصخرة ويدليه إليه ، فكان ذلك ما شاء الله فاحتطب يوما ، فلما أراد أن يحملها وجد نوما (٤) ، فاضطجع (٥) ، وضرب الله على أذنه تسع سنين ، ثم هبّ (٦) واحتمل حزمته واشترى طعاما وشرابا ، وذهب إلى الحفرة فلم يجد أحدا ، وكان قومه قد استخرجوه فآمنوا به ، وصدقوه ، وكان ذلك النبي يسألهم عن الأسود ، ويقول لهم إنه (٧) أول من يدخل الجنة (٨).

قوله : («وقرونا») (٩) أي : وأهلكنا قرونا كثيرة (١٠) بين عاد وأصحاب الرس (١١) والقرون : جمع قرن ، قال عليّ ـ رضي الله عنه ـ : القرن أربعون سنة ، وهو قول النخعي. وقيل : مائة وعشرون سنة. وقيل غير ذلك (١٢). وتقدم الكلام عليه في سورة سبحان عند قوله : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) [الإسراء : ١٧].

قوله : «بين ذلك» «ذلك» إشارة إلى من تقدم ذكره ، وهم جماعات ، فلذلك حسن دخول «بين» عليه (١٣). وقد يذكر الذاكر بحوثا ثم يشير إليها بذلك ، ويحسب الحاسب أعدادا متكاثرة ، ثم يقول : فذلك كيت وكيت ، أي ذلك المحسوب أو المعدود (١٤).

قوله : «وكلا» يجوز نصبه بفعل يفسره ما بعده ، أي : وحذرنا أو (١٥) ذكرنا ، لأنها في معنى ضربنا له الأمثال (١٦).

ويجوز أن يكون معطوفا على ما تقدم (١٧) ، و «ضربنا» بيان لسبب إهلاكهم. وأما «كلّا» الثانية فمفعول مقدم (١٨).

__________________

(١) المرجع السابق واللسان (رسس).

(٢) في ب : روي.

(٣) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٤٠ ، الفخر الرازي ٢٤ / ٨٢ ، القرطبي ١٣ / ٣٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٩.

(٤) في ب : قوما ما. وهو تحريف.

(٥) في ب : واضطجع.

(٦) في ب : ذهب.

(٧) أنه : مكرر في ب.

(٨) جامع البيان ١٩ / ١٠ ـ ١١.

(٩) ما بين القوسين بياض في ب.

(١٠) في ب : كثيرا.

(١١) انظر البغوي ٦ / ١٧٩.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٣ ، اللسان (قرن).

(١٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٩٩.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٣.

(١٥) في الأصل : أي.

(١٦) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٦٨ ، الكشاف ٣ / ٩٨ ، البيان ٢ / ٢٠٥ ، التبيان ٢ / ٩٨٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٩.

(١٧) انظر التبيان ٢ / ٩٨٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٩.

(١٨) ل «تبرنا». الكشاف ٣ / ٩٨ ، البيان ٢ / ٢٠٥ ، التبيان ٢ / ٩٨٦.

٥٣٤

قوله (١) : (ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ) أي : الأشباه في إقامة الحجة عليهم فلم نهلكهم إلا بعد الإنذار (٢). وقيل : بيّنّا لهم وأزحنا عللهم فلما كذبوا «تبّرناهم تتبيرا» أي (٣) : أهلكناهم إهلاكا (٤). وقال الأخفش : كسرنا تكسيرا.

قال الزجاج : كل شيء كسرته وفتّتّه فقد تبّرته (٥).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً)(٤٢)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ)(٦) الآية. أراد بالقرية قريات لوط ، وكانت خمس قرى ، فأهلك الله منها أربعا ونجت واحدة ، وهي (صقر) (٧) كان أهلها لا يعملون العمل الخبيث. يعني أن قريشا مرّوا مرورا كثيرا إلى الشام على تلك القرى ، (الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) أي : أهلكت بالحجارة من السماء ، «أفلم (٨) يكونوا يرونها» في مرورهم وينظروا إلى آثار عذاب الله ونكاله فيعتبروا ويتذكروا (٩).

قوله : (مَطَرَ السَّوْءِ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مصدر على حذف الزوائد أي : أمطار السوء.

الثاني : أنه مفعول ثان ؛ إذ المعنى : أعطيتها وأوليتها مطر السوء.

الثالث : أنه نعت مصدر محذوف ، أي : أمطارا (١٠) مثل مطر (١١) السوء (١٢) وقرأ زيد بن عليّ «مطرت» ثلاثيا مبنيا (للمفعول) (١٣)(١٤) ، ومطر متعد قال :

٣٨٧٥ ـ كمن بواديه بعد المحل ممطور (١٥)

__________________

(١) في الأصل : فصل.

(٢) انظر البغوي ٦ / ١٧٩.

(٣) أي : سقط من الأصل.

(٤) انظر البغوي ٦ / ١٧٩.

(٥) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٦٨.

(٦) مطر السوء : سقط من ب.

(٧) في ب : صغيره. وهو تحريف.

(٨) أفلم : سقط من ب.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٤.

(١٠) في ب : أمطار. وهو تحريف.

(١١) في ب : أمطار. وهو تحريف.

(١٢) انظر التبيان ٢ / ٩٨٦ ـ ٩٨٧.

(١٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٥٠٠.

(١٤) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٥) عجز بيت من بحر البسيط ، وصدره :

إنّي وإياك إذ حلّت بأرحلنا

قاله الفرزدق يمدح يزيد بن عبد الملك ، وهو في ديوانه ١ / ٢١٣. الكتاب ٢ / ١٠٦ ، البحر المحيط ٦ / ٥٠٠ ، المغني ١ / ٣٢٨ ، شرح شواهده ٢ / ٧٤١. المحل : الجدب. الممطور : الذي نزل به المطر.

والشاهد فيه قوله : ممطور ، فإنه اسم مفعول من مطرته السماء فهو ممطور فالثلاثي متعد. وفيه شاهد ـ

٥٣٥

وقرأ أبو السمال (مَطَرَ السَّوْءِ) بضم السين (١) ، وتقدم الكلام على السوء والسوء في براءة(٢). وقوله : (أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ) إنما عدّي (أتى) ب (على) ، لأنه ضمّن معنى مرّ.

قوله (٣) : (بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) في هذا الرجاء ثلاثة أوجه :

أقواها ما قاله القاضي : وهو أنه محمول على حقيقة الرجاء ؛ لأن الإنسان لا يحتمل متاعب التكليف إلا رجاء ثواب الآخرة ، فإذا لم يؤمن بالآخرة لم يرج ثوابها فلا يتحمل تلك المشاق.

وثانيها : معناه لا يتوقعون نشورا ، فوضع الرجاء موضع التوقّع ؛ لأنه إنما يتوقع العاقبة من يؤمن.

وثالثها : معناه : (لا يخافون) على اللغة التهامية. وهو ضعيف (٤).

قوله (٥) : (وَإِذا رَأَوْكَ)(٦) الآية. لما بين مبالغة المشركين في إنكار نبوته (٧) بإيراد الشبهات بين بعد ذلك أنهم إذا رأوا الرسول اتخذوه هزوا ، ولم يقتصروا على ترك الإيمان به بل زادوا عليه بالاستهزاء والاستحقار ، ويقول بعضهم لبعض : «أهذا (٨) الّذي بعث الله رسولا» (٩).

قوله : (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ) «إن» الأولى (١٠) نافية ، والثانية (١١) مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة (١٢) بينهما (١٣) ، و «هزوّا مفعول ثان (١٤) ، ويحتمل أن يكون التقدير : موضع هزء وأن يكون مهزوءا بك (١٤). وهذه الجملة المنفية تحتمل وجهين :

أحدهما : أنها جواب (إذا) الشرطية (١٥) ، واختصت (إذا) بأن جوابها متى كان منفيا ب (ما) أو (إن) أو (لا) لا تحتاج إلى الفاء بخلاف غيرها من أدوات الشرط (١٦) فعلى هذا يكون قوله : (أَهذَا الَّذِي) في محل نصب بالقول المضمر ، وذلك القول المضمر في محل نصب على الحال ، أي : إن يتخذونك قائلين ذلك (١٧).

__________________

ـ آخر : وهو جري (ممطور) على (من) النكرة المبهمة نعتا لها لازما لزوم الصلة.

(١) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٤٢ ، البحر المحيط ٦ / ٥٠٠ ، وفيه : وقرأ أبو السماك.

(٢) يشير إلى قوله تعالى : «عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ»[التوبة : ٩٨].

(٣) في ب : وقوله.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٤.

(٥) في ب : قوله تعالى.

(٦) في النسختين : «وإذا راك الذين كفروا». وهو خطأ من الناسخ. [الأنبياء : ١٦].

(٧) في ب : النبوة.

(٨) «أ» في «أهذا» : سقط من ب.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٤.

(١٠) في قوله : «إِنْ يَتَّخِذُونَكَ».

(١١) في قوله : «إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا».

(١٢) في ب : المفارقة.

(١٣) انظر الكشاف ٣ / ٩٨ ، البيان ٢ / ٢٠٥ ، ٢٠٦.

(١٤) في ب : وهزّا.

(١٤) في ب : وهزّا.

(١٥) انظر البيان ٢ / ٢٠٥.

(١٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٥٠٠.

(١٧) والتقدير : وإذا رأوك ما يتخذونك إلا هزوا قائلين أهذا الذي بعث الله رسولا. انظر البيان ٢ / ٢٠٥.

٥٣٦

والثاني : أنها جملة معترضة بين (إذا) وجوابها. وجوابها هو ذلك القول المضمر المحكي به(١)(أَهذَا الَّذِي) والتقدير : وإذا رأوك قالوا أهذا الذي (٢) بعث ، فاعترض (٣) بجملة النفي ، ومفعول «بعث» محذوف هو (٤) عائد الموصول (٥) ، أي : بعثه (٦). و «رسولا» على بابه من كونه صفة فينتصب على الحال ، وقيل : هو مصدر بمعنى رسالة (٧) ، فيكون على حذف مضاف ، أي ذا رسول بمعنى رسالة ، أو يجعل نفس المصدر مبالغة ، أو بمعنى : مرسل (٨). (٩) وهو تكلف.

قوله : (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا) تقدم نظيره في سبحان (١٠).

قوله : (لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا) جوابها محذوف ، أي : لضللنا (١١) عن آلهتنا. قال الزمخشري : و «لو لا» في مثل (١٢) هذا الكلام جار (١٣) من حيث المعنى لا من حيث الصيغة مجرى التقيد للحكم (المطلق) (١٤)(١٥).

فصل

قال المفسرون : إن أبا جهل كان إذا مر بأصحابه على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال مستهزءا : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) (إِنْ كادَ) قد كاد «ليضلّنا» أي : قد قارب أن يضلنا (١٦) عن آلهتنا لو لا أن صبرنا عليها أي : (أي لو لم نصبر عليها) (١٧) انصرافا (١٨) عنها ، (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) من أخطأ طريقا (١٩). (واعلم أن الله تعالى أخبر عن المشركين أنهم متى رأوا الرسول ـ عليه الصلاة السلام ـ أتوا بنوعين من الأفعال. أحدهما : الاستهزاء ، فيقولون : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) وذلك جهل عظيم ، لأن الاستهزاء إما أن يكون بصورته أو بصفته(٢٠) والأول باطل ، لأنه ـ عليه

__________________

(١) به : سقط من ب.

(٢) الذي : سقط من ب.

(٣) في ب : فأعرض.

(٤) في الأصل : أي هو.

(٥) الموصول : مكرر في ب.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٥٠٠.

(٧) قالهما ابن الأنباري. البيان ٢ / ٢٠٥.

(٨) انظر التبيان ٢ / ٩٨٧.

(٩) المرجع السابق.

(١٠) عند قوله تعالى : «وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ» من الآية (٧٣). (إن) هذه فيها المذهبان المشهوران ، مذهب البصريين أنها مخففة من الثقيلة ، واللام فارقة بينها بين (إن) النافية ، ولهذا دخلت على فعل ناسخ. ومذهب الكوفيين أنها بمعنى (ما) النافية واللام بمعنى (إلا).

انظر اللباب ٥ / ٣٠١.

(١١) في ب : أضللنا.

(١٢) مثل : سقط من ب.

(١٣) في ب : جاز. وهو تصحيف.

(١٤) الكشاف ٣ / ٩٨.

(١٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٦) في ب : أو ليضلنا.

(١٧) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٨) في ب : انصرفنا.

(١٩) انظر البغوي ٦ / ١٨٠.

(٢٠) في ب : أو بحقيقته.

٥٣٧

الصلاة والسلام ـ كان أحسن منهم صورة وخلقة) (١) ، وبتقدير أنه لم يكن كذلك ، لكنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما كان يدعي التميز عنهم بالصورة بل بالحجة. والثاني باطل ، لأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ادّعى التميز عليهم بظهور المعجز عليه دونهم ، وأنهم ما قدروا على القدح في حجته ، ففي الحقيقة هم الذين يستحقون أن يهزأ بهم ، ثم إنهم لوقاحتهم (٢) قلبوا القضية ، واستهزءوا بالرسول ، وذلك يدل على (أنه ليس للمبطل في كل الأوقات) (٣) إلا السفاهة والوقاحة.

والنوع الثاني : قولهم : (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) فسمّوا ذلك ضلالا ، وذلك يدل على أنهم كانوا مبالغين في تعظيم آلهتهم ، ويدل على جده واجتهاده في صرفهم عن عبادة الأوثان فلهذا قالوا : (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) ، وذلك يدل على أنهم كانوا مقهورين بالحجة ، ولم يكن في أيديهم إلا مجرد (الوقاحة (٤)) (٥).

قوله : «من (٦) أضل» جملة استفهامية معلقة ب «يعلمون» فهي سادّة مسدّ مفعوليها (٧) إن كانت على بابها ، ومسدّ واحد إن كانت بمعنى (عرف) (٨)(٩). ويجوز في «من» أن تكون موصولة ، و «أضلّ» خبر مبتدأ مضمر هو العائد على «من» تقديره : من هو أضل ، وإنما حذف للاستطالة(١٠) بالتمييز ، كقولهم : ما أنا بالذي (١١) قائل لك سوءا (١٢). وهذا ظاهر إن كانت متعدية لواحد ، وإن كانت متعدية لاثنين فيحتاج (١٣) إلى تقدير ثان (١٤) ولا حاجة إليه.

__________________

(١) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

(٢) في ب : مواقحتهم.

(٣) ما بين القوسين في ب : أن المبطل ليس.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٥.

(٥) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٦) في الأصل : ومن. وهو تحريف.

(٧) في ب : مفعولهما. وهو تحريف.

(٨) انظر البحر المحيط ٦ / ٥٠٠ ـ ٥٠١.

(٩) ما بين القوسين في ب : حرف. وهو تحريف.

(١٠) انظر البحر المحيط ٦ / ٥٠١.

(١١) في ب : الذي.

(١٢) هذا قول من أقوال العرب على ما ذكر النحاة ، والشاهد فيه حذف الضمير العائد على الذي ، والأصل : ما أنا بالذي هو قائل لك سوءا. انظر الكتاب ٢ / ١٠٨ ، ٤٠٤. يجوز حذف العائد المرفوع بشرطين إذا كان مبتدأ غير منسوخ ، وكان مخبرا عنه بمفرد ، ولا يكثر الحذف للضمير المرفوع في صلة غير (أي) عند البصريين إلا إن طالت الصلة إما بمعمول الخبر أو بغيره ، سوءا ؛ تقدم المعمول على الخبر نحو (وهو الذي في السماء إله) ، أو تأخر نحو قولهم : ما أنا بالذي قائل لك سوءا ؛ حكاه الخليل ، ويستثنى من اشتراط الطول : لا سيما زيد ، فإنهم جوزوا في زيد إذا رفع أن تكون (ما) موصولة ، وزيد خبر مبتدأ محذوف وجوبا والتقدير : لا سيّ الذي هو زيد ، فحذف العائد وجوبا ولم تطل الصلة والكوفيون لا يشترطون في حذف العائد المرفوع استطالة الصلة. انظر شرح التصريح ١ / ١٤٣ ـ ١٤٤.

(١٣) في ب : يحتاج.

(١٤) أي إلى مفعول ثان.

٥٣٨

فصل

لما وصفوه بالإضلال في قولهم : (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا) بين تعالى أنه سيظهر لهم (١) من المضل ومن الضال (٢) عند مشاهدة العذاب الذي لا مخلص (٣) لهم منه (٤) ، فقال : (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ (٥) الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) ، وهذا وعيد شديد على التعامي (٦) والإعراض عن الاستدلال والنظر (٧).

قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)(٤٤)

قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) الآية. (أَرَأَيْتَ) كلمة تصلح للإعلان والسؤال ، وههنا تعجب ممن (٨) هذا وصفه ونعته (٩).

وقوله : (مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) مفعولا الاتخاذ من غير تقديم (١٠) ولا تأخير ، لاستوائهما في التعريف (١١). وقال الزمخشري : فإن قلت : لم أخر «هواه» والأصل قولك : اتخذ الهوى إلها. قلت(١٢): ما (١٣) هو إلا تقديم المفعول الثاني على الأول للعناية (به) (١٤) كما تقول : علمت منطلقا زيدا لفضل عنايتك بالمنطلق (١٥).

قال أبو حيان : وادعاء القلب ، يعني : أن التقديم ليس بجيد ، لأنه من ضرائر الأشعار (١٦). قال شهاب الدين : قد تقدم فيه ثلاثة مذاهب (١٧) ، على أن هذا ليس من

__________________

(١) لهم : سقط من ب.

(٢) في ب : الضلال. وهو تحريف.

(٣) في ب : لا يختص. وهو تحريف.

(٤) في ب : له عنه. وهو تحريف.

(٥) في ب : نزول. وهو تحريف.

(٦) في النسختين : العامي. والتصويب من الفخر الرازي.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٦.

(٨) في ب : من.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٦ ، البحر المحيط ٦ / ١٠٥.

(١٠) في ب : تقدم.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ١٠٥.

(١٢) قلت : سقط من ب.

(١٣) في ب : بما.

(١٤) به : ليس في الكشاف.

(١٥) الكشاف ٣ / ٩٨.

(١٦) عبارة أبي حيان في البحر المحيط : (وادعاء القلب ليس بجيد إذ يقدره من اتخذ هواه إلهه ، والبيت من ضرائر الشعر ونادر الكلام فينزه كلام الله عنه ، كان الرجل يعبد الصنم فإذا رأى أحسن منه رماه وأخذ الأحسن) ٦ / ٥٠١. فنرى أبا حيان لم يذكر البيت الذي أشار إليه ولا أشار إلى من ذكر هذا البيت ، وقوله : وادعاء القلب. تعريض بالزمخشري ولم يصرح باسمه هنا ، ولم يذكر الزمخشري هنا شيئا من الشعر شاهدا على ما ذكره من التقديم والتأخير.

(١٧) في سورة الأعراف عند قوله تعالى : «حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ» من الآية (١٠٥).

وللناس فيه ثلاثة مذاهب : الجواز مطلقا ، والمنع مطلقا ، والتفصيل بين أن يفيد معنى بديعا فيجوز أو لا فيمتنع. انظر اللباب ٤ / ٧٨ ـ ٧٩.

٥٣٩

القلب المذكور في شيء إنما هو تقديم وتأخير فقط (١).

وقرأ ابن هرمز «إلاهة هواه» على وزن فعالة (٢) ، والإلهة بمعنى المألوه ، والهاء للمبالغة ك (علّامة ونسّابة). و «إلاهة» مفعول ثاني قدم لكونه نكرة ولذلك صرف. وقيل : إلاهة هي الشمس ، ورد هذا بأنه (٣) كان ينبغي أن يمتنع (٤) من الصرف للعلمية والتأنيث. وأجيب بأنها يدخل عليها (أل) (٥) كثيرا فلما نزعت منها صارت نكرة جارية مجرى الأوصاف. ويقال : ألاهة بضم الهمزة للشمس (٦) وقرأ بعض المدنيّين «آلهة هواه» جمع إله (٧) ، وهو أيضا مفعول مقدم وجمع باعتبار الأنواع ، فقد كان الرجل يعبد آلهة شتى. ومفعول (أَرَأَيْتَ) الأول «من» والثاني الجملة الاستفهامية (٨).

فصل

قال ابن عباس : الهوى إله يعبد (٩). وقال سعيد بن جبير : كان الرجل من المشركين يعبد الحجر ، فإذا رأى حجرا أحسن منه طرح الأول وأخذ الآخر وعبده (١٠). (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) أي: حافظا تحفظه من اتباع هواه ، أي لست كذلك ، ونظيره : (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية : ٢٢] (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) [ق : ٤٥] (لا (١١) إِكْراهَ فِي الدِّينِ)(١٢) ، قال الكلبي: نسختها آية القتال (١٣). (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ) يسمعون ما تقول سماع طالب الإفهام ، أو يعقلون ما يعاينون من الحجج والأعلام. و «أم» هنا منقطعة بعنى : بل. (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) في عدم انتفاعهم بالكلام ، وعدم تدبرهم ، وتفكرهم ، بل هم أضل سبيلا لأن البهائم تهتدي لمراعيها ومشاربها ، وتنقاد لأربابها التي تتعهدها ، (وتطلب ما ينفعها ، وتجتنب ما يضرها ، وقلوب الأنعام خالية عن العلم ، وعن الاعتقاد الفاسد ، وهؤلاء قلوبهم خالية عن العلم ومليئة من الاعتقاد والباطل ، وعدم علم الأنعام لا يضر بأحد ، وجهل هؤلاء منشأ للضرر العظيم ، لأنهم يصدون الناس عن سبيل الله ، والبهائم لا تستحق عقابا على عدم العلم ، وهؤلاء يستحقون على عدم العلم أعظم العقاب) (١٤) ، وهؤلاء الكفار لا يعرفون طريق الحق ولا يطيعون ربهم الذي خلقهم ورزقهم ، ولأن الأنعام تسجد وتسبح الله ، وهؤلاء الكفار لا

__________________

(١) الدر المصون ٥ / ١٣٩.

(٢) انظر المحتسب ٢ / ١٢٣ ، البحر المحيط ٦ / ٥٠١.

(٣) في ب : بأن.

(٤) في ب : تمنع.

(٥) في ب : أن. وهو تحريف.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٥٠١.

(٧) المرجع السابق.

(٨) المرجع السابق.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٦.

(١٠) المرجع السابق.

(١١) في ب : ولا. وهو تحريف.

(١٢) ق : ٤٥.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٦.

(١٤) ما بين القوسين سقط من الأصل.

٥٤٠