اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٤

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٤

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه ، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل. هذا قول قتادة والضحاك وابن جريج (١). وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس : كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه ، فيقول : والله إني لأحتج ، أي : أتحرج أن آكل معك ، وأنا غني وأنت فقير ، فنزلت هذه الآية (٢) وقال عكرمة وأبو صالح : «نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلّا مع ضيفهم ، فرخص لهم في أن يأكلوا كيف شاءوا جميعا مجتمعين ، أو اشتاتا متفرقين» (٣). وقال الكلبي : «كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا طعاما عزلوا للأعمى طعاما على (٤) حدة ، وكذلك (٥) المزمن والمريض ، فبيّن الله لهم أن ذلك غير واجب» (٦). قوله : «جميعا» حال من فاعل «تأكلوا» ، و «أشتاتا» (٧) عطف عليه (٨) ، وهو جمع «شتّ» و «شتّى» جمع «شتيت». و «شتّان» تثنية «شت» (٩). قال (١٠) المفضل : وقيل : الشت : مصدر بمعنى : التفرق ، ثم يوصف به ويجمع (١١).

قوله : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ). أي : ليسلم بعضكم على بعض ، جعل أنفس المسلمين كالنفس الواحدة ، كقوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)(١٢). قال ابن عباس : «فإن لم يكن أحد فعلى نفسه يسلم ، ليقل : السلام علينا من قبل ربنا» (١٣).

قال جابر وطاوس والزهري وقتادة والضحاك وعمرو بن دينار : «إذا دخل الرجل بيت نفسه يسلم على أهله ومن في بيته» (١٤). وقال قتادة : «إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك ، فهم أحق من سلمت عليهم ، وإذا دخلت بيتا لا أحد فيه فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، حدثنا أن الملائكة ترد عليه» (١٥) وعن ابن عباس في قوله : «فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم» قال : «إذا دخلت المسجد فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» (١٦). قال القفال : «وإن كان في البيت أهل الذمة فليقل : السلام على من اتبع الهدى» (١٧).

قوله : «تحيّة» منصوب على المصدر من معنى «فسلّموا» (١٨) فهو من باب : قعدت

__________________

(١) انظر البغوي ٦ / ١٥٠ ، والفخر الرازي ٢٤ / ٣٧.

(٢) انظر البغوي ٦ / ١٥٠.

(٣) انظر البغوي ٦ / ١٥٠ والفخر الرازي ٢٤ / ٣٧.

(٤) في الأصل : عن.

(٥) في ب : ولذلك.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٧.

(٧) في ب : أو أشتاتا.

(٨) انظر البيان ٢ / ٢٠٠.

(٩) الشت : الافتراق والتفريق ، وجاء القوم أشتاتا : متفرقين ، واحدهم شت والشت : المتفرق ، وتثنيته شتان وجمعه : أشتات. اللسان (شتت).

(١٠) في الفخر الرازي : قاله.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٧.

(١٢) [النساء : ٢٩].

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٧.

(١٤) انظر البغوي ٦ / ١٥٠.

(١٥) انظر البغوي ٦ / ١٥٠ ، والفخر الرازي ٢٤ / ٣٧.

(١٦) المرجعان السابقان.

(١٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٧ ـ ٣٨.

(١٨) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٢٨ ، الكشاف ٣ / ٨٦ ، البيان ٢ / ٢١٠ ، التبيان ٢ / ٩٧٨ ، البحر المحيط ٦ / ٤٧٥.

٤٦١

جلوسا ، كأنه قال : فحيوا تحية ، وتقدم وزن «التحية» (١). و (مِنْ عِنْدِ اللهِ) يجوز أن يتعلق بنفس (تَحِيَّةً) أي : التحية صادرة من جهة الله ، و «من» لابتداء الغاية مجازا إلا أنه يعكر على الوصف تأخر الصفة الصريحة عن المؤولة ، وتقدم ما فيه (٢).

فصل

(تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي : مما (٣) أمركم الله به. قال ابن عباس : من قال : السلام عليكم ، (معناه : اسم الله عليكم (٤)(مُبارَكَةً طَيِّبَةً). قال ابن عباس) (٥) : «حسنة جميلة» (٦) وقال الضحاك : «معنى البركة فيه تضعيف الثواب» (٧)(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي : يفصل الله شرائعه (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) عن الله أمره ونهيه. قال أنس : وقفت على رأس النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أصب الماء على يديه ، فرفع رأسه وقال : «ألا أعلمك ثلاث (٨) خصال تنتفع بها» (٩)؟ فقلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، بلى. قال : «من لقيت من أمتي فسلم عليهم يطل عمرك ، وإذا دخلت بيتا فسلم عليهم يكثر خير بيتك ، وصل الصلاة الضحى فإنها صلاة الأوابين» (١٠).

قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٦٤)

قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ) أي : مع رسول الله

__________________

(١) عند قوله تعالى : «وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها» [النساء : ٨٦].

(٢) الأصل في الوصف أن يتقدم الوصف الصريح ثم الظرف أو الجار والمجرور ثم الجملة ، وعلة هذا الترتيب أن الأصل الوصف بالاسم ، فالقياس تقديمه ، وإنما تقدم الظرف ونحوه على الجملة لأنه من قبيل المفرد ، وأوجبه ابن عصفور اختيارا ، وقال : لا يخالف في ذلك إلا في ضرورة أو ندور ، ورد بقوله تعالى : «فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ»[المائدة : ٥٤] ، حيث تقدم الوصف بالجملة «يحبهم» على الوصف بالصريح «أذلة». الهمع ٢ / ١٢٠ وانظر اللباب ٣ / ٢٧٠.

(٣) في ب : بما.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٨.

(٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(٦) انظر البغوي ٦ / ١٥٠.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٨.

(٨) في ب : بثلاث.

(٩) بها : سقط من ب.

(١٠) انظر الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١٢٠).

٤٦٢

ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «على أمر جامع» يجمعهم من حرب حضرت (١) ، أو صلاة جمعة ، أو عيد ، أو جماعة ، أو تشاور في أمر نزل. فقوله (٢) : «أمر جامع» من الإسناد المجازي ، (لأنه لما كان سببا في جمعهم نسب الفعل) (٣) إليه مجازا (٤).

وقرأ اليماني : «على أمر جميع» (٥) فيحتمل أن يكون صيغة مبالغة بمعنى «مجمع» وألا يكون. والجملة الشرطية من قوله : (وَإِذا كانُوا) وجوابها عطف على الصلة من قوله : «آمنوا».

والأمر الجامع : هو الذي يعم ضرره أو نفعه ، والمراد به : الخطب الجليل الذي لا بدّ لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من أرباب التجارب (والآراء) (٦) ليستعين بتجاربهم ، فمفارقة أحدهم في هذه الحالة مما يشق على قلبه (٧).

فصل

قال الكلبي : كان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يعرّض في خطبته بالمنافقين ويعيبهم (٨) ، فينظر المنافقون يمينا وشمالا ، فإذا لم يرهم أحد انسلوا وخرجوا ولم يصلوا ، وإن أبصرهم أحد ثبتوا وصلوا خوفا ، فنزلت الآية ، فكان المؤمن بعد نزول هذه الآية لا يخرج لحاجته حتى يستأذن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكان المنافقون يخرجون بغير إذن (٩).

فصل

قال العلماء : كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلّا بإذن ، وهذا إذا لم يكن سبب يمنعه من المقام ، (فإن حدث سبب يمنعه من المقام) (١٠) بأن يكونوا في المسجد فتحيض منهم امرأة ، أو يجنب رجل ، أو يعرض له مرض فلا يحتاج إلى الاستئذان (١١).

فصل

قال الجبائي : دلّت الآية على أن استئذانهم الرسول من إيمانهم ، ولو لا ذلك لجاز أن يكونوا كاملي الإيمان.

والجواب : هذا بناء على أن كلمة «إنما» للحصر ، وأيضا فالمنافقون إنما تركوا الاستئذان استخفافا ، وذلك كفر (١٢).

__________________

(١) في ب : من جزب حضره.

(٢) في ب : فقوله من.

(٣) ما بين القوسين مكرر في ب.

(٤) انظر الكشاف ٣ / ٨٦.

(٥) المختصر (١٠٣) ، البحر المحيط ٦ / ٤٧٦.

(٦) والآراء : سقط من ب.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٩.

(٨) في ب : بعينهم.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٩.

(١٠) ما بين القوسين سقط من ب.

(١١) انظر البغوي ٦ / ١٥١.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٩.

٤٦٣

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ) تعظيما لك ورعاية للأدب (أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي : يعملون بموجب الإيمان ومقتضاه. قال الضحاك ومقاتل : المراد : عمر بن الخطاب ، وذلك أنه استأذن في غزوة تبوك في الرجوع إلى أهله ، فأذن له ، وقال : «انطلق ، فو الله ما أنت بمنافق» يريد أن يسمع المنافقين ذلك الكلام ، فلما سمعوا ذلك قالوا ما بال محمد (١) إذا استأذنه أصحابه أذن لهم ، وإذا استأذناه أبى ، فو الله ما نراه يعدل (٢).

قال ابن عباس : إن عمر استأذن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في العمرة ، فأذن له ، ثم قال : «يا أبا حفص (٣) لا تنسنا في صالح دعائك» (٤).

قوله : «لبعض شأنهم» تعليل ، أي : لأجل بعض حاجتهم. وأظهر العامة الضاد عند الشين. وأدغمها أبو عمرو فيها ، لما بينهما من التقارب ، لأن الضاد من أقصى حافة اللسان والشين من وسطه(٥). وقد استضعف جماعة من النحويين (٦) هذه الرواية واستبعدوها عن أبي عمرو ـ رأس الصناعة ـ من حيث إن الضاد أقوى من الشين ، ولا يدغم الأقوى في الأضعف وأساء الزمخشري (٧) على راويها السوسيّ (٨). وقد أجاب الناس عنه ، فقيل : وجه الإدغام أن الشين أشد استطالة من الضاد ، وفيها تفشّي (٩) ليس في الضاد ، فقد صارت الضاد أنقص منها ، وإدغام الأنقص في الأزيد جائز ، قال (١٠) :

__________________

(١) في ب : محمدا.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٩.

(٣) في ب : أبا جعفر.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٩.

(٥) انظر النشر ١ / ٢٩٣.

(٦) منهم ابن يعيش فإنه قال : (والحق أن ذلك إخفاء واختلاس للحركة فظنها الراوي إدغاما) شرح المفصل ١٠ / ١٤٠.

(٧) فإنه قال في المفصل : (وأما ما رواه أبو شعيب السوسي عن اليزيدي أن أبا عمرو كان يدغمها في الشين في قوله تعالى : «لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ» فما برئت عن عيب) متن المفصل ـ ابن يعيش ١٠ / ١٤٠.

(٨) هو صالح بن زياد بن عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم بن الجارود أبو شعيب السوسي الرقي مقرىء ضابط محرر ثقة ، أخذ القراءة عرضا وسماعا عن أبي محمد اليزيدي وحفص عن عاصم ، وروى القراءة عنه ابنه أبو المعصوم محمد ، وموسى بن جرير النحوي ، وغيرهما ، مات سنة ٢٦١ ه‍.

طبقات القراء ١ / ٣٣٢ ـ ٣٣٣.

(٩) في النسختين : نفس. والصواب ما أثبته.

(١٠) القائل ابن مجاهد ، ولم يجر له ذكر قبل ذلك ، والنص الذي ذكره ابن عادل ذكره ابن يعيش في شرحه على المفصل ، قال : (قال ابن مجاهد: لم يرو عنه (أي : أبي عمرو) هذا إلا أبو شعيب السوسي ، وهو خلاف قول سيبويه ، ووجهه أن الشين أشد استطالة من الضاد ، وفيه تفشّ ليس في الضاد ، فقد صارت الضاد أنقص منها ، وإدغام الأنقص في الأزيد جائز ، ويؤيد ذلك أن سيبويه حكى أن بعض العرب قال : اطجع في اضطجع ، وإذا جاز إدغامها في الطاء فإدغامها في الشين أولى) ابن يعيش ١٠ / ١٤٠.

٤٦٤

ويؤيّد هذا أن سيبويه حكى عن بعض العرب «اطّجع» في «اضطجع» (١) ، وإذا جاز إدغامها في الطاء فإدغامها في الشين أولى.

والخصم لا يسلم جميع ما ذكر ، ومستند المنع واضح.

فصل (٢)

(فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) أمرهم (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) بالانصراف ، أي : إن شئت فأذن وإن شئت فلا تأذن ، (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ) وهذا تنبيه على أن الأولى ألا يستأذنوا وإن أذن ، لأن الاستغفار يكون عن ذنب. ويحتمل أن يكون أمره بالاستغفار لهم مقابلة على تمسكهم بإذن الله تعالى في الاستئذان (٣).

فصل

قال مجاهد : قوله : فأذن لمن شئت منهم نسخت هذه الآية. وقال قتادة : نسخت هذه الآية بقوله : (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)(٤). والآية تدل على أنه تعالى فوض إلى رسول الله بعض أمر الدين ليجتهد فيه رأيه (٥).

قوله (٦) : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً). قال سعيد بن جبير وجماعة كثيرة : لا تنادونه باسمه فتقولون : يا محمد ، ولا بكنيته فتقولون : يا أبا القاسم ، بل نادوه وخاطبوه بالتوقير : يا رسول الله ، يا نبي الله (٧). وعلى هذا يكون المصدر مضافا لمفعوله (٨). وقال المبرد والقفال : لا تجعلوا دعاءه إياكم كدعاء بعضكم لبعض فتتباطؤون كما يتباطأ بعضكم عن بعض إذا دعاه لأمر ، بل يجب عليكم المبادرة لأمره ، ويؤيده قوله : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ)(٩). وعلى هذا يكون المصدر مضافا للفاعل (١٠).

وقال ابن عباس : «احذروا دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه ، فإن دعاءه موجب لنزول البلاء بكم ليس كدعاء غيره» (١١). وروي عنه أيضا : «لا ترفعوا أصواتكم في دعائه». وهو المراد من قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ)(١٢) وقول المبرد أقرب إلى نظم الآية. وقرأ الحسن : «نبيكم» بتقديم النون على الباء المكسورة ، بعدها ياء

__________________

(١) قال سيبويه : (وذلك قولك : مضطجع ، وإن شئت قلت مضّجع ، وقد قال بعضهم : مطّجع حيث كانت مطبقة ولم تكن في السمع كالضاد ، وقربت منها وصارت في كلمة واحدة) الكتاب ٤ / ٤٧٠.

(٢) في ب : قوله.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٩.

(٤) من قوله تعالى : «عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ» [التوبة : ٤٣].

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٩.

(٦) في ب : قوله تعالى.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤٠.

(٨) انظر التبيان ٢ / ٩٧٩.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٩ ـ ٤٠.

(١٠) انظر التبيان ٢ / ٩٧٩.

(١١) انظر البغوي ٦ / ١٥٢.

(١٢) [الحجرات : ٣].

٤٦٥

مشددة مخفوضة (١) مكان (٢) «بينكم» الظرف في قراءة العامة ، وفيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه بدل من الرسول (٣).

الثاني : أنه عطف بيان له (٤) ، لأنّ النبيّ بإضافته إلى المخاطبين صار أشهر من الرسول.

الثالث : أنه نعت.

لا يقال : إنه لا يجوز لأن هذا كما قرّرتم أعرف ، والنعت لا يكون أعرف من المنعوت بل إمّا أقلّ أو مساو ، لأنّ الرّسول صار علما بالغلبة على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقد تساويا تعريفا (٥).

قوله : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ). «قد» تدل على التقليل مع المضارع إلّا في أفعال الله فتدل على التحقيق كهذه الآية. وقد ردّها بعضهم إلى التقليل ، لكن إلى متعلّق العلم ، يعني : أن الفاعلين لذلك قليل ، فالتقليل ليس في العلم بل في متعلّقه (٦).

قوله : لواذا فيه وجهان :

أحدهما : أنه منصوب على المصدر من معنى الفعل الأول ، إذ التقدير : يتسلّلون منكم تسلّلا ، أو يلاوذون لواذا (٧).

والثاني (٨) : أنه مصدر في موضع الحال ، أي : ملاوذين (٩).

واللّواذ : مصدر لاوذ ، وإنما صحّت (١٠) الواو وإن انكسر ما قبلها ولم تقلب ياء كما قلبت في «قيام» و «صيام» ، لأنه صحّت (١٠) في الفعل نحو «لاوذ» ، فلو أعلّت في الفعل أعلّت في المصدر نحو «القيام» و «الصّيام» لقلبها ألفا في «قام» و «صام». وأما مصدر : «لاذ بكذا(١١) يلوذ به» فمعتل نحو : «لاذ لياذا» مثل : «صام صياما ، وقام قياما» (١٢). واللّواذ والملاوذة : التّستّر ، يقال : لاوذ فلان بكذا : إذا استتر به (١٣). واللّوذ :

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٧٦ ، الإتحاف (٣٢٧).

(٢) مكان : سقط من ب.

(٣) حكاه أبو حيان عن صاحب اللوامح. انظر البحر المحيط ٦ / ٤٧٦.

(٤) هذا الوجه على رأي الرضيّ الذي لم ير فرقا بين بدل الكل من الكل وبين عطف البيان قال : (أقول : وأنا إلى الآن لم يظهر لي فرق جلي بين بدل الكل من الكل وبين عطف البيان إلا البدل) شرح الكافية ١ / ٣٣٧.

(٥) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٧٧.

(٦) انظر الكشاف ٣ / ٨٧ ، المغني ١ / ٢٧٤.

(٧) انظر التبيان ٢ / ٩٧٩.

(٨) في ب : الثاني.

(٩) انظر الكشاف ٣ / ٨٧ ، التبيان ٢ / ٩٧٩ ، البحر المحيط ٦ / ٤٧٧.

(١٠) في ب : فتحت.

(١١) في ب : بكا.

(١٢) انظر البيان ٢ / ٢٠١ ، التبيان ٢ / ٩٧٩ ، البحر المحيط ٦ / ٤٧٧.

(١٣) في اللسان (لوذ) لاذ به يلوذ لوذا ولواذا ولواذا ولواذا ولياذا : لجأ إليه وعاذ به ، ولاوذت ملاوذة ولواذا ولياذا : استتر.

٤٦٦

ما يطيف بالجبل (١). وقيل : اللّواذ : الروغان من شيء إلى شيء في خفية (٢) ، ووجه المفاعلة أنّ كلّا منهم يلوذ بصاحبه ، فالمشاركة موجودة.

وقرأ يزيد (٣) بن قطيب (٤) : «لواذا» بفتح اللام (٥) ، وهي محتملة لوجهين :

أحدهما : أن يكون مصدر «لاذ» ثلاثيا (٦) ، فيكون مثل «طاف طوافا» (٧).

والثاني : أن يكون مصدر «لاوذ» إلّا أنه فتحت الفاء إتباعا لفتحة العين (٨). وهو تعليل ضعيف يصلح لمثل هذه القراءة (٩).

فصل

المعنى : قال المفسرون : إن المنافقين كانوا يخرجون متسترين بالناس من غير استئذان حتى لا يروا. قال ابن عباس : كان المنافقون يثقل عليهم المقام في المسجد يوم الجمعة واستماع خطبة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فكانوا يلوذون ببعض أصحابه فيخرجون من المسجد في استتار (١٠) وقال مجاهد : يتسللون من الصف في القتال (١١). وقيل : كان هذا في حفر الخندق ينصرفون عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مختفين(١٢). وقيل : يعرضون عن الله وعن كتابه وعن ذكره وعن نبيه (١٣).

قوله : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ) فيه وجهان :

أشهرهما ، وهو الذي لا يعرف النحاة غيره (١٤) : أن الموصول هو الفاعل و (أَنْ تُصِيبَهُمْ)(١٥) مفعوله (١٦) ، أي : فليحذر المخالفون عن أمره إصابتهم فتنة.

والثاني : أن فاعل «فليحذر» ضمير مستتر ، والموصول مفعول به. وردّ هذا بوجوه (١٧) :

__________________

(١) اللسان (لوذ).

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٤٤.

(٣) في النسختين : زيد.

(٤) هو يزيد بن قطيب السكوني الشامي ، ثقه له اختيار في القراءة ينسب إليه. روى القراءة عن أبي بحرية عبد الله بن قيس صاحب معاذ بن جبل ، روى القراءة عنه أبو البرهسم عمران بن عثمان الحمصي ، وحدث عنه صفوان بن عمرو ، وغيره. طبقات القراء ٢ / ٣٨٢.

(٥) انظر المختصر (١٠٣) ، البحر المحيط ٦ / ٤٧٧.

(٦) في ب : أن يكون مصدرا ثلاثيا.

(٧) فلم تقلب الواو ياء ، لعدم الكسرة قبلها. انظر البحر المحيط ٦ / ٤٧٧.

(٨) المرجع السابق.

(٩) وجه الضعف أن القياس يقتضي أن يكون الثاني تابعا للأول ، لا العكس.

(١٠) هذا القول لمقاتل كما في الفخر الرازي ٢٤ / ٤٠.

(١١) المرجع السابق.

(١٢) في ب : يخرجون إلى مختفين.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤٠.

(١٤) في ب : عين.

(١٥) في الأصل تصيبه.

(١٦) انظر التبيان ٢ / ٩٧٩.

(١٧) في ب : الوجوه. وهو تحريف.

٤٦٧

منها : أن الإضمار خلاف الأصل. وفيه نظر ، لأنّ هذا الإضمار في قوة المنطوق به ، فلا يقال : هو خلاف الأصل ، ألا ترى أن نحو : «قم» و «ليقم» فاعله مضمر ، ولا يقال في شيء منه هو خلاف الأصل ، وإنما الإضمار خلاف الأصل (١) فيما كان حذفا نحو : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(٢).

ومنها : أنّ هذا الضمير لا مرجع له ، أي : ليس له شيء يعود عليه ، فبطل أن يكون الفاعل ضميرا مستترا. وأجيب بأن الذي يعود عليه الضمير هو الموصول الأول (٣) ، أي : فليحذر المتسلّلون المخالفين (٤) عن أمره ، فيكونون قد أمروا بالحذر منهم ، أي : أمروا باجتنابهم ، كما يؤمر باجتناب الفسّاق. وردّوا هذا بوجهين :

أحدهما : أنّ الضمير مفرد (٥) ، والذي (٦) يعود عليه جمع ، ففاتت المطابقة التي هي شرط في تفسير الضمائر.

الثاني : أن المتسلّلين هم المخالفون ، فلو أمروا بالحذر عن الذين يخالفون لكانوا قد أمروا بالحذر عن أنفسهم ، وهو لا يجوز ، لأنه لا يمكن أن يؤمروا بالحذر عن أنفسهم. ويمكن أن يجاب عن الأول بأن الضمير وإن كان مفردا فإنما عاد على جمع باعتبار أن المعنى : فليحذر هو ، أي : من ذكر قبل ذلك ، وحكى سيبويه : «ضربني وضربت قومك» أي : ضربني من ثمّ ومن ذكر (٧) ، وهي مسألة معروفة في النحو. أو (٨) يكون التقدير : فليحذر كلّ واحد من المتسللين.

وعن الثاني : بأنه يجوز أن يؤمر الإنسان بالحذر عن نفسه مجازا ، يعني : أنه لا يطاوعها على (٩) شهواتها ، وما تسوّله له من السوء (١٠) ، وكأنه قيل : فليحذر المخالفون أنفسهم فلا يطيعوها فيما تأمرهم به ، ولهذا يقال : أمر نفسه ونهاها ، وأمرته نفسه باعتبار المجاز (١١).

__________________

(١) في ب : الأمثلة. وهو تحريف.

(٢) [يوسف : ٨٢]. يشير إلى تقدير مضاف ليصح إيقاع الفعل على المفعول ، أي : واسأل أهل القرية.

(٣) وهو قوله تعالى : «الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ».

(٤) في ب : المخالفون. وهو تحريف.

(٥) في ب : بمفدر.

(٦) والذي سقط من ب.

(٧) قال سيبويه : (وقد يجوز ضربت وضربني زيدا ، لأنّ بعضهم قد يقول متى رأيت أو قلت زيدا منطلقا ، والوجه متى رأيت أو قلت زيد منطلق. ومثل ذلك في الجواز ضربني وضربت قومك والوجه أن تقول : ضربوني وضربت قومك فتحمله على الآخر. فإن قلت : ضربتي وضربت قومك ، فجائز ، وهو قبيح ، أن تجعل اللفظ كالواحد ، كما تقول : هو أحسن الفتيان وأجمله وأكرم بنيه وأنبله. ولا بدّ من هذا ، لأنه لا يخلو الفعل من مضمر أو مظهر مرفوع من الأسماء ، كأنك قلت إذا مثلته ضربني من ثمّ وضربت قومك ، ونزل ذلك أجود وأحسن ، للتبيان الذي يجيء بعده ، فأضمر من ذلك) الكتاب ١ / ٧٩ ـ ٨٠.

(٨) في ب : و.

(٩) في ب : في.

(١٠) السوء : سقط من ب.

(١١) في ب : مجاز.

٤٦٨

ومنها : أنه يصير قوله : (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مفلّتا ضائعا ، لأنّ (١) «يحذر» يتعدى لواحد ، وقد أخذه على زعمكم ، وهو الذين (٢) يخالفون ولا يتعدى إلى اثنين حتى يقولوا : إن (٣)(أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) في محل مفعوله (٤) الثاني ، فيبقى ضائعا. وفيه نظر ، لأنّا (٥) لا نسلّم ضياعه ، لأنه مفعول من أجله. واعترض على هذا بأنه لا يستكمل شروط النصب لاختلاف الفاعل ، لأن فاعل الحذر غير فاعل الإصابة.

وهو ضعيف ، لأن حذف حرف الجر يطرد مع «أنّ» و «أن» منقول مسلم : شروط النصب غير موجودة ، وهو مجرور باللام تقديرا ، وإنما حذفت مع (٦) أن لطولها بالصلة. و «يخالفون» يتعدى بنفسه نحو : خالفت أمر زيد ، وب «إلى» نحو : خالفت إلى كذا ، فكيف تعدّى هذا بحرف المجاورة؟ وفيه أوجه :

أحدها : أنه ضمّن معنى «صدّ» و «أعرض» أي : صدّ عن أمره ، وأعرض عنه مخالفا (٧) له.

الثاني : قال ابن عطية : معناه : يقع خلافهم بعد أمره ، كما تقول : كان المطر عن ريح كذا ، و «عن» لما عدا الشي (٨).

الثالث : أنها مزيدة ، أي : يخالفون أمره ، وإليه نحا الأخفش (٩) وأبو عبيدة (١٠). والزيادة خلاف الأصل. وقرىء : «يخلّفون» بالتشديد (١١) ، ومفعوله محذوف ، أي : يخلّفون (١٢) أنفسهم.

فصل

المعنى : «فليحذر الّذين يخالفون» أي : يعرضون «عن أمره» ، أو يخالفون أمره وينصرفون عنه(١٣) بغير إذنه (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) أي : لئلا تصيبهم فتنة.

قال مجاهد : بلاء في الدنيا. (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وجيع في الآخرة. والضمير في «أمره» يرجع إلى «الرسول». وقال أبو بكر الرازي : الأظهر أنه لله تعالى (١٤) لأنه يليه.

__________________

(١) في ب : أن.

(٢) في ب : الذي.

(٣) إن : سقط من ب.

(٤) في ب : مفعول.

(٥) في النسختين : لأنه.

(٦) في ب : وإنما حذفت إلا مع. وهو تحريف.

(٧) له : سقط من ب. وانظر البحر المحيط ٦ / ٤٧٢.

(٨) تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٥٦.

(٩) لم أعثر على هذا في معاني القرآن للأخفش وهو في البحر المحيط ٦ / ٤٧٧.

(١٠) قال أبو عبيدة :(«الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ» مجازه يخالفون أمره سواء وعن زائدة) مجاز القرآن ٢ / ٦٩.

(١١) المختصر (١٠٣) ، البحر المحيط ٦ / ٤٧٧.

(١٢) في ب : يحلقون. وهو تصحيف.

(١٣) في ب : فيه.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤٧٧.

٤٦٩

فصل

الآية تدل على أن الأمر للوجوب ، لأن تارك المأمور مخالف للأمر ، ومخالف الأمر يستحق العقاب ، ولا معنى للوجوب إلا ذلك (١).

قوله تعالى : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : ملكا وعبيدا ، وهذا تنبيه على كمال قدرته تعالى عليهما ، وعلى ما بينهما وفيهما (٢).

قوله : «قد يعلم ما أنتم عليه». قال الزمخشري (٣) : أدخل «قد» ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين والنفاق ، ويرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد ، وذلك أن «قد» إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى «ربّما» فوافقت «ربما» في خروجها إلى معنى التكثير في نحو قوله :

٣٨٥٨ ـ فإن يمسي مهجور الفناء فربّما

أقام به بعد الوفود وفود (٤)

ونحو من ذلك قول زهير :

٣٨٥٩ ـ أخي ثقة لا تهلك الخمر ماله

ولكنّه قد يهلك المال نائله (٥)

قال أبو حيان : وكون «قد» إذا دخلت على المضارع أفادت التكثير قول لبعض النحاة (٦) ، وليس بصحيح ، وإنما التكثير مفهوم من السياق. والصحيح أن ربّ لتقليل

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤٠.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤٢ ـ ٤٣.

(٣) الكشاف ٣ / ٨٧.

(٤) البيت من بحر الطويل ، قاله أبو عطاء السّندي ، من أبيات أربعة يرثي بها يزيد بن هبيرة الفزاري. وهو في المقتصد (٨٢٩) ، اللسان (عهد) والبحر المحيط ٦ / ٤٧٧ ، الخزانة ٩ / ٥٣٩ ، وشرح شواهد الكشاف (٣٥).

الفناء : بكسر الفاء والمد : ساحة الدار. الوفود : الزوار وطلاب الحاجات والشاهد فيه أن (ربما) فيه للتكثير.

(٥) البيت من بحر الطويل ، قاله زهير ، والشاهد فيه دخول قد على الفعل المضارع لإفادة التوكيد. وقد تقدم.

(٦) نسبه ابن هشام إلى سيبويه في المغني ١ / ١٧٤ ، مع أن عبارة سيبويه ليست صريحة في ذلك فإنه قال : (وتكون قد بمنزلة ربما. وقال الشاعر الهذلي : قد أترك القرن مصفرّا أنامله كأن أثوابه مجّت بفرصاد كأنه قال : ربما) الكتاب ٤ / ٢٢٤.

وصرح الرضي بإفادتها للتكثير فقال : (وتستعمل أيضا للتكثير في موضع التمدح كما ذكرنا في ربما قال تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ) [الأحزاب : ٣٣] ، وقال : قد أترك القرن مصفرا أنامله) شرح الكافية ٢ / ٣٨٨. وفي الخزانة : (قال ابن مالك : إطلاق سيبويه القول بأنها بمنزلة ربما موجب للتسوية بينهما في التقليل والصرف إلى المضي. واعترضه أبو حيان فقال : لم يبين سيبويه الجهة التي فيها قد بمنزلة ربما ، ولا يدل على التسوية في كل الأحكام ، بل يستدلّ بكلام سيبويه على نقيض ما فهمه ابن مالك ، وهو أن قد بمنزلة ربّما في التكثير فقط ، ويدل عليه إنشاء البيت لأن الإنسان لا يفخر بما يقع منه على سبيل الندرة والقلة ، وإنما يفتخر بما يقع منه على سبيل الكثرة ، فيكون قد بمنزلة ربّما في التكثير) ١١ / ٢٥٥.

٤٧٠

الشيء أو لتقليل نظيره ، وإن فهم تكثير فمن السياق لا منها (١).

قوله : (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ) ، في «يوم» وجهان :

أحدهما : أنه مفعول به لا ظرف ، لعطفه على قوله : (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) ، أي : يعلم الذي أنتم عليه من جميع أحوالكم ، ويعلم يوم يرجعون (٢) ، كقوله (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)(٣).

وقوله : (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ)(٤).

والثاني : أنه ظرف لشيء محذوف. قال ابن عطية : ويجوز أن يكون التقدير : والعلم الظاهر لكم أو نحو : هذا يوم ، فيكون النصب على الظرف (٥). انتهى.

وقرأ العامة «يرجعون» مبنيا للمفعول ، وأبو عمرو في آخرين مبنيّا للفاعل (٦) ، وعلى كلتا القراءتين فيجوز وجهان :

أحدهما : أن يكون في الكلام التفات من الخطاب في قوله : (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) إلى الغيبة في قوله «يرجعون».

والثاني : أنّ «ما أنتم عليه» خطاب عام لكل أحد ، والضمير في «يرجعون» للمنافقين خاصة ، فلا التفات حينئذ (٧).

فصل

المعنى : «يعلم ما أنتم عليه» من الإيمان والنفاق و «قد» صلة (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ) يعني يوم البعث ، (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) من الخير والشر ، (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ (٨) عَلِيمٌ).

روي عن عائشة قالت : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «لا تنزلوا النساء الغرف ، ولا تعلموهن (٩) الكتابة ، وعلموهن الغزل وسورة النور» (١٠).

وروى الثعلبي عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال (١١) : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «من قرأ سورة النور أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل مؤمن فيما مضى وفيما بقي» (١٢).

__________________

(١) البحر المحيط ٦ / ٤٧٧.

(٢) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٥٧ ، البحر المحيط ٦ / ٤٧٧.

(٣) [لقمان : ٣٤].

(٤) [الأعراف : ١٨٧].

(٥) تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٥٧.

(٦) السبعة (٤٥٩) ، النشر ١ / ٢٠٨ ـ ٢٠٩.

(٧) انظر الكشاف ٣ / ٨٧ ، البحر المحيط ٦ / ٤٧٧.

(٨) انظر البغوي ٦ / ١٥٤.

(٩) في ب : ولا تعلموهم.

(١٠) أورده البغوي في تفسيره ٦ / ١٥٤.

(١١) قال : سقط من ب.

(١٢) أخرجه الثعلبي وابن مردويه بإسناديهما إلى أبيّ بن كعب رضي الله عنه. انظر الكافي الشاف في تخريح أحاديث الكشاف (١٢١).

٤٧١

سورة الفرقان

مكية (١) ، وهي سبع وسبعون آية ، وثمانمائة واثنتان وسبعون كلمة ، وعدد حروفها ثلاثة آلاف وسبعمائة وثمانون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)(٢)

قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) الآية. اعلم أنه تعالى تكلم في هذه السورة في التوحيد والنبوة وأحوال القيامة ثم ختمها بذكر العباد المخلصين المؤمنين. قال الزجاج : «تبارك» تفاعل من البركة (٢). والبركة كثرة الخير وزيادته ، وفيه معنيان :

أحدهما : تزايد خيره وتكاثره. قال ابن عباس : معناه : جاء بكل بركة ، قال تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤].

والثاني : قال الضحاك : تعظّم الذي نزل الفرقان ، أي : القرآن على عبده. وقيل (٣) : الكلمة تدل على البقاء ، وهو مأخوذ من بروك البعير ، ومن بروك الطير على الماء. وسميت البركة بركة ، لثبوت الماء فيها ، والمعنى : أنه سبحانه باق (٤) في ذاته أزلا وأبدا ممتنع التغير ، وباق (٤) في صفاته ممتنع التبدل(٥).

فإن قيل : كلمة «الذي» موضوعة في اللغة للإشارة إلى الشيء عند محاولة تعريفه

__________________

(١) هذه السورة مكية في قول الجمهور ، وقال ابن عباس وقتادة : إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي«وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ» إلى قوله «وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً» [الفرقان : ٦٨ ـ ٧٠] وقال الضحاك : مدنية إلا من أولها إلى قوله :«وَلا نُشُوراً»[الفرقان : ١ ـ ٣] تفسير ابن عطية ١١ / ١ ، القرطبي ١٣ / ١ ، البحر المحيط ٦ / ٤٨٠.

(٢) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٥٧.

(٣) وقيل : سقط من ب.

(٤) في النسختين : باقي.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤٤ ـ ٤٥.

٤٧٢

بقضية معلومة ، وإذا كان كذلك فالقوم ما كانوا عالمين بأنه ـ سبحانه ـ الذي نزل الفرقان. فالجواب : أنه لما ظهر الدليل على كونه من عند الله ، فلقوة الدليل وظهوره أجراه مجرى المعلوم (١).

فصل

وصف القرآن بالفرقان ، لأنه فرق بين الحق والباطل في نبوة محمد ـ عليه‌السلام (٢) ـ وبين الحلال والحرام ، أو (٣) لأنه فرق في النزول كقوله : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) [الإسراء : ١٠٦] ، وهذا أقرب ، لأنه قال : (نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) ولفظة «نزل» تدل على التفريق ، ولفظة «أنزل» تدل على الجمع ، ولهذا قال في سورة آل عمران : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ)) (٤)(وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ)(٥) [آل عمران : ٣]. والمراد بالعبد ههنا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٦) ـ.

قوله : «ليكون». اللام متعلقة ب «نزّل» ، وفي اسم «يكون» ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه ضمير يعود على «الّذي نزّل» ، أي : ليكون الذي نزل الفرقان نذيرا (٧).

الثاني : أنه يعود على «الفرقان» وهو القرآن ، أي : ليكون الفرقان نذيرا (٨) (أضاف الإنذار إليه كما أضاف الهداية إليه في قوله : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي) [الإسراء : ٩] وهذا بعيد ؛ لأن المنذر والنذير من صفات الفاعل للتخويف ، ووصف القرآن به مجاز ، وحمل الكلام على الحقيقة أولى(٩))(١٠).

الثالث : أنه يعود على «عبده» ، أي : ليكون عبده محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نذيرا (١١). وهذا أحسن الوجوه معنى وصناعة ، لقربه مما يعود عليه الضمير على أقرب مذكور. و «للعالمين» متعلق ب «نذيرا» ، وإنما قدم لأجل الفواصل ، ودعوى إفادة الاختصاص بعيدة ، لعدم تأتيها هنا ، ورجح أبو حيان عوده على «الذي» ، قال : لأنه العمدة المسند إليه الفعل ، وهو من وصفه تعالى كقوله : (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) [الدخان : ٣] ، و «نذيرا» الظاهر فيه أنه بمعنى منذر ، وجوّزوا أن يكون مصدرا بمعنى الإنذار كالنكير بمعنى الإنكار ، ومنه (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ)(١٢) [القمر : ١٦] فإن قوله : «تبارك» يدل على كثرة

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤٥.

(٢) في ب : صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم.

(٣) أو : سقط من ب.

(٤) ما بين القوسين سقط من النسختين.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤٥.

(٦) المرجع السابق.

(٧) انظر التبيان ٢ / ٩٨٠.

(٨) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٢٩ ، الكشاف ٣ / ٨٨ ، تفسير ابن عطية ١١ / ٣ ، التبيان ٢ / ٩٨٠.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤٥.

(١٠) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(١١) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٢٩ ، الكشاف ٣ / ٨٨ ، تفسير ابن عطية ١١ / ٣ ، التبيان ٢ / ٩٨٠.

(١٢) البحر المحيط ٦ / ٤٨٠.

٤٧٣

الخير والبركة ، فالمذكور عقيبه لا بد وأن يكون سببا لكثرة الخير والمنافع ، والإنذار يوجب الغم والخوف ، فكيف يليق ذكره بهذا الموضع؟ فالجواب : أن الإنذار يجري مجرى تأديب الولد (١) ، كما أنه كلما كانت المبالغة في تأديب الولد أكثر (كان الإحسان إليه أكثر ، لما أن ذلك يؤدي في المستقبل إلى المنافع العظيمة ، فكذا ههنا كلما كان الإنذار كثيرا) (٢) كان رجوع الخلق إلى الله أكثر ، وكانت السعادة الأخروية أتم وأكثر ، وهذا كالتنبيه على أنه لا التفات إلى المنافع العاجلة ؛ لأنه تعالى لما وصف نفسه بأنه معطي الخيرات الكثيرة لم يذكر إلا منافع الدين ، ولم يذكر منافع الدنيا البتّة (٣).

قوله : «الّذي له ملك» يجوز في «الّذي» الرفع نعتا للذي الأول (٤) ، أو بيانا (٥) ، أو بدلا(٦) ، أو خبرا لمبتدأ محذوف (٧) ، أو النصب على المدح (٨).

وما بعد بدل من تمام الصلة فليس أجنبيا ، فلا يضر الفصل به بين الموصول الأول والثاني إذا جعلنا الثاني تابعا له (٩).

فصل

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إشارة إلى احتياج هذه المخلوقات إليه سبحانه حال حدوثها ، وأنه سبحانه هو المتصرف فيها كيف يشاء (١٠).

«ولم يتخذ ولدا» أي : هو الفرد أبدا ، ولا يصح أن يكون غيره معبودا ووارثا للملك عنه ، وهذا رد على النصارى (١١). (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) أي : هو المنفرد بالإلهية ، وإذا عرف العبد ذلك انقطع رجاؤه عن كل ما سواه ، ولم يشتغل قلبه إلا برحمته وإحسانه ، وفيه رد على الثنوية ، والقائلين بعبادة النجوم والأوثان (١٢).

قوله : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) الخلق هنا عبارة عن الإحداث والتهيئة لما يصلح له ، لا

__________________

(١) في النسختين الولد. والتصويب من الفخر الرازي.

(٢) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤٥ ـ ٤٦.

(٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٨٠.

(٥) وجاز ذلك لأن الموصول الثاني أخص من الموصول الأول.

(٦) انظر الكشاف ٣ / ٨٨ ، التبيان ٢ / ٩٨٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤٨٠.

(٧) انظر التبيان ٢ / ٩٨٠.

(٨) انظر الكشاف ٣ / ٨٨ ، التبيان ٢ / ٩٨٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤٨٠.

(٩) قال الزمخشري : (فإن قلت : كيف جاز الفصل بين البدل والمبدل منه؟ قلت : ما فصل بينهما بشيء ، لأن المبدل منه صلته «نزل» و «ليكون» تعليلا له ، فكأن المبدل منه لم يتم إلا به) الكشاف ٣ / ٨٨ ، وقال أبو حيان : (وما بعد «نزل» من تمام الصلة ومتعلق به فلا يعد فاصلا بين النعت أو البدل ومتبوعه) البحر المحيط ٦ / ٤٨٠.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤٦.

(١١) المرجع السابق.

(١٢) المرجع السابق.

٤٧٤

خلل فيه ولا تفاوت حتى (١) يجيء قوله : «فقدره تقديرا» مفيدا (٢) إذ لو حملنا (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) على معناه الأصلي من التقدير لصار الكلام : وقدر كل شيء فقدره (٣).

فصل

قوله : (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) يدل على أنه تعالى خلق الأعمال من وجهين :

الأول : أن قوله : (كُلَّ شَيْءٍ) يتناول جميع الأشياء ، ومن جملتها أفعال العباد.

والثاني : أنه تعالى نفى الشريك ، فكأن قائلا قال : ههنا أقوام معترفون بنفي الشريك والأنداد ومع ذلك يقولون بخلق أفعال أنفسهم ، فذكر الله تعالى هذه الآية ردا عليهم. قال القاضي : الآية تدل عليه لوجوه :

أحدها : أنه تعالى صرح بكون العبد خالقا فقال : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) [المائدة : ١١٠] ، وقال : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] و (٤) تمدح بأنه قدره تقديرا ، ولا يجوز أن يريد به إلا الحسن والحكمة دون غيره. فظاهر الآية لا يدل إلا على التقدير ، لأن الخلق عبارة عن التقدير ، فلا يتناول إلا ما يظهر فيه التقدير وهو الأجسام لا الأعراض. والجواب : أن قوله : «إذ تخلق» ، وقوله : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) معارض بقوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الزمر : ٦٢] وبقوله : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) [فاطر : ٣] وقولهم : لا يجوز التمدح بخلق الفساد ، فالجواب : لم لا يجوز أن يتمدح به من حيث نفاذ القدرة (٥).

قوله تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً)(٣)

قوله تعالى (٦) : (وَاتَّخَذُوا) يجوز أن يعود الضمير على الكفار الذين تضمنهم لفظ العالمين (٧) ، وأن يعود على من ادّعى لله (٨) شريكا وولدا ، لدلالة (٩) قوله : (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ)(١٠) وأن يعود على المنذرين ، لدلالة «نذيرا» عليهم (١١).

__________________

(١) في ب : قد.

(٢) في ب : مفيد.

(٣) انظر الكشاف ٣ / ٨٨ ، الفخر الرازي ٢٤ / ٤٧.

(٤) و : سقط من ب.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤٦ ـ ٤٧.

(٦) تعالى : سقط من ب.

(٧) حكاه أبو حيان عن الكرماني. البحر المحيط ٦ / ٤٨١.

(٨) لله : سقط من ب.

(٩) في ب : لدلالة لأن.

(١٠) قال أبو حيان : (الضمير في «واتخذوا» عائد على ما يفهم من السياق ، لأن في قوله : «وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ» دلالة على ذلك). البحر المحيط : ٦ / ٤٨١.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٨١.

٤٧٥

قوله : «لا يخلقون» صفة ل «آلهة» (١) ، وغلب العقلاء على غيرهم ؛ لأن الكفار كانوا يعبدون العقلاء كعزير والمسيح والملائكة وغيرهم كالكواكب والأصنام. ومعنى «لا يخلقون» لا يقدرون على التقدير ، والخلق يوصف به العباد قال زهير :

٣٨٦٠ ـ ولأنت تفري ما خلقت وبع

ض القوم يخلق ثم لا يفري (٢)

ويقال : خلقت الأديم : أي : قدرته ، وهذا إذا أريد بالخلق التقدير ، فإن أريد به الإيجاد فلا يوصف به غير الباري ـ تعالى ـ وقد تقدم (٣).

وقيل : بمعنى يختلقون كقوله : (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً)(٤).

فصل

لما وصف نفسه بصفات الجلال والعزة والعلو أردفه بتزييف مذهب عبدة الأوثان من وجوه : منها : أنها ليست خالقة للأشياء ، والإله يجب أن يكون قادرا على الخلق والإيجاد ومنها : أنها مخلوقة ، والمخلوق محتاج ، والإله يجب أن يكون غنيا. ومنها (٥) : أنها لا تملك لأنفسها ضرا ولا نفعا ، ومن كان كذلك لا يملك موتا ولا حياة ولا نشورا. أي : لا يقدر على الإحياء والإماتة لا في زمن التكليف ، ولا في زمن المجازاة ، ومن كان كذلك كيف يسمى إلها ، وكيف يستحق العبادة (٦)؟.

فصل

احتج أهل السنة بقوله : (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً) على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى لأنه عاب هؤلاء الكفار من حيث عبدوا ما لا يخلق شيئا ، وذلك يدل على أن من خلق يستحق أن يعبد ، فلو كان العبد خالقا لكان معبودا إلها. وأجاب الكعبي بأنا لا نطلق (٧) اسم الخالق إلا على الله تعالى ، (وقال بعض أصحابنا في الخلق : إنه الإحداث لا بعلاج وفكر وتعب ولا يكون ذلك إلا لله تعالى.

ثم قال : قد قال الله تعالى) (٨) : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) [الأعراف : ١٩] في وصف الأصنام ، أفيدل ذلك على أن كل من له رجل (٩) يستحق أن يعبد. فإذا قالوا : لا. قيل : فكذلك ما ذكرتم ، وقد قال الله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] هذا كله كلام الكعبي.

__________________

(١) في ب : لإله.

(٢) البيت من بحر الكامل. قاله زهير بن أبي سلمى. والشاهد فيه قوله : «خلقت» فإنه بمعنى قدرته.

(٣) في سورة المؤمنون.

(٤) من قوله تعالى : «إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً»[العنكبوت : ١٧].

(٥) في ب : منها.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤٨.

(٧) في ب : بأنه لا يطلق.

(٨) ما بين القوسين سقط من ب.

(٩) في ب : أرجل

٤٧٦

والجواب : قوله : لا نطلق (١) اسم الخالق على العبد. قلنا : بل يجب (٢) ذلك ، لأن الخلق في اللغة هو التقدير ، والتقدير يرجع إلى الظن والحسبان ، فوجب أن يكون اسم الخالق حقيقة في العبد مجازا(٣) في الله ، فكيف يمكنهم منع (٤) إطلاق لفظ الخالق على العبد؟. وأما قوله تعالى : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) فالعيب إنما وقع عليهم ، فلا جرم أن من تحقق العجز في حقه من (٥) بعض الوجوه لم يحسن عبادته. وأما قوله : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) فتقدم الكلام عليه (٦). واعلم أن في استدلال أهل السنة بالآية (٧) نظر ، لاحتمال (٨) أن الغيب (٩) إنما حصل بمجموع الأمرين ، وهو كونهم ليسوا بخالقين ، وكونهم مخلوقون ، والعبد وإن كان خالقا إلا أنه مخلوق ، فلا (١٠) يلزم أن يكون العبد إلها معبودا (١١).

فصل

دلّت الآية على البعث ، لأنه تعالى ذكر النشور ، ومعناه : أن المعبود يجب أن يكون قادرا على إيصال الثواب إلى المطيعين ، والعقاب إلى العصاة ، فمن لا يكون كذلك يجب أن لا (١٢) يصلح للإلهية(١٣).

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦) وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً)(٩)

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ) الآية. لما تكلم أولا في التوحيد وثانيا في الرد على عبدة الأوثان ، تكلم ههنا في مسألة النبوة ، وحكى شبه الكفار في إنكار نبوة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ. فالشبهة الأولى : قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ).

__________________

(١) في ب : لا يطلق.

(٢) في ب : قلنا فوجب.

(٣) في ب : مجاز. وهو تحريف.

(٤) في ب : مع. وهو تحريف.

(٥) في ب : أما من.

(٦) في سورة المؤمنون.

(٧) بالآية : سقط من الأصل.

(٨) في ب : لأن احتمال.

(٩) في ب : الغيب. وهو تصحيف.

(١٠) في ب : ولا.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤٨ ـ ٤٩.

(١٢) في ب : أن لا يكون.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤٩.

٤٧٧

قال (١) الكلبي ومقاتل : نزلت في النضر بن الحارث هو الذي قال هذا القول «وأعانه عليه قوم آخرون» يعني : عامر مولى حويطب بن عبد العزى ، ويسار غلام عامر بن الحضرمي ، وجبير مولى عامر ، هؤلاء الثلاثة كانوا من أهل الكتاب ، وكانوا يقرؤون التوراة ، فلما أسلموا ، وكان النبي يتعهدهم ، فمن أجل ذلك قال النضر ما قال (٢). وقال الحسن : عبيد بن الحصر (٣) الحبشيّ الكاهن (٤). وقيل : جبر ويسار وعداس عبيد كانوا بمكة من أهل الكتاب ، فزعم المشركون أن محمدا يأخذ منهم (٥).

قوله : «افتراه» الهاء تعود على «إفك» وقال أبو البقاء : الهاء تعود على «عبده» في أول السورة (٦). قال شهاب الدين (٧) : ولا أظنه إلا غلطا وكأنه أراد أن يقول الضمير المرفوع في «افتراه» فغلط (٨).

قوله : «ظلما» فيه أوجه :

أحدها : أنه مفعول به ، لأن جاء يتعدى بنفسه (وكذلك أتى) (٩)(١٠).

والثاني : أنه على إسقاط الخافض ، أي : جاءوا بظلم. قاله الزجاج (١١).

الثالث : أنه في موضع الحال (١٢) ، فيجيء فيه ما في قولك : جاء زيد عدلا (١٣).

قال الزمخشري : «فقد جاءوا ظلما وزورا» أي : أتوا (١٤) ظلما وكذبا كقوله (١٥) : (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا)(١٦) [مريم : ٨٩] فانتصب بوقوع المجيء (١٧). أما كونه «ظلما»

__________________

(١) في ب : وقال.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥٠.

(٣) كذا في البغوي ، وفي الأصل : الحضرمي ، وفي ب : الحضرمي في.

(٤) انظر البغوي ٦ / ١٥٧.

(٥) المرجع السابق.

(٦) التبيان ٢ / ٩٨٠.

(٧) في الأصل : قاله. وهو تحريف.

(٨) الدر المصون ٥ / ١٣٦. وفي ب : فغلط افتراه اختلقه والافتراء افتعال من فريت يقال : فريت الأديم.

(٩) حكاه أبو حيان عن الكسائي. البحر المحيط ٦ / ٤٨١ ، وانظر أيضا الكشاف ٣ / ٨٨ ، والتبيان ٢ / ٩٨٠.

(١٠) ما بين القوسين في ب : ولذلك أتى به.

(١١) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٥٨ ، وانظر أيضا الكشاف ٣ / ١٨٨.

(١٢) انظر التبيان ٢ / ٩٨٠.

(١٣) أي أنه مصدر في موضع الحال مؤول بالمشتق والتقدير : جاؤوا ظالمين ، أو على حذف مضاف أي : ذوي ظلم ، هذا مذهب البصريين ، ومذهب الكوفيين أنه مفعول مطلق للفعل السابق عليه ، وقيل : لفعل مقدر من لفظه ، والتقدير : جاؤوا يظلمون ظلما.

(١٤) في النسختين : كفروا. والتصويب من الفخر الرازي.

(١٥) في ب : لقوله.

(١٦) [مريم : ٨٩]. والاستشهاد بالآية على أن المصدر منصوب بالفعل السابق وليس حالا.

(١٧) لم أجده في الكشاف ، وهو موجود في الفخر الرازي ، وقد نسبه ابن الخطيب إلى الكسائي. انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥٠. وكان الأولى في هذه العبارة أن تكون بعد الوجه الأول ؛ لأنها تدل على أن الفعل تعدى إلى المصدر فنصبه.

٤٧٨

فلأنهم نسبوا هذا الفعل (١) القبيح إلى من كان مبرأ عنه ، فقد وضعوا الشيء في غير موضعه ، وذلك هو الظلم. وأما كونه «زورا» فلأنهم كذبوا ، قال أبو مسلم : الظلم تكذيبهم الرسول (٢).

الشبهة الثانية : قوله تعالى : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. اكْتَتَبَها) الآية. يجوز في «اكتتبها» ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون حالا من «أساطير» (٣) ، والعامل فيها معنى التنبيه أو الإشارة المقدرة ، فإن «أساطير» خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هذه أساطير الأولين مكتتبة (٤).

الثاني : أن يكون في موضع خبر ثان ل «هذه».

الثالث : أن يكون «أساطير» مبتدأ و «اكتتبها» خبره (٥). و «اكتتبها» الافتعال هنا يجوز أن يكون بمعنى : أمر بكتابتها كافتصد (٦) واحتجم (٧) إذا أمر بذلك (٨) ويجوز أن يكون بمعنى كتبها ، وهو من جملة افترائهم عليه ، لأنه كان أميا لا يقرأ ولا يكتب ، ويكون كقولهم : (استكبه واصطبه ، أي: سكبه وصبه) (٩)(١٠) ، والافتعال مشعر بالتكليف (١١). ويجوز أن يكون من كتب بمعنى جمع من الكتب ، وهو الجمع (١٢) لا من الكتابة بالقلم. وقرأ طلحة «اكتتبها» مبنيا للمفعول (١٣).

قال الزمخشري : والمعنى : اكتتبها له كاتب ، لأنه كان أميا لا يكتب بيده ، ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى الضمير ، فصار اكتتبها إياه كاتب ، كقوله : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) [الأعراف : ١٥٥] ، ثم بنى الفعل للضمير الذي هو إيّاه فانقلب مرفوعا مستترا بعد أن كان منصوبا بارزا (١٤) ، وبقي ضمير الأساطير على حاله ، فصار «اكتتبها» كما ترى (١٥). قال أبو حيان : ولا يصح ذلك على مذهب جمهور البصريين ، لأن «اكتتبها» له

__________________

(١) في ب : للفعل. وهو تحريف.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥٠.

(٣) انظر التبيان ٢ / ٩٨٠.

(٤) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٢٩ ، البيان ٢ / ٢٠٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٨٢.

(٥) قالهما أبو حيان. البحر المحيط ٦ / ٤٨٢.

(٦) الفصد : شق العرق. فصده يفصده فصدا وفصادا ، فهو مفصود وفصيد ، وفصد الناقة : شق عرقها ليستخرج دمه فيشربه. اللسان (فصد).

(٧) احتجم : طلب الحجامة ، والحجم : المص ، يقال حجم الصبي ثدي أمه إذا مصّه. اللسان (حجم).

(٨) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٨٢.

(٩) قال الزمخشري :(«اكتتبها» كتبها لنفسه وأخذها كما تقول : استكب الماء واصطبه إذا سكبه وصبّه لنفسه) الكشاف ٣ / ٨٨.

(١٠) ما بين القوسين في ب : استكه واصطكه أي سكه وصكه.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٨٢.

(١٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٨٢.

(١٣) المختصر (١٠٣) ، المحتسب ٢ / ١١٧ ، البحر المحيط ٦ / ٤٨٢.

(١٤) في ب : وزنا. وهو تحريف. وفي الكشاف : بارزا منصوبا.

(١٥) الكشاف ٣ / ٨٨ ـ ٨٩.

٤٧٩

كاتب ، وصل الفعل فيه المفعولين : أحدهما : مسرح (١) ، وهو ضمير الأساطير والآخر مقيّد (٢) ، وهو ضميره عليه‌السلام (٣) ـ ، ثم اتسع في الفعل ، فحذف حرف الجر ، فصار «اكتتبها إياه كاتب» ، فإذا بني هذا للمفعول إنما ينوب عن الفاعل المفعول المسرح لفظا وتقديرا ، لا المسرح لفظا المقيد تقديرا ، فعلى هذا كان يكون التركيب (اكتتبه) لا (اكتتبها) ، وعلى هذا الذي قلناه جاء السماع ، قال الفرزدق :

٣٨٦١ ـ ومنّا الّذي اختير الرجال سماحة

وجودا إذا هبّ الرياح الزّعازع (٤)

ولو جاء على ما قدره الزمخشري لجاء التركيب : ومنّا الذي اختيره الرجال. لأن (اختير) تعدى إلى الرجال بإسقاط حرف الجر ؛ إذ تقديره : اختير من الرجال (٥). وهو اعتراض حسن بالنسبة (٦) إلى مذهب الجمهور ، ولكن الزمخشري قد لا يلتزمه ، ويوافق الأخفش والكوفيين ، وإذا كان الأخفش وهم يتركون المسرح لفظا وتقديرا ، ويقيمون المجرور بالحرف مع وجوده ، فهذا (٧) أولى (٨).

والظاهر أن الجملة من قوله «اكتتبها فهي تملى» من تتمة قول الكفار (٩).

وعن الحسن أنها من كلام الباري تعالى ، وكان حق الكلام على هذا أن يقرأ «أكتتبها» بهمزة مقطوعة مفتوحة للاستفهام (١٠) كقوله : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ)(١١) [سبأ : ٨]. ويمكن أن يعتذر عنه أنه حذف الهمزة للعلم بها كقوله تعالى : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَ) [الشعراء : ٢٢]. وقول الآخر :

__________________

(١) أي تعدى إليه الفعل بنفسه لا بحرف الجر.

(٢) أي تعدى إليه الفعل بحرف الجر.

(٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٤) البيت من بحر الطويل ، قاله الفرزدق. سماحة وجودا : مصدران منصوبان على المفعول لأجله ، كأنه قيل : اختير من الرجال لسماحته وجوده ، ويجوز أن يكونا حالين أو تمييزين.

الزعازع : جمع زعزع ، وهي الرياح التي تهب بشدة ، عنى بذلك الشتاء والشاهد فيه أن نائب الفاعل في قوله (اختير) ضمير مستتر يعود على المفهوم من الكلام المتقدم ، وهو المفعول الأول الذي تعدى إليه الفعل بنفسه ، و (الرجال) هو المفعول الثاني ، وهو منصوب في البيت على نزع الخافض ، والتقدير : من الرجال. وفي ب : والزعازع. وهو تحريف.

(٥) في ب : ما النسبة. وهو تحريف.

(٦) البحر المحيط ٦ / ٤٨٢.

(٧) في ب : وهذا.

(٨) ذهب الكوفيون ووافقهم بعض المتأخرين إلى أن قيام المفعول به المجرور مقام الفاعل أولى لا أنه واجب ، والأخفش أجاز نيابة الظرف والمصدر مع وجود المفعول به ، بشرط تقدمهما على المفعول به ووصفهما. وجوز الفراء وابن مالك في الفعل الذي يتعدى إلى مفعولين ثانيهما بحرف الجر عند بنائه للمفعول إقامة الثاني نحو اختير الرجال زيدا. الكافية ١ / ٨٤ ـ ٨٥ ، الهمع ١ / ١٦٢.

(٩) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٨٢.

(١٠) انظر الكشاف ٣ / ٨٩ ، البحر المحيط ٦ / ٤٨٢.

(١١) [سبأ : ٨]. والاستشهاد بالآية أن هذا من كلام الله ، يدل على ذلك مجيء الهمزة المفتوحة بالقطع للاستفهام ، فلو كان (اكتتبها) من كلام الله لجيء بهمزة الاستفهام قبله.

٤٨٠