اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٤

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٤

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

والسناء ـ بالمد ـ : الرفعة ، قال :

٣٨٤٣ ـ (وسنّ كسنّيق سناء وسنّما (١)) (٢)

وقرأ ابن وثاب : «سناء برقه» بالمد ، وبضم الباء (٣) من «برقه» وفتح الراء وروي عنه ضم الراء أيضا (٤). فأما قراءة المد فإنه شبه المحسوس (٥) من البرق لارتفاعه في الهواء بغير المحسوس من الإنسان (٦). فأما «برقه» فجمع «برقة» ، وهي المقدار من البرق ، ك «غرفة وغرف» ، و «لقمة ولقم» (٧). وأما ضم الراء (٨) فإتباع (٩) ، ك «ظلمات» بضم اللام إتباعا لضم الظاء (١٠) ، وإن كان أصلها السكون (١١). وقرأ العامة أيضا «يذهب» بفتح الياء والهاء.

وأبو جعفر بضم الياء وكسر الهاء من «أذهب» (١٢).

وقد خطّأ هذه القراءة الأخفش وأبو حاتم ، قالا : «لأنّ الباء تعاقب (١٣) الهمزة» (١٤).

__________________

(١) صدر بيت من بحر الطويل ، قاله امرؤ القيس ، وعجزه : ذعرت بمدلاج الهجير نهوض. وهو في ديوانه (٧٦) ، البحر المحيط ٦ / ٤٤٤ ، المغني ١ / ١٣٧ ، شرح شواهده ١ / ٤٠٣ ، الهمع ٢ / ٢٧ ، الدرر ٢ / ٢٧ ، السن : الثور الوحشي : السّنيق : الصخرة الصلبة ، وقيل : هو جبل. السناء : الارتفاع. وهو موطن الشاهد هنا. السّنم : البقرة الوحشية ، وقيل : إنه اسم جبل ، مدلاج : أي فرس كثير السير.

الهجير : القائلة. نهوض : بفتح النون أي : كثير النهوض. واستشهد به النحاة على أن (وسنّما) بالنصب عطف على محل مجرور (ربّ) المحذوفة وهو قوله (سنّ) والتقدير : وربّ سنّ ، لأن (سنّ) في موضع نصب ب (ذعرت).

(٢) ما بين القوسين في ب : وسناكق فسنا وسنما.

(٣) في ب : وبضم الباء لارتفاعه.

(٤) لم أجد هذه القراءة معزوة إلى ابن وثاب ، ففي المختصر (١٠٢):(«يَكادُ سَنا بَرْقِهِ» بضمتين طلحة بن مصرف) ، وفي المحتسب (ومن ذلك قراءة طلحة بن مصرف : «سناء برقه» ٢ / ١١٤ ، وفي تفسير ابن عطية : (وقرأ طلحة بن مصرف : «سناء» بالمد والهمز ، وقرأ طلحة أيضا «برقه» بضم الباء وفتح الراء) ١٠ / ٥٣٠ وفي البحر المحيط : (وقرأ طلحة بن مصرف «سناء» ممدودا «برقه» بضم الباء وفتح الراء ... وعنه بضم الباء والراء) ٦ / ٤٦٥.

(٥) في ب : المخبوس. وهو تحريف.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦٥.

(٧) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٣٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤٦٥.

(٨) في ب : الواو. وهو تحريف.

(٩) في ب : اتباع.

(١٠) في ب : الطاء. وهو تصحيف.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦٥.

(١٢) المختصر (١٠٢) ، المحتسب ٢ / ١١٤ ، النشر ٢ / ٣٣٢ ، الإتحاف (٣٢٥).

(١٣) في ب : معاقب.

(١٤) كذا نقله المؤلف عن أبي حيان من البحر المحيط ٦ / ٤٦٥ ، ولم يتعرض الأخفش في كتابه معاني القرآن لهذه القراءة.

٤٢١

وليس ردّهما بصواب ، لأنّها تتخرّج على ما خرّج ما قرىء به في المتواتر : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ)(١) من أنّ الباء مزيدة (٢) ، أو أنّ المفعول محذوف والباء بمعنى «من» تقديره : يذهب النور من الأبصار(٣)، كقوله (٤) :

٣٨٤٤ ـ شرب النّزيف ببرد ماء الحشرج (٥)

فصل (٦)

المعنى : يكاد ضوء برق السحاب يذهب بالأبصار من شدة ضوئه. واعلم أنّ البرق الذي صفته(٧) كذلك لا بد وأن يكون نارا عظيمة خالصة ، والنار ضد الماء والبرد ، فظهوره يقتضي ظهور الضد من الضد ، وذلك لا يمكن إلا بقدرة قادر (٨) حكيم (٩) ، ثم قال : (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) يصرفهما في اختلافهما ، ويعاقبهما : يأتي بالليل ويذهب بالنهار ، ويأتي بالنهار ويذهب بالليل قال عليه‌السلام (١٠) : «قال الله تعالى : يؤذيني ابن آدم ، يسبّ (١١) الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر ، أقلّب الليل والنهار» (١٢). وقيل : المراد ولوج (١٣) أحدهما في الآخر.

وقيل : المراد تغير أحوالهما في الحر والبرد وغيرهما (١٤). (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) أي : إن في الذي ذكرت من هذه الأشياء (لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ)

__________________

(١) [المؤمنون : ٢٠]. والقراءة بضم التاء وكسر الباء قراءة ابن كثير وأبي عمرو ، وقرأ الباقون «تنبت» بفتح التاء وضم الباء السبعة (٤٤٥).

(٢) وقياس قوله في «تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ» يقتضي أن تكون الباء عنده مزيدة ، حيث قال : (لأن الباء تزاد في كثير من الكلام نحو قوله : «تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ» أي : تنبت الدهن) معاني القرآن للأخفش ٢ / ٦٤٦.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦٥.

(٤) في ب : وقوله.

(٥) عجز بيت من بحر الكامل ، قاله عمر بن أبي ربيعة ، وقيل لجميل بن معمر ، وصدره :

فلثمت فاها آخذا بقرونها

وهو في ديوان عمر (٤٨٨) ، الكامل ١ / ٣٨٢ ، اللسان (حشرج) ، المغني ١ / ١٠٥ ، المقاصد النحوية ٣ / ٢٧٩ ، شرح شواهد المغني ١ / ٤٢٠ ، الهمع ٢ / ٢١ ، الدرر ٢ / ١٤ ، النزيف المحموم الذي منع من الماء. الحشرج : الكوز الصغير اللطيف ، وقيل : الماء الذي تحت الأرض لا يفطن له في أباطح الأرض ، والشاهد فيه أن الباء بمعنى (من).

(٦) فصل : سقط من ب.

(٧) في ب : وصفته.

(٨) في ب : حاكم.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٥.

(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١١) في ب : بسبب.

(١٢) أخرجه البخاري (تفسير) ٣ / ١٨٧ ، مسلم (ألفاظ) ٤ / ١٧٦٢ ، أبو داود (أدب) ٥ / ٤٢٣ ـ ٤٢٤ ، أحمد ٢ / ٢٣٨ ـ ٢٧٢.

(١٣) في ب : ولوح. وهو تصحيف.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٥.

٤٢٢

البصائر (١) ، أي : دلالة لأهل العقول على قدرة الله وتوحيده (٢).

قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٤٦)

قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) الآية.

لما استدل أولا بأحوال السماء والأرض ، وثانيا بالآثار العلوية استدل ثالثا بأحوال الحيوانات. قال ابن عطية : قرأ حمزة والكسائي : «والله خالق كلّ دابّة» على الإضافة (٣) ، فإن قيل : لم قال : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) مع أن كثيرا من الحيوانات لم يخلق من الماء ، كالملائكة (٤) خلقوا من النور (٥) ، وهم أعظم الحيوانات عددا ، وكذلك الجن وهم مخلوقون من النار ، وخلق آدم من التراب لقوله : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ)(٦) وخلق عيسى من الريح لقوله : (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا)(٧) ونرى كثيرا من الحيوانات يتولد لا عن نطفة؟ فالجواب من وجوه :

أحسنها : ما قال القفال : إنّ «ماء» صلة (كُلَّ دَابَّةٍ) وليس هو من صلة «خلق» والمعنى: أنّ كلّ دابّة متولدة من الماء فهي مخلوقة لله تعالى.

وثانيها : أنّ أصل (٨) جميع المخلوقات الماء على ما روي : «أول ما خلق الله جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء ، ثم من ذلك الماء خلق النار والهواء والنور». والمقصود من هذه الآية : بيان أصل الخلقة ، وكان أصل الخلقة الماء ، فلهذا ذكره الله تعالى.

وثالثها : المراد من «الدّابّة» : التي تدب (٩) على وجه الأرض ، ومسكنهم هنالك (١٠) ، فيخرج الملائكة والجن ، ولما كان الغالب من هذه الحيوانات كونهم مخلوقين من الماء ، إما لأنها متولدة من النطفة ، وإما لأنها لا تعيش إلا بالماء ، لا جرم أطلق عليه لفظ الكل تنزيلا للغالب منزلة الكل (١١).

وقيل : الجار في قوله (١٢) : «من ماء» متعلق ب «خلق» أي : خلق من ماء كلّ دابّة ، و «من» لابتداء الغاية (١٣). ويرد على هذا السؤال المتقدم.

__________________

(١) البصائر : سقط من ب.

(٢) انظر البغوي ٦ / ١٣٢.

(٣) السبعة (٤٥٧) ، الكشف ٢ / ١٤٠ ، النشر ٢ / ٣٣٢ ، الإتحاف (٣٢٦) وانظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٣٢.

(٤) في ب : الملائكة.

(٥) في ب : النار. وهو تحريف.

(٦) من قوله تعالى : «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» [آل عمران : ٥٩].

(٧) [التحريم : ١٢].

(٨) في ب : أصله.

(٩) في ب : دبت.

(١٠) في ب : هناك.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٦.

(١٢) في ب : قوله تعالى.

(١٣) واستظهره أبو حيان ٦ / ٤٦٥.

٤٢٣

فإن قيل : لم نكر (١) الماء في قوله : «من ماء» وعرفه في قوله : (مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)(٢)؟

فالجواب : جاء هاهنا منكرا لأنّ المعنى : خلق كلّ دابة من نوع من الماء مختصا بتلك الدابة ، وعرفه في قوله : (مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) لأنّ المقصود هناك : كونهم (٣) مخلوقين من هذا الجنس ، وهاهنا بيان أنّ ذلك الجنس ينقسم إلى أنواع كثيرة (٤).

قوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي). إنما أطلق «من» على غير العاقل لاختلاطه بالعاقل في المفصّل ب «من» وهو (كُلَّ دَابَّةٍ)(٥). وكان التعبير ب «من» أولى ليوافق اللفظ (٦).

وقيل : لمّا وصفهم بما يوصف به العقلاء وهو المشي أطلق عليها «من» (٧) وفيه نظر ، لأن هذه الصفة ليست خاصة بالعقلاء ، بخلاف قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ)(٨) ، وقوله :

٣٨٤٥ ـ أسرب القطا هل من يعير جناحه (٩)

   .................

البيت.

وقد تقدّم خلاف القرّاء في (خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ) في سورة «إبراهيم» (١٠).

واستعير المشي للزّحف (١١) على البطن ، كما استعير المشفر للشفة وبالعكس (١٢) ، كما قالوا في الأمر المستمر : قد مشى هذا الأمر ، ويقال : فلان ما يمشي له أمر (١٣). فإن قيل : لم حصر القسمة في هذه الثلاثة أنواع من المشي ، وقد تجد من يمشي على أكثر من

__________________

(١) في ب : ذكر. وهو تحريف.

(٢) من قوله تعالى : «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ» [الأنبياء : ٣٠].

(٣) كونهم : سقط من ب.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٦.

(٥) انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٥٧.

(٦) انظر التبيان ٢ / ٩٧٥.

(٧) المرجع السابق.

(٨) [النحل : ١٧].

(٩) صدر بيت من بحر الطويل ، قاله العباس بن الأحنف ، وعجزه :

لعلّي إلى من هويت أطير

السّرب : الجماعة من القطاة. والهمزة في (أسرب القطا) للنداء. القطا : طائر معروف ، واحدته قطاة والجمع قطوات وقطيات.

والشاهد فيه إطلاق (من) على غير العاقل ، لأنه لما نادى سرب القطا كما ينادى العاقل ، وطلب منها إعارة الجناح لأجل الطيران نحو محبوبته نزلها منزلة العقلاء. وقد تقدم.

(١٠) عند قوله تعالى : «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ» [إبراهيم : ١٩]. وذكر ابن عادل هناك : قرأ الأخوان هنا : «خالق السموات والأرض» خالق اسم فاعل مضافا لما بعده ، والباقون «خلق» فعلا ماضيا ، ولذلك نصب «الأرض». و «كُلَّ دَابَّةٍ» وكسر «السموات» في قراءة الأخوين خفض ، وقراءة غيرهما نصب. انظر اللباب ٥ / ١٢٦.

(١١) في ب : الزحف.

(١٢) المشفر للبعير ، والشفة للإنسان. اللسان (شفر).

(١٣) الكشاف ٣ / ٨٠.

٤٢٤

أربع كالعناكب والعقارب والرتيلات (١) والحيوان الذي له أربعة وأربعون رجلا؟

فالجواب : هذا القسم الذي لم يذكر كالنادر ، فكان ملحقا بالعدم (٢). وأيضا قال النقاش : إنه اكتفى بذكر ما يمشي على أربع عن ذكر ما يمشي على أكثر ، لأنّ جميع الحيوان إنما اعتماده على أربع ، وهي قوام مشيه (٣) ، وكثرة الأرجل لبعض (٤) الحيوان زيادة في الخلقة (٥) ، لا يحتاج ذلك الحيوان في مشيه إلى جميعها (٦). قال ابن عطية : والظاهر أن تلك الأرجل الكثيرة ليست باطلا ، بل هي محتاج إليها في نقل الحيوان ، وهي كلها تتحرك في تصرفه (٧).

وجواب آخر وهو أن قوله تعالى : (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) كالتنبيه على سائر الأقسام (٨).

وفي مصحف أبيّ بن كعب : «ومنهم من يمشي على أكثر» فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان ، ولكنه قرآن لم يثبت بالإجماع (٩).

قوله : (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لأنه هو (١٠) القادر على الكل ، والعالم بالكل ، فهو المطلع على أحوال هذه الحيوانات ، فأي عقل يقف عليها؟ وأي خاطر يصل إلى ذرّة (١١) من أسرارها؟ بل هو الذي يخلق ما يشاء كما يشاء ، ولا يمنعه منه مانع (١٢).

قوله : (لَقَدْ (١٣) أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ). الأولى حمله (١٤) على كل الأدلة. وقيل : المراد القرآن ، لأن كالمشتمل على كل الأدلة والعبر (١٥). (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وتقدم الكلام في نظائر هذه الآية بين أهل السنة والمعتزلة (١٦).

قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ

__________________

(١) في النسختين : والرتيلا. والتصويب من الفخر الرازي. والرّتيلى : ضرب من العناكب. المعجم الوسيط (رتل).

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٧.

(٣) في ب : مقينه. وفي الأصل : مشيته. والتصويب من تفسير ابن عطية.

(٤) في ب : كبعض.

(٥) في ب : الخلق.

(٦) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٣٣.

(٧) المرجع السابق.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٧.

(٩) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٣٣ ، البحر المحيط ٦ / ٤٦٦.

(١٠) هو : سقط من ب.

(١١) في ب : دره. وهو تصحيف.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٩.

(١٣) في ب : ولقد. وهو تحريف.

(١٤) في ب : والأول حمله. وهو تحريف.

(١٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٩.

(١٦) المرجع السابق.

٤٢٥

(٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(٥٠)

قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ (١) وَأَطَعْنا) الآية.

لما ذكر دلائل التوحيد أتبعه بذم قوم اعترفوا بالذنب بألسنتهم ولكنهم لم يقبلوه بقلوبهم.

قال مقاتل : نزلت هذه الآية في بشر المنافق وكان قد خاصم يهوديا في أرض ، فقال اليهودي : نتحاكم إلى محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقال المنافق : نتحاكم إلى كعب بن الأشرف ، فإن محمدا يحيف علينا ، فأنزل الله هذه الآية. وقد مضت قصتها في سورة «النساء» (٢).

وقال الضحاك : نزلت في المغيرة بن وائل ، كان (٣) بينه وبين علي بن أبي طالب أرض تقاسماها ، فوقع إلى عليّ ما لا يصيبه الماء إلا بمشقة ، فقال المغيرة : بعني أرضك. فباعها إياه ، وتقابضا. فقيل للمغيرة : أخذت سبخة لا ينالها الماء فقال لعلي : اقبض أرضك ، فإنما اشتريتها إن رضيتها ، ولم أرضها. فقال علي : بل اشتريتها ورضيتها وقبضتها وعرفت حالها ، لا أقبلها منك ، ودعاه إلى أن يخاصمه إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال المغيرة : أما محمد فلا آتيه ولا أحاكم إليه ، فإنه يبغضني ، وأنا (٤) أخاف أن يحيف علي ، فنزلت الآية.

وقال الحسن : نزلت هذه في المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان ويسرون الكفر (٥).

فصل (٦)

المعنى : (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا) يعني : المنافقين يقولونه (٧) ، (ثُمَّ يَتَوَلَّى)(٨) يعرض عن طاعة الله ورسوله (فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد قولهم : آمنّا ، ويدعو إلى غير حكم الله ، ثم قال : (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ)(٩).

فإن قيل : إنه تعالى حكى عن كلهم أنهم يقولون : «آمنّا» ثم حكى عن فريق منهم التولي ، فكيف يصح أن يقول في جميعهم : (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) مع أن المتولي فريق منهم؟

فالجواب : أن قوله : (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) راجع إلى الذين تولوا لا إلى الجملة

__________________

(١) في النسختين : والرسول. وهو تحريف.

(٢) عند قوله تعالى : «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً»[النساء : ٦٠]. انظر اللباب ٣ / ١٠٤ ، وانظر أيضا أسباب النزول للواحدي (٢٤٤).

(٣) في ب : وكان.

(٤) أنا : سقط من ب.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٠.

(٦) في الأصل : قوله.

(٧) في ب : لقوله.

(٨) في ب : «ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ».

(٩) انظر البغوي ٦ / ١٣٣ ـ ١٣٤.

٤٢٦

الأولى ، وأيضا فلو رجع إلى الأولى لصح (١) ، ويكون معنى قوله : (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أي : يرجع هذا الفريق إلى الباقين (٢) فيظهر بضهم لبعض الرجوع ، كما أظهروه (٣) ، ثم بين تعالى أنهم إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق (٤) منهم معرضون ، وهذا ترك للرضا بحكم الرسول لقوله تعالى : (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) منقادين لحكمه ، أي : إذا كان الحق لهم على غيرهم أسرعوا إلى حكمه لتيقنهم أنه كما يحكم عليهم بالحق يحكم لهم أيضا بالحق ، وهذا يدل على أنهم إنما يعرضون متى عرفوا الحق لغيرهم أو شكوا. فأما إذا عرفوه لأنفسهم عدلوا عن الإعراض وسارعوا إلى الحكم وأذعنوا (ببذل الرضا (٥)) (٦).

قوله : «ليحكم» أفرد الضمير وقد تقدّمه اسمان وهما : (اللهِ وَرَسُولِهِ) فهو كقوله : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ)(٧) لأنّ حكم رسوله هو حكمه. قال الزمخشري : كقولك (٨) : أعجبني زيد وكرمه ، أي : كرم زيد ، ومنه :

٣٨٤٦ ـ ومنهل من الفيافي أوسطه

غلّسته (٩) قبل القطا وفرطه (١٠)

أي : قبل فرط (القطا (١١)) (١٢) يعني : قبل تقدّم القطا. وقرأ أبو جعفر والجحدري وخالد بن إلياس والحسن : (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) هنا ، والتي بعدها (١٣) مبنيا للمفعول (١٤) ، والظرف قائم مقام الفاعل.

__________________

(١) في ب : يصح.

(٢) في ب : المنافقين.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٠ ـ ٢١.

(٤) في الأصل : أن فريقا.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢١.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) [التوبة : ٦٢].

(٨) في ب : هو كقولك.

(٩) في ب : غلسه.

(١٠) رجز لم أهتد إلى قائله ، وهو في مجالس ثعلب ١ / ٣١٣ ، شرح شواهد الكشاف (١٤٠).

المنهل : الوادي ومسيل الماء. الفيافي : الصحارى ، جمع فيفاء. وفي ب : الفلافي ، والفلا : المفازة ، وهي الصحراء ، والفلا جمع فلاة ، ويجمع أيضا على فلوات.

غلسته : بالتشديد أي : سرته في وقت الغلس وهو ظلمة الفجر أو وردته فيه. والفرط من القطا المتقدمات السابقات لغيرها.

والشاهد فيه قوله (وفرطه) فإنه جعل فرط القطا كأنه غيره فعطف عليه.

(١١) الكشاف ٣ / ٨٠.

(١٢) ما بين القوسين في ب : القضا. وهو تحريف.

(١٣) وهو قوله تعالى : «لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ»من الآية (٥١) من السورة نفسها.

(١٤) هذه القراءة مروية فقط لأبي جعفر كما في البحر المحيط ٦ / ٤٦٧ ، الإتحاف (٣٢٦) وتروى عن يزيد بن القعقاع كما في المختصر (١٠٢). ونسبها ابن عطية وأبو حيان لهم عند حديثهما لقوله تعالى :«إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ» الآية (٥١). انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٣٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٦٨ (وفي البحر المحيط لم يذكر الحسن).

٤٢٧

قوله : (إِذا فَرِيقٌ) «إذا» هي الفجائية ، وهي جواب «إذا» الشرطية أولا ، وهذا أحد (١) الأدلة على منع أن يعمل في «إذا» الشرطية جوابها ، فإن ما بعد الفجائية لا يعمل فيما قبلها ، كذا ذكره أبو حيان (٢) ، وتقدم تحرير هذا وجواب الجمهور عنه.

قوله : «إليه» يجوز تعلقه ب «يأتوا» (٣) ، لأنّ «أتى» و «جاء» قد جاءا معدّيين (٤) ب «إلى» ، ويجوز أن يتعلق ب «مذعنين» لأنه بمعنى : مسرعين في الطاعة. وصححه الزمخشري ، قال : لتقدّم صلته ، ودلالته على الاختصاص (٥) ، و «مذعنين» حال (٦). والإذعان : الانقياد ، يقال : أذعن فلان لفلان ، انقاد له (٧). وقال الزجاج : «الإذعان : الإسراع مع الطاعة» (٨).

قوله : (أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ). «أم» فيهما منقطعة ، فتقدر عند الجمهور بحرف الإضراب وهمزة الاستفهام ، تقديره : بل أرتابوا بل أيخافون ، ومعنى الاستفهام هنا : التقرير والتوقيف (٩) ، ويبالغ فيه تارة في الذم كقوله :

٣٨٤٧ ـ ألست من القوم الّذين تعاهدوا

على اللّؤم والفحشاء في سالف الدّهر (١٠)

وتارة في المدح كقوله جرير :

٣٨٤٨ ـ ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح (١١)

و «أن يحيف» مفعول الخوف (١٢) والحوف : الميل والجور في القضاء ، يقال : حاف في قضائه ، أي : (مال (١٣)) (١٤).

فصل (١٥)

قوله (١٦)(أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) نفاق (أَمِ ارْتابُوا) شكوا ، وهو استفهام ذم وتوبيخ ،

__________________

(١) في ب : آخر. وهو تحريف.

(٢) البحر المحيط ٦ / ٤٦٧.

(٣) واستظهره أبو حيان. البحر المحيط ٦ / ٤٦٧.

(٤) في ب : متعديين.

(٥) الكشاف ٣ / ٨١.

(٦) إعراب القرآن للنحاس ٣ / ١٤٤.

(٧) اللسان (ذعن).

(٨) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٥٠.

(٩) في ب : التوفيق. وهو تحريف.

(١٠) البيت من بحر الطويل ، لم أهتد لقائله وهو في البحر المحيط ٦ / ٤٦٧. سالف الدهر : الأزمان الماضية.

والشاهد فيه أنّ الهمزة ليست للاستفهام وإنما هي لتقرير المخاطب في أن اللؤم والغدر ملازم له.

(١١) البيت من بحر الوافر ، قاله جرير. المطايا : جمع مطية ، وهي الدابة تمطو في مشيها ، أي : تسرع.

وأندى : أسخى. الراح : جمع راحة ، وهي الكف. والشاهد فيه أن البيت في مدح عبد الملك بن مروان فالهمزة فيه ليست للاستفهام وإنما هي لتقرير هذا الأمر والإخبار بثبوته. وقد تقدم.

(١٢) في الأصل : الحرف. وهو تحريف.

(١٣) اللسان (حيف).

(١٤) ما بين القوسين في ب : جار.

(١٥) فصل : سقط من ب.

(١٦) قوله : سقط من الأصل.

٤٢٨

أي (١) هم كذلك ، (أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) أي : يظلم (بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، لأنفسهم بإعراضهم عن الحق (٢).

قال الحسن بن أبي الحسن (٣) : من دعا خصمه إلى حكم من أحكام المسلمين فلم يجب ، فهو ظالم (٤) فإن قيل : إذا خافوا أن يحيف الله عليهم ورسوله فقد ارتابوا في الدين ، وإذا ارتابوا ففي قلوبهم مرض ، فالكل واحد ، فأي فائدة في التعديد (٥)؟

فالجواب : قوله : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) إشارة إلى النفاق ، وقوله : (أَمِ ارْتابُوا) إشارة إلى أنهم بلغوا في حب الدنيا إلى حيث يتركون الدين بسببه (٦). فإن قيل : هذه الثلاثة متغايرة ولكنها متلازمة ، فكيف أدخل عليها كلمة «أم»؟

فالجواب الأقرب أنه تعالى أنبههم (٧) على (٨) كل واحدة من هذه الأوصاف ، فكان في قلوبهم مرض وهو النفاق ، وكان فيها شك وارتياب ، وكانوا يخافون الحيف من الرسول ، وكل واحد من ذلك كفر ونفاق ، ثم بين تعالى بقوله : (بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) بطلان ما هم عليه ، لأن الظلم يتناول كل معصية ، كما قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(٩) (١٠).

قوله تعالى : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(٥٤)

قوله تعالى : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ). العامة على نصب «قول» خبرا ل «كان» ، والاسم «أن» (١١) المصدرية وما بعدها. وقرأ أمير المؤمنين والحسن وابن أبي إسحاق برفعه (١٢) على أنه الاسم ، و «أن» وما في حيّزها الخبر ، وهي عندهم مرجوحة ، لأنه متى اجتمع معرفتان فالأولى جعل الأعرف الاسم (١٣) ، وإن كان سيبويه خيّر في ذلك بين كل

__________________

(١) في ب : أ.

(٢) انظر البغوي ٦ / ١٣٦.

(٣) تقدم.

(٤) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٣٤.

(٥) في ب : التعدد.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢١.

(٧) في الفخر الرازي : ذمهم.

(٨) في ب : عن.

(٩) [لقمان : ١٣].

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢١.

(١١) أن : سقط من ب.

(١٢) المختصر (١٠٣) ، المحتسب ٢ / ١١٥ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٣٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٦٨.

(١٣) انظر الكشاف ٣ / ٨١.

٤٢٩

معرفتين ، ولم يفرّق هذه التفرقة (١) ، وتقدم تحقيق هذا في «آل عمران».

فصل

قوله (٢) : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ) أي : إلى كتاب الله «ورسوله ليحكم بينهم» وهذا ليس على طريق الخبر ، ولكنه تعليم أدب الشرع ، بمعنى أن المؤمنين ينبغي أن يكونوا هكذا ، (أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) أي : سمعنا (٣) الدعاء وأطعنا بالإجابة ، (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) قال ابن عباس : فيما ساءه وسره (يَخْشَى اللهَ) فيما صدر عنه من الذنوب في الماضي «ويتّقه» فيما بقي من عمره (فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) الناجون.

قوله : «ويتّقه». القراء فيه بالنسبة إلى القاف على مرتبتين :

الأولى : تسكين (٤) القاف ، ولم يقرأ بها إلّا حفص. والباقون بكسرها (٥).

وأما بالنسبة إلى هاء الكناية فإنهم فيها على خمس مراتب :

الأولى : تحريكها مفصولة (٦) قولا واحدا ، وبها قرأ ورش وابن ذكوان وخلف وابن كثير والكسائيّ(٧).

الثانية : تسكينها قولا واحدا ، وبها قرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم (٨).

الثالثة : إسكان الهاء أو (٩) وصلها بياء ، وبها قرأ خلّاد (١٠).

__________________

(١) قال سيبويه : (وإذا كان معرفة فأنت بالخيار : أيّهما ما جعلته فاعلا رفعته ونصبت الآخر كما فعلت ذلك في ضرب ، وذلك قولك : كان أخوك زيدا وكان زيد صاحبك ، وكان هذا زيدا ، وكان المتكلم أخاك) الكتاب ١ / ٤٩ ـ ٥٠.

(٢) قوله : سقط من الأصل.

(٣) في ب : بمعنى.

(٤) في ب : السكين. وهو تحريف.

(٥) السبعة (٤٥٧ ـ ٤٥٨) ، الكشف ٢ / ١٤٠ ، الإتحاف (٣٢٦).

(٦) أي : محركة بالكسر دون إشباع للكسر فلا يتولد منه ياء.

(٧) انظر الكشاف ٢ / ١٤١.

(٨) السبعة (٤٥٧) ، الكشف ٢ / ١٤٠ ، الإتحاف ٣٢٦. وحجة من قرأ بهذه القراءة أنه توهم أنّ الهاء لام الفعل ، بكونها آخرا ، فأسكنها للجزم ، وقيل : إنه أسكن على نية الوقف ، وقيل هي لغة لبعض العرب ، حكى سيبويه (هذه أمة الله) بالإسكان. الكتاب ٤ / ١٩٨. الكشف ٢ / ١٤١.

(٩) في ب : و.

(١٠) هو خلاد بن خالد أبو عبد الله الشيباني ، مولاهم الصير في الكوفي إمام في القراءة ، أخذ القراءة عرضا عن سليم ، وروى القراءة عن حسين بن علي الجعفي عن أبي بكر وعن أبي بكر نفسه وغيرهما ، وروى القراءة عنه عرضا أحمد بن يزيد الحلواني ، وإبراهيم بن علي القصار وغيرهما ، مات سنة ٢٢٠ ه‍. طبقات القراء ١ / ٢٧٤ ـ ٢٧٥.

٤٣٠

الرابعة (١) : تحريكها من غير صلة ، وبها قرأ قالون وحفص (٢).

الخامسة : تحريكها موصولة أو مقصورة (٣) ، وبها قرأ هشام (٤).

فأمّا إسكان الهاء وقصرها وإشباعها فقد مرّ تحقيقه مستوفى (٥). وأما تسكين القاف فإنهم حملوا المنفصل على المتّصل ، وذلك أنهم يسكّنون عين «فعل» (٦) فيقولون : كبد ، وكتف ، وصبر في كبد وكتف وصبر (٧) ، لأنها كلمة واحدة ، ثم أجري ما أشبه ذلك من المنفصل مجرى المتصل ، فإن «يتّقه» صار منه «تقه» بمنزلة «كتف» فسكن كما يسكن ، ومنه :

٣٨٤٩ ـ قالت سليمى اشتر لنا سويقا (٨)

بسكون الراء كما سكن الآخر :

٣٨٥٠ ـ فبات منتصبا وما تكردسا (٩)

وقول الآخر :

٣٨٥١ ـ عجبت لمولود وليس له أب

وذي ولد لم يلده أبوان (١٠)

يريد : «منتصبا» ، و «لم يلده».

__________________

(١) في ب : الرابع.

(٢) السبعة (٤٥٧ ـ ٤٥٨) الكشف ٢ / ١٤٠ ، الإتحاف (٣٢٦).

(٣) في الأصل : أو موصولة ، وفي ب : ومكسورة.

(٤) الإتحاف (٣٢٦).

(٥) عند قوله تعالى : «وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً» [آل عمران : ٧٥]. انظر اللباب ٢ / ٢٧٦.

(٦) في ب : فعلى. وهو تحريف.

(٧) وهو ما يسمى بتفريعات بني تميم ، فإنهم يفرعون على بعض الأبنية لقصد التخفيف ، فإنهم إنما سكنوا العين هنا كراهة الانتقال من الأخف وهو الفتح إلى الأثقل وهو الكسر سواء كان حلقي العين أم لا ، وأهل الحجاز لا يفرعون ولا يغيرون البناء. انظر شرح الشافية ١ / ٣٩ ـ ٤٧.

(٨) رجز ، قاله العذافر الكندي ، وهو في النوادر (١٧٠) ، والحجة لأبي علي ١ / ٣١١ ، المحتسب ١ / ٣٦١ ، الخصائص ٢ / ٣٤٠ ، ٣ / ٩٦ ، المنصف ٢ / ٢٣٧ ، شرح شواهد الشافية ٤ / ٢٢٤.

(٩) من الرجز ، قاله العجاج يصف ثورا ، وهو في ديوانه ١٣٠ ، الحجة لأبي علي ١ / ٣٠٩ ، الخصائص ٢ / ٢٥٢ ، ٣٣٨ ، ابن يعيش ٩ / ١٤٠ ، اللسان (كردس) ، شرح شواهد الشافية ٤ / ٢١ ، وبعده : إذا أحسّ نبأة توجّسا. التكردس : الانقباض واجتماع بعضه إلى بعض ، النبأة : الصوت يسمع ولا يفهم.

التوجس التسمع للصوت.

والشاهد فيه قوله (منتصبا) بإسكان الصاد إجراء لبعض حروف الكلمة وهي (نصبا) مجرى الكلمة نحو (كنف) في التخفيف ، وكان حق الحركة الكسر لأنها اسم فاعل.

وروي (منتصّا) أي مرتفعا ، وعليها فلا شاهد.

(١٠) البيت من بحر الطويل ، ينسب لرجل من أزد السّراة ، وقيل : لعمرو الجنبي. وقد تقدم.

٤٣١

وتقدم في أول البقرة تحرير هذا الضابط في قوله : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ)(١) و «هي» و «هو» ونحوها.

وقال مكيّ : كان يجب على من سكّن القاف أن يضمّ الهاء ، لأنّ هاء الكناية إذا سكّن ما قبلها ولم يكن الساكن ياء ضمّت نحو «منه» و «عنه» ، ولكن لما كان سكون القاف عارضا لم يعتدّ به ، وأبقى الهاء على كسرتها التي كانت عليها مع كسر القاف ، ولم يصلها بياء ، لأنّ الياء المحذوفة قبل الهاء مقدّرة منويّة ، (فبقي الحذف الذي في الياء قبل الهاء على أصله (٢)) (٣).

وقال الفارسيّ : الكسرة في الهاء لالتقاء الساكنين ، وليست الكسرة التي قبل الصلة ، وذلك أنّ هاء الكناية ساكنة في قراءته ، ولما أجرى «تقه» مجرى كتف ، وسكّن القاف التقى ساكنان ، ولمّا التقيا اضطر إلى تحريك أحدهما ، فإمّا أن يحرّك الأول أو الثاني ، (و) (٤) لا سبيل إلى تحريك الأول ، لأنه يعود إلى ما فرّ منه ، وهو ثقل «فعل» (٥) فحرّك ثانيهما (على غير) (٦) أصل التقاء الساكنين ، فلذلك كسر الهاء ، ويؤيده قوله :

٣٨٥٢ ـ   ................

 ... لم يلده أبوان(٧)

وذلك أن أصله : لم «يلده» بكسر اللام وسكون الدال للجزم ، ثم لما سكن اللام التقى ساكنان ، فلو حرك الأول لعاد إلى ما فرّ منه ، فحرك ثانيهما وهو الدال ، وحركها بالفتح وإن كان على خلاف أصل التقاء الساكنين مراعاة لفتحة الياء (٨). وقد ردّ أبو القاسم بن فيره (٩) قول الفارسي وقال : لا يصحّ قوله : إنه كسر الهاء لالتقاء الساكنين ، لأن حفصا لم يسكّن الهاء في قراءته قطّ (١٠) وقد رد أبو عبد الله (١١) شارح قصيدته (١٢) هذا الردّ ، وقال : وعجبت من نفيه الإسكان عنه مع ثبوته عنه في «أرجه» (١٣) و (فَأَلْقِهْ)(١٤) ، وإذا قرأه في «أرجه» و «فألقه» احتمل أن يكون «يتّقه» عنده قبل سكون

__________________

(١) [البقرة : ٧٤].

(٢) الكشف ٢ / ١٤٢.

(٣) ما بين القوسين في الكشف : فبقي الحذف على الياء التي بعد الهاء على أصله.

(٤) و : تكملة ليست بالمخطوط.

(٥) في ب : فعلى. وهو تحريف.

(٦) ما بين القوسين في النسختين : بأصل.

(٧) تقدم تخريجه.

(٨) انظر الحجة لأبي علي الفارسي ٦ / ٤.

(٩) تقدم.

(١٠) انظر الدر المصون ٥ / ١١٦.

(١١) في ب : أبو عبيدة. وهو تحريف. هو محمد بن حسن بن محمد بن يوسف أبو عبد الله الفاسي نزيل حلب ، إمام كبير ولد بفاس بعيد الثمانين وخمسمائة ، ثم قدم إلى مصر ، وأخذ عن علمائها في ذلك الوقت ، وانتهت إليه رئاسة الإقراء بحلب ، وشرحه للشاطبية في غاية الحسن. مات سنة ٦٥٦ ه‍ بحلب. طبقات القراء ٢ / ١٢٢ ـ ١٢٣.

(١٢) في ب : وصيدته. وهو تحريف.

(١٣) [الأعراف : ١١١] ، [الشعراء : ٣٦].

(١٤) من قوله تعالى : «اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ»[النمل : ٢٨].

٤٣٢

القاف كذلك ، وربما يرجّح ذلك بما ثبت عن عاصم من قراءته إيّاه بسكون الهاء مع كسر القاف (١). قال شهاب الدين : لم يعن الشاطبيّ بأنّه لم يسكن الهاء قطّ ، الهاء من حيث هي هي (٢) ، وإنما (عنى هاء) (٣) «يتّقه» خاصة ، وكان الشاطبيّ أيضا يعترض التوجيه الذي تقدم عن مكّي ، ويقول : تعليله حذف الصلة بأن الياء المحذوفة قبل الهاء مقدّرة منويّة ، فبقي في حذف الصلة بعد الهاء على أصله غير مستقيم من قبل أنّه قرأ «يؤدهي» (٤) وشبّهه بالصلة ، ولو كان يعتبر (٥) ما قاله من تقدير الياء قبل الهاء لم يصلها (٦).

قال أبو عبد الله : هو وإن قرأ «يؤدّ هي» وشبّهه بالصلة فإنه قرأ : «يرضه» (٧) بغير صلة ، فألحق مكيّ «يتّقه» ب «يرضه» ، وجعله مما خرج فيه عن نظائره لاتّباع الأثر ، والجمع بين اللغتين ، ويرجح ذلك عنده لأنّ اللفظ عليه ، ولما كانت القاف في حكم المكسورة بدليل كسر الهاء بعدها صار كأنه «يتّقه» بكسر القاف والهاء من غير صلة ، كقراءة قالون وهشام في أحد وجهيه (٨) ، فعلّله بما يعلّل به قراءتهما (٩) ، والشاطبيّ يرجح عنده حمله على الأكثر مما قرأ به ، لا على ما قلّ وندر ، فاقتضى تعليله بما ذكر (١٠).

قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) في (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) وجهان :

أحدهما : أنه منصوب على المصدر بدلا من اللفظ بفعله ، إذ أصل : أقسم بالله جهد اليمين : أقسم بجهد اليمين جهدا ، فحذف الفعل وقدّم المصدر موضوعا موضعه ، مضافا إلى المفعول ك (فَضَرْبَ الرِّقابِ)(١١) ، قاله (١٢) الزمخشري (١٣).

والثاني : أنه حال ، تقديره : مجتهدين في أيمانهم ، كقولهم : افعل (١٤) ذلك جهدك وطاقتك. وقد خلط الزمخشريّ الوجهين فجعلهما وجها واحدا فقال بعد ما تقدّم عنه : وحكم هذا المنصوب حكم الحال ، كأنه قيل : جاهدين أيمانهم (١٥) وتقدم الكلام على (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) في المائدة (١٦).

__________________

(١) انظر اللآلىء الفريدة في شرح القصيدة (٥٠).

(٢) هي : سقط من ب.

(٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(٤) من قوله تعالى : «وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ» [آل عمران : ٧٥]. وهي قراء ابن كثير والكسائي بياء في اللفظ بعد الهاء صلة لها. السبعة (٢٠٨).

(٥) في ب : بغير.

(٦) انظر الدر المصون ٥ / ١١٦.

(٧) من قوله تعالى : «وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ» [الزمر : ٧]. وقراءة «يرضه» من غير إشباع قراءة ابن عامر ، ونافع في رواية ورش ومحمد بن إسحاق عن أبيه ، وقالون في رواية أحمد بن صالح وابن أبي مهران عن الحلواني عن قالون ، وكذلك قال يعقوب بن جعفر عن نافع. السبعة (٥٦٠).

(٨) السبعة (٤٥٦) ، الإتحاف (٣٢٦).

(٩) في ب : قراءته.

(١٠) انظر الدر المصون ٥ / ١١٦.

(١١) [محمد : ٤].

(١٢) في ب : قال. وهو تحريف.

(١٣) الكشاف ٣ / ٨١.

(١٤) في ب : فعل.

(١٥) الكشاف ٣ / ٨١.

(١٦) عند قوله تعالى :«وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ» [المائدة : ٥٣].

٤٣٣

فصل

قال مقاتل : من حلف بالله فقد أجهد (١) في اليمين (٢) ، وذلك أن المنافقين كانوا يقولون لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «أينما كنت نكن معك ، لئن خرجت خرجنا ، وإن أقمت أقمنا ، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا». فقال الله تعالى : «قل» لهم «لا تقسموا» لا تحلفوا ، وهاهنا تم الكلام (٣).

ولو كان قسمهم لما (٤) يجب لم يجز النهي عنه ، لأنّ (٥) من حلف على القيام بالبر والواجب لا يجوز أن ينهى عنه ، فثبت أنّ قسمهم كان لنفاقهم ، وكان باطنهم بخلاف ظاهرهم ، ومن نوى الغدر لا الوفاء فقسمه قبيح (٦).

قوله : «طاعة معروفة». في رفعها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره : «أمرنا طاعة» ، أو «المطلوب طاعة» (٧).

والثاني : أنها (٨) مبتدأ والخبر محذوف ، أي : (أمثل أو أولى (٩)) (١٠).

وقد تقدّم أنّ الخبر متى كان في الأصل مصدرا بدلا من اللفظ بفعل وجب حذف مبتدأه (١١) ، كقوله : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)(١٢) ، ولا يبرز إلّا اضطرارا ، كقوله :

٣٨٥٣ ـ فقالت على اسم الله أمرك طاعة

وإن كنت قد كلّفت ما لم أعوّد (١٣)

على خلاف في ذلك.

والثالث : أن يكون فاعله بفعل محذوف ، أي : ولتكن طاعة ، ولتوجد طاعة.

__________________

(١) في الأصل : اجتهد.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٢ ـ ٢٣.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٣.

(٤) في ب : لا. وهو تحريف.

(٥) في ب : لأنه. وهو تحريف.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٣.

(٧) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٢٥ ، الكشاف ٣ / ٨١ ، البيان ٢ / ١٨٩ ، التبيان ٢ / ٩٧٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٦٨.

(٨) في ب : أنه.

(٩) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٢٥ ، الكشاف ٣ / ٨١ ، البيان ٢ / ١٩٨ ، التبيان ٢ / ٩٧٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٦٨.

(١٠) ما بين القوسين في ب : أمثلى أوالى. وهو تحريف.

(١١) والأصل في هذا النصب ، لأنه جيء به بدلا من اللفظ بفعله فلم يجز إظهار ناصبه ، لئلا يكون جمعا بين البدل والمبدل منه ، ثم حمل الرفع على النصب ، فالتزم إضمار المبتدأ. انظر الهمع ١ / ١٠٤.

(١٢) [يوسف : ٨٣].

(١٣) البيت من بحر الطويل قاله عمر بن أبي ربيعة. الشاهد فيه قوله : (أمرك طاعة) حيث صرح بلفظ المبتدأ مع أن الخبر مصدر بدل من الفعل بلفظه وهو ضرورة. وظاهر كلام ابن جني في الخصائص أن هذا ليس من باب الضرورة ، فإنه قال في الآية : (وإن شئت كان على : أمرنا طاعة وقول معروف ، وعليه قوله : البيت) ٢ / ٣٦٢. وقد تقدم.

٤٣٤

واستضعف ذلك بأنّ الفعل لا يحذف إلّا (إذا) (١) تقدّم مشعر به ، كقوله : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ)(٢) في قراءة من بناه للمفعول (٣) ، أي : يسبّحه رجال. أو (٤) يجاب به نفي ، كقولك : بلى (٥) زيد لمن قال : «لم يقم أحد». أو استفهام (٦) كقوله :

٣٨٥٤ ـ ألا هل أتى أمّ الحويرث مرسل

بلى خالد إن لم تعقه العوائق (٧)

وقرأ زيد بن علي و (٨) اليزيديّ : «طاعة» بنصبها (٩) بفعل مضمر ، وهو الأصل. قال أبو البقاء :

ولو قرىء بالنصب لكان جائزا في العربية ، وذلك على المصدر ، أي : أطيعوا طاعة وقولوا قولا ، وقد دلّ عليه قوله (١٠) بعدها : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ)(١١) قال شهاب الدين : (قوله : (ولو قرىء بالنصب لكان جائزا) قد تقدم النقل لقراءته) (١٢). وأما قوله : (وقولوا قولا) فكأنه سبق لسانه إلى آية القتال ، وهي : (فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ)(١٣) ولكن النصب هناك ممتنع أو بعيد (١٤).

فصل

المعنى : هذه طاعة بالقول باللسان دون الاعتقاد ، وهي معروفة (١٥) ، أي : أمر عرف منكم أنكم تكذبون وتقولون ما لا تفعلون ، قاله مجاهد. وقيل : طاعة معروفة بنية خالصة أفضل وأمثل من يمين باللسان لا يوافقها الفعل (١٦). وقال مقاتل بن سليمان : لتكن (١٧)

__________________

(١) إذا : سقط من الأصل.

(٢) من الآية (٣٦) من السورة نفسها.

(٣) وهي قراءة ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر. السبعة (٤٥٦).

(٤) في ب : و.

(٥) في النسختين : يكن.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦٨ ، الهمع ١ / ١٦٠.

(٧) البيت من بحر الطويل قاله أبو ذؤيب الهذلي ، واستشهد به على حذف الفعل إذا كان جواب الاستفهام ، وذلك أن قوله (خالد) فاعل لفعل محذوف في جواب الاستفهام والتقدير بلى أتاها خالد.

لأنّ المحذوف يفسره المذكور ، وهو قوله : (أتى). وقد تقدم.

(٨) و : سقط من ب.

(٩) المختصر (١٠٣) ، البحر المحيط ٦ / ٤٦٨.

(١٠) في التبيان : قوله تعالى.

(١١) التبيان ٢ / ٩٧٦.

(١٢) ما بين القوسين في الدر المصون : ماودة أن يقرأ به قد قرىء به كما تقدم نقله.

(١٣) [محمد : ٢٠ ، ٢١].

(١٤) وذلك أن «أولى» مبتدأ ، و «لهم» الخبر ، وقيل : «أولى» مبتدأ و «لهم» من صلته ، و «طاعة» الخبر ، فهذه جملة اسمية ، والعطف على كونها جملة اسمية أولى. وقيل : «طاعة» مبتدأ ، والخبر محذوف ، والتقدير : طاعة وقول معروف أمثل من غيره. وقيل : «طاعة» خبر لمبتدأ محذوف تقديره : أمرنا طاعة. انظر الكتاب ١ / ١٤١ ، البحر المحيط ٨ / ٨١ ، وانظر الدر المصون ٥ / ١١٧.

(١٥) انظر البغوي ٦ / ١٣٦.

(١٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٣.

(١٧) في ب : ليس. وهو تحريف.

٤٣٥

منكم طاعة معروفة. هذا على قراءة الرفع (١). وأما على قراءة النصب (٢) فالمعنى : أطيعوا الله طاعة (٣) و (اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي : لا يخفى عليه شيء من سرائركم ، فإنه فاضحكم لا محالة ، ومجازيكم على نفاقكم ، ثم قال : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا (٤) الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي : عن طاعة الله ورسوله (فَإِنَّما عَلَيْهِ) أي : على الرسول «ما حمّل» كلّف وأمر به من تبليغ الرسالة (وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) من الإجابة والطاعة (٥). وقرأ نافع في رواية : «فإنّما عليه ما حمل» بفتح الحاء والتخفيف أي: فعليه إثم ما حمل من المعصية (٦).

(وَإِنْ تُطِيعُوهُ (٧) تَهْتَدُوا) أي : تصيبوا الحق ، وإن عصيتموه ، ف (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ). و «البلاغ» بمعنى : التبليغ. و «المبين» : الواضح (٨).

قوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) يجوز أن يكون ماضيا ، وتكون الواو ضمير الغائبين ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة ، وحسّن الالتفات هنا كونه لم يواجههم بالتولّي والإعراض ، وأن يكون مضارعا حذفت إحدى تاءيه ، والأصل : «تتولّوا» (٩) ، ويرجّح هذا قراءة البزّيّ : بتشديد (التاء (١٠) «فإن) (١١) تّولّوا». وإن كان بعضهم يستضعفها للجمع بين ساكنين على غير حدّهما.

ويرجّحه أيضا الخطاب في قوله : (وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) ، ودعوى الالتفات من (١٢) الغيبة إلى الخطاب ثانيا بعيد.

قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(٥٥)

قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الآية.

تقدير النظم : بلّغ أيها الرسول وأطيعوا أيها المؤمنون فقد (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) أي : الذين (١٣) جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح أن يستخلفهم في الأرض فيجعلهم الخلفاء والغالبين والمالكين ، كما استخلف عليها من قبلهم في زمن داود

__________________

(١) وهي قراءة العامة. أي أن (طاعة) فاعل لفعل محذوف ، وقد ضعف ابن عادل هذا الوجه ، وهو الوجه الثالث.

(٢) وفي قراءة زيد بن علي واليزيدي ، كما تقدم.

(٣) أي أن (طاعة) بالنصب بفعل مضمر ، كما تقدم.

(٤) وأطيعوا : سقط من النسختين.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٣.

(٦) المرجع السابق.

(٧) في ب : وأن تطيعوا. وهو تحريف.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٣.

(٩) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٣٧ ، البحر المحيط ٦ / ٤٦٨.

(١٠) انظر الإتحاف (٢٣٦).

(١١) ما بين القوسين في ب : الروان. وهو تحريف.

(١٢) في ب : إلى. وهو تحريف.

(١٣) في الأصل : الذي.

٤٣٦

وسليمان ـ عليهما‌السلام (١) ـ وغيرهما ، وأنه يمكن لهم دينهم ، وتمكينه ذلك بأن يؤيدهم بالنصر والإعزاز ، ويبدلهم من بعد خوفهم من العدوّ أمنا ، بأن ينصرهم عليهم فيقتلوهم ، ويأمنوا بذلك شرهم (٢).

قال أبو العالية : مكث النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعد الوحي بمكة عشر سنين مع أصحابه ، وأمروا بالصبر على أذى الكفار ، فكانوا يصبحون ويمسون خائفين ، ثم أمروا بالهجرة إلى المدينة ، وأمروا بالقتال ، وهم على خوفهم لا يفارق أحد منهم سلاحه ، فقال رجل منهم : ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ، ونضع السلاح فأنزل الله هذه الآية : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ)(٣) أدخل اللام لجواب اليمين المضمرة ، يعني : والله ليستخلفنهم في الأرض ليورثنهم أرض الكفار من العرب والعجم فيجعلهم ملوكها وسكانها (٤)(كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

(قال قتادة : داود وسليمان وغيرهما من الأنبياء (٥).

وقيل) (٦) : (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني : بني إسرائيل ، حيث أهلك الجبابرة بمصر والشام ، وأورثهم أرضهم وديارهم (٧). روى عدي بن حاتم قال : أتينا عند النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إذ أتى إليه رجل فشكى إليه الفاقة ، ثم أتاه آخر فشكى إليه قطع النسل ، فقال : «يا عدي هل رأيت الحيرة؟» قلت : لم أرها وقد أتيت فيها : قال : «فإن طالت بك حياة فلترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله» قلت فيما بيني وبين نفسي : فأين قد سعوا البلاد ، «وإن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى». قلت : كسرى بن هرمز ، «ولئن طالت بك حياة لترين الرجل من مكة يخرج ملأ كفه من ذهب ، أو ذهب يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله ، وليلقين الله أحدكم يوم القيامة وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له ، وليقولن : «ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك؟ فيقول : بلى ، فيقول : ألم أعطك مالا وأتفضل عليك» فيقول : بلى ، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا الجنة ، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم». قال عدي : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «اتقوا النار ولو بشقّ تمرة ، فمن لم يجد تمرا فبكلمة طيبة» (٨) ـ قال عدي فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله تعالى وكنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز ، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يخرج (الرجل ملأ كفه (٩)) (١٠).

__________________

(١) في ب : عليهما الصلاة والسلام.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٤.

(٣) في ب : ليستخلفنهم في الأرض. وانظر البغوي ٦ / ١٣٧ ، وأسباب النزول للواحدي ٢٤٤ ، القرطبي ١٢ / ٢٩٧.

(٤) انظر البغوي ٦ / ١٣٧ ـ ١٣٨.

(٥) انظر البغوي ٦ / ١٣٨.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) انظر البغوي ٦ / ١٣٨.

(٨) أخرجه البخاري (زكاة) ١ / ٢٤٦ ، (أدب) ٤ / ٥٤ ، ومسلم (زكاة) ٢ / ٧٠٣ ـ ٧٠٤ ، النسائي (زكاة) ٥ / ٧٤ ـ ٧٥ ، أحمد ١ / ٤٤٦ ، ٤ / ٢٥٦ ، ٢٥٨ ، ٢٥٩ ، ٣٧٧.

(٩) أخرجه الإمام أحمد ٤ / ٢٥٧ ، ٣٧٨.

(١٠) ما بين القوسين سقط من الأصل.

٤٣٧

قوله : «ليستخلفنّهم» فيه وجهان :

أحدهما : هو جواب قسم مضمر ، أي : أقسم ليستخلفنهم (١) ، ويكون مفعول الوعد محذوفا تقديره : وعدهم الاستخلاف ، لدلالة قوله : «ليستخلفنّهم» عليه (٢).

والثاني : أن يجرى «وعد» مجرى القسم لتحقّقه ، فلذلك أجيب بما يجاب به القسم (٣).

قوله : «كما استخلف» أي : استخلافا كاستخلافهم (٤). والعامة (٥) على بناء استخلف للفاعل.

وأبو بكر بناه للمفعول (٦). فالموصول منصوب على الأول ومرفوع على الثاني.

قوله : (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ). قرأ ابن كثير وأبو بكر : (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ) بسكون الباء وتخفيف الدال(٧) من أبدل وتقدم توجيهها في الكهف في قوله : (أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما)(٨).

قوله : «يعبدونني» فيه سبعة أوجه :

أحدها : أنه مستأنف ، أي : جواب لسؤال مقدر ، كأنه قيل : ما بالهم يستخلفون ويؤمنون؟

فقيل : «يعبدونني» (٩).

والثاني (١٠) : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هم يعبدونني ، والجملة أيضا استئنافية تقتضي المدح(١١).

الثالث : أنه حال من مفعول «وعد الله» (١٢).

الرابع : أنه حال من مفعول «ليستخلفنّهم» (١٣).

__________________

(١) انظر الكشاف ٣ / ٨٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٦٩.

(٢) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٢٥ ، البيان ٢ / ١٩٩.

(٣) قال الفراء : (وقوله : «وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ» العدة قول يصلح فيها أن وجواب اليمين. فتقول : وعدتك أن آتيك ، ووعدتك لآتينك) معاني القرآن ٢ / ٢٥٨.

(٤) أي : فيكون قوله : «كَمَا اسْتَخْلَفَ» نعتا لمصدر محذوف. التبيان ٢ / ٩٧٦.

(٥) غير عاصم في رواية أبي بكر.

(٦) السبعة (٤٥٨) ، الكشف ٢ / ١٤٢ ، النشر ٢ / ٣٣٢ ، الإتحاف (٣٢٦).

(٧) والباقون بالتشديد من (بدّل). السبعة (٤٥٨ ـ ٤٥٩) ، الكشف ٢ / ١٤٢ ، النشر ٢ / ٣٣٣ ، الإتحاف (٣٢٦).

(٨) من قوله تعالى : «فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً»[الكهف : ٨١]. انظر اللباب ٥ / ٣٧٠.

(٩) انظر الكشاف ٣ / ٨٢.

(١٠) في ب : الثاني.

(١١) قاله ابن عطية في تفسيره ١٠ / ٥٤٠ والحوفي. انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦٩.

(١٢) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٢٦ ، البيان ٢ / ١٩٩ ، الكشاف ٣ / ٨١.

(١٣) في ب : يستحلفنهم.

٤٣٨

الخامس : أن يكون حالا من فاعله (١).

السادس : أن يكون حالا من مفعول «ليبدّلنّهم» (٢).

السابع : أن يكون حالا من فاعله (٣).

قوله : «لا يشركون». يجوز أن يكون مستأنفا ، وأن يكون حالا من فاعل «يعبدونني» أي : يعبدونني موحدين ، وأن يكون بدلا من الجملة التي قبله الواقعة حالا (٤) ، وتقدم ما فيها.

فصل

دلّ قوله : (وَعَدَ اللهُ) على أنه متكلم ، لأن الوعد نوع من أنواع الكلام ، والموصوف بالنوع موصوف بالجنس ، ولأنه تعالى ملك مطاع ، والملك المطاع لا بدّ وأن يكون بحيث يمكنه وعد أوليائه ووعيد أعدائه ، فثبت أنه سبحانه متكلم (٥).

فصل

ودلت الآية على أنه سبحانه يعلم الأشياء قبل وقوعها خلافا لهشام بن الحكم ، فإنه قال : لا يعلمها قبل وقوعها. ووجه الاستدلال أنه تعالى أخبر عن وقوع شيء في المستقبل إخبارا على التفصيل. وقد وقع المخبر مطابقا للخبر ، ومثل هذا الخبر لا يصح إلا مع العلم (٦).

فصل

ودلت الآية على أنه تعالى حي قادر على جميع الممكنات لقوله : (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) وقد فعل كل ذلك ، وصدور هذه الأشياء لا يصح إلا من القادر على كل الممكنات (٧) المقدورات (٨).

فصل

ودلت الآية على أنه سبحانه هو المستحق للعبادة ، لأن قال : «يعبدونني».

وقالت المعتزلة : الآية تدل على أن فعل الله تعالى معلل بالغرض ، لأنّ المعنى : لكي يعبدونني. وقالوا أيضا : الآية تدل على أنه سبحانه يريد العبادة من الكل ، لأنّ من

__________________

(١) انظر التبيان ٢ / ٩٧٦.

(٢) المرجع السابق.

(٣) الظاهر أنه يريد من فاعل «ليبدّلنّهم» ، وهذا الوجه والوجه الخامس قبله المعنى على خلافهما لأن الحال وصف لصاحبها ، وهذا الأمر إنما يتأتى من المفعول في الجملتين ، ولا يمكن حصوله على الفاعل ، وهو الله سبحانه وتعالى.

(٤) انظر التبيان ٢ / ٩٧٦.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٤.

(٦) المرجع السابق.

(٧) الممكنات : سقط من ب.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٤.

٤٣٩

فعل فعلا لغرض ، فلا بدّ وأن يكون مريدا لذلك الغرض (١).

فصل

ودلت الآية على أنه سبحانه منزه عن الشريك ، لقوله : (لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) وذلك يدل على نفي الإله الثاني ، وعلى أنه لا يجوز عبادة غير الله سبحانه (٢).

فصل

ودلت الآية على نبوة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأنه أخبر عن الغيب بقوله : (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً)(٣) وقد وجد هذا المخبر موافقا للخبر ، ومثل هذا الخبر معجز ، والمعجز دليل الصدق ، فدل على صدق محم عليه‌السلام(٤).

فصل

دلت الآية على أنّ العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان ، خلافا للمعتزلة ، لأنه عطف العمل الصالح على الإيمان ، والمعطوف خارج عن المعطوف عليه (٥).

فصل

دلت الآية على إمامة الأئمة الأربعة ، لأنه تعالى وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الحاضرين في زمان محمد ـ عليه‌السلام (٦) ـ بقوله : «منكم» بأنه يستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ، وأن يمكن لهم دينهم المرضي (٧) ، وأن يبدلهم بعد الخوف أمنا ، ومعلوم أن المراد بهذا الوعد بعد الرسول هؤلاء ، لأنّ استخلاف غيره لا يكون إلا بعده ، ومعلوم ألا نبيّ بعده ، لأنه خاتم الأنبياء ، فإذن المراد بهذا الاستخلاف طريقة الإمامة ، ومعلوم أن بعد الرسول (٨) لا (٩) يحصل هذا الاستخلاف إلّا في أيام أبي بكر وعمر وعثمان ، لأنّ في أيامهم كان الفتوح العظيم ، وحصل التمكن ، وظهر الدين والأمن ، ولم يحصل ذلك في أيام عليّ ـ كرم الله وجهه ـ لأنه لم يتفرغ لجهاد الكفار (١٠) ، لاشتغاله بمحاربة من خالفه من أهل الصلاة ، فثبت بهذا دلالة الآية على صحة خلافة هؤلاء (١١). فإن قيل : الآية متروكة الظاهر ، لأنها تقتضي حصول الخلافة

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٤.

(٢) المرجع السابق.

(٣) أمنا : سقط من ب.

(٤) في ب : عليه الصلاة والسلام. انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٤.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٤.

(٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٧) في ب : الذي ارتضى لهم.

(٨) في ب : الرسول صلوات الله وسلامه عليه.

(٩) في ب : لم.

(١٠) في ب : للجهاد.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٥.

٤٤٠