اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٤

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٤

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

فقيل : حدّ الزنا.

وقيل : يقتل مطلقا (١) لقوله عليه‌السلام (٢) : «من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه» (٣).

وقيل : التعزير (٤) ، وهو الصحيح (٥).

وأما السحق وإتيان الميتة والاستمناء باليد فلا يشرع فيه إلا التعزير (٦).

فصل

تقدم الكلام في حدّ الزنا في سورة النساء (٧) ، وأما إثباته فلا يحصل إلا بالإقرار أو بالبينة. أما الإقرار ، فقال الشافعي : يثبت (٨) بالإقرار مرة واحدة لقصة العسيف (٩).

وقال أبو حنيفة وأحمد : لا بد من الإقرار أربع مرات لقصة ما عز (١٠) ، ولقوله عليه‌السلام (١١) : «إنّك شهدت على نفسك أربع مرات» ولو كانت المرة الواحدة مثل الأربع في إيجاب الحدّ لكان هذا الكلام لغوا ، ولقول أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ لما عز بعد إقراره الثالثة : لو أقررت الرابعة لرجمك رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

__________________

(١) وهما للإمام الشافعي. انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٣٣.

(٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٣) أخرجه أبو داود (حدود) ٤ / ٦٠٩ ـ ٦١٠ ، الترمذي (حدود) ٣ / ٨ ، وابن ماجه (حدود) ٢ / ٨٥٦ ، وأحمد ١ / ٢٦٩.

(٤) في ب : التعزيز. وهو تحريف.

(٥) وهو قول أبي حنيفة ومالك والثوري وأحمد رحمهم‌الله. انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٣٤.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٣٥.

(٧) عند قوله تعالى : «وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ» [النساء : ١٥].

انظر اللباب ٣ / ٣٤.

(٨) في ب : ثبت.

(٩) وهو ما روي في الصحيحين أن أعرابيين أتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أحدهما يا رسول الله كان ابني عسيفا يعني أجيرا على هذا فزنا بامرأته ، فافتديت ابني منه بمائة شاة ووليدة فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأنّ على امرأة هذا الرجم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى الوليدة والغنم رد عليك ، وعلى ابنك مائة جلدة وتغريب عام ، واغد يا أنيس لرجل من أسلم إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» فغدا عليها فاعترفت فرجمها.

البخاري (صلح) ٢ / ١١٢ ، (شروط) ٢ / ١١٨ ، (الإيمان) ٤ / ١٤٩ ، (حدود) ٤ / ١٧٨ ـ ١٧٩ ، ١٨١ ، ١٨٢ ـ ١٨٣ ومسلم (حدود) ٣ / ١٣٢٤ ـ ١٣٢٥.

(١٠) هو ماعز بن مالك أحد الذين زنوا على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وذهب إليه ليطهره فراجعه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مرة واثنتين وثلاثة حتى يرجع عن إقراره بالزنا ، فلم يملك ما عز تجاه إصرار النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلا أن يعترف بالزنا صراحة. انظر صحيح مسلم ٣ / ١٣١٩ ـ ١٣٢٤.

(١١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

٢٨١

وقال بريدة الأسلمي (١) : كنا معشر أصحاب محمد نقول : لو لم يقر ما عز (أربع مرات) (٢) ما رجمه رسول الله.

وأيضا فكما لا يقبل في الشهادة على الزنا إلّا أربع شهادات ، فكذا في الإقرار.

وكما أن الزنا لا ينتفي إلّا بأربع شهادات في اللعان ، فلا يثبت إلا بالإقرار (٣) أربع مرات.

وأما البينة فأجمعوا على أنه لا بدّ من أربع شهادات لقوله تعالى (٤) : (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ) (٥) (٦).

فصل

قال بعض العلماء (٧) : لا خلاف أنه يجب على القاضي أن يمتنع عن القضاء بعلم نفسه ، كما إذا ادعى رجل على آخر (٨) حقا وأقام عليه بينة ، والقاضي يعلم أنه قد أبرأه ، أو ادعى أنه قتل أباه وقت كذا وقد رآه القاضي حيّا بعد ذلك ، أو ادعى نكاح امرأة وقد (٩) سمعه القاضي طلقها ، لا يجوز أن يقضي به ولو أقام عليه شهودا (١٠) وهل يجوز له أن يقضي بعلم نفسه مثل إن ادعى عليه ألفا وقد رآه القاضي أقرضه ، أو سمع المدعى عليه يقرّ به؟

فقال أبو يوسف ومحمد والمزني : يجوز له أن يقضي بعلمه ، لأنه لما جاز له أن يحكم بشهادة الشهود ، وهي إنما تفيد الظن ، فلأن يجوز (له) (١١) بما هو منه على علم أولى.

قال الشافعي : «أقضي بعلمي (١٢) ، وهو أقوى من شاهدين ، أو شاهد وامرأتين ، وهو أقوى من شاهد ويمين ، (وبشاهد ويمين) (١٣) وهو أقوى من (النكول (١٤)) (١٥) وردّ اليمين» (١٦) وقيل : لا يحكم بعلمه (١٧) لأن انتفاء التهمة شرط في القضاء ، ولم يوجد هذا في الأموال فأما العقوبات ، فإن كانت العقوبة من حقوق العباد كالقصاص وحدّ القذف فهو مثل المال ، إن قلنا لا يقضي فهاهنا أولى ، وإلا فقولان.

والفرق بينهما أن حقوق الله تعالى مبنية (١٨) على المساهلة والمسامحة ، ولا فرق

__________________

(١) هو بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث الأسلمي. روى عنه ابنه عبد الله مات سنة ٦٣ ه‍ ، خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ١ / ١٢١.

(٢) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٣) في ب : إقرار.

(٤) تعالى : سقط من ب.

(٥) [النساء : ١٥].

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٣ ـ ١٤٤.

(٧) وهو الإمام محيي السنة في كتاب التهذيب. انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٣.

(٨) في ب : الآخر.

(٩) في ب : قد.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٣.

(١١) له : سقط من الأصل.

(١٢) في ب : بعلمه.

(١٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٤) النكول في اليمين : هو الامتناع منها وترك الإقدام عليها.

(١٥) ما بين القوسين في ب : المشكوك. وهو تحريف.

(١٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٣.

(١٧) وهو قول ابن أبي ليلى.

(١٨) في الأصل : مبنى.

٢٨٢

على القولين أن يحصل العلم للقاضي في بلد ولايته (وزمان ولايته) (١) أو في غيره (٢). وقال أبو حنيفة: إن حصل له العلم في بلد ولايته (وفي زمان ولايته) (٣) له أن يقضي بعلمه وإلا فلا (٤).

فصل

لا يقيم الحد إلا الإمام أو نائبه وللسيد أن يقيم الحد على رقيقه لقوله عليه‌السلام (٥) : «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها» (٦). وقيل : بل يرفعه إلى الإمام.

ويجلد المحصن مع ثيابه ولا يجرد ، ولكن ينبغي أن تكون بحيث يصل ألم الضرب إليه ، وأما المرأة فلا يجوز تجريدها ، بل تربط عليها ثيابها حتى لا تنكشف ، ويلي ذلك منها (٧) امرأة (٨). ويضرب بسوط لا جديد يجرح ولا خلق لا يؤلم ، ولا يمد ، ولا يربط ، بل يترك حتى يتقي بيديه (٩) ويضرب الرجل قائما والمرأة جالسة ، وتفرق السياط على أعضائه ولا يجمعها في موضع واحد ويتقى المهالك كالوجه والبطن والفرج.

قال الشافعي : يضرب على الرأس.

وقال أبو حنيفة : لا يضرب على الرأس (١٠).

فصل

ولا يقام الحدّ على الحامل حتى تضع ولدها ، ويستغنى عنها لحديث الجهنية (١١) ، وأما المريض فإن كان يرجى زوال مرضه أخّر حتى يبرأ (إن كان الحد جلدا ، وإن كان رجما أقيم عليه الحدّ ، لأن المقصود قتله) (١٢) ، وإن كان مرضه لا يرجى زواله لم يضرب بالسياط ، بل يضرب بضغث (١٣) فيه عيدان بعدد ما يجب عليه لقصة أيوب (١٤) (ـ عليه

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من ب.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٣.

(٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٣.

(٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٦) أخرجه البخاري (بيوع) ٢ / ١٨ ، ٢٨ ، (عتق) ٢ / ٨٤ ، (حدود) ٤ / ١٨٢ ، ومسلم (حدود) ٣ / ١٣٢٩ ، أبو داود (حدود) ٤ / ٦١٤ ، الترمذي (حدود) ٢ / ٤٤٤ ، ابن ماجه (حدود) ٢ / ٨٠٧ وأحمد ٤ / ٣٤٣.

(٧) منها : سقط من ب.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٦.

(٩) في ب : بيده.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٦ ـ ١٤٢.

(١١) روى عمران بن الحصين : أن امرأة من جهينة أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي حبلى من الزنا ، فقالت : يا نبي الله أصبت حدا فأقمه عليّ ، فدعا نبي الله وليّها فقال : أحسن إليها ، فإذا وضعت فائتني بها. ففعل ، فأمر بها نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشدت عليها ثيابها ، ثم أمر بها فرجمت ، ثم صلى عليها.

انظر صحيح مسلم (حدود) ١٣٢٤ ، الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٧.

(١٢) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(١٣) الضغث : قبضة من قبضات مختلفة يجمعها أصل واحد مثل الأصل. اللسان (ضغث).

(١٤) قال تعالى : «وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ» [ص : ٤٤].

٢٨٣

السلام (١) ـ) (٢) وأدلة جميع ما تقدم مذكورة في كتب الفقه.

فصل

لو فرق السياط تفريقا لا يحصل به التنكيل مثل أن ضرب كل يوم سوطا (٣) أو سوطين لم يحسب ، وإن ضرب كل يوم عشرين وأكثر حسب (٤).

فصل

ويقام الحد في وقت اعتدال الهواء ، فإن كان في وقت شدة حرّ أو برد نظرنا : إن كان الحدّ رجما أقيم عليه كما يقام في المرض ، لأن المقصود قتله.

وقيل : إن كان الرجم ثبت بإقراره أخّر إلى اعتدال الهواء وزوال المرض (إن كان يرجى زوال ، لأنه ربما رجع عن إقراره في خلال الرجم) (٥) وقد أثر الرجم في جسمه فيعين شدة الحر والبرد والمرض على إهلاكه.

وإن ثبت بالبينة لا يؤخر ، لأنه لا يسقط.

وإن كان الحد جلدا لم يجز إقامته في شدة الحر والبرد كما لا يقام في المرض (٦).

فصل

معنى قوله : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ).

قال مجاهد وعكرمة وعطاء وسعيد بن جبير والنخعي والشعبي : لا تأخذكم بهما رأفة فتعطلوا الحدود ولا تقيموها (٧).

وقيل : ولا تأخذكم رأفة فتخففوا ، ولكن أوجعوهما ضربا. وهو قول سعيد بن المسيب والحسن(٨).

قال الزهري : يجتهد في حدّ الزنا والغربة ، ويخفف في حدّ الشرب (٩).

وقال قتادة : يخفف في الشرب والغربة ، ويجتهد في الزنا (١٠).

ومعنى (فِي دِينِ اللهِ) : أي : في حكم الله ، روي (١١) أن عبد الله بن عمر جلد جارية له زنت فقال للجلاد : «اضرب ظهرها ورجليها» فقال له ابنه : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) فقال : «يا بنيّ إن الله لم يأمرني بقتلها ، وقد ضربت فأوجعت» (١٢).

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٧.

(٢) ما بين القوسين في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٣) في ب : سوط.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٧.

(٥) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٨.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٩.

(٨) المرجع السابق.

(٩) البغوي ٦ / ٥٢.

(١٠) المرجع السابق.

(١١) في ب : وروي.

(١٢) انظر البغوي ٦ / ٥١.

٢٨٤

فصل

إذا ثبت الزنا بإقراره فمتى رجع ترك ، وقع به بعض الحد أو لم يقع (به (١)) (٢) ، لأنّ ماعزا لما مسته الحجارة هرب ، فقال عليه‌السلام (٣) : «هلّا تركتموه» (٤).

وقيل : لا يقبل رجوعه (٥).

ويحفر للمرأة إلى صدرها ، ولا يحفر للرجل (٦) ، وإذا مات في الحدّ غسل وكفّن وصلّي عليه ودفن في مقابر المسلمين (٧).

قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) معناه : أن المؤمن لا تأخذه الرأفة إذا جاء أمر الله.

قوله : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما) أي : وليحضر «عذابهما» : حدهما إذا أقيم عليهما «طائفة» نفر من المؤمنين. قال النخعي ومجاهد : أقله رجل واحد ، لقوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا)(٨). وقال عطاء وعكرمة : اثنان ، لقوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ)(٩) وكل ثلاثة فرقة ، والخارج عن الثلاثة واحد أو (١٠) اثنان ، والاحتياط يوجب الأخذ بالأكثر. وقال الزهري وقتادة : ثلاثة فصاعدا ، لأن الطائفة هي الفرقة التي تكون حافة حول الشيء ، وهذه الصورة أقل ما لا بد في حصولها الثلاثة.

وقال ابن عباس : «إنّها أربعة ، عدد شهود الزنا» ، وهو قول مالك وابن زيد.

وقال الحسن البصري : عشرة ، لأنها العدد الكامل (١١).

واعلم أن قوله : «وليشهد» أمر ، وظاهره (١٢) للوجوب ، لكن الفقهاء قالوا : يستحب حضور الجمع ، والمقصود منه (١٣) : إعلان إقامة الحد لما فيه من الردع ودفع التهمة.

وقيل : أراد بالطائفة : الشهود يجب حضورهم ليعلم بقاؤهم على الشهادة (١٤).

وقال الشافعي ومالك : يجوز للإمام أن يحضر رجمه وأن لا يحضر ، وكذا الشهود لا يلزمهم الحضور. وقال أبو حنيفة : «إن ثبت بالبينة وجب على الشهود أن يبدؤوا بالرمي ، ثم الإمام ، ثم الناس ، وإن ثبت بالإقرار بدأ الإمام ثم الناس».

__________________

(١) وبه قال أبو حنيفة ـ رحمه‌الله ـ ، والثوري ، وأحمد ، وإسحاق. الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٨.

(٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٤) أخرجه الترمذي (حدود) ٢ / ٤٥٠.

(٥) وهو قول الحسن ، وابن أبي ليلى ، وداود. الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٨.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٨.

(٧) المرجع السابق.

(٨) [الحجرات : ٩].

(٩) [التوبة : ١٢٢].

(١٠) في ب : و.

(١١) انظر هذه الأقوال في الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٠.

(١٢) في ب : وظاهر.

(١٣) في الأصل : من.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٠.

٢٨٥

واحتج الشافعي بأن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ رجم ماعزا والغامدية ولم يحضر رجمهما (١) وأما تسميته عذابا فإنه يدل على أنه عقوبة ، ويجوز أن يسمى عذابا لأنه يمنع المعاودة ، كما يسمى نكالا لذلك (٢).

قوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)(٣)

قرأ أبو البرهسيم (٣) «وحرّم» مبنيا للفاعل مشددا (٤). وزيد بن علي (٥) «حرم» بزنة كرم (٦). واختلفوا في معنى الآية وحكمها :

فقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة والزهري والشعبي ، ورواية العوفي عن ابن عباس : «قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء لا مال لهم ولا عشائر ، وبالمدينة نساء بغايا يكرين أنفسهن ، وهنّ يومئذ أخصب أهل المدينة ، فرغب ناس من فقراء المسلمين في نكاحهن لينفقن عليهم ، فاستأذنوا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فنزلت هذه الآية» وحرم على المؤمنين أن يتزوجوا تلك البغايا ، لأنهنّ كنّ مشركات (٧).

وقال عكرمة : نزلت في نساء بمكة (٨) والمدينة ، منهن تسع لهن رايات البيطار (٩) يعرفن بها منزلهن : أم مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي (١٠) ، وكان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية يتخذها مأكلة ، فأراد (١١) ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الجهة ، فاستأذن رجل من المسلمين نبي الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في نكاح «أمّ مهزول» واشترطت له أن تنفق عليه ، فأنزل الله (١٢) هذه الآية (١٣).

فإن قيل : قوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) ظاهره خبر وليس الأمر كذلك ، لأن الزاني قد ينكح المؤمنة العفيفة ، والزانية (١٤)

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٨.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٠.

(٣) هو عمران بن عثمان أبو البرهسيم الزبيدي الشامي صاحب القراءة الشاذة ، روى الحروف عنه شريح بن يزيد. طبقات القراء ١ / ٦٠٤ ـ ٦٠٥.

(٤) الكشاف ٣ / ٦٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٣١.

(٥) تقدم.

(٦) البحر المحيط ٦ / ٤٣١.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥١.

(٨) في ب : مكة.

(٩) أي : كرايات معالج الدواب.

(١٠) هو السائب بن صفيّ بن عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، القرشي المخزومي ، قال ابن عباس : إنّ السائب بن أبي السائب ممن هاجر مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأعطاه من غنائم حنين ، وهو من المؤلفة قلوبهم ، وممن حسن إسلامهم منهم.

أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير ١ / ٩٣.

(١١) في ب : وأراد.

(١٢) في ب : الله تعالى.

(١٣) انظر أسباب النزول للواحدي (٣٣٣).

(١٤) في ب : فالزانية.

٢٨٦

قد ينكحها المؤمن العفيف ، وأيضا فقوله : (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) ليس كذلك ، فإن المؤمن يحل له التزويج بالمرأة الزانية.

فالجواب من وجوه :

أحدها ـ وهو أحسنها ـ : ما قاله القفال : إن اللفظ وإن كان عاما لكن المراد منه الأعم الأغلب ، لأن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا لا يرغب في نكاح المرأة الصالحة ، وإنما يرغب في فاسقة مثله أو في مشركة ، والفاسقة لا ترغب في نكاح الرجل الصالح ، بل تنفر عنه ، وإنما ترغب فيمن هو من جنسها من الفسقة والمشركين ، فهذا على الأعم الأغلب ، كما يقال «لا يفعل الخير إلّا الرجل التقيّ» وقد يفعل الخير من ليس بتقي ، فكذا هاهنا.

وأما قوله : (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) فالجواب من وجهين :

الأول : أن نكاح المؤمن الممدوح عند الله الزانية ورغبته فيها فحرم عليه لما فيه من التشبه بالفساق ، وحضور موقع التهمة ، والتسبب لسوء المقالة فيه ، والغيبة ، ومجالسة الخطائين (١) فيها التعرض لاقتراف الآثام (٢) ، فكيف بمزاوجة الزواني والفجار.

وثانيها : أن صرف الرغبة بالكلية إلى الزواني (٣) وترك الرغبة في الصالحات محرم على المؤمنين ، لأن قوله : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً) معناه : أنّ الزاني لا يرغب إلا في زانية ، فهذا محرم على المؤمنين ، ولا يلزم (٤) من حرمة هذا الحصر حرمة التزويج بالزانية ، فهذا هو المعتمد في تفسير الآية.

الوجه الثاني : أن الألف واللام في قوله : «الزّاني» وفي قوله : «المؤمنين» وإن كان للعموم ظاهرا لكنه مخصوص بالأقوام الذين نزلت فيهم كما قدمناه آنفا.

الوجه الثالث : أن قوله : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً) وإن كان خبرا في الظاهر لكن المراد منه النهي ، والمعنى : كل من كان زانيا فلا ينبغي أن ينكح إلا زانية ، «وحرّم ذلك على المؤمنين» هكذا كان الحكم في ابتداء الإسلام.

وعلى هذا الوجه ذكروا قولين :

أحدهما : أن ذلك الحكم باق إلى الآن حتى يحرم على الزاني والزانية التزويج بالعفيفة والعفيف وبالعكس ، وهذا مذهب أبي بكر وعمر وعليّ وابن مسعود.

ثم في هؤلاء من يسوّي بين الابتداء والدوام فيقول : كما لا يحل للمؤمن أن يتزوج بالزانية فكذلك لا يحل له إذا زنت تحته أن يقيم عليها.

ومنهم من يفصل لأن في جملة ما يمنع من التزويج ما لا يمنع من دوام النكاح كالإحرام والعدة.

__________________

(١) في ب : الخطابين. وهو تحريف.

(٢) في ب : الأيام. وهو تحريف.

(٣) في ب : أو.

(٤) في الأصل : ويلزم.

٢٨٧

والقول الثاني : أن هذا الحكم صار منسوخا. واختلفوا في ناسخه : فقال الجبائي : إن ناسخه هو الإجماع وعن سعيد بن المسيب أنه منسوخ بعموم قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ)(١) ، (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ)(٢).

قال المحققون : هذان الوجهان ضعيفان ، أما قول الجبائي فلأنه ثبت في أصول الفقه أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به ، وأيضا فالإجماع الحاصل عقيب الخلاف لا يكون حجة ، والإجماع في هذه المسألة مسبوق بمخالفة أبي بكر وعمر وعلي ، فكيف يصح؟

وأما قوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) فلا يصلح أن يكون ناسخا ، لأنه لا بد من أن يشترط فيه ألا يكون هناك مانع من النكاح من سبب أو نسب أو غيرهما (٣).

ولقائل أن يقول : لا يدخل فيه تزويج الزانية من المؤمنين ، كما لا يدخل فيه تزويجها من الأخ وابن الأخ ، وأن للزنا تأثيرا في الفرقة ما ليس لغيره (٤) ، ألا ترى أنه إذا قذفها يتبعها بالفرقة على بعض الوجوه؟ ولا يجب مثل ذلك في سائر ما يوجب الحد ، ولأن الزنا يورث العار ، ويؤثر في الفراش ، ففارق غيره.

واحتج من ادعى النسخ بأن رجلا سأل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : «يا رسول الله إن امرأتي لا تردّ يد لامس» ، قال : «طلّقها». قال : «إني أحبها ، وهي جميلة» ، قال : «استمتع بها». وفي رواية : «فأمسكها إذن» (٥).

وروي أن عمر بن الخطاب ضرب رجلا وامرأة في زنا وحرص أن يجمع بينهما ، فأبى الغلام. وبأن ابن عباس سئل عن رجل زنا بامرأة فهل له أن يتزوجها؟ فأجازه ابن عباس ، وشبهه بمن سرق ثمر شجرة ثم اشتراه.

وعن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه سئل عن ذلك فقال : «أوّله سفاح وآخره نكاح ، والحرام لا يحرّم الحلال».

الوجه الرابع : أن يحمل النكاح على الوطء ، والمعنى : أن الزاني لا يطأ حين يزني إلا زانية أو مشركة ، وكذا الزانية «وحرّم ذلك على المؤمنين» أي : وحرم الزنا على المؤمنين ، وهذا تأويل أبي مسلم ، وهو قول سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم ، ورواية الوالبي (٦) عن ابن عباس (٧).

__________________

(١) [النساء : ٣].

(٢) [النور : ٣٢].

(٣) في ب : أو غيرها. وهو تحريف.

(٤) في ب : في غيره.

(٥). أخرجه أبو داود (نكاح) ٢ / ٥٤١ ـ ٥٤٢ ، النسائي (نكاح) ٦ / ٦٧ ، (طلاق) ٦ / ١٧.

(٦) هو علي بن ربيعة بن نضلة الوالبي ، أبو المغيرة الكوفي ، أخذ عن علي وسلمان وأخذ عنه الحكم وأبو إسحاق.

خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ٢ / ٢٤٨.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٠ ـ ١٥٢.

٢٨٨

قال الزجاج : «وهذا التأويل فاسد من وجهين :

الأول : أنه ما ورد النكاح في كتاب الله إلا بمعنى التزويج ، ولم يرد البتة بمعنى الوطء.

الثاني : أن ذلك يخرج الكلام عن الفائدة ، لأنا لو قلنا : المراد أن الزاني لا يطأ إلا الزانية فالإشكال عائد ، لأنا نرى الزاني قد يطأ العفيفة حين يتزوج بها ، ولو قلنا : المراد أن الزاني لا يطأ إلا الزانية حين يكون وطؤه زنا ، فهذا كلام لا فائدة فيه» (١).

فإن قيل : أي فرق بين قوله : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً) وبين قوله : «الزّانية لا ينكحها إلّا زان»؟

فالجواب أن الكلام الأول يدل على أن الزاني لا يرغب إلا في نكاح الزانية ، بخلاف الزانية فقد ترغب في نكاح غير الزاني ، فلا جرم بيّن ذلك بالكلام الثاني (٢).

فإن قيل : لم قدم الزانية على الزاني في أول السورة وهاهنا (٣) بالعكس؟

فالجواب : سبقت تلك الآية على عقوبتها لخيانتها ، فالمرأة هي المادة في الزنا ، وأما هاهنا فمسوقة لذكر النكاح ، والرجال أصل فيه ، لأنه هو الراغب الطالب (٤).

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٥)

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ..) الآية هي كقوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا) فيعود فيه ما تقدم بحاله (٥) ، وقوله : «المحصنات» فيه وجهان :

أحدهما : أن المراد به النساء فقط ، وإنما خصّهنّ بالذكر لأن قذفهنّ أشنع.

والثاني : أن المراد بهن النساء والرجال ، وعلى هذا فيقال : كيف غلّب المؤنث على المذكر؟

والجواب أنه صفة لشيء محذوف يعمّ الرجال والنساء ، أي : الأنفس المحصنات ، وهو بعيد (٦) أو تقول : ثمّ معطوف محذوف لفهم المعنى ، وللإجماع على أن حكمهم حكمهنّ أي : والمحصنين.

قوله : (بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) العامة على إضافة اسم العدد للمعدود ، وقرأ أبو زرعة

__________________

(١) انظر معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٢٩ ـ ٣٠.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٢.

(٣) في ب : وهنا.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٢.

(٥) تقدم قبل صفحات.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٣١.

٢٨٩

وعبد الله بن مسلم (١) بالتنوين في العدد (٢) ، واستفصح الناس هذه القراءة حتى تجاوز بعضهم الحد كابن جني ففضّلها على قراءة العامة ، قال : لأنّ المعدود متى كان صفة فالأجود الإتباع دون الإضافة ، تقول : «عندي ثلاثة ضاربون» ، ويضعف «ثلاثة ضاربين» (٣) وهذا غلط ، لأن الصفة التي جرت مجرى الأسماء تعطى حكمها ، فيضاف (٤) إليها العدد ، و «شهداء» من ذلك ، فإنه كثر حذف موصوفه ، قال تعالى : (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ)(٥). و (اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ)(٦) ، وتقول : عندي ثلاثة أعبد ، وكل ذلك صفة في الأصل.

ونقل ابن عطية عن سيبويه أنه لا يجيز تنوين (٧) العدد إلّا في شعر (٨).

وليس كما نقله عنه ، إنما قال سيبويه ذلك في الأسماء نحو «ثلاثة رجال» (٩) وأما الصفات ففيها التفصيل المتقدم.

وفي «شهداء» على هذه القراءة ثلاثة أوجه :

__________________

(١) هو عبد الله بن صالح بن مسلم بن صالح ، أبو أحمد العجلي ، الكوفي ، نزيل بغداد ، مقرىء مشهور ثقة أخذ القراءة عن حمزة الزيات ، وعن سليم ، وروى الحروف عن أبي بكر بن عياش وحفص بن سليمان ، روى عنه الحروف ابنه أبو الحسن أحمد ، وأحمد بن يزيد الحلواني ، مات سنة ٢٢٠ ه‍.

طبقات القراء ١ / ٤٢٣.

(٢) المختصر (١٠٠) ، المحتسب ٢ / ١٠١ ، البحر المحيط ٦ / ٤٣١.

(٣) ذكر ابن عادل ما قاله ابن جني بالمعنى قال ابن جني : (هذا حسن في معناه وذلك أن أسماء العدد من الثلاثة إلى العشرة لا تضاف إلى الأوصاف ، لا يقال : عندي ثلاثة ظريفين ، إلا في ضرورة إلى إقامة الصفة مقام الموصوف ، وليس ذلك في حسن وضع الاسم هناك ، والوجه عند ثلاثة ظريفون ، وكذلك قوله : «بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ» لتجري «شهداء» على «أربعة» وصفا فهذا هذا) المحتسب ٢ / ١٠١ فابن جني يذكر أصل القاعدة في حكم إضافة العدد من ثلاثة إلى عشرة إلى المعدود ، وأنه لا بد أن يكون المعدود اسما لا وصفا ، فإذا كان وصفا فالأصل التنوين للعدد ثم مجيء المعدود وصفا لهذا العدد.

(٤) في ب : فينضاف.

(٥) من قوله تعالى : «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً»[النساء : ٤١].

(٦) [البقرة : ٢٨٢].

والاستشهاد بالآيتين الكريمتين على أن لفظ (شهيد) يستعمل استعمال الأسماء فلا يحتاج إلى موصوف قبله ولذلك ساغ إضافة العدد إليه.

(٧) تنوين : سقط من ب.

(٨) تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٣٣.

(٩) قال سيبويه : (هذا باب ما لا يحسن أن تضيف إليه الأسماء التي تبين بها العدد إذا جاوزت الاثنين إلى العشرة وذلك الوصف تقول : هؤلاء ثلاثة قرشيون ، وثلاثة مسلمون ، وثلاثة صالحون ، فهذا وجه الكلام ، كراهة أن تجعل الصفة كالاسم ، إلا أن يضطر شاعر) الكتاب ٣ / ٦٦ ، فسيبويه يجيز تنوين العدد إذا كان المعدود صفة ، وذلك في النثر ، ولم ينصّ عليه إذا كان المعدود اسما. ويمكن حمل قول سيبويه : (إلا أن يضطر شاعر) إلى اضطرار الشاعر إلى التنوين في العدد إذا كان المعدود اسما ، أو إضافة الصفة.

٢٩٠

أحدها : أنه تمييز ، وهذا فاسد (١) ، لأنّ من ثلاثة إلى عشرة يضاف لمميّزه ليس إلا ، وغير ذلك ضرورة.

الثاني : أنه حال ، وهو ضعيف (٢) أيضا لمجيئها من النكرة من غير مخصّص.

الثالث (٣) : أنها مجرورة نعتا ل «أربعة» (٤) ، ولم تنصرف لألف التأنيث.

فصل

ظاهر الآية لا يدل على الشيء الذي رموا به المحصنات ، وذكر الرمي لا يدل على الزنا ، إذ قد يرميها بسرقة أو شرب خمر ، بل لا بد من قرينة دالة على التعيين.

واتفق العلماء على أن المراد الرمي بالزنا ، وفي دلالة الآية عليه وجوه :

الأول : تقدم ذكر الزنا.

الثاني : أنه تعالى ذكر المحصنات (٥) وهن العفائف ، فدل ذلك على أن المراد رميها بعدم (٦) العفاف.

الثالث : قوله : (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) يعني : على صحة ما رموا به ، وكون الشهود أربعة من شروط الزنا.

الرابع : الإجماع على أنه لا يجب الحد بالرمي بغير الزنا ، فوجب أن يكون المراد هو الرمي بالزنا(٧).

فصل

شروط الإحصان خمسة :

الإسلام ، والعقل ، والبلوغ ، والحرية ، والعفة من الزنا ، حتى أن من زنا مرة أول بلوغه ثم تاب وحسنت حالته منذ عمره ، فقذفه قاذف لا حدّ عليه ، فإن أقر المقذوف على نفسه بالزنا ، أو أقام القاذف أربعة من الشهود على زناه سقط الحد عن القاذف ، لأن الحد وجب للفرية ، وقد ثبت صدقه(٨).

فصل

وألفاظ القذف : صريح ، وكناية ، وتعريض.

فالصريح : أن يقول : يا زانية ، أو زنيت ، أو زنا قبلك أو دبرك ، فإن قال : زنا

__________________

(١) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٣٣ ، البحر المحيط ٦ / ٤٣٢.

(٢) المرجعان السابقان.

(٣) في ب : الثاني.

(٤) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١١٦ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٣٢ ، الكشاف ٣ / ٦٢ البحر المحيط ٦ / ٤٣٢ ، وجوز ابن عطية وأبو حيان أن تكون بدلا.

(٥) في ب : الصفات. وهو تحريف.

(٦) في ب : بعد. وهو تحريف.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٣.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٧.

٢٩١

يدك ، فقيل : كناية ، لأن حقيقة الزنا من الفرج ، والصحيح أنه صريح ، لأن الفعل يصدر بكل البدن ، والفرج آلة.

والكناية : أن يقول : يا فاسقة ، يا فاجرة ، يا خبيثة ، يا مؤاجرة ، يا ابنة الحرام ، أو لا ترد يد لامس ، فلا يكون قذفا إلا بالنية ، وكذا لو قال لعربي : يا نبطي ، أو بالعكس ، فإن أراد القذف فهو قذف لأم المقول له ، وإلا فلا.

فإن قال : عنيت نبطي الدار أو اللسان ، وادعت أم المقول له إرادة القذف فالقول قوله مع يمينه. والتعريض ليس بقذف وإن نواه ، كقوله : يا ابن الحلال أما أنا فما (١) زنيت وليست أمي بزانية (٢) ، لأن الأصل براءة الذمة ، فلا يجب بالشك ، والحد يدرأ بالشبهات.

وقال مالك : يجب فيه الحد.

وقال أحمد وإسحاق : هو قذف في حال الغضب دون الرضا (٣).

فصل

إذا قذف شخصا واحدا مرارا ، فإن (٤) أراد بالكل زنية واحدة وجب حدّ واحد (٥) ، (فإن قال الثاني بعدما حد للأول عزر للثاني.

وإن قذفه بزناءين مختلفين كقوله : زنيت بزيد ، ثم قال : زنيت بعمرو ، فقيل : يتعدد اعتبارا باللفظ ، ولأنه حقّ آدمي فلا يتداخل كالديون.

والصحيح أنه يتداخل لأنهما حدان من جنس واحد ، فتداخل كحدود الزنا.

ولو قذف زوجته مرارا فالصحيح أنه يكفي بلعان واحد سواء قلنا بتعدد الحد أو لا.

وإن قذف جماعة بكلمة واحدة ، فقيل : حدّ واحد) (٦) ، لأن هلال بن أمية (٧) قذف امرأته بشريك بن سحماء (٨) ، فقال عليه‌السلام (٩) : «البينة أو حدّ في ظهرك» (١٠) ، فلم

__________________

(١) في ب : ما.

(٢) وهو قول الشافعي ، وأبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد ، وزفر ، وابن شبرمة والثوري ، والحسن بن صالح ـ رحمهم‌الله. انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٣.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٣.

(٤) في ب : وإن.

(٥) في ب : حدا واحدا. وهو تحريف.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) هو هلال بن أمية بن عامر بن قيس بن عبد الأعلم الأنصاري ، الواقفي ، شهد بدرا وأحدا ، وكان قديم الإسلام ، كان يكسر أصنام بني واقف ، وكانت معه رايتهم يوم الفتح ، وهو الذي لا عن امرأته بشريك بن سحماء. أسد الغابة ٥ / ٤٠٦.

(٨) في ب : سمحاء. وهو تحريف. وهو شريك بن سحماء وهي أمه ، وأبو عبدة بن معتب بن الجد بن العجلان وهو ابن معن وعاصم ابني عدي بن الجد ، وهو حليف الأنصار ، وهو صاحب اللعان. أسد الغابة ٢ / ٢٢.

(٩) في ب : فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(١٠) أخرجه البخاري (تفسير) ٣ / ١٦٣ ، أبو داود (طلاق) ٢ / ٦٨٦ ، الترمذي (تفسير) ١٧٥ ـ ١٣ ابن ماجه (طلاق) ١ / ٦٦٨.

٢٩٢

يوجب على هلال إلا حدا واحدا مع أنه قذف زوجته بشريك.

وقيل : لكل واحد حدّ.

وإن كان بكلمات فلكل واحد حدّ (١).

فصل

إذا قذف الصبي أو المجنون أو أجنبية فلا حد عليه ولا لعان ، لا في الحال ولا بعد البلوغ ، لقول عليه‌السلام (٢) : «رفع القلم عن ثلاث» (٣) ولكن يعزّران للتأديب إن كان لهما تمييز (٤).

والأخرس إن فهمت إشارته أو كتابته وقذف بالإشارة أو بالكتابة لزمه الحد ، ولذلك يصح لعانه بالإشارة والكتابة (٥).

وأما العبد إذا قذف الحر ، فقيل : يلزمه نصف الحد (٦). وقيل : الحد كله (٧).

وأما الكافر إذا قذف المسلم فعليه الحد لدخوله في عموم الآية (٨).

وإن كان المقذوف (٩) غير محصن لم يجب الحد ، بل يوجب (١٠) التعزير إلا أن يكون المقذوف معروفا (١١) بما قذف به فلا حدّ هناك ولا تعزير (١٢).

قوله : (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) أي : يشهدون على زناهن (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) يجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة (١٣) ، وهو الأظهر. وجوّز أبو البقاء فيها أن تكون حالا (١٤).

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٤ ـ ١٥٥.

(٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٣) أخرجه البخاري (حدود) ٤ / ١٧٦ ، (طلاق) ٣ / ٢٧٢ ، أبو داود (حدود) ٤ / ٥٥٩ ـ ٥٥٦ الترمذي (حدود) ٢ / ٤٣٨ ، ابن ماجه (طلاق) ١ / ٦٥٨ ـ ٦٥٩ ، الدارمي (حدود) ٢ / ١٧١ ، أحمد ٦ / ١٠٠ ، ١٠١ ، ١٤٤.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٦.

(٥) وهو قول الإمام الشافعي ، وعند الإمام أبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ لا يصح قذف الأخرس ولا لعانه. انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٦.

(٦) وهو قول الشافعي وأبي حنيفة ومالك وأبي يوسف ومحمد وزفر وعثمان القن.

انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٦.

(٧) وهو قول الأوزاعي. انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٦.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٧.

(٩) في ب : المحذوف. وهو تحريف.

(١٠) في ب : يجب.

(١١) في الأصل : معرفا.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٧.

(١٣) الكشاف ٣ / ٦٢ ، التبيان ٢ / ٩٦٤ ، البحر المحيط ٦ / ٤٣٢.

(١٤) التبيان ٢ / ٩٦٤.

٢٩٣

وقوله (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) اعلم أن في هذا الاستثناء خلافا ، هل يعود لما تقدّمه من الجمل أم إلى الجملة الأخيرة فقط؟

وتكلم عليها من النحاة ابن مالك والمهاباذيّ (١) ، فاختار ابن مالك عوده إلى الجمل (٢) المتقدمة(٣) والمهاباذي إلى الأخيرة (٤).

وقال الزمخشري : رد شهادة القاذف معلّق عند أبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ باستيفاء الحدّ ، فإذا شهد قبل الحدّ أو قبل تمام استيفائه قبلت شهادته ، فإذا استوفي لم تقبل شهادته أبدا وإن تاب وكان من الأبرار الأتقياء.

وعند الشافعي ـ رحمه‌الله ـ يتعلّق ردّ شهادته بنفس القذف ، فإذا تاب عن القذف بأن رجع (٥) عنه عاد مقبول الشهادة ، وكلاهما متمسّك بالآية ، فأبو حنيفة ـ رحمه‌الله ـ جعل جزاء الشرط الذي هو الرمي : الجلد وردّ الشهادة عقيب الجلد على التأبيد ، وكانوا مردودي الشهادة عنده في أبدهم ، وهو مدّة حياتهم ، وجعل قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) كلاما مستأنفا غير داخل في حيز جزاء الشرط ، كأنه حكاية حال الرامين عند الله بعد انقضاء الجملة الشرطية ، و (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) استثناء من «الفاسقين» ، ويدلّ عليه قوله : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). والشافعيّ ـ رحمه‌الله ـ جعل جزاء الشرط الجملتين أيضا

__________________

(١) هو أحمد بن عبد الله المهاباذي الضرير ، من تلاميذ عبد القاهر الجرجائي ، له شرح اللمع. بغية الوعاة ١ / ٣٢٠.

(٢) في النسختين : الجملة.

(٣) يفهم ذلك من كلام ابن مالك في التسهيل ، فإنه قال : (وإذا أمكن أن يشرك في حكم الاستثناء مع ما يليه غيره لم يقتصر عليه إن كان العامل واحدا ، وكذا إن كان غير واحد والمعمول واحد في المعنى) التسهيل (١٠٣).

(٤) واختار المهاباذي ذلك لاختلاف العوامل ، إذ لا يمكن حمل العوامل المختلفة في مستثنى واحد ، بناء على أن عامل المستثنى الأفعال السابقة دون (إلا) انظر الهمع ١ / ٢٢٧ وهذه المسألة وهي : إذا ورد الاستثناء بعد جمل عطف بعضها على بعض ، فهل يعود للكل ، فيها مذاهب : الأول وعليه ابن مالك : يعود للكل إلا أن يقوم دليل على إرادة البعض ، وسواء اختلف العامل في الجمل أم لا بناء على أن العامل في المستثنى إنما هو (إلا) لا الأفعال السابقة.

الثاني : أنه يعود للكل إن سبق الكل لغرض واحد ، نحو : حبست داري على أعمامي ، ووقفت بستاني على أخوالي ، وسبلت سقايتي لجيراني إلا أن يسافروا ، وإلا فللأخيرة فقط ، نحو : أكرم العلماء ، وحبس ديارك على أقاربك.

الثالث : إن عطف بالواو عاد للكل ، أو بالفاء أو ثم عاد للأخيرة فقط ، وعليه ابن الحاجب.

الرابع : أنه خاص بالجملة الأخيرة واختاره أبو حيان.

الخامس : إن اتحد العامل فللكل ، أو اختلف فللأخيرة خاصة إذ لا يمكن حمل العوامل المختلفة في مستثنى واحد ، وعليها المهاباذي ، بناء على أن عامل المستثنى الأفعال السابقة دون (إلا). الهمع ١ / ٢٢٧.

(٥) في النسختين : يرجع.

٢٩٤

غير أنه صرف الأبد إلى مدة كونه قاذفا ، وهي تنتهي بالتوبة (والرجوع) (١) عن القذف ، وجعل الاستثناء متعلّقا بالجملة الثانية (٢). انتهى.

واعلم أن الإعراب متوقف على ذكر الحكم ، ومحلّ المستثنى فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه منصوب على أصل الاستثناء (٣).

والثاني : أنه مجرور بدلا من الضمير في «لهم» (٤).

وقد أوضح الزمخشري ذلك بقوله : وحق المستثنى عنده ـ أي : الشافعي ـ أن يكون مجرورا بدلا من «هم» (٥) في «لهم» ، وحقه عند أبي حنيفة أن يكون منصوبا ، لأنه عن موجب والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاثة بمجموعهن جزاء الشرط ، كأنه قيل : ومن قذف المحصنات فاجلدوهم ، وردّوا شهادتهم ، وفسّقوهم ، أي : فاجمعوا لهم الجلد والردّ والتفسيق ، إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ، يغفر لهم فينقلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسّقين (٦).

قال أبو حيان : وليس ظاهر الآية يقتضي عود الاستثناء إلى الجمل الثلاث ، بل الظاهر هو ما يعضده كلام العرب ، وهو الرجوع إلى الجملة التي تليها (٧).

والوجه الثالث : أنه مرفوع بالابتداء ، وخبره الجملة من قوله : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٨).

واعترض بخلوّها من رابط.

وأجيب بأنه محذوف ، أي : غفور لهم (٩).

واختلفوا أيضا في هذا الاستثناء ، هل هو متّصل أم منقطع؟ والثاني ضعيف جدا (١٠).

__________________

(١) والرجوع : تكملة من الكشاف.

(٢) الكشاف ٣ / ٦٢.

(٣) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١١٦ ، البيان ٢ / ١٩١ ، التبيان ٢ / ٩٦٤.

(٤) المراجع السابقة.

(٥) في النسختين : منهم.

(٦) الكشاف ٣ / ٦٢.

(٧) وهو اختياره في أن المستثنى يعود إلى الجملة الأخيرة فإنه قال : (والذي يقتضيه النظر أنّ الاستثناء إذا تعقب جملة يصلح أن يتخلص كل واحد منها بالاستثناء أن يجعل تخصيصا في الجملة الأخيرة ، وهذه المسألة تكلم عليها في أصول الفقه ، وفيه خلاف وتفصيل ولم أر من تكلم عليها من النحاة غير المهاباذي وابن مالك ، فاختار ابن مالك أن يعود إلى الجمل كلها كالشرط ، واختار المهاباذي أن يعود إلى الجملة الأخيرة ، وهو الذي نختاره) البحر المحيط ٦ / ٤٣٣.

(٨) البيان ٢ / ١٩١ ، التبيان ٢ / ٩٦٤.

(٩) التبيان ٢ / ٩٦٤.

(١٠) قال أبو حيان : (والقول بأنه استثناء منقطع مع ظهور اتصاله ضعيف لا يصار إليه إلا عند الحاجة) البحر المحيط ٦ / ٤٣٣.

٢٩٥

فصل

الإقرار بالزنا يثبت بشهادة رجلين بخلاف فعل الزنا ، لأن الفعل يعسر الاطلاع عليه وقيل : لا يثبت إلا بأربعة كفعل الزنا (١).

فصل

إذا شهدوا على فعل الزنا يجب (٢) أن يذكروا الزاني والمزني به ، لأنه قد يراه على جارية ابنه فيظن أنه زنا.

ويجب أن يشهدوا أنا رأينا ذكره يدخل في فرجها دخول الميل في المكحلة ، فلو شهدوا مطلقا أنه زنا لم يثبت ، بخلاف ما لو قذف إنسانا وقال : «زنيت» يجب الحد ولا يستفسر ، ولو أقر على نفسه بالزنا ، فقيل : يجب أن يستفسر كالشهود ، وقيل : لا يجب كما في القذف (٣).

فصل

لا فرق بين أن يجيء الشهود مجتمعين أو متفرقين (٤).

وقال أبو حنيفة : إذا شهدوا متفرقين لا يثبت ، وعليهم حد القذف.

وحجة الأول (٥) : أن الإتيان بأربعة شهداء قدر مشترك بين الإتيان بهم مجتمعين ومتفرقين. وأيضا فكل حكم ثبت بشهادة الشهود إذا جاءوا مجتمعين ثبت إذا جاءوا متفرقين كسائر الأحكام ، بل هذا أولى ، لأن مجيئهم متفرقين أبعد من التهمة وعن تلقن بعضهم من بعض ، ولذلك إذا وقعت ريبة للقاضي في شهادة الشهود فرقهم ، وأيضا فإنه لا يشترط أن يشهدوا معا في حالة واحدة ، بل إذا اجتمعوا عند القاضي قدّم واحدا بعد واحد ويشهد ، وكذا إذا اجتمعوا على بابه يدخل واحد (٦) بعد واحد.

واحتج أبو حنيفة بأن الشاهد الواحد لما شهد فقد قذفه ولم يأت بأربعة من الشهداء فيجب عليه الحد للآية (٧) ، أقصى ما في الباب أنهم (٨) عبروا عن القذف بلفظ الشهادة ، وذلك لا عبرة به ، لأنه يؤدي إلى إسقاط حدّ القذف رأسا ، لأن كل قاذف يمكن أن يقذف بلفظ الشهادة ويتوسل بذلك إلى إسقاط الحد عن نفسه ويحصل مقصوده.

وأيضا فإن المغيرة بن شعبة (٩) شهد عليه بالزنا أربعة عند عمر بن الخطاب : أبو

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٩.

(٢) في ب : ويجب.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٩.

(٤) وهو قول الشافعي ـ رحمه‌الله ـ انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٩.

(٥) وهو الشافعي.

(٦) في ب : واحدا. وهو تحريف.

(٧) وهي قوله تعالى : «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً» [النور : ٤].

(٨) في الأصل : أنه.

(٩) هو المغيرة بن شعبة بن أبي عامر الثقفي ، أبو محمد ، شهد الحديبية ، وأسلم زمن الخندق أخذ عنه ـ

٢٩٦

بكرة (١) ، وشبل بن معبد (٢) ، ونافع (٣) ، ونفيع (٤) ، قال زياد (٥) : وقال رابعهم : رأيت استا تنبو ، ونفسا يعلو ، ورجلاها على عاتقه كأذني حمار ، ولا أدري ما وراء ذلك ، فجلد عمر الثلاثة ، ولم يسأل : هل معهم شاهد آخر؟ فلو قبل بعد ذلك شهادة غيرهم لتوقف أداء الحد عليه (٦).

فصل

لو شهد على الزنا أقل من أربعة لم يثبت ، وهل يجب حد القذف على الشهود؟ فقيل : يجب عليهم حد القذف لما تقدم آنفا (٧).

وقيل : لا يجب لأنهم جاءوا مجيء الشهود ، ولأنا (٨) لو حددنا لانسد باب الشهادة على الزنا ، لأن كل واحد لا يأمن أن يوافقه صاحبه فيلزمه الحد (٩).

فصل

لو أتى القاذف بأربعة فساق فشهدوا على المقذوف بالزنا :

قال أبو حنيفة : يسقط الحد عن القاذف ، ولا يجب الحد على الشهود.

وقال الشافعي في أحد قوليه : يحدّون.

واحتج أبو حنيفة بأنه أتى بأربعة شهداء ، فلا يلزمه الحد ، والفاسق من أهل الشهادة ، فقد وجدت شرائط الشهادة إلا أنه لم يقبل شهادتهم للتهمة.

واحتج الشافعي بأنهم ليسوا من أهل الشهادة (١٠).

قوله : (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) وهذا خطاب للإمام ، أو للمالك (١١) ، أو لرجل

__________________

ـ ابناه حمزة وعروة والشعبي وغيرهم ، شهد اليمامة واليرموك والقادسية مات سنة ٥٠ ه‍. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ٣ / ٥٠.

(١) في ب : أبو بكر. وهو تحريف. وهو نفيع بن الحارث بن كلدة صحابي ، كان مولى لثقيف في الطائف ، سمى نفسه بعد اعتناقه الإسلام بعتيق النبي ، لقب بأبي بكرة ، لأنه تدلى بواسطة بكرة من أسوار الطائف لما حاصرها النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مات سنة ٥١ ه‍.

(٢) تقدم.

(٣) هو نافع بن الحارث بن كلدة ، أخو أبي بكرة ، كان بالطائف ، أعتقه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سكن نافع البصرة ، وابتنى بها دارا ، وهو أول من اقتنى الخيل بالبصرة.

أسد الغابة ٥ / ٣٠١ ، الأعلام ٧ / ٣٥٢.

(٤) ونفيع هو أبو بكرة ، ذكره الناسخ أولا بكنيته ثم ذكره باسمه.

(٥) زياد بن جبير بن حية الثقفي ، أخذ عن أبيه وسعد ، وأخذ عنه يونس بن عون وابن عبيد الخلاصة ١ / ٣٤٢.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٩ ـ ١٦٠.

(٧) وهو قول أبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦٠.

(٨) في ب : لأنا.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦٠.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦٠.

(١١) على مذهب الشافعي انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦٠.

٢٩٧

صالح إذا فقد الإمام (١). ويخص من هذا العموم صور :

الأولى : الوالد إذا قذف ولده (أو ولد ولده) (٢) وإن سفل لا يجب عليه الحد ، كما لا يجب عليه القصاص بقتله.

الثانية : القاذف إذا كان عبدا فالواجب جلده أربعين ، وكذا المكاتب ، وأم الولد ، ومن بعضه حر ، فقيل : كالرقيق. وقيل : بالحساب.

الثالثة : من قذف رقيقه ، أو من زنت قديما ثم تابت فهي محصنة ولا يجب الحد بقذفها (٣)

فصل (٤)

قالوا : أشد الضرب في الحدود ضرب حد الزنا ، ثم ضرب حدّ الخمر ، ثم ضرب القاذف ، لأن سبب عقوبته محتمل للصدق والكذب ، إلا أنه عوقب صيانة للأعراض (٥).

فصل

قال مالك والشافعي : حدّ القذف يورث ، وكذلك إذا كان الواجب بقذفه التعزير يورث عنه.

وقيل : لا يورث إلا أن يطالب المقذوف قبل موته ، فإن قذف بعد موته ثبت لوارثه طلب الحد. وعند أبي حنيفة : الحد لا يورث ، ويسقط بالموت.

حجة الشافعي : أنه حق آدمي يسقط بعفوه ، ولا يستوفى إلا بطلبه ، ويحلف فيه المدعى عليه إذا أنكر ، وإذا كان حق آدمي وجب أن يورث لقوله عليه‌السلام (٦) : «من مات عن حقّ فلورثته» (٧).

وحجة أبي حنيفة : لو كان (٨) موروثا لورثة الزوج والزوجة ، ولأنه حق ليس فيه معنى المال فلا يورث كالوكالة والمضاربة.

وأجيب بأنا لا نسلم أن الزوج والزوجة لا يرثان ، وإن سلم فالفرق بينهما أن الزوجية تنقطع بالموت ، ولأن المقصود من الحدّ دفع العار عن النسب ، وذلك لا يلحق الزوج والزوجة (٩).

فصل

إذا قذف إنسانا بين يدي الحاكم ، أو قذف امرأته برجل بعينه ، والرجل غائب ،

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦٠.

(٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦٠.

(٤) في الأصل : قوله.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦١.

(٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٧) أخرجه البخاري (فرائض) ٤ / ١٦٧. بالمعنى.

(٨) في ب : لكان.

(٩) انظر الفخر الرازي ٧٣ / ١٦١.

٢٩٨

فعلى الحاكم أن يبعث إلى المقذوف ويخبره بأن فلانا قذفك ، وثبت لك حدّ القذف عليه ، كما لو ثبت له مال على آخر وهو لا يعلم ، يجب عليه إعلامه ، ولهذا بعث النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنيسا ليخبرها أن فلانا قذفها بابنه ، ولم يبعثه ليتفحص عن زناها وليس للإمام إذا رمي رجل بزنا أن يبعث إليه يسأله عن ذلك(١).

قوله : (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً).

قال أكثر الصحابة والتابعين : إذا تاب قبلت شهادته وهو قول الشافعي.

وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح (٢) : لا تقبل شهادة المحدود في القذف إذا تاب (٣). وأدلة المذهبين مذكورة في كتب الفقه ، وهاهنا مبنية على أن الاستثناء هل يرجع إلى الجملة الأخيرة أو إلى الجمل المتقدمة (٤)؟ فلذلك اختلف العلماء في قبول شهادة القاذف بعد التوبة وفي حكم هذا الاستثناء : فذهب قوم إلى أن القاذف ترد شهادته بنفس القذف ، وإذا تاب وندم على ما قال وحسنت حالته قبلت شهادته ، سواء تاب بعد إقامة الحد أو قبله لقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا).

وقالوا : الاستثناء راجع إلى الشهادة وإلى الفسق ، فبعد التوبة تقبل شهادته ويزول عنه اسم الفسق ، يروى ذلك عن عمر وابن عباس ، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وطاوس وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار (٥) والشعبي وعكرمة وعمر بن عبد العزيز والزهري ، وبه قال مالك والشافعي. وذهب قوم إلى أن شهادة (٦) المحدود في القذف لا تقبل أبدا وإن تاب ، وقالوا : الاستثناء يرجع إلى قوله: (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) وهو قول النخعي وشريح (٧) وأصحاب الرأي.

وقالوا : بنفس القذف ترد شهادته ما لم يحد.

قال الشافعي : هو قبل أن يحد شر منه حين يحد ، لأن الحدود كفارات ، فكيف تردون شهادته في أحسن حالته وتقبلونها في شر حالته.

وذهب الشعبي إلى أن حد القذف يسقط بالتوبة.

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) هو الحسن بن صالح أبو محمد الواسطي ، عرض على مردويه أبي عبد الرحمن الجمال ، وعلى أبي عون صاحب قالون ، روى القراءة عنه عبد الله بن الحسين. طبقات القراء ١ / ٢١٦.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦١.

(٤) تقدم قريبا قبل صفحات.

(٥) هو سليمان بن يسار أبو أيوب الهلالي المدني مولى ميمونة أم المؤمنين ، وهو أخو عطاء وعبد الملك وعبد الله تابعي جليل ، وردت عنه الرواية في حروف القرآن. مات سنة ١٠٧ ه‍. طبقات القراء ١ / ٣١٨.

(٦) في الأصل : الشهادة.

(٧) هو شريح بن الحارث الكندي. كان يكنى أبا أمية استقضاه عمر ـ رضي الله عنه ـ على الكوفة. ولم يزل بعد ذلك قاضيا خمسا وسبعين سنة ولذا يعرف بالقاضي. مات سنة ٨٠ ه‍. المعارف ٤٣٣ ـ ٤٣٤.

٢٩٩

وقالوا : الاستثناء يرجع إلى الكل.

وعامة العلماء (١) على أنه لا يسقط بالتوبة إلا أن يعفو عنه المقذوف فيسقط كالقصاص يسقط بالعفو ولا يسقط بالتوبة.

فإن قيل : إذا قبلتم شهادته بعد التوبة فما معنى قوله : «أبدا» (٢)؟

قيل : معناه : لا تقبل شهادته أبدا ما دام مصرّا على قذفه ، لأن أبد كل إنسان على ما يليق بحاله ، كما يقال : لا تقبل شهادة الكافر أبدا ، يراد : ما دام كافرا (٣).

فصل

اختلفوا في كيفية التوبة بعد القذف :

فقيل : التوبة منه إكذابه نفسه بأن يقول : كذبت فلا أعود إلى مثله.

وقيل : لا يقول كذبت ، لأنه ربما يكون صادقا ، فيكون قوله : «كذبت» كذبا ، والكذب معصية ، وإتيان المعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى ، بل يقول : القذف باطل ، ندمت على ما قلت ورجعت عنه ولا أعود إليه (٤). ولا بد من مضي مدة عليه بعد التوبة يحسن حاله فيها حتى تقبل شهادته ، وقدر تلك المدة سنة حتى يمر عليه الفصول الأربعة التي تتغير فيها الأحوال والطباع كأجل العنّين(٥) ، وقد علق الشرع أحكاما بالنسبة من الزكاة والجزية وغيرهما (٦) ، وهذا معنى قوله : «وأصلحوا»(٧) ، ثم قال : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي يقبل التوبة.

لما ذكر أحكام قذف الأجنبيات عقبه بأحكام قذف الزوجات.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ)(١٠)

قال ابن عباس (٨) : لما نزل قوله (٩) : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ

__________________

(١) العلماء : سقط من ب.

(٢) قال الراغب : (الأبد : عبارة عن مدة الزمان الممتد الذي لا يتجزأ كما يتجزأ الزمان ؛ وذلك أنه يقال : زمان كذا ، ولا يقال أبد كذا .. ويعبر به عما يبقى مدة طويلة) مفردات غريب القرآن (٨).

(٣) انظر البغوي ٦ / ٥٧ ـ ٥٨.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦٤.

(٥) العنين : الذي لا يأتي النساء ، ولا يريدهنّ بيّن العنانة والعنينة والعنينيّة ، وعنّن عن امرأته إذا حكم القاضي عليه بذلك ، أو منع عنها بالسحر والاسم منه العنة ، كأنه اعترضه ما يحبسه عن النساء ، وامرأة عنينة كذلك ، لا تريد الرجال ولا تشتهيهم ، وهو فعيل بمعنى مفعول مثل خريج. اللسان (عنن).

(٦) في ب : وغير ذلك.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦٤.

(٨) في ب : قال ابن عباس رضي الله عنهما.

(٩) في ب : قوله تعالى.

٣٠٠