اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٤

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٤

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

وأصحابه (١) وقرأ زيد بن علي ، وابن محيصن ، وأبو نهيك بضم التاء وفتح الهاء وكسر الجيم مشددة (٢) مضارع هجر بالتشديد ، وهو محتمل لأن يكون تضعيفا للهجر أو للهجر (أو للهجر (٣)) (٤) وقرأ ابن أبي عاصم كالعامة إلا أنه بالياء من تحت ، وهو التفات (٥).

قوله : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) أي : يتدبروا القول ، يعني ما جاءهم من القول وهو القرآن من حيث إنه كان مباينا لكلام العرب في الفصاحة ، ومبرأ من التناقض مع طوله ، فيعرفوا ما فيه من الدلالات على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعرفة الصانع ، والوحدانية ، فيتركوا الباطل (٦) ، ويرجعوا إلى الحق (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) واعلم أن إقدامهم (٧) على كفرهم وجهلهم لا بد وأن يكون لأحد أمور أربعة :

الأول : أن لا يتأملوا دليل ثبوته ، وهو المراد من قوله : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) وهو القرآن يعني : أنه كان معروفا لهم.

والثاني : أن يعتقدوا أن مجيء الرسول على خلاف العادة ، وهو المراد من قوله : (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ) وذلك أنهم عرفوا بالتواتر مجيء الرسول إلى الأمم السالفة ، وكانت الأمم بين مصدق ناج وبين مكذب هالك ، أفما دعائهم (٨) ذلك إلى تصديق الرسل.

وقال بعضهم : «أم» هاهنا بمعنى «بل» والمعنى بل جاءهم ما لم يأت آباءهم (٩).

والثالث : أن لا يكونوا عالمين بديانته ، وحسن خصاله قبله ادعائه النبوة ، وهو المراد من قوله : (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) والمعنى : أنهم كانوا يعرفونه قبل أن يدعي الرسالة ، وكونه في نهاية الأمانة والصدق وغاية الفرار عن الكذب والأخلاق الذميمة ، وكانوا يسمونه الأمين ، فكيف كذبوه بعد أن اتفقت كلمتهم على تسميته بالأمين.

والرابع : أن يعتقدوا فيه الجنون ، فيقولوا إنما حمله على ادعاء الرسالة جنونه ، وهو المراد بقوله (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ). وهذا أيضا ظاهر الفساد ، لأنهم كانوا يعلمون بالضرورة أنه أعقل الناس ، فالمجنون كيف يمكنه أن يأتي بمثل ما أتى به من الدلائل القاطعة ، والشرائع الكاملة.

وفي كونهم سموه بذلك وجهان :

__________________

(١) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٨١.

(٢) المختصر (٩٨) ، المحتسب ٢ / ٩٦ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٨١ ـ ٣٨٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٣.

(٣) المحتسب ٢ / ٩٧ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٨٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٣.

(٤) ما بين القوسين سقط من ب.

(٥) البحر المحيط ٦ / ٤١٣.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٢.

(٧) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١١٢.

(٨) في ب : دعاوهم.

(٩) انظر القرطبي ١٢ / ١٣٩.

٢٤١

أحدهما : أنهم نسبوه إلى ذلك من حيث كان يطمع في انقيادهم له ، وكان ذلك من أبعد الأمور عندهم ، فنسبوه إلى الجنون لذلك.

والثاني : أنهم قالوا ذلك إيهاما لعوامهم لئلا ينقادوا له ، فذكروا ذلك استحقارا له (١).

ثم إنه ـ تعالى ـ بعد أن عد هذه الوجوه ، ونبه على فسادها قال : (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ) أي: بالصدق والقول الذي لا يخفى صحته على عاقل (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) لأنهم تمسكوا بالتقليد ، وعلموا أنهم لو أقروا بمحمد لزالت رياستهم ومناصبهم ، فلذلك كرهواه (٢).

فإن قيل (٣) قوله : (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) يدل على أن أقلهم لا يكرهون الحق.

فالجواب : أنه كان منهم من ترك الإيمان أنفة من توبيخ قومه ، وأن يقولوا ترك دين آبائه لا كراهة للحق (٤).

قوله : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) الجمهور على كسر الوا ولا لتقاء الساكنين وابن وثاب بضمها (٥) تشبيها بواو الضمير كما كسرت واو الضمير تشبيها بها (٦).

فصل

قال ابن جريج ومقاتل والسدي وجماعة : الحق هو الله. أي : لو اتبع الله مرادهم فيما يفعل (٧) وقيل : لو اتبع مرادهم ، فيسمي لنفسه شريكا وولدا كما يقولون (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ)(٨).

وقال الفراء (٩) والزجاج (١٠) : المراد بالحق : القرآن. أي : نزل القرآن بما يحبون من جعل الشريك والولد على ما يعتقدون (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) وهو كقوله : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (١١) (١٢).

__________________

(١) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ١١٢.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٢.

(٣) في ب : قول. وهو تحريف.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٢ ـ ١١٣.

(٥) المختصر (٩٨) ، المحتسب ٢ / ٩٧ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٨٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٤.

(٦) في قوله تعالى : «اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ» [البقرة : ١٦] على أن بعضهم قد شبه واو الجمع في «اشتروا» بواو «لَوِ اتَّبَعَ» هذه وحركها بالكسر ، فقرأ يحيى بن يعمر «اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ» * بكسر الواو. انظر المختصر (٢) ، المحتسب ٢ / ٩٧.

(٧) انظر البغوي ٦ / ٣٠.

(٨) المرجع السابق.

(٩) قال الفراء : (وقوله : «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ» يقال : إن «الحق» هو الله. ويقال : إنه التنزيل ، لو نزل بما يريدون «لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ») معاني القرآن ٢ / ٢٣٩.

(١٠) قال الزجاج : (وقوله : «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ» جاء في التفسير أن «الحق» هو الله ـ عزوجل ـ ويجوز أن يكون «الحق» الأول في قوله : «بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ» التنزيل ، أي : بالتنزيل الذي هو الحق ، ويكون تأويل : «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ» أي : لو كان التنزيل بما يحبون لفسدت السموات والأرض) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ١٩.

(١١) [الأنبياء : ٢٢].

(١٢) انظر البغوي ٦ / ٣٠ ـ ٣١.

٢٤٢

قوله : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) العامة على إسناد الفعل إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه ، والمراد أتتهم رسلنا (١). وقرأ أبو عمرو في روآية «آتيناهم» بالمد أي أعطيناهم (٢) ، فيحتمل أن يكون المفعول الثاني غير مذكور ، ويحتمل أن يكون «بذكرهم» والباء مزيدة فيه وابن أبي إسحاق وعيسى ابن عمر وأبو عمرو أيضا «أتيتهم» بتاء المتكلم وحده (٣).

وأبو البرهثم وأبو حياة والجحدري وأبو رجاء «أتيتهم» بتاء الخطاب (٤) ، وهو الرسول ـ عليه‌السلام (٥) ـ.

وعيسى : «بذكراهم» بألف التأنيث (٦). وقتادة «نذكرهم» بنون المتكلم المعظم نفسه مكان باء الجر مضارع (ذكر) المشدد (٧) ، ويكون (نذكرهم) جملة حالية.

وتقدم الكلام في «خرجا» و «خراجا» في : الكهف (٨).

فصل

قال ابن عباس : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) بما فيه فخرهم وشرفهم. يعني : القرآن ، فهو كقوله : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ)(٩) أي : شرفكم ، (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ)(١٠) أي : شرف لك ولقومك (فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ) شرفهم «معرضون» (١١).

وقيل : الذكر هو الوعظ والتذكير (١٢) التحذير (١٣). (أَمْ تَسْأَلُهُمْ) على ما جئتم به «خرجا» أجرا وجعلا (فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) أي ما يعطيك الله من رزقه وثوابه خير (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(١٤) وتقدم الكلام على نظيره.

قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(٧٥)

قوله : (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو الإسلام. (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ

__________________

(١) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٨٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٤.

(٢) المرجعان السابقان.

(٣) المختصر (٩٨) ، المحتسب ٢ / ٩٨ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٨٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٤.

(٤) المراجع السابقة.

(٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٦) المختصر (٩٨) ، البحر المحيط ٦ / ٤١٤.

(٧) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٨٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٤.

(٨) عند قوله تعالى : «قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا»[الكهف : ٩٤].

(٩) [الأنبياء : ١٠].

(١٠) [الزخرف : ٤٤].

(١١) انظر البغوي ٦ / ٣١.

(١٢) التذكير : سقط من ب.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٣.

(١٤) انظر البغوي ٦ / ٣١.

٢٤٣

بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ) عن دين الحق «لناكبون» لعادون عن هذا الطريق ، لأن طريق الاستقامة واحد وما يخالفه فكثير (١).

قوله : (عَنِ الصِّراطِ) متعلق ب «ناكبون» ولا تمنع لائم الابتداء من ذلك (٢) على رأي تقدم تحقيقه. والنكوب والنكب : العدول والميل ، ومنه : النكباء للريح بين ريحين ، سميت بذلك لعدولها عن المهاب (٣) ، ونكبت حوادث الدهر ، أي : هبت هبوب النكباء.

والمنكب : مجتمع ما بين العضد والكتف ، والأنكب : المائل المنكب ، ولفلان (٤) نكابة في قومه أي : نقابة فتشبه أن تكون الكاف بدلا من القاف ، ويقال : نكب ونكب مخففا ومثقلا (٥).

قوله : (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ) قحط وجدب (٦) وقيل : ضرر القتال والسبي. وقيل : مضار الآخرة وعذابها (٧).

قوله : «للجوا» جواب «لو» ، وقد توالى فيه لا مان ، وفيه تضعيف لقول من قال : جوابها إذا نفي ب (لم) ونحوها مما صدر فيه حرف النفي بلام أنه لا يجوز دخول اللام ولو قلت : لو قام للم يقم عمرو ، لم يجز ، قال : لئلا يتوالى لا مان ، وهذا موجود في الإيجاب كهذه الآية ، ولم يمتنع ، وإلا فما الفرق بين النفي والإثبات في ذلك (٨) واللجاج : التمادي في العناد في تعاطي الفعل المزجور (٩) عنه ، ومنه اللجة : بالفتح : لتردد الصوت ، كقوله :

٣٨٠٥ ـ في لجة أمسك فلانا عن فل (١٠)

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٤.

(٢) انظر التبيان ٢ / ٩٥٩.

(٣) في ب : المهيئات. وهو تحريف.

(٤) في ب : والعلان. وهو تحريف.

(٥) انظر اللسان (نكب).

(٦) انظر البغوي ٦ / ٣٢.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٤.

(٨) لم يمنع النحاة دخول اللام في الإيجاب ، وإنما منعوا دخولها في النفي لئلا يجمع بين متماثلين في نحو لم ، ولن ، ولما ، ولا ، وحمل الباقي عليه. وعلل الرضي منع ذلك بالتنافي في الظاهر ، وذلك لأن اللام للثبوت ، والثبوت ينافي النفي في الظاهر. وجواب (لو) في الآية التي معنا مثبت ، فاللام داخلة على (لجوا) ولا مه فاء الفعل ، وليست نافية حتى يمتنع دخولها عليه وإن أدى إلى توالي لا مين ـ فقد علل الرضي المنع بالتنافي بين اللام وبين النفي ؛ وجواب (لو) إذا كان فعلا ماضيا مثبتا يغلب اقترانه باللام المفتوحة. شرح الكافية ٢ / ٣٣٨ ، شرح التصريح ١ / ٢٢٢ ، الهمع ١ / ١٤٠ ، ٢ / ٦٦.

(٩) في ب : الموجود. وهو تحريف.

(١٠) رجز قاله أبو النجم ، وهو في الكتاب ٢ / ٢٤٨ ، ٣ / ٤٥٢ ، المقتضب ٤ / ٢٣٨ ، أما لي ابن الشجري ٢ / ١٠١ ، المقرب ٢٠٠ ـ اللسان (لجج ـ فلن) المقاصد النحوية ٤ / ٢٢٨ ، شرح التصريح ٢ / ١٨٠ ، الهمع ١ / ١٧٧ ، شرح الأشموني ٣ / ١٦١ ، الخزانة ٢ / ٣٨٩ ، الدرر ١ / ١٥٤. اللجة ـ بالفتح ـ اختلاط الأصوات في الحرب ، وهو محل الشاهد هنا واستشهد به النحاة على أن استعمال (فل) موضع فلان في غير النداء ضرورة ، وأن (فل) أصله (فلان) فإذا صغر رد إلى أصله ، فقيل : فلين.

٢٤٤

ولجة البحر لتردد (١) أمواجه ، ولجة الليل لتردد ظلامه. واللجلجة تردد الكلام ، وهو تكرير لج ، ويقال : لج والتج (٢). ومعنى الآية : لتمادوا في طغيانهم وضلالهم وهم متحيرون لم ينزعوا عنه (٣).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(٨٠)

قوله : (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) قال المفسرون : لما أسلم (٤) ثمامة بن أثال الحنفي ، ولحق باليمامة ، ومنع الميرة (٥) عن أهل مكة ، ودعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قريش أن يجعل عليهم سنين كسني يوسف ، فأصابهم القحط حتى أكلوا العلهز (٦) ، جاء أبو سفيان إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : أنشدك الله والرحم ، ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ فقال : «بلى». فقال : قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع ، فادع الله يكشف عنا هذا القحط ، فدعا فكشف عنهم ، فأنزل الله هذه الآية (٧). والمعنى أخذناهم بالجوع فما أطاعوا. وقال الأصم : العذاب هو ما نالهم يوم بدر من القتل والأسر (٨) يعني أن ذلك مع شدة ما دعائهم إلى الإيمان.

وقيل : المراد من عذب من الأمم الخالية. (فَمَا اسْتَكانُوا) أي : مشركو العرب (٩).

قوله : (فَمَا اسْتَكانُوا) تقدم وزن (استكان) في آل عمران (١٠).

وجاء الأول ماضيا والثاني مضارعا ، ولم يجيئا ماضيين ، ولا مضارعين ولا جاء الأول مضارعا والثاني ماضيا ، لإفادة الماضي وجود الفعل وتحققه ، وهو بالاستكانة أليق ، بخلاف التضرع فإنه أخبر عنهم بنفي ذلك في الاستقبائل وأما الاستكانة فقد توجد منهم.

__________________

(١) في ب : لترد.

(٢) فاللجلجة والتلجلج : التردد في الكلام. اللسان (لجج).

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٤.

(٤) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١١٤ ـ ١١٥.

(٥) الميرة : الطعام يمتاره الإنسان. وقيل : جلب الطعام للبيع. اللسان (مير).

(٦) العلهز : وبر يخلط بدماء الحلم كانت العرب في الجاهلية تأكله في الجدب. اللسان (علهز).

(٧) انظر أسباب النزول للواحدي (٢٣٢).

(٨) في ب : والأسرا.

(٩) آخر ما نقله هنا عن الرازي ٢٣ / ١١٤ ـ ١١٥.

(١٠) عند قوله تعالى : «وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ» [آل عمران : ١٤٦].

٢٤٥

وقال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل : وما تضرعوا (أو) (١) فما يستكينون.

قلت : لأن المعنى محناهم فما وجدت منهم عقيب المحنة استكانة ، وما من عادة هؤلاء أن يستكينوا ويتضرعوا حتى يفتح عليهم باب العذاب الشديد (٢).

فظاهر هذا أن (حتى) غاية لنفي الاستكانة والتضرع (٣). ومعنى الاستكانة طلب السكون ، أي : ما خضعوا وما ذلوا إلى ربهم ، وما تضرعوا بل مضوا على تمردهم.

قوله : (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ.) قرى «فتحنا» بالتشديد (٤).

قال ابن عباس ومجاهد : يعني القتل يوم بدر. وقيل : الموت وقيل : قيام الساعة (٥). وقيل : الجوع. (إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) آيسون من كل خير. وقرأ السلمي : «مبلسون» ـ بفتح اللام (٦) ـ من أبلسه ، أي : أدخله في الإبلاس.

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) الآية.

العطف لا يحسن إلا مع المجانسة ، فأي مناسبة بين قوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) وبين ما قبله؟

والجواب : كأنه تعالى لما بين مبالغة الكفار في الإعراض عن سماع الأدلة والاعتبار ، وتأمل الحقائق قال للمؤمنين : هو الذي أعطاكم هذه الأشياء وو فقكم لها تنبيها على أن من لم يعمل هذه الأعضاء فيما خلقت له فهو بمنزلة عادمها (٧) ، لقوله : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ)(٨)» (٩) وأفرد السمع والمراد الأسماع ثم قال : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ).

قال أبو مسلم : وليس المراد أن لهم شكرا وإن قل ، لكنه كما يقال للكفور والجاحد للنعمة : ما أقل شكر فلان (١٠).

ثم قال : (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي : خلقكم ، قال أبو مسلم : ويحتمل بسطكم (١١) فيها ذرية بعضكم من بعض حتى كثرتم كقوله (١٢) : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ)(١٣) أي : هو الذي جعلكم في الأرض متناسلين ، ويحشركم يوم القيامة إلى دار لا حاكم فيها سواه ، فجعل حشرهم إلى ذلك الموضع حشرا إليه لا بمعنى المكان (١٤). ثم قال : (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي : نعمة الحياة وإن كانت من أعظم النعم فهي منقطعة

__________________

(١) أو : تكملة من الكشف.

(٢) الكشاف ٣ / ٥٣ ـ ٥٤.

(٣) والتضرع : سقط من ب.

(٤) الكشاف ٣ / ٥٤.

(٥) انظر البغوي ٦ / ٣٣.

(٦) المختصر (٩٨) ، البحر المحيط ٦ / ٤١٦.

(٧) في ب : دمها. وهو تحريف.

(٨) [الأحقاف : ٢٦].

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٥.

(١٠) المرجع السابق.

(١١) في ب : منشئكم.

(١٢) في ب : لقوله.

(١٣) [الإسراء : ٣].

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٥.

٢٤٦

وأنه سبحانه ـ وإن أنعم بها ، فالمقصود منها الانتقال إلى دار الثواب (١). ثم قال : (وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي : تدبير الليل والنهار في الزيادة والنقصان ، ووجه النعمة بذلك معلوم. قال الفراء : جعلهما مختلفين (٢) يتعاقبان ويختلفان في السواد والبياض (٣). ثم قال : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) قرأ أبو عمرو في روآية يعقوب : بياء الغيبة على الالتفات (٤) والمعنى : ا فلا تعقلون ما ترون صنعه فتعتبرون.

قوله تعالى : (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)(٨٣)

قوله تعالى : (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) أي : كذبوا كما كذب الأولون (قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) لمحشورون ، قالوا ذلك منكرين متعجبين.

واعلم أنه ـ سبحانه ـ لما أوضح دلائل التوحيد عقبه بذكر المعاد ، فذكر إنكارهم البعث مع وضوح أدلته ، وذكر أن إنكارهم ذلك تقليد للأولين ، وذلك يدل على فساد القول بالتقليد (٥) ثم حكى قولهم : (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ) كأنهم قالوا إن هذا الوعد كما وقع منه ـ عليه‌السلام (٦) ـ فقد وقع قديما من سائر الأنبياء ثم لم يوجد مع طول العهد ، وظنوا أن الإعادة تكون في الدنيا ، ثم قالوا : لما لم يكن ذلك فهو من أساطير الأولين. والأساطير جمع أسطار ، وهي جمع سطر (٧) ، أي : ما كتبه الأولون مما لا حقيقة له ، أو جمع أسطورة (٨).

قوله تعالى : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٨٨)

(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)(٩٠)

قوله تعالى : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها) الآية. اعلم أنه يمكن أن يكون المقصود

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) معاني القرآن ٢ / ٢٤٠.

(٣) انظر البغوي ٦ / ٣٣.

(٤) المختصر (٩٨) ، البحر المحيط ٦ / ٤١٨.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٦.

(٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٧) أي : أن «أساطير» جمع الجمع. وجمع الجمع ـ سواء أكان جمع قلة أم كثرة ـ ليس قياسا على مذهب سيبويه ، ولا يجمع منها إلا ما جمع العرب ، وأيده السيرافي والجرمي وابن عصفور واختاره الرضي. ويرى كثير من النحاة أن جموع القلة يجوز جمعها قياسا لأنه قد ورد عن العرب منه قدر صالح للقياس عليه كالأيدي ، والأيادي ، والأسلحة والأسالح ، والأقاول والأقاويل.

الكتاب ٣ / ٦١٨ ـ ٦٢١ ، شرح الشافية ٢ / ٢٠٨ ـ ٢١٠ ، الهمع ٢ / ١٨٣ ـ ١٨٤.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٦.

٢٤٧

من هذه الآيات الرد على منكري الإعادة ، وأن يكون المقصود الرد على عبدة الأوثان ، لأن القوم كانوا مقرين بالله ، وقالوا : نعبد الأصنام لتقربنا إلى الله زلفى (١) ، فقال تعالى : قل يا محمد مجيبا لهم يعني يا أهل مكة (لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها) من الخلق (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) خالقها ومالكها (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) فلا بد لهم من ذلك ، لأنهم يقرون أنها مخلوقة ، فقل لهم إذا أقروا بذلك : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) فتعلمون أن من قدر على خلق الأرض ومن فيها ابتداء يقدر على إحيائهم بعد الموت. وفي قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) سؤال يأتي في قوله : (وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٢) ووجه الاستدلال به على نفي عبادة الأوثان من حيث أن عبادة من خلقهم ، وخلق الأرض وكل من فيها هي الواجبة دون عبادة ما لا يضر ولا ينفع.

وقوله : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) معناه الترغيب في التدبر ليعلموا بطلان ما هم عليه (٣).

قوله : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) ووجه الاستدلال بها على الأمرين (٤) كما تقدم (٥). وإنما قال : (أَفَلا تَتَّقُونَ) أي : تحذرون ، تنبيها على أن اتقاء عذاب الله لا يحصل إلا بترك عبادة الأوثان ، والاعتراف (٦) بجواز الإعادة (٧).

قوله : (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) قرأ أبو عمرو (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) في الأخيرتين (٨) من غير لا م جر ، ورفع الجلالة (٩) جوابا على اللفظ لقوله «من» قوله : (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) ، لأن المسؤل به مرفوع المحل وهو «من» فجاء جوابه مرفوعا مطابقا له لفظا ، وكذلك رسم الموضعان (١٠) في مصاحف البصرة بالألف (١١).

والباقون : «لله» في الموضعين باللام (١٢) وهو جواب على المعنى (١٣) ؛ لأنه لا فرق بين قوله : (مَنْ رَبُّ السَّماواتِ) وبين قوله : لمن (١٤) السماوات ، ولا (١٥) بين قوله : (مَنْ بِيَدِهِ) ولا لمن له الإحسان ، وهذا كقولك : من رب هذه الدار؟ فيقال : زيد ، وإن شئت

__________________

(١) قال تعالى : «أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى» [الزمر : ٣]. انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٦ ـ ١١٧.

(٢) من الآية (٨٨) من السورة نفسها.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٧.

(٤) في ب : الاستدلالين بها.

(٥) أي : الاستدلال على الإعادة ، وعلى نفي عبادة الأوثان انظر ذلك في الآية المتقدمة.

(٦) في ب : والإعراف. وهو تحريف.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٧.

(٨) في ب : الأخيرين.

(٩) السبعة (٤٤٧) ، الحجة لابن خالويه (٢٥٨) ، الكشف ٢ / ١٣٠ ، النشر ٢ / ٣٢٩ ، الإتحاف (٣٢١).

(١٠) في ب : الموضعين.

(١١) انظر الكشف ٢ / ١٣٠ ، البيان ٢ / ١٨٧ ـ ١٨٨ ، التبيان ٢ / ٩٦٠.

(١٢) السبعة (٤٤٧) ، الحجة لابن خالويه (٢٥٨) ، الكشف ٢ / ١٣٠ ، النشر ٢ / ٣٢٩ ، الإتحاف (٣٢٠).

(١٣) انظر الكشف ٢ / ١٣٠ ، البيان ٢ / ١٨٧ ـ ١٨٨ ، التبيان ٢ / ٩٦٠.

(١٤) في ب : لمن في.

(١٥) لا : سقط من ب.

٢٤٨

لزيد ، لأنّ قولك : من ربّه؟ ولمن هو؟ في معنى واحد ، لأنّ السؤال لا فرق فيه بين أن يقال : لمن هذه الدار؟ ومن ربّها؟ واللام (١) مرسومة في مصاحفهم فوافق كل مصحفه.

ولم يختلف في الأول أنه «لله» ، لأنه مرسوم باللام وجاء الجواب باللام كما في السؤال (٢) ولو حذفت من الجواب لجاز ، لأنه لا فرق بين : (لِمَنِ الْأَرْضُ) ومن ربّ الأرض ، إلا أنه لم يقرأ به أحد.

قوله : (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) (لمّا ذكر الأرض أولا والسماء ثانيا ، عمّم الحكم هاهنا بقوله : (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ)) (٣) ويدخل في الملكوت الملك والملك والتاء فيه على سبيل المبالغة. (وَهُوَ يُجِيرُ) أي : يؤمن من يشاء ، (وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) أي : لا يؤمن من أخافه الله ، يقال : أجرت فلانا على فلان إذا منعته منه (٤).

قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) فيه سؤال : وهو كيف قال : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ثم حكى عنهم (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) وفيه تناقض؟ والجواب : لا تناقض ، لأنّ قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) لا ينفي علمهم بذلك وقد يقال مثل ذلك في الحجاج على وجه التأكيد لعلمهم والبعث على اعترافهم (٥) بما يورد من ذلك (٦).

وقوله : (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) أي : تصرفون عن توحيده وطاعته ، والمعنى كيف يحتمل لكم الحق باطلا. (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ) بالصدق ، (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما يدعون من الشرك والولد ، وقرىء هنا ببعض ما قرىء به في نظيره. فقرأ ابن إسحاق : «أتيتهم» بتاء الخطاب (٧) ، وغيره بتاء المتكلم(٨).

قوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ)(٩٦)

قوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) الآية. وهذه الآية كالتنبيه على الردّ على الكفار الذين يقولون : الملائكة بنات الله. وقوله : (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) ردّ

__________________

(١) في ب : واللام من.

(٢) والجواب مطابق للسؤال في اللفظ والمعنى. التبيان ٢ / ٩٥٩.

(٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٧.

(٥) في ب : اعرافهم.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٧.

(٧) تفسير ابن عطية : ١٠ / ٣٩٤ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٨.

(٨) الكشاف ٣ / ٥٤.

٢٤٩

على اتخاذهم الأصنام آلهة ، ويحتمل أن يريد به إبطال قول النصارى والثنوية (١).

ثم إنه تعالى ذكر الدليل بقوله : (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي: لانفرد كل واحد من الآلهة بما خلقه ، ولم يرض أن يضاف خلقه إلى غيره ، ومنع الإله الآخر عن الاستيلاء على ما خلق (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي : طلب بعضهم مغالبة بعض كفعل ملوك الدنيا فيما بينهم ، وحين لم تروا ذلك فاعلموا أنه إله واحد (٢).

قوله : «إذا» جواب وجزاء ، قال الزمخشري : فإن قلت : «إذا» لا تدخل إلّا على كلام هو جواب وجزاء ، فكيف وقع قوله : «لذهب» جوابا وجزاء ولم يتقدّم شرط ولا سؤال سائل قلت : الشرط محذوف تقديره : لو كان معه آلهة ، حذف لدلالة (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ)(٣).

وهذا رأي الفراء (٤) ، وقد تقدّم في الإسراء في قوله : (وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً)(٥) ثم إنه تعالى نزّه نفسه فقال : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) من إثبات الولد والشريك (٦).

قرىء : «تصفون» بتاء الخطاب (٧) وهو التفات.

قوله : (عالِمِ الْغَيْبِ). قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم : بالجر (٨) على البدل من الجلالة (٩). وقال الزمخشري : صفة لله (١٠). كأنه محض الإضافة فتعرف المضاف (١١).

والباقون : بالرفع (١٢) على القطع خبر مبتدأ محذوف (١٣).

ومعنى الآية : أنه مختص بعلم الغيب والشهادة ، فغيره وإن علم الشهادة لكن لم

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٨ ، الثنوية : هم أصحاب الاثنين الأزليين ، يزعمون أنّ النور والظلمة أزليان قديمان بخلاف المجوس ، فإنهم قالوا بحدوث الظلام ، وذكروا سبب حدوثه ، وهؤلاء قالوا بتساويهما في القدم واختلافهما في الجوهر والطبع والفعل والحيز والمكان والأجناس والأبدان والأرواح. الملل والنحل ١ / ٢٤٤.

(٢) انظر الفخر الرازي ٣٣ / ١١٨.

(٣) الكشاف ٣ / ٥٤ ـ ٥٥.

(٤) انظر معاني القرآن ٢ / ٢٤١.

(٥) [الإسراء : ٧٣].

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٨.

(٧) المختصر (٩٨) ، البحر المحيط ٦ / ٤١٩.

(٨) السبعة (٤٤٧) ، الحجة لابن خالويه (٢٥٨) ، الكشف ٢ / ١٣١ ، النشر ٢ / ٣٢٩ الإتحاف ٣٢٠.

(٩) البيان ٢ / ١٩٩ ، التبيان ٢ / ٩٦٠.

(١٠) الكشاف ٣ / ٥٥ ، وانظر أيضا الكشف ٢ / ١٣١ ، التبيان ٢ / ٩٦٠.

(١١) المعروف أن إضافة اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال إضافة غير محضة (إضافة لفظية) ، أما إذا كان بمعنى الماضي فإضافته محضة لأنها ليست في تقدير الانفصال خلافا للكسائي.

فالزمخشري جعل إضافة (عالم) إضافة محضة.

شرح التصريح ٢ / ٢٨ ، الهمع ٢ / ٤٧ ـ ٤٨.

(١٢) السبعة (٤٤٧) ، الحجة لابن خالويه (٢٥٨) ، الكشف ٢ / ١٣١ ، النشر ٢ / ٣٢٩ الإتحاف (٣٢٠).

(١٣) انظر الكشاف ٣ / ٥٥ ، البيان ٢ / ١٨٨ ، التبيان ٢ / ٩٦٠.

٢٥٠

يعلم الغيب ، لأن الشهادة لا يتكامل بها النفع إلا مع العلم بالغيب وذلك كالوعيد لهم فلذلك قال (١) : ((فَتَعالَى اللهُ) (٢) عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٣).

قوله : «فتعالى» عطف على معنى (٤) ما تقدم ، كأنّه قال علم الغيب فتعالى كقولك : زيد شجاع فعظمت منزلته أي : شجع فعظمت. أو يكون على إضمار القول ، أي : أقول فتعالى الله (٥). قوله : (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ) أي : ما أوعدتهم من العذاب قرأ العامة «ترينّي» بصريح الياء. والضحاك : «ترئنّي» بالهمز عوض الياء (٦) ، وهذا كقراءة : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ)(٧) «لترؤنّ» (٨) بالهمز (٩) ، وهو بدل شاذ (١٠).

قوله : (رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي) جواب الشرط ، و «ربّ» نداء معترض بين الشرط وجزائه (١١) ، وذكر الربّ مرتين مرة قبل الشرط (١٢) ومرة قبل الجزاء مبالغة في التضرع (١٣).

فإن قيل : كيف يجوز أن يجعل الله نبيه مع الظالمين حتى يطلب أن لا يجعله معهم؟

فالجواب : يجوز أن يسأل العبد ربه ما علم أنه يفعله ، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله إظهارا للعبودية وتواضعا لربه (١٤).

قوله : (وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ) هذا الجار متعلق ب «لقادرون» (١٥) أو بمحذوف على خلاف سبق في أن هذه اللام تمنع ما بعدها أن يعمل فيما قبلها. والمعنى : أنهم كانوا ينكرون الوعد بالعذاب ، فقيل لهم : إن الله قادر على إنجاز ما وعد في الدنيا. وقيل : المراد عذاب الآخرة (١٦).

__________________

(١) في ب : قال تعالى.

(٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٨.

(٤) معنى : سقط من ب.

(٥) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٩٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٩.

(٦) المختصر (٩٨) ، البحر المحيط ٦ / ٤١٩.

(٧) من قوله تعالى : «فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا»[مريم : ٦].

(٨) من قوله تعالى : «لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ» [التكاثر : ٦].

(٩) ابن الرومي عن أبي عمرو ، المختصر (٨٤ ، ١٧٩) ، المحتسب ٢ / ٤٢.

(١٠) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٢٠.

(١١) انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٤١ ، معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٢٠ ـ ٢١ ، البيان ٢ / ٨٨ ، التبيان ٢ / ٩٦٠.

(١٢) في ب : الشروط. وهو تحريف.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٩.

(١٤) انظر الكشاف ٣ / ٥٥ ، الفخر الرازي ٢٣ / ١١٨.

(١٥) انظر التبيان ٢ / ٩٦٠.

(١٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٩.

٢٥١

قوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) وهو الصفح والإعراض والصبر على أذاهم.

قال الزمخشري : قوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) أبلغ من أن يقال : بالحسنة السيئة لما فيه من التفضيل ، (كأنه قال ادفع بالحسنى السيئة) (١) والمعنى الصفح عن إساءتهم ، ومقابلتها بما أمكن من الإحسان ، حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان ، وبذل الاستطاعة فيه كانت حسنة مضاعفة بإزاء سيئة ...

قيل : هذه الآية نسخت بآية السيف ، وقيل : محكمة ، لأن المداراة (٢) محثوث (٣) عليها ما لم تؤد إلى نقصان دين أو مروءة (٤). ثم قال : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) أي : يقولون من الشرك.

قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(١٠٠)

قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) الآية لما أدّب رسوله بقوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أتبعه بما يقوي على ذلك وهو الاستعاذة بالله من أمرين :

أحدهما : من همزات الشياطين (٥). والهمزات جمع همزة ، وهي النخسة (٦) والدفع بيد وغيرها (٧) ، وهي كالهزّ (٨) والأزّ (٩) ، ومنه مهماز الرائض (١٠) ، والمهماز مفعال من ذلك كالمحراث من الحرث والهمّاز (١١) الذي يصيب الناس ، كأنه يدفع بلسانه وينخس به.

فصل

معنى (أَعُوذُ بِكَ) أمتنع وأعتصم بك (مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) نزعاتهم وقال الحسن :

__________________

(١) ما بين القوسين تكلمة من الكشاف.

(٢) المداراة : المطاوعة والملاينة ، ومنه الحديث : «رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس» أي : ملاينتهم وحسن صحبتهم واحتمالهم لئلا ينفروا عنك. وداريت الرجل : لا ينته ورفقت به ، وأصله من دريت الظبي ، أي : احتلت له وختلته حتى أصيده. اللسان (دري).

(٣) في النسختين : محثوثة. والتصويب من الكشاف.

(٤) الكشاف ٣ / ٥٥.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٩.

(٦) نخس الدابة وغيرها ينخسها وينخسها وينخسها نخسا : غرز جنبها أو مؤخرها بعود أو نحوه. اللسان (نخس).

(٧) اللسان (همز).

(٨) الهزّ : تحريك الشيء كما تهزّ القناة فتضطرب وتهتز ، وهزّه يهزّه هزّا وهزّ به وهززه. اللسان (هزز).

(٩) انظر اللسان (أزز).

(١٠) المهمز والمهماز : حديدة تكون في مؤخر خف الرائض. اللسان (همز).

(١١) الهمّاز والهمزة : الذي يخلف الناس من ورائهم ويأكل لحومهم. الليث : الهمّاز والهمزة : الذي يهمز أخاه من خلفه ، واللمز في الاستقبال. اللسان (همز).

٢٥٢

وساوسهم. وقال مجاهد : نفخهم ونفثهم. وقال أهل المعاني : دفعهم بالإغواء إلى المعاصي (١). قال الحسن : كان عليه‌السلام (٢) يقول بعد استفتاح الصلاة : «لا إله إلّا الله ثلاثا ، الله أكبر ثلاثا ، اللهم إني أعوذ بك من همزات الشياطين همزه ونفثه ونفخه».

فقيل : يا رسول الله ما همزه؟ قال : «الموتة التي تأخذ ابن آدم» أي (٣) : الجنون. قيل : فما نفثه؟ قال : «الشعر» قيل : فما نفخه؟ قيل : «الكبر» (٤).

والثاني : قوله : (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) أي : في شيء من أموري ، وإنما ذكر الحضور ، لأن الشيطان إذا حضر وسوس.

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) الآية في (حتّى) هذه أوجه :

أحدها : أنها غاية لقوله : (بِما يَصِفُونَ)(٥).

والثاني : أنها غاية «لكاذبون» (٦).

ويبين هذين الوجهين قول الزمخشري : «حتّى» يتعلق ب «يصفون» أي : لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت ، والآية فاصلة بينهما على وجه الاعتراض والتأكيد. ثم قال : أو على قوله : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)(٧). قال شهاب الدين : قوله : (أو على قوله كذا) كلام محمول على المعنى ، إذ التقدير : «حتّى» معلقة على «يصفون» أو على قوله : «لكاذبون» وفي الجملة فعبارته مشكلة(٨).

الثالث : قال ابن عطية : «حتّى» في هذا الموضع (٩) حرف ابتداء ، ويحتمل أن تكون غاية مجردة بتقدير كلام محذوف ، والأوّل أبين ، لأنّ ما بعدها هو المعنيّ به المقصود (ذكره (١٠)) (١١).

قال أبو حيان : فتوهم ابن عطية أن «حتّى» إذا كانت حرف ابتداء لا تكون غاية ، وهي وإن كانت حرف ابتداء فالغاية معنى لا يفارقها ، ولم يبيّن الكلام المحذوف المقدر (١٢).

وقال أبو البقاء : (حتّى) غاية في معنى العطف (١٣). قال أبو حيّان : والذي يظهر لي (١٤) أن قبلها جملة محذوفة تكون «حتّى» غاية لها يدل عليها ما قبلها ، التقدير : فلا أكون كالكفار الذين تهزمهم الشياطين ويحضرونهم حتى إذا جاء ، ونظير حذفها قول الشاعر :

__________________

(١) انظر البغوي ٦ / ٣٨.

(٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٣) أي : سقط من ب.

(٤) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٣ / ٥٠ ، ٥ / ٢٥٣ وذكر في اللسان (همز).

(٥) من الآية (٩٦) السابقة.

(٦) من الآية (٩٠) السابقة.

(٧) الكشاف ٣ / ٥٦.

(٨) الدر المصون ٥ / ٩٣.

(٩) في النسختين : هذه المواضع.

(١٠) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٩٩.

(١١) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٢) البحر المحيط ٦ / ٤٢٠.

(١٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٢٠ ، ما حكاه أبو حيان عن أبي البقاء غير موجود في التبيان.

(١٤) لي : سقط من ب.

٢٥٣

٣٨٠٦ ـ فيا عجبا حتّى كليب تسبّني (١)

أي : يسبني الناس كلهم حتى كليب إلّا أن في البيت دلّ ما بعدها عليها بخلاف الآية الكريمة(٢).

قوله (٣) : (رَبِّ ارْجِعُونِ.) في قوله : «ارجعون» بخطاب الجمع ثلاثة أوجه :

أجودها : أنه على سبيل التعظيم (٤) كقوله :

٣٨٠٧ ـ فإن شئت حرّمت النّساء سواكم

وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا (٥)

وقال الآخر :

٣٨٠٨ ـ ألا فارحموني يا إله محمّد (٦)

وقد يؤخذ من هذا البيت ما يرّد على ابن مالك حيث قال : إنه لم نعلم أحدا أجاز للداعي أن يقول : يا رحيمون قال : لئّلا يوهم خلاف التوحيد ، وقد أخبر تعالى عن نفسه بهذه الصفة وشبهها للتعظيم في مواضع من كتابه الكريم كقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٧).

الثاني : أنه نادى ربه ثم خاطب ملائكة ربه بقوله : «ارجعون» (٨). ويجوز على هذا الوجه أن يكون على حذف مضاف ، أي : ملائكة ربي ، فحذف المضاف ثم التفت إليه في عود الضمير كقوله(٩): (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها)(١٠). ثم قال : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ)(١٠) التفاتا ل «أهل» المحذوف.

الثالث : أنّ ذلك يدل على تكرير الفعل كأنه قال : ارجعني ارجعني (١١) نقله أبو

__________________

(١) صدر بيت من بحر الطويل ، قاله الفرزدق ، وعجزه :

كأنّ أباها نهشلّ أو مجاشع

(٢) أي : أن ما بعد (حتّى) في البيت دلّ على الجملة المحذوفة ، وفي الآية دلّ ما قبل (حتّى) على الجملة المحذوفة. البحر المحيط ٦ / ٤٢٠ ـ ٤٢١.

(٣) مكان : (قوله) : بياض في الأصل.

(٤) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١١٣ ، الكشاف ٣ / ٥٥ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٠٠ ، البيان ٢ / ١٨٩ ، التبيان ٢ / ٩٦٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤٢١.

(٥) البيت من بحر الطويل ، قاله العرجي. والشاهد فيه مخاطبة الواحدة بلفظ جمع المذكر تعظيما. وقد تقدّم تخريجه.

(٦) صدر بيت من بحر الطويل ، لم أهتد إلى قائله وعجزه :

فإن لم أكن أهلا فأنت له أهل

وهو في الكشاف ٣ / ٥٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤٢١ ، شرح شواهد الكشاف (٩٩).

(٧) [الحجر : ٦].

(٨) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٠٠ ، التبيان ٢ / ٩٦٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤٢١.

(٩) في ب : في قوله.

(١٠) من قوله تعالى : «وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ» [الأعراف : ٤].

(١١) في الأصل : ارجعون ارجعون.

٢٥٤

البقاء (١) وهو يشبه ما قالوه في قوله : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ)(٢) أنه بمعنى : ألق ألق ثنّى الفعل للدلالة (٣) على ذلك ، وأنشدوا :

٣٨٠٩ ـ قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل (٤)

أي : قف قف.

فصل

اعلم أنّه تعالى أخبر أنّ هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث يسألون الرجعة إلى الدنيا عند معاينة الموت فقال : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ (قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ)) (٥) ولم يقل : ارجعني ، وهو يسأل الله وحده الرجعة لما تقدّم في الإعراب (٦). وقال الضحّاك (٧) : كنت جالسا عند ابن عباس فقال: من لم يزكّ ولم يحج سأل الرجعة عند الموت ، فقال رجل : إنما يسأل (٨) ذلك الكفار. فقال ابن عباس : أنا أقرأ عليك به قرآنا (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ)(٩).

وقال عليه‌السلام (١٠) : إذا حضر الإنسان الموت جمع كل شيء كان يمنعه من حقه بين يديه فعنده يقول : (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) (١١) (١٢).

واختلفوا في وقت مسألة الرجعة ، فالأكثرون على أنه يسأل حال المعاينة وقيل : بل عند معاينة النار في الآخرة ، وهذا القائل إنّما ترك ظاهر هذه الآية لمّا أخبر الله ـ تعالى ـ عن أهل النار في الآخرة أنهم يسألون الرجعة (١٣).

قوله : (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) أي : ضيّعت. أي : أقول (١٤) لا إله إلّا الله (١٥).

__________________

(١) قال أبو البقاء : (والثالث : أنه دلّ بلفظ الجمع على تكرير القول ، فكأنّه قال ارجعني ارجعني) التبيان ٢ / ٩٦٠ ، وانظر أيضا مشكل إعراب القرآن ٢ / ١١٣ ـ ١١٤ ، والبيان ٢ / ١٨٨.

(٢) من قوله تعالى : «أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ» [ق : ٢٤].

(٣) في ب : الدلالة. وهو تحريف.

(٤) صدر من بيت من بحر الطويل ، قاله امرؤ القيس وعجزه :

بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل

وهو مطلع معلقته ، وقد تقدم.

(٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(٦) تقدم قريبا.

(٧) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٠.

(٨) في ب : سأل.

(٩) [المنافقون : ١٠].

(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١١) أخرجه الديلمي عن جابر. انظر الدر المنثور ٥ / ١٥.

(١٢) آخر ما نقله عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٣٠.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٠ ـ ١٢١.

(١٤) في ب : قول.

(١٥) أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قول : لعلّي أعمل صالحا فيما تركت «قال : لعلي أقول : لا إله إلا الله». وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله : «لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً» قال : أقول : لا إله إلّا الله ، الدر المنثور ٥ / ١٥.

٢٥٥

وقيل : أعمل بطاعة الله تعالى. وقيل : أعمل صالحا فيما قصّرت ، فيدخل فيه العبادات البدنية والمالية ، وهذا أقرب ، لأنهم تمنوا الرجعة ليصلحوا ما أفسدوه (١). فإن قيل : قوله تعالى : (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) كيف يجوز أن يسأل الرجعة مع الشك.

فالجواب : ليس المراد ب «لعلّ» الشك فإنّه في هذا الوقت باذل للجهد في العزم على الطاعة إن أعطي ما (٢) سأل ، فهو مثل من قصّر في حق نفسه ، وعرف سوء عاقبة ذلك التقصير ، فيقول : مكنوني من (٣) التدارك (٤) لعلى أتدارك فيقول هذه الكلمة مع كونه جازما بأنه سيتدارك.

ويحتمل أيضا أنّ الأمر المستقبل إذا لم يعرفوه أوردوا الكلام الموضوع للترجي والظن دون اليقين فقد قال تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ)(٥)(٦).

قوله : «كلّا» (٧) كلمة ردع وزجر أي : لا ترجع. معناه المنع طلبوا (٨) ، كما يقال لطالب الأمر المستبعد : هيهات. ويحتمل أن يكون ذلك إخبارا بأنهم يقولون ذلك ، وأنّ هذا الخبر حق ، فكأنّه تعالى قال : حقا إنّها كلمة هو قائلها. والأول أقرب (٩).

قوله : (إِنَّها كَلِمَةٌ) من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل كقوله : «أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد» (١٠) يعني قوله :

٣٨١٠ ـ ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل (١١)

وقد تقدم طرف من هذا في آل عمران (١٢). و (هُوَ قائِلُها) صفة ل «كلمة».

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢١.

(٢) في ب : ما من. وهو تحريف.

(٣) من : سقط من ب.

(٤) الدرك : اللحاق ، وقد أدركه ، وتدارك القوم : تلاحقوا ، أي : لحق آخرهم أولهم. اللسان (درك).

(٥) [الأنعام : ٢٨].

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢١.

(٧) انظر مذاهب النحويين في هذه اللفظة في سورة مريم عند قوله تعالى : «كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا»الآية (٧٩).

(٨) في ب : فاطلبوا. وهو تحريف.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢١.

(١٠) أخرجه البخاري (مناقب الأنصار) ٢ / ٣١٩ ، ومسلم (شعر) ٤ / ١٧٦٨ ـ ١٧٦٩ ، ابن ماجة (أدب) ٢ / ١٢٣٦.

(١١) صدر بيت من بحر الطويل قاله لبيد بن ربيعة ، وعجزه :

وكلّ نعيم لا محالة زائل

وقد تقدم.

(١٢) عند قوله تعالى : «أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ» [آل عمران : ٣٩] ، وقوله تعالى : «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً» من الآية (٦٤) من السورة نفسها.

انظر اللباب ٢ / ٢٢٨ ، ٢٦٢ ـ ٢٦٣.

٢٥٦

والمراد بالكلمة : سؤاله الرجعة : كلمة هو قائلها ولا ينالها ، وقيل : معناه لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة عليه (١).

قوله : (وَمِنْ وَرائِهِمْ) أي : أمامهم وبين أيديهم (٢). «برزخ» البرزخ : الحاجز بين المسافتين(٣) وقيل : الحجاب بين الشيئين أن يصل أحدهما إلى الآخر (٤) ، وهو بمعنى الأوّل.

وقال الراغب : أصلة برزه بالهاء فعرّب ، وهو في القيامة الحائل بين الإنسان وبين المنازل الرفيعة (٥) والبرزخ قبل البعث المنع بين الإنسان وبين الرجعة التي يتمناها.

قال مجاهد : حجاب بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا. (وقال قتادة : بقيّة الدنيا) (٦).

قال الضحاك : البرزخ ما بين الموت إلى البعث. وقيل : القبر وهم فيه إلى يوم يبعثون (٧).

قوله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ)(١٠٥)

قوله : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) الآية لمّا قال : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ذكر أحوال ذلك اليوم فقال : (فَإِذا (٨) نُفِخَ فِي الصُّورِ)(٩) وقرأ العامة بضم الصاد وسكون الواو ، وهو آلة إذا نفخ فيها ظهر صوت عظيم جعله الله علامة لخراب الدنيا ولإعادة الأموات ، قال عليه‌السلام (١٠) : «إنّه قرن ينفخ فيه» (١١)(١٢). وقرأ ابن عباس والحسن : بفتح الواو (١٣) جمع صورة. والمعنى : فإذا نفخ في الصور أرواحها (١٤) وقرأ أبو رزين (١٥) : بكسر الصاد وفتح الواو (١٦) ، وهو (١٧) شاذ (١٨). وهذا عكس (لحى) بضم اللام جمع (لحية) بكسرها (١٩). وقيل : إنّ النفخ في الصور استعارة ، والمراد منه البعث والحشر.

__________________

(١) انظر الكشاف ٣ / ٥٥ ، الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٢.

(٢) انظر القرطبي ١٢ / ١٥٠.

(٣) في النسختين : المتنافيين.

(٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٤١٦ ـ ٤١٧.

(٥) المفردات في غريب القرآن (٤٣).

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) انظر البغوي ٦ / ٤٠.

(٨) في ب : وإذا. وهو تحريف.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٢.

(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١١) أخرجه الترمذي (قيامة) ٤ / ٤١ ، الدارمي (رقاق) ٢ / ٣٢٥ ، أحمد ٢ / ١٦٢ ، ١٩٢.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٢.

(١٣) المختصر (٩٨) البحر المحيط ٦ / ٤٢١.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٢.

(١٥) هو مسعود بن مالك ، أبو رزين الكوفي ، وردت عنه الرواية في حروف القرآن ، روى عن ابن مسعود ، وعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهما ـ روى عنه الأعمش ، طبقات القراء ٢ / ٢٩٦.

(١٦) المختصر (٩٨) ، البحر المحيط ٦ / ٤٢١.

(١٧) في ب : وهذا.

(١٨) لأن جمع (فعلة) بضم الفاء على (فعل) بكسر الفاء شاذ.

(١٩) لأن جمع (فعلة) بكسر الفاء على (فعل) بكسر الفاء شاذ. وقياس جمع (فعلة) بضم الفاء على (فعل) ـ

٢٥٧

قوله : «فلا أنساب» الأنساب جمع نسب ، وهو القرابة من جهة الولادة ، ويعبّر به عن التواصل ، وهو في الأصل مصدر قال :

٣٨١١ ـ لا نسب اليوم ولا خلّة

اتسع الخرق على الرّاقع (١)

قوله : «بينهم» يجوز تعلقه بنفس «أنساب» ، وكذلك «يومئذ» ، أي : فلا قربة بينهم في ذلك اليوم (٢). ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنّه صفة (٣) ل «أنساب» ، والتنوين في «يومئذ» عوض عن (٤) جملة تقديره : يومئذ نفخ في الصور.

فصل

من المعلوم (٥) أنّه تعالى إذا أعادهم فالأنساب ثابتة ، لأنّ المعاد هو الولد والوالد ، فلا يجوز أن يكون المراد نفي النسب حقيقة بل المراد نفي حكمه وذلك من وجوه :

أحدها : أنّ من حق النسب أن يقع به التعاطف والتراحم كما يقال في الدنيا : أسألك بالله والرحم أن تفعل كذا ، فنفى سبحانه ذلك من حيث أنّ كل أحد من أهل النار يكون مشغولا بنفسه ، وذلك يمنعه من الالتفات إلى النسب كما أنّ الإنسان في الدنيا إذا كان في آلام عظيمة ينسى ولده ووالده.

وثانيها : أنّ من حق النسب أن يحصل به التفاخر في الدنيا ، وأن يسأل البعض عن أحوال البعض ، وفي الآخرة لا يتفرغون لذلك.

وثالثها : أنّ ذلك عبارة عن الخوف الشديد ، فكل امرىء مشغول بنفسه عن نسبه وأخيه وفصيلته التي تؤويه. قال ابن مسعود : يؤخذ العبد والأمة يوم القيامة على رؤوس الخلائق ينادي مناد ألا إنّ هذا فلان فمن له عليه حق فليأت إلى حقه ، فيفرح المرء يومئذ

__________________

ـ بضم الفاء مثل صورة وصور وقياس جمع (فعلة) بكسر الفاء على (فعل) بكسر الفاء مثل لحية ولحى إلّا أنه قد ينوب (فعل) بضم الفاء عن (فعل) بكسر الفاء مثل لحية ولحى و (فعل) بكسر الفاء عن (فعل) بضم الفاء مثل صورة وصور. شرح الأشموني ٤ / ١٤٠ ـ ١٣٢.

(١) البيت من بحر السريع ، قاله أنس بن العباس ، وقيل : أبو عامر جد العباس وهو في الكتاب ٢ / ٢٨٥ ، ابن يعيش ٢ / ١٠١ ، ١١٣ ، ٩ / ١٣٨ ، اللسان (قمر) ، شذور الذهب ٨٧ ، المغني ١ / ٢٢٦ ، ٢ / ٦٠٠ ، المقاصد النحوية ٢ / ٣٥١ ، ٤ / ٦٧ ، شرح التصريح ١ / ٢٤١ ، الهمع ٢ / ١٤٤ ، ٢١١ ، شرح الأشموني ٢ / ٩ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٦٠١ ، ٩٢٤ ، وروي : اتسع الفتق على الراتق. الراتق : الذي يلحم الفتق. يقول : إنّه لا ينفع فيما جرى بيننا من أسباب القطيعة نسب ولا صداقة ، لأنّ الخطب قد تفاقم حتى صعب رتقه. النسب : نسب القرابات ، وهو واحد الأنساب ، وهو في الآباء خاصة. وهو مصدر نسب ينسب وينسب نسبا. وهو محل الشاهد هنا.

(٢) ذكر أبو البقاء أن العامل في «بينهم» و «يومئذ» محذوف ، ولا يجوز أن يعمل فيه «أنساب» لأنّ اسم «لا» إذا بني لم يعمل ، التبيان ٢ / ٩٦٠.

(٣) في الأصل : ضفة. وهو تحريف.

(٤) في الأصل : من.

(٥) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٢ ـ ١٢٣.

٢٥٨

أن يثبت له الحق على أمه أو أخيه أو أبيه ثم قرأ ابن مسعود (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ)(١) وروى عطاء عن ابن عباس : أنّها النفخة الثانية (٢).

(فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ) أي : لا يتفاخرون في الدنيا ولا يتساءلون سؤال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا من أنت؟ ومن أي قبيلة أنت (٣)؟ ولم يرد أنّ الأنساب تنقطع.

فإن قيل : أليس قد جاء في الحديث : «كل سبب (٤) ونسب ينقطع إلا سببي (٥) ونسبي» (٦) قيل معناه : لا ينفع يوم القيامة سبب ولا نسب إلّا سببه ونسبه ، وهو الإيمان والقرآن (٧).

فإن قيل : قد قال ههنا (٨)(وَلا يَتَساءَلُونَ) وقال : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً)(٩). وقال (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ)(١٠).

فالجواب : روي عن ابن عباس أنّ للقيامة أحوالا ومواطن ، ففي موطن يشتد (١١) عليهم الخوف فيشغلهم عظم الأمر عن التساؤل فلا يتساءلون ، وفي موطن يفيقون إفاقة يتساءلون. وقيل : إذا نفخ في الصور نفخة واحدة شغلوا بأنفسهم عن التساؤل ، فإذا نفخ فيه أخرى أقبل بعضهم على بعض وقالوا : (يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا)(١٢). وقيل : المراد لا يتساءلون بحقوق النسب. وقيل : (لا يَتَساءَلُونَ) صفة للكفار لشدة خوفهم ، وأمّا قوله : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) فهو صفة أهل الجنة إذا دخلوها (١٣). وعن الشعبي قالت عائشة : يا رسول الله أما نتعارف يوم القيامة أسمع الله يقول : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) فقال عليه‌السلام (١٤) «ثلاثة مواطن تذهل فيها كلّ مرضعة عما أرضعت عند رؤية القيامة (١٥) وعند الموازين وعلى جسر جهنم» (١٦).

قوله : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) لمّا ذكر القيامة شرح أحوال السعداء والأشقياء. قيل المراد بالموازين الأعمال فمن أتي بما له قدر وخطر فهو الفائز

__________________

(١) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٢ ـ ١٢٣.

(٢) انظر البغوي ٦ / ٤١.

(٣) انظر القرطبي ١٢ / ١٥١.

(٤) في ب : نسب. وهو تحريف.

(٥) في ب : نسبي. وهو تحريف.

(٦) أخرجه البزار والطبراني والحاكم والضياء عن عمر بن الخطاب. الدر المنثور ٥ / ١٥.

(٧) في ب : والقراءة. وهو تحريف. انظر البغوي ٦ / ٤٢.

(٨) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٣.

(٩) [المعارج : ١٠].

(١٠) [الصافات : ٢٧] ، [الطور : ٢٥].

(١١) في ب : ينشد. وهو تحريف.

(١٢) [يس : ٥٢].

(١٣) آخر ما نقله عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٣.

(١٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٥) في النسختين ثلاثة مواطن عند رؤية القيامة تذهل فيها كل مرضعة عما أرضعت.

(١٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٣.

٢٥٩

المفلح ، ومن أتي بما لا وزن له ولا قدر فهو الخاسر. وقال ابن عباس : الموازين جمع موزون وهي الموزونات من الأعمال الصالحة التي لها وزن وقدر عند الله من قوله : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً)(١) أي : قدرا (٢) وقيل : ميزان له لسان وكفتان يوزن به الحسنات في أحسن صورة ، والسيّئات في أقبح صورة (٣). وتقدّم ذلك في سورة الأنبياء (٤).

قوله : (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) قال ابن عباس : غبنوها بأن صارت منازلهم للمؤمنين (٥). وقيل : امتنع انتفاعهم بأنفسهم لكونهم في العذاب (٦).

قوله : (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) يجوز أن يكون «خالدون» خبرا ثانيا ل (أولئك) ، وأن يكون خبر (٧) مبتدأ مضمر ، أي : هم خالدون (٨). وقال الزمخشري : (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) بدل من (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) ، ولا محل للبدل والمبدل منه ، لأنّ الصلة لا محل لها (٩).

قال أبو حيان : جعل (فِي جَهَنَّمَ) بدلا من (خسروا) ، وهذا بدل (١٠) غريب ، وحقيقته أن يكون البدل الفعل الذي تعلق به (فِي جَهَنَّمَ) أي : استقروا في جهنم وهو بدل شيء (١١) من شيء لأنّ من خسر نفسه استقر في جهنم (١٢). قال شهاب الدين : فجعل الشيخ الجار والمجرور البدل (١٣) دون «خالدون» ، والزمخشري جعل جميع ذلك بدلا ، بدليل قوله بعد ذلك : أو خبرا بعد خبر ، ل «أولئك» أو خبر مبتدأ محذوف (١٤). وهذان إنّما (١٥) يليقان ب «خالدون» ، وأما (فِي جَهَنَّمَ) فمتعلق به ، فيحتاج كلام الزمخشري إلى جواب ، وأيضا فيصير «خالدون» معلقا. وجوّز أبو البقاء أن يكون الموصول نعتا لاسم الإشارة (١٦) ، وفيه نظر ، إذ الظاهر كونه خبرا له (١٧).

قوله : «تلفح» يجوز استئنافه ، ويجوز حاليته ، ويجوز كونه خبرا ل «أولئك».

__________________

(١) [الكهف : ١٠٥].

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٣ ـ ١٢٤.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٤.

(٤) عند قوله تعالى : «وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ»[الأنبياء : ٤٧].

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٤.

(٦) المرجع السابق.

(٧) في ب : خبرا. وهو تحريف.

(٨) انظر الكشاف ٣ / ٥٧.

(٩) الكشاف ٣ / ٥٧.

(١٠) في ب : بدل من.

(١١) في البحر المحيط : وكأنه بدل الشيء من الشيء وهما لمسمى واحد على سبيل المجاز.

(١٢) البحر المحيط ٦ / ٤٢١ ـ ٤٢٢.

(١٣) في الأصل : والبدل.

(١٤) الكشاف ٣ / ٥٧.

(١٥) في ب : لا. وهو تحريف.

(١٦) وخبر اسم الإشارة «فِي جَهَنَّمَ». وما حكاه عن أبي البقاء غير موجود في التبيان ، وهو في البحر المحيط ٦ / ٤٢٢.

(١٧) الدر المصون ٥ / ٩٤.

٢٦٠