اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٤

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٤

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الحج

مكية غير ست آيات نزلت بالمدينة ، وهي قوله : (هذانِ خَصْمانِ) إلى قوله : (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ)(١). وهي ثمان وتسعون آية ، وعدد كلماتها ألفان ومائتان وإحدى وتسعون كلمة ، وعدد حروفها خمسة آلاف وخمسة وسبعون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ)(٢)

قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) أي : احذروا عقابه. والأمر بالتقوى يتناول اجتناب المحرمات ، واجتناب ترك الواجبات.

قوله : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ) الزلزلة : شدة حركة الشيء ، ويجوز في هذا المصدر وجهان :

أحدهما : أن يكون مضافا لفاعله ، وذلك على تقديرين :

أحدهما : أن يكون من (زلزل) اللازم بمعنى : يزلزل ، فالتقدير : أن تزلزل السّاعة (٢).

والثاني : أن يكون من (زلزل) المتعدي ، ويكون المفعول محذوفا تقديره : إن زلزال الساعة(٢).

والثاني : أن يكون من (زلزل) المتعدي ، ويكون المفعول محذوفا تقديره : إن زلزال الساعة الناس ، كذا قدره أبو البقاء (٣). والأحسن أن يقدر : إن زلزال الساعة الأرض ، يدل عليه (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ)(٤) ، ونسبة التزلزل أو الزلزال إلى الساعة على سبيل المجاز (٥).

الوجه الثاني : أن يكون المصدر مضافا إلى المفعول به على طريقة الاتساع في الظرف (٦) كقوله:

__________________

(١) من الآية (١٩) إلى الآية (٢٤).

(٢) انظر التبيان ٢ / ٩٣١.

(٣) المرجع السابق.

(٤) من قوله تعالى :«إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها»[الزلزلة : ١]. وانظر البحر المحيط ٦ / ٣٤٩.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ٢٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٩.

(٦) التوسع في الظرف جعله مفعولا به على طريق الاتساع ، فيسوغ حينئذ إضماره غير مقرون ب (في) نحو ـ

٣

٣٧٤٣ ـ طبّاخ ساعات الكرى زاد الكسل (١)

وقد أوضح الزمخشري ذلك بقوله : ولا تخلو «السّاعة» من أن تكون على تقدير الفاعل لها ، كأنها هي التي تزلزل الأشياء على المجاز الحكمي ، فتكون الزلزلة مصدرا مضافا إلى فاعله ، وعلى تقدير المفعول فيها على طريقة الاتساع في الظرف ، وإجرائه مجرى المفعول به كقوله تعالى : (مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ)(٢)(٣).

فصل

اختلفوا في وقت هذه الزلزلة ، فقال علقمة (٤) والشعبي : هي من أشراط الساعة قبل قيام الساعة(٥) ، ويكون بعدها طلوع الشمس من مغربها. وقال ابن عباس : زلزلة الساعة قيامها ،

__________________

ـ اليوم سرته ، ولا يجوز ذلك في المنصوب على الظرف ، بل إذا أضمر وجب التصريح ب (في) لأن الضمير يرد الأشياء إلى أصولها فيقال : اليوم سرت فيه ، وسواء في التوسع ظرف الزمان والمكان ، فالأول نحو :

ويوم شهدناه سليما وعامرا

قليل سوى الطعن النهال نوافله

والثاني نحو : ومشرب أشربه وشيل.

ويجوز حينئذ الإضافة إليه على طريق الفاعلية نحو : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [سبأ : ٣٣] والمفعولية نحو (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) [البقرة : ٢٢٦] ، ولا تصح الإضافة عند إرادة الظرف ؛ لأن تقدير (في) يحول بين المضاف والمضاف إليه وللتوسع شروط الأول : أن يكون الظرف متصرفا ، فما لزم الظرفية لا يتوسع فيه ؛ لأن التوسع مناف لعدم التصرف ؛ إذ يلزم منه أن يسند إليه ويضاف إليه.

الثاني والثالث : أن لا يكون العامل حرفا ولا اسما جامدا ؛ لأنهما يعملان في الظرف لا في المفعول به ، والمتوسع فيه مشبه بالمفعول به فلا يعملان فيه.

الرابع : أن لا يكون فعلا متعديا إلى ثلاثة ؛ لأن الاتساع في اللازم له ما يشبه به وهو المتعدي إلى واحد ، والاتساع في المتعدي إلى واحد له ما يشبه به وهو المتعدي إلى اثنين والاتساع في المتعدي إلى اثنين له ما يشبه به وهو المتعدي إلى ثلاثة ، فيجوز فيها وأما ما يتعدى إلى ثلاثة فليس له ما يشبه به ؛ إذ ليس لنا فعل يتعدى إلى أربعة.

الخامس : أن لا يكون العامل كان وأخواتها إن قلنا إنها تعمل في الظرف حذرا من كثرة المجاز ، لأنها إذا رفعت ونصبت تشبيها بالفعل المتعدي ، والعمل بالشبه مجاز ، فإذا نصبت الظرف على الاتساع وهو مجاز أيضا كثر المجاز فيمنع منه.

انظر التبيان ٢ / ٩٣١ ، الهمع ١ / ٢٠٣.

(١) رجز قاله جبار بن جزء بن ضرار وهو في ديوان الشماخ (٣٨٩ ـ ٣٩٠) مع نسبته لجبار ، الكتاب ١ / ١٧٧ ، الكامل ١ / ٢٥٨ ، مجالس ثعلب ١ / ١٢٦ ، المخصص ٣ / ٣٧ ، أمالي ابن الشجري ٢ / ٢٥٠ ، الخزانة ٤ / ٢٣٣. الكرى : النعاس. الكسل : ـ بفتح الكاف وكسر السين ـ الكسلان. والشاهد فيه : إضافة (طباخ) إلى (ساعات) على تشبيهه بالمفعول به ، لا على أنه ظرف وعلى ذلك يعد (زاد الكسل) مفعولا ثانيا.

(٢) [سبأ : ٣٣].

(٣) الكشاف ٣ / ٢٤.

(٤) تقدم.

(٥) انظر البغوي ٥ / ٥٤٦.

٤

فتكون فعلها (١) روي عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في حديث الصور : «إنّه قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات : نفخة الفزع ، ونفخة الصّعق ، ونفخة القيامة ، وإن عند نفخة الفزع يسير الله الجبال ، و (تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ، قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) وتكون الأرض كالسفينة حصرتها الأمواج أو كالقنديل المعلق تموجها الرياح» (٢). قال مقاتل وابن زيد : هذا في أول يوم من أيام الآخرة (٣) وليس في الآية دلالة على هذه الأقوال ، لأن هذه الإضافة [تصح](٤) وإن كانت فيها ومعها كقولنا : آيات الساعة وأمارات الساعة (٥).

قوله : «يوم» ، فيه أوجه :

أحدها : أن ينتصب ب «تذهل» ، ولم يذكر الزمخشري غيره (٦).

الثاني : أنه منصوب ب «عظيم».

الثالث : أنه منصوب بإضمار «اذكر».

الرابع : أنه بدل من «السّاعة» (٧) ، وإنما فتح لأنه مبني ، لإضافته إلى الفعل وهذا إنما يتمشى على قول الكوفيين (٨) ، وتقدم تحقيقها آخر المائدة (٩).

الخامس : أنه بدل من «زلزلة» بدل اشتمال ، لأن كلّا من الحدث والزمان يصدق أنه مشتمل على الآخر. ولا يجوز أن ينتصب ب «زلزلة» لما يلزم من الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر(١٠).

قوله : «ترونها» في هذا الضمير قولان :

أظهرهما : أنه ضمير الزلزلة ؛ لأنها المحدث عنها (١١) ، ويؤيده أيضا قوله (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ).

والثاني : أنه ضمير الساعة (١٢).

فعلى الأول : يكون الذهول والوضع حقيقة ؛ لأنه في الدنيا.

وعلى الثاني : يكون على سبيل التعظيم والتهويل ، وأنها بهذه الحيثية ، إذ المراد

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) أخرجه الطبري. انظر جامع البيان ١٧ / ٨٥.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤.

(٤) تصح : تكملة ليست بالمخطوط.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤.

(٦) الكشاف ٣ / ٢٤.

(٧) هذه الأوجه ذكرها أبو البقاء في التبيان ٢ / ٩٣١.

(٨) وذلك لأن ظرف الزمان المحمول على «إذ» و «إذا» إن وليه فعل مضارع معرب ، فالإعراب أرجح من البناء عند الكوفيين والأخفش ، وواجب عند جمهور البصريين لعدم التناسب. شرح التصريح ٢ / ٤٢.

(٩) عند قوله تعالى : «قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ»[المائدة : ١١٩]. انظر اللباب ٣ / ٣٦٧ ـ ٣٦٨.

(١٠) وذلك لأن المصدر مع معموله كالموصول مع صلته ، فكما لا يفصل بين الموصول وصلته لا يفصل بين المصدر ومعموله بتابع وغيره. انظر التبيان ٢ / ٩٣١ ، الهمع ٢ / ٩٣.

(١١) انظر الكشاف ٣ / ٢٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٩.

(١٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٤٩ ـ ٣٥٠.

٥

بالساعة القيامة ، وهو كقوله : (يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً)(١).

قوله : «تذهل» في محل نصب على الحال من الهاء في «ترونها» ، فإن الرؤية هنا بصريّة ، وهذا إنما يجيء على غير الوجه الأول (٢) ، وأما الوجه الأول وهو أنّ «تذهل» ناصب ل (يَوْمَ تَرَوْنَها) فلا محل للجملة من الإعراب ؛ لأنها مستأنفة ، أو يكون محلها النصب على الحال من الزلزلة ، أو من الضمير في «عظيم» وإن كان مذكرا ، لأنه هو الزلزلة في المعنى ، أو من «الساعة» وإن كانت مضافا إليها ، لأنه إما فاعل أو مفعول كما تقدم. وإذا جعلناها حالا فلا بد من ضمير محذوف تقديره : تذهل فيها (٣). وقرأ العامة : «تذهل» بفتح التاء والهاء من : ذهل عن كذا يذهل(٤). وقرأ ابن أبي عبلة واليماني : بضم التاء وكسر الهاء ، ونصب «كل» على المفعول به (٥) من أذهله عن كذا يذهله ، عدّاه بالهمزة. والذهول : الاشتغال عن الشيء (٦) ، وقيل : إذا كان مع دهشته وقيل : إذا كان ذلك لطرآن شاغل من همّ أو مرض ونحوهما (٧) ، وذهل بن شيبان (٨) أصله من هذا. والمرضعة : من تلبست بالفعل ، والمرضع من شأنها أن ترضع كحائض فإذا أراد التلبس قيل : حائضة (٩). قال الزمخشري : فإن قلت : لم قيل «مرضعة» دون مرضع؟ قلت : المرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبي (١٠) ، والمرضع التي من شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها (به (١١)) (١٢). والمعنى : أن من شدة الهول تذهل هذه عن ولدها فكيف بغيرها. وقال بعض الكوفيين : المرضعة يقال للأم ،

__________________

(١) من قوله تعالى : «فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً» [المزمل : ١٧].

(٢) انظر التبيان ٢ / ٩٣١.

(٣) المرجع السابق.

(٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٥٠.

(٥) المرجع السابق.

(٦) قاله قطرب. البحر المحيط ٦ / ٣٤٦.

(٧) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٤٦.

(٨) هو ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة ، جد جاهلي ، بنوه بطن من بكر بن وائل ، منهم الأمير ابن الهيثم خالد بن أحمد ، وكثيرون. الأعلام ٣ / ٢٧.

(٩) اختلف النحويون في دخول الهاء في المرضعة ، فقال الفراء : المرضعة والمرضع : التي معها صبي ترضعه ، قال : ولو قيل في الأم : مرضع ، لأن الرضاع لا يكون إلا من الإناث ، كما قالوا امرأة حائض وطامث ، كان وجها ، قال : ولو قيل في التي معها صبي : مرضعة كان صوابا. معاني القرآن ٢ / ٢١٤. وقال الأخفش : أدخل الهاء في المرضعة لأنه أراد ـ والله أعلم ـ الفعل ، ولو أراد الصفة فيما نرى لقال: مرضع ـ معاني القرآن ٢ / ٦٣٥. وقال أبو زيد : المرضعة التي ترضع وثديها في في ولدها ، وعليه قوله تعالى : (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ). قال : وكل مرضعة كل أم. قال : والمرضع التي دنا لها أن ترضع ولم ترضع بعد. والمرضع التي معها الصبي الرضيع. وقال الخليل : امرأة مرضع ذات رضيع ، كما يقال امرأة مطفل ذات طفل بلا هاء لأنك تصفها بفعل منها واقع أو لازم ، فإذا وصفتها بفعل هي تفعله قلت : مفعلة كقوله تعالى : (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) وصفها بالفعل فأدخل الهاء في نعتها ، ولو وصفها بأن معها رضيعا ، قال : كل مرضع. اللسان (رضع).

(١٠) في ب : للصبي.

(١١) الكشاف ٣ / ٢٤.

(١٢) ما بين القوسين سقط من ب.

٦

والمرضع (١) يقال للمستأجرة غير الأم ، وهذا مردود بقول الشاعر :

٣٧٤٤ ـ كمرضعة أولاد أخرى وضيّعت

بني بطنها هذا الضّلال عن القصد (٢)

فأطلق المرضعة بالتاء على غير الأم. وقول العرب مرضعة يرد أيضا قول الكوفيين : إن الصفات المختصة بالمؤنث لا يلحقها تاء التأنيث نحو : حائض وطالق (٣). فالذي (٤) يقال : إن قصد النسب فالأمر على ما ذكروا (٥) ، وإن قصد الدلالة على التلبس بالفعل وجبت التاء ، فيقال (٦) : حائضة وطالقة وطامثة (٧).

قوله : (عَمَّا أَرْضَعَتْ) يجوز في «ما» أن تكون مصدرية ، أي : عن إرضاعها ، ولا حاجة إلى تقدير حذف على هذا (٨). ويجوز أن تكون بمعنى (الذي) ، فلا بد من حذف عائد ، أي : أرضعته ، ويقويه تعدي «تضع» إلى مفعول (٩) دون مصدر (١٠). والحمل ـ بالفتح ـ ما كان في بطن أو على رأس شجر ، وبالكسر ما كان (١١) على ظهر (١٢).

قوله : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى). العامة على فتح التاء من «ترى» على خطاب الواحد(١٣).

وقرأ زيد بن عليّ بضم التاء وكسر الراء على أن الفاعل ضمير الزلزلة ، أو الساعة (١٤) وعلى هذه القراءة فلا بد من مفعول أول محذوف ليتمّ المعنى (١٥) به ، أي (١٦) : وتري (١٧) الزلزلة أو الساعة الخلق الناس سكارى. ويؤيد هذا قراءة أبي هريرة

__________________

(١) في ب : والمرضعة. وهو تحريف.

(٢) البيت من بحر الطويل قاله ابن جذل الطعان ، وروي الشطر الثاني : بنيها فلم ترقع بذلك مرقعا.

والشاهد أن الشاعر أطلق المرضعة ـ بالتاء ـ على غير الأم ، ولذلك يرد بهذا البيت على بعض الكوفيين الذين يخصون المرضعة بالأم والمرضع بالمستأجرة وقد تقدم.

(٣) لأنهم لم يحتاجوا في هذه الصفات الخاصة بالمؤنث إلى هاء تفصل بين فعل المذكر والمؤنث ، لأن المذكر لا حظ له في هذا الوصف. وهو قول الفراء ، انظر المذكر والمؤنث لابن الأنباري ١ / ١٧٣ ، والبحر المحيط ٦ / ٣٥٠.

(٤) في ب : والذي.

(٥) في ب : ما ذكر.

(٦) في ب : يقال.

(٧) وهو قول الأخفش وغيره من البصريين. المذكر والمؤنث لابن الأنباري ١ / ١٨٩.

(٨) انظر التبيان ٢ / ٩٣١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٠.

(٩) وهو قوله : «حَمْلَها».

(١٠) انظر التبيان ٢ / ٩٣١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٠. واستظهره أبو حيان.

(١١) ما كان : سقط من ب.

(١٢) انظر اللسان (حمل).

(١٣) انظر التبيان ٢ / ٣٩١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٠.

(١٤) المرجعان السابقان.

(١٥) في ب : به المعنى.

(١٦) في ب : أو. وهو تحريف.

(١٧) في ب : ترى.

٧

وأبي زرعة وأبي نهيك (تَرَى النَّاسَ سُكارى) بضم التاء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله ونصب «النّاس» (١) ، بنوه من المتعدي لثلاثة ، فالأول قام مقام الفاعل وهو ضمير المخاطب ، و (النَّاسَ سُكارى) هما الثاني والثالث (٢).

ويجوز أن يكون متعديا لاثنين فقط على معنى وتري الزلزلة أو الساعة الناس قوما سكارى ، ف «النّاس» هو الأول و «سكارى» هو الثاني وقرأ الزعفراني وعباس (٣) في اختياره (وَتَرَى) كقراءة أبي هريرة إلا أنهما رفعا «النّاس» على أنه مفعول لم يسم (٤) فاعله ، والتأنيث في الفعل على تأويلهم بالجماعة (٥). وقرأ الأخوان (٦)(سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى) على وزن وصفه المؤنثة بذلك(٧) واختلف في ذلك هل هذه صيغة جمع على فعلى (٨) كمرضى وقتلى (٩) ، أو صفة مفردة استغني بها في وصف الجماعة خلاف مشهور تقدم في قوله «أسرى» (١٠). وظاهر كلام سيبويه أنه جمع تكسير فإنه قال : وقوم يقولون : «سكرى» جعلوه مثل مرضى. لأنهما شيئان يدخلان على الإنسان ثم جعلوا روبى مثل سكرى ، وهم المستثقلون نوما لا من شرب الرائب (١١).

وقال الفارسي : ويجوز أن يكون جمع سكر كزمن وزمنى ، وقد حكي : رجل سكر بمعنى (١٢) سكران ، فيجيء سكرى حينئذ لتأنيث الجمع (١٣). قال شهاب الدين : ومن ورود سكر بمعنى سكران قوله :

__________________

(١) المختصر : (٩٤) ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٠.

(٢) في النسختين : هما الأول والثاني. والصواب ما أثبته.

انظر التبيان ٢ / ٩٣١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٠.

(٣) عباس بن عبد الله بن معبد بن عباس بن عبد المطلب العباسي المدني ، عن أخيه إبراهيم وعكرمة ، وعنه ابن جريح وابن إسحاق وابن عيينة. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ٢ / ٣٥.

(٤) في ب : علم ما لم يسم.

(٥) التبيان ٢ / ٩٣١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٠.

(٦) حمزة والكسائي.

(٧) السبعة (٤٣٤) ، الكشف ٢ / ١١٦ ، النشر ٢ / ٣٢٥ ، الإتحاف (٣١٣).

(٨) في ب : فعل. وهو تحريف.

(٩) في ب : وقتل. وهو تحريف.

(١٠) من قوله تعالى : «ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ» [الأنفال : ٦٧]. انظر اللباب ٤ / ١٧٩.

(١١) الكتاب ٣ / ٦٤٩. بتصرف. والنص بلفظه في البحر المحيط ٦ / ٣٥٠. ونص الكتاب : وقد قالوا : رجل سكران وقوم سكرى ، وذلك لأنهم جعلوه كالمرضى. وقالوا رجال روبى ، جعلوه بمنزلة سكرى ، والروبى : الذين قد استثقلوا نوما ، فشبهوه بالكسران ، وقالوا للذين قد أثخنهم السفر والوجع روبى أيضا والواحد : رائب.

(١٢) في ب : يعني.

(١٣) البحر المحيط ٦ / ٣٥٠.

٨

٣٧٤٥ ـ وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني

ثوبي فأنهض نهض الشّارب السّكر

وكنت أمشي على رجلين معتدلا

فصرت أمشي على أخرى من الشّجر (١)

ويروى البيت الأول : الشارب الثمل. وبالراء (٢) أصح لدلالة البيت الثاني عليه (٣).

وقرأ الباقون «سكارى» بضم السين (٤) ، وقد تقدم في البقرة خلاف ، هل هذه الصيغة جمع تكسير أو اسم جمع (٥). وقرأ أبو هريرة وأبو نهيك وعيسى بفتح السين فيهما (٦) ، وهو جمع تكسير واحده سكران (٧). قال أبو حاتم : وهي لغة تميم (٨). وقرأ الحسن والأعرج وأبو زرعة والأعمش «سكرى» (وَما هُمْ بِسُكارى) بضم السين فيهما (٩). فقال ابن جني : هي اسم مفرد كالبشرى بهذا أفتاني أبو علي (١٠). وقال أبو الفضل : فعلى بضم الفاء صفة الواحد من الإناث ، لكنها لما جعلت من صفات الناس وهم جماعة أجريت الجماعة بمنزلة المؤنث الموحد (١١).

__________________

(١) البيتان من بحر البيسط قالهما أبو حية النميري أو عمرو بن أحمر الباهلي وروي (الثمل) مكان (السكر) في البيت الأول ، وهو في المقرب ١١٠ ، والمغني ٢ / ٥٧٩ ، شذور الذهب ١٩٠ ، ٢٧٥ ، المقاصد النحوية ٢ / ١٧٣ وشرح التصريح ١ / ٢٠٤ ، ٢٠٦ ، الهمع ١ / ١٢٨ ، ١٣١ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٩١١ ، وشرح الأشموني ١ / ٢٦٣ ، الخزانة ٩ / ٣٥٥ ، ٣٥٩ ، الدرر ١ / ١٠٢ ، ١٠٩ ، والبيت الثاني في سمط اللآلي ٧٨٥ ، الخصائص ١ / ٢٠٧ ، شذور الذهب ١٩٠ ، وشرح شواهد الشافية ٣٦٠. يثقلني : يتعبني ويعييني. الثمل : السكر.

والشاهد فيهما أن قوله السكر بمعنى السكران. وفيه شاهد آخر وهو أن قوله (ثوبي) بدل من اسم (جعل) لا فاعل (يثقلني) لأنه يشترط في فعل جملة الخبر لأفعال المقاربة أن يكون رافعا لضمير الاسم.

(٢) في النسختين : والثاني. والتصويب من الدر المصون.

(٣) الدر المصون ٥ / ٦٣.

(٤) السبعة (٤٣٤) ، الكشف ٢ / ١١٦ ، النشر ٢ / ٣٢٥ ، الاتحاف (٣١٣).

(٥) عند قوله تعالى : «وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ» [البقرة : ٨٥]. وذكر هناك : وقرأ الجماعة غير حمزة والكسائي «أسارى» وقرأ هو «أسرى» وقرأ «أسارى» بفتح الهمزة ، فقراءة الجماعة تحتمل أربعة أوجه : أحدها : أنها جمع أسرى ، ك (كسلان وكسلى) ، (وسكران وسكرى). والثاني : أنها جمع أسير. الثالث : أنها جمع أسير ، وإنما ضموا الهمزة من أسارى وكان أصلها الفتح كنديم وندامى. والرابع : أنها جمع أسرى الذي هو جمع أسير فيكون جمع الجمع. وأما قراءة حمزة فواضحة لأن فعلى ينقاس في فعيل نحو جريح وجرحى ، وأما «أسارى» بالفتح ، فهي أصل «أسارى» بالضم عن بعضهم. انظر اللباب ١ / ٢٠٢.

(٦) المختصر (٩٤) ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٠.

(٧) فعالى من أمثلة جمع الكثرة ، ومما يطرد فيه ما كان وصفا على فعلان نحو سكران وغضبان ، وعلى فعلى نحو سكرى وغضبى. انظر البحر المحيط ٦ / ٣٥٠ ، شرح الأشموني ٤ / ١٤٣ ـ ١٤٤.

(٨) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٥٠.

(٩) المحتسب ٢ / ٧٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٠.

(١٠) المحتسب ٢ / ٧٤.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٥٠.

٩

وقال الزمخشري : وهو (١) غريب (٢). قال شهاب الدين : ولا غرابة فإن فعلى بضم الفاء كثير مجيئها في أوصاف المؤنثة نحو الرّبّى (٣) والحبلى. وجوّز أبو البقاء فيه أن يكون محذوفا من سكارى (٤) وكان من حق هذا القارىء أن يحرك الكاف بالفتح إبقاء لها على ما كانت عليه وقد رواها بعضهم كذلك عن الحسن (٥). وقرىء «ويرى الناس» بالياء من تحت ، ورفع «النّاس» (٦).

وقرأ أبو زرعة في رواية «سكرى» بالفتح (وَما هُمْ بِسُكارى) بالضم (٧). وعن ابن جبير كذلك إلا أنه حذف الألف من الأول دون الثاني (٨). وإثبات السكر وعدمه بمعنى الحقيقة والمجاز ، أي: (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى)(٩) على التشبيه (وَما هُمْ بِسُكارى)(٩) على التحقيق (١٠). قال الزمخشري : فإن قلت : لم قيل أولا : ترون ، ثم قيل : ترى على الإفراد؟ قلت : لأن الرؤية أولا علقت بالزلزلة ، فجعل الناس جميعا رائين لها ، وهي معلقة أخيرا بكون الناس على حال السكر ، فلا بد أن يجعل كل واحد منهم رائيا لسائرهم (١١).

فصل

روي أن هاتين (١٢) الآيتين نزلتا بالليل (١٣) في غزوة بني المصطلق ، والناس يسيرون ، فنادى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فاجتمعوا حوله ، فقرأهما عليهم ، فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة ، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج على (١٤) الدواب ولم يضربوا الخيام (١٥) ولم يطبخوا القدور ، والناس بين باك وجالس حزين متفكر. فقال عليه‌السلام (١٦) : «أتدرون أيّ ذلك اليوم»؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : «ذلك يوم يقول الله تعالى لآدم : قم فابعث بعث النّار (١٧) من ولدك ، فيقول آدم : وما بعث النّار؟ فيقول الله تعالى من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النّار وواحد إلى الجنّة ، فعند ذلك يشيب الصّغير ،

__________________

(١) في الأصل : هو.

(٢) الكشاف ٣ / ٢٥.

(٣) الربّى على فعلى بالضم : الشاة التي وضعت حديثا. وقيل : الرّبى : الحاجة ، العقدة المحكمة ، النعمة والإحسان ، اللسان (ربب).

(٤) التبيان ٢ / ٩٣٢.

(٥) الدر المصون ٥ / ٣٦ ـ ٦٤.

(٦) انظر التبيان ٢ / ٩٣١.

(٧) البحر المحيط ٦ / ٣٥٠.

(٨) المرجع السابق.

(٩) في الأصل : سكرى.

(١٠) انظر الكشاف ٣ / ٢٤.

(١١) المرجع السابق.

(١٢) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٤.

(١٣) في ب : في الليل.

(١٤) في ب : عن.

(١٥) في ب : القيام. وهو تحريف.

(١٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٧) في الأصل : الناس. وهو تحريف.

١٠

وتضع كلّ ذات حمل حملها ، وترى النّاس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد» قال : فيقولون : وأيّنا ذلك الواحد فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «تسعمائة وتسعة وتسعون من يأجوج ومأجوج ومنكم واحد» (١).

وفي رواية فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «يسّروا وسدّدوا وقاربوا فإنّ معكم خليقتين ما كانتا في قوم إلا كثروا يأجوج ومأجوج» ثم قال : «إنّي لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنّة» فكبّروا وحمّدوا الله ، ثم قال : «إنّي لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنّة» فكبّروا وحمدوا الله ، ثم قال : «إنّي لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنّة ، إنّ أهل الجنّة مائة وعشرون صفّا ، ثمانون من (٢) أمتّي وما المسلمون في الكفّار إلا كالشّامة في جنب البعير ، أو كالشّعرة البيضاء في الثور الأسود» ثم قال : «ويدخل من أمّتي سبعون ألفا الجنّة بغير حساب» فقال عمر : سبعون ألفا. فقال (٣) : «نعم ومع كلّ واحد سبعون ألفا» فقام عكاشة بن محصن وقال : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم. قال : «أنت منهم» فقام رجل من الأنصار وقال مثل قوله (٤) ، فقال (٥) : «سبقك بها عكاشة» (٦). فخاض الناس في السبعين ألفا ، فأخبروا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بما قالوا ، فقال عليه‌السلام (٧) : «هم الذين لا يكذبون ولا يزنون ولا يسرقون ولا (٨) ينظرون وعلى ربهم يتوكلون» (٩).

فصل

معنى الآية قال ابن عباس : «تذهل» تشغل ، وقيل : تتنسى (١٠)(كُلُّ مُرْضِعَةٍ) إذا شاهدت ذلك الهول وقد ألقمت المرضع ثديها نزعته من فيه لما يلحقها من الدهشة (عَمَّا أَرْضَعَتْ) أي عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته ، وهو الطفل ، (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) أي تسقط ولدها التمام وغير التمام. قال الحسن : وهذا يدل على أن الزلزلة تكون في الدنيا ؛ لأن بعد البعث لا يكون حبل (١١). قال القفال : ويحتمل أن يقال : إن من ماتت حاملا أو مرضعة بعثت حاملا ومرضعة تضع حملها من الفزع ، ويحتمل أن يكون المراد من ذهول المرضعة ووضع الحامل على جهة المثل كما تأولوا قوله : (يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً)(١٢)(١٣).

__________________

(١) أخرجه البخاري (تفسير) ٣ / ١٦٠.

(٢) من : سقط من الأصل.

(٣) في ب : قال.

(٤) في ب : مثل قوله تعالى. وهو تحريف.

(٥) فقال : سقط من ب.

(٦) أخرجه البخاري (طب) ٤ / ١٩ ، مسلم (إيمان) ١ / ١٩٧ ـ ١٩٨ ، الترمذي (قيامة) ٤ / ٣٦١ ، الدارمي (رقاق) ٧ / ٣٢٨ ، أحمد ١ / ٢٧١ ، ٤٠١ ، ٢ / ٣٠٢ ، ٣٥١ ، ٤٠٠ ، ٤٠١ ، ٤٥٦ ، ٥٠٢ ، ٤ / ٤٣٦.

(٧) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٨) في ب : وعلى. وهو تحريف.

(٩) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٤.

(١٠) انظر البغوي ٥ / ٥٤٧.

(١١) انظر البغوى ٥ / ٥٤٧.

(١٢) [المزمل : ١٧].

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٥.

١١

و (تَرَى النَّاسَ سُكارى) من الخوف (وَما هُمْ بِسُكارى) من الشراب (١). وقيل : معناه كأنهم سكارى (٥) ، ولكن ما أرهقهم (٢) من خوف عذاب الله هو الذي أذهب عقولهم (٣).

فإن قيل : هل يحصل ذلك الخوف لكل أحد أو لأهل النار خاصة؟

فالجواب : قال قوم إن الفزع الأكبر وغيره يختص بأهل النار ، وإن أهل الجنة يحشرون وهم آمنون ، لقوله : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ)(٤) وقيل : بل يحصل للكل ؛ لأنه سبحانه لا اعتراض (٥) عليه في شيء من أفعاله (٦).

فصل

احتجت المعتزلة (٧) بقوله (إِنَّ زَلْزَلَةَ (٨) السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) وصفها بأنها شيء مع أنها معدومة. وبقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٩) فالشيء الذي قدر الله عليه إما أن يكون موجودا أو معدوما ، والأول محال وإلا لزم كون القادر قادرا على إيجاد الموجود ، وإذا بطل هذا (١٠) ثبت أن الشيء الذي قدر الله عليه معدوم ، فالمعدوم شيء (واحتجوا أيضا بقوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ)(١١) أطلق اسم الشيء على المعدوم في الحال ، فالمعدوم شيء) (١٢). وأجيب عن الأول أن الزلزلة عبارة عن الأجسام المتحركة. وهي جواهر قامت بها أعراض ، وتحقق ذلك في العدم محال ، فالزلزلة (١٣) يستحيل أن تكون شيئا حال عدمها ، فلا بد من التأويل ، ويكون المعنى أنها إذا وجدت صارت شيئا وهذا هو الجواب عن الباقي (١٤).

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ)(٤)

قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ)(١٥) الآية. في النظم وجهان :

الأول : أنه أخبر فيما تقدم عن أهل القيامة وشدتها ، ودعا الناس إلى تقوى الله ، ثم

__________________

(١) انظر البغوي ٥ / ٥٤٨.

(٥) في ب : لا إعراض. وهو تحريف.

(٢) في ب : ما رهقهم.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٥.

(٤) [الأنبياء : ١٠٣].

(٥) في ب : لا إعراض. وهو تحريف.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦.

(٧) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٤ ـ ٥.

(٨) في ب : لزلزلة. وهو تحريف.

(٩) [البقرة : ٢٠] ، وغير ذلك في مواطن كثيرة من القرآن الكريم.

(١٠) هذا : سقط من ب.

(١١) [الكهف : ٢٣ ، ٢٤].

(١٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٣) في الأصل : في الزلزلة. وهو تحريف.

(١٤) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٤ ـ ٥.

(١٥) في الله : سقط من الأصل.

١٢

ميز في هذه الآية قوما من الناس الذين ذكروا في الأولى وأخبر عن مجادلتهم.

الثاني : أنه تعالى بيّن أنه مع هذا التحذير الشديد بذكر زلزلة الساعة وشدائدها ، قال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ)(١).

قوله : (مَنْ يُجادِلُ) يجوز أن تكون «من» نكرة موصوفة (٢) ، وأن تكون موصولة ، و (فِي اللهِ) أي : في صفاته (٣) ، و (بِغَيْرِ عِلْمٍ) مفعول أو حال من فاعل «يجادل» (٤) وقرأ زيد بن عليّ (وَيَتَّبِعُ) مخففا (٥).

فصل

قال المفسرون : نزلت في النضر بن الحارث ، كان كثير الجدل ، وكان يقول : الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين ، وكان ينكر البعث ، وإحياء من صار ترابا ، ويتبع في جداله في الله بغير علم كل شيطان مريد. والمريد : المتمرد المستمر في الشر (٦). يريد شياطين الإنس ، وهم رؤساء الكفار الذين يدعون من دونهم إلى الكفر (٧).

وقيل : أراد إبليس وجنوده ، قال الزجاج : المريد والمارد : المرتفع الأملس. يقال : صخرة مرداء ، أي : ملساء (٨). ويجوز أن يستعمل في غير الشيطان إذا جاوز [حد](٩) مثله (١٠).

قوله : (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ) قرأ العامة «كتب» مبنيا للمفعول ، وفتح «أنّ» في الموضعين(١١). وفي ذلك وجهان :

أحدهما : أن (١٢) «أنّه» وما في حيزه في محل نصب لقيامه مقام الفاعل (١٣) ، فالهاء في «عليه» ، وفي «أنّه» تعودان على «من» المتقدمة (١٤). و «من» الثانية يجوز أن تكون شرطية ، والفاء جوابها ، وأن تكون موصولة والفاء زائدة في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط (١٥) ، وفتحت

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦.

(٢) انظر التبيان ٢ / ٩٣٢.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٥١.

(٤) انظر التبيان ٢ / ٩٣٢.

(٥) البحر المحيط ٦ / ٣٥١.

(٦) انظر البغوي ٥ / ٥٥١ ـ ٥٥٢.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦.

(٨) النص بلفظه من الفخر الرازي ٢٣ / ٦ ، وبالمعنى من معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤١١.

(٩) حد : تكملة تقتضيها السياق.

(١٠) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٤١١ ، الفخر الرازي ٢٣ / ٦.

(١١) البحر المحيط ٦ / ٣٥١ ، الإتحاف (٣١٣).

(١٢) أن : سقط من ب.

(١٣) انظر البيان ٢ / ١٦٨ ، التبيان ٢ / ٩٣٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥١.

(١٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٥١.

(١٥) انظر البيان ٢ / ١٦٨ ، التبيان ٢ / ٩٣٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥١.

١٣

«أن» الثانية ، لأنها وما في حيزها في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره : فشأنه وحاله أنه يضله ، أو يقدر «فأنّه» مبتدأ والخبر محذوف أي : فله أنه يضله (١).

الثاني : قال الزمخشري : ومن فتح (٢) فلأن الأول فاعل كتب ، والثاي عطف عليه (٣).

قال أبو حيان : وهذا لا يجوز ؛ لأنك إذا جعلت «فأنّه» عطفا على «أنه» بقيت «أنه» بلا استيفاء خبر ، لأن (مَنْ تَوَلَّاهُ) «من» فيه مبتدأة فإن قدرتها موصولة فلا خبر لها حتى تستقل (٤) خبرا ل «أنّه» ، وإن جعلتها شرطية فلا جواب لها ، إذ جعلت «فأنه» عطفا على «أنه» (٥). قال شهاب الدين : وقد ذهب ابن عطية إلى مثل قول الزمخشري فإنه قال : و «أنه» في موضع رفع (على المفعول الذي لم يسم فاعله. و «أنه» الثانية عطف على الأولى مؤكد (٦) وهذا رد واضح (٧). وقرىء «كتب» مبنيا للفاعل ، أي : كتب الله (٨) ، ف (أن) وما في حيزها في محل نصب) (٩) على المفعول به ، وباقي الآية على ما تقدم.

وقرأ الأعمش والجعفي (١٠) عن أبي عمرو «إنه ، فإنه» (١١) بكسر الهمزتين (١٢).

وقال ابن عطية : وقرأ أبو عمرو «إنه ، فإنه» بالكسر فيهما (١٣) وهذا يوهم أنه مشهور

__________________

(١) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ٩١ ـ ٩٢ ، البيان ٢ / ١٦٨ ، التبيان ٢ / ٩٣٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥١.

(٢) في ب : يفتح. وهو تحريف.

(٣) الكشاف ٣ / ٢٥. وقد سبقه الزجاج حيث ذكر هذا الوجه في معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤١١ فإنه قال : ((فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) عطف عليه ، وموضعه رفع أيضا) ورد عليه مكي في مشكل إعراب القرآن ٢ / ٩١ بأنه لا يجوز العطف على «أن» الأولى إلا بعد تمامها ، لأن ما بعدها من صلتها ، إذ أن «من» في قوله (مَنْ تَوَلَّاهُ) شرط والفاء جواب الشرط ، والشرط وجوابه في هذه الآية هما خبر «أن» الأولى.

(٤) في ب : يشتغل.

(٥) البحر المحيط ٦ / ٣٥١.

(٦) تفسير ابن عطية ١١ / ٢٢٧ وقد سبقه الزجاج فإنه ذكر في معاني القرآن وإعرابه (وحقيقة «أن» الثانية أنها مكررة مع الأولى على جهة التوكيد ، لأن المعنى كتب عليه أنّه من تولّاه أضله) ٣ / ٤١١ ، وقول الزجاج هذا جاء بعد قوله :(«فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ» عطف عليه). ورد عليه مكي هذا الوجه بقوله : (كيف تكون للتأكيد والمؤكد لم يتم؟ وإنما يصلح التأكيد بعد تمام المؤكد ، وتمام «أن» الأولى عند قوله : «السعير»). مشكل إعراب القرآن ٢ / ٩١. وذكر هذا الوجه أيضا ابن الأنباري وضعفه من وجهين الأول : كما ذكر مكي بأن التوكيد لا يكون إلا بعد تمام الموصول بصلته كالعطف. والثاني : أن الفاء قد دخلت بين «أن» الأولى والثانية ، والفاء لا تدخل بين المؤكد والمؤكد ، وقد وجد هنا ، فينبغي ألا يكون توكيدا. انظر البيان ٢ / ١٦٨ ـ ١٦٩.

(٧) الدر المصون ٥ / ٦٤.

(٨) انظر التبيان ٢ / ٩٣٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥١.

(٩) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٠) تقدم.

(١١) في ب : وإنه ، وهو تحريف.

(١٢) المختصر (٩٤) ، البحير المحيط ٦ / ٣٥١.

(١٣) تفسير ابن عطية : ١ / ٢٢٧.

١٤

عنه ، وليس كذلك (١). وفي تخريج هذه القراءة ثلاثة أوجه ، ذكرها (٢) الزمخشري :

الأول : أن يكون على حكاية المكتوب كما هو ، كأنه قيل : كتب عليه هذا اللفظ ، كما تقول: كتب عليه إن الله هو الغني الحميد.

الثاني : أن يكون على إضمار قيل.

الثالث : أن «كتب» فيه معنى قيل (٣).

قال أبو حيان : أما تقدير قيل يعني فيكون «عليه» في موضع مفعول ما لم يسأم فاعله ، و (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) الجملة مفعول لم يسأم لقيل المضمر ، وهذا ليس مذهب البصريين فإن الجملة عندهم لا تكون فاعلا فلا تكون مفعول ما لم يسأم فاعله (٤). وكان أبو حيان قد اختار ما بدأ به الزمخشري أولا(٥) ، وفيه ما فر منه وهو أنه أسند الفعل إلى الجملة ، فاللازم مشترك ، وقد تقدم تقرير مثل هذا في أول البقرة (٦). ثم قال : وأما الثاني يعني أنه ضمن «كتب» معنى القول ـ ، فليس مذهب البصريين ، لأنه لا تكسر «أن» عندهم إلا بعد القول الصريح ، لا ما هو بمعناه (٧). والضميران في «عليه» و «أنه» عائدان على «من» الأولى كما تقدم ، وكذلك الضمائر في «تولاه» و «فأنه» والمرفوع في (يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ) لأن من الأولى هو (٨) المحدث عنه (٩) والضمير المرفوع في «تولاه» والمنصوب في (يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ) عائد على «من» الثانية (١٠).

وقيل : الضمير في «عليه» ل (كُلَّ شَيْطانٍ)(١١) ، والضمير في «فأنه» للشأن (١٢).

__________________

(١) أي : أنه ليس مشهورا عن أبي عمرو ، والظاهر أن ذلك من إسناد «كتب» إلى الجملة إسنادا لفظيا ، أي : كتب عليه هذا الكلام ، كما تقول : كتب : إن الله يأمر بالعدل.

البحر المحيط ٦ / ٣٥١.

(٢) في الأصل : ذكر. وهو تحريف.

(٣) الكشاف ٣ / ٢٥. ولم يذكر أبو البقاء في توجيه هذه القراءة غير الوجه الثاني قال : (وقرى بالكسر فيها حملا على معنى قيل له) التبيان ٢ / ٩٣٢.

(٤) البحر المحيط ٦ / ٣٥١. بتصرف يسير. وقد سبق أن ذكرت الاختلاف في الفاعل ونائبه هل يكونان جملة أم لا؟

(٥) حيث قال : (والظاهر أن ذلك من إسناد «كتب» إلى الجملة إسنادا لفظيا أي كتب عليه هذا الكلام كما تقول كتب إن الله يأمر بالعدل) البحر المحيط ٦ / ٣٥١.

(٦) عند قوله تعالى : «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ» الآية (١١) ، انظر اللباب ١ / ٦٢ ـ ٦٣.

(٧) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٥١. بتصرف يسير.

(٨) في ب : وهو.

(٩) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٥١.

(١٠) المرجع السابق.

(١١) انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢١٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥١.

(١٢) انظر البيان ٢ / ١٦٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥١.

١٥

وقال ابن عطية : الذي يظهر لي أن الضمير الأول في «أنه» يعود على (كُلَّ شَيْطانٍ) وفي «فأنه» يعود على «من» الذي هو المتولى (١).

فصل (٢)

قيل : معنى (كُتِبَ عَلَيْهِ) مثل ، أي : كأنما كتب إضلال من يتولاه عليه لظهور ذلك في حاله. وقيل : كتب (٣) عليه في أم الكتاب. واعلم أن هذا الكلام يحتمل أن يكون راجعا إلى (مَنْ يُجادِلُ) ، وأن يرجع إلى الشياطين. فإن رجع إلى (مَنْ يُجادِلُ) فإنه يرجع إلى لفظه الذي هو موحد فكأنه قال : كتب : من يتبع الشيطان أضله عن الجنة وهداه إلى النار ، وذلك زجر منه ، فكأنه قال : كتب على من هذا حاله أن يصير أهلا لهذا الوعد. وإن رجع إلى الشيطان كان المعنى ويتبع كل شيطان مريد قد كتب عليه أنه من يتولاه فهو ضال. وعلى هذا الوجه أيضا يكون زجرا عن اتباعه.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُور)(٧)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) الآية. لما حكى عنهم الجدال بغير علم في إثبات الحشر والنشر ، وذمهم عليه ، ألزمهم الحجة ، وأورد الدلالة على صحة ذلك من وجهين :

أحدهما : الاستدلال بخلقة الحيوان أولا ، ثم بخلقة النبات ثانيا ، وهذا موافق لما أجمله في قوله : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ)(٤) وقوله : (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)(٥). فكأنه تعالى قال : (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) أي شك من البعث ففكروا في خلقتكم الأولى لتعلموا أن القادر على خلقكم أولا قادر على خلقكم ثانيا (٦).

__________________

(١) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٢٧.

(٢) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٦ ـ ٧. بتصرف يسير.

(٣) كتب : سقط من الأصل.

(٤) [يس : ٧٩].

(٥) [الإسراء : ٥١].

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٨.

١٦

قوله : (مِنَ الْبَعْثِ). يجوز أن يتعلق ب (رَيْبَ) ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل (رَيْبَ)(١). وقرأ الحسن «البعث» بفتح العين (٢) ، وهي لغة كالطرد والحلب في الطرد والحلب(٣) بالسكون. قال أبو حيان : والكوفيون إسكان العين عندهم تخفيف فيما وسطه حرف حلق كالنهر والنهر ، والشعر والشعر ، والبصريون لا يقيمونه ، وما ورد من ذلك هو عندهم مما جاء فيه لغتان (٤)(٥). وهذا يوهم ظاهره أن الأصل : البعث ـ بالفتح ـ وإنما خفف ، وليس الأمر كذلك وإنما محل النزاع إذا سمع الحلقي مفتوح العين هل يجوز تسكينه أم لا؟ لا أنه كلما جاء ساكن العين من ألحقها يدعي أن أصلها بالفتح كما هو ظاهر عبارته.

قوله : (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) أي : خلقنا أصلكم وهو آدم من تراب نظيره قوله : (كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ)(٦) وقوله : (مِنْها خَلَقْناكُمْ)(٧)(٨). ويحتمل أن خلقة الإنسان من المني ودم الطمث وهما إنما يتولدان من الأغذية ، والأغذية إما حيوان أو نبات ، وغذاء الحيوان ينتهي إلى النبات قطعا للتسلسل والنبات إنما يتولد من الأرض والماء فصح قوله : «إنا خلقناكم من تراب» (٩).

فصل

قال النووي (١٠) في التهذيب : التراب معروف ؛ والمشهور الصحيح الذي قاله الفراء والمحققون أنه جنس لا يثنى ولا يجمع (١١). ونقل أبو عمر الزاهد (١٢) في شرح الفصيح

__________________

(١) انظر التبيان ٢ / ٩٣٣.

(٢) المختصر (٩٤) ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٢.

(٣) والحلب : سقط من الأصل.

(٤) ذهب الكوفيون إلى أن ما كان على (فعل) بفتح الفاء وسكون العين وكانت عينه حرفا حلقيا جاز تحريكه بالفتح نحو الشعر والشعر والبحر والبحر لمناسبة حرف الحلق للفتح ، فجعلوا المفتوح العين فرعا لساكنها ، ورأوا هذا قياسا في كل فعل شأنه ما ذكرناه.

وذهب البصريون إلى أن ما جاء من هذا فيه اللغتان تكلم به على ما جاء وما كان لم يسمع لم يجز فيه التحريك نحو وعد ، لأنك لا تقول : لك علي وعد أي : علي وعدة.

معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٤١١ ، شرح الشافية ١ / ٤٧.

(٥) البحر المحيط ٦ / ٣٥٢.

(٦) من قوله تعالى : «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» [آل عمران : ٥٩].

(٧) من قوله تعالى : «مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى» [طه : ٥٥]. الفخر الرازي ٢٣ / ٨.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٨.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٨.

(١٠) تقدم.

(١١) قال الرضي : (وعند الفراء كل ما له واحد من تركيبه سواء كان اسم جمع كباقر وركب أو اسم جنس كتمر وروم ، فهو جمع وإلا فلا. وأما اسم الجمع واسم الجنس اللذان ليسا لهما واحد من لفظهما فليسا بجمع اتفاقا نحو إبل وتراب وإنما لم يجىء لمثل تراب وخل مفرد بالتاء إذ ليس له فرد متميز عن غيره كالتفاح والتمر والجوز) شرح الكافية ٢ / ١٧٨.

(١٢) هو محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم أبو عمر الزاهد المطرز اللغوي غلام ثعلب ، ومن مصنفاته ـ

١٧

عن المبرد أنه قال : هو جمع واحدته ترابة ، والنسبة إلى التراب ترابي (١). وذكر النحاس في كتابه صناعة الكتاب : في التراب خمس عشرة (٢) لغة فقال (٣) يقال : تراب وتورب على وزن جعفر ، وتوراب ، وتيرب ـ بفتح أولهما ـ والإثلب والأثلب الأول بكسر الهمزة واللام ، والثاني بفتحهما (٤) ، والثاء مثلاثة فيهما (٥) ومنه قولهم : بفيه الأثلب ، وهو الكثكث ـ بفتح الكافين وبالثاء المثلاثة المكررة ، والكثكث ـ بكسر الكافين ـ والدقعم ـ بكسر الدال والعين ـ والدقعاء بفتح الدال والمد ، والرغام ـ بفتح الراء والغين المعجمة ـ ومنه : أرغم الله أنفه ، أي : ألصقه بالرغام وهو البرا (٦) مقصور مفتوح الباء الموحدة كالعصا ، والكلخم (٧) بكسر الكاف والخاء المعجمة وإسكان اللام بينهما (٨) ، والكلخ بكسر الكاف واللام وإسكان الميم بينهما والخاأ أيضا معجمة ، والعثير بكسر العين المهملة وإسكان الثاء المثلاثة وبعدها مثناة من تحت مفتوحة (٩).

قوله : (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) والنطفة اسم للماء القليل ، أي ماء كان ، وهوهنا ماء الفحل ، وجمعها نطاف (١٠) ، فكأنه سبحانه يقول : أنا الذي قلبت ذلك التراب اليابس ماء لطيفا مع أنه لا مناسبة بينهما (١١). والمراد من الخلق من النطفة الذرية.

قوله : (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) والعلقة قطعة الدم الجامدة ، وجمعها علق ولا شك أن بين الماء وبين الدم الجامد مباينة شديدة (١٢). وعن بعضهم وقد سئل عن أصعب الأشياء فقال : وقع الزلق على العلق ، أي : على دم القتلى في المعركة (١٣).

قوله : (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) المضغة : القطعة من اللحم قدر ما يمضغ (١٤) نحو الغرفة ، والأكلة بمعنى المغروفة والمأكولة.

__________________

ـ اليواقيت ، شرح الفصيح ، غريب مسند أحمد وغير ذلك ، مات سنة ٣٤٥ ه‍ ببغداد. بغية الوعاة ١ / ١٦٤ ـ ١٦٦.

(١) لأنك إذا نسبت إلى ما يدل على الجمع فإن كان اللفظ جنسا كتمر وضرب أو اسم جمع كنفر ورهط وإبل نسبت إلى لفظه نحو تمري وإبلي سواء كان اسم الجمع مما جاء من لفظه ما يطابق على واحده كراكب في ركب أولم يجىء كغنم وإبل. شرح الشافية ٢ / ٧٨.

(٢) في النسختين : اثني عشر. والصواب ما أثبته.

(٣) فقال : تكملة من التهذيب.

(٤) في ب : الأول بكسر الهمزة والثاني بفتحها.

(٥) فيهما : سقط من ب.

(٦) في النسختين : التراب. والصواب ما أثبته.

(٧) في ب : الكلخ. وهو تحريف.

(٨) في ب : هاهنا. وهو تحريف.

(٩) تهذيب الأسماء واللغات القسم الثاني ١ / ٤٠ ـ ٤١.

(١٠) قياس جمع نطفة نطف ، لأن ما كان اسما على فعلة يجمع على فعل ، وقد يجمع على فعال ، وهو مما يحفظ كبرمة وبرام. انظر شرح الأشموني ٤ / ١٣٠ ، ١٣٥.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩.

(١٢) الفخر الرازي ٢٣ / ٩.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩.

(١٤) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٢٢٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٢.

١٨

قوله : (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) العامة على الجر في (مُخَلَّقَةٍ) وفي (غَيْرِ) على النعت. وقرأ ابن أبي عبلة بنصبهما (١) على الحال من النكرة ، وهو قليل جدا ، وإن كان سيبويه قاسه (٢).

والمخلقة : الملساء التي لا عيب فيها من قولهم : صخرة خلقاء ، أي : ملساء (٣) وخلقت السواك: سويته وملسته. وقيل : التضعيف في (مُخَلَّقَةٍ) دلالة على تكثير الخلق ؛ لأن الإنسان ذو أعضاء متباينة وخلق متفاوتة. قاله الشعبي وقتادة وأبو العالية (٤) وقال ابن عباس وقتادة : (مُخَلَّقَةٍ) تامة الخلق ، و (غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) أي ناقصة الخلق (٥). وأبو مجاهد : مصورة وغير مصورة ، وهو السقط(٦). وقيل : المخلقة من تمت فيه أحوال الخلق ، وغير المخلقة من لم يتم فيه أحوال الخلق قاله قتادة والضحاك(٧). وقيل : المخلقة (٨) الولد الذي تأتي به المرأة لوقته ، وغير المخلقة السقط. وروى علقمة عن ابن مسعود قال : «إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه ، وقال : أي رب (٩) مخلقة أو غير مخلقة ، فإن قال : غير مخلقة قذفها في الرحم دما ولم يكن نسمة ، وإن قال : مخلقة ، قال الملك : أي رب أذكر (١٠) أم أنثى أشقي (١١) أم سعيد ، ما الأجل ما العمل ما الرزق وبأي أرض تموت؟ فيقال له : اذهب إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها كل ذلك ، فيذهب فيجدها في أم الكتاب فينسخها (١٢) فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفته». قوله : (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) أي : لنبين لكم كمال قدرتنا وحكمتنا في تصريف أطوار خلقكم لتستدلوا بقدرته في ابتداء الخلق على قدرته على الإعادة (١٣) وقيل : لنبين لكم أن تغيير الصفة والخلقة هو اختيار

__________________

(١) لما كان الحال خبرا في المعنى ، وصاحبها مخبرا عنه أشبه المبتدأ فلم يجز مجيء الحال من النكرة غالبا إلا بمسوغ من مسوغات الابتداء بها ، ومن النادر قولهم : عليه مائة بيضا ، وفيها رجل قائما ، واختار أبو حيان مجيء الحال من النكرة بلا مسوغ كثيرا قياسا ونقله عن سيبويه ، قال سيبويه في باب ما لا يكون الاسم فيه إلا نكرة : (... وقد يجوز نصبه على نصب هذا رجل منطلقا ، وهو قول عيسى. وزعم الخليل أن هذا جائز ، ونصبه كنصبه في المعرفة ، جعله حالا ولم يجعله صفة. ومثل ذلك مررت برجل قائما ، إذا جعلت المرور به في حال قيام. وقد يجوز على هذا : فيها رجل قائما ، وهو قول الخليل رحمه‌الله. ومثل ذلك : عليه مائة بيضا ، وعليه مائة عينا ، والرفع الوجه) الكتاب ٢ / ١١٢ ، انظر البحر المحيط ٦ / ٣٥٢ ، الهمع ١ / ٢٤٠.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩.

(٣) الفخر الرازي ٢٣ / ٩.

(٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٥٢.

(٥) انظر البغوي ٥ / ٥٥٣.

(٦) انظر البغوي ٥ / ٥٥٣.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩.

(٨) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٥٥٣ ـ ٥٥٤.

(٩) في الأصل : رب أي. وهو تحريف.

(١٠) في ب : ذكر. وهو تحريف.

(١١) في ب : شقي. وهو تحريف.

(١٢) في الأصل : فنسخها. وهو تحريف.

(١٣) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٥٥٣ ـ ٥٥٤.

١٩

من الفاعل المختار ، ولو لا ه لما صار بعضه (١) مخلقا وبعضه غير مخلق (٢) وقيل : لنبين لكم ما تأتون وما تذرون وما تحتاجون إليه في العبادة (٣).

قوله : (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) العامة على رفع (وَنُقِرُّ) ، لأنه مستأنف ، وليس علة(٤) لما قبله فينصب نسقا على ما تقدم (٥). وقرأ يعقوب ، وعاصم في روآية بنصبه (٦).

قال أبو البقاء : على أن يكون معطوفا في اللفظ والمعنى مختلف ، لأن اللام في (لِنُبَيِّنَ) للتعليل واللام المقدرة مع (٧)(نُقِرُّ) للصيرورة (٨). وفيه نظر ، لأن قوله : معطوفا في اللفظ. يدفعه قوله : واللام المقدرة. فإن تقدير اللام يقتضي النصب بإضمار (أن) بعدها لا (٩) بالعطف على ما قبله. وعن عاصم أيضا : (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ) بنصب الجيم (١٠). وقرأ ابن أبي عبلة «ليبين» و «يقر» بالياء من تحت فيهما (١١) ، والفاعل هو الله تعالى كما في قراءة النون.

وقرأ يعقوب في روآية «ونقر» بفتح النون وضم القاف ورفع الراء من قر الماء يقره أي : صبه(١٢). وقرأ أبو زيد النحوي «ويقر» بفتح الياء من تحت وكسر القاف ونصب الراء (١٣) أي : ويقر الله وهو من قر الماء إذا صبه. وفي الكامل (١٤) لابن جبارة (١٥)(لِنُبَيِّنَ ، وَنُقِرُّ ، ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ) بالنصب فيهن يعني بالنون في الجميع ، المفضل بالياء فيهما مع النصب أبو حاتم ، وبالياء والرفع عن عمر بن شبة(١٦). انتهى (١٧).

وقال الزمخشري : والقراءة بالرفع إخبار بأنه تعالى : يقر في الأرحام ما يشاء أن يقره. ثم قال : والقراءة بالنصب تعليل معطوف على تعليل ومعناه : جعلناكم مدرجين هذا التدريج لغرضين :

__________________

(١) في الأصل : بعده. وهو تحريف.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩.

(٣) انظر البغوي ٥ / ٥٥٤.

(٤) في ب : علمه. وهو تحريف.

(٥) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٤١٢ ، البيان ٢ / ١٦٩ ، التبيان ٢ / ٩٣٣.

(٦) البحر المحيط ٦ / ٣٥٢.

(٧) في ب : في.

(٨) انظر التبيان ٢ / ٩٣٣.

(٩) في ب : إلا. وهو تحريف.

(١٠) عطفا على «وَنُقِرُّ» إذا نصب. البحر المحيط ٦ / ٣٥٢.

(١١) الكشاف ٣ / ٢٦ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٢.

(١٢) المرجعان السابقان.

(١٣) المختصر (٩٤) ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٢.

(١٤) في ب : وفي الكاف. وهو تحريف.

(١٥) هو يوسف بن علي بن جبارة أبو القاسم الهذلي اليشكري ، طاف البلاد في طلب القراءات ومن شيوخه إبراهيم بن أحمد الأربلي وإبراهيم بن الخطيب وأحمد بن الصقر وغيرهم ، ومن مؤلفاته كتاب الكامل ، مات سنة ٤٦٥ ه‍. طبقات القراء ٢ / ٣٩٧ ـ ٤٠١.

(١٦) هو عمر بن شبة بن عبيدة النميري أبو زيد البصري ، الحافظ الأخباري الأديب ، عن عمر بن علي المقدمي والقطان وأبي نعيم وغيرهم. مات سنة ٢٦٢ ه‍. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ٢ / ٢٧١.

(١٧) البحر المحيط ٦ / ٣٥٢.

٢٠