اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٤

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٤

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

فصل

لما بين أنهم إنما أذنوا في القتال لأجل أنهم ظلموا ، فسر ذلك الظلم بقوله (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) ، فبين تعالى ظلمهم لهم بهذين الوجهين :

الأول : أنهم أخرجوا من ديارهم.

والثاني : أخرجوهم بسبب قولهم : (رَبُّنَا اللهُ). وكل واحد من الوجهين عظيم في الظلم (١).

قوله : (إِلَّا أَنْ يَقُولُوا). فيه وجهان :

أحدهما : أنه منصوب على الاستثناء المنقطع (٢) ، وهذا مما يجمع العرب على نصبه ، لأنه منقطع لا يمكن توجه العامل إليه ، وما كان كذا أجمعوا على نصبه نحو : ما زاد إلا ما نقص ، وما نفع إلا ما ضر. فلو توجه العامل جاز فيه لغتان : النصب وهو لغة الحجاز ، وأن يكون كالمتصل في النصب والبدل (٣) نحو ما فيها أحد إلا حمار (٤). وإنما كانت الآية الكريمة من الذي لا يتوجه عليه العامل (٥) ، لأنك لو قلت : الذين أخرجوا من ديارهم إلا أن يقولوا ربنا الله لم يصح (٦).

الثاني : أنه في محل جر بدلا من «حقّ».

قال الزمخشري : أي بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإخراج والتسيير ، ومثله (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ)(٧)(٨) انتهى.

وممن جعله في موضع جر بدلا مما قبله الزجاج (٩). إلا أن أبا حيان رد ذلك فقال : ما أجازاه من البدل لا يجوز ، لأن البدل لا يجوز إلا (١٠) حيث سبقه نفي أو نهي

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٠.

(٢) وهو الراجح. تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٨٨ ـ ٢٨٩ ، البيان ٢ / ١٧٧ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٤.

(٣) وهو لغة تميم.

(٤) انظر هذه القضية في البحر المحيط ٦ / ٣٧٤ ، وشرح التصريح ١ / ٣٤٨ ـ ٣٥٣ ، وشرح الأشموني ٢ / ١٤١ ـ ١٤٨.

(٥) العامل : سقط من ب.

(٦) البحر المحيط ٦ / ٣٧٤.

(٧) من قوله تعالى : «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ» [المائدة : ٥٩].

(٨) الكشاف ٣ / ٢٤.

(٩) فإنه قال :(«أن» في موضع جر ، المعنى أخرجوا بلاحق إلا بقولهم : ربنا الله أي لم يخرجوا إلا بأن وحدوا الله ، فأخرجتهم عبدة الأوثان لتوحيدهم) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤٣٠.

(١٠) في ب : إلا من.

١٠١

أو استفهام في معنى النفي (نحو : ما قام أحد إلا زيد ، ولا يضرب أحد إلا زيد ، وهل يضرب أحد إلا زيد) (١) وأما إذا كان الكلام موجبا أو أمرا فلا يجوز البدل (لا يقال : قام القوم إلا زيد ، على البدل ، ولا يضرب القوم إلا زيد ، على البدل) (٧) لأن (٢) البدل لا يكون إلا حيث يكون العامل يتسلط عليه ، ولو قلت : قام إلا زيد ، و (٣) ليضرب إلا عمرو لم يجز. ولو قلت في غير القرآن : أخرج الناس من ديارهم إلا أن يقولوا لا إله إلا الله لم يكن كلاما ، هذا إذا تخيل أن يكون (إِلَّا أَنْ يَقُولُوا) في موضع جر بدلا من «غير» المضاف إلى «حقّ» ، وأما إذا كان بدلا من «حق» كما نص عليه الزمخشري فهو في غاية الفساد ، لأنه يلزم منه أن يكون البدل يلي (٤) غيرا فيصير التركيب : بغير إلا أن يقولوا ؛ وهذا لا يصح ، ولو قدرنا (إلا) (٥) بغير كما نقدر في النفي ما مررت بأحد إلا زيد ، فنجعله بدلا لم يصح ، لأنه يصير التركيب : بغير قولهم ربنا الله ، فيكون قد أضيف غير إلى غير ، وهي هي ، فيصير بغير غير ، ويصح في (٦) ما مررت بأحد إلا زيد ، أن تقول : ما مررت بغير زيد ، ثم إن الزمخشري حين (٧) مثل البدل وقدره بغير موجب سوى التوحيد ، وهذا تمثيل للصفة جعل (إلا) (١١) بمعنى سوى ، ويصح على الصفة ، فالتبس عليه باب الصفة بباب البدل ، ويجوز أن تقول : ما مررت بالقوم إلا زيد على الصفة لا على البدل (٨).

قوله : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ) تقدم الخلاف فيه في البقرة وتوجيه القراءتين (٩).

وقرأ نافع وابن كثير «لهدمت» بالتخفيف ، والباقون بتثقيل الدال (١٠) على التكثير ، لأن المواضع كثيرة متعددة ، والقراءة الأولى صالحة لهذا المعنى أيضا (١١).

قوله : (صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ) العامة على «صلوات» بفتح الصاد واللام جمع صلاة (١٢) وقرأ جعفر بن محمد «وصلوات» بضمّهما (١٣). وروي عنه أيضا بكسر الصاد وسكون اللام (١٤). وقرأ الجحدري بضم الصاد وفتح اللام (١٥). وأبو العالية بفتح

__________________

(١) ما بين القوسين تكملة من البحر المحيط.

(٧) في ب : عين. وهو تحريف.

(٢) في ب : إلا أن.

(٣) في ب : أو.

(٤) في ب : يل.

(٥) إلا : تكملة من البحر المحيط.

(٦) في ب : سقط من الأصل.

(٧) في ب : عين. وهو تحريف.

(١١) في ب : صالحة له والمعنى أيضا.

(٨) البحر المحيط ٦ / ٣٧٤.

(٩) عند قوله تعالى : «وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ» [البقرة : ٢٥١].

(١٠) السبعة (٤٣٨) ، الكشف ٢ / ١٢١ ، النشر ٢ / ٣٢٧ ، الإتحاف (٣١٦).

(١١) في ب : صالحة له والمعنى أيضا.

(١٢) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٩١ ، التبيان ٢ / ٩٤٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٥.

(١٣) في النسختين : بضمها. والصواب ما أثبته. المحتسب ٢ / ٨٣ ، والتبيان ٢ / ٩٤٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٥ ، وحكاها ابن خالويه عنه بضم الصاد وسكون اللام. المختصر (٩٦).

(١٤) «صلوات». البحر المحيط ٦ / ٣٧٥.

(١٥) «صلوات» المحتسب ٢ / ٨٣ ، التبيان ٢ / ٩٤٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٥.

١٠٢

الصاد وسكون اللام (١) ، والجحدري أيضا «وصلوت» بضمهما (٢) وسكون الواو بعدهما تاء مثناة من فوق مثل صلب وصلوب (٣) والكلبي والضحاك كذلك إلا أنهما أعجما التاء بثلاث من فوقها (٤). والجحدري أيضا وأبو العالية وأبو رجاء ومجاهد كذلك إلا أنهم جعلوا بعد الثاء المثلثة ألفا فقرءوا «صلوثا»(٥) ، وروي عن مجاهد في هذه التاء المثناة من فوق أيضا (٦) ، وروي عن الجحدري أيضا «صلواث» بضم الصاد وسكون اللام وألف بعد الواو والثاء مثلثة (٧). وقرأ عكرمة «صلويثا» بكسر الصاد وسكون اللام وبعدها واو مكسورة بعدها ياء مثناة من تحت بعدها ثاء مثلثة بعدها ألف (٨) وحكى ابن مجاهد (٩) أنه قرىء «صلواث» بكسر الصاد وسكون اللام بعدها واو بعدها ألف بعدها ثاء مثلثة(١٠). وقرأ الجحدري «وصلوب» مثل كعوب بالباء الموحدة (١١) وهو جمع صليب وفعول جمع فعيل شاذ نحو ظريف وظروف وأسينة وأسون (١٢). وروي عن أبي عمرو (١٣) «صلوات» كالعامة إلا أنه لم ينون ، منعه الصرف للعلمية والعجمة ، كأنه جعله اسم موضع (١٤) فهذه أربع عشرة قراءة المشهور منها واحدة وهي هذه الصلوات (١٥) المعهودة. ولا بد من حذف مضاف ليصح تسلط الهدم أي مواضع صلوات ، أو تضمن «هدّمت» معنى عطلت ، فيكون قدرا مشتركا بين المواضع والأفعال فإن تعطيل كل شيء بحسبه ، وأخر المساجد لحدوثها في الوجود أو الانتقال إلى الأشرف (١٦). والصلوات في الأمم الملتين صلاة كل

__________________

(١) «صلوات» المختصر (٩٦) ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٥.

(٢) في الأصل : بضمها.

(٣) المختصر (٩٦) ، المحتسب ٢ / ٨٣ ، التبيان ٢ / ٩٤٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٥. قال الكلبي : «صلوت» : مساجد اليهود. وقال الجحدري : «صلوت» مساجد النصارى. المحتسب ٢ / ٨٤.

(٤) «صلوث». البحر المحيط ٦ / ٣٧٥. قال قطرب : صلوث بالثاء : بعض بيوت النصارى. قال : والصلوث : الصوامع الصغار لم يسمع لها بواحد. المحتسب ٢ / ٨٥.

(٥) في الأصل : صلوة ، وهو تحريف. المختصر (٩٦) ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٥.

(٦) «صلوتا». المحتسب ٢ / ٨٣.

(٧) المختصر (٩٦) ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٥.

(٨) المختصر (٩٦) ، المحتسب ٢ / ٤٣ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٥.

(٩) أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد التميمي الحافظ أبو بكر بن مجاهد البغدادي ، أول من سبع السبعة ، قرأ على عبد الرحمن بن عبدوس وقنبل المكي وعبد الله بن كثير وغيرهم وروى عنه إبراهيم بن أحمد الحطاب وإبراهيم بن عبد الرحمن بن أحمد وغيرهما. مات سنة ٣٢٤ ه‍. طبقات القراء ١ / ١٣٩ ـ ١٤٢.

(١٠) المختصر (٩٦) ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٥.

(١١) المختصر (٩٦) ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٥.

(١٢) الأسينة : سير واحد من سيور تضفر جميعها فتجعل نسعا أو عنانا ، وكلّ قوة من قوى الوتر أسينة.

والجمع أسائن. اللسان (أسن) البحر المحيط ٦ / ٣٧٥.

(١٣) أي : وروى هارون عن أبي عمرو.

(١٤) البحر المحيط ٦ / ٣٧٥.

(١٥) في ب : الصلوة. وهو تحريف.

(١٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٧٥.

١٠٣

ملة (١) بحسبها. وظاهر كلام الزمخشري أنها بنفسها اسم مكان فإنه قال : وسميت الكنيسة صلاة لأنها يصلى فيها ، وقيل : هي كلمة معربة أصلها بالعبرانية صلوتا انتهى (٢).

وأما غيرها من القراءات ، فقيل : هي سريانية أو عبرانية دخلت في لسان العرب ولذلك كثر فيها اللغات (٣) والصوامع : جمع صومعة ، وهي البناء المرتفع الحديد الأعلى من قولهم رجل أصمع ، وهو الحديد القول ، ووزنها فوعلة كدوخلة (٤) ، وهي متعبد الرهبان لأنهم ينفردون. وقال قتادة : للصابئين (٥). والبيع جمع بيعة وهي متعبد النصارى قاله قتادة والزجاج (٦).

وقال أبو العالية هي كنائس اليهود (٧). وقال الزجاج : الصوامع للنصارى ، وهي التي بنوها في الصحارى ، والبيع لهم أيضا وهي التي بنوها في البلد ، والصلوات لليهود (٨).

وقال الزجاج : وهي بالعبرانية صلوثا (٩). والمساجد للمسلمين. وهذا هو الأشهر.

وقال أبو العالية : الصلوات للصابئين (١٠). وقال الحسن : إنها بأسرها أسماء المساجد ، أما الصوامع فلأن المسلمين قد يتخذون الصوامع ، وأما البيع فأطلق هذا الاسم على المساجد على سبيل التشبيه ، وأما الصلوات فالمعنى أنه لو لا ذلك الدفع لانقطعت الصلوات ولخربت المساجد (١١).

فصل

معنى (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي بالجهاد وإقامة الحدود كأنه قال : ولو لا دفع الله أهل الشرك بالمؤمنين من حيث يأذن لهم في جهادهم وينصرهم على أعدائهم لاستولى أهل الشرك على أهل الإيمان وعطلوا ما يبنونه (١٢) من مواضع العبادة (١٣).

وقال الكلبي : يدفع بالنبيين عن المؤمنين وبالمجاهدين عن (١٤) القاعدين عن الجهاد (١٥).

__________________

(١) في ب : مكة.

(٢) الكشاف ٣ / ٣٤ ـ ٣٥.

(٣) انظر المحتسب ٢ / ٨٤.

(٤) الدّوخلة : البطنة ، والبطنة امتلاء البطن من الطعام. اللسان (دخل ـ بطن).

(٥) انظر البغوي ٥ / ٥٩٤. وتفسير ابن عطية ١٠ / ٢٩١.

(٦) انظر معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤٣٠ ، الفخر الرازي ٢٣ / ٤١.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤١.

(٨) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤٣٠ ، الفخر الرازي ٢٣ / ٤١.

(٩) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤٣٠.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤١.

(١١) المرجع السابق.

(١٢) في الأصل : ما يبنوه.

(١٣) النظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٠ ـ ٤١.

(١٤) في الأصل : على.

(١٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤١.

١٠٤

وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس : يدفع الله بالمحسن (١) عن المسيء ، وبالذي يصلي عن الذي لا يصلي (٢) ، وبالذي يتصدق عن الذي لا يتصدق ، وبالذي يحج عن الذي لا يحج (٣).

وعن ابن عمر عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إنّ الله يدفع بالمسلم الصّالح عن مائة من أهل بيته ومن جيرانه» ثم تلا هذه الآية (٤). وقال الضحاك : يدفع بدين الإسلام وبأهله عن أهل الذمة (٥). وقال مجاهد : يدفع عن الحقوق بالشهود ، وعن النفوس بالقصاص (٦). فإن قيل : لماذا جمع الله بين مواضع عبادات اليهود والنصارى وبين مواضع عبادة المسلمين؟ فالجواب أما على قول الحسن : فالمراد بهذه المواضع أجمع مواضع المؤمنين وإن اختلفت العبارات عنها. وأما على قول غيره فقال الزجاج : المعنى ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدم في شرع كل نبي المكان الذي يتعبد فيه ، فلولا الدفع لهدم في زمن موسى الكنائس التي كانوا يصلون فيها في شرعه ، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع وفي زمن نبينا المساجد(٧). فعلى هذا إنما دفع عنهم حين كانوا على الحق قبل التحريف وقبل النسخ (٨). فإن قيل : كيف تهدم الصلوات على تأويل من تأوله على صلاة المسلمين؟ فالجواب من وجوه :

الأول : المراد من هدم الصلاة إبطالها وإهلاك من يفعلها كقولهم هدم فلان إحسان فلان ، إذا قابله بالكفر دون الشكر (٩).

الثاني : ما تقدم من باب حذف المضاف كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(١٠) أي أهلها ، فالمراد مكان الصلاة.

الثالث : لما كان الأغلب فيما ذكر ما يصح أن يهدم جاز ضم ما لا يصح أن يهدم إليه كقولهم : متقلدا سيفا ورمحا. وإن كان الرمح لا يتقلد (١١). فإن قيل : لم قدم الصوامع والبيع في الذكر على المساجد؟

فالجواب لأنها أقدم في الوجود. وقيل أخر المساجد في الذكر كما في قوله : (وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ)(١٢). قال عليه‌السلام (١٣) : «نحن الآخرون السّابقون» (١٤).

__________________

(١) في ب : المحسن.

(٢) في الأصل : لم يصل.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤١.

(٤) المرجع السابق.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤١.

(٦) المرجع السابق.

(٧) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤٣١.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤١.

(٩) في الأصل : الشرك. وهو تحريف.

(١٠) من قوله تعالى : «وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ» [يوسف : ٨٢].

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤١ ـ ٤٢.

(١٢) من قوله تعالى : «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» [فاطر : ٣٢].

(١٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٤) أخرجه البخاري (جمعة) ١ / ١٥٧ ، ١٦٠ ، مسلم (جمعة) ٢ / ٥٨٦ ، وانظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٢.

١٠٥

قوله : (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ) يجوز أن يكون صفة للمواضع المتقدمة كلها إن أعدنا الضمير من «فيها» عليها (١). قال الكلبي ومقاتل : يعود إلى الكل لأن الله تعالى يذكر في هذه المواضع كلها(٢). ويجوز أن يكون صفة للمساجد فقط إن خصصنا الضمير في «فيها» بها (٣) تشريفا لها (٤). ثم قال (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) أي : ينصر دينه ونبيه (٥).

وقيل : يتلقى الجهاد بالقبول نصرة لدين الله. (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ)(٦) أي : على هذه النصرة التي وعدها (٧) المؤمنين. «عزيز» وهو الذي لا يضام ولا يمنع مما يريده (٨).

قوله : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ) يجوز في هذا الموصول ما جاز في الموصول قبله (٩) ويزيد هذا عليه بأنه يجوز أن يكون بدلا من (مَنْ يَنْصُرُهُ) ذكره الزجاج (١٠) أي : ولينصرن الله الذين إن مكناهم ، و (إِنْ مَكَّنَّاهُمْ) شرط و «أقاموا» جوابه ، والجملة الشرطية بأسرها صلة الموصول (١١).

فصل

لما ذكر الذين أذن لهم في القتال وصفهم في هذه الآية فقال : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) والمراد من هذا التمكن السلطنة ونفاذ القول على الخلق (١٢) أي : نصرناهم على عدوهم حتى تمكنوا من البلاد. قال قتادة (١٣) : هم أصحاب محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ المهاجرون لأن الأنصار لم يخرجوا من ديارهم فوصفهم بأنهم أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، ثم قال (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي : آخر أمور الخلق ومصيرهم أي : يبطل كل ملك سوى ملكه ، فتصير الأمور له بلا منازع (١٤).

قوله تعالى : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها

__________________

(١) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٩٣ ، التبيان ٩٤٤.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٢.

(٣) بها : سقط من ب.

(٤) انظر إعراب القرآن للنحاس ٣ / ١٠١. والفخر الرازي ٢٣ / ٤٢.

(٥) انظر البغوي ٥ / ٥٩٥.

(٦) في ب : لقوي عزيز.

(٧) في ب : وعد.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٢.

(٩) في قوله تعالى : «الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ» [الحج : ٤٠] التبيان ٢ / ٩٤٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٦.

(١٠) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤٣١ ، وانظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٠٠ ، الكشاف ٣ / ٣٥ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٩٥ ، البيان ٢ / ١٧٧.

(١١) انظر البيان ٢ / ١٧٧.

(١٢) الفخر الرازي ٢٣ / ٤٢.

(١٣) من هنا نقله عن البغوي ٥ / ٥٩٥.

(١٤) آخر ما نقله عن البغوي ٥ / ٥٩٥.

١٠٦

وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)(٤٦)

قوله تعالى (١) : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) الآية. لما بيّن (٢) إخراج الكفار المؤمنين من ديارهم بغير حق ، وأذن في مقاتلتهم ، وضمن للرسول النصرة ، وبين أن لله عاقبة الأمور ، أردفه بما يجري مجرى التسلية للرسول بالصبر (٣) على أذيته بالتكذيب وغيره ، فقال : وإن يكذبوك قومك فقد كذبت قبلهم سائر الأمم أنبياءهم ، وذكر الله تعالى سبعة منهم. فإن قيل : فلم قال : وكذب موسى. ولم يقل : وقوم موسى؟ فالجواب من وجهين :

الأول : أن موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل ، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط.

الثاني : كأنه قيل بعد ما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم ، وكذّب موسى أيضا مع وضوح آياته وعظم معجزاته فما ظنك بغيره. (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) أي : أمهلتهم إلى الوقت المعلوم عندي (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) عاقبتهم (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي فكيف كان إنكاري عليهم بالعذاب ، وهذا استفهام تقرير ، أي ؛ أليس كان واقعا قطعا ، أبدلتهم بالنعمة نقمة ، وبالكثرة قلة ، وبالحياة موتا ، وبالعمارة خرابا؟ وأعطيت الأنبياء جميع ما وعدتهم من النصر على أعدائهم والتمكين لهم في الأرض ، فينبغي أن تكون عادتك يا محمد الصبر عليهم ، فإنه تعالى إنما يمهل لمصلحة ، فلا بد من الرضا والتسليم ، وإن شق ذلك على القلب (٤).

والنكير : مصدر بمعنى الإنكار كالنذير بمعنى الإنذار (٥). وأثبت ياء نكيري حيث وقعت ورش في الوصل وحذفها في الوقف ، والباقون بحذفها (٦) وصلا ووقفا (٧).

قوله : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) يجوز أن تكون «كأين» منصوبة المحل على الاشتغال بفعل مقدر يفسره (أهلكتها) وأن تكون في محل رفع بالابتداء ، والخبر (أهلكتها) (٨). وتقدم تحقيق القول فيها (٩). قال بعضهم : المراد من قوله : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) وكم ، على وجه التكثير.

__________________

(١) تعالى : سقط من الأصل.

(٢) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٤٣ ـ ٤٤.

(٣) في ب : بالنصر. وهو تحريف.

(٤) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٤٣ ـ ٤٤.

(٥) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٩٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٦.

(٦) في ب : بحد فهما. وهو تحريف.

(٧) السبعة (٤٤١) ، الكشف ٢ / ١٢٤ ، النشر ٢ / ٣٢٧ ، الإتحاف ٦ / ٣.

(٨) انظر التبيان ٢ / ٩٤٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٦.

(٩) عند قوله تعالى : «وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ» [آل عمران : ١٤٦].

١٠٧

وقيل : معناه : ورب قرية. والأول أولى ، لأنه أوكد في الزجر.

وقوله : «أهلكتها» قرأ أبو عمرو ويعقوب «أهلكتها» بالتاء ، وهو اختيار أبي عبيد لقوله : (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) وقرأ ابن كثير وأهل الكوفة والمدينة «أهلكناها» (١).

قوله : (وَهِيَ ظالِمَةٌ) جملة حالية من هاء «أهلكناها» (٢).

وقوله : (فَهِيَ خاوِيَةٌ) عطف على «أهلكتها» ، فيجوز أن تكون في محل رفع لعطفها على الخبر على القول الثاني ، وأن لا تكون لها محل لعطفها على الجملة المفسرة على القول الأول. وهذا عنى الزمخشري بقوله : والثانية ـ يعني قوله : (فَهِيَ خاوِيَةٌ) ـ لا محل لها ، لأنها معطوفة على «أهلكناها» وهذا الفعل ليس له محل (٣). تفريعا (٤) على القول بالاشتغال ، وإلا إذا قلنا إنه خبر لكان له محل ضرورة.

فصل (٥)

المعنى : وكم من قرية أهلكتها (أي أهلها) (٦) لقوله : (وَهِيَ ظالِمَةٌ) ، أي : وأهلها ظالمون ، (فَهِيَ خاوِيَةٌ) ساقطة (عَلى عُرُوشِها) على سقوفها. قال الزمخشري : كل مرتفع أظلك من سقف بيت أو خيمة أو ظلة فهو عرش ، والخاوي : الساقط من خوى النجم : إذا سقط ، أو من خوى المنزل : إذا خلا من أهله (٧). فإذا فسرنا الخاوي بالساقط كان المعنى أنها ساقطة على سقوفها ، أي : خرت سقوفها على الأرض ، ثم تهدمت حيطانها ، فسقطت فوق السقوف. وإن فسرناه بالخالي كان المعنى أنها خلت من الناس مع بقاء عروشها وسلامتها ويمكن أن يكون خبرا بعد خبر ، أي : هي (٨) خالية وهي على عروشها ، يعني أن السقوف سقطت على الأرض فصارت في قرار الحيطان ، وبقيت الحيطان قائمة ، فهي مشرفة على السقوف الساقطة (٩). قوله : (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) عطف على «قرية» ، وكذلك «قصر» أي : وكأيّ من بئر وقصر أهلكناهما (١٠). وقيل : يحتمل أن تكون معطوفة وما بعدها على «عروشها» أي : خاوية على بئر وقصر أيضا ، وليس بشيء (١١).

__________________

(١) السبعة (٤٣٨). الكشف ٢ / ١٢١ ، النشر ٢ / ٣٢٧ ، الإتحاف (٣١٦).

(٢) انظر الكشاف ٣ / ٣٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٦.

(٣) الكشاف ٣ / ٤٥.

(٤) في ب : تعريفا.

(٥) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٤٤ ـ ٤٥.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) الكشاف ٣ / ٣٥.

(٨) هي : سقط من الأصل.

(٩) انظر الكشاف أيضا ٣ / ٣٥.

(١٠) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٠٠ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٩٧ ، البيان ٢ / ١٧٨ ، التبيان ٢ / ٩٤٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٦.

(١١) قال الفراء : (البئر والقصر يخفضان على العروش ، وإذا نظرت في معناها وجدتها ليست تحسن فيها (على) ، لأن العروش أعالي البيوت ، والبئر في الأرض ، وكذلك القصر ، لأن القرية لم تخو على القصر ، ولكنه أتبع بعضه بعضا) معاني القرآن ٢ / ٢٢٨ ، وهذا يوضح سبب الضعف في هذا الوجه ، ـ

١٠٨

والبئر : من بأرت الأرض ، أي : حفرتها ومنه التأبير ، وهو شق كيزان الطلع ، والبئر : فعل بمعنى مفعول كالذّبح بمعنى المذبوح ، وهي مؤنثة وقد تذكر على معنى القليب (١).

وقوله :

٣٧٧٢ ـ وبئري ذو حفرت وذو طويت (٢)

يحتمل التذكير والتأنيث. والمعطّلة : المهملة ، والتعطيل : الإهمال.

وقرأ الحسن : «معطلة» بالتخفيف (٣) ، يقال : أعطلت (٤) البئر وعطلتها فعطلت بفتح الطاء ، وأما عطلت المرأة من الحليّ فبكسر الطاء (٥). والمعنى : وكم من بئر معطلة متروكة مخلاة عن أهلها. والمشيد : المرتفع ، قال قتادة والضحاك ومقاتل : رفيع طويل (٦). وقال سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد : المجصص من الشّيد (٧) وهو الجص (٨). وإنما بني هنا من شاده ، وفي النساء (٩) من شيّده ، لأنه هناك بعد جمع فناسب التكثير ، وهنا بعد مفرد فناسب التخفيف ، ولأنه رأس آية وفاصلة (١٠).

فصل

المعنى أنه تعالى بيّن أن (١١) القرية مع تكليف بنيانهم لها واغتباطهم بها جعلت لأجل كفرهم بهذا الوصف وكذلك (١٢) البئر التي (١٣) تكلفوها وصارت شربهم صارت معطلة بلا شارب ، ولا وارد ، والقصر الذي أحكموه بالجصّ وطولوه صار خاليا بلا

__________________

ـ ولهذا قال أبو حيان : (وجعل «وبئر معطّلة وقصر مشيد» معطوفين على «عروشها» جهل بالفصاحة) البحر المحيط ٦ / ٣٧٧ ولا يخفى أن الفراء قد عاد في نهاية كلامه إلى تفضيل هذا الوجه وهو العطف على العروش حيث قال : (والأول أحبّ إليّ) معاني القرآن ٢ / ٢٢٨ ، وانظر أيضا مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٠٠ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٩٧ ، البيان ٢ / ١٧٨.

(١) في الأصل : القليل. وهو تحريف.

(٢) عجز بيت من بحر الوافر قاله سنان بن الفحل الطائي ، وصدره :

فإنّ الماء ماء أبي وجدّي

وهو في أمالي ابن الشجري ٢ / ٣٠٦ ، الإنصاف ١ / ٣٨٤ ، ابن يعيش ٣ / ١٧٤ ، ٨ / ٤٥ ، شرح التصريح ١ / ١٣٧ ، الهمع ١ / ٨٤ ، الأشموني ١ / ١٥٨ ، الخزانة ٦ / ٣٤ ، الدرر ١ / ٥٩ شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ٥٩١.

(٣) البحر الحيط ٦ / ٣٧٦.

(٤) في ب : عطلت.

(٥) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٧٦.

(٦) انظر القرطبي ١٢ / ٧٤.

(٧) في ب : المشد. وهو تحريف. الشّيد : بالكسر كل ما طلي به الحائط من جصّ أو ملاط وبالفتح المصدر ، تقول : شاده يشيده شيدا : جصّصه. اللسان (شيد).

(٨) انظر القرطبي ١٢ / ٧٤.

(٩) وهو قوله تعالى : «أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ» [النساء : ٧٨].

(١٠) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٧٧.

(١١) في الأصل : أهل. وفي ب : أن أهل.

(١٢) في الأصل : هذا.

(١٣) في الأصل : الذي.

١٠٩

ساكن ، وجعل ذلك عبرة لمن اعتبر ، وهذا يدل على أن تفسير «على» ب «مع» أولى ، لأن التقدير: وهي خاوية مع عروشها (١). قيل : إنّ البئر المعطلة والقصر المشيد باليمن ، أما القصر على قلّة٠(٢) جبل والبئر في سفحه (٣) ، ولكل واحد منهما قوم في نعمة فكفروا فأهلكهم الله ، وبقي البئر والقصر خاليين (٤). وروى أبو روق عن الضحاك : أن هذه البئر بحضر موت في بلدة يقال لها حاضوراء وذلك أن صالحا مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به أتوا حضرموت ، فلما نزلوها مات صالح فسميت بذلك لأن صالحا حين حضرها مات ، فبنوا قوم صالح حاضوراء ، وقعدوا على هذه البئر ، وأمروا عليهم جلهس بن (٥) جلاس ، وجعلوا وزيره سنحاريب ، فأقاموا بها زمانا ثم كفروا وعبدوا صنما ، فأرسل الله إليهم حنظلة بن صفوان ، وكان حمّالا فيهم ، فقتلوه في السوق ، فأهلكهم الله وعطّل بئرهم وخرب قصورهم(٦).

قال الإمام أبو القاسم الأنصاري : وهذا عجيب ، لأني زرت قبر صالح بالشام في بلدة يقال لها(٧): عكا ، فكيف يقال : إنه بحضر موت (٨).

قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) الآية. يعني كفار مكة أفلم يسيروا في الأرض فينظروا إلى مصارع المكذبين من الأمم الخالية ، فذكر ما يتكامل به الاعتبار ، لأن الرؤية لها حظّ عظيم في الاعتبار ، وكذلك سماع الأخبار ولكن لا يكمل هذان الأمران إلا بتدبير القلب ، لأن من عاين وسمع ولم يتدبر ولم يعتبر لم ينتفع ، فلهذا قال : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)(٩).

قوله : «فتكون» منصوب على جواب الاستفهام (١٠) ، وعبارة الحوفي على جواب التقرير(١١). وقيل : على جواب النفي (١٢) وقرأ مبشر بن عبيد (١٣) : «فيكون» بالياء (١٤) من

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٥.

(٢) قلة كل شيء : رأسه. والقلّة : أعلى الجبل. وقلّة كلّ شيء أعلاه. اللسان (قلل).

(٣) السّفح : عرض الجبل حيث يسفح فيه الماء ، وهو عرضه المضطجع ، وقيل : أسفل الجبل. وقيل : هو الحضيض الأسفل ، والجمع سفوح. اللسان (سفح).

(٤) انظر البغوي ٥ / ٥٩٦.

(٥) في ب : حلبس ابن.

(٦) انظر البغوي ٥ / ٥٩٦ ـ ٥٩٧ ، والفخر الرازي ٢٣ / ٤٥.

(٧) لها : سقط من الأصل.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٥.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٥ ـ ٤٦.

(١٠) قاله ابن عطية. تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٩٨.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٧٧.

(١٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٧٧.

(١٣) مبشر بن عبيد القرشي الحمصي ، كوفي الأصل ، روى عن زيد بن أسلم ، وقتادة ، وأبي الزبير ، والزهري ، وغيرهم ، روى عنه محمد بن شعيب والخليل بن مرة ، وغيرهما. تهذيب التهذيب ١٠ / ٣٢ ـ ٣٣.

(١٤) المختصر (٩٦) ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٧.

١١٠

تحت لأن التأنيث مجازي. ومتعلق العقل (١) محذوف أي : ما حل بالأمم السالفة (٢). ثم قال : (قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) أي : يعلمون بها ، وهذا يدل على أن العقل (٣) العلم ، وعلى أن محل العلم هو القلب ، لأنه جعل القلب آلة لهذا العقل ، فيكون القلب محلا للعقل ، ولهذا سمي الجهل بالعمى ، لأن الجاهل لكونه متحيرا يشبه الأعمى (٤). ثم قال (٥) : (أَوْ (٦) آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) أي : ما يذكر لهم من أخبار القرون الماضية يعتبرون بها.

قوله : (فَإِنَّها لا تَعْمَى) الضمير للقصة ، و (لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) مفسرة له ، وحسن التأنيث في الضمير كونه وليه فعل بعلامة تأنيث ، ولو ذكر في الكلام فقيل : «فإنه» لجاز ، وهي قراءة مروية عن عبد الله بن مسعود (٧) ، والتذكير باعتبار الأمر والشأن. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ضميرا مبهما يفسره «الأبصار» وفي «تعمى» ضمير راجع إليه (٨).

قال أبو حيان : وما ذكره لا يجوز ، لأن الذي يفسره ما بعده محصور وليس هذا واحدا منه وهو في باب (ربّ) ، وفي باب نعم وبئس ، وفي باب الإعمال ، (وفي باب البدل) (٩) ، وفي باب المبتدأ والخبر على خلاف في بعضها ، وفي باب ضمير الشأن ، والخمسة الأول تفسر بمفرد إلا ضمير الشأن فإنه يفسر بجملة (١٠) ، وهذا ليس واحدا من الستة (١١).

قال شهاب الدين : بل (١٢) هذا من المواضع المذكورة ، وهو باب المبتدأ غاية ما في ذلك أنه دخل عليه ناسخ وهو «إنّ» فهو نظير قولهم : هي العرب تقول ما شاءت ، و :

٣٧٧٣ ـ هي النّفس تحمل ما حمّلت (١٣)

وقوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا)(١٤) وقد جعل الزمخشري جميع ذلك مما يفسر بما بعده ، ولا فرق بين الآية الكريمة وبين هذه الأمثلة إلا دخول الناسخ ، ولا أثر له ، وعجيب من غفلة الشيخ عن ذلك (١٥).

قوله : (الَّتِي فِي الصُّدُورِ) صفة أو بدل أو بيان ، وهل هو توكيد كقوله : (يَطِيرُ

__________________

(١) في ب : الفعل. أي : متعلق «يعقلون».

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٧٨.

(٣) في ب : القعل. وهو تحريف.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٦.

(٥) ثم : سقط من ب.

(٦) في النسختين : و. وهو تحريف.

(٧) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٧٨.

(٨) الكشاف ٣ / ٣٦.

(٩) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٠) انظر المغني ٣ / ٤٨٩ ـ ٤٩٣ ، الهمع ١ / ٦٥ ـ ٦٧.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٧٨.

(١٢) في ب : بلى.

(١٣) في المغني : تحمل. والشاهد في هذين القولين أن الضمير مبتدأ مفسر بالخبر وهو من المواضع التي يكون مفسر الضمير فيها مؤخرا. انظر المغني ٢ / ٤٨٩ ، الهمع ١ / ٦٦.

(١٤) الدنيا : سقط من ب. [الأنعام : ٢٩] ومن [المؤمنون : ٣٧].

(١٥) الدر المصون : ٥ / ٧٧.

١١١

بِجَناحَيْهِ)(١) لأن القلوب لا تكون في غير الصدور ، أولها معنى زائد كما قال الزمخشري : الذي قد تعورف واعتقد أنّ العمى في الحقيقة مكانه البصر ، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها ، واستعماله في القلب استعارة ومثل ، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار ، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف لتقرر أن مكان العمى (٢) هو القلوب لا الأبصار كما تقول : ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك. (فقولك : الذي بين فكيك)(٣) تقرير لما ادعيته للسان وتثبيت لأن محل المضاء هو هو لا غير ، وكأنك قلت : ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة مني ولا سهوا ، ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمدا (٤). وقد رد أبو حيان على الزمخشري قوله : تعمدت به إياه ، وجعل هذه العبارة عجمة من حيث إنه فصل الضمير ، وليس من مواضع فصله ، وكان صوابه أن يقول تعمدته به. كما تقول : السيف ضربتك به ، لا ضربت به إياك(٥).

وقد تقدم نظير هذا الرد والجواب عنه بما أجيب عن قوله تعالى : (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ)(٦)(وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ)(٧) وهو أنه مع قصد تقديم غير الضمير عليه لغرض يمنع اتصاله. قال شهاب الدين : وأي خطأ في مثل (٨) هذا حتى يدعي العجمة على فصيح شهد له بذلك أعداؤه وإن كان مخطئا في بعض الاعتقادات مما لا تعلق له بما نحن بصدده (٩).

وقال ابن الخطيب : وعندي فيه وجه آخر (١٠) ، وهو أن القلب قد يجعل كناية عن الخاطر والتدبر كقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ)(١١) ، وعند قوم أن محل الفكر هو الدماغ ، فالله تعالى بين أن محل ذلك هو الصدر (١٢). وفي محل العقل خلاف مشهور ، وإلى الأول مال ابن عطية قال : هو مبالغة كما تقول : نظرت إليه بعيني ، وكقوله : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ)(١٣)(١٤). وقد تقدم أن في قوله : «بأفواههم» فائدة زيادة على التأكيد.

__________________

(١) من قوله تعالى : «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ» [الأنعام : ٣٨].

(٢) العمى : سقط من ب.

(٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(٤) الكشاف ٣ / ٣٦.

(٥) البحر المحيط ٦ / ٣٧٨.

(٦) [الممتحنة : ١].

(٧) [النساء : ٣١].

(٨) في : سقط من الأصل.

(٩) الدر المصون ٥ / ٧٧.

(١٠) آخر : سقط من ب.

(١١) [ق : ٣٧].

(١٢) الفخر الرازي ٢٣ / ٤٦.

(١٣) من قوله تعالى : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) [آل عمران : ١٦٧].

(١٤) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٩٩ ، وفيه الآية مقدمة على المثال. والآية فيه(بِأَفْواهِكُمْ)من قوله تعالى : (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) [النور : ١٥] ، ومن قوله تعالى : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) [الأحزاب : ٤].

١١٢

قوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)(٥١)

قوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) الآية. نزلت في النضر بن الحارث حيث قال : (إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ) (١) (٢).

وهذا يدل على أنه ـ عليه‌السلام (٣) ـ كان يخوفهم بالعذاب إن استمروا على كفرهم ، ولهذا قال : (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) ، فأنجز ذلك يوم بدر. ثم بين أن العاقل لا ينبغي له أن يستعجل عذاب الآخرة فقال : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ) أي فيما ينالهم من العذاب وشدته (كَأَلْفِ سَنَةٍ) ، فبين تعالى أنهم لو عرفوا حال عذاب الآخرة وأنه بهذا الوصف لما استعجلوه. قاله أبو مسلم (٤) وقيل : المراد طول أيام الآخرة في المحاسبة (٥). وقيل : إن اليوم الواحد وألف سنة بالنسبة إليه على السواء ، لأنه القادر الذي لا يعجزه شيء ، فإذا لم يستبعدوا إمهال (٦) يوم فلا يستبعدوا إمهال ألف سنة (٧)(مِمَّا تَعُدُّونَ) قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «يعدّون» بياء الغيبة ، لقوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) وقرأ الباقون بالتاء (٨) ، لأنه أعمّ ، ولأنه خطاب للمسلمين. واتفقوا (٩) في «تنزيل» السجدة بالتاء (١٠). قال ابن عباس : يعني يوما من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض (١١) وقال مجاهد وعكرمة: يوما من أيام الآخرة ، لما روى أبو سعيد الخدري قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالفوز التّام يوم القيامة تدخلون الجنّة قبل أغنياء النّاس بنصف يوم ، وذلك قدر خمسمائة سنة» (١٢).

__________________

(١) [الأنفال : ٣٢].

(٢) انظر البغوي ٥ / ٥٩٧.

(٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٧.

(٥) المرجع السابق.

(٦) في ب : إلهام. وهو تحريف.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٧.

(٨) السبعة (٤٣٩) ، الكشف ٢ / ١٢٢ ، النشر ٢ / ٣٢٧ ، الإتحاف (٣١٦).

(٩) في الأصل : واختلفوا. وهو تحريف.

(١٠) وهو قوله تعالى : «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ»[السجدة : ٥].

(١١) انظر البغوي ٥ / ٥٩٨ ، الدر المنثور ٤ / ٣٦٥.

(١٢) أخرجه أبو داود (علم) ٤ / ٧٣ ، أحمد ٣ / ٦٣ ، ٩٦ ، وانظر البغوي ٥ / ٥٩٨.

١١٣

قوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي : أمهلتها مع استمرارهم على ظلمهم ، فاغتروا بذلك التأخير ، (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) بأن أنزلت العذاب بهم ومع ذلك فعذابهم مدخر ، وهو معنى قوله (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ). فإن قيل : ما الفائدة في قوله أولا «فكأين» بالفاء ، وهاهنا قال «وكأين» بالواو؟

فالجواب : أن الأولى وقعت بدلا من قوله (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) ، وأما هذه فحكمها ما تقدمها من الجملتين المعطوفتين بالواو ، أعني قوله : (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ)(١).

قوله : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أمر رسوله بأن يديهم لهم التخويف والإنذار ، وأن لا يصده استعجالهم للعذاب على سبيل الهزء عن إدامة التخويف والإنذار ، وأن يقول لهم: إنما بعثت للإنذار (٢) فاستهزاؤكم بذلك لا يمنعني منه (٣).

قوله : (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ). لما أمر الرسول بأن يقول لهم : إني نذير مبين أردف ذلك بأن أمره بوعدهم ووعيدهم ، لأن هذه صفة المنذر (٤) ، فقال (٥) : (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فجمع بين الوصفين ، وهذا يدل على أن العمل خارج عن مسمى الإيمان ، وبه يبطل قول المعتزلة ويدخل في الإيمان كل ما يجب من الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان ، ويدخل في العمل الصالح كل واجب وترك المحظور (٦) ، ثم بين تعالى أن من جمع بينهما فالله تعالى يجمع له بين المغفرة والرزق الكريم ، فالمغفرة عبارة عن غفران الصغائر ، أو عن غفران الكبائر بعد التوبة ، أو عن غفرانها قبل التوبة ، والأولان واجبان عند الخصم ، وأداء الواجب لا يسمى غفرانا فبقي الثالث وهو العفو عن أصحاب الكبائر من أهل القبلة. وأما الرزق الكريم فهو إشارة إلى الثواب (٧) ، والكريم : هو الذي لا ينقطع أبدا وقيل : هو الجنة (٨).

قوله : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) أي : اجتهدوا في ردها والتكذيب بها وسموها سحرا وشعرا وأساطير الأولين ، يقال لمن بذل جهده في أمر : إنه سعى فيه توسعا ، كما إذا بلغ الماشي نهاية طاقته فيقال : إنه سعى ، وذكر الآيات وأراد التكذيب بها مجازا (٩) ، قال الزمخشري : يقال : سعيت في أمر فلان إذا أصلحه أو أفسده بسعيه (١٠).

قوله : «معجّزين» قرأ أبو عمرو وابن كثير بتشديد الجيم هنا وفي حرفي سبأ (١١).

__________________

(١) انظر الكشاف ٣ / ٣٦ ، الفخر الرازي ٢٣ / ٤٧.

(٢) في ب : الإنذار. وهو تحريف.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٧.

(٤) في الأصل : المنعمد.

(٥) فقال : سقط من ب :.

(٦) في ب : محظور.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٧ ـ ٤٨.

(٨) انظر البغوي ٥ / ٥٩٩.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٨.

(١٠) الكشاف ٣ / ٣٦.

(١١) وهما قوله تعالى : «وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ»[سبأ : ٥] وقوله ـ

١١٤

والباقون : «معاجزين» في الأماكن الثلاثة (١). والجحدري كقراءة (٢) ابن كثير وأبي عمرو في جميع القرآن (٣). وابن الزبير «معجزين» بسكون العين (٤) فأما الأولى ففيها وجهان :

أحدهما : قال الفارسي : معناه ناسبين أصحاب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى العجز نحو : فسقته ، أي : نسبته إلى الفسق (٥).

والثاني : أنها للتكثير ومعناها مثبطين الناس عن الإيمان (٦).

وأما الثانية فمعناها ظانين أنهم يعجزوننا ، وقيل : معاندين (٧).

وقال الزمخشري : عاجزه : سابقه ، لأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به ، فإذا سبقه قيل : أعجزه وعجّزه. فالمعنى : سابقين أو مسابقين في زعمهم وتقديرهم طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لهم (٨) والمعنى : سعوا في معناها بالفساد. وقال أبو البقاء : إن «معاجزين» في معنى المشدّد مثل : عاهد : عهّد ، وقيل : عاجز سابق ، وعجّز : سبق (٩).

فصل

اختلفوا في المراد هل معاجزين لله أو الرسول والمؤمنين ، والأقرب هو الثاني لأنهم إن أنكروا الله استحال منهم أن يطمعوا في إعجازه ، وإن أثبتوه فيبعد أن يعتقدوا أنهم يعجزونه ويغلبونه ، ويصح منهم أن يظنوا ذلك في الرسول بالحيل والمكايد (١٠).

فأما (١١) القائلون بالأول فقال قتادة : ظانين ومقدرين أنهم يعجزوننا بزعمهم وأن لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار ، أو يعجزوننا : يفوتوننا فلا نقدر عليهم كقوله تعالى (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا)(١٢) ، أو يعجزون الله بإدخال الشّبه في قلوب الناس (١٣).

__________________

ـ تعالى : «وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ» [سبأ : ٣٧].

(١) السبعة (٤٣٩) ، الكشف ٢ / ١٢٢ ، النشر ٢ / ٣٢٧ ، الإتحاف ٣١٦.

(٢) في ب : لقراءة. وهو تحريف.

(٣) البحر المحيط ٦ / ٣٧٩.

(٤) من أعجزني : إذا سبقك ففاتك. البحر المحيط ٦ / ٣٧٩.

(٥) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٠٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٨٠.

(٦) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٤٣٣. البحر المحيط ٦ / ٣٨٠.

(٧) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٤٣٣ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٩ ـ ٣٨٠.

(٨) الكشاف ٣ / ٣٦ ـ ٣٧.

(٩) التبيان ٢ / ٩٤٥.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٨.

(١١) في ب : وأما.

(١٢) [العنكبوت : ٤].

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٨.

١١٥

وأما معاجزين فالمغالبة (١) في الحقيقة ترجع إلى الرسول والأمة لا إلى الله تعالى (٢).

ثم قال : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي : أنهم يدومون فيها.

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)(٥٧)

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ) الآية. قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي ، وغيرهما من المفسرين : لما رأى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إعراض قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم (٣) عما جاءهم به تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه لحرصه (٤) على إيمانهم ، فجلس ذات يوم في ناد من أندية قريش ، وأحب يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء ينفّر عنه ، وتمنى ذلك فأنزل الله سورة (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى)(٥) ، فقرأها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حتى بلغ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى)(٦) ، ألقى الشيطان على لسانه لما كان تحدثه (٧) به نفسه ويتمنّاه: تلك الغرانيق (٨) العلى منها الشفاعة ترتجى. فلما سمعت قريش ذلك فرحوا به ، ومضى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في قراءته ، وقرأ السورة كلها وسجد في آخر السورة (٩) ، فسجد المسلمون لسجوده ، وسجد جميع من في المسجد من المشركين ، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد إلا الوليد بن المغيرة وأبا أحيحة سعيد بن العاص ، فإنهما أخذا حفنة من

__________________

(١) في ب : فالغالب وهو تحريف.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ ـ ٤٨.

(٣) في ب : ما عد هو. وهو تحريف.

(٤) في ب : لحرضه. وهو تصحيف.

(٥) [النجم : ١].

(٦) [النجم : ١٩ ، ٢٠].

(٧) في ب : يحدث.

(٨) الغرانيق : هي الأصنام ، وهي في الأصل الذكور من طير الماء. ابن الأنباري : الغرانيق الذكور من الطير واحدها غرنوق ، وغرنيق سمي به لبياضه. وقيل هو الكركي. كانوا يزعمون أن الأصنام تقربهم من الله عزوجل ، وتشفع لهم إليه فشبهت بالطيور التي تعلو وترتفع في السماء. قال ويجوز أن تكون الغرانيق في الحديث جمع الغرانق وهو الحسن. يقال : غرانق وغرانق وغرانيق. اللسان (غرنق).

(٩) عند قوله تعالى : «فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا»[النجم : ٦٢].

١١٦

البطحاء ورفعاها إلى جبهتهما لأنهما كانا شيخين كبيرين ، فلم يستطيعا السجود ، وتفرقت قريش ، وقد سرهم ما سمعوا وقالوا قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذّكر ، وقالوا قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده ، فإن جعل لها محمد نصيبا فنحن معه فلما أمسى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أتاه جبريل ، فقال : يا محمد ماذا صنعت تلوت على النّاس ما لم أنزل به عن الله عزوجل (١) ، وقلت ما لم أقل لك؟ فحزن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حزنا شديدا ، وخاف من الله خوفا عظيما فأنزل الله هذه الآية يعزيه ، وكان به رحيما (٢).

قال ابن الخطيب : وأما أهل التحقيق فقالوا : هذه الرواية باطلة موضوعة لوجوه من القرآن والسنة والمعقول : أما القرآن فقوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ)(٣) ، وقوله : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ)(٤) ، وقوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)(٥). فلو أنه قرأ عقيب هذه الآية قوله : تلك الغرانيق العلى لكان قد ظهر كذب الله في الحال ، وذلك لا يقوله مسلم. وقوله : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً)(٦) وكلمة «كاد» عند بعضهم قريب (٧) أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل ، وقوله : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ)(٨) وكلمة «لو لا» لانتفاء الشيء لانتفاء غيره ، فذلك دل (٩) على أن الركون (١٠) القليل لم يحصل ، وقوله: (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ)(١١) ، وقوله : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى)(١٢) وأما السنة : فروي عن محمد بن إسحاق أنه سئل عن هذه القصة (١٣) فقال : هذا من وضع الزنادقة وصنف فيه كتابا.

وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي (١٤) هذه (١٥) القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم قال : رواة هذه القصة مطعونون. وروى البخاري في صحيحه أنه ـ عليه‌السلام (١٦) ـ قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والجن والإنس وليس فيه ذكر الغرانيق (١٧).

__________________

(١) في ب : عن الله تعالى.

(٢) انظر تفسير البغوي ٥ / ٦٠٠ ـ ٦٠١ ، أسباب النزول للواحدي ٢٢٩ ـ ٢٣٠ ، الفخر الرازي ٢٣ / ٥٠ ـ ٥١.

(٣) [الحاقة : ٤٤ ، ٤٥ ، ٤٦].

(٤) [يونس : ١٥].

(٥) [النجم : ٣ ، ٤].

(٦) [الإسراء : ٧٣].

(٧) في ب : قرب.

(٨) [الإسراء : ٧٤].

(٩) في ب : فدل ذلك.

(١٠) في ب : الركوب. وهو تحريف.

(١١) من قوله تعالى : «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً»[الفرقان : ٣٢].

(١٢) [الأعلى : ٦].

(١٣) في الأصل : الصفة. وهو تحريف.

(١٤) تقدم.

(١٥) في ب : في هذه. وهو تحريف.

(١٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٧) عن ابن عباس ـ رضي الله عنه قال : سجد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. أخرجه البخاري (التفسير) ٣ / ١٩٤.

١١٧

وروي هذا الحديث من طرق كثيرة ، وليس فيها البتة ذكر الغرانيق. وأما المعقول فمن وجوه :

أحدها : أن من جوّز على الرسول تعظيم الأوثان فقد كفر (١) ، لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان.

وثانيها : أنه ـ عليه‌السلام (٢) ـ ما كان عليه في أول الأمر أن يصلي ويقرأ القرآن عند الكعبة أمنا لأذى المشركين له حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه ، وإنما كان يصلي ، إذا لم يحضروا ليلا أو في أوقات خلوة ، وذلك يبطل قولهم.

وثالثها : أن معاداتهم للرسول (٣) كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من غير أن يقفوا على حقيقة الأمر ، فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خروا سجّدا مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم.

ورابعها : قوله : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها ، فإذا أراد الله تعالى إحكام الآيات لئلا يلتبس القرآن بغيره ، فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلا أولى.

وخامسها : أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه ، وجوزنا في كل الشرائع أن يكون كذلك ، ويبطل قوله تعالى : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(٤) فإنه لا فرق في العقل بين النقصان (٥) عن الوحي وبين الزيادة فيه.

فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة ، أكثر ما في الباب أن جمعا من المفسرين ذكروها لكنهم ما بلغوا حد التواتر ، وخبر الواحد لا يعارض الدلائل العقلية والنقلية المتواترة. وأما من جهة التفصيل فالتمني جاء في اللغة لأمرين :

أحدهما : تمني القلب.

والثاني : القراءة ، قال الله تعالى : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ)(٦) أي : إلا قراءة ، لأن الأمي لا يعلم القرآن من المصحف ، وإنما يعلمه من القراءة.

وقال حسان (٧) :

٣٧٧٤ ـ تمنّى كتاب الله أوّل ليلة

وآخرها لاقى حمام المقادر (٨)

__________________

(١) فقد كفر : سقط من ب.

(٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٣) في ب : الرسول.

(٤) [المائدة : ٦٧].

(٥) في ب : فإنه لا فرق بين العقل والنقصان وهو تحريف.

(٦) [البقرة : ٧٨].

(٧) تقدم.

(٨) في المخطوط : المغالب. والبيت من بحر الطويل وقد تقدم ويروى : «أول ليله ـ وآخره». ـ

١١٨

وقيل : إنما سميت القراءة أمنية لأن القارىء إذا انتهى إلى آية رحمة تمنى حصولها وإذا انتهى إلى آية عذاب تمنى أن لا يبتلى بها.

وقال أبو مسلم : التّمنّي هو التقدير ، وتمنّى هو تفعّل من منيت ، والمنيّة وفاة الإنسان للوقت الذي قدره الله (١) ، ومنّى الله لك أي : قدّر لك ، وإذا (٢) تقرر ذلك فإن التالي مقدر للحروف يذكرها شيئا فشيئا. فالحاصل أن الأمنية إما القراءة وإما الخاطر ، فإن فسرناها بالقراءة ففيه قولان :

الأول : أنه تعالى أراد بذلك ما يجوز أن يسهو الرسول فيه ويشتبه على القارىء دون ما رووه (٣) من قوله : تلك (٤) الغرانيق العلى.

والثاني : المراد منه وقوع هذه الكلمة في قراءته ، ثم اختلف القائلون بهذا على وجوه :

الأول : أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٥) ـ لم (٦) يتكلم بقوله : تلك الغرانيق العلى ، ولا الشيطان تكلم به ، ولا أحد تكلم به لكنه ـ عليه‌السلام (٧) ـ لما قرأ سورة النجم اشتبه الأمر على الكفار فحسبوا بعض ألفاظه ما رووه (٨) من قولهم : تلك الغرانيق العلى. وذلك على حسب ما جرت العادة به من توهم بعض الكلمات على غير (٩) ما يقال ، قاله جماعة وهو ضعيف لوجوه :

أحدها : أن التوهم في مثل ذلك إنما يصح فيما جرت العادة بسماعه ، فأما غير المسموع فلا يقع ذلك فيه.

وثانيها : أنه لو كان كذلك لوقع هذا التوهم في بعض هذا لتوهم (١٠) بعض السامعين (١١) دون البعض فإن (١٢) العادة مانعة من اتفاق الجمع العظيم في الساعة الواحدة (١٣) على خيال (١٤) واحد فاسد في المحسوسات.

وثالثها : لو كان كذلك لم يكن مضافا إلى الشيطان.

الوجه الثاني : قالوا : إن ذلك الكلام كلام الشيطان وذلك بأن يلفظ بكلام من تلقاء

__________________

ـ تمنى : قرأ وتلا ، وهو موطن الشاهد. الحمام بالكسر : قضاء الموت وقدره ، من قولهم : حمّ كذا ، أي قدّر.

(١) لفظ الجلالة سقط من ب.

(٢) في ب : إذا.

(٣) في ب : ما ورده. وهو تحريف.

(٤) في النسختين : إن.

(٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٦) في الأصل : لا.

(٧) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٨) في ب : ما رواه. وهو تحريف.

(٩) في ب : عر وهو تحريف.

(١٠) في الأصل : يتوهم.

(١١) في الأصل : المسامعين. وهو تحريف.

(١٢) في ب : وإن.

(١٣) في ب : العادة. وهو تحريف.

(١٤) في ب : حال. وهو تحريف.

١١٩

نفسه يوقعه في درج تلك التلاوة في بعض وقفاته ليظن (١) أنه من جنس الكلام المسموع من الرسول ، قالوا : ويؤيد ذلك أنه لا خلاف أن الجن والشياطين متكلمون فلا يمتنع أن يأتي الشيطان بصوت مثل صوت الرسول ، فيتكلم بهذه الكلمات في أثناء كلام الرسول ، وعند سكوته ، فإذا سمع الحاضرون تلك الكلمة بصوت مثل صوت الرسول ، وما رأوا شخصا آخر ظن الحاضرون أنه كلام الرسول ثم هذا لا يكون قادحا في النبوة لما لم يكن فعلا له. وهذا أيضا ضعيف فإنك إذا جوزت أن يتكلم الشيطان في أثناء كلام الرسول بما يشتبه على كل السامعين كونه كلاما للرسول بقي هذا الاحتمال في كل ما يتكلم به الرسول (٢) فيفضي إلى ارتفاع الوثوق عن كل الشرع. فإن قيل : هذا الاحتمال قائم في الكل ، ولكنه لو وقع لوجب في حكمة الله أن يبين الحال فيه كما في هذه الواقعة إزالة للتلبيس.

فالجواب لا يجب على الله تعالى إزالة الاحتمالات كما في المتشابهات ، وإذا لم يجب على الله ذلك أمكن الاحتمال في الكل.

الوجه الثالث : أن يقال : المتكلم بذلك بعض شياطين الإنس ، وهم الكفرة فإنه عليه‌السلام (٣) لما انتهى في قراءة هذه السورة إلى هذا الموضع ذكر أسماء آلهتهم وقد علموا من عادته أنه يعيبها ، فقال بعضهم : تلك الغرانيق العلا ، فاشتبه الأمر على القوم لكثرة لغط (٤) القوم وكثرة مباحثهم ، وطلبهم تغليطه ، وإخفاء قراءته ، ولعل ذلك في صلاته لأنهم كانوا يقربون منه في حال صلاته ، ويسمعون قراءته ، ويلغون فيها. وقيل : إنه عليه‌السلام (٢) كان إذا تلا القرآن على قريش توقف في فصول الآيات ، فألقى بعض الحاضرين ذلك (٥) الكلام في تلك الوقفات ، فتوهم القوم أنه من قراءة الرسول ، ثم أضاف الله ذلك إلى الشيطان ، لأنه بوسوسته يحصل أولا ، أو لأنه سبحانه جعل ذلك المتكلم نفسه شيطانا.

وهذا أيضا ضعيف لوجهين :

أحدهما : أنه لو كان كذلك لكان يجب على الرسول إزالة الشبهة وتصريح الحق ، وتبكيت ذلك القائل ، وإظهار أن هذه الكلمة صدرت منه ، ولو فعل ذلك لنقل ، فإن قيل : إنما لم يفعل الرسول ذلك ، لأنه كان (٦) قد أدى السورة بكمالها إلى الأمة دون هذه الزيادة (٧) ، فلم يكن ذلك مؤديا إلى اللبس كما لم يؤد سهوه في الصلاة بعد أن وصفها إلى اللبس.

__________________

(١) في ب : فيظن.

(٢) الرسول : سقط من ب.

(٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٤) في ب : لفظ. وهو تحريف.

(٥) في ب : ملك. وهو تحريف.

(٦) كان : سقط من الأصل.

(٧) في الأصل : الروايات.

١٢٠