اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا)(٥٧)

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى) قرأ أهل الكوفة مخلصا ، بفتح اللام ، أي : مختارا اختاره الله تعالى ، واصطفاه.

وقيل : أخلصه الله من الدّنس.

والباقون بالكسر ، ومعناه : أخلص التّوحيد لله والعبادة ، ومتى ورد القرآن بقراءتين ، فكلّ منهما ثابت مقطوع به ، فجعل الله تعالى من صفة موسى ـ صلوات الله عليه ـ كلا الأمرين.

ثم قال عزوجل : (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) وهذان وصفان مختلفان ، لكنّ المعتزلة زعموا كونهما متلازمين ؛ فكلّ رسول نبيّ ، وكلّ نبيّ رسول ، ومن الناس من أنكر ذلك ، ويأتي الكلام عليه ـ إن شاء الله تعالى ـ في سورة الحج عند قوله تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) [الحج : ٥٢] ثم قال : (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ) يعني : يمين موسى ، والظاهر أنّ الأيمن صفة للجانب ؛ بدليل أنه تبعه في قوله تعالى : (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) [طه : ٨٠] وقيل : إنه صفة للطّور ، إذ اشتقاقه من اليمن والبركة ، والطّور : جبل بين مصر ومدين ، ويقال : إنّ اسمه الزّبير ، وذلك حين أقبل من مدين ، ورأى النّار ، فنودي (يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [القصص : ٣٠].

قوله تعالى : (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) ، أي : مناجيا ، والنجيّ : المناجي ؛ كما يقال : جليس ونديم ، و«نجيّا» : حال من مفعول «قرّبناه» وأصله «نجيوا» لأنه من نجا ينجو.

قال ابن عبّاس (١) ـ رضي الله عنه ـ معناه : قرّبه وكلّمه.

وقيل : أنجيناه من أعدائه ، ومعنى التقريب : إسماعه كلامه.

وقيل : رفعه على الحجب ؛ حتّى سمع صرير القلم ؛ حيث تكتب التوراة في الألواح ، وهو قول أبي العالية.

قال القاضي (٢) : المراد بالقرب : أنّه رفع قدره ، وشرّفه بالمناجاة ؛ لأنّ استعمال القرب في الله ، قد صار في التعارف لا يراد به إلا المنزلة ؛ كما يقال في العبادة : تقرّب ، وفي الملائكة ـ عليهم‌السلام ـ : إنّهم مقرّبون.

قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا) : في «من» هذه وجهان :

أحدهما : أنها تعليلية ، أي : من أجل رحمتنا ، و«أخاه» على هذا مفعول به ،

__________________

(١) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٩٨.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٩٨.

٨١

و«هارون» بدل ، أو عطف بيان ، أو منصوب بإضمار أعني ، و«نبيّا» حال.

والثاني : أنها تبعيضية ، أي : بعض رحمتنا ، قال الزمخشريّ : «وأخاه» على هذا بدل ، و«هارون» عطف بيان. قال أبو حيان : «الظاهر أنّ «أخاه» مفعول «وهبنا» ولا ترادف «من» بعضا ، فتبدل «أخاه» منها».

فصل في نبوة هارون

قال ابن عبّاس رضي الله عنه : كان هارون أكبر من موسى ـ صلوات الله عليه ـ وإنّما وهب الله تعالى له نبوّته ، لا شخصه وأخوّته ، وذلك إجابة لدعائه في قوله : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) [طه : ٢٩ ـ ٣١] فأجابه الله تعالى بقوله : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) [طه : ٣٦] وقوله : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ)(١) [القصص : ٣٥].

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ).

وهو إسماعيل بن إبراهيم جدّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ).

قال مجاهد (٢) لم يعد شيئا إلّا وفّى به.

وروي عن ابن عبّاس أنه [واعد](٣) صاحبا له أن ينتظره في مكان ، فانتظره سنة (٤). وأيضا : وعد من نفسه الصّبر على الذّبح ، فوفّى حيث قال : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات : ١٠٢] ويروى أنّ عيسى ـ صلوات الله عليه ـ قال له رجل : انتظرني ؛ حتى آتيك ، فقال عيسى : نعم ، وانطلق الرجل ، ونسي الميعاد ، فجاء إلى حاجته إلى ذلك المكان ، وعيسى ـ صلوات الله عليه ـ هناك للميعاد.

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه واعد رجلا ، [ونسي ذلك الرّجل](٥) ، فانتظره من الضّحى إلى قريب [من] غروب الشمس ، وسئل الشعبيّ عن الرجل يعد ميعادا : إلى أيّ وقت ينتظر؟ قال : إن واعده نهارا ، فكلّ النّهار ، وإن واعده ليلا ، فكلّ اللّيل.

وسئل إبراهيم بن زيد عن ذلك ، فقال : إذا وعدته في وقت الصّلاة ، فانتظره إلى وقت صلاة أخرى ، ثم قال : (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) ، وقد مرّ تفسيره ، (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) ، والمراد بالأهل: قومه.

وقيل : أهله جميع أمّته.

قال المفسّرون : إنه كان رسولا إلى «جرهم».

والمراد بالصلاة هناك [قال] ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : يريد التي افترضها الله عليهم ، وهي الحنيفيّة التي افترضها علينا.

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢١ / ١٩٨) عن ابن عباس.

(٢) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٩٩.

(٣) في أ : وعد.

(٤) أخرجه الطبري (٨ / ٣٥٢) عن سهل بن سعد.

(٥) سقط من ب.

٨٢

قيل : كان يبدأ بأهله في الأمر للعبادة ، ليجعلهم قدوة لمن سواهم ؛ كما قال تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء : ٢١٤] (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) [طه : ١٣٢] (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ) [التحريم : ٦] ، وأمّا الزكاة ، فعن ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ أنّها طاعة الله ، والإخلاص ؛ فكأنّه تأوّله على ما يزكو به الفاعل عند ربّه ، والظاهر : أنّه إذا قرنت الصّلاة بالزّكاة : أن يراد بها [الصدقات](١) الواجبة.

قوله تعالى : (وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) قائما بطاعته.

وقيل : رضيه لنبوته ورسالته.

والعامّة على قراءته كذلك معتلّا وأصله مرضوو ، بواوين : الأولى زائدة ؛ كهي في مضروب ، والثانية : لام الكلمة ؛ لأنه من الرّضوان ، فأعلّ بقلب الواو [ياء ، وأدغمت] الأخيرة ياء ، واجتمعت الياء والواو ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت ، ويجوز النطق بالأصل ، وقد تقدّم تحرير هذا.

وقرأ (٢) ابن أبي عبلة بهذا الأصل ، وهو الأكثر ؛ ومن الإعلال قوله : [الطويل]

٣٦٠٩ ـ لقد علمت عرسي مليكة أنّني

أنا المرء معديّا عليه وعاديا (٣)

وقالوا : أرض مسنيّة ، ومسنوّة ، أي : مسقاة بالسّانية.

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ) الآية إدريس هو جدّ أبي نوح ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ ، وهو إدريس ـ عليه‌السلام ـ.

قيل : سمّي «إدريس» لكثرة دراسة الكتب ، وكان خيّاطا ، وهو أوّل من خطّ بالقلم ، وخاط الثّياب ، ولبس المخيط ، وكان قبله يلبسون الجلود ، وأوّل من اتّخذ السّلاح ، وقاتل الكفّار ، وأوّل من نظر في علم الحساب (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا).

(وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا).

قيل : يعني في الجنّة ، وقيل : هي الرّفعة بعلوّ الرّتبة في الدّنيا ؛ كقوله تعالى : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) [الشرح : ٤] وقيل : إنّه رفع إلى السماء ؛ روى أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ عن مالك بن صعصعة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه رأى إدريس ـ صلوات الله عليه ـ في السماء الرّابعة ، ليلة المعراج (٤) وكان سبب رفع إدريس على ما قاله «كعب» وغيره ـ أنّه

__________________

(١) في أ : الصلاة.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٦ / ١٨٨ ، والدر المصون ٤ / ٥١١.

(٣) البيت لعبد يغوث بن وقاص ينظر : شواهد الكتاب ٤ / ٣٨٥ ، المقرب ٢ / ١٨٦ ، المحتسب ٢ / ٢٠٧ ، شرح المفصل لابن يعيش ٥ / ٣٦ ، المنصف ١ / ١١٨ ، أمالي القالي ٣ / ١٣٢ ، مجاز القرآن ١ / ٢٥٧ ، الأشموني ٤ / ٣٢٦ ، اللسان «نظر» ، الدر المصون ٤ / ٥١١.

(٤) تقدم في سورة الإسراء.

٨٣

[سار](١) ذات يوم في حاجة ، فأصابه وهج الشمس ؛ فقال : يا ربّ ، أنا مشيت يوما فيها ؛ فأصابني المشقة الشديدة من وهج الشمس ، وأضرّني حرّها ضررا بليغا ـ فكيف يحملها مسيرة خمسائة عام في يوم واحد؟! اللهمّ ، خفّف عنه من ثقلها ، وحرّها ، فلمّا أصبح الملك ، وجد من خفّة الشّمس ، وحرها ما لا يعرف ؛ فقال : يا ربّ ، ما الذي قضيت فيه؟ قال : إنّ عبدي إدريس سألني أنّ أخفّف عنك حملها ، وحرّها ؛ فأجبته ، فقال : ربّ ، اجعل بيني وبينه خلّة ، فأذن له ؛ حتى أتى إدريس ، فكان يسأله إدريس ، فقال له : إنّي أخبرت أنّك أكرم الملائكة ، وأمكنهم عند ملك الموت ؛ فاشفع لي إليه ؛ ليؤخّر أجلي ؛ فأزداد شكرا وعبادة ، فقال الملك : لا يؤخّر الله نفسا ، إذا جاء أجلها ، وأنا مكلّمه ، فرفعه إلى السّماء ، ووضعه عند مطلع الشّمس ، ثمّ أتى ملك الموت ، فقال : حاجة لي إليك ؛ صديق لي من بني آدم ، تشفّع بي إليك ؛ لتؤخّر أجله ، قال : ليس ذلك إليّ ، ولكن إن أحببت ، أعلمته أجله ؛ فيتقدّم في نفسه ، قال : نعم ، فنظر في ديوانه ، فقال : إنّك كلّمتني في إنسان ، ما أراه أن يموت أبدا ، قال : وكيف؟ قال : لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس ، قال : فإني أتيتك ، وتركته هناك ، قال : انطلق ، فلا أراك تجده إلّا وقد مات ؛ فو الله ، ما بقي من أجل إدريس شيء ؛ فرجع الملك ، فوجده ميتا (٢).

واختلفوا في أنّه حيّ في السماء ، أم ميّت ؛ فقيل : هو ميت ، وقيل : حيّ ، وقيل : أربعة من الأنبياء أحياء ، اثنان في الأرض ؛ «الخضر ، وإلياس» واثنان في السماء : «إدريس ، وعيسى» صلوات الله عليهم.

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا)(٥٨)

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ) الآية.

«من» الأولى ؛ للبيان ؛ لأنّ كلّ الأنبياء منعّم عليهم ؛ فالتبعيض محال ، والثانية للتبعيض ؛ فمجرورها بدل مما قبله بإعادة العامل ، بدل بعض من كلّ.

وقوله : «وإسرائيل» عطف على [«إبراهيم».

قوله : (وَمِمَّنْ هَدَيْنا) يحتمل أن يكون عطفا على (مِنَ النَّبِيِّينَ) وأن يكون عطفا على](٣)(مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ).

__________________

(١) في ب : سئل.

(٢) ذكره السيوطي في «الدرّ المنثور» (٤ / ٤٩٤) وعزاه إلى ابن أبي شيبة في «المصنف» وابن أبي حاتم عن ابن عباس عن كعب.

(٣) سقط من ب.

٨٤

فصل

اعلم أنّه تعالى أثنى على كل واحد ممّن تقدم ذكره [من الأنبياء](١) ، بما يخصّه من الثناء ، ثمّ جمعهم آخرا ؛ فقال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي : بالنبوّة ، وغيرها ، و«أولئك» : إشارة إلى المذكورين في هذه السورة من «زكريّا» إلى «إدريس» ـ صلوات الله عليهم ـ ثمّ جمعهم في كونهم من ذرية آدم.

ثمّ خصّ بعضهم بأنهم من ذرّيّة آدم ، ممّن حمله مع نوح ، ومنهم من هو من ذرية آدم ، دون من حمله مع نوح ؛ وهو إدريس ـ عليه‌السلام ـ فقد كان سابقا على نوح.

والذين هم من ذريّة من حمل مع نوح ، وهو «إبراهيم» ؛ لأنّه [ولد](٢) سام بن نوح ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب من ذرية إبراهيم.

ثم خصّ بعضهم أنه من ولد إسرائيل ، أي : يعقوب ، وهم : موسى ، وهارون ، وزكريّا ، ويحيى ، وعيسى ؛ من قبل الأمّ.

فرتّب الله تعالى أحوال الأنبياء الذين ذكرهم على هذا الترتيب ؛ منبها بذلك على أنّهم كما فضّلوا بأعمالهم ، فلهم منزلة في الفضل بولادتهم من هؤلاء الأنبياء.

ثمّ بيّن أنّهم ممّن هدينا ، واجتبينا ؛ منبّها بذلك على أنّهم خصّوا بهذه المنازل ؛ لهداية الله تعالى لهم ، ولأنّهم اختارهم للرسالة.

قوله : (إِذا تُتْلى) جملة شرطية فيها قولان :

أظهرهما : أنها لا محلّ لها ؛ لاستئنافها.

والثاني : أنها خبر «أولئك» والموصول قبلها صفة لاسم الإشارة ، وعلى الأول ؛ يكون الموصول نفس الخبر.

وقرأ العامّة «تتلى» بتاءين من فوق ، وقرأ عبد الله ، وشيبة ، وأبو جعفر ، وابن كثير ، وابن عامر ، وورش عن نافع في روايات شاذة (٣) : بالياء أوّلا من تحت ، والتأنيث مجازيّ ؛ فلذلك جاز في الفعل الوجهان.

قوله تعالى : (سُجَّداً) حال مقدرة ؛ قال الزجاج (٤) : «لأنهم وقت الخرور ليسوا سجّدا».

و«بكيّا» فيها وجهان :

أظهرهما : أنه جمع باك ، وليس بقياس ، بل قياس جمعه على فعلة ؛ كقاض

__________________

(١) سقط من : أ.

(٢) في ب : من ذرية.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٥ ، البحر ٦ / ١٨٩ ، الدر المصون ٤ / ٥١١.

(٤) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٣ / ٣٣٥.

٨٥

وقضاة ، ولم يسمع فيه هذا الأصل ، وقد تقدّم أنّ الأخوين يكسران فاءه على الإتباع.

والثاني : أنه مصدر على فعول ؛ نحو : جلس جلوسا ، وقعد قعودا ؛ والأصل فيه على كلا القولين «بكوي» بواو وياء ، فأعل الإعلال المشهور في مثله ، وقال ابن عطيّة : «وبكيّا بكسر الباء ، وهو مصدر لا يحتمل غير ذلك» قال أبو حيّان : «وليس بسديد ، بل الإتباع جائز فيه» وهو جمع ؛ كقولهم : عصيّ ودليّ ، جمع عصا ودلو ، وعلى هذا ؛ فيكون «بكيّا» : إمّا مصدرا مؤكّدا لفعل محذوف ، أي : وبكوا بكيّا ، أي : بكاء ، وإمّا مصدرا واقعا موقع الحال ، أي : باكين ، أو ذوي بكاء ، أو جعلوا نفس البكاء مبالغة.

قال الزجاج : «بكيّا» جمع باك ؛ مثل شاهد وشهود ، وقاعد وقعود ، ثمّ قال : الإنسان في حال خروره لا يكون ساجدا ، والمراد : خرّوا مقدّمين للسّجود ، ومن قال في «بكيّا» : إنّه مصدر ، فقد أخطأ ؛ لأنّ سجّدا جمع ساجد ، وبكيا معطوف عليه.

فصل

قال المفسّرون : إنّ الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ كانوا إذا سمعوا آيات الله ؛ والمراد : الآيات التي تتضمّن الوعد والوعيد ، والتّرغيب والتّرهيب خروا سجدا جمع ساجد ، وبكيّا : جمع باك خشوعا وخضوعا ، وحذرا وخوفا.

قال بعضهم : المراد بالسّجود : الصّلاة.

وقال بعضهم : المراد : سجود التّلاوة.

وقيل : المراد بالسّجود : الخضوع والخشوع عند التّلاوة.

قال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : «اتلوا القرآن ، وابكوا ، فإن لم تبكوا ، فتباكوا»(١).

قوله تعالى : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا)(٦٣)

قوله تعالى (٢) : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) الآية (٣).

لما وصف الأنبياء (٤) بالمدح ترغيبا لنا في (٥) التأسي بهم ذكر بعدهم من بالضد

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه (١ / ٤٢٤) كتاب الصلاة باب في حسن الصوت بالقرآن حديث (١٣٣٧) قال البوصيري : في إسناده أبو رافع اسمه إسماعيل بن رافع ضعيف متروك.

(٢) تعالى : سقط من ب.

(٣) لفظ الآية سقط من ب ، وكتب الآية كاملة.

(٤) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢١ / ٢٣٦ بتصرف.

(٥) في ب : بالتأسي.

٨٦

منهم ، فقال : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ)(١) أي من بعد هؤلاء الأنبياء «خلف» من أولادهم ، يقال : خلفه إذا عقبه خلف سوء ـ بإسكان اللام ـ والخلف ـ بفتح اللام ـ الصالح (٢) ، كما قالوا : وعد في ضمان الخير ، ووعيد في ضمان الشر (٣) ، وفي الحديث : «في الله خلف من كل هالك» (٤) ، وفي الشعر:

٣٦١٠ ـ ذهب الذين يعاش في أكنافهم

وبقيت في خلف كجلد الأجرب (٥)

قال (٦) السديّ (٧) : أراد بهم اليهود ومن لحق بهم (٨). وقال مجاهد (٩) وقتادة (١٠) : هم (١١) في هذه الأمة (١٢). (أَضاعُوا الصَّلاةَ) تركوا الصلاة المفروضة. وقال ابن مسعود (١٣) وإبراهيم (١٤) : أخروها عن وقتها. وقال سعيد بن المسيب (١٥) : هو أن لا (١٦) يصلي الظهر حتى يأتي العصر ، ولا يصلي العصر حتى تغرب الشمس (١٧). (وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) قال ابن عباس(١٨) : هم اليهود تركوا الصلاة المفروضة وشربوا الخمور ، واستحلوا نكاح الأخت من الأب (١٩). وقال مجاهد : هؤلاء قوم يظهرون في آخر الزمان ينزو (٢٠) بعضهم على بعض في الأسواق والأزقة (٢١). (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) قال (٢٢) وهب (٢٣) وابن عباس وعطاء (٢٤)

__________________

(١) في ب : «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ».

(٢) انظر اللسان (خلف) ، وفيه من الممكن استعمال كليهما في الخير والشر.

(٣) انظر اللسان (وعد) ، وقال الجوهري : الوعد يستعمل في الخير والشر.

(٤) ذكره الفخر الرازي في تفسيره بدون سند ٢١ / ٢٣٦.

(٥) البيت من بحر الكامل ، قاله لبيد. الكنف والكنفة : ناحية الشيء ، وناحيتا كل شيء : كنفاه ، والجمع أكناف.

والمقصود بقوله : في أكنافهم : في ظل خيرهم. الجرب : معروف ، بثر يعلو أبدان الناس والإبل.

كجلد الأجرب : كجلد الجمل الأجرب ، وهو ما لا ينتفع به.

الخلف : الرديء ، والبقية ، وهو الشاهد وقد تقدم.

(٦) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٣٧٩ ـ ٣٨٠.

(٧) تقدم.

(٨) في ب : لحقهم.

(٩) تقدم.

(١٠) تقدم.

(١١) في ب : وهم.

(١٢) في ب : الآية. وهو تحريف.

(١٣) تقدم.

(١٤) تقدم.

(١٥) تقدم.

(١٦) لا : سقط من ب.

(١٧) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٣٧٩ ـ ٣٨٠.

(١٨) تقدم.

(١٩) انظر : الكشاف ٢ / ٤١٥ ، الفخر الرازي ٢١ / ٢٣٦.

(٢٠) في الأصل : ينزون. وفي ب : ينزوا. والصواب ما أثبتّه.

(٢١) انظر البغوي ٥ / ٣٨٠.

(٢٢) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٣٨٠ ـ ٣٨٢.

(٢٣) تقدم.

(٢٤) تقدم.

٨٧

وكعب (١) : هو واد في جهنم بعيد قعره.

وقال أبو أمامة (٢) : مجازاة الآثام. وقال الضحاك (٣) : «غيّا» : خسرانا. وقيل : هلاكا وقيل : عذابا (٤) ، ونقل الأخفش (٥) أنه قرىء «يلقّون» بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف (٦) من لقّاه مضاعفا. وقوله «يلقون» ليس معناه «يرون» فقط بل معناه الاجتماع والملابسة مع الرؤية (٧). قوله : (إِلَّا مَنْ تابَ) فيه وجهان :

أظهرهما : أنه استثناء متصل (٨). وقال (٩) الزجاج (١٠) : هو منقطع (١١). وهذا (١٢) بناء منه على أن المضيع للصلاة من الكفار.

وقرأ عبد الله والحسن (١٣) والضحاك وجماعة «الصلوات» (١٤) جمعا (١٥).

وقرأ الحسن هنا وجميع ما في القرآن «يدخلون» مبنيّا للمفعول (١٦).

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٣٨٠ ـ ٣٨٢.

(٥) تقدم.

(٦) المختصر (٨٥) ، الكشاف ٢ / ٤١٥ ، البحر المحيط ٦ / ٢٠١ ، ونسب صاحب الكشاف هذه القراءة إلى الأخفش حيث قال : (وقرأ الأخفش «يلقّون»).

(٧) انظر البغوي ٥ / ٣٨٢.

(٨) انظر البحر المحيط : ٦ / ٢٠١ ، والاستثناء المتصل : هو ما يكون فيه المستثنى بعض المستثنى منه.

شرح التصريح ١ / ٣٤٩.

(٩) في ب : قال.

(١٠) تقدم.

(١١) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٣٣٦. أجاز الزجاج الاتصال والانقطاع وعبارته : (وقوله عزوجل : إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ «من» في موضع نصب ، أي فسوف يلقون العذاب إلا التائبين ، وجائز أن يكون نصبا استثناء من غير الأول ، ويكون المعنى لكن من تاب وآمن). والاستثناء المنقطع : هو ما لا يكون المستثنى بعض المستثنى منه بشرط أن يكون ما قبل (إلّا) دالّا على ما يستثنى فيجوز ما قام القوم إلّا حمارا ، ويمتنع قام القوم إلا ثعبانا. شرح التصريح ١ / ٣٥٢.

(١٢) في ب : وهو.

(١٣) تقدم.

(١٤) في ب : الصلاة. وهو تحريف.

(١٥) المختصر (٨٥) ، الكشاف ٢ / ٤١٥ ، البحر المحيط ٦ / ٢٠١.

(١٦) في البحر المحيط قراءة الحسن «يدخلون» مبنيّا للفاعل ، حيث قال أبو حيان : (وقرأ الحسن «يدخلون» مبنيا للفاعل ، وكذا كل ما في القرآن من «يدخلون»).

البحر المحيط ٦ / ٢٠١. و«يدخلون» بالبناء للمفعول قراءة سبعية قرآها ابن كثير وأبو عمرو هنا ، وفي النساء : (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) الآية (١٢٤) وفي فاطر (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) الآية (٣٣) ، وفي غافر (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) الآية (٤٠) وكذلك (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر : ٦٠].

حجة من قرأ «يدخلون» بالبناء للمفعول : أنهما أضافوا الفعل إلى غيرهم ، لأنهم لا يدخلون الجنة حتى يدخلهم الله ـ جل ذكره ـ إياها ، فهم مفعولون في المعنى ، فبنوا الفعل للمفعول على ما لم يسمّ فاعله ، وقد أجمعوا على قوله : (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [إبراهيم : ٢٣]. ـ

٨٨

فصل (١)

«احتجوا (٢)» (٣) بقوله : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً)(٤) على أن الإيمان غير العمل ، لأنه عطف العمل على الإيمان ، والمعطوف غير (٥) المعطوف عليه.

أجاب الكعبي (٦) : بأنه تعالى فرق بين التوبة والإيمان ، والتوبة من الإيمان فكذلك العمل الصالح يكون من الإيمان وإن فرق بينهما.

وهذا الجواب ضعيف ، لأن عطف الإيمان على التوبة يقتضي المغايرة بينهما (٧) ، لأن التوبة عزم على الترك ، والإيمان إقرار بالله ، وهما متغايران ، فكذلك في هذه الصورة (٨).

ولما بيّن (٩) وعيد من لم يتب بيّن أن من تاب وآمن وعمل صالحا فلهم الجنة ولا يلحقهم ظلم.

وهنا (١٠) سؤالان (١١) :

السؤال الأول : الاستثناء دل عل أنه لا بدّ من التوبة (١٢) والإيمان والعمل الصالح ، وليس الأمر كذلك ، لأن من تاب عن الكفر ولم يدخل وقت الصلاة أو كانت المرأة حائضا فإن (١٣) الصلاة لا تجب عليه ، وكذلك الصوم والزكاة فلو مات (١٤) في ذلك الوقت كان من أهل النجاة مع أنه لم يصدر عنه عمل ، فلم يجز توقف الأجر (١٥) على العمل الصالح.

والجواب (١٦) : أن هذه الصورة نادرة ، والأحكام إنما تناط بالأعم (١٧) الأغلب.

السؤال الثاني : قوله : (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) يدل على أن الثواب مستحق بالعمل لا

__________________

ـ وحجة من قرأ «يدخلون» بالبناء للفاعل ، أضافوا الفعل إلى الداخلين ، لأنهم هم الداخلون بأمر الله تعالى لهم ، دليله قوله : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) [الأعراف : ٤٩].

السبعة (٢٣٧ ـ ٢٣٨) ، الحجة لابن خالويه (١٢٧) ، الكشف ١ / ٣٩٧ ، ٣٩٨ ، النشر ٢ / ٢٥٢.

(١) فصل : سقط من ب.

(٢) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢١ / ٢٣٦.

(٣) ما بين القوسين في ب : فإن قيل : احتجوا.

(٤) وآمن سقط من ب.

(٥) المعطوف غير : سقط من ب.

(٦) في ب : فالجواب عنه ذكر الكعبي. والكعبي هو : سليمان بن يزيد بن قنفذ ، أبو المثنى الخزاعي ، روى عن سالم بن عبد الله بن عمرو ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وغيرهما ، وروى عنه داود بن قيس الفراء ، وعبد الله بن وهب ، وغيرهما ، خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ١٢ / ٢٢١.

(٧) بينهما : سقط من ب.

(٨) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢١ / ٢٣٦.

(٩) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢١ / ٢٣٧.

(١٠) في ب : فإن قيل : وههنا.

(١١) في ب : سؤلان.

(١٢) في ب : دال على أن التوبة لا بد منها.

(١٣) إن : سقط من ب.

(١٤) في النسختين : تاب. والصواب ما أثبته.

(١٥) في الأصل : الأمر.

(١٦) في ب : فالجواب.

(١٧) في ب : بالأهم ، وهو تحريف.

٨٩

بالتفضّل ، لأنه لو كان بالتفضل ، لاستحال حصول الظلم ، لكن من مذهبكم أنه لا استحقاق للعبد بعمله إلا بالوعد.

وأجيب بأنه لما أشبهه أجري على حكمه (١).

قوله : (جَنَّاتِ عَدْنٍ) العامة على كسر التاء نصبا على أنها بدل من «الجنة» (٢).

وعلى هذه القراءة يكون قوله : (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) فيه وجهان :

أحدهما : أنه اعتراض بين البدل والمبدل منه.

والثاني : أنه حال. كذا قال أبو حيان (٣).

وفيه نظر من حيث إن المضارع المنفي ب «لا» كالمثبت في أنه لا تباشره واو الحال (٤).

وقرأ أبو حيوة (٥) ، وعيسى بن عمر (٦) ، والحسن (٧) ، والأعمش (٨) :

__________________

(١) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢١ / ٢٣٧.

(٢) من قوله تعالى : «فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً» من الآية السابقة.

انظر تفسير ابن عطية ٩ / ٤٩٥ ، البيان ٢ / ١٢٨ ، التبيان ٢ / ٨٧٧ ، البحر المحيط ٦ / ٢٠١.

(٣) البحر المحيط ٦ / ٢٠١ ، وأبو حيان : هو محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان ، الإمام أثير الدين أبو حيان الأندلسي ، الغرناطي نحوي عصره ، ولغويه ، ومحدثه.

من مصنفاته : البحر المحيط ، التذييل والتكميل في شرح التسهيل ، وغير ذلك ، مات سنة ٧٤٥ ه‍.

طبقات المفسرين للداودي ٢ / ٢٨٦ ـ ٢٩١.

(٤) نص النحويون على أنّ هناك صورا تمتنع واو الحال فيها ، منها المضارع المثبت المجرد من (قد) ، نحو قوله تعالى : «وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ» الآية ٦ من سورة المدثر ، وذلك لأنه يشبه اسم الفاعل في الزّنة والمعنى ، والواو لا تدخل على اسم الفاعل ، فكذلك ما أشبهه. ومنها المضارع المنفي ب (لا) نحو قوله تعالى : وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ [المائدة : ٨٤] ، لأن المضارع المنفي ب (لا) في تأويل اسم الفاعل المضاف إليه (غير) فأجري مجراه في الاستغناء عن الواو. قاله ابن مالك في شرح الكافية ٢ / ٧٦٢ ـ ٧٦٣ : وابن الناظم جعل ترك الواو في المضارع المنفي ب (لا) أكثر من اقترانه بالواو ، وأنشد على مجيء الواو قول مالك بن رقية :

وكنت ولا ينهنهني الوعيد

وقول مسكين الدارمي :

أكسبته الورق البيض أبا

ولقد كان ولا يدعى لأب

وعلى رأي ابن الناظم فلا محل للنظر.

شرح التصريح ١ / ٣٩١ ـ ٣٩٢ ، شرح الأشموني ٢ / ١٨٨ ـ ١٨٩.

(٥) هو شريح بن يزيد ، أبو حيوة ، الحضرمي ، الحمصي ، صاحب القراءة الشاذة ، ومقرىء الشام ، له اختيار في القراءة ، عن أبي البرهسم عمران بن عثمان ، وعن الكسائي قراءته ، روى عنه ابنه حيوة ، مات سنة ٢٠٣ ه‍. طبقات القراء ١ / ٣٢٥.

(٦) هو عيسى بن عمر الثقفي أبو عمر مولى خالد بن الوليد ، إمام في النحو والعربية ، والقراءة ، أخذ عن ابن أبي إسحاق ، وغيره ، وكان مشهورا بالفصاحة ، والغريب ، وصنف في النحو : الإكمال ، والجامع.

مات سنة ١٤٩ ه‍. بغية الوعاة ٢ / ٢٣٧ ـ ١٣٨.

(٧) في ب : والحسن. وعيسى بن عمر.

(٨) هو سليمان بن مهران الأعمش ، أبو محمد الأسدي الكاهلي مولاهم الكوفي ، أخذ القراءة عرضا عن ـ

٩٠

«جنّات» (١) بالرفع (٢) وفيه وجهان :

أحدهما : أنه خبر مبتدأ مضمر ، تقديره : تلك أو هي جنات عدن (٣).

والثاني : وبه قال الزمخشري (٤) : أنها مبتدأ (٥) ، يعني ويكون خبرها (الَّتِي وَعَدَ).

وقرأ الحسن بن حيّ (٦) ، وعلي بن صالح (٧) ، والأعمش في رواية «جنّة (٨) عدن» نصبا مفردا (٩). واليماني (١٠) ، والحسن ، والأزرق (١١) عن حمزة (١٢) ، «جنّة» رفعا «مفردا (١٣)»(١٤). وتخريجها واضح مما تقدم (١٥).

قال الزمخشري : لما كانت الجنة (١٦) مشتملة على جنات عدن أبدلت منها ، كقولك

__________________

ـ إبراهيم النخعي ، وزر بن حبيش ، وعاصم بن أبي النجود ، وغيرهم ، وروى القراءة عنه عرضا وسماعا حمزة الزيات ، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وغيرهما مات سنة ١٤٨ ه‍. طبقات القراء ١ / ٣١٥ ـ ٣١٦ ..

(١) «جنات» سقط من ب.

(٢) المختصر (٨٥) ، الكشاف ٢ / ٤١٥ ، تفسير ابن عطية ٩ / ٤٩٥ ، البحر المحيط ٦ / ٢٠١.

(٣) تفسير ابن عطية ٩ / ٤٩٥ ، التبيان ٢ / ٨٧٧ ، البحر المحيط ٦ / ٢٠١.

(٤) تقدم.

(٥) انظر الكشاف ٢ / ٤١٥.

(٦) تقدم.

(٧) علي بن صالح بن صالح بن حي ، أبو محمد البكالي ، أخذ القراءة عرضا عن عاصم ، وحمزة ، وعرض عليه عبيد الله بن موسى ، مات سنة ١٥٤ ه‍.

طبقات القراء ١ / ٥٤٦.

(٨) في ب : جنات. وهو تحريف.

(٩) المختصر (٨٥) ، البحر المحيط ٦ / ٢٠١.

(١٠) هو محمد بن عبد الرحمن السميفع ـ بفتح السين ـ أبو عبد الله اليماني له اختيار في القراءة ينسب إليه شذ فيه. طبقات القراء ٢ / ١٦١ ـ ١٦٢.

(١١) هو إسحاق بن يوسف بن يعقوب الأزرق ، أبو محمد الواسطي ، قرأ على حمزة ، وروى القراءة عن أبي عمرو ، وحروف عاصم عن أبي بكر بن عياش ، وروى عن الأعمش ، وغيره ، وروى عنه القراءة إسماعيل بن إبراهيم بن هود ، وغيره ، مات سنة ١٩٥ ه‍.

طبقات القراء ١ / ١٥٨.

(١٢) هو حمزة بن حبيب الزيات ، أبو عمارة الكوفي التيمي مولاهم ، أحد القراء السبعة ولد سنة ٨٠ ه‍ ، وأدرك الصحابة بالسن فيحتمل أن يكون رأى بعضهم ، أخذ القراءة عرضا عن الأعمش ، وغيره ، وروى عن خلق أشهرهم الكسائي ، مات سنة ١٥٦ ه‍.

طبقات القراء ١ / ٢٦١ ـ ٢٦٣.

(١٣) البحر المحيط ٦ / ٢٠١ ـ ٢٠٢.

(١٤) ما بين القوسين مكرر في ب.

(١٥) أي أن تخريجها كتخريج قراءة «جنات» بالجمع رفعا ونصبا.

(١٦) في ب : الآية. وسقطت من الأصل.

٩١

أبصرت دارك القاعة والعلالي (١) ، و«عدن» معرفة بمعنى العدن ، وهو الإقامة كما جعلوا فينة (٢) ، وسحر ، وأمس فيمن لم يصرفه أعلاما لمعاني الفينة والسحر والأمس (٣) ، فجرى مجرى العدن لذلك (٤) ، أو هو علم لأرض الجنة ، لكونها دار إقامة ، ولو لا ذلك لما ساغ الإبدال ، لأنّ النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة ، ولما ساغ وصفها ب «التي» (٥).

قال أبو حيان : وما ذكره متعقب ، أما دعواه : إن عدنا علم لمعنى العدن (٦). فيحتاج إلى توقيف وسماع من العرب ، وكذا (٧) دعواه العلمية الشخصية فيه ، وأما قوله : ولو لا ذلك (٨) إلى قوله : موصوفة ؛ فليس مذهب البصريين ، لأن مذهبهم جواز إبدال النكرة من المعرفة وإن لم تكن موصوفة ، وإنما ذلك شيء قاله البغداديون ، وهم محجوجون بالسماع (٩) على ما بيناه ، وملازمته فاسدة. وأما قوله : ولما ساغ وصفهاب

__________________

(١) العلالي : جمع (علّيّة) بكسر العين وضمها مع تشديد اللام مكسورة والياء وهي الغرفة. انظر اللسان (علا).

(٢) الفينة : الحين ، الكسائي ، وغيره : الفينة : الوقت من الزمان. اللسان (فين).

(٣) ذلك أن (فينة) حين تجعل علما على الوقت المعين من الزمان منعت من الصرف للعلمية والعدل.

و(سحر) إذا أريد به سحر يوم بعينه واستعمل ظرفا مجردا من (ال) والإضاقة : كجئت يوم الجمعة سحر. فإنه ممنوع من الصرف للتعريف والعدل. فهو معرفة بالعلمية ، لأنه جعل علما لهذا الوقت ، وهو معدول عن السحر المقترن بأل.

و(أمس) إذا كان مرادا به اليوم الذي يليه يومك ، ولم يضف ولم يقرن بأل ، ولم يصغّر ، ولم يكسّر ، ولم يقع طرفا ، فإن بعض بني تميم يمنع صرفه مطلقا رفعا ونصبا وجرا ، لأنه علم معدول عن الأمس المعرف ب (ال) ، فيقولون : مضى أمس بالرفع بلا تنوين ، وشاهدت أمس ، وما رأيت زيدا من أمس.

بالفتح فيهما ، وبعضهم يخص ذلك الإعراب بحالة الرفع خاصة دون حالتي النصب والجر فيبنيه على الكسر فيهما ، والحجازيون يبنونه على الكسر مطلقا في الرفع والنصب والجر على تقديره متضمنا معنى اللام المعرفة.

شرح التصريح ٢ / ٢٢٣ ـ ٢٢٦.

(٤) في ب : و.

(٥) الكشاف ٢ / ٤١٥.

(٦) في ب : علما لمعان أي المعنى العدن.

(٧) في ب : وكذلك.

(٨) في الأصل : ذاك.

(٩) إبدال النكرة من المعرفة من الأمور المختلف فيها بين البصريين ، والكوفيين ، والبغداديين ، فذهب الكوفيون ، والبغداديون إلى جواز إبدال النكرة من المعرفة بشرط كون النكرة موصوفة ، ووافقهم في ذلك السهيلي وابن أبي الربيع نحو قوله : عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ [البقرة : ٢١٧] لأن النكرة إذا لم تكن موصوفة لم تفد ، إذ لا فائدة في قولك : مررت بزيد برجل.

وزاد البغداديون : أو يكون من لفظ الأول ، كقوله : (بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ) [العلق : ١٣ ، ١٤]. وذهب البصريون إلى جواز إبدال النكرة من المعرفة مطلقا ، لورودها غير موصوفة ، وليست من لفظ الأول ، كقوله :

فصدوا من خيارهن لقاحا

يتقاذفن كالغصون عزاز

ف (عزاز) بدل من الضمير في (يتقاذفن). ـ

٩٢

«التي» ، فلا يتعين كون «التي» صفة ، وقد ذكرنا أنه يجوز إعرابه بدلا (١).

قال شهاب الدين (٢) : إن «التي» صفة ، والتمسك بهذا الظاهر كاف وأيضا : فإن الموصول (٣) في قوة المشتقات ، وقد نصوا على أن البدل بالمشتق ضعيف (٤) ، فكذلك ما في معناه(٥).

قوله : «بالغيب» (٦) فيه وجهان :

أحدهما : أن الباء حالية ، وفي صاحب الحال احتمالان :

أحدهما : ضمير الجنة ، وهو عائد الموصول ، أي : وعدها وهي غائبة عنهم لا يشاهدونها.

والثاني : أن يكون هو (٧) «عبادة» (٨) ، أي : وهم غائبون عنها لا يرونها ، إنما آمنوا بها بمجرد الإخبار عنه.

والوجه الثاني : أن الباء سببية ، أي : بسبب تصديقه الغيب ، وبسبب الإيمان «به (٩)»(١٠).

قوله : «إنّه كان». يجوز (١١) في هذا الضمير وجهان :

__________________

ـ وقوله :

فإلى ابن أمّ أناس أرحل ناقتي

عمرو فتبلغ حاجتي أو تزحف

ملك إذا نزل الوفود ببابه

عرفوا موارد مزبد لا ينزف

ف (ملك) بدل من (عمرو). الهمع ٢ / ١٢٧.

(١) البحر المحيط ٦ / ٢٠٢.

(٢) هو أحمد بن يوسف بن عبد الدائم بن محمد الحلبي ، شهاب الدين ، المعروف بالسمين ، كان فقيها بارعا في النحو ، والقراءات ويتكلم في الأصول ، أديبا ، لازم أبا حيان إلى أن فاق أقرانه ، أخذ القراءات عن التقي الصائغ ، وسمع الحديث من يونس الدبوسي ، وله تفسير القرآن (الدر المصون) ، والإعراب ، وشرح التسهيل ، وشرح الشاطبية ، وغير ذلك ، مات سنة ٧٥٦ ه‍. بغية الوعاة ١ / ٤٠٢.

(٣) في ب : الموصوف. وهو تحريف.

(٤) لأن الغالب في البدل أن يكون جامدا ، بحيث لو حذفت الأول لاستقل الثاني ، ولم يحتج إلى متبوع قبله في المعنى ، فإن لم يكن جامدا كقوله :

فلا وأبيك خير منك أني

ليؤذيني التحمحم والصهيل

قدر الموصوف أي : فلا وأبيك رجل خير منك. شرح الكافية ١ / ٣٣٨.

(٥) الدر المصون ٥ / ١٠ ميكرو فيلم (١٥٣٥٥) دار الكتب.

(٦) في ب :«رَجْماً بِالْغَيْبِ» [الكهف : ٢٢].

(٧) في النسختين : هي.

(٨) عباده : سقط من ب.

(٩) الكشاف ٢ / ٤١٥ ، البحر المحيط ٦ / ٢٠٢.

(١٠) به : سقط من ب.

(١١) في ب : فإن قيل : إنه يجوز.

٩٣

أحدهما : أنه ضمير الباري تعالى يعود على «الرحمن» ، أي : إن الرحمن كان وعده مأتيا.

والثاني : أنه ضمير الأمر والشأن ، لأنه مقام تعظيم وتفخيم.

وعلى الأول يجوز أن يكون في «كان» ضمير هو اسمها يعود على الله ـ تعالى ـ و«وعده» بدل من ذلك الضمير بدل اشتمال ، و«مأتيّا» خبرها.

ويجوز أن لا يكون فيها ضمير ، بل هي رافعة ل «وعده» و«مأتيا» الخبر أيضا (١).

وهو نظير : إن زيدا كان أبوه منطلقا.

و«مأتيّا» فيه وجهان :

أحدهما : أنه مفعول على بابه ، والمراد بالوعد : الجنة ، أطلق عليها المصدر ، أي : موعود ، نحو درهم ضرب الأمير (٢).

وقيل : الوعد مصدر على بابه ، و«مأتيا» مفعول بمعنى فاعل (٣). ولم يرتضه الزمخشري فإنه قال: قيل في «مأتيا» مفعول بمعنى فاعل ، والوجه أن الوعد هو الجنة ، وهم يأتونها ، أو هو من قولك : أتى إليه إحسانا ، أي : كان وعده مفعولا منجزا (٤).

وقال الزجاج : كل ما وصل إليك فقد وصلت إليه ، وما أتاك فقد أتيته (٥).

والمقصود من قوله : (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) بيان أن وعده تعالى ـ وإن كان بأمر غائب ـ فهو (٦) كأنه مشاهد حاصل ، والمراد (٧) تقرير ذلك في القلوب.

قوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً). اللغو من (٨) الكلام : ما يلقى ويطرح ، وهو المنكر من القول كقوله : (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً)(٩). وقال مقاتل (١٠) : هي اليمين الكاذبة (١١) وفيه دلالة على وجوب اجتناب اللغو ، لأن الله ـ تعالى ـ نزه عنه الدار التي لا تكليف فيها ، ولقوله: (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً)(١٢) ، وقوله : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ)(١٣)(١٤) الآية(١٥).

أبدى الزمخشري فيه ثلاثة أوجه :

__________________

(١) التبيان ٢ / ٨٧٧.

(٢) المرجع السابق.

(٣) تفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص ٢٧٤.

(٤) الكشاف ٢ / ٤١٥.

(٥) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٣٣٦.

(٦) هو : سقط من ب.

(٧) المراد : سقط من ب.

(٨) في ب : في.

(٩) [الغاشية : ١١].

(١٠) تقدم.

(١١) تفسير البغوي ٥ / ٣٨٣.

(١٢) [الفرقان : ٧٢].

(١٣) من قوله تعالى : «وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ» [القصص : ٥٥].

(١٤) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٥) انظر الكشاف ٢ / ٤١٥ ـ ٤١٦ ، والفخر الرازي ٢١ / ٢٣٨.

٩٤

أحدها : أن يكون (١) معناه : إن كان تسليم بعضهم على بعض ، أو تسليم الملائكة عليهم لغوا ، فلا يسمعون لغوا إلا ذلك ، فهو من وادي قوله : (٢)

٣٦١١ ـ ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب (٣)

الثاني : أنهم لا يسمعون فيها إلا قولا يسلمون فيه من العيب والنقصان على الاستثناء المنقطع.

الثالث : أن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة ، ودار السلامة هي دار السلامة ، وأهلها أغنياء عن الدعاء بالسلامة ، فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث ، لو لا ما فيه من فائدة الإكرام (٤).

وظاهر هذا أن الاستثناء على الأول والأخير متصل ، فإنه صرح بالمنقطع في الثاني وأما اتصال الثالث فواضح ، لأنه أطلق اللغو على السلام بالاعتبار الذي ذكره.

وأما الاتصال في الأول فعسر (٥) ، إذ لا يعدّ ذلك عيبا ، فليس من جنس الأول وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله ـ تعالى ـ عند قوله : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى)(٦).

قوله : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) فيه سؤالان (٧) :

السؤال الأول (٨) : أن المقصود من هذه الآيات وصف الجنة بآيات مستعظمة ووصول الرزق إليهم بكرة وعشيا ليس من الأمور المستعظمة.

والجواب من وجهين :

الأول : قال الحسن : أراد تعالى أن يرغب كل قوم بما أحبوه في الدنيا ، فلذلك ذكر أساور الذهب والفضة ، ولبس الحرير التي كانت (٩) عادة العجم ، والأرائك التي هي

__________________

(١) في ب : كان.

(٢) كان : سقط من ب.

(٣) البيت من بحر الطويل ، قاله النابغة الذبياني ، فلول جمع فلّ ، وهو كسر في حد السيف ، وسيف أفلّ : بين الفلل.

القراع والمقارعة : المضاربة بالسيوف. الكتائب : جمع كتيبة ، وهي الطائفة المجتمعة من الجيش.

والشاهد فيه أن صاحب الكشاف أورده على أنّ الاستثناء فيه استثناء متصل ، مبالغة في المدح ، أي : إن كان ولا بدّ من العيب ففيهم عيب ، وهو فلول سيوفهم من مضاربة الأعداء. وأورده علماء البديع شاهدا لتأكيد المدح بما يشبه الذم. وقد تقدم.

(٤) انظر الكشاف ٢ / ٤١٦.

(٥) في ب : وأما الاتصال الأول فعسر أعني الاتصال في الأول عسر.

(٦) [الدخان : ٥٦].

(٧) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢١ / ٢٣٨.

(٨) في ب : أحدهما.

(٩) في ب : الذي كان.

٩٥

الحجال (١) المضروبة على الأسرّة ، وكانت عادة أشراف اليمن ، ولا شيء كان أحب إلى العرب من الغداء والعشاء فوعدهم بذلك.

الثاني : المراد دوام الرزق ، تقول : أنا عند فلان صباحا ومساء (٢) ، تريد الدوام ، ولا تقصد الوقتين المعلومين.

السؤال الثاني : قال تعالى : (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً)(٣) وقال عليه‌السلام (٤) : «لا صباح عند ربك ولا مساء بل هم في نور أبدا» (٥).

والبكرة والعشيّ لا يوجدان (٦) إلا عند وجود الصباح والمساء.

والجواب : أنهم يأكلون على مقدار الغداة والعشي ، لا أن في الجنة غدوة ولا عشيا ، إذ لا ليل فيها(٧).

وقيل : إنهم يغرفون النهار برفع الحجب ، ووقت الليل بإرخاء الحجب (٨).

وقيل : المراد رفاهية العيش ، وسعة الرزق (٩) ، أي : لهم رزقهم متى شاءوا.

قوله : (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ) صحت الإشارة ب «تلك» إلى «الجنّة» لأنها غائبة.

وقرأ الأعمش : «نورثها» بإبراز عائد الموصول (١٠).

وقرأ الحسن ، والأعرج (١١) ، وقتادة : «نورّث» بفتح الواو وتشديد الراء (١٢) من ورّث مضعفا ، وقوله : «نورث» استعارة ، أي : نبقي عليه الجنة كما نبقي على الوارث مال الموروث (١٣) ، وقيل : معناه: ننقل تلك المنازل ممن لو أطاع لكانت له إلى عبادنا الذين اتقوا ربهم ، فجعل هذا النقل إرثا ، قاله الحسن(١٤).

المتقي : هو من اتقى المعاصي ؛ واتقى ترك الواجبات.

__________________

(١) الحجال : جمع حجلة مثل القبة ، وحجلة العروس معروفة ، وهي بيت يزين بالثياب والأسرّة والستور.

اللسان (حجل).

(٢) في ب : صباحا ومساء وبكرة وعشيا.

(٣) [الإنسان : ١٨].

(٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٥) في ب : دائما.

(٦) في ب : لا يوجد. وهو تحريف.

(٧) آخر ما نقله عن الفخر الرازي ٢١ / ٢٣٨.

(٨) انظر البغوي ٥ / ٣٨٤.

(٩) المرجع السابق.

(١٠) انظر البحر المحيط ٦ / ٢٠٢.

(١١) هو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، أبو داود المدني ، تابعي جليل ، أخذ القراءة عرضا عن أبي هريرة ، وابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة ، وروى القراءة عنه عرضا نافع بن أبي نعيم ، مات سنة ١١٩ ه‍.

طبقات القراء ١ / ٣٨١.

(١٢) انظر تفسير ابن عطية ٩ / ٤٩٨ ، البحر المحيط ٦ / ٢٠٢.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢١ / ٢٣٨.

(١٤) المرجع السابق.

٩٦

قال (١) القاضي (٢) : هذه الآية دالة على أن الجنة يدخلها من كان تقيا ، والفاسق المرتكب للكبائر لم يوصف بذلك.

وأجيب بأن هذه الآية تدل على أن المتقي يدخلها ، وليس فيها دلالة على أن غير المتقي لا يدخلها ، وأيضا : فصاحب الكبيرة متق عن الكفر ، ومن صدق عليه أنه متق (عن الكفر ، فقد صدق عليه أنه متق) (٣) ، لأن المتقي جزء مفهوم قولنا : المتقي عن الكفر ، وإذا كان صاحب الكبيرة (يصدق عليه أنه متق ، وجب أن) يدخل الجنة ، (فالآية بأن تدل على أن صاحب الكبيرة يدخل الجنة) أولى من أن تدل على أنه لا يدخلها (٤).

قوله تعالى : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥) وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا)(٧٢)

قوله تعالى : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) الآية. قال ابن عطية (٥) : الواو عاطفة جملة كلام على أخرى ، واصلة بين القولين ، وإن لم يكن معناهما واحدا (٦).

وقد أغرب النقاش (٧) في حكاية قول : وهو أن قوله : (وَما نَتَنَزَّلُ) متصل بقوله : (قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ)(٨)(٩).

وقال أبو البقاء (١٠) : (وَما نَتَنَزَّلُ) أي : وتقول الملائكة (١١). فجعله معمولا لقول مضمر.

وقيل : هو من كلام أهل الجنة (١٢). وهو أقرب مما قبله. و«نتنزّل» مطاوع (١٣)

__________________

(١) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢١ / ٢٣٩.

(٢) تقدم.

(٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(٤) آخر ما نقله عن الفخر الرازي ٢١ / ٢٣٩.

(٥) تقدم.

(٦) تفسير ابن عطية ٩ / ٥٠٠.

(٧) تقدم.

(٨) [مريم : ١٩].

(٩) انظر البحر المحيط ٦ / ٢٠٣.

(١٠) تقدم.

(١١) التبيان ٢ / ٨٧٧.

(١٢) وهو قول أبي مسلم. الفخر الرازي ٢١ / ٢٤٠.

(١٣) المطاوعة : التأثر وقبول أثر الفعل ، سواه كان التأثر متعديا نحو علّمته الفقه فعلمه ، أي : قبل التعليم ، فالتعليم تأثير والتعلم تأثر وقبول ذلك الأثر ، وهو متعدّ أو كان لازما نحو كسرته فانكسر ، أي : تأثر بالكسر ، انظر شرح الشافية ٢ / ١٠٣ ، ١٠٥ ، ١٠٧.

٩٧

نزّل ـ بالتشديد ـ ويقتضي العمل في مهلة وقد لا يقتضيها. قال الزمخشري : التنزل (١) على معنيين : معنى النزول على مهل ، ومعنى النزول على الإطلاق ، كقوله :

٣٦١٢ ـ فلست لإنسيّ ولكن لملأك

تنزّل من جوّ السّماء يصوب (٢)

لأنه مطاوع نزل ، ونزل يكون بمعنى أنزل ، ويكون بمعنى التدرج ، واللائق بهذا الموضع هو النزول على مهل ، والمراد : أن نزولنا في الأحايين وقتا بعد وقت (٣).

قال شهاب الدين : وقد تقدم أنه يفرق بين نزّل وأنزل في أول هذا الموضوع (٤).

وقرأ العامة «نتنزّل» بنون الجمع (٥). وقرأ الأعرج (٦) «يتنزّل» بياء الغيبة (٧) ، وفي الفاعل حينئذ قولان :

أحدهما : أنه ضمير جبريل ـ عليه‌السلام ـ (٨).

قال ابن عطية : ويرده قوله : (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا) ، لأنه لا (٩) يطرد معه ، وإنما يتجه أن يكون خبرا عن جبريل أي : القرآن لا يتنزل إلا بأمر الله في الأوقات التي يقدرها (١٠). وقد يجاب ابن عطية بأنه على إضمار القول ، أي : قائلا له ما بين أيدينا (١١).

والثاني : أنه يعود على الوحي ، وكذا قال الزمخشري على الحكاية عن جبريل ، والضمير للوحي (١٢). ولا بد من إضمار هذا القول أيضا (١٣).

قوله : (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا). استدل بعض النحاة على أن الأزمنة ثلاثة (١٤) : ماض ، وحاضر ، ومستقبل بهذه الآية (١٥) وهو كقول زهير (١٦) :

__________________

(١) في ب : التنزيل. وهو تحريف.

(٢) البيت من بحر الطويل ، قاله علقمة الفحل. ملأك أصلها ملك ، نقلت حركة الهمزة إلى ما قبلها ، ثم خففت الهمزة بحذفها ، وقيل : ملأك أصلها مألك ، قدمت اللام على الهمزة ، ثم خففت الهمزة بحذفها فلما جمعوه ردوا الهمزة إلى أصلها ، فقالوا : ملائكة ، وملائك.

يصوب : ينزل والشاهد فيه أن التنزيل بمعنى النزول المطلق وقد تقدم.

(٣) الكشاف ٢ / ٤١٦.

(٤) الدر المصون ٥ / ١١.

(٥) تفسير ابن عطية ٩ / ٤٩٨ ، البحر المحيط ٦ / ٢٠٤.

(٦) في ب : الأعمش. وهو تحريف.

(٧) المختصر (٨٥) ، الكشاف ٢ / ٤١٧ ، تفسير ابن عطية ٩ / ٤٩٨ ، البحر المحيط ٦ / ٢٠٤.

(٨) عليه‌السلام : سقط من ب.

(٩) لا : سقط من ب.

(١٠) تفسير ابن عطية ٩ / ٤٩٨.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ٢٠٤.

(١٢) الكشاف : ٢ / ٤١٧.

(١٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٢٠٤.

(١٤) في ب : ثلاث.

(١٥) قال ابن الأنباري : (وله ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك في هذه الآية دلالة على أن الأزمنة ثلاثة :

ماض ، وحاضر ، ومستقبل) البيان ٢ / ١٢٩.

(١٦) تقدم.

٩٨

٣٦١٣ ـ وأعلم علم اليوم والأمس قبله

ولكنّني عن علم ما في غد عم (١)

فصل (٢)

روى ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا جبريل ما منعك أن تزورنا» فنزلت (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) الآية (٣). وقال عكرمة (٤) والضحاك وقتادة ومقاتل ، والكلبي (٥) : احتبس جبريل ـ عليه‌السلام (٦) ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سأله قومه عن أصحاب الكهف ، وذي القرنين ، والروح فقال : «أخبركم غدا» ، ولم يقل : إن شاء الله حتى شق على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال المشركون ودّعه ربه وقلاه ، ثم نزل (٧) بعد أيام ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أبطأت علي حتى ساء ظني ، واشتقت إليك» فقال له جبريل ـ عليه‌السلام (٨) ـ إني كنت إليك أشوق ، ولكنني عبد مأمور ، إذا بعثت نزلت ، وإذا حبست احتبست. فنزل قوله : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ)، وقوله : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ)(٩) وسورة الضحى (١٠) وفي هذه الآية سؤال(١١) : وهو أن قوله : (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) كلام الله ، وقوله: (وَما نَتَنَزَّلُ) كلام غير الله ، فكيف جاز عطف هذا على ما قبله من غير فصل؟.

وأجيب : بأنه إذا كانت القرينة ظاهرة لم يقبح كقوله ـ تعالى ـ : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(١٢) ، (وهذا كلام الله تعالى ، ثم عطف عليه) (١٣)(وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ)(١٤). واعلم أنّ ظاهر قوله : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) خطاب جماعة لواحد ، وذلك لا يليق بالذين ينزلون على الرسول ، فلذلك ذكروا في سبب النزول ما تقدم (١٥). ثم قال(١٦) : (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا) أي : علم ما بين أيدينا (١٧) قال سعيد بن

__________________

(١) البيت من بحر الطويل ، قاله زهير ، رجل عم في أمره : لا يبصره. وقد أورده ابن عادل شاهدا على أن الأزمنة ثلاثة ماض ، وحاضر ، ومستقبل فقوله : (اليوم) يدل على الزمن الحاضر ، و(الأمس) يدل على الماضي ، و(غد) يدل على المستقبل. وقد تقدم.

(٢) فصل : سقط من ب.

(٣) أخرجه البخاري (بدء الخلق) ٢ / ٢١٣ ، (كتاب التفسير) ٣ / ١٥٧ ، والترمذي (التفسير) ٤ / ٣٧٧ ، والإمام أحمد ١ / ٢٣١ ، ٢٣٤ ، ٣٥٧.

(٤) تقدم.

(٥) تقدم.

(٦) في : عليه الصلاة والسلام.

(٧) في ب : ثم نزل عليه.

(٨) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٩) [الكهف : ٢٣ ، ٢٤].

(١٠) انظر البغوي ٥ / ٣٨٤ ـ ٣٨٥.

(١١) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢١ / ٢٣٩.

(١٢) [مريم : ٣٥].

(١٣) ما بين القوسين سقط من ب. وفيه : وقوله.

(١٤) [مريم : ٣٦] ، وفي ب بعد ذكر هذه الآية : عطف عليه.

(١٥) آخر ما نقله عن الفخر الرازي ٢١ / ٢٣٩.

(١٦) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٣٨٥ ـ ٣٨٦.

(١٧) ما بين القوسين سقط من ب.

٩٩

جبير (١) ، وقتادة ، ومقاتل : (ما بَيْنَ أَيْدِينا) من أمر الآخرة ، والثواب ، والعقاب ، (وَما خَلْفَنا) من أمر الدنيا ، (وَما بَيْنَ ذلِكَ) ما يكون من هذا الوقت إلى قيام الساعة. وقيل : (ما بَيْنَ أَيْدِينا) من أمر الآخرة ، (وَما خَلْفَنا) من أمر الدنيا ، (وَما بَيْنَ ذلِكَ) أي : بين النفختين ، وبينهما أربعون سنة.

وقيل : (ما بَيْنَ أَيْدِينا) ما بقي من أمر الدنيا ، (وَما خَلْفَنا) ما مضى منها ، (وَما بَيْنَ ذلِكَ) هذه حياتنا. وقيل : (ما بَيْنَ أَيْدِينا) بعد أن نموت ، (وَما خَلْفَنا) قبل أن نخلق ، (وَما بَيْنَ ذلِكَ) مدة الحياة. وقيل : (ما بَيْنَ أَيْدِينا) الأرض إذا أردنا النزول إليها ، (وَما خَلْفَنا) السماء وما أنزل منها ، (وَما بَيْنَ ذلِكَ) الهواء ، يريد أن ذلك كله لله ـ عزوجل ـ فلا يقدر على شيء إلّا بأمره. ثم قال : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) أي : ناسيا ، أي : ما نسيك ربك بمعنى تركك ، والناسي التارك (٢) ، كقوله: (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى)(٣) أي : ما كان امتناع النزول لترك الله لك وتوديعه إياك (٤).

قوله : (رَبُّ السَّماواتِ)(٥) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه بدل من «ربّك» (٦).

الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو ربّ (٧).

الثالث : كونه مبتدأ والخبر الجملة الأمرية بعده. وهذا ماش على رأي الأخفش ، إذ (٨) يجوّز زيادة الفاء في خبر المبتدأ مطلقا (٩).

__________________

(١) تقدم.

(٢) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٣٨٥ ـ ٣٨٦.

(٣) [الضحى : ٣].

(٤) الفخر الرازي ٢١ / ٢٤٠.

(٥) في ب : «رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ».

(٦) في قوله تعالى : «وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا» من الآية السابقة. الكشاف ٢ / ٤١٧ ، ٢ / ١٢٩ ، البحر المحيط ٦ / ٢٠٤.

(٧) الكشاف ٢ / ٤١٧ ، البيان ٢ / ١٢٩ ، التبيان ٢ / ٨٧٧ ، البحر المحيط ٦ / ٢٠٤.

(٨) إذ : سقط من ب.

(٩) خالف الأخفش كثيرا من النحويين حيث جوّز زيادة الفاء في خبر المبتدأ مطلقا ، نحو : زيد فوجد وقول الشاعر :

وقائلة : خولان فانكح فتاتهم

وأكرومة الحيّين خلو كما هيا

والفراء ، والأعلم ، وجماعة قيدوا الجواز بكون الخبر أمرا ، أو نهيا ، فالأمر بالبيت السابق والنهي نحو : محمد فلا تضربه.

والأكثرون يجيزون دخول الفاء في خبر المبتدأ إذا كان المبتدأ متضمنا معنى الشرط ، بأن كان اسما موصولا بشرط أن يكون عاما ، وأن تكون صلته فعلا أو ظرفا نحو : الذي يأتيني أو في الدار فله درهم واشترط هذا ، لأنّه إذا كان كذلك كان فيه معنى الشرط ، فتدخل فيه الفاء كما تدخل في الشرط ـ

١٠٠