اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) [المزمل : ١٥ ، ١٦] ، أي : ذلك السلام الموجّه إلى يحيى موجّه إليّ ، وقال الزمخشريّ ـ رحمه‌الله ـ : «والصحيح أن يكون هذا التعريف تعريضا باللعنة على متّهمي مريم ـ عليها‌السلام ـ وأعدائها من اليهود ، وتحقيقه : أنّ اللّام لاستغراق الجنس ، فإذا قال : وجنس السّلام عليّ خاصّة ، فقد عرّض بأنّ ضدّه عليكم ، ونظيره قول موسى ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ : (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) [طه : ٤٧].

يعني : أنّ العذاب على من كذّب ، وتولّى ، وكان المقام مقام اللّجاج والعناد ، فيليق به هذا التعريض».

فصل في الفرق بين السلام على يحيى ، والسلام على عيسى

روي أن عيسى ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ قال ليحيى : أنت خير منّي ؛ سلّم الله عليك ، وسلّمت على نفسي. وأجاب الحسن ، فقال : إن تسليمه على نفسه تسليم الله ؛ لأنّه إنّما فعله بإذن الله.

قال القاضي (١) : السّلام عبارة عمّا يحصل به الأمان ، ومنه السّلامة في النّعم ، وزوال الآفات ، فكأنّه سأل ربّه ما أخبر الله تعالى أنه فعل بيحيى ، وأعظم احتياج الإنسان إلى السّلامة في هذه الأحوال الثلاثة ، وهي يوم الولادة ، أي : السّلامة عند الولادة من طعن الشّيطان ، ويوم الموت ، أي : عند الموت من الشّرك ، ويوم البعث من الأهوال.

قال المفسّرون : لمّا كلّمهم عيسى بهذا ، علموا براءة مريم ، ثم سكت عيسى ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ ، فلم يتكلّم بعد ذلك حتّى بلغ المدّة التي يتكلّم فيها الصّبيان.

قوله : (يَوْمَ وُلِدْتُ) منصوب بما تضمّنه «عليّ» من الاستقرار ، ولا يجوز نصبه ب «السّلام» للفصل بين المصدر ومعموله ، وقرأ زيد بن (٢) عليّ «ولدت» جعله فعلا ماضيا مسندا لضمير مريم ، والتاء للتأنيث ، و«حيّا» حال مؤكّدة.

فصل في الرد على اليهود والنصارى

اعلم أنّ اليهود والنّصارى ينكرون أنّ عيسى ـ صلوات الله عليه ـ تكلّم في زمان الطفوليّة ؛ واحتجّوا بأنّ هذا من الوقائع العجيبة ، التي تتوافر الدّواعي على نقلها ، فلو وجدت ، لنقلت بالتّواتر ، ولو كان كذلك ، لعرفه النّصارى ، لا سيّما وهم أشدّ النّاس بحثا عن أحواله ، وأشدّ النّاس غلوّا فيه ؛ حتّى ادعوا كونه إلها ، ولا شكّ أنّ الكلام في الطفوليّة من المناقب العظيمة ، فلمّا لم يعرفه النصارى مع شدّة الحبّ ، وكمال البحث عنه ، علمنا أنّه لم يوجد ؛ ولأنّ اليهود أظهروا عداوته حين ادّعى النّبوّة والرسالة ، فلو أنّه ـ صلوات الله عليه ـ تكلّم في المهد ، لكانت عداوتهم معه أشدّ ، ولكان قصدهم قتله أعظم ، فحيث لم يحصل شيء من ذلك ، علمنا أنّه ما تكلّم.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٨٥.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٦ / ١٧٨ ، الدر المصون ٤ / ٥٠٥.

٦١

وأمّا المسلمون ، فاحتجّوا بالعقل على أنه تكلّم ، فقالوا : لو لا كلامه الذي دلّهم على براءة أمّه عن الزّنا ، لما تركوا إقامة الحدّ عليها ، ففي تركهم لذلك دلالة على أنّه ـ صلوات الله عليه ـ تكلّم في المهد.

وأجابوا عن الشّبهة الأولى بأنّه ربّما كان الحاضرون عند كلامه قليلين ؛ فلذلك لم يشتهر.

وعن الثاني : لعلّ اليهود ما حضروا هناك ، وما سمعوا كلامه ، وإنّما سمع كلامه أقاربه ؛ لإظهار براءة أمّه ؛ فلذلك لم يشتغلوا بقتله.

قوله تعالى : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ)(٣٦)

قوله تعالى : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ) : يجوز أن يكون «عيسى» خبرا ل «ذلك» ويجوز أن يكون بدلا ، أو عطف بيان ، و (قَوْلَ الْحَقِّ) خبره ، ويجوز أن يكون (قَوْلَ الْحَقِّ) خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو قول ، و (ابْنُ مَرْيَمَ) يجوز أن يكون نعتا ، أو بدلا ، أو بيانا ، أو خبرا ثانيا.

وقرأ (١) عاصم ، وحمزة ، وابن عامر «قول الحقّ» بالنّصب ، والباقون بالرفع ، فالرفع على ما تقدّم ، قال الزمخشري ـ رحمه‌الله ـ : «وارتفاعه على أنّه خبر ، بعد خبر ، أو بدل». قال أبو حيّان : «وهذا الذي ذكره لا يكون إلّا على المجاز في قول : وهو أن يراد به كلمة الله ؛ لأنّ اللفظ لا يكون الذّات».

والنّصب : يجوز فيه أن يكون مصدرا مؤكّدا لمضمون الجملة ؛ كقولك : «هو عبد الله الحقّ ، لا الباطل» أي : أقول قول الحقّ ، فالحقّ الصّدق ، وهو من إضافة الموصوف إلى صفته ، أي : القول الحقّ ؛ كقوله : (وَعْدَ الصِّدْقِ) [الأحقاف : ١٦] أي : الوعد الصّدق ، ويجوز أن يكون منصوبا على المدح ، إن أريد بالحقّ الباري تعالى ، و«الّذي» نعت للقول ، إن أريد به عيسى ، وسمّي قولا كما سمّي كلمة ؛ لأنه عنها نشأ.

وذلك لأنّ الحق هو اسم الله تعالى ، فلا فرق بين أن نقول : عيسى هو كلمة الله ، وبين أن نقول : عيسى قول الحقّ.

وقيل : هو منصوب بإضمار «أعني» وقيل : هو منصوب على الحال من «عيسى» ويؤيّد هذا ما نقل عن الكسائيّ في توجيه الرفع : أنه صفة لعيسى.

وقرأ الأعمش «قال» برفع اللّام ، وهي قراءة ابن مسعود أيضا ، وقرأ الحسن «قول» بضم القاف ، ورفع اللام وكذلك في الأنعام (قَوْلُهُ الْحَقُ) [الأنعام : ٧٣] ، وهي مصادر ل

__________________

(١) ينظر في قراءاتها : السبعة ٤٠٩ ، والنشر ٢ / ٣١٨ ، والحجة ٤٤٣ ، والتيسير ١٤٩ والحجة للقراء السبعة ٥ / ٢٠١ ، وإعراب القراءات ٢ / ١٨ ، والإتحاف ٢ / ٢٣٦ والشواذ ٨٤ ، والبحر ٦ / ١٧٨ ، ١٧٩.

٦٢

«قال» يقال : قال يقول قولا وقالا وقولا ؛ كالرّهب ، والرّهب والرّهب ، وقال أبو البقاء : «والقال : اسم للمصدر ؛ مثل : القيل ، وحكي «قول الحقّ» بضمّ القاف ؛ مثل «الرّوح» وهي لغة فيه». قال شهاب الدين : الظاهر أنّ هذه مصادر كلّها ، ليس بعضها اسما للمصدر ، كما تقدّم تقريره في الرّهب والرّهب والرّهب.

وقرأ طلحة والأعمش «قال الحقّ» جعل «قال» فعلا ماضيا ، و«الحقّ» فاعل ، والمراد به الباري تعالى ، أي : قال الله الحقّ : إنّ عيسى هو كلمة الله ، ويكون قوله (الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) خبرا لمبتدأ محذوف.

وقرأ (١) عليّ بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ والسلميّ ، وداود بن أبي هند ، ونافع ، والكسائيّ في رواية عنهما [«تمترون» بتاء] الخطاب ، والباقون بياء الغيبة ، وتمترون : تفتعلون : إمّا من المرية ، وهي الشّكّ ، وإمّا من المراء ، وهو الجدال.

وتقدّم الكلام على نصب «فيكون».

فصل فيما تشير إليه «ذلك»

«ذلك» إشارة إلى ما تقدّم.

قال الزّجّاج (٢) ـ رحمه‌الله ـ ، أي : ذلك الذي قال : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) عيسى ابن مريم إشارة إلى أنّه ولد هذه المرأة ، لا أنّه ابن الله [كما زعمت النصارى](٣).

وقوله : (الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) ، أي : يختلفون ، وأما امتراؤهم في عيسى ، فقائل يقول : هو ابن الله ، وقائل يقول : هو الله ، وقائل يقول : هو ساحر كاذب ، وتقدّم الكلام على ذلك في آل عمران.

وروي أن عيسى ـ صلوات الله عليه ـ لمّا رفع ، حضر أربعة من [أكابر](٤) علمائهم ، فقيل للأوّل : ما تقول في عيسى؟ قال : هو الله هبط إلى الأرض ، خلق ، وأحيى ، ثم صعد إلى السّماء ، فتبعه على ذلك خلق ، وهم اليعقوبيّة ، وقيل للثاني : ما تقول؟ قال : هو ابن الله ، فتابعه على ذلك ناس ، وهم النسطورية ، [وقيل للثالث : ما تقول؟ قال : هو إله ، وأمه إله ، والله إله ، فتابعه على ذلك أناس ، وهم الإسرائيلية](٥) ، وقيل للرابع : ما تقول؟ فقال : عبد الله ورسوله ، وهو المؤمن المسلم ، وقال : أما تعلمون أنّ عيسى كان يطعم ، ونيام ، وأنّ الله تعالى لا يجوز ذلك عليه ، فخصمهم.

قوله تعالى : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) نفى عن نفسه الولد ، أي : ما كان من نعته اتخاذ الولد.

__________________

(١) ينظر : الإتحاف ٢ / ٢٣٦ ، والقرطبي ١١ / ٧٢ ، والبحر ٦ / ١٧٩ ، والكشاف ٢ / ١٦ ، والدر المصون ٤ / ٥٠٦.

(٢) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٩٥.

(٣) سقط من أ.

(٤) سقط من أ.

(٥) سقط من أ.

٦٣

والمعنى : أنّ ثبوت الولد له محال ، فقوله : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) كقولنا : ما كان لله أن يكون له ثان وشريك ، أي : لا يصحّ ذلك ، ولا ينبغي ، بل يستحيل ؛ فلا يكون نفيا على الحقيقة ، وإن كان بصورة النّفي.

وقيل : اللّام منقولة ، أي : ما كان ليتّخذ من ولد ، والمراد : ما كان الله أن يقول لأحد : إنّه ولدي ؛ لأنّ مثل [هذا] الخبر كذب ، والكذب لا يليق بحكمة الله تعالى وكماله ، فقوله : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) كقولنا : ما كان لله أن يظلم ، أي : لا يليق بحكمته ، وكمال إلهيّته.

قوله تعالى : (إِذا قَضى أَمْراً) إذا أراد أن يحدث أمرا ، (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، وهذا كالحجّة على تنزيهه عن الولد ، وبيانه : أن الّذي يجعل لله ولدا ، إما أن يكون الولد قديما أزليّا ، أو محدثا ، فإن كان أزليّا ، فهو محال ؛ لأنّه [لو كان واجبا لذاته ، لكان واجب الوجود أكثر من واحد ،](١) ولو كان [ممكنا](٢) لذاته ، لافتقر في وجوده إلى الواجب لذاته ؛ لأنّ الواجب لذاته غنيّ لذاته ، فلو كان مفتقرا في وجوده إلى الواجب لذاته ، كان ممكنا لذاته ، والممكن لذاته محتاج لذاته ، فيكون عبدا له ؛ لأنّه لا معنى للعبوديّة إلّا ذلك.

وإن كان الولد محدثا ، فيكون وجوده بعد عدمه بخلق ذلك القديم ، وإيجاده ، وهو المراد من قوله تعالى : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

فيكون عبدا ، لا ولدا ؛ فثبت أنه يستحيل أن يكون لله ولد.

فصل في قدم كلام الله تعالى

دلّت هذه الآية على قدم كلام الله تعالى ؛ لأنّه إذا أراد إحداث شيء ، قال له : (كُنْ فَيَكُونُ) فلو كان بقوله : «كن» محدثا ، لافتقر حدوثه إلى قول آخر ، ولزم التّسلسل ؛ وهو محال ؛ فثبت أنّ قول الله تعالى ، قديم ، لا محدث.

واحتج المعتزلة بالآية على حدوث كلام الله تعالى من وجوه :

أحدها : أنه تعالى أدخل كلمة «إذا» وهي دالّة على الاستقبال ؛ فوجب ألّا يحصل ذلك القول إلّا في الاستقبال.

ثانيها : أنّ «الفاء» للتعقيب ، و«الفاء» في قوله : (فَإِنَّما يَقُولُ) يدلّ على تأخير ذلك القول عن ذلك القضاء والمتأخّر عن غيره محدث.

وثالثها : «الفاء» في قوله «فيكون» يدلّ على حصول ذلك الشيء عقيب ذلك القول من غير فصل ؛ فيكون قول الله تعالى متقدّما على حدوث الحادث تقديما بلا فصل ،

__________________

(١) في أ : يكون ولا حياء ذاته ، ولو كان واجبا لذاته.

(٢) في ب : واجبا.

٦٤

والمتقدم على المحدث تقديما بلا فصل يكون محدثا ، فقول الله محدث.

قال ابن الخطيب (١) ـ رحمه‌الله ـ : واستدلال الفريقين ضعيف.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّه يقتضي أن يكون قوله «كن» قديما ، وذلك باطل بالاتّفاق.

وأمّا استدلال المعتزلة ؛ فلأنّه يقتضي أن يكون قول الله تعالى الذي هو مركّب من الحروف ، والأصوات محدثا ؛ وذلك لا نزاع فيه ، [لأن](٢) المدّعى قدمه شيء آخر.

فصل في أقوال الناس في قوله «كن»

من النّاس من أجرى الآية على ظاهرها ، وزعم أنّه تعالى ، إذا أحدث شيئا ، قال له : كن ، وهذا ضعيف ؛ لأنّه إما أن يقول له : كن قبل حدوثه ، أو حال حدوثه ، فإن كان الأوّل ، كان خطابا مع المعدوم ، وهو عبث ، وإن كان حال حدوثه ، فقد وجد بالقدرة ، والإرادة ، لا بقوله «كن» ومن النّاس من زعم أنّ المراد من قوله : «كن» هو التخليق والتكوين ؛ لأنّ القدرة على الشّيء غير ، وتكوين الشيء غير فإنّ الله تعالى قادر في الأزل ، وغير مكوّن في الأزل ؛ ولأنّه الآن قادر على عالم سوى هذا العالم ، وغير مكوّن له ، فالقادريّة غير المكوّنيّة ، والتكوين ليس هو نفس المكوّن ؛ لأنّ المكوّن إنما حدث ؛ لأنّ الله تعالى كونه ، وأوجده ، فلو كان التّكوين نفس المكوّن ، لكان قولنا : «المكوّن إنّما وجد بتكوين الله» بمنزلة قولنا : «المكوّن إنّما وجد بنفسه» وذلك محال ؛ فثبت أنّ التكوين غير المكوّن ، فقوله «كن» إشارة إلى الصفة [المسمّاة] بالتكوين.

وقال آخرون : قوله سبحانه وتعالى : «كن» عبارة عن نفاذ قدرة الله تعالى ومشيئته في الممكنات ؛ فإنّ وقوعها بتلك القدرة والإرادة من غير امتناع واندفاع يجرى مجرى العبد المطيع المنقاد لأوامر الله تعالى ، فعبر الله تعالى عن ذلك المعنى بهذه العبارة على سبيل الاستعارة.

قوله : (وَإِنَّ اللهَ) : قرأ (٣) ابن عامر ، والكوفيّون «وإنّ» بكسر «الهمزة» على الاستئناف ، ويؤيّدها قراءة أبيّ «إنّ الله» بالكسر ، دون واو ، وقرأ الباقون بفتحها ، وفيها أوجه:

أحدها : أنها على حذف حرف الجرّ متعلّقا بما بعده ، والتقدير : ولأنّ الله ربّي وربّكم فاعبدوه ؛ كقوله تعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) [الجن : ١٨] والمعنى: لوحدانيّته أطيعوه ، وإليه ذهب الزمخشريّ تابعا للخليل وسيبويه (٤) ـ رحمة الله عليهم ـ.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٨٦.

(٢) في أ : إنما.

(٣) ينظر في قراءاتها : السبعة ٤١٠ ، والنشر ٢ / ٣١٨ ، والحجة ٤٤٤ ، والتيسير ١٤٩ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ٢٠٢ وإعراب القراءات ٢ / ١٩ والإتحاف ٢ / ٢٣٧ ، والقرطبي ١١ / ٧٢ ، والبحر ٦ / ١٧٩.

(٤) ينظر : الكتاب ١ / ٤٦٤ ـ ٤٦٥.

٦٥

الثاني : أنها عطف على «الصّلاة» والتقدير : وأوصاني بالصلاة ، وبأنّ الله ، وإليه ذهب الفراء (١) ، ولم يذكر مكّي (٢) غيره ؛ ويؤيّده ما في مصحف أبيّ «وبأنّ الله ربّي» بإظهار الباء الجارّة ، وقد استبعد هذا القول ؛ لكثرة الفواصل بين المتعاطفين ، وأمّا ظهور الباء في مصحف أبيّ ؛ فلا يرجّح هذا ؛ لأنها باء السببية ، والمعنى : بسبب أنّ الله ربّي وربّكم فاعبدوه ، فهي كاللّام.

الثالث : أن تكون «أنّ» وما بعدها نسقا على «أمرا» المنصوب ب «قضى» والتقدير : وإذا قضى أمرا ، وقضى أنّ الله ربّي وربّكم ، ذكر ذلك أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء ، واستبعد الناس صحّة هذا النقل عن أبي عمرو ؛ لأنّه من الجلالة في العلم والمعرفة بمنزل يمنعه من هذ القول ؛ وذلك لأنّه إذا عطف على «أمرا» لزم أن يكون داخلا في حيّز الشرط ب «إذا» وكونه تبارك وتعالى ربنا لا يتقيّد بشرط ألبتّة ، بل هو ربّنا على الإطلاق ، ونسبوا هذا الوهم لأبي عبيدة ؛ لأنه كان ضعيفا في النّحو ، وعدّوا له غلطات ، ولعلّ ذلك منها.

الرابع : أن يكون في محلّ رفع خبر ابتداء مضمر ، تقديره : والأمر أنّ الله ربّي وربّكم ، ذكر ذلك عن الكسائيّ ، ولا حاجة إلى هذا الإضمار.

الخامس : أن يكون في محلّ نصب نسقا على «الكتاب» في قوله (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ) على أن يكون المخاطب بذلك معاصري عيسى ـ عليه صلوات الله ـ والقائل لهم ذلك عيسى ، وعن وهب : عهد إليهم عيسى : أنّ الله ربي وربّكم ، قال هذا القائل : ومن كسر الهمزة يكون قد عطف «إنّ الله» على قوله (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) فهو داخل في حيّز القول ، وتكون الجمل من قوله (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) إلى آخرها جمل اعتراض.

وهذا من البعد بمكان كأنّه قال : إنّي عبد الله ، والله ربّي وربّكم ، فاعبدوه ، وهذا قول أبي مسلم (٣) الأصفهانيّ ، وهو بعيد.

فصل في دلالة الآية

قوله : (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) يدلّ على أنّ مدبّر العالم ، ومصلح أمورهم هو الله سبحانه وتعالى [على] خلاف قول المنجّمين ، أنّ المدبّر للنّاس ، ومصلح أمورهم في السّعادة والشّقاوة هي الكواكب ، ويدلّ أيضا على أنّ الإله واحد ؛ لأنّ لفظ «الله» اسم علم له سبحانه ، لا إله إلا هو ، فلمّا قال : (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) ، أي : لا ربّ للمخلوقات سوى الله ؛ وذلك يدلّ على التّوحيد.

وقوله «فاعبدوه» قد ثبت في أصول الفقه أنّ ترتيب الحكم على الوصف المناسب

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للفراء ٢ / ١٦٨.

(٢) ينظر : المشكل ٢ / ٥٧.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٨٧.

٦٦

مشعر بالعليّة ، فهاهنا وقع الأمر بالعبادة مرتّبا على ذكر وصف الربوبيّة ، فدلّ على أنّه إنّما يلزمنا عبادته سبحانه ؛ لكونه ربّا لنا ؛ وذلك يدلّ على أنه تعالى إنّما تجب عبادته لكونه منعما على الخلائق بأنواع النّعم ؛ ولذلك فإنّ إبراهيم ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ لمّا منع أباه من عبادة الأوثان ، قال : (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) [مريم : ٤٢] أي : إنّها لما لم تكن منعمة على العباد ، لم تجز عبادتها ، وبيّن هاهنا أنّه لما ثبت أن الله تعالى لمّا كان ربّا ومربّيا ، وجبت عبادته ، فقد ثبت طردا وعكسا تعلّق العبادة بكون المعبود منعما ، ثم قال : (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) [يعنى القول بالتوحيد ونفي الولد والصاحبة صراط مستقيم ، وسمي هذا القول صراطا مستقيما](١) تشبيها بالطّريق ؛ لأنّه المؤدّي إلى الجنة.

قوله تعالى : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ)(٤٠)

قوله تعالى : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ.)

قيل : المراد النّصارى ، سمّوا أحزابا ؛ لأنهم تحزّبوا ثلاث فرق في أمر عيسى : النّسطوريّة ، والملكانيّة [واليعقوبيّة](٢) وقيل : المراد بالأحزاب الكفّار بحيث يدخل فيهم اليهود ، والنصارى ، والكفّار الذين كانوا في زمان محمّد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وهذا هو الظاهر ؛ لأنّه تخصيص فيه ، ويؤيّده قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا).

قوله : (مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) : «مشهد» مفعل : إمّا من الشّهادة ، وإمّا من الشّهود ، وهو الحضور ، و«مشهد» هنا : يجوز أن يراد به الزمان ، أو المكان ، أو المصدر : فإذا كان من الشهادة ، والمراد به الزمان ، فتقديره : من وقت شهادة ، وإن أريد به المكان ، فتقديره : من مكان شهادة يوم ، وإن أريد به المصدر ، فتقديره : من شهادة ذلك اليوم ، وأن تشهد عليهم ألسنتهم ، وأيديهم ، وأرجلهم ، والملائكة ، والأنبياء ، وإذا كان من الشهود ؛ وهو الحضور ، فتقديره : من شهود الحساب والجزاء يوم القيامة ، أو من مكان الشّهود فيه ، وهو الموقف ، أو من وقت الشّهود ، وإذا كان مصدرا بحالتيه المتقدمتين ، فتكون إضافته إلى الظرف من باب الاتّساع ؛ كقوله (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة : ٤]. ويجوز أن يكون المصدر مضافا لفاعله على أن يجعل اليوم شاهدا عليهم : إمّا حقيقة ، وإمّا مجازا.

ووصف ذلك المشهد بأنّه عظيم ؛ لأنّه لا شيء أعظم ممّا يشاهد ذلك اليوم من أهواله.

__________________

(١) سقط من : أ.

(٢) في ب : والمار يعقوبية.

٦٧

قوله : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) : هذا لفظ أمر ، ومعناه : التعجّب ، وأصحّ الأعاريب فيه ، كما تقرّر في علم النّحو : أنّ فاعله هو المجرور بالباء ، والباء زائدة ، وزيادتها لازمة ؛ إصلاحا للفظ ؛ لأنّ «أفعل» أمرا لا يكون فاعله إلّا ضميرا مستترا ، ولا يجوز حذف الباء إلّا مع أن وأنّ ؛ كقوله : [الطويل]

٣٦٠٦ ـ تردّد فيها ضوؤها وشعاعها

فأخصن وأزين لامرىء أن تسربلا (١)

أي : بأن تسربل ، فالمجرور مرفوع المحلّ ، ولا ضمير في «أفعل» ولنا قول ثان : أن الفاعل مضمر ، والمراد به المتكلّم ؛ كأنّ المتكلم يأمر نفسه بذلك ، والمجرور بعده في محلّ نصب ، ويعزى هذا للزّجّاج.

ولنا قول ثالث : أن الفاعل ضمير المصدر ، والمجرور منصوب المحلّ أيضا ، والتقدير : أحسن ، يا حسن ، بزيد ، ولشبه هذا الفاعل عند الجمهور بالفضلة لفظا ، جاز حذفه للدّلالة عليه كهذه الآية ، فإنّ تقديره : وأبصر بهم ، وفيه أبحاث موضوعها كتب النّحو.

فصل في التعجب

قالوا : التعجّب استعظام الشي ، مع الجهل ؛ بسبب عظمه ، ثم يجوز استعمال لفظ التعجّب عند مجرّد الاستعظام من غير خفاء السّبب ، أو من غير أن تكون العظمة سبب حصوله.

قال الفرّاء : قال سفيان : قرأت عن شريح : (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) [الصافات : ١٢] فقال: إنّ الله لا يعجب من شيء ، إنما يعجب من لا يعلم ، قال : فذكرت ذلك لإبراهيم النخعيّ ـ رضي الله عنه ـ فقال : إنّ شريحا شاعر يعجبه علمه ، وعبد الله أعلم بذلك منه قرأها (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ).

ومعناه : أنّه صدر من الله تعالى فعل ، لو صدر مثله عن الخلق ، لدلّ على حصول التعجّب في قلوبهم ، وبهذا التأويل يضاف المكر والاستهزاء إلى الله تعالى ، وإذا عرفت هذا ، فللتعجّب صيغتان :

إحداهما : ما أفعله ، والثانية أفعل به.

كقوله تعالى : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) والنحويّون ذكروا له تأويلان :

الأول : قالوا : أكرم بزيد ، أصل «أكرم زيد» أي : صار ذا كرم ، ك «أغدّ البعير» أي : صار ذا غدّة ، إلّا أنه خرج على لفظ الأمر ، ومعناه الخبر ، كما أخرج على لفظ الأمر ما معناه الخبر ، كما أخرج على لفظ الخبر ما معناه الأمر ؛ كقوله سبحانه وتعالى :

__________________

(١) البيت لأوس بن حجر ، ينظر : ديوانه ٨٤ ، المقرب ١ / ٧٧ ، الهمع ٢ / ٩٠ ، الدرر ٢ / ١٢٠ ، التهذيب واللسان «عزل» ، الدر المصون ٤ / ٥٠٧.

٦٨

(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) [البقرة : ٢٢٨] ، (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) [البقرة : ٢٣٣] ، (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) [مريم : ٧٥] أي : يمدّ له الرحمن ، والباء زائدة.

الثاني : أن يقال : إنّه أمر لكلّ أحد بأن يجعل زيدا كريما ، أي : بأن يصفه بالكرم ، والباء زائدة ؛ كما في قوله : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥].

قال ابن الخطيب (١) : وسمعت لبعض الأدباء فيه تأويلا ثالثا ؛ وهو أن قولك : أكرم بزيد ، يفيد أنّ زيدا بلغ في الكرم إلى حيث كأنّه في ذاته صار كرما ؛ حتّى لو أردتّ جعل غيره كريما ، فهو الذي يلصقك بمقصودك ويحصّل لك غرضك.

فصل في معنى الآية

المشهور أنّ معنى قوله (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) : «ما أسمعهم ، وما أبصرهم» والتعجّب على الله تعالى محال ، وإنّما المراد أنّ أسماعهم وأبصارهم يومئذ جديرة بأن يتعجّب منهما بعدما كانوا صمّا عميا في الدّنيا.

وقيل : معناه التّهديد مما يسمعون وسيبصرون ما يسوءهم ، ويصدع قلوبهم.

وقال القاضي (٢) : ويحتمل أن يكون المراد : أسمع هؤلاء وأبصرهم ، أي : عرّفهم حال القوم الذين يأتوننا ؛ ليعتبروا وينزجروا.

وقال الجبّائيّ : ويجوز : أسمع النّاس بهؤلاء ، وأبصرهم بهؤلاء ، ليعرفوا أمرهم ، وسوء عاقبتهم ، فينزجروا عن الإتيان بمثل فعلهم.

قوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتُونَنا) معمول ل «أبصر». [ولا يجوز أن يكون معمولا ل «أسمع» لأنه لا يفصل بين فعل التعجّب ، ومعموله ؛ ولذلك كان الصحيح أنه] لا يجوز أن تكون المسألة من التنازع ، وقد جوّزه بعضهم ملتزما إعمال الثاني ، وهو خلاف قاعدة الإعمال ، وقيل : بل هو أمر حقيقة ، والمأمور به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمعنى : أسمع النّاس ، وأبصرهم بهم وبحديثهم ماذا يصنع بهم من العذاب؟ وهو منقول عن أبي العالية.

قوله تعالى : (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ).

نصب «اليوم» بما تضمّنه الجار من قوله (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : لكن الظالمون استقرّوا في ضلال مبين اليوم ، ولا يجوز أن يكون هذا الظرف هو الخبر ، والجارّ لغو ؛ لئلا يخبر عن الجثة [بالزمّان ؛ بخلاف] قولك : القتال اليوم في دار زيد ؛ فإنّه يجوز الاعتباران.

فصل في معنى الآية

المعنى : (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : خطأ بيّن ، وفي الآخرة يعرفون الحقّ.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٨٩.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

٦٩

وقيل : لكن الظّالمون اليوم في الآخرة في ضلال عن الجنّة ؛ بخلاف المؤمنين.

وقوله (لكِنِ الظَّالِمُونَ) من إيقاع الظّاهر موقع المضمر.

قوله : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) هذا أمر لمحمّد ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ بأن ينذر من في زمانه ، والإنذار : التخويف من العذاب ، لكي يحذروا ترك عبادة الله تعالى ، ويوم الحسرة : هو يوم القيامة ؛ لأنّه يكثر التحسّر من أهل النّار.

وقيل : يتحسّر أيضا في الجنّة ، إذا لم يكن من السابقين إلى الدّرجات العالية ؛ لقول رسول الله ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ : «ما من أحد يموت إلّا ندم ، قالوا : فما ندمه يا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ كان محسنا ، ندم ألّا يكون ازداد ، وإن كان مسيئا ندم ألّا يكون نزع»(١) والأول أصحّ ؛ لأن الحسرة [همّ](٢) ، ولا تليق بأهل الجنّة.

قوله : (إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) : يجوز أن يكون منصوبا بالحسرة ، والمصدر المعرّف ب «أل» يعمل في المفعول الصّريح عند بعضهم ، فكيف بالظّرف؟ ويجوز أن يكون بدلا من «يوم» فيكون معمولا ل «أنذر» كذا قال أبو البقاء (٣) ، والزمخشريّ وتبعهما أبو حيان ، ولم يذكر غير البدل ، وهذا لا يجوز إن كان الظّرف باقيا على حقيقته ؛ إذ يستحيل أن يعمل المستقبل في الماضي ، فإن جعلت «اليوم» مفعولا به ، أي : خوّفهم نفس اليوم ، أي : إنّهم يخافون اليوم نفسه ، صحّ ذلك لخروج الظّرف إلى حيّز المفاعيل الصريحة.

فصل في قوله تعالى : (إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ)

في قوله تعالى : (إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) وجوه :

أحدها : قضي الأمر ببيان الدّلائل ، وشرح أمر الثّواب والعقاب.

وثانيها : [إذ قضي الأمر يوم الحسرة بفناء الدّنيا ، وزوال التّكليف ، والأول أقرب ؛ لقوله: (وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

وثالثها :](٤)(إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) فرغ من الحساب ، وأدخل أهل الجنّة الجنّة ، وأهل النّار النّار ، وذبح الموت ؛ كما روي أنّه سئل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله : (إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) فقال : «حين يجاء بالموت على صورة كبش أملح ، فيذبح ، والفريقان ينظران ؛ فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرح ، وأهل النّار غمّا إلى غمّ»(٥).

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٤ / ٥٢٢) كتاب الزهد باب ٥٨ ، رقم (٢٤٠٣) من طريق يحيى بن عبيد الله عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا وقال : هذا حديث إنما نعرفه من هذا الوجه ويحيى بن عبيد الله قد تكلم فيه شعبة.

ومن هذا الوجه أخرجه أبو نعيم (٨ / ١٧٨) وقال غريب من حديث يحيى لم نكتبه إلّا من حديث ابن المبارك.

(٢) في ب : غم.

(٣) ينظر : الإملاء ٢ / ١١٤.

(٤) سقط من : ب.

(٥) أخرجه البخاري (٨ / ٢٨٢) كتاب التفسير : باب وأنذرهم يوم الحسرة حديث (٤٧٣٠) ومسلم (٤ / ٢١٨٨) كتاب الجنة : باب النار يدخلها الجبارون حديث (٤٠ / ٢٨٤٩) من حديث أبي هريرة.

٧٠

قوله تعالى : (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) جملتان حاليتان ، وفيهما قولان :

أحدهما : أنهما حالان من الضمير المستتر في قوله (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : استقرّوا في ضلال مبين على هاتين الحالتين السيئتين.

والثاني : أنهما حالان من مفعول «أنذرهم» [أي : أنذرهم على هذه الحال ، وما بعدها ، وعلى الأول يكون قوله «وأنذرهم»] اعتراضا.

والمعنى : وهم في غفلة عمّا يفعل بهم في الآخرة (وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ولا يصدقون بذلك اليوم.

قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) أي : نميت سكّان الأرض ، ونهلكهم جميعا ، ويبقى الرّبّ وحده ، فيرثهم (وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) ، فنجزيهم بأعمالهم.

[وقرأ العامّة «يرجعون» بالياء من تحت مبنيّا للمفعول ، والسّلمي (١) ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى مبنيّا للفاعل ، والأعرج بالتاء من فوق مبنيّا للمفعول على الخطاب ، ويجوز أن يكون التفاتا ، وألا يكون].

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا)(٥٠)

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ) اعلم أنّ منكري التوحيد الذين أثبتوا معبودا سوى الله تعالى فريقان :

منهم : من أثبت معبودا غير الله تعالى حيّا ، عاقلا ، فاهما ، وهم النصارى.

ومنهم : من أثبت معبودا غير الله ، جمادا ليس بحيّ ولا عاقل ، وهم عبدة الأوثان.

والفريقان ، وإن اشتركا في الضّلال ، إلّا أنّ ضلال عبدة الأوثان أعظم ، فلمّا بيّن الله تعالى ضلال الفريق الأوّل ، تكلّم في ضلال الفريق الثاني ، وهم عبدة الأوثان ؛ فقال : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ) والواو في قوله : (وَاذْكُرْ) عطف على قوله (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) كأنّه لمّا انتهت قصّة زكريّا ويحيى ، وعيسى ـ صلوات الله عليهم ـ قال : قد

__________________

(١) ينظر في قراءاتها : الإتحاف ٢ / ٢٣٧ ، البحر ٦ / ١٨٠ ، ١٨١ والدر المصون ٤ / ٥٠٨.

٧١

ذكرت حال زكريّا ، فاذكر حال إبراهيم ـ صلوات الله عليه ـ وإنّما أمره بالذّكر لأنّه ـ صلوات الله عليه ـ ما كان هو ، ولا قومه ، ولا أهل بلده مشتغلين بالتّعليم ، ومطالعة الكتب ، فإذا أخبر عن هذه القصّة ، كما كانت من غير زيادة ، ولا نقصان ، كان ذلك إخبارا عن الغيب ، ومعجزا [قاهرا](١) دالّا على نبوّته ، وإنّما ذكر الاعتبار بقصّة إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لوجوه:

الأول : أنّ إبراهيم ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ كان أبا العرب ، وكانوا مقرّين بعلوّ شأنه ، وطهارة دينه على ما قال تعالى (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) [الحج : ٧٨] ، وقال تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) [البقرة : ١٣٠] فكأنه تعالى قال للعرب : إنّ كنتم مقلّدين لآبائكم على قولكم (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) [الزخرف : ٢٣] فأشرف آبائكم وأعلاهم قدرا هو إبراهيم ـ صلوات الله عليه ـ فقلّدوه في ترك عبادة الأوثان ، وإن كنتم [مستدلين](٢) ، فانظروا في هذه الدّلائل التي ذكرها إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لتعرفوا فساد عبادة الأوثان ، وبالجملة : فاتّبعوا إبراهيم ، إمّا تقليدا ، أو استدلالا.

الثاني : أنّ كثيرا من الكفّار في زمان رسول الله ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ كانوا يقولون: نترك دين آبائنا ، وأجدادنا؟ فذكر الله تعالى قصّة إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ و[بيّن](٣) أنه ترك دين أبيه ، وأبطل قوله بالدليل ، ورجّح متابعة الدّليل على متابعة أبيه.

الثالث : أنّ كثيرا من الكفّار كانوا يتمسّكون بالتقليد ، [وينكرون](٤) الاستدلال ؛ كما حكى الله تعالى عنهم (قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) [الأنبياء : ٣٥] فحكى الله عن إبراهيم التّمسّك بطريقة الاستدلال ؛ تنبيها للكفّار على سقوط طريقتهم ، ثمّ قال تعالى في صفة إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا)، والصديق مبالغة في الكثير الصّدق ، القائم عليه ، يقال : رجل خمير ، وسكّير للمولع بهذه الأفعال.

وقيل : هو الذي يكون كثير التصديق بالحقّ ؛ حتّى يصير مشهورا به ، والأول أولى ؛ لأنّ المصدّق بالشيء لا يوصف بكونه صديقا إلّا إذا كان صادقا في ذلك التّصديق ، فيعود الأمر إلى الأوّل.

فإن قيل : أليس قد قال الله تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) [الحديد : ١٩] فالجواب (٥) : المؤمنون بالله [ورسله](٦) صادقون في ذلك التّصديق.

واعلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجب أن يكون صادقا في كلّ ما أخبر ؛ لأنّ الله تعالى صدّقه ، ومصدّق الله صادق ؛ فلزم من هذا كون الرّسول صادقا فيما يقوله ، ولأنّ الرّسل شهداء الله

__________________

(١) في ب : باهرا.

(٢) في أ : مقلدين.

(٣) في ب : هو.

(٤) في ب : ويتركون.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٩١.

(٦) في أ : ورسوله.

٧٢

على النّاس ؛ لقوله تعالى : (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١] والشّهيد : إنّما يقبل قوله ، إذا لم يكن كاذبا ؛ فإن قيل : فما قولكم في قول إبراهيم (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) [الأنبياء : ٦٣] و (إِنِّي سَقِيمٌ) [الصافات : ٨٩].

فالجواب مشروح في هذه الآيات ، وبينّا أن شيئا من ذلك ليس بكذب ، ولمّا ثبت أنّ كلّ نبيّ يجب أن يكون صديقا ، ولا يجب في كلّ صدّيق أن يكون نبيّا ؛ ظهر بهذا قرب مرتبة الصّدّيق من مرتبة النبيّ ، فلهذا انتقل من ذكر كونه صديقا إلى ذكر كونه نبيّا.

وأما النبيّ : فمعناه : كونه رفيع القدر عند الله ، وعند النّاس ، وأيّ رفعة أعلى من رفعة من جعله الله واسطة بينه ، وبين عباده ، وقوله : (كانَ صِدِّيقاً) معناه : صار ، وقيل : وجد صدّيقا نبيّا ، أي : كان من أوّل وجوده إلى انتهائه موصوفا بالصدق والصّيانة.

قوله تعالى : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ) : يجوز أن يكون بدلا من «إبراهيم» بدل اشتمال ؛ كما تقدّم في (إِذِ انْتَبَذَتْ) [الآية : ١٦] وعلى هذا ، فقد فصل بين البدل ، والمبدل منه ؛ بقوله : (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) نحو : «رأيت زيدا ـ ونعم الرّجل أخاك» وقال الزمخشريّ : ويجوز أن تتعلق «إذ» ب «كان» أو ب (صِدِّيقاً نَبِيًّا) ، أي : كان جامعا لخصائص الصديقين ، والأنبياء ، حين خاطب أباه بتلك المخاطبات ولذلك جوّز أبو البقاء (١) أن يعمل فيه (صِدِّيقاً نَبِيًّا) أو معناه.

قال أبو حيان : «الإعراب الأوّل ـ يعني البدلية ـ يقتضي تصرّف «إذ» وهي لا تتصرّف ، والثاني فيه إعمال «كان» في الظرف ، وفيه خلاف ، والثالث لا يكون العامل مركّبا من مجموع لفظين ، بل يكون العمل منسوبا للفظ واحد ، ولا جائز أن يكون معمولا ل «صدّيقا» لأنّه قد وصف ، إلا عند الكوفيّين ، ويبعد أن يكون معمولا ل «نبيّا» لأنه يقتضي أنّ التّنبئة كانت في وقت هذه المقالة».

قال شهاب الدين : العامل فيه ما لخّصه أبو القاسم ، ونضّده بحسن صناعته من مجموع اللفظين في قوله : «أي : كان جامعا لخصائص الصّدّيقين والأنبياء حين خاطب أباه».

وقد تقدّمت قراءة ابن عامر «يا أبت» وفي مصحف عبد الله (٢) «وا أبت» ب «وا» التي للندبة.

والتاء عوض من ياء الإضافة ، ولا يقال : يا أبتي ، لئلّا يجمع بين العوض ، والمعوّض منه ، وقد يقال: يا أبتا لكون الألف بدلا من الياء.

قوله تعالى : (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) وصف الأوثان بصفات ثلاث ، كلّ واحدة منها فادحة في الإلهيّة وبيان ذلك من وجوه :

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ١١٤.

(٢) ينظر : البحر ٦ / ١٨٢ ، الدر المصون ٤ / ٥٩٠.

٧٣

أحدها : أن العبادة غاية التّعظيم ؛ فلا يستحقّها إلّا من له غاية الإنعام ، وهو الإله الذي منه أصول النّعم ، وفروعها على ما [تقدّم](١) في تفسير قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) [آل عمران : ٥١] ، وقوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) [البقرة : ٢٨] ، وكما أنّه لا يجوز الاشتغال بشكرها ، لمّا لم يكن منعمة ، وجب ألّا يجوز الاشتغال بعبادتها.

وثانيها : أنّها إذا لم تسمع ، ولم تبصر ، ولم تميّز من يطيعها عمّن يعصيها ، فأيّ فائدة في عبادتها ، وهذا تنبيه على أنّ الإله يجب أن يكون عالما بكلّ المعلومات.

وثالثها : أنّ الدّعاء مخّ العبادة ، فإذا لم يسمع الوثن دعاء الدّاعي ، فأيّ منفعة في عبادته؟ وإذا لم يبصر تقرّب من يتقرّب إليه ، فأيّ منفعة في ذلك التّقرّب؟.

ورابعها : أنّ السّامع المبصر الضّار النّافع أفضل ممن كان عاريا عن كلّ ذلك ، والإنسان موصوف بهذه الصّفات ؛ فيكون أفضل ، وأكمل من الوثن ، فكيف يليق بالأفضل عبوديّة الأخسّ؟.

وخامسها : إذا كانت لا تنفع ، ولا تضرّ ، فلا يرجى منها منفعة ، ولا يخاف من ضررها ، فأيّ فائدة في عبادتها؟!.

وسادسها : إذا كانت لا تحفظ نفسها عن الكسر والإفساد ، حين جعلها إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ جذاذا ، فأيّ رجاء فيها للغير؟! ، فكأنّه ـ صلوات الله عليه ـ قال : ليست الإلهيّة إلّا لربّ يسمع ويبصر ، ويجيب دعوة الدّاعي ، إذا دعاه.

فإن قيل : إمّا أن يقال : إنّ أبا إبراهيم ـ صلوات الله عليه ـ كان يعتقد في تلك الأوثان أنّها آلهة قادرة ، مختارة ، خالقة.

أو يقال : إنّه ما كان يعتقد ذلك ؛ بل كان يعتقد أنّها تماثيل للكواكب ، والكواكب هي الآلهة المدبّرة للعالم ؛ فتعظيم تماثيل الكواكب يوجب تعظيم الكواكب.

أو كان يعتقد أنّ هذه الأوثان تماثيل أشخاص معظّمة عند الله من البشر ، فتعظيمها يقتضي كون أولئك الأشخاص شفعاء لهم عند الله.

أو كان يعتقد أن تلك الأوثان طلّسمات ركّبت بحسب اتّصالات مخصوصة للكواكب ، قلّما يتّفق مثلها ، أو لغير ذلك.

فإن كان أبو إبراهيم من القسم الأوّل ، كان في نهاية الجنون ؛ لأنّ العلم بأنّ هذا الخشب المنحوت في هذه السّاعة ليس خالقا للسّموات والأرض من أجلى العلوم الضروريّة ، فالشّاكّ فيه يكونه مجنونا ، والمجنون لا يناظر ، ولا يورد عليه الحجّة ، وإن كان من القسم الثاني ، فهذه الدلائل لا تقدح في شيء من ذلك ؛ لأنّ ذلك المذهب إنما

__________________

(١) في ب : تقرر.

٧٤

يبطل بإقامة الدّلائل على أنّ الكواكب ليست أحياء ، ولا قادرة ، والدليل المذكور هنا لا يفيد ذلك.

فالجواب (١) : لا نزاع في أنّه لا يخفى على العاقل : أنّ الخشب المنحوت لا يصلح لخلق العالم ، وإنّما مذهبهم هذا على الوجه الثاني ، وإنّما أورد إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ هذه [الدلائل](٢) عليهم ؛ لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ عبادتها تفيد نفعا ؛ إما على سبيل الخاصّيّة الحاصلة من الطّلّسمات ، أو على سبيل أن الكواكب تنفع ، وتضرّ ، فبيّن إبراهيم ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ أنه لا منفعة في طاعتها ، ولا مضرّة في الإعراض عنها ؛ فوجب أن تجتنب عبادتها.

قوله : (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ) بالله ، والمعرفة (ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي) على ديني (أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) مستقيما. (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) أي : لا تطعه فيما يزيّن لك من الكفر والشّرك ؛ لأنّهم ما كانوا يعبدون الشيطان ؛ فوجب حمله على الطّاعة (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) أي : عاصيا ، و«كان» بمعنى الحال ، أي : هو كذلك.

فإن قيل : هذا القول يتوقّف على إثبات أمور :

أحدها : إثبات الصّانع.

وثانيها : إثبات الشيطان.

وثالثها : أن الشيطان عاص [لله](٣).

ورابعها : أنّه لما كان عاصيا ، لم تجز طاعته في شيء من الأشياء.

وخامسها : أن الاعتقاد الذي كان عليه آزر مستفاد من طاعة الشيطان ، ومن شأن الدّلالة التي تورد على الخصم : أن تكون مركبة من مقدّمات معلومة يسلّمها الخصم ، ولعلّ أبا إبراهيم كان منازعا في كلّ هذه المقدّمات (٤) ، وكيف ، والمحكيّ عنه : أنه ما كان يثبت إلها سوى نمروذ ؛ فكيف يسلّم وجود الرّحمن؟.

وإذا لم يسلّم وجوده ، فكيف يسلّم أنّ الشيطان عاص في الرحمن؟ وبتقدير تسليم ذلك ؛ فكيف يسلّم الخصم بمجرّد هذا الكلام أنّ مذهبه مقتبس من الشيطان ، بل لعلّه يقلب ذلك على خصمه.

فالجواب :

أنّ الحجّة المعوّل عليها في إبطال مذهب «آزر» هو قوله : (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) وهذا الكلام يجري مجرى التّخويف والتّحذير الذي يحمله على النظر في تلك الدّلالة ، فسقط السّؤال.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٩٢.

(٢) في أ : الدلالة.

(٣) في ب : في الله.

(٤) في أ : المقامات.

٧٥

قوله تعالى : (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ).

قال الفرّاء ـ رحمه‌الله ـ : أخاف : أعلم ، والأكثرون على أنّه محمول على ظاهره ، والقول الأوّل إنّما يصحّ ، لو كان إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ عالما بأنّ أباه سيموت على الكفر ، وذلك لم يثبت ؛ فوجب إجراؤه على ظاهره ؛ فإنّه كان يجوز أن يؤمن ؛ فيصير من أهل الثّواب ، ويجوز أن يدوم على الكفر ؛ فيكون من أهل العقاب ، ومن كان كذلك ، كان خائفا لا قاطعا ، والأوّلون فسّروا الآية ، فقالوا : أخاف ، بمعنى أعلم ب (أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ) يصيبك عذاب من الرحمن ، إن أقمت على الكفر ، (فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) قرينا ؛ لأنّ الولاية سبب المعيّة ، فأطلق اسم السّبب على المسبب مجازا.

وقيل : المراد بالعذاب هنا : الخذلان ، والتقدير : إنّي أخاف أن يمسّك خذلان من الله ، فتصير مواليا للشيطان ، ويتبرأ الله منك.

فصل في نظم الآية

اعلم أنّ إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ رتّب هذا الكلام في غاية الحسن ؛ لأنّه ذكر أولا ما يدلّ على المنع من عبادة الأوثان ، ثمّ أمره باتّباعه في النّظر ، والاستدلال ، وترك التقليد ، ثمّ ذكر أن طاعة الشّيطان غير جائزة في العقول ، ثم ختم الكلام بالوعيد الزّاجر عن الإقدام على ما لا ينبغي ، ثم إنّه ـ صلوات الله عليه ـ أورد هذا الكلام الحسن مقرونا باللّطف والرّفق ؛ فإن قوله في مقدّمة كل كلامه : «يا أبت» دليل على شدّة الحبّ ، والرغبة في صونه عن العقاب ، وإرشاده إلى الصّواب ، وختم الكلام بقوله : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ) وذلك يدلّ على شدّة تعلّق قلبه بمصالحه ، وإنّما فعل ذلك لوجوه :

الأول : لقضاء حقّ الأبوّة على ما قال سبحانه وتعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء : ٢٣] والإرشاد إلى الدّين من أعظم أنواع الإحسان ، فإذا انضم إليه رعاية الأدب والرّفق ، كان نورا على نور.

والثاني : أنّ الهادي إلى الحقّ لا بدّ وأن يكون رفيقا لطيفا لا يورد الكلام على سبيل العنف ؛ لأنّ إيراده على سبيل العنف يصير كالسّبب في إعراض المستمع ؛ فيكون ذلك في الحقيقة سعيا في الإغواء.

وثالثها : ـ ما روى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ : «أوحى الله ـ تبارك وتعالى ـ إلى إبراهيم أنّك خليلي فحسّن خلقك ولو مع الكفّار تدخل مداخل الأبرار ؛ فإن كلمتي سبقت لمن حسّن خلقه ، أن أظلّه تحت عرشي ، وأسكنه حظيرة القدس ، وأدنيه من جواري»(١).

__________________

(١) ذكره الهيثمي في «المجمع» (٨ / ٢٣ ـ ٢٤) وقال رواه الطبراني في «الأوسط» وفيه مؤمل بن عبد الرحمن الثقفي وهو ضعيف. ـ

٧٦

قوله : (أَراغِبٌ أَنْتَ) : يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون «راغب» مبتدأ ؛ لاعتماده على همزة الاستفهام ، و«أنت» فاعل سدّمسدّ الخبر.

والثاني : أنه خبر مقدم ، و«أنت» مبتدأ مؤخّر ، ورجّح الأول بوجهين :

أحدهما : أنه ليس فيه تقديم ، ولا تأخير ؛ إذ رتبة الفاعل التأخير عن رافعه.

والثاني : أنه لا يلزم منه الفصل بين العامل ومعموله بما ليس معمولا للعامل ؛ وذلك لأنّ (عَنْ آلِهَتِي) متعلق ب «راغب» فإذا جعل «أنت» فاعلا فقد فصل بما هو كالجزء من العامل ؛ بخلاف جعله خبرا ؛ فإنه أجنبيّ ؛ إذ ليس معمولا ل «راغب» (١).

فصل فيما قابل به آزر دعوة إبراهيم

اعلم أنّ إبراهيم ـ صلوات الله عليه ـ لمّا دعا أباه إلى التوحيد ، وذكر الدّلالة على فساد عبادة الأوثان ، وأردف ذلك بالوعظ البليغ ، مقرونا باللّطف والرّفق قابله أبوه بجواب [مضادّ](٢) لذلك ، فقابل حجّته بالتّقليد بقوله : (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي) فأصرّ على ادعاء إلهيتها جهلا وتقليدا ، وقابل وعظه بالسّفاهة ؛ حيث هدّده بالضّرب والشّتم ، وقابل رفقه في قوله «يا أبت» بالعنف ، فلم يقل له : يا بنيّ ، بل قال له : يا إبراهيم ، وإنّما حكى الله تبارك وتعالى ذلك لمحمّد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ تخفيفا على قلبه ما كان يصل إليه من أذى المشركين ، ويعلم أنّ الجهّال منذ كانوا على هذه السّيرة المذمومة ، ثم قال : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ).

__________________

ـ وأخرجه ابن عساكر (٢ / ١٥٥ ـ تهذيب) وابن عدي (٦ / ٢٤٣٢) وذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (٥١٥٩) وزاد نسبته إلى الحكيم الترمذي.

(١) هذا الذي ذكره في حالة تطابق الوصف إفرادا أما إن تطابقا تثنية أو جمعا نحو (أناجحان المحمدان ، أناجحون المحمدون) تعين أن يكون الوصف خبرا مقدما وما بعده مبتدأ مؤخرا ولا يجوز العكس من جعل المؤخر مرفوعا بالوصف المقدم وسادّا مسدّ خبره لأن تثنيته وجمعه أبعدته عن شبهه بالفعل ؛ لأن الفعل إذا أسند إلى الظاهر تجرد من علامة التثنية والجمع فكذلك الوصف إذا رفع ظاهرا كان حكمه حكم الفعل في لزوم الإفراد على اللغة الفصحى اللهم إلا على لغة من يلحق علامة التثنية والجمع الفعل عند إسناده إلى الظاهر وهي لغة (أكلوني البراغيث).

وإن لم يتطابقا وتحته قسمان : ممتنع وجائز فالممتنع مثل (أناجحان محمد ، أناجحون علي) لأنا إذا جعلنا ما بعد الوصف فاعلا أغنى عن الخبر فالوصف بعد عن شبه الفعل لتثنيته وجمعه فلا يرفع ظاهرا وإذا جعلنا الوصف خبرا مقدما وما بعده مبتدأ مؤخرا فات التطابق الذي هو شرط فيهما ولا يخفى أن هذا تركيب غير صحيح.

والجائز نحو (أناجح المحمدان ، أناجح المحمدون) وحينئذ يتعين أن يكون الوصف مبتدأ وما بعده سد مسد خبره ، ولا يجوز أن يكون ما بعده مبتدأ مؤخرا والوصف خبرا مقدما لأنه لا يجوز أن يخبر عن المثنى والجمع بالمفرد.

(٢) في ب : مناف.

٧٧

قال الكلبيّ ، ومقاتل (١) ، والضحاك : لأشتمنّك ، ولأبعدنّك عنّي بالقول القبيح ، ومنه قوله سبحانه وتعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) [النور : ٤] ؛ أي : بالشّتم ، ومنه : الرّجيم ، أي : المرميّ باللّعن.

قال مجاهد : كلّ رجم في القرآن بمعنى الشّتم ، وهذا ينتقض بقوله تعالى : (رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) [الملك : ٥].

وقال ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ : لأضربنّك (٢).

وقال الحسن : لأرجمنّك بالحجارة ، وهو قول أبي مسلم (٣) ؛ لأنّ أصله الرمي بالرّجام ، فحمله عليه أولى.

وقال المؤرّج (٤) : «لأقتلنّك» بلغة قريش ، وممّا يدلّ على أنه أراد الطّرد ، والإبعاد قوله : (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا).

قوله تعالى : «مليّا» في نصبه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه منصوب على الظرف الزمانيّ ، أي : زمنا طويلا ، ومنه «الملوان» للّيل والنهار ، وملاوة الدّهر ، بتثليث الميم قال : [الطويل]

٣٦٠٧ ـ فعسنا بها من الشّباب ملاوة

فللحجّ آيات الرّسول المحبّب (٥)

وأنشد السدي على ذلك لمهلهل قال : [الكامل]

٣٦٠٨ ـ فتصدّعت صمّ الجبال لموته

وبكت عليه المرملات مليّا (٦)

أي : أبدا.

والثاني : أنه منصوب على الحال ، معناه : سالما سويّا ، قال ابن عباس : [اعتزلني سالما ؛ لا يصيبك مني معرة](٧) فهو حال من فاعل «اهجرني» وكذلك فسّره ابن عطيّة ؛ قال : «معناه: مستبدّا ، أي : غنيّا عني من قولهم : هو مليّ بكذا وكذا» قال الزمخشريّ : «أي : مطيقا».

والمعنى : مليّا بالذّهاب عنّي ، والهجران ، قيل : أن أثخنك بالضّرب ؛ حتى لا تقدر أن تبرح.

والثالث : أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : هجرا مليّا ، يعني : واسعا متطاولا ؛ كتطاول الزمان الممتدّ.

__________________

(١) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٩٧.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٩٥.

(٥) ينظر البيت في البحر ٦ / ١٨٣ ، الدر المصون ٤ / ٥١٠.

(٦) ينظر البيت في البحر المحيط ٦ / ١٨٤ ، القرطبي ١١ / ٧٥ ، روح المعاني ١٦ / ٩٩ ، الدر المصون ٤ / ٥١٠.

(٧) سقط من : أ.

٧٨

قال الكلبيّ (١) ـ رحمه‌الله ـ اجتنبني طويلا.

والمراد بقوله : واهجرني ، أي : بالمفارقة من الدّار والبلد ، وهي كهجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، أي : تباعد عنّي ؛ لكي لا أراك.

وقيل : اهجرني [بالقول ، وعطف «واهجرني» على معطوف عليه محذوف يدل عليه : «لأرجمنك» أي : فاحذرني ، واهجرني](٢) ؛ لئلّا أرجمك ، فلما سمع إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كلام أبيه ، أجاب بأمرين :

أحدهما : أنه وعده بالتّباعد منه ؛ موافقة وانقيادا لأمر أبيه.

والثاني : قوله : (سَلامٌ عَلَيْكَ) توديع ، ومتاركة ، أي : سلمت منّي ، لا أصيبك بمكروه ؛ وذلك لأنّه لم يؤمر بقتاله على كفره ؛ كقوله تعالى : (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) [القصص : ٥٥] ، (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان : ٦٣].

وهذا يدلّ على جواز متاركة المنصوح ، إذا ظهر منه اللّجاج ، وعلى أنّه تحسن مقابلة الإساءة بالإحسان ، ويجوز أن يكون دعا له بالسّلامة ؛ استمالة له.

ألا ترى أنّه وعده بالاستغفار ؛ فيكون سلام برّ ولطف ؛ وهو جواب الحليم للسّفيه؟!.

كقوله سبحانه : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان : ٦٣].

وقرأ أبو البرهسم (٣) «سلاما» بالنصب ، [وتوجيهها](٤) واضح ممّا تقدّم.

قوله : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) ، أي : لمّا أعياه أمره ، وعده أن يراجع الله فيه ، فيسأله أن يرزقه التّوحيد ، ويغفر له ، والمعنى : سأسأل الله لك توبة تنال بها المغفرة : (إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) برّا لطيفا.

واحتجّ بهذه الآية من طعن في عصمة الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ وذلك أنّ إبراهيم ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ استغفر لأبيه ، وأبوه كان كافرا ، والاستغفار للكفّار غير جائز ؛ فثبت أنّ إبراهيم ـ صلوات الله عليه ـ فعل ما لا يجوز.

أما استغفاره لأبيه ؛ فلقوله : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) وقوله : (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) [الشعراء : ٨٦].

وأما كون أبيه كان كافرا ؛ فبالإجماع ، ونصّ القرآن.

وأمّا أن الاستغفار [للكافر] لا يجوز ؛ فلقوله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ

__________________

(١) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٩٧.

(٢) سقط من أ.

(٣) ينظر : البحر ٦ / ١٨٤ ، والدر المصون ٤ / ٥١٠.

(٤) في ب : وهو.

٧٩

يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) [التوبة : ١١٣] ولقوله ـ عزوجل ـ في سورة الممتحنة (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ) إلى قوله : (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) [الممتحنة : ٤].

والجواب : أن الآية تدلّ على أنّه لا يجوز لنا التّأسّي به في ذلك ؛ لكنّ المنع من التأسّي به في ذلك لا يدلّ على أنّ ذلك كان معصية ؛ فإن كثيرا من الأشياء هي من خواصّ رسول الله ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ ولا يجوز لنا التّأسّي به فيها ، مع أنّها كانت مباحة له.

وأيضا : لعلّ هذا الاستغفار كان من باب ترك الأولى ، وحسنات الأبرار سيّئات المقرّبين.

قوله : (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ).

قال مقاتل ـ رحمه‌الله ـ : كان اعتزاله إيّاهم أنّه فارقهم من «كوثى» ، فهاجر منها إلى الأرض المقدسة ، والاعتزال عن الشيء هو التّباعد عنه ، (وَأَدْعُوا رَبِّي) أعبد ربي الذي يضرّ وينفع ، والذي خلقني ، وأنعم عليّ (عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) ، أي : عسى ألّا أشقى بدعائه وعبادته ؛ كما تشقون أنتم بعبادة الأصنام ، ذكر ذلك على سبيل التواضع ؛ كقوله تعالى : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء : ٨٢].

وقوله «شقيّا» فيه تعريض لشقاوتهم في دعاء آلهتهم.

وقيل : عسى أن يجيبني ، إن دعوته.

قوله تعالى : (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ).

ذهب مهاجرا إلى ربّه ، فعوّضه أولادا أنبياء بعد هجرته ، ولا حالة في الدّين والدّنيا للبشر أرفع من أن يجعله الله رسولا إلى خلقه ، ويلزم الخلق طاعته ، والانقياد له مع ما يحصل له من عظيم المنزلة في الآخرة.

قوله تعالى : (وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) : «كلّا» مفعول مقدّم هو الأول ، و«نبيّا» هو الثاني.

ثم إنّه مع ذلك وهب لهم من رحمته ، قال الكلبيّ : المال والولد ، وهو قول الأكثرين ، قالوأ : هو ما بسط لهم في الدّنيا من سعة الرّزق.

وقيل : الكتاب والنبوّة. (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) :

يعني : ثناء حسنا رفيعا في كلّ أهل الأديان ، وعبّر باللسان عما يوجد باللّسان ، كما عبّر باليد عمّا يوجد باليد ، وهو العطيّة ، فاستجاب الله دعوته في قوله : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) [الشعراء : ٨٤] ، فصيّره قدوة ، حتى ادّعاه أهل الأديان كلهم. فقال سبحانه وتعالى : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) [الحج : ٧٨].

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ

٨٠