اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

يريد : أي الأمرين واقع ، ولو كانت منقطعة لقدّرت ب (بل) والهمزة وليس ذلك مرادا. قوله : (الَّذِي فَطَرَهُنَّ) يجوز أن يكون مرفوع الموضع أو منصوبه على القطع. والضمير المنصوب في «فطرهنّ» للسموات والأرض (١). قال أبو حيان : ولما لم تكن السموت والأرض تبلغ في العدد الكثير منه جاء الضمير ضمير القلة (٢). قال شهاب الدين : إن عنى لم تبلغ كل واحد من السموات والأرض فمسلم ولكنه غير مراد ، بل المراد المجموع ، وإن عنى لم تبلغ المجموع منهما فغير مسلم ، لأنه يبلغ أربع عشرة ، وهو فوق حد جمع الكثرة ، اللهم إلّا أن نقول (٣) : إنّ الأرض شخص واحد وليست بسبع كالسماء على ما رآه بعضهم ، فيصح له ذلك ، ولكنه غير معول عليه (٤). وقيل : على التماثيل (٥).

قال الزمخشري : وكونه للتماثيل أثبت لتضليلهم وأدخل في الاحتجاج عليهم (٦).

وقال ابن عطية : «فطرهنّ» عبارة عنها كأنها تعقل ، وهذا من حيث لها طاعة وانقياد ، وقد وصفت في مواضع بوصف من يعقل (٧). وقال غيره : «فطرهنّ» أعاد ضمير من يعقل لما صدر منهن من الأحوال التي تدل على أنهما من قبيل من يعقل ، فإنّ الله تعالى أخبر بقوله : (أَتَيْنا طائِعِينَ)(٨) وقوله ـ عليه‌السلام (٩) ـ «أطّت السماء وحقّ لها أن تئطّ (١٠)» (١١). قال شهاب الدين : كأنّ ابن عطية وهذا القائل توهما أنّ (هنّ) من الضمائر المختصة بالمؤنثات العاقلات ، وليس كذلك بل هو لفظ مشترك بين العاقلات وغيرها قال تعالى : (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ)(١٢) ثم قال تعالى (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ)(١٠)(١٣).

قوله : (عَلى ذلِكُمْ) متعلق بمحذوف (١٤) أو ب «الشّاهدين» اتساعا (١٥) ، أو على

__________________

(١) انظر الكشاف ٣ / ١٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٢١.

(٢) البحر المحيط ٦ / ٣٢١.

(٣) في ب : يقال.

(٤) الدر المصون ٥ / ٥٢.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ١٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٢١.

(٦) الكشاف ٣ / ١٤.

(٧) تفسير ابن عطية ١٠ / ١٦١.

(٨) من قوله تعالى «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» [فصلت : ١١].

(٩) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٠) أخرجه الترمذي (زهد) ٤ / ٥٥٦ ، ابن ماجه (زهد) ٢ / ١٤٠٢ أحمد ٥ / ١٧٣ ، وانظر النهاية في غريب الحديث ١ / ٥٤ ، الفائق ١ / ٤٩. الأطيط : الحنين والصوت أي : أن كثرة ما فيها من الملائكة قد أثقلها حتى أطت.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٢١.

(١٢) من قوله تعالى«إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ» [التوبة : ٣٦].

(١٠) أخرجه الترمذي (زهد) ٤ / ٥٥٦ ، ابن ماجه (زهد) ٢ / ١٤٠٢ أحمد ٥ / ١٧٣ ، وانظر النهاية في غريب الحديث ١ / ٥٤ ، الفائق ١ / ٤٩. الأطيط : الحنين والصوت أي : أن كثرة ما فيها من الملائكة قد أثقلها حتى أطت.

(١٣) الدر المصون ٥ / ٥٢.

(١٤) انظر البيان ٢ / ١٦٢ ، والتبيان ٢ / ٩٢٠ ، البحر المحيط ٦ / ٣٢٠.

(١٥) أي : لاتساعهم في الظرف والمجرور. البحر المحيط ٦ / ٣٢١.

٥٢١

البيان (١) ، وقد تقدم نظيره نحو (لَكُما لَمِنَ (٢) النَّاصِحِينَ)(٣).

فصل (٤)

اعلم أنّ القوم لمّا أوهموه أنه كالمازح في ما خاطبهم به في أمر أصنامهم أظهر ذلك بالقول أولا ثم بالفعل ثانيا. أمّا القول فهو قوله : (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وهذا يدل على أنّ الخالق الذي خلقها لمنافع العباد هو الذي يحسن أن يعبد لأن القادر على ذلك هو الذي يقدر على الضرر والنفع ، وهذه الطريقة هي نظير قوله : (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا (٥) يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً)(٦) ، ثم قال : (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي : على أنه لا إله إلا الذي لا يستحق العبادة إلا هو. وقيل : (مِنَ الشَّاهِدِينَ) على أنه خالق السموات والأرض.

وقيل : إنّي قادر على إثبات ما ذكرته بالحجة ، وإني لست مثلكم أقول (٧) ما لا أقدر على إثباته بالحجة ، ولم تزيدوا على أنكم وجدتم عليه آباءكم. وقيل : المراد منه المبالغة في التأكيد والتحقيق ، كقول الرجل إذا بالغ في مدح آخر أو ذمه : أشهد أنه كريم أو ذميم.

قوله تعالى : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ)(٦٠)

وأما الفعل فقوله : (وَتَاللهِ (٨) لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) لأمكرن بها. قرأ (٩) العامة «تالله» بالتاء المثناة فوق. وقرأ معاذ بن جبل (١٠) ، وأحمد بن حنبل (١١) بالباء الموحدة (١٢). قال الزمخشري : فإن قلت : ما الفرق بين التاء والباء (١٣)؟ قلت : الباء (١٤) هي الأصل ، والتاء بدل من الواو المبدل (١٥) منها ، وأنّ التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب كأنه تعجب من تسهل الكيد على يده وتأتيه (١٦). أما قوله : إنّ الباء هي الأصل فيدل على ذلك تصرفها

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٢١.

(٢) في ب : من. وهو تحريف.

(٣) من قوله تعالى : «وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ» [الأعراف : ٢١].

(٤) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٨١ ـ ١٨٢.

(٥) في الأصل : وما لا. وهو تحريف.

(٦) [مريم : ٤٢].

(٧) في ب : أقوى. وهو تحريف.

(٨) في ب : والله. وهو تحريف.

(٩) في الأصل : قال. وهو تحريف.

(١٠) تقدم.

(١١) تقدم.

(١٢) الكشاف ٣ / ١٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٢١.

(١٣) في ب : الباء. وهو تحريف.

(١٤) الباء : سقط من ب.

(١٥) في الأصل : والمبدل.

(١٦) الكشاف ٣ / ١٤.

٥٢٢

في الباب (١) بخلاف الواو والتاء (٢) ، وإن كان السّهيلي قد ردّ كون الواو بدلا منها (٣).

وقال أبو حيان : النظر يقتضي أن كلا منهما أصل (٤). وأما قوله : التعجب فنصوص النحويين أنه يجوز فيها التعجب وعدمه ، وإنما يلزم ذلك مع اللام (٥) كقوله :

٣٧٢٧ ـ لله يبقى على الأيّام ذو حيد

بمشمخرّ به الظّيان (٦) والآس (٧)

و«بعد» منصوب ب «لأكيدنّ» ، و«مدبرين» حال مؤكدة ، لأن «تولّوا» يفهم معناها. وقرأ العامة «تولّوا» بضم التاء واللام مضارع (ولّى) مشددا (٨).

وقرأ عيسى بن عمر «تولّوا» بفتحهما مضارع (تولّى) (٩) ، والأصل : تتولوا فحذف

__________________

(١) في الأصل : في التاء والباب. وهو تحريف.

(٢) الباء أصل حروف القسم ، لأنها أوسعها إذ تدخل على الظاهر والمضمر تقول : بالله لأفعلن وبك لأذهبن ، وغيرها إنما يدخل على الظاهر دون المضمر. ويصرح بفعل القسم معها فتقول : أحلف بالله وأقسم بالله تفعل ذلك بغيرها ويؤتى بها للاستعطاف ، كأن تحلف على إنسان فتقول : بالله إلا فعلت وتفعل ذلك بغيرها لأنه ليس قسم. وتحذف الباء فينتصب المقسم به بالفعل المضمر نحو الله لأفعلن ، يمين الله ، أمانة الله. والتاء بدل من الواو ، وإنما أبدلت منها ، لأنها قد أبدلت منها كثيرا نحو قولهم : تجاه وتراث. وهذه الواو بدل من الباء لموافقتها لها في المخرج فهما من الشفتين وتقاربهما في المعنى إذ الواو للجمع والباء للإلصاق ؛ لأن الشيء إذا لاصق الشيء فقد اجتمع معه. انظر شرح المفصل ٩ / ٩٩ ـ ١٠٤.

(٣) في الأصل : قد ردّ بدل الواو منها. انظر البحر المحيط ٦ / ٣٢٢.

(٤) وعبارته : (والذي يقتضيه النظر أنه ليس شيء منها أصلا لآخر) البحر المحيط ٦ / ٣٢٢.

(٥) والتاء لضعفها بكونها في المرتبة الثالثة اختصت باسم الله تعالى لشرفه وكونه اسما لذاته سبحانه تقول : تالله لأفعلن ، وفيها معنى التعجب قال الله تعالى : (تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) [يوسف : ٩١] ، وربما جاءت لغير التعجب كقوله تعالى (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) [الأنبياء : ٥٧] بخلاف اللام فإنها تدخل للقسم على معنى التعجب كالبيت المستشهد به في الأصل. قال سيبويه : وقد تقول : تالله. وفيها معنى التعجب. وبعض العرب يقول في هذا المعنى : لله فيجيء باللام ، ولا تجيء إلا أن يكون فيها معنى التعجب. قال أميّة بن أبي عائذ :

لله يبقى على الأيّام ذو حيد

بمشمخرّ به الظّيّان والآس

الكتاب ٣ / ٤٩٧. وانظر شرح المفصل ٩ / ٩٩ البحر المحيط ٦ / ٣٢٢.

(٦) في ب : الضيان. وهو تحريف.

(٧) البيت من بحر البسيط قاله أميّة بن أبي عائذ أو أبو ذؤيب الهذلي أو مالك بن خويلد الخناعي الهذلي ، وهو في ديوان الهذليين ٣ / ٢ ، والكتاب ٣ / ٤٩٧ ، المقتضب ٢ / ٣٢٣ ، أمالي ابن الشجري ١ / ٣٦٩ ، وشرح المفصل ٩ / ٩٨ ، ٩٩ ، المغني ١ / ٢١٤ ، القرطبي ١١ / ٢٩٧ ، الهمع ٢ / ٣٢ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٥٧٤ ، شرح الأشموني ٢ / ٢١٦ الخزانة ١٠ / ٩٥ ، الدرر ٢ / ٢٩. حيد جمع حيد : وهو كل نتوء في قرن أو جبل. المشمخرّ : الجبل العالي. الظيان : ياسمين البر. الآس : الريحان ومنابتهما الجبال وحزون الأرض. والشاهد فيه دخول اللام على لفظ الجلالة في القسم بمعنى التعجب. واستشهد به أيضا على حذف حرف النفي وهو (لا) إذا وقعت جوابا للقسم. والتقدير : لا يبقى.

(٨) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٢٢.

(٩) المختصر (٩٢) البحر المحيط ٦ / ٣٢٢.

٥٢٣

إحدى التاءين إمّا الأولى على رأي هشام (١) ، وإمّا الثانية على رأي البصريين (٢) وينصرها قراءة الجميع (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ)(٣) ، ولم يقرأ أحد «تولّوا» وهي قياس (٤) قراءة الناس هنا ، وعلى كلتا القراءتين فلام الكلمة محذوفة ، وهو (٥) الياء ، لأنه من «ولّى» ، ومتعلق هذا الفعل محذوف تقديره : تولوا إلى عيدكم ونحوه (٦). فإن قيل : الكيد ضرر الغير بحيث لا يشعر به ولا يتأتى ذلك في الأصنام فكيف قال : (لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ)؟

فالجواب : توسعا لما كان عندهم أنّ الضرر يجوز عليها ، وقيل : المراد لأكيدنكم في أصنامكم لأنه بذلك الفعل أنزل بهم الغم (٧).

قوله : (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً). قرأ العامة «جذاذا» (٨) بضم الجيم ، والكسائي بكسرها (٩) وابن عباس وأبو نهيك وأبو السمال بفتحها (١٠). قال قطرب : هي في لغاتها كلها مصدر ، فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث (١١) والظاهر أنّ المضموم اسم للشيء المكسر كالحطام والرفات والفتات بمعنى (١٢) الشيء المحطم والمفتت (١٣). وقال اليزيدي : المضموم جمع جذاذة بالضم نحو زجاج في زجاجة (١٤) ، والمكسور جمع جذيذ نحو كرام في كريم (١٥). وقال بعضهم : المفتوح مصدر بمعنى المفعول أي : مجذوذين. ويجوز على هذا أن يكون على حذف مضاف أي : ذوات جذاذ (١٦).

__________________

(١) هو هشام بن معاوية الضرير ، أبو عبد الله النحوي الكوفي ، أحد أعيان أصحاب الكسائي ، صنف مختصر النحو ، الحدود ، القياس. مات سنة ٢٠٩ ه‍ بغية الوعاة ٢ / ٣٢٨.

(٢) احتج هشام بأن الثانية تدل على معنى هو المطاوعة وحذفها يخل بذلك ، واحتج البصريون بأن الثقل حصل بالثانية وهي قريبة من الطرف وبأن الأولى تدل على المضارعة وحذفها يضيع المقصود منها.

انظر الإنصاف ٢ / ٦٤٨ ـ ٦٥٠ ضياء السالك ٤ / ٤٢٣ ، شرح التصريح ٢ / ٤٠١ ، الأشموني ٤ / ٣٥١.

(٣) [الصافات : ٩٠]. وانظر الكشاف ٣ / ١٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٢٢.

(٤) قياس : سقط من ب.

(٥) في ب : وهي.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٢٢.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٨٢.

(٨) جذاذا : سقط من ب.

(٩) السبعة : (٤٢٩) الكشف ٢ / ١١٢ ، النشر ٢ / ٣٢٤ ، الإتحاف (٣١١).

(١٠) المختصر (٩٢) المحتسب ٢ / ٦٤. البحر المحيط ٦ / ٣٢٢.

(١١) المحتسب ٢ / ٦٤ ، حيث قال ابن جني : (وكذلك روينا عن قطرب : جذّ الشيء يجذّه جذّا وجذاذا وجذاذا وجذاذا) وانظر أيضا البحر المحيط ٦ / ٣٢٢.

(١٢) في ب : وبمعنى.

(١٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٢٢.

(١٤) البحر المحيط ٦ / ٣٢٢.

(١٥) وذلك أن (فعال) من أمثلة جمع الكثرة ، ومما يطرد فيه كل ما كان على وزن فعيل أو فعيلة وصفا للفاعل صحيح اللام نحو كريم وكريمة ، وظريف وظريفة تقول في جمعها : كرام وظراف. انظر البحر المحيط ٦ / ٣٢٢ ، وشرح الأشموني ٤ / ١٣٥.

(١٦) انظر التبيان ٢ / ٩٢٠.

٥٢٤

وقيل : المضموم جمع جذاذة بالضم ، والمكسور جمع جذاذة بالكسر ، والمفتوح مصدر (١) وقرأ ابن وثاب «جذذا» (٢) بضمتين دون ألف بين الذالين (٣) ، وهو جمع جذيذ (٤) كقليب وقلب (٥). وقرىء بضم الجيم وفتح الذال (٦) ، وفيها وجهان :

أحدهما : أن يكون أصلها ضمتين ، وإنما خففت بإبدال الضمة فتحة نحو سرر وذلل في جمع سرير وذليل ، وهي لغة لبني كلب (٧).

والثاني : أنه جمع جذّة (٨) نحو قبب في قبة ودرر (٩) في درة (١٠).

والجذ القطع والتكسير ، وعليه قوله (١١) :

٣٧٢٨ ـ بنو(١٢)المهلّب جذّ الله دابرهم

أمسوا رمادا فلا أصل ولا طرف (١٣)

وتقدم هذا مستوفى في هود (١٤). فإن قيل : لم قال «جعلهم» وهذا جمع لا يليق إلا بالعقلاء؟

فالجواب عامل الأصنام معاملة العقلاء حيث اعتقدوا فيها ذلك (١٥).

قوله : (إِلَّا كَبِيراً) استثناء من المنصوب في «فجعلهم» ، أي : لم يكسره بل تركه (١٦)

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) في ب : جذاذ. وهو تحريف.

(٣) المختصر (٩٢). البحر المحيط ٦ / ٣٢٢.

(٤) في ب : لجذيذ.

(٥) وذلك أن (فعل) من أمثلة جمع الكثرة ، وهو يطرد في كل اسم رباعي ثالثه مدة صحيح اللام ، نحو قضيب وقضب ، وسرير وسرر ، وعمود وعمد ، وزبور وزبر ، وكتاب وكتب ، وإذا كانت المدة ألفا اشترط في المفرد ألا يكون مضعفا فلا يجمع نحو مداد ولا سنان ولا هلال على فعل. ويطرد أيضا في كل وصف على فعول ـ بفتح الفاء وضم العين ـ بمعنى فاعل ، نحو صبور ، وغفور وشكور ، تقول في جمعها : صبر وغفر وشكر.

انظر شرح الأشموني ٤ / ١٢٩ ـ ١٣٠.

(٦) التبيان ٢ / ٩٢٠ ، البحر المحيط ٦ / ٣٢٢.

(٧) انظر التبيان ٢ / ٠٢١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٢٢.

(٨) في ب : جذذة.

(٩) في الأصل : ددر. وهو تحريف.

(١٠) وذلك أن (فعل) من أمثلة جموع الكثرة ، ومما يطرد فيه ما كان على فعلة ـ بضم الفاء وسكون العين ـ اسما نحو غرفة وغرف وحجة وحجج. انظر البحر المحيط ٦ / ٣٢٢ ، وشرح الأشموني ٤ / ١٣٠.

(١١) في ب : قول. وهو تحريف.

(١٢) في الأصل : بنوا ، وفي ب : بنى.

(١٣) البيت من بحر البسيط قاله جرير ، وهو في ديوانه ١ / ١٧٦ ، وفيه : «آل» مكان «بنو» ومجاز القرآن ٢ / ٥٠ ، الكامل ٢ / ١٠٤٠ ، البحر المحيط ٦ / ٣١٨. والشاهد فيه أنّ الجذّ معناه القطع والتكسير.

(١٤) عند قوله : «وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ» [هود : ١٠٨] وذكر هناك «غَيْرَ مَجْذُوذٍ» في المختار : جذّه كسره وقطعه وبابه ردّ والجذاذ بضم الجيم وكسرها ما تكسر منه والضم أفصح ، و«عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ» أي غير مقطوع ، والجذاذات القراضات. انظر اللباب ٤ / ٣٧٤.

(١٥) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٨٢.

(١٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٢٢.

٥٢٥

و«لهم» صفة له ، وهذا الضمير يجوز أن يعود على الأصنام ، وتأويل عود ضمير العقلاء عليها تقدم. ويجوز أن يعود على عابديها (١). والضمير في «إليه» يجوز أن يعود إلى «إبراهيم» ، أي : يرجعون إلى مقالته حين يظهر لهم الحق ، أو غلب على ظنه أنهم لا يرجعون إلا إليه لما شاهدوه من إنكاره لدينهم ، وسب آلهتهم ، فيبكتهم بما أهانهم (٢) به من قوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ)(٣).

ويجوز أن يعود إلى الكبير (٤) ، وفيه وجهان :

أحدهما : لعلهم يرجعون إليه كما يرجعون إلى العالم في حل (٥) المشكلات ، فيقولون : ما لهؤلاء مكسورة ومالك صحيحا والفأس على عاتقك؟ وهذا قول الكلبي. وإنما قال ذلك بناء على كثرة جهالاتهم ، فلعلهم كانوا يعتقدون فيها أنها تجيب وتتكلم.

والثاني : أنه ـ عليه‌السلام (٦) ـ قال ذلك مع علمه أنهم لا يرجعون إليه (استهزاء (٧) بهم) (٨).

فصل (٩)

قال السّدّيّ : كان لهم في كل سنة عيد يجتمعون فيه ، فكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ، ثم عادوا إلى منازلهم ، فلما كان هذا الوقت قال آزر لإبراهيم : لو خرجت معنا ، فخرج معهم ، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال : إنّي سقيم أشتكي رجلي (١٠) ، فلمّا مضوا وبقي ضعفاء الناس ، نادى وقال : (تَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) أي : إلى عيدكم. فسمعوها منه. واحتج هذا القائل بقوله تعالى : (قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ)(١١).

وقال الكلبيّ : كان إبراهيم ـ عليه‌السلام (١٢) ـ من أهل بيت ينظرون في النجوم وكانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يتركوا إلّا مريضا ، فلما همّ إبراهيم بكسر الأصنام ، نظر قبل يوم العيد إلى السماء ، وقال لأصحابه: أراني أشتكي غدا ، وهو قوله : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ)(١٣). وأصبح في الغد معصوبا رأسه ، فخرج القوم لعيدهم

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٢٢.

(٢) في الأصل : أهابهم. وفي ب : أعابه. والصواب ما أثبته.

(٣) [الأنبياء : ٦٣]. وانظر الكشاف ٣ / ١٤ ، والفخر الرازي ٢٢ / ١٨٣.

(٤) قال ابن عطية : (ويحتمل أن يعود الضمير إلى الكبير المتروك ، ولكن يضعف ذلك دخول الترجي في الكلام) تفسير ابن عطية ١٠ / ١٦٢. وهذا قول الكلبي ، الكشاف ٣ / ١٤.

(٥) في ب : محل. وهو تحريف.

(٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٧) انظر الكشاف ٣ / ١٤.

(٨) ما بين القوسين سقط من ب.

(٩) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٨٢.

(١٠) في ب : رجل.

(١١) «يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ» : سقط من ب. [الأنبياء : ٦٠].

(١٢) عليه‌السلام : سقط من ب.

(١٣) [الصافات : ٨٨ ، ٨٩].

٥٢٦

ولم يتخلف أحد غيره ، فقال (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) فسمع رجل منهم هذا القول ، فحفظه عليه ، ثم أخبر به غيره ، وانتشر ذلك في جماعة ، فلذلك قال تعالى : (قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) ، ثم إنّ إبراهيم ـ عليه‌السلام (١) ـ دخل بيت الأصنام فوجد سبعين صنما مصطفة (٢) ، وعند الباب صنم عظيم من ذهب مستقبل الباب وفي عينه جوهرتان تضيئان بالليل ، فكسرها كلها بفأس في يده حتى لم يبق إلّا الكبير علق الفأس في عنقه.

فإن قيل : أولئك الأقوام إمّا أن يكونوا عقلاء أو لم يكونوا عقلاء ، فإن كانوا عقلاء وجب أن يكونوا عالمين بالضرورة أنّ تلك الأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضرّ ، فأي حاجة في إثبات ذلك إلى كسرها؟ أقصى ما في الباب أن يقال : القوم كانوا يعظمونها كما يعظم الواحد منا المصحف والمسجد والمحراب وكسرها لا يقدح في تعظيمها من هذا الوجه. وإن لم يكونوا عقلاء لم يحسن مناظرتهم ولا بعثة الرسل إليهم.

فالجواب : أنهم كانوا عقلاء وكانوا عالمين بالضرورة أنها جمادات ، ولكن لعلهم كانوا يعتقدون فيها أنها تماثيل للكواكب ، وأنها طلسمات موضوعة ، بحيث إنّ كل من عبدها (٣) انتفع ، وكل من استخف بها ناله منها ضرر شديد ، ثم إنّ إبراهيم ـ عليه‌السلام (٤) ـ كسرها ولم ينله منها ضرر ألبتة ، فكان فعله دالا على فساد مذهبهم (٥). قوله : (مَنْ فَعَلَ هذا) يجوز في «من» (٦) أن تكون استفهامية وهو الظاهر ، فعلى هذا تكون الجملة من قوله (إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) استئنافا لا محل لها من الإعراب (٧). ويجوز أن تكون موصولة بمعنى (الّذي) ، وعلى هذا فالجملة من «إنّه» في محل رفع خبرا للموصول ، والتقدير : الذي فعل هذا بآلهتنا إنّه (٨). ومعنى الآية : من فعل هذا الكسر والحطم (٩) الشديد معدود في الظلمة إما لجرأته على الآلهة الحقيقة بالتوقير والإعظام ، وإما لأنهم رأوا إفراطا في كسرها ، وتماديا في الاستهانة بها (١٠).

قوله : «يذكرهم». في هذه الجملة أوجه :

أحدها : أن «سمع» هنا يتعدى لاثنين ، لأنها متعلقة بعين ، فيكون «فتى» مفعولا أولا و«يذكرهم» هذه الجملة في محل نصب مفعولا ثانيا ، ألا ترى أنك لو قلت : سمعت زيدا ، وسكتّ لم يكن كلاما بخلاف : سمعت قراءته وحديثه (١١).

__________________

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٢) في الأصل : مصففة. وهو تحريف.

(٣) عبدها : سقط من ب.

(٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٨٣.

(٦) في ب : يجوز من في من. وهو تحريف.

(٧) انظر التبيان ٢ / ٩٢١ ، القرطبي ١١ / ٢٩٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٢٣.

(٨) انظر التبيان ٢ / ٩٢١ ، والقرطبي ١١ / ٢٩٨ وكون (من) استفهامية هو الأولى لقوله : «سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ» وهذا هو جواب «من فعل هذا؟».

(٩) في ب : الخطم. وهو تصحيف.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٨٣.

(١١) انظر التبيان ٢ / ٩٢١.

٥٢٧

والثاني : أنها في محل نصب أيضا صفة ل «إبراهيم».

قال الزمخشري : فإن قلت : ما حكم الفعلين بعد «سمعنا» ، وما الفرق بينهما؟ قلت : هما صفنان ل «فتى» إلّا أنّ الأول وهو «يذكرهم» لا بدّ منه (١) ل «سمع» (٢) لأنك لا تقول : سمعت زيدا وتسكت حتى تذكر شيئا مما يسمع ، وأما الثاني فليس كذلك (٣). وهذا الذي قاله (٤) لا يتعين لما عرفت أن (٥) سمع إن تعلقت بما سمع (٦) نحو سمعت مقالة بكر فلا خلاف أنها تتعدى لواحد. وإن تعلقت بما لا يسمع فلا يكتفى به أيضا بلا خلاف بل لا بدّ من ذكر شيء يسمع ، فلو قلت : سمعت زيدا ، وسكت ، أم سمعت زيدا يركب ، لم يجز ، فإن قلت : سمعته يقرأ صح ، وجرى في ذلك خلاف بين النحاة فأبو علي يجعلها متعدية لاثنين ، ولا يتمشى عليه قول الزمخشري. وغيره يجعلها متعدية لواحد ، ويجعل الجملة بعد المعرفة حالا وبعد النكرة صفة ، وهذا أراد الزمخشري (٧).

قوله : «إبراهيم». في رفع «إبراهيم» أوجه :

أحدها : أنه مرفوع على ما لم يسم فاعله ، أي : يقال له هذا اللفظ ، وكذلك قال أبو البقاء : فالمراد الاسم لا المسمى (٨). وفي هذه المسألة خلاف بين النحويين أعني تسلط القول على المفرد الذي لا يؤدي معنى جملة ولا هو مقتطع من جملة ، ولا هو مصدر ل «قال» ، ولا هو صفة لمصدره نحو : قلت زيدا ، أي: قلت هذا اللفظ ، فأجازه جماعة كالزجاجي (٩) والزمخشري وابن خروف (١٠) وابن مالك ، ومنعه آخرون(١١). وممن اختار

__________________

(١) في ب : فيه. وهو تحريف.

(٢) في الأصل : يسمع. وهو تحريف.

(٣) الكشاف ٣ / ١٥.

(٤) وهو قوله : (هما صفتان).

(٥) في ب : أنه. وهو تحريف.

(٦) في الأصل : بما لا يسمع وهو تحريف.

(٧) وذلك لأنّ (سمع) إمّا أن تدخل على مسموع أو غيره : فإن دخلت على مسموع فلا خلاف أنها تتعدى إلى واحد نحو سمعت كلام زيد ومقالة خالد. وإن دخلت على غير مسموع فاختلف فيها ، فقيل : إنها تتعدى إلى اثنين وهو مذهب الفارسي ، ويكون الثاني مما يدل على صوت ، فلا يقال : سمعت زيدا يركب. ومذهب غيره أنّ (سمع) يتعدى إلى واحد ، والفعل بعده إن كان معرفة في موضع الحال منها أو نكرة في موضع الصفة فعلى مذهب غير الفارسي يتمشى قول الزمخشري أنه صفة ل «فتى» وعلى مذهب الفارسي فلا يكون إلا في موضع المفعول الثاني ل «سمع». انظر البحر المحيط ٦ / ٣٢٤.

(٨) التبيان ٢ / ٩٢١ ، وانظر أيضا الكشاف ٣ / ١٥.

(٩) هو عبد الرحمن بن إسحاق أبو القاسم الزجاجي ، أصله من صيمر ، نزل بغداد ولزم الزجاج حتى برع في النحو ، ومن مصنفاته الجمل في النحو ، والإيضاح ، الكافي كلاهما في النحو ، شرح كتاب الألف واللام للمازني وغيرها مات سنة ٣٤٠ ه‍. بغية الوعاة ٢ / ٧٧.

(١٠) تقدم.

(١١) أي أن تسلط القول على المفرد الذي لا يؤدي معنى جملة ، ولا هو مقتطع من جملة ، ولا هو مصدر لقال ، ولا هو صفة لمصدره مسألة اختلف فيها النحويون ، فذهب الزجاجي والزمخشري وابن خروف وابن مالك إلى جواز نصبه بالقول. نحو قلت زيدا. وذهب جماعة منهم ابن عصفور إلى أنه لا ينصب ـ

٥٢٨

رفع «إبراهيم» على ما ذكرت (١) الزمخشري وابن عطية (٢). أمّا إذا كان المفرد مؤديا معنى جملة كقولهم : قلت خطبة وشعرا وقصيدة أو اقتطع من جملة كقوله :

٣٧٢٩ ـ إذا ذقت فاها قلت طعم مدامة

معتّقة ممّا يجيء به التّجر (٣)

أو كان مصدرا نحو قلت قولا ، أو صفة له نحو : قلت حقا أو باطلا ، فإنه يتسلط عليه كذا قالوا (٤). وفي قولهم : المفرد المقتطع من الجملة نظر ، لأنّ هذا لم يتسلط عليه القول إنما تسلط (٥) على الجملة المشتملة عليه.

الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر ، يقال له : هذا إبراهيم ، أو هو إبراهيم (٦).

الثالث : أنه مبتدأ محذوف الخبر ، أي : يقال له إبراهيم فاعل ذلك (٧).

الرابع : أنه منادى وحرف (٨) النداء محذوف أي : يا إبراهيم (٩).

وعلى الأوجه الثلاثة فهو مقتطع من جملة ، وتلك الجملة محكية ب «يقال» وتقدم تحقيق (١٠) هذا في البقرة عند قوله (وَقُولُوا حِطَّةٌ)(١١) رفعا ونصبا ، وفي الأعراف عند

__________________

ـ بالقول بل يحكى ، وهو الصحيح إذ لا يحفظ من لسانهم : قال فلان زيدا ، ولا قال ضرب ، ولا قال ليت ، وإنما وقع القول في كلام العرب لحكاية الجمل. انظر شرح جمل الزجاجي لابن عصفور ٢ / ٤٦٢ ، المقرب (٣٢٤) شرح الكافية الشافية ٢ / ٥٦٧ ، البحر المحيط ٦ / ٣٢٤. الهمع ٢ / ١٥٧.

(١) في ب : ما ذكر. أي : أنه مرفوع على ما لم يسم فاعله ، أي : يقال له هذا اللفظ.

(٢) الكشاف ٣ / ١٥ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ١٦٤.

(٣) البيت من بحر الطويل قاله امرؤ القيس ، وهو في ديوانه (١١٠) ، المقرب (٣٢٤) شرح جمل الزجاجي ٢ / ٤٦٣ ، اللسان (تجر) البحر المحيط ٦ / ٣٢٤ ، الهمع ٢ / ١٥٧ ، الدرر ١ / ١٣٨. المدامة : الخمر القديمة ، والمعتقة كذلك. التّجر : جمع تجار وهو جمع تاجر ، أي : جمع الجمع ، وقيل : التّجر جمع تاجر كشارف وشرف ، وهم التجار بالخمر المعتقة. والشاهد فيه أنّ قوله (طعم مدامة) مقتطع من جملة أي : طعمه طعم مدامة فليس فيه إلا الحكاية.

(٤) انظر شرح جمل الزجاجي ٢ / ٤٦٢ ـ ٤٦٣ ، المقرب (٣٢٤) ، شرح الكافية الشافية ٢ / ٥٦٧ ، البحر المحيط ٦ / ٣٢٤ ، الهمع ٢ / ١٥٧.

(٥) في ب : سلط.

(٦) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٣٩٦ ، الكشاف ٣ / ١٥ ، البيان ٢ / ١٦٣ ، التبيان ٢ / ٩٢١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٢٤.

(٧) انظر التبيان ٢ / ٩٢١.

(٨) في الأصل : وحذف. وهو تحريف.

(٩) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٣٩٦ ، الكشاف ٣ / ١٥ ، البيان ٢ / ١٦٣ ، التبيان ٢ / ٩٢١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٢٤.

(١٠) في ب : تقرير.

(١١) من قوله تعالى :«وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ» [البقرة : ٥٨]. وذكر هناك : قرىء بالرفع والنصب ، فالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أمرك طاعة ، قال الزمخشري : والأصل النصب بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة ... انظر اللباب ١ / ١٥٦.

٥٢٩

قوله (قالُوا مَعْذِرَةً)(١) رفعا ونصبا. والجملة من «يقال له» (٢) يحتمل أن تكون مفعولا آخر نحو ظننت زيدا كاتبا شاعرا. وأن تكون صفة على رأي الزمخشري (٣) ومن تابعه وأن تكون حالا من «فتى» وجاز ذلك لتخصصها بالوصف (٤).

قوله تعالى : (قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(٦٧)

فصل

لما سمع بعض القوم قول إبراهيم ـ عليه‌السلام (٥) ـ (تَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) وسمعوا سبّه لآلهتهم غلب على ظنهم أنه الفاعل لذلك ، فلذلك (٦) قالوا : (سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) أي : يعيبهم ويسبهم (يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) ، فهو الذي يظن أنه الذي صنع هذا (٧).

فبلغ ذلك نمروذ الجبار ، وأشراف قومه ، فقالوا فيما بينهم (فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) قاله نمروذ ، أي : جيئوا به ظاهرا ، أي بمرأى من الناس (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) عليه أنه الذي فعله. قال الحسن وقتادة والسدي : كرهوا أن يأخذوه بغير بينة (٨). وقال محمد بن إسحاق : (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) أي : يحضرون عقابه فينزجروا عن الإقدام على مثله (٩). وقال

__________________

(١) من قوله تعالى : «قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» [الأعراف : ١٦٤]. وذكر هناك : قرأ العامة «معذرة» رفعا على خبر ابتداء مضمر أي : موعظتنا معذرة ، وقرأ حفص عن عصام ، وزيد بن علي ، وعيسى بن عمر ، وطلحة بن مصرف «معذرة» نصبا ، وفيها ثلاثة أوجه: أظهرها : أنّها منصوبة على المفعول من أجله ، أي : وعظناهم من أجل المعذرة ، قال سيبويه : ولو قال رجل لرجل معذرة إلى الله وإليك من كذا انتصب. الثاني : أنها منصوبة على المصدر بفعل مقدر من لفظها تقديره : نعتذر معذرة. الثالث : أن ينتصب انتصاب المفعول به ، لأنّ المعذرة تتضمن كلاما ، والمفرد المتضمن لكلام إذا وقع بعد القول نصب نصب المفعول به كقلت خطبة وسيبويه يختار الرفع قال : لأنهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذارا مستأنفا ولكنهم قيل لهم لم تعظون فقالوا : موعظتنا معذرة. انظر اللباب ٤ / ١١٤.

(٢) في الأصل : لهم. وهو تحريف.

(٣) الكشاف ٣ / ١٥ ، والتبيان ٢ / ٩٢١.

(٤) أي : أنّ الأصل في صاحب الحال أن يكون معرفة و«فتى» نكرة ، وجاز مجيء الحال من النكرة هنا لتخصصها بالوصف وهو قوله «يذكرهم» عند من أعربها صفة ل «فتى» وهما الزمخشري وأبو البقاء وانظر التبيان ٢ / ٩٢١.

(٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٦) في ب : فكذلك. وهو تحريف.

(٧) انظر البغوي ٥ / ٤٩٥.

(٨) انظر البغوي ٥ / ٤٩٥.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٨٤.

٥٣٠

الكلبي ومقاتل : المراد مجموع الأمرين أي : يشهدون عليه ويشهدون عقابه (١).

قوله : (عَلى أَعْيُنِ) في محل نصب على الحال من الهاء في «به» أي : ائتوا به ظاهرا مكشوفا بمرأى منهم ومنظر (٢). قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى الاستعلاء في : «على»؟ قلت : هو وارد على طريق المثل ، أي : يثبت إتيانه على الأعين ، ويتمكن ثبات الراكب على المركوب ، وتمكنه منه (٣).

قوله : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ). في «ءأنت» وجهان :

أحدهما : أنه فاعل بفعل مقدر يفسره الظاهر بعده ، والتقدير : أفعلت هذا بآلهتنا فلمّا حذف الفعل انفصل الضمير.

والثاني : أنه مبتدأ والخبر بعده الجملة (٤).

والفرق بين الوجهين من حيث اللفظ واضح ، فإنّ الجملة من قوله «فعلت» الملفوظ بها على الأول لا محل لها ، لأنها مفسرة ومحلها الرفع على الثاني ، ومن حيث المعنى أنّ الاستفهام إذا دخل على الفعل أشعر بأنّ الشك إنما تعلق به (هل وقع أم لا؟ من غير شك في فاعله. وإذا دخل على الاسم وقع الشك فيه) (٥) هل هو الفاعل أم غيره؟ والفعل غير مشكوك في وقوعه ، بل هو واقع فقط.

فإذا قلت : أقام زيد؟ كان شكك في قيامه. وإذا قلت : أزيد قام؟ وجعلته مبتدأ كان شكك في صدور الفعل منه أم من عمرو.

والوجه الأولى هو المختار عند النحاة ، لأنّ الفعل تقدم ما يطلبه ، وهو أداة الاستفهام (٦).

قوله : «بل فعله» هذا الإضراب عن جملة محذوفة تقديره : لم أفعله إنما الفاعل حقيقة الله تعالى ، وإسناد الفعل إلى «كبيرهم» من أبلغ التعاريض (٧).

قوله (٨) : «هذا» فيه ستة أوجه :

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) انظر الكشاف ٣ / ١٥ ، التبيان ٢ / ٩٢١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٢٤.

(٣) الكشاف ٣ / ١٥.

(٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٢٤.

(٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(٦) لأنّ همزة الاستفهام يغلب دخولها على الأفعال. انظر البحر المحيط ٦ / ٣٢٤.

(٧) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٢٤. التعريض أن تذكر شيئا تدل به على شيء لم تذكره كما يقول المحتاج للمحتاج إليه : جئتك لأسلم عليك ولأنظر إلى وجهك الكريم ، ولذلك قالوا : وحسبك بالتسليم مني تقاضيا. وكأنه إمالة الكلام إلى عرض يدل على الغرض ويسمى التلويح ، لأنه يلوح منه ما يريده.

الكشاف ١ / ١٤٣.

(٨) في الأصل : فصل. وهو تحريف.

٥٣١

أحدها : أن يكون نعتا ل «كبيرهم».

الثاني : أن يكون بدلا من «كبيرهم».

الثالث : أن يكون خبرا ل «كبيرهم» على أنّ الكلام يتم عند قوله «بل فعله» وفاعل الفعل محذوف. كذا نقله أبو البقاء ، وقال : وهذا بعيد ، لأنّ حذف الفاعل لا يسوغ (١). قال شهاب الدين : وهذا القول يعزى للكسائي (٢) ، وحينئذ لا يحسن الرد عليه بحذف الفاعل فإنه يجيز ذلك ، ويلزمه ، ويجعل التقدير : بل فعله من فعله ويجوز أن يكون أراد بالحذف الإضمار ، لأنه لمّا لم يذكر الفاعل لفظا سمى ذلك حذفا (٣).

الرابع : أن يكون الفاعل ضمير «فتى» (٤).

الخامس : أن يكون الفاعل ضمير «إبراهيم» (٥).

وهذان الوجهان يؤيدان أنّ المراد بحذف الفاعل إنّما هو الإضمار.

السادس : أن «فعله» ليس فعلا ، بل الفاء حرف عطف دخلت على «علّ» (٦) التي أصلها «لعلّ» حرف ترج وحذف اللام الأولى ثابت (٧) ، فصار اللفظ «فعلّه» أي : فلعلّه ، ثم حذفت اللام الأولى وخففت الثانية. وهذا يعزى للفراء (٨) وهو مرغوب عنه. وقد استدل على مذهبه بقراءة ابن السميفع «فعلّه» بتشديد اللام (٩) ، وهي قراءة شاذة لا يرجع بالقراءة المشهورة إليها ، وكأن الذي حملهم على هذا خفاء وجه صدور هذا الكلام من النبي ـ عليه‌السلام (١٠) ـ.

__________________

(١) التبيان ٢ / ٩٢١.

(٢) قد ذكرت في سورة [طه : ١٢٨] عند بيان الأوجه في فاعل «يهد» من قوله تعالى«أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ»رأي الكسائي وما استدل به ، وما يستثنى من عدم جواز حذف الفاعل.

(٣) الدر المصون ٥ / ٥٣.

(٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٢٥.

(٥) المرجع السابق.

(٦) في ب : على.

(٧) وذلك أن (لعل) فيها لغات وهي «لعل» بسيطة ولامها أصل ، وقيل : مركبة من «عل» واللام زائدة ، وقيل من لام الابتداء ، و«عل» بحذف اللام ، ولعنّ بإبدال اللام نونا ، و(عنّ) بحذف اللام من هذه ، و«رعن» بإبدال اللام راء ، و«رغنّ» ولغنّ بالغين المعجمة فيهما بدلا من المهملة و(رعلّ) بالمهملة ، و(لوان). ونقل البعض زيادة (عل وأل) بفتح اللام في هذين ، فإن أراد فتح اللام مشددة لزمه التكرار لتقدم علّ المشدّدة اللام ، وإن أراد فتحها مخففة ، فلعل لا يجوز تخفيفها على اختلاف لغاتها ، وقال الفارسي : تخفف وتعمل في ضمير الشأن محذوفا.

انظر الهمع ١ / ١٣٤ ، وشرح الأشموني وحاشية الصبان ١ / ٢٧١ ، ٢٩٤.

(٨) قال الفراء : (قال بعض الناس : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) مشددة يريد : فلعله كبيرهم) معاني القرآن ٢ / ٢٠٦ ـ ٢٠٧.

(٩) المختصر (٩٢) ، والقرطبي ١١ / ٣٠٠ ، البحر المحيط ٦ / ٣٢٥.

(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام. وانظر البحر المحيط ٦ / ٣٢٥.

٥٣٢

فصل (١)

اعلم أنّ القوم لمّا قالوا له (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ) طلبوا منه الاعتراف بذلك ، ليقدموا على إيذائه ، فقلب الأمر عليهم وقال : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) ، وكان قد علق الفأس في رقبته(٢) ، وأراد بذلك إقامة الحجة عليهم وإظهار جهلهم في عبادة الأوثان ، وقال : (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) واعلم أنّ للناس هاهنا قولان :

الأول : قول كافة المحققين ، وهو أنّ قول إبراهيم ـ عليه‌السلام (٣) ـ (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) من قبيل التعريض ، وهو من وجوه :

أحدها : أنّ قصد إبراهيم ـ عليه‌السلام (٦) ـ تقرير الفعل لنفسه على أسلوب تعريضيّ (٤) ، وليس قصده نسبة الفعل إلى الصنم ، وهذا كما لو قال صاحبك وقد كتبت كتابا بخط رشيق ، وأنت شهير بحسن الخط ، ولا يقدر هو إلا على خرمشة (٥) فاسدة : أأنت كتبت هذا ، فقلت له : بل كتبته أنت ، وكأن قصدك بهذا تقريره لك مع الاستهزاء لا نفيه عنك وإثباته للأمي أو المخرمش ، لأن إثباته والأمر دائر بينهما للعاجز منهما استهزاء وإثبات للقادر.

وثانيها : أنّ إبراهيم ـ عليه‌السلام (٦) ـ غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة ، وكان غيظه من كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم له ، فأسند الفعل إليه لأنه هو السبب في استهانته لها وحطمه لها (٧) ، والفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى الحامل عليه.

وثالثها : أن يكون حكاية لما يلزم عن مذهبهم كأنه قال لهم : ما تنكرون أن يفعله كبيرهم ، فإنّ حق من يعبد ، ويدعى إلها أن يقدر على هذا أو أشد منه ذكر هذه الأوجه الثلاثة الزمخشري (٨).

ورابعها : ما تقدم عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله «كبيرهم» ثم يبتدىء فيقول : (هذا فَسْئَلُوهُمْ). والمعنى : بل فعله كبيرهم ، وعنى نفسه ، لأنّ الإنسان أكبر من كل صنم ، وأنه كناية عن غير مذكور ، أي : فعله من فعله و«كبيرهم» ابتداء كلام.

وخامسها : قال الطّيبي (٩) معناه على التقديم والتأخير ، أي بل فعله كبيرهم إن كانوا

__________________

(١) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ببعض من التصرف ٢٢ / ١٨٥.

(٢) في ب : زقبته. وهو تصحيف.

(٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٤) في الأصل : تعريض.

(٥) الخرمشة : إفساد الكتاب والعمل ، اللسان (خرمش).

(٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٧) في الأصل : وحكمه لهما. وهو تحريف.

(٨) انظر الكشاف ٣ / ١٥.

(٩) في الأصل : القسي ، وفي ب : الليث. والصواب ما أثبته. وهو الحسن بن محمد بن عبد الله الطيبي ـ بكسر الطاء ـ الإمام المشهور العلامة في المعقول والعربية والمعاني والبيان. صنف شرح الكشاف ، التفسير ، التبيان في المعاني والبيان ، شرحه ، شرح المشكاة. مات سنة ٥٤٠ ه‍. بغية الوعاة ١ / ٥٢٢ ـ ٥٢٣.

٥٣٣

ينطقون فاسألوهم ، فجعل النطق شرطا للفعل إن قدروا على النطق قدروا على الفعل فأراهم عجزهم ، وفي ضمنه أنا فعلت ذلك.

وسادسها : قراءة ابن السميفع المتقدمة (١).

والقول الثاني : قال البغوي : والأصح أن إبراهيم ـ عليه‌السلام (٢) ـ أراد بذلك الفعل إقامة الحجة عليهم فذلك قوله : (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) حتى يخبروا من فعل ذلك بهم ، لما روى أبو هريرة عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : لم يكذب إبراهيم (٣) إلا ثلاث كذبات ثنتان منهن في ذات الله ، قوله (٤) : (إِنِّي سَقِيمٌ)(٥) ، وقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) ، وقوله لسارة : «هذه أختي» (٦) وفي حديث الشفاعة قول إبراهيم ـ عليه‌السلام (٧) ـ : «إنّي كذبت ثلاث كذبات» (٨) والقائلون بهذا القول قدروه من جهة العقل وقالوا : الكذب ليس قبيحا لذاته فإنّ النبي إذا هرب (٩) من ظالم واختفى في دار إنسان فجاء الظالم وسأل عنه ، فإنه يجب الكذب فيه ، وإذا كان كذلك ، فأي بعد في أن يأذن الله في ذلك (١٠) لمصلحة لا يعلمها إلا هو كما أذن ليوسف ـ عليه‌السلام (١١) ـ حين أمر مناديه فقال لإخوته : (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ)(١٢) ولم يكونوا سرقوا (١٣).

قال ابن الخطيب : وهذا القول مرغوب عنه أما الخبر فلأن يضاف الكذب إلى رواته (١٤) أولى من أن يضاف إلى الأنبياء ، والدليل القاطع عليه أنه لو جاز أن يكذبوا لمصلحة ويأذن الله تعالى فيه فلنجر هذا الاحتمال في كل ما أخبروا عنه ، وفي كل ما أخبر الله عنه ، وذلك يبطل الوثوق بالشرائع ، وتطرق التهمة (١٥) إلى كلها ، ثم لو صح ذلك الخبر فهو محمول على المعاريض على ما قال عليه‌السلام (١٦) «إنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب» (١٧).

__________________

(١) تقدم قريبا.

(٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٣) في ب : إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

(٤) في ب : وقوله.

(٥) [الصافات : ٨٩].

(٦) أخرجه مسلم (فضائل) ٤ / ١٨٤٠ ، والترمذي (تفسير) ٥ / ٣٢١ ، وأحمد ٢ / ٤٠٣.

(٧) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٨) أخرجه البخاري (نكاح) ٣ / ٢٤٠ ، الترمذي (قيامة) ٤ / ٦٢٣ ، (تفسير) ٥ / ٣٠٨ ، أحمد ١ / ٢٨١ ، ٢٩٥.

(٩) في النسختين : «هزم».

(١٠) في ب : في ذلك لتوبيخهم والاحتجاج عليهم.

(١١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٢) من قوله تعالى :«فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ» [يوسف : ٧٠].

(١٣) البغوي ٥ / ٤٩٥ ـ ٤٩٦.

(١٤) في الأصل : راويه.

(١٥) في ب : الفهم. وهو تحريف.

(١٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٧) المعاريض : جمع معراض. من التعريض وهو خلاف التصريح من القول ، يقال : عرفت ذاك في معراض كلامه. انظر النهاية في غريب الحديث ٣ / ٢١٢ ، الفائق ٢ / ٤١٩.

٥٣٤

فأمّا قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) فلعله سقيم القلب كما يجيء في موضعه (١).

وأمّا قوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) فقد ظهر الجواب عنه (٢). وأما قوله لسارة : هذه أختي ، أي(٣) : في الدين (٤). وأما قصة يوسف ـ عليه‌السلام (٥) ـ فتقدم الكلام عليها (٦).

قوله : (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) جوابه محذوف لدلالة ما قبله ، ومن جوّز التقديم جعل «فاسألوهم» هو الجواب (٧).

قوله : (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) فيه وجوه :

الأول : أنّ إبراهيم ـ عليه‌السلام (٨) ـ لما نبههم على قبح طريقتهم بما أورده عليهم علموا أنّ عبادة الأصنام باطلة ، وأنهم على غرور وجهل في ذلك.

الثاني : قال مقاتل : (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ) فلاموها وقالوا : (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) لإبراهيم حيث تزعمون أنه كسرها مع أن الفأس بين يدي الصنم الكبير.

الثالث : أنتم الظالمون لأنفسكم حيث سألتموه حتى إنه يستهزىء بكم في الجواب (٩).

قوله (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) قرأ العامة : «نكسوا» مبنيا للمفعول مخفف الكاف أي : نكسهم الله (١٠) أو خجلهم. و (عَلى رُؤُسِهِمْ) حال ، أي : كائنين على رؤوسهم (١١). ويجوز أن يتعلق بنفس الفعل (١٢). والنّكس والتّنكيس : القلب ، يقال :

__________________

(١) [الصافات : ٨٩].

(٢) قريبا.

(٣) أي : سقط من ب.

(٤) الفخر الرازي ٢٢ / ١٨٥ ـ ١٨٦.

(٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٦) في سورة يوسف. انظر اللباب ٥ / ٥٥.

(٧) وذلك أنه يجوز حذف ما علم من جواب شرطه ماض نحو و«َإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ» [الأنعام : ٣٥] ، والتقدير فافعل ، ويجب حذف الجواب إن كان الدّال عليه ما تقدم مما هو جواب في المعنى ، ولا يصح جعله جوابا صناعة إما لكونه جملة اسمية مجردة من الفاء نحو أنت ظالم إن فعلت. وإما لكونه جملة منفية بلم مقرونة بالفاء نحو قوله : فلم ارقه أن ينج منها. وإما لكونه مضارعا مرفوعا لزوما نحو أقوم إن قمت. والجواب في ذلك كله محذف لدلاله المتقدم عليه. وليس المتقدم بجواب عند جمهور البصريين ، لأن أداة الشرط لها صدر الكلام فلا يتقدم عليها الجواب وذهب الكوفيون والمبرد وأبو زيد إلى أنّه لا حذف والمتقدم هو الجواب. والصحيح مذهب البصريين.

كذلك يحذف جواب الشرط إن كان الدال عليه ما تأخر من جواب قسم سابق عليه نحو قوله تعالى : «لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ» [الإسراء : ٨٨] ، فجملة «لا يأتون» جواب القسم السابق على الشرط ، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه.

انظر شرح التصريح ٢ / ٢٥٢ ـ ٢٥٣ شرح الأشموني ٤ / ١٥ ، ٢٥.

(٨) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٨٦.

(١٠) لفظ الجلالة سقط من الأصل.

(١١) انظر التبيان ٢ / ٩٢٢.

(١٢) المرجع السابق.

٥٣٥

نكس رأسه ونكّسه مخففا ومشددا. أي : طأطأه حتى صار أعلاه أسفله (١).

وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وابن الجارود (٢) وابن مقسم : «نكّسوا» بالتشديد (٣) وقد تقدم أنه لغة في المخفف ، فليس التشديد لتعدية ولا لتكثير.

وقرأ رضوان بن عبد المعبود (٤) : «نكسوا» مخففا مبنيا للفاعل (٥) ، وعلى هذا فالمفعول محذوف تقديره : نكسوا أنفسهم على رؤوسهم.

فصل

قال المفسرون : أجرى الله الحق على ألسنتهم في القول الأول (٦) ثم أدركتهم الشقاوة فهو معنى قوله : (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) أي : ردوا إلى الكفر بعد أن أقروا على أنفسهم بالظلم (٧). وقيل : قلبوا على رؤوسهم حقيقة بفرط إطراقهم خجلا وانكسارا وانخزالا مما بهتهم إبراهيم ، فما أحاروا جوابا إلا ما هو حجة لإبراهيم ـ عليه‌السلام (٨) ـ حين جادلهم ـ فقالوا : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) فأقروا بهذه الحجة التي لحقتهم (٩).

قوله : (لَقَدْ عَلِمْتَ) هذه الجملة جواب قسم محذوف ، والقسم وجوابه معمولان لقول مضمر ، وذلك القول المضمر حال من مرفوع «نكسوا» أي : نكسوا قائلين : والله لقد علمت (١٠).

قوله : (ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) يجوز أن تكون «ما» حجازية (١١) فيكون «هؤلاء» و«ينطقون» في محل نصب خبرها.

أو تميمية فلا عمل لها. والجملة المنفية بأسرها سادة مسد المفعولين إن كانت «علمت» على بابها ، ومسد واحد إن كانت عرفانية (١٢).

قوله : (قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً) إن عبدتموه ، (وَلا يَضُرُّكُمْ)

__________________

(١) وفي اللسان (نكس) : النّكس : قلب الشيء على رأسه ، نكسه ينكسه نكسا فانتكس ، ونكس رأسه : أماله ، ونكّسته تنكيسا ، وفي التنزيل : (ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [السجدة : ١٢]. والناكس : المطأطىء رأسه ، ونكس رأسه إذا طأطأه من ذلّ. وقيل : النكس في الأشياء معنى يرجع إلى قلب الشيء ورده وجعل أعلاه أسفله ومقدّمه مؤخّره.

(٢) تقدم.

(٣) المختصر (٩٢) ، البحر المحيط ٦ / ٣٢٥ ـ ٣٢٦.

(٤) لم أقف له على ترجمة فيما رجعت إليه من مراجع.

(٥) المختصر (٩٢) ، البحر المحيط ٦ / ٣٢٥ ـ ٣٢٦.

(٦) وهو قوله تعالى : «فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ» [الآية : ٦٤] من السورة نفسها.

(٧) انظر البغوي ٥ / ٤٩٦.

(٨) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ٢٨٦.

(١٠) انظر البحر المحيط ٦ / ٢٣٥.

(١١) فتعمل عمل (ليس).

(١٢) وذلك أنّ الفعل «علم» علق عن العمل في اللفظ لوقوعه قبل شيء له صدر الكلام وهو «ما» النافية.

انظر شرح الأشموني ٢ / ٢٩.

٥٣٦

إن تركتم عبادته. (أُفٍّ لَكُمْ) أي : نتنا وقذرا لكم (وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) تقدم الكلام على «أفّ» في سورة سبحان (١). قال الزمخشري : «أفّ» صوت إذا صوت به دل على أنّ صاحبه متضجر ، وأن إبراهيم ـ عليه‌السلام (٢) ـ أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد وضوح الحق وانقطاع عذرهم وزهوق الباطل فتأفف (٣).

واللام في «لكم» وفي «لما» لام التبيين ، أي : التأفيف لكم لا لغيركم ، وهي نظير قوله : (هَيْتَ لَكَ)(٤). ثم قال (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي : أليس لكم عقل تعقلون هذا وتعرفونه؟

قوله تعالى : (قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ)(٧١)

فلما ألزمهم الحجة وعجزوا عن الجواب (قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ) ليس في القرآن (٥) من القائل ذلك ، والمشهور أنه نمروذ بن كنعان بن سنجاريب (٦) بن نمروذ بن كوش (٧) بن حام بن نوح. وقال مجاهد : سمعت ابن عمر (٨) يقول : إنما أشار بتحريق إبراهيم رجل من الأكراد من فارس.

روى ابن جريج (٩) عن وهب عن شعيب (١٠) قال : إن الذي قال حرقوه اسمه هرين (١١) فخسف (١٢) الله به فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة (١٣).

__________________

(١) عند قوله تعالى : «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً» [الإسراء : ٢٣]. وذكر ابن عادل هناك أنّ فيها أربعين لغة قال : وقد قرىء من هذه اللغات بسبع ثلاث في المتواتر وأربع في الشواذ فقرأ نافع وحفص بالكسر والتنوين ، وابن كثير وابن عامر بالفتح دون تنوين ، والباقون بالكسر دون تنوين ، ولا خلاف بينهم في تشديد الفاء ، وقرأ نافع في رواية «إف» بالرفع ، وأبو السمال بالضم من غير تنوين ، وزيد بن علي بالنصب والتنوين ، وابن عباس «أف» بالسكون. انظر اللباب ٥ / ٢٢٦ والسبعة (٣٧٩ ، ٤٢٩ ـ ٤٣٠) ، الكشف ٢ / ٥٤٤ البحر المحيط ٦ / ٢٣.

(٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٣) الكشاف ٣ / ١٦.

(٤) [يوسف : ٢٣]. فيمن قرأ بهاء مفتوحة وياء ساكنة وتاء مفتوحة أو مكسورة أو مضمومة ، ف «هيت» اسم فعل فإن كان مسماه فعل ماض أي تهيأت ، فاللام متعلقة به كما تتعلق بمسماه لو صرح به. أما إن كان مسماه فعل أمر بمعنى أقبل أو تعال ، فاللام للتبيين أي إرادتي لك أو أقول لك وأما من قرأ «هئت» مثل جئت فهو فعل بمعنى تهيأت ، واللام متعلقة به وأما من قرأ كذلك ولكن جعل التاء ضمير المخاطب فاللام للتبيين مثلها مع اسم الفعل. المغني ١ / ٢٢٢.

(٥) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٨٧.

(٦) في الأصل : السنجاريب.

(٧) في ب : كوين. وهو تحريف.

(٨) عمر : سقط من ب.

(٩) في الأصل : ابن جرير. وهو تحريف.

(١٠) هو شعيب الجبائي.

(١١) في النسختين : هرير.

(١٢) في الأصل : خسف.

(١٣) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٨٧.

٥٣٧

فصل

قال مقاتل (١) : لما اجتمع نمروذ وقومه لإحراق إبراهيم حبسوه في بيت وبنوا له بنيانا كالحظيرة ، وذلك قوله : (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ)(٢). ثم جمعوا له الحطب الكثير ، حتى إنّ الرجل أو المرأة لو مرضت قالت : إن عافاني الله لأجمعن حطبا لإبراهيم. وقيل : بنوا آتونا بقرية يقال لها كوثى.

ثم جمعوا له أصلاب الحطب من أصناف الخشب مدة أربعين يوما ، وكانت المرأة تغزل وتشتري الحطب بغزلها ، فتلقيه فيه احتسابا في دينها ، فلما اشتعلت النار ، واشتدت حتى أن كانت الطير لتمر به وهي في أقصى الجو فتحترق من شدة وهجها. روي أنّهم لم يعلموا كيف يلقوه فيها؟ فجاء إبليس وعلمهم عمل (٣) المنجنيق (٤) فعملوه. وقيل : صنعه لهم رجل من الأكراد يقال له : هيزن ، وكان أول من صنع المنجنيق ، فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. ثم عمدوا إلى إبراهيم ـ عليه‌السلام (٥) ـ فوضعوه فيه مقيدا مغلولا ، فصاحت السماء والأرض ومن فيها من الملائكة صيحة واحدة : أي ربنا ما في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم ، وإنه يحرق فيك فأذن لنا في نصرته ، فقال سبحانه : «إن استغاث بأحد منكم أو دعاه فلينصره ، فقد أذنت له في ذلك ، وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليّه فخلوا بيني وبينه ، فإنه خليلي ليس لي خليل (٦) غيره وأنا إلهه ليس له إله غيري» (٧).

فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن المياه فقال : إن أردت أخمدت النار. وأتاه خازن الرياح فقال : إن شئت طيرت النار في الهواء (٨).

فقال إبراهيم : لا حاجة لي إليكم ، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض من يعبدك غيري حسبي الله ونعم الوكيل.

قال ابن عباس : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(٩) قالها إبراهيم حين ألقي في النار ، وقالها محمد حين قيل له : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ)(١٠) فحين ألقي في النار قال : «لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك

__________________

(١) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٨٧ ـ ١٨٨.

(٢) [الصافات : ٩٧].

(٣) في ب : عمر. وهو تحريف.

(٤) المنجنيق والمنجنيق ، بفتح الميم وكسرها ، والمنجنوق : القذاف التي ترمى بها الحجارة ، دخيل أعجمي معرب. اللسان (مجنق).

(٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٦) خليل : سقط من ب.

(٧) إله : سقط من ب.

(٨) في ب : في الهوى.

(٩) [آل عمران : ١٧٣].

(١٠) [آل عمران : ١٧٣ ، ١٧٤].

٥٣٨

لك». ثم رموه في المنجنيق إلى النار ، فأتاه جبريل ، فقال : يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال : أما إليك فلا ، قال : فاسأل (١) ربك قال : حسبه (٢) من سؤالي علمه بحالي. فقال الله تعالى : (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ). قال كعب الأحبار جعل كل شيء يطفىء عنه النار إلا الوزغ فإنه كان ينفخ النار. وروت أم شريك (٣) أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أمر بقتل الوزغ وقال : «كان ينفخ على إبراهيم» (٤). وقال السّدّيّ : القائل (كُونِي بَرْداً وَسَلاماً) هو جبريل. وقال ابن عباس في رواية مجاهد : لو لم يتبع بردها سلاما لمات إبراهيم (٥) من بردها ، قال : ولم يبق يومئذ نار إلا طفئت ، ولو لم يقل (عَلى إِبْراهِيمَ) بقيت ذات برد أبدا. قال السدي : فأخذت الملائكة بضبعي (٦) إبراهيم وأقعدوه على الأرض فإذا (٧) عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس ، ولم تحرق النار منه إلا وثاقه. وقال المنهال (٨) بن عمرو (٩) : أخبرت (١٠) أنّ إبراهيم ـ عليه‌السلام (١١) ـ لما ألقي في النار كان فيها إما أربعين يوما أو خمسين يوما ، وقال : ما كنت أطيب عيشا مني إذ كنت فيها. قال ابن يسار (١٢) : وبعث الله عزوجل (١٣) ملك الظل في صورة إبراهيم فقعد إلى جنب إبراهيم يؤنسه ، وأتى جبريل (١٤) بقميص من حرير الجنة وطنفسة (١٥) فألبسه القميص وأجلسه على الطنفسة وقعد معه يحدثه وقال : يا إبراهيم إنّ ربك يقول : أما (١٦) علمت أن النار لا تضر أحبابي.

ثم نظر نمروذ من صرح له وأشرف على إبراهيم فرآه جالسا في روضة ورأى الملك قاعدا إلى جنبه وما حوله نار تحرق ، فناداه نمروذ : يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها؟

__________________

(١) في ب : فل.

(٢) في الأصل : حسبي.

(٣) هي غزيلة بنت دودان بن عمرو بن عامر بن رواحة بن منقذ صحابية لها أحاديث اتفقا على حديث أخذ عنها جابر وابن المسيب وعروة. خلاصة تهذيب الكمال ٣ / ٤٠٠.

(٤) ذكره البغوي بسنده عن ابن جريج عن عبد الحميد بن جبير عن سعيد بن المسيب عن أم شريك ٥ / ٤٩٨.

(٥) إبراهيم : سقط من ب.

(٦) الضبع : العضد.

(٧) في ب : فإذا هي.

(٨) وهو المنهال بن عمرو الأسدي مولاهم الكوفي أخذ عن ابن الحنفية وزر بن حبيش وأخذ عنه زيد بن أبي أنيسة ومنصور والأعمش. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ٣ / ٥٩.

(٩) في ب : ابن عمر ، وهو تحريف.

(١٠) في ب : اخضرت. وهو تحريف.

(١١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٢) في الفخر الرازي : قال ابن إسحاق : وابن يسار هو عطاء بن يسار الهلالي أبو محمد المدني ، روى عن معاذ بن جبل ، وأبي ذر ، وأبي الدرداء ، وغيرهم روى عنه أبو سلمة بن عبد الرحمن ومحمد بن عمر بن عطاء ، وغيرهما ، مات سنة ٩٤ ه‍ وقيل بعد ذلك. تهذيب التهذيب ٧ / ٢١٧ ـ ٢١٨.

(١٣) في ب : الله تعالى.

(١٤) في الأصل : وأتى جبريل من.

(١٥) الطنفسة : البساط الذي له خمل رقيق. اللسان (طنفس).

(١٦) في ب : ما. وهو تحريف.

٥٣٩

قال : نعم ، قال : قم فاخرج ، فقام يمشي حتى خرج منها.

قال له نمروذ : من الرجل الذي رأيته معك في صورتك قاعدا إلى جنبك؟ قال : ذاك (١) ملك الظل أرسله ربي ليؤنسني ، فقال له نمروذ : إني مقرّب إلى إلهك قربانا لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك ، وإنّي ذابح له أربعة آلاف بقرة ، فقال إبراهيم ـ عليه‌السلام (٢) ـ لا يقبل الله منك ما دمت على دينك هذا ، قال نمروذ : لا أستطيع ترك (٣) ملكي ولكن سوف أذبحها له فذبحها ثم كف عن إبراهيم.

روي أن إبراهيم ـ عليه‌السلام (٤) ـ ألقي في النار وهو ابن ست عشرة سنة. وإنما اختاروا المعاقبة بالنار ، لأنها أقوى العقوبات. وقيل (٥) : روي أن هاران أبا لوط قال لهم : إن النار لا تحرقه ، لأنه سحر النار ، ولكن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته ، ففعلوا ، فطارت شرارة في لحية أبي لوط فأحرقته (٦).

قوله : «بردا» أي : ذات برد. والظاهر في «سلاما» أنه نسق على «بردا» فيكون خبرا عن «وني». وجوّز بعضهم أن ينتصب على المصدر المقصود به التحية في العرف وقد ردّ هذا بأنه لو قصد ذلك لكان الرفع فيه أولى (٧) ، نحو قول إبراهيم : «سلام» (٨) ، وهذا غير لازم ، لأنه لا يجوز أن يأتي القرآن على الفصيح والأفصح ، ويدل على ذلك أنه جاء مقصودا ، والمقصود به التحية نحو قول الملائكة : (قالُوا سَلاماً)(٨).

وقوله (عَلى إِبْراهِيمَ) متعلق بنفس سلام إن قصد به التحية (٩). ويجوز أن يكون صفة (١٠) فيتعلق بمحذوف ، وعلى هذا فيحتمل أن يكون قد حذف صفة الأول لدلالة (١١) صفة الثاني عليه تقديره : كوني بردا عليه وسلاما عليه.

فصل (١٢)

قال أبو مسلم الأصفهاني في تفسير قوله (قُلْنا يا نارُ) المعنى : أنه سبحانه وتعالى

__________________

(١) في الأصل : ذلك.

(٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٣) في ب : أمر. وهو تحريف.

(٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٥) قيل : سقط من ب.

(٦) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٨٧ ـ ١٨٨.

(٧) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٢٨.

(٨) من قوله تعالى : «وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ» [هود : ٦٩]. وقوله تعالى:«إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ» [الحجر : ٥٢]. وقوله تعالى : (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) [الذاريات : ٢٥].

(٨) من قوله تعالى : «وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [هود : ٦٩]. وقوله تعالى : «إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ» [الحجر : ٥٢]. وقوله تعالى : (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) [الذاريات : ٢٥].

(٩) انظر التبيان ٢ / ٩٢٢.

(١٠) أي ل «سلاما». التبيان ٢ / ٩٢٢.

(١١) في ب : فدلالة. وهو تحريف.

(١٢) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٨٨ ـ ١٨٩.

٥٤٠