اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

فصل(١)

احتجت المعتزلة بقوله : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) على أن الشفاعة في الآخرة لا تكون لأهل الكبائر ، لأنه لا يقال في أهل الكبائر : إن الله يرتضيهم.

والجواب : قول ابن عباس والضحاك : أن معنى (إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) أي لمن قال : لا إله إلا الله. وهذه الآية من أقوى الدلائل في إثبات الشفاعة لأهل الكبائر ، وهو أن من قال لا إله إلا الله فقد ارتضاه الله في ذلك ، ومتى صدق عليه أنه ارتضاه الله في ذلك (فقد صدق عليه أنه ارتضاه الله) (٢) لأن المركب متى صدق عليه أنه ارتضاه فقد صدق لا محالة كل واحد من أجزائه ، وإذا ثبت أن الله سبحانه قد ارتضاه وجب اندراجه تحت هذه الآية ، فثبت بما ذكرنا أن هذه الآية من أقوى الدلائل لنا على ما قرره ابن عباس.

فصل(٣)

دلّت الآية على أن الملائكة مكلفون لقوله : (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) ، وعلى (٤) أن الملائكة معصومون. قوله : (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) قال القاضي عبد الجبار : هذا يدل على أن كل ظالم يجزيه الله جهنم ، كما توعد الملائكة به ، وذلك يوجب القطع بأنه تعالى لا يغفر الكبائر في الآخرة. وأجيب بأن أقصى(٥) ما فيه أن هذا العموم مشعر بالوعيد ، وهو معارض بعمومات الوعد.

والمراد ب «الظّالمين» الواضعين الإلهية والعبادة في غير موضعها.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)(٣٣)

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآيات. اعلم أنه تعالى شرع الآن في الدلائل الدالة على وجود الصانع ، وعلى كونه منزها عن الشريك ، وعلى التوحيد ، فتكون

__________________

ـ جهنم ، أي نكفيها به ، ثم حذف حرف الجر فصار نجزئه جهنم ، أي نطعمه جهنم ، كما حذف حرف الجر في قوله تعالى : «وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً» [الأعراف : ١٥٥] أي من قومه ، ثم أبدلت الهمزة من «نجزئه» ياء على حد أخطيت وإبدال الهمزة هنا ياء لغير علة إلا طلبا للتخفيف. انظر المحتسب ٢ / ٦٢ ، وسر صناعة الإعراب ٢ / ٧٣٩ ، وانظر أيضا البحر المحيط ٦ / ٣٠٧.

(١) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٠.

(٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(٣) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٠ ـ ١٦١.

(٤) في ب : على.

(٥) في ب : أقضى.

٤٨١

كالتوكيد لما تقدم ، لأنها دالة على حصول الترتيب العجيب في العالم ، ووجود إلهين يقتضي وقوع الفساد. وفيها ردّ على عبدة الأوثان من حيث إن الإله القادر على مثل هذه المخلوقات العظيمة ، كيف يجوز في العقل أن يعدل عن عبادته إلى عبادة حجر لا يضر ولا ينفع؟ فهذا وجه النظم (١). قرأ ابن كثير «ألم ير» من غير واو ، والباقون بالواو (٢). ونظير حذف الواو (٣) وإثباتها هنا ما تقدم في البقرة وآل عمران في قوله : (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً)(٤)(سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ)(٥) ، وقد تقدم حكمه ، وإدخال الواو يدل على العطف على آخر تقدمه. والرؤية هنا يجوز أن تكون قلبية ، وأن تكون بصرية. ف «أنّ» وخبرها سادة مسد مفعولين عند الجمهور على الأول (٦) ، ومسد واحد والثاني محذوف (٧) عند الأخفش (٨). وسادة مسد واحد فقط على الثاني (٩). فإن قيل : إن كان المراد بالرؤية البصرية فمشكل (١٠) ، لأن القوم ما رأوهم كذلك ألبتة ، ولقوله تعالى : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(١١). وإن كان المراد بالرؤية العلم (١٢) فمشكل ، لأن الأجسام قابلة للفتق والرتق (١٣) في أنفسها فالحكم عليها بالرتق أولا وبالفتق ثانيا لا

__________________

(١) في تعلق هذه الآية بما قبلها. وانظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٦١ بتصرف يسير.

(٢) السبعة ٤٢٨ ، الكشف ٢ / ١١٠ ، النشر ٢ / ٣٢٣ ، الإتحاف ٣١٠.

(٣) [البقرة : ١١٦].

(٤) من قوله تعالى : «و«َقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ» [البقرة : ١١٦] وذكر هنا : قرأ الجمهور «وقالوا» بالواو عطفا لهذه الجملة الخبرية على ما قبلها ، وهو أحسن في الربط ، وقرأ ابن عامر بغير واو ، وكذلك هي في مصاحف الشام ، وتحتمل وجهين : أحدهما : الاستئناف ، والثاني : حذف حرف العطف ، وهو مراد ، واستغني عنه بربط الضمير قبل هذه الجملة.

انظر اللباب ١ / ٢٥٤.

(٥) [سورة آل عمران : ١٣٣] وذكر هناك : قرأ نافع وابن عامر «سارعوا» دون واو ، وكذلك هي في مصاحف المدينة ، والشام ، والباقون بواو العطف ، وكذلك هي في مصاحف مكة والعراق ومصحف عثمان ، فمن أسقطها استأنف الأمر بذلك أو أراد العطف لكنه حذف العاطف لقرب كل واحد منهما من الآخر فإن قوله : «سارعوا» وقوله : «اطيعوا» كالشيء الواحد. ومن أثبت الواو عطف جملة أمرية على مثله ، وبعد اتباع الأثر في التلاوة اتبع كل رسم مصحفه انظر اللباب ١ / ١١٠.

(٦) في ب : وعلى الا. وهو تحريف.

(٧) محذوف : سقط من ب.

(٨) وذلك لأن (أنّ) المشددة ومعمولاها تسد مسد المفعولين في باب ظن وأخواتها عند الجمهور ، وذهب الأخفش إلى أنها ومعموليها سادة مسد واحد والثاني محذوف. انظر الهمع ١ / ١٥١ ـ ١٥٢.

(٩) أي على أن الرؤية بصرية.

(١٠) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٢.

(١١) من قوله تعالى : «ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً» [الكهف : ٥١].

(١٢) في الأصل : بالعلم.

(١٣) الرتق : ضد الفتق ، وهو إلحام الفتق وإصلاحه ، رتقه يرتقه ويرتقه رتقا فارتتق أي التأم. اللسان (رتق). الفتق : خلاف الرتق فتقه يفتقه ويفتقه فتقا شقه. اللسان (فتق).

٤٨٢

سبيل إليه إلا بالسمع والمناظرة مع الكفار (١) المنكرين للرسالة ، فكيف يجوز مثل (٢) هذا الاستدلال؟

فالجواب : المراد (٣) من الرؤية العلم ، وما ذكروه من السؤال فدفعه من وجوه :

أحدها : أنا نثبت نبوة محمد ـ عليه‌السلام (٤) ـ بسائر المعجزات ، ثم نستدل بقوله ، ثم نجعله دليلا على حصول النظام في العالم ، وانتفاء الفساد عنه ، وذلك يؤكد (٥) الدلالة المذكورة في التوحيد.

وثانيها : أن يحمل الرتق والفتق على إمكان الرتق والفتق ، والعقل يدل عليه لأن الأجسام يصح عليها الاجتماع والافتراق فاختصاصها بالاجتماع دون الافتراق أو بالعكس يستدعي مخصصا.

وثالثها : أن اليهود والنصارى كانوا عالمين بذلك ، فإنه جاء في التوراة أن الله تعالى خلق جوهرة ، ثم نظر إليها بعين إلهية ، فصارت ماء ، ثم خلق السموات والأرض منها ، وفتق بينهما ، وكان بين اليهود وعبدة الأوثان نوع صداقة بسبب الاشتراك في عداوة (٦) محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٧) ـ ، فاحتج الله عليهم بهذه الحجة على أنهم يقبلون قول اليهود في ذلك (٨).

قوله : «كانتا» الضمير يعود على (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) بلفظ التثنية والمتقدم جمع وفي ذلك أوجه :

أحدها : ما ذكره الزمخشري فقال : وإنما قال «كانتا» دون كنّ ، لأن المراد جماعة السموات وجماعة الأرضين ، ومنه قولهم : لقاحان (٩) سوداوان ، أي : جماعتان ، فعل في المضمر ما فعل في المظهر (١٠).

الثاني : قال أبو البقاء : الضمير يعود على الجنسين (١١).

الثالث : قال الحوفي : (كانَتا رَتْقاً) ، و«السّموات» جمع ، لأنه أراد الصنفين. قال الأسود بن يعفر (١٢) :

__________________

(١) مع الكفار : سقط من الأصل.

(٢) مثل : سقط من ب.

(٣) المراد : سقط من الأصل.

(٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٥) في ب : مؤكد.

(٦) في الأصل : بعداوة.

(٧) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٨) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٢.

(٩) اللقاح : ذوات الألبان من النوق. ولقاحان تثنيته : لقاح ، ولقاح : جمع لقحة وثني الجمع لأنهم قصدوا الجماعة.

(١٠) الكشاف ٣ / ٩.

(١١) التبيان ٢ / ٩١٦.

(١٢) بن يعفر : سقط من ب. وهو الأسود بن يعفر النهشلي شاعر متقدم فصيح من شعراء الجاهلية شرح شواهد المغني ٢ / ٥٥٣ ، الخزانة ١ / ٤٠٥ ـ ٤٠٦.

٤٨٣

٣٧٠٩ ـ إنّ المنيّة والحتوف كلاهما

يوفي (١) المخارم (٢)يرقبان سوادي (٣)

لأنه أراد النوعين (٤). وتبعه ابن عطية (٥) في هذا فقال : وقال : «كانتا» من حيث هما نوعان ونحوه قول عمرو بن شييم (٦) :

٣٧١٠ ـ ألم يحزنك أن حبال قيس

وتغلب قد تباينتا انقطاعا (٧)

قال الأخفش : «السّموات» نوع ، والأرض نوع ، ومثله : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا)(٨)(٩). ومن ذلك : أصلحنا بين القومين ، ومرت بنا غنمان أسودان ، لأن هذا القطيع غنم ، وذاك غنم (١٠). و«رتقا» خبر ، ولم يثن لأنه في الأصل مصدر ، ثم لك أن تجعله قائما مقام المفعول ، كالخلق بمعنى المخلوق (١١) أو تجعله على حذف مضاف أي : ذواتي رتق (١٢). وهذه قراءة الجمهور (١٣). وقرأ الحسن وزيد بن علي وأبو حيوة وعيسى «رتقا» بفتح التاء (١٤) وفيه وجهان :

__________________

(١) في ب : لو في. وهو تحريف.

(٢) في ب : المحارم. وهو تصحيف.

(٣) البيت من بحر الكامل ، وهو في مجاز القرآن ٢ / ٦٣ ، والمغني ١ / ٢٠٤. والبحر المحيط ٦ / ٣٠٨ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٥٥٣.

المنية : الموت ، الحتوف : جمع الحتف وهو الموت بلا ضرب ولا قتل وقيل : فجأة.

المخارم : جمع المخرم وهو منقطع أنف الجبل. والشاهد فيه أنه جعل (المنية ، والحتوف) نوعين فأخبر عنهما بالمثنى مع أن (الحتوف) جمع.

(٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٠٨.

(٥) تفسير ابن عطية ١٠ / ١٤٢.

(٦) هو عمير بن شييم الثعلبي وهو المعروف بالقطامي ، كان نصرانيا فأسلم ، وهو من الطبقة الثانية من شعراء الإسلام. الخزانة ٢ / ٣٧٠ ـ ٣٧١.

(٧) البيت من بحر الوافر قاله القطامي وهو في ديوانه (٤٠) مجاز القرآن ٢ / ٣٧ تفسير ابن عطية ١٠ / ١٤٢ القرطبي ١٣ / ٦٣ ، البحر المحيط ٦ / ٣٠٨ والمراد بالحبال في البيت ما بين قيس وتغلب من علاقات وعهود. تباينت : تفرقت واختلفت أي انقطعت الصلات بينهما. والشاهد أن الشاعر قال : تباينتا بلفظ التثنية مع أن (حبال) جمع ، فكان الظاهر أن يقول : تباينت انقطاعا وأن يراعي الجمع في الحبال ، ولكنه راعى أنهما نوعان حبال لقيس وحبال لتغلب تفسير ابن عطية ١٠ / ١٤٢.

(٨) [سورة فاطر : ٤١].

(٩) قال الأخفش : قال : «كانتا» لأنه جعلهما صنفين كنحو قول العرب : هما لقاحان سودان. وفي كتاب الله عزوجل : «إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا» معاني القرآن ٢ / ٦٣٤.

(١٠) أي : أن جمع التكسير ـ غير صيغة منتهى الجموع ـ واسم الجمع واسم الجنس قد ثني أحيانا نحو جمالين ، وركبين في تثنية جمال وركب بقصد الدلالة في التثنية على التنويع ، ووجود مجموعتين متميزتين في شيء ما ، على تأويل الجماعتين والفرقتين انظر ابن يعيش ٤ / ١٥٣ ـ ١٥٥ ، الهمع ١ / ٤٢ ، وانظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٢.

(١١) انظر التبيان ٢ / ٩١٦.

(١٢) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ٨٣ ، البيان ٢ / ١٦٠.

(١٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٠٩.

(١٤) المختصر (٩١) ، والمحتسب ٢ / ٦٢ ، والبحر المحيط ٦ / ٣٠٩.

٤٨٤

أحدهما : أنه مصدر أيضا ، ففيه الوجهان المتقدمان في الساكن التاء (١).

والثاني : أنه فعل بمعنى مفعول كالقبض والنّفض (٢) بمعنى المقبوض والمنفوض ، وعلى هذا فكان ينبغي أن يطابق مخبره في التثنية. وأجاب الزمخشري عن ذلك فقال : هو على تقدير موصوف ، أي : كانتا شيئا رتقا (٣).

وقال المفضل (٤) : لم يقل : كانتا رتقين كقوله : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ)(٥) وحّد «جسدا» كذلك ما نحن فيه كل واحد رتق (٦).

ورجح بعضهم (٧) المصدرية بعدم المطابقة في (٨) التثنية ، وقد عرف جوابه (٩) وله أن يقول : الأصل عدم حذف الموصوف ، فلا يصار إليه دون ضرورة والرتق : الانضمام ، ارتتق حلقه أي : انضم ، وامرأة رتقاء أي : منسدة الفرج فلم يمكن جماعها من ذلك.

والفتق : فصل ذلك المرتتق. وهو من أحسن البديع هنا حيث قابل الرتق بالفتق (١٠).

فصل

قال ابن عبّاس (١١) في رواية عكرمة والحسن وقتادة وسعيد بن جبير : كانتا شيئا واحدا ملتزمين ففصل الله بينهما ، ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض. وهذا القول يوجب أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء ، لأنه تعالى لما فصل بينهما جعل الأرض حيث هي ، وأصعد الأجزاء السماوية. قال كعب : خلق الله السموات والأرض ملتصقتين ، ثم خلق ريحا توسطتهما ففتقتهما. وقال مجاهد والسدي : كانت السموات مرتتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سموات ، وكذلك الأرض كانت مرتتقة طبقة واحدة

__________________

(١) وهما أن تجعله قائما مقام المفعول. أو تجعله على حذف مضاف أي ذواتي رتق.

(٢) النفض بالتحريك : ما تساقط من الورق والثمر وهو فعل بمعنى مفعول كالقبض بمعنى المقبوض.

اللسان (نفض).

(٣) الكشاف ٣ / ٩.

(٤) في الأصل : وقال المفصل اللام.

(٥) [الأنبياء : ٨] أي أنه مفرد في موضع الجمع والمضاف محذوف. انظر التبيان ٢ / ٩١٢.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٢.

(٧) وهو أبو الفضل الرازي حيث قال : (الأكثر في هذا الباب أن يكون المتحرك منه اسما بمعنى المفعول ، والساكن مصدرا ، وقد يكونان مصدرين لكن المتحرك أولى بأن يكون في معنى المفعول ، لكن هنا الأولى أن يكونا مصدرين ، فأقيم كل واحد منهما مقام المفعولين ألا ترى أنه قال : «كانَتا رَتْقاً» فلو جعلت أحدهما اسما لوجب أن تثنيه ، فلما قال : «رتقا» كان في الوجهين كرجل عدل ، ورجلين عدل ، وقوم عدل) البحر المحيط ٦ / ٣٠٩.

(٨) في ب : و. وهو تحريف.

(٩) وهو جواب الزمخشري المتقدم ، وهو على تقدير موصوف.

(١٠) وهي ما يسمى بالطباق ، وهو الجمع بين المتضادين ، أي : معنيين متقابلين في الجملة الإيضاح (٣٤٨).

(١١) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٢ ـ ١٦٣.

٤٨٥

ففتقها فجعلها سبع أرضين. وقال ابن عباس في رواية عطاء وأكثر المفسرين : إن السموات كانت رتقا مستوية صلبة لا تمطر ، والأرض رتقا لا تنبت ، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات ، ونظيره قوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ)(١). ورجحوا هذا الوجه بقوله بعد ذلك : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) ، وذلك لا يليق إلا وللماء تعلق بما تقدم ، وهو ما ذكرنا فإن قيل : هذا الوجه مرجوح ، لأن المطر لا ينزل من السموات بل من سماء واحدة ، وهي سماء الدنيا.

فالجواب : إنما أطلق عليه لفظ الجمع ، لأن كل قطعة منها سماء ، كما يقال : ثوب أخلاق (٢) ، وبرمة أعشار (٣). وعلى هذا التأويل فتحمل الرؤية على الإبصار. وقال أبو مسلم : يجوز أن يراد بالفتق الإيجاد والإظهار كقوله : (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٤) ، وكقوله : (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ)(٥) فأخبر عن الإيجاد بلفظ الفتق ، وعن الحال قبل الإيجاد بلفظ الرتق.

وتحقيقه أن العدم نفي محض ، فليس فيه ذوات وأعيان متباينة بل كأنه أمر واحد متصل متشابه ، فإذا وجدت الحقائق فعند الوجود والتكوين يتميز بعضها من بعض ، وينفصل بعضها عن بعض.

فبهذا الطريق يحسن جعل الرتق مجازا عن العدم ، والفتق عن الوجود.

وقيل : إن الليل سابق النهار لقوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ)(٦) فكانت (٧) السموات والأرض مظلمة أولا ففتقها الله بإظهار النهار المبصر (٨). واعلم أن دلالة هذه

__________________

(١) [الطارق : ١١ ، ١٢].

(٢) أخلاق جمع خلق أي : بال ، يصفون به الواحد ، إذا كانت الخلوقة فيه كله ، كما قالوا : برمة أعشار.

اللسان (خلق).

(٣) البرمة : قدر من حجارة ، والجمع برم ، وبرام ، وبرم. (اللسان «برم») وأعشار جمع العشر أي مكسرة على عشر قطع ، (اللسان «عشر»).

(٤) قوله : «فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ورد في القرآن ست مرات أولها [الأنعام : ١٤] وآخرها [الشورى : ١١] انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن (٥٢٣).

(٥) [الأنبياء : ٥٦].

(٦) [سورة يس : ٣٧].

(٧) في الأصل : كانت.

(٨) وابن الخطيب عند ترجيحه لهذه الأقوال ذكر : أن الظاهر يقتضي أن السماء على ما هي عليه ، والأرض على ما هي عليه كانتا رتقا ، ولا يجوز كونهما كذلك إلا وهما موجودان ، والرتق ضد الفتق ، فإذا كان الفتق هو المفارقة فالرتق يجب أن يكون هو الملازمة وبهذا الطريق صار قول أبي مسلم وما بعده مرجوحا ويصير قول ابن عباس في رواية عكرمة والحسن وقتادة وسعيد بن جبير أولى الوجوه. ويتلوه قول مجاهد والسدي ، وهو أن كل واحد منهما كان رتقا ففتقهما بأن جعل كل واحد منهما سبعا ، ويتلوه قول ابن عباس في رواية عطاء وأكثر المفسرين وهو أنهما كان صلبين من غير فطور وفرج ، ففتقهما لينزل المطر من السماء ، ويظهر النبات على الأرض. انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٣.

٤٨٦

الوجوه على إثبات الصانع ووحدانيته ظاهرة لأن أحدا لا يقدر على مثل ذلك (١). قوله : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) يجوز في «جعل» هذه أن يكون بمعنى (خلق) فيتعدى لواحد ، وهو (كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)(٢) و«من الماء» متعلق بالفعل قبله ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من (كُلَّ شَيْءٍ) لأنه في الأصل يجوز أن يكون وصفا له فلما قدم عليه نصب على الحال (٣). ومعنى خلقه من الماء : أحد شيئين : إما شدة احتياج كل حيوان للماء فلا يعيش بدونه ، وإما لأنه مخلوق من النطفة التي تسمى ماء. ويجوز أن يكون (جعل) بمعنى (صيّر) فيتعدى لاثنين ثانيهما الجار (٤) بمعنى أنا صيرنا كل شيء حي بسبب (٥) من الماء لا بد له منه. والعامة على خفض «حيّ» صفة لشيء (٦). وقرأ حميد بنصبه (٧) على أنه مفعول ثان ل «جعلنا» والظرف لغو (٨) ، ويبعد على هذه القراءة أن يكون «جعل» بمعنى (خلق) ، وأن ينتصب (٩) «حيا» على الحال.

قال الزمخشري : و«من» في هذا نحو «من» في قوله عليه‌السلام (١٠) «ما أنا من دد ولا الدّد منّي»(١١)(١٢).

فإن قيل : كيف قال : خلقنا من الماء كل حيوان ، وقد قال : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ)(١٣) ، وقال عليه‌السلام (١٤) : «إن الله تعالى خلق الملائكة من النور» (١٥) ، وقال في عيسى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ) فيه (فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي)(١٦) ، وقال في حق آدم : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ)(١٧) فالجواب : اللفظ وإن كان عاما

__________________

(١) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٢ ـ ١٦٣.

(٢) انظر التبيان ٢ / ٩١٦.

(٣) المرجع السابق ٢ / ٩١٧.

(٤) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ٨٣ ، التبيان ٢ / ٩١٧.

(٥) في ب : لسبب.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٠٩ ، والإتحاف ٣١٠.

(٧) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٠٩.

(٨) أي أن (جعل) على هذه القراءة يكون بمعنى (صير) ، وجوز أبو البقاء أن يكون «حيا» بالنصب صفة ل «كل». وانظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ٨٤ ، الكشاف ٣ / ٩ ـ ١٠ ، التبيان ٢ / ٩١٧ ، البحر المحيط ٦ / ٣٠٩ ، والإتحاف ٣١٠.

(٩) في ب : تنصب.

(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١١) انظر النهاية في غريب الحديث ٢ / ١٠٩ ، الفائق ١ / ٤٢٠ ، الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١١٠) ، والدد : اللهو واللعب.

(١٢) الكشاف : ٣ / ٩.

(١٣) [الحجر : ٢٧].

(١٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٥) في صحيح مسلم عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم» (زهد) ٤ / ٩٤ ، ٢٢ وأحمد ٦ / ١٥٨ ، ١٦٨.

(١٦) [المائدة : ١١٠] وفي النسختين : إذ تخلق من الطين كهيئة الطير فتنفخ فيه فتكون طيرا بإذن الله. وهو تحريف.

(١٧) من قوله تعالى : «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» [آل عمران : ٥٩].

٤٨٧

إلا أن القرينة المخصصة قائمة ، فإن الدليل لا بد وأن يكون مشاهدا محسوسا ليكون أقرب إلى المقصود ، وبهذا الطريق تخرج عنه الملائكة والجن وآدم وقصة عيسى لأن (١) الكفار لم يروا شيئا من ذلك (٢).

فصل

قال بعض المفسرين (٣) : المراد بقوله : (كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) الحيوان فقط. وقال آخرون : بل يدخل(٤) فيه النبات ، لأنه من الماء صار ناميا ، وصار فيه الرطوبة والخضرة والنور والثمر. وهذا القول أليق بالمقصود ، لأن المعنى كأنه قال : ففتقنا السماء لإنزال المطر وجعلنا منه كل شيء في الأرض من النبات وغيره حيا. فإن قيل : النبات لا يسمى حيا. فالجواب : لا نسلم ، ويدل عليه قوله تعالى (كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها)(٥). ثم قال (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) والمعنى أفلا يؤمنون بأن يتدبروا (٦) هذه الأدلة (٧) فيعملوا بها ويتركوا طريقة الشرك (٨).

قوله : (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) الرواسي الجبال ، والراسي : هو الداخل في الأرض (٩). قوله: (أَنْ تَمِيدَ) مفعول من أجله ، أي : أن لا تميد (١٠) ، فحذفت «لا» لفهم المعنى كما زيدت في (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ)(١١) ، أو كراهة أن تميد (١٢) وقدره أبو البقاء فقال : مخافة أن تميد (١٣) وفيه نظر ، لأنا إن جعلنا المخافة مسندة إلى (١٤) المخاطبين اختل شرط من شروط النصب في المفعول وهو اتحاد الفاعل (١٥). وإن جعلناها مسندة لفاعل الجعل استحال ذلك ، لأنه تعالى لا يسند إليه الخوف. وقد يقال يختار أن يسند المخافة إلى المخاطبين ، وقولكم يختل شرط من شروط النصب جوابه : أنه ليس بمنصوب بل مجرور بحرف الجر (١٦) المقدر (١٧) ، وحذف حرف الجر مطرد مع أنّ وأن بشرطه (١٨).

__________________

(١) في الأصل : أن. وهو تحريف.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٤.

(٣) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٤.

(٤) في الأصل : يدخلون.

(٥) [الروم : ٥٠].

(٦) في الأصل : يتدبر.

(٧) في ب : الآية.

(٨) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٤ ، وفي ب : الشراك. وهو تحريف.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٤.

(١٠) قاله الكوفيون. الكشاف ٣ / ١٠ ، القرطبي ١١ / ٢٨٥.

(١١) «الكتاب» : سقط من ب. [الحديد : ٢٩].

(١٢) قاله البصريون. معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٣٩٠ ، القرطبي ١١ / ٢٨٥.

(١٣) التبيان ٢ / ٩١٧.

(١٤) إلى : سقط من ب.

(١٥) لأن من شروط النصب في المفعول له اتحاده بالمعلل به فاعلا بأن يكون فاعل الفعل وفاعل المصدر واحد. انظر شرح التصريح ١ / ٣٣٥.

(١٦) في النسختين : العلة.

(١٧) كما قدره الكوفيون : لئلا. الكشاف ٣ / ١٠.

(١٨) شرط حذف الجار مع (أنّ ، وأن) أمن اللبس ، نحو قوله تعالى : «أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ» ـ

٤٨٨

فصل

قال ابن عباس : إن الأرض بسطت على الماء فكانت تكفأ بأهلها كما تكفأ السفينة فأرساها (١) الله بالجبال الثقال (٢). قوله : (وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً) في «فجاجا» وجهان :

أحدهما : أنه (مفعول به) (٣) و«سبلا» بدل منه (٤).

والثاني : أنه منصوب على الحال من «سبلا» (٥) ، لأنه في الأصل صفة له فلما قدم انتصب كقوله:

٣٧١١ ـ لميّة موحشا طلل

يلوح كأنّه خلل (٦)

ويدل على ذلك مجيئه صفة في قوله تعالى (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً)(٧)

وقال الزمخشري : فإن قلت : في الفجاج معنى الوصف فما لها قدمت على السبل ولم تؤخر كقوله تعالى : (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) (١١) ، قلت : لم تقدم وهي صفة ، ولكن جعلت حالا كقوله :

٣٧١٢ ـ لعزّة موحشا طلل قديم (٨)

__________________

ـ [الأعراف : ٦٣ ، ٦٩]. وقوله : «شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» [آل عمران : ١٨] أي : من أن جاءكم ، وبأنه فإن خيف اللبس امتنع الحذف كما في رغبت في أن تفعل أو عن أن تفعل ، لإشكال المراد بعد الحذف. واطرد حذف حرف الجر مع (أنّ) و(أن) لطولهما بالصلة انظر المغني ٢ / ٦٤٠ ، الأشموني ٢ / ٩١ ـ ٩٢.

(١) في ب : وأرساها.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٤.

(٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(٤) انظر التبيان ٢ / ٩١٧.

(٥) المرجع السابق.

(٦) البيت من مجزوه الوافر لكثير ، وهو في ديوانه ٢ / ٢١٠ والكتاب ٢ / ١٢٣ ، ومجالس العلماء ١٣١ ، ١٣٢ ، والخصائص ٢ / ٤٩٢. ابن يعيش ٢ / ٥٠ المغني ١ / ٨٥ ، وشذور الذهب ٢٤ ، ٢٥٣ ، المقاصد النحوية ٣ / ١٦٣ شرح التصريح ١ / ٣٧٥ وشرح شواهد المغني ١ / ٣٤٩ ، شرح الأشموني ٢ / ١٧٤ والخزانة ٣ / ١١٢.

ميّة : اسم امرأة. الموحش : المنزل الذي صار قفرا لا أنيس به. الطلل : ما شخص من آثار الديار.

خلل : جمع خلّة : وهي بطائن يغشى بها أجفان السيوف منقوشة بالذهب وغيره. والشاهد فيه نصب (موحشا) على الحال ، وكان أصله صفة ل (طلل) فقدمت على الموصوف فصارت حالا ، وذلك لأن صفة النكرة إذا قدمت عليها صارت حالا.

(٧) [نوح : ٢٠].

(٨) صدر بيت من بحر الوافر قاله كثير ، وعجزه : عفاه كل أسحم مستديم. وهو في ديوانه ٢ / ٢١٠ ، ابن يعيش ٢ / ٦٢ ـ ٦٤ وشرح التصريح ١ / ٣٧٥ ، الخزانة ٣ / ٢٠٩ عفاه : درسه وغيره. الأسحم : الأسود ، والمراد هنا السحاب لأنه إذا كان ذا ماء يرى أسود لا متلائه. المستديم : صفة (كل) وهو السحاب الممطر مطر الديمة. والديمة : مطرة أقلها ثلث النهار أو ثلث الليل. والشاهد فيه كالشاهد في البيت السابق.

٤٨٩

فإن قلت : ما الفرق بينهما من جهة المعنى؟ قلت : أحدهما : إعلام بأنه جعل فيها طرقا واسعة ، والثاني : أنه حين خلقها على تلك الصفة فهو بيان لما أبهم ثمة (١). قال أبو حيان : يعني بالإبهام أن الوصف لا يلزم أن يكون الموصوف متصفا به حالة الإخبار عنه ، وإن كان (٢) الأكثر قيامه به حالة الإخبار عنه ، ألا ترى أنه يقال : مررت بوحشيّ القاتل حمزة ، وحالة (٣) المرور لم يكن قائما به قتل حمزة (٤). والفجّ الطّريق الواسع ، والجمع الفجاج (٥). والضمير في «فيها» يجوز أن يعود على الأرض وهو الظاهر كقوله (وَاللهُ (٦) جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً)(٧)(٨). وأن يعود على الرواسي (٩) ، يعني أنه جعل في الجبال طرقا واسعة وهو قول مقاتل والضحاك ورواية عطاء عن ابن عباس وعن ابن عمر قال : كانت الجبال منضمة فلما أغرق الله قوم نوح فرّقها فجاجا وجعل فيها طرقا (١٠). وقوله (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي لكي يهتدوا (١١) إذ الشك لا يجوز على الله (١٢). والمعنى (١٣) : ليهتدوا إلى البلاد. وقيل : ليهتدوا إلى وحدانية الله بالاستدلال قالت المعتزلة : وهذا يدل على أنه تعالى أراد من جميع المكلفين الاهتداء وقد تقدم.

وقيل : الاهتداء إلى البلاد والاهتداء إلى وحدانية الله تعالى يشتركان في أصل الاهتداء ، فيحمل اللفظ على ذلك المشترك مستعملا في مفهوميه (١٤) معا (١٥). قوله : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) سميت سقفا ، لأنها كالسقف للبيت ، ومعنى «محفوظا» أي : محفوظا من الوقوع كقوله : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ)(١٦). وقيل : محفوظا من الشياطين (١٧).

قوله : (وَهُمْ عَنْ آياتِها)(١٨) جملة استئنافية ، ويضعف جعلها (١٩) حالا مقدرة. وقرأ مجاهد وحميد «عن آيتها» بلفظ الإفراد (٢٠).

جعل الخلق آية وهي مشتملة على آيات ، أو (٢١) أطلق الواحد وأراد به الجنس (٢٢)

__________________

(١) الكشاف ٣ / ١٠.

(٢) كان : سقط من ب.

(٣) في ب : وبحالة.

(٤) البحر المحيط ٦ / ٣٠٩.

(٥) وفي اللسان (فجج) : الفج : الطريق الواسع بين جبلين ، وجمعه فجاج.

(٦) في الأصل : «الله».

(٧) [نوح : ١٩ ، ٢٠].

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٠٩.

(٩) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٠٩.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٤.

(١١) في النسختين : لكي يهتدون.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٥.

(١٣) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٥.

(١٤) في الأصل : مفهومين.

(١٥) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٥.

(١٦) «عَلَى الْأَرْضِ» : سقط من الأصل. [الحج : ٦٥].

(١٧) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٥.

(١٨) في ب : آياتنا. وهو تحريف.

(١٩) في ب : حملها. وهو تحريف.

(٢٠) المختصر : (٩١) ، البحر المحيط ٦ / ٣١٠.

(٢١) في ب : و. وهو تحريف.

(٢٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٣١٠.

٤٩٠

والمعنى : أن الكفار معرضون عما خلق في السماء من الشمس والقمر والاستيضاء (١) بنوريهما ، والنجوم والاهتداء بها ، وحياة الأرض بأمطارها ، وعن كونها آية بينة على وجود الصانع ووحدانيته لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها (٢). قوله : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) أي: كل منهما من الشمس والقمر أو منها أي من الليل والنهار والشمس والقمر. و«يسبحون» يجوز أن يكون خبر «كلّ» على المعنى ، و (فِي فَلَكٍ) متعلق به. ويجوز أن يكون حالا والخبر «في فلك» (٣). وكون المضاف إليه يجوز أن يقدر بالأربعة الأشياء المذكورة ذكره أبو البقاء ولم يذكر غيره (٤) ، إلا أن المضاف إليه (الشَّمْسَ (٥) وَالْقَمَرَ) وهو الظاهر ، لأن السباحة من صفتهما دون (اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) ، وعلى هذا فيعتذر عن الإتيان بضمير الجمع ، وعن كونه جمع من يعقل ، أما الأول فقيل : إنما جمع ، لأن ثم معطوفا محذوفا تقديره : والنجوم كما دلت عليه آيات أخر ، فصارت النجوم وإن لم تكن مذكورة يعود هذا الضمير إليها (٦).

وقال الزمخشري : الضمير للشمس والقمر ، والمراد بهما جنس الطوالع كل يوم وليلة جعلوها متكاثرة لتكاثر مطالعها ، وهو السبب في جمعها بالشموس والأقمار (٧). انتهى. والذي حسن ذلك كونه رأس آية (٨). وقال أبو البقاء : و«يسبحون» خبر «كلّ» على المعنى ، لأن كل واحد إذا سبح فكلها تسبح. وقيل (٩) : «يسبحون» على هذا الوجه حال ، والخبر (فِي فَلَكٍ). وقيل : التقدير : وكلها ، والخبر «يسبحون» وأتى بضمير الجمع على معنى «كل» (١٠).

وفي هذا الكلام نظر من حيث أنه لما جوز أن يكون المضاف إليه شيئين جعل الخبر الجار و«يسبحون» حالا فرارا من عدم مطابقة الخبر للمبتدأ ، فوقع في تخالف الحال (١١) وصاحبها.

وأما الثاني فلأنه لمّا أسند إليها السباحة التي هي من أفعال العقلاء جمعها جمع

__________________

(١) في الأصل : ويستضاء.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٥.

(٣) انظر التبيان ٢ / ٩١٧.

(٤) قال أبو البقاء : (قوله تعالى : «كلّ» أي واحد منهما أو منها ، ويعود إلى الليل والنهار والشمس والقمر) التبيان ٢ / ٩١٧.

(٥) في ب : والشمس.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٣١٠.

(٧) الكشاف ٣ / ١٠.

(٨) قال الكسائي : (إنما قال : «يسبحون» لأنه رأس آية كما قال الله تعالى : «نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ» [القمر : ٤٤] ولم يقل منتصرون) إعراب القرآن للنحاس ٣ / ٧٠ ، القرطبي ١١ / ٢٨٦.

(٩) في الأصل : قيل.

(١٠) التبيان ٢ / ٩١٧.

(١١) الحال : سقط من ب.

٤٩١

العقلاء كقوله (١) : (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ)(٢) و (أَتَيْنا طائِعِينَ)(٣).

قال الزمخشري : والتنوين في «كل» عوض عن المضاف إليه أي : كلهم (٤). (فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) وهذه الجملة يجوز أن تكون لا محل لها من الإعراب لاستئنافها (٥) ويجوز أن يكون محلها النصب على الحال من (الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ)(٦). فإن قلنا : إن السباحة تنسب إلى الليل والنهار كما نقل عن أبي البقاء في أحد الوجهين (٧) فيكون حالا من الجميع ، وإن كان لا يصح نسبتها إليهما (٨) كانت حالا من (الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) وتأويل الجمع قد تقدم (٩). قال أبو حيان : أو (١٠) محلها النصب على الحال من (الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) لأن الليل والنهار لا يتصفان بأنهما يجريان في فلك فهو كقولك : رأيت هندا وزيدا (متبرجة (١١)) (١٢). انتهى. وسبقه إلى هذا الزمخشري ، يعني أنه قد دل على أن الحال من بعض ما تقدم كما في المثال المذكور ، قال الزمخشري : فإن قلت : لكل واحد من القمرين فلك (١٣) على حدة فكيف قال: (فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ). قلت : هذا كقولهم : كساهم الأمير حلة وقلدهم سيفا أي : كل واحد منهم(١٤). والسباحة العوم في الماء ، وقد يعبر به عن مطلق الذهاب وقد تقدم اشتقاقه في «سبحانك»(١٥).

ومعنى «يسبحون» يسيرون بسرعة كالسابح في الماء.

__________________

(١) في ب : لقوله تعالى.

(٢) من قوله تعالى : «إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ» [يوسف : ٤].

(٣) من قوله تعالى :«ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» [فصلت : ١١]. أي أنه لما أخبر عنهما بفعل من يعقل فأجراه مجرى من يعقل ، فجمع بالواو والنون ، وانظر الكتاب ٢ / ٤٧ ، معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٠١ ، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٣٩١ ، ومشكل إعراب القرآن ٢ / ٨٤ ، البيان ٢ / ١٦٠ التبيان ٢ / ٩١٢.

(٤) الكشاف ٣ / ١٠.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ١٠ ، البحر المحيط ٦ / ٣١٠.

(٦) المرجعان السابقان.

(٧) انظر التبيان ٢ / ٩١٧.

(٨) في ب : اليها. وهو تحريف.

(٩) في نص الزمخشري السابق فإنه قال : (الضمير للشمس والقمر والمراد بهما جنس الطوالع كل يوم وليلة ...).

(١٠) في ب : و.

(١١) البحر المحيط ٦ / ٣١٠.

(١٢) ما بين القوسين في ب : مسرخة. وهو تحريف.

(١٣) في الأصل : فلكم. وهو تحريف.

(١٤) الكشاف ٣ / ١٠ ـ ١١.

(١٥) من قوله تعالى : «قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» [البقرة : ٣٢] وقوله : «سبحانك» ورد في القرآن تسع مرات أولها [البقرة] وآخرها [سبأ : ٤١] انظر اللباب ١ / ١١٠.

٤٩٢

فصل

اعلم أن للكواكب (١) حركتين الأولى : مجمع عليها (٢) وهي حركتها من المشرق إلى المغرب. والحركة الثانية : قالت الفلاسفة وأصحاب (٣) الهيئة : إن للكواكب حركة أخرى من المغرب إلى المشرق ، قالوا : وهي ظاهرة في السبعة السيارة خفية في الثابتة ، واستدلوا بأنا وجدنا الكواكب السيارة كل ما كان منها أسرع حركة إذا قارن (٤) ما هو أبطأ حركة منه تقدمه نحو المشرق ، وهذا (٥) في القمر ظاهر جدا ، فإنه يظهر بعد الاجتماع بيوم أو يومين من ناحية المغرب على بعد من الشمس ، ثم يزداد كل ليلة بعدا منها إلى أن يقابلها وكل كوكب كان شرقيا منه على طريقه على ممر البروج يزداد كل ليلة قربا منه ، ثم إذا أدركه ستره بطرفه الشرقي ، وينكشف ذلك الكوكب بطرفه الغربي. فعلمنا أن لهذه الكواكب السيارة حركة من المغرب إلى المشرق. وأجيبوا : بأن ذلك محال ، لأن الشمس مثلا إذا كانت متحركة بذاتها من المغرب إلى المشرق حركة بطيئة ، وهي متحركة بسبب الحركة اليومية من المشرق إلى المغرب لزم كون الجرم الواحد متحركا حركتين (٦) إلى جهتين مختلفتين دفعة واحدة ، وذلك محال ، لأن التحرك إلى جهة يقتضي حصول المتحرك في الجهة المنتقل إليها ، فلو تحرك (٧) الجسم الواحد دفعة واحدة إلى جهتين لزم حصوله دفعة واحدة في مكانين ، وهو محال. قالوا : ما ذكرتموه ينتقض بما إذا دارت الرحى (٨) إلى جانب والنملة التي تكون عليها متحركة على خلاف ذلك الجانب (٩). وللكلام في هذه المسألة مكان غير هذا.

فصل

والفلك مدار النجوم ، والفلك في كلام العرب كل مستدير وجمعه أفلاك ، ومنه فلك المغزل (١٠). قال الضحاك : الفلك ليس بجسم ، وإنما هو مدار هذه النجوم (١١). وقال الكلبي : الفلك استدارة السماء(١٢). وقال بعضهم : الفلك موج مكفوف تجري الشمس والقمر والنجوم فيه (١٣). وقيل : ماء مجموع تجري فيه الكواكب (١٤). واحتجوا

__________________

(١) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٦. بتصرف يسير.

(٢) عليها : سقط من ب.

(٣) في الأصل : أصحاب.

(٤) في الأصل : فارق. وسقط من ب.

(٥) في الأصل : هذا.

(٦) في ب : حركة. وهو تحريف.

(٧) في ب : تحركت. وهو تحريف.

(٨) الرحى : الحجر العظيم ، وهي التي يطحن بها. وتكتب بالألف وبالياء ، لأنه يقال : رحوت بالرحا ورحيت بها. اللسان (رحا).

(٩) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٦ بتصرف يسير.

(١٠) انظر البغوي ٥ / ٤٨٥.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٧.

(١٢) انظر البغوي ٥ / ٤٨٥.

(١٣) فيه : سقط من ب. وانظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٧.

(١٤) قاله الكلبي. انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٧.

٤٩٣

بأن السباحة لا تكون إلا في الماء. وأجيبوا بالمنع ، فإنه يقال في الفرس الذي يمدّ (١) يديه في الجري : سابح(٢).

وقال الحسن : الفلك طاحونة كهيئة فلكة المغزل (٣).

وقال جمهور الفلاسفة وأصحاب الهيئة : الأفلاك أجرام صلبة لا ثقيلة ولا خفيفة غير قابلة للخرق (٤) والالتئام والنمو والذبول (٥). واختلف الناس (٦) في حركات الكواكب ، فقال بعضهم : الفلك ساكن والكواكب تتحرك فيه كحركة السمكة (٧) في الماء ، وقال آخرون : الفلك متحرك ، والكواكب تتحرك فيه أيضا إما مخالفا لجهة حركته ، أو موافقا لجهته إما بحركة مساوية لحركة الفلك في السرعة والبطء أو مخالفة.

وقيل : الفلك متحرك والكواكب مغروزة فيه. أما الأول فقالت الفلاسفة إنه باطل ، لأنه (٨) يوجب خرق الفلك وهو محال.

وأما الثاني فحركة الكواكب إن كانت مخالفة لحركة الفلك فذلك أيضا يوجب الخرق ، وإن كانت حركتها إلى جهة حركة الفلك فإن كانت مخالفة لها في السرعة والبطء لزم الانخراق ، وإن استويا في الجهة والسرعة والبطء فالخرق أيضا لازم ، لأن الكوكب يتحرك بالعرض بسبب حركة الفلك فتبقى حركته الذاتية زائدة فيلزم الخرق. فلم يبق إلا القسم الثالث ، وهو أن يكون الكوكب مغروزا في الفلك ، والفلك يتحرك ، فيتحرك الكوكب بسبب حركة الفلك. واعلم أن مدار هذا الكلام على أن امتناع الخرق على الأفلاك باطل ، بل الحق أن الأقسام الثلاثة ممكنة ، والله تعالى قادر على كل الممكنات والذي دل عليه لفظ القرآن أن الأفلاك ثابتة و(٩) الكواكب جارية فيها كما تسبح السمكة في الماء (١٠).

فصل (١١)

احتج ابن سينا (١٢) على كون الكواكب أحياء ناطقة بقوله «يسبحون» قال : والجمع

__________________

(١) في ب : يمدين.

(٢) في الأصل : سابحا. انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٧.

(٣) انظر البغوي ٥ / ٤٨٥.

(٤) في ب : الخرق.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٧.

(٦) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٧ ـ ١٦٨.

(٧) في ب : السما. وهو تحريف.

(٨) في الأصل : كأنه. وهو تحريف.

(٩) في ب : في. وهو تحريف.

(١٠) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٧ ـ ١٦٨.

(١١) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٨.

(١٢) هو الحسين بن عبد الله بن سينا ، أبو علي ، شرف الملك ، الفيلسوف الرئيس صاحب التصانيف في الطب ، والمنطق ، والطبيعيات ، والإلهيات مات سنة ٤٢٨ ه‍. الأعلام ٢ / ٢٦١ ـ ٢٦٢ ، وفيات الأعيان ٢ / ١٥٧ ـ ١٦٢.

٤٩٤

بالواو والنون لا يكون إلا للعقلاء ، وبقوله تعالى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ)(١).

والجواب إنما أتى بضمير العقلاء للوصف بفعلهم (٢) وهو السباحة.

قوله تعالى : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ)(٣٦)

قوله تعالى : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) الآية. لما استدل بالأشياء المذكورة ، وهي من أصول النعم الدنيوية أتبعه بما يدل على أن هذه الدنيا أمرها كذلك لا يبقى ولا يدوم ، وإنما خلقها سبحانه وتعالى للابتلاء والامتحان ، وليتوصل بها إلى دار الخلود فقال : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ)(٣).

قال مقاتل : إن ناسا كانوا يقولون : إن محمدا لا يموت فنزلت هذه الآية (٤).

وقيل : كانوا يقدرون أنه سيموت فيشمتون به في قولهم : نتربص بمحمد ريب المنون (٥) ، فنفى الله عنه الشماتة بهذه الآية فقال : (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) قضى الله تعالى (٦) أن لا يخلد في الدنيا بشرا لا أنت ولا هم ، وفي هذا المعنى قول القائل :

٣٧١٣ ـ فقل للشّامتين بنا أفيقوا

سيلقى الشّامتون كما لقينا (٧)

وقيل : يحتمل أنه لما أظهر أنه عليه‌السلام (٨) خاتم الأنبياء ، وجاز أن يقدر مقدر أنه لا يموت إذ لو مات لتغير شرعه ، فنبه الله تعالى على أن حاله كحال غيره من الأنبياء عليهم‌السلام (٩) في الموت (١٠).

__________________

(١) [يوسف : ٤].

(٢) في الأصل : بفعل. وهو تحريف.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٩ بتصرف.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٩.

(٥) حيث قال الله تعالى :«أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» [الطور : ٣٠].

(٦) تعالى : سقط من ب.

(٧) البيت من بحر الوافر قاله ذو الإصبع العدواني ، وقيل : فروة بن مسيك المرادي وقيل : الفرزدق.

والبيت في الكشاف ٣ / ١١ ، والفخر الرازي ٢٢ / ١٦٩ ، والبحر المحيط ٦ / ٣١٠ وشرح شواهد الكشاف ١٣١.

الشامت : المستشفي من غيظه بما أصاب عدوه. أي فقل للشامتين لما نزل بنا من الهزيمة أفيقوا من سكرتكم فإنكم ستلقون من الهزيمة مثل ما لقينا.

(٨) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٩) في ب : عليهم الصلاة والسلام.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٩.

٤٩٥

قوله : «أفإن متّ» تقدم نظيره في آل عمران عند قوله (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ)(١) وفي هذه الآية دليل لمذهب سيبويه ، وهو أنه إذا اجتمع شرط واستفهام (٢) أجيب الشرط ، فتكون الآية قد دخلت فيها همزة الاستفهام على جملة الشرط والجملة المقترنة بالفاء جواب الشرط ، وليست مصبّا للاستفهام ، وزعم يونس أن الاستفهام منصب على الجملة المقترنة بالفاء ، وأن الشرط معترض بين الاستفهام وبينها ، وجوابه محذوف (٣). وليس بشيء إذ لو كان كما قال لكان التركيب : أفإن مت هم الخالدون بغير فاء (٤). وكان ابن عطية ينحى منحى يونس فإنه قال : وألف الاستفهام داخلة في المعنى على جواب الشرط (٥).

قوله (٦) : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) هذا العموم (٧) مخصوص فإن له تعالى نفسا لقوله تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ)(٨) مع أن الموت لا يجوز عليه.

قال ابن الخطيب : وكذا الجمادات لها نفوس ، وهي لا تموت ، والعام المخصوص حجه فيبقى معمولا به فيما عدا هذه الأشياء ، وذلك يبطل قول الفلاسفة في أن الأرواح البشرية والعقول والنفوس الفلكية لا تموت (٩). واعلم أن الذوق هاهنا لا يمكن إجراؤه على ظاهره ، لأن الموت ليس من جنس المطعوم حتى يذاق ، بل الذوق إذ ذاك خاص ، فيجوز جعله مجازا عن أصل الإدراك (١٠).

وأما الموت فالمراد منه هنا مقدماته من الآلام العظيمة ، لأن الموت قبل دخوله في الوجود يمتنع إدراكه ، وحال وجوده يصير الشخص ميتا ، والميت لا يدرك شيئا والإضافة

__________________

(١) [آل عمران : ١٤٤].

(٢) في النسختين : وقسم. والصواب ما أثبته.

(٣) أي : أن الشرط إذا دخل دخل عليه همزة الاستفهام فمذهب سيبويه أن همزة الاستفهام داخلة على جملة الشرط والجواب لكونهما كجملة واحدة.

وزعم يونس أن جملة الجزاء هي مصب الاستفهام ، وجملة الشرط معترضة بين همزة الاستفهام وجملة الجزاء ، وجوابها محذوف. والحق مذهب سيبويه لأن الأولى أن يجعل الجواب للشرط ويجعل الاستفهام داخلا على الشرط والجزاء معا كدخول الموصول عليهما معا في نحو جاءني الذي إن تأته يشكرك والآية دليل لمذهبه فالفاء في «فهم» لجواب الشرط ، وفي «فإن» للسببية ولو كان التقدير : أفهم الخالدون لم يقل : فإن مت بل كان يقول أئن مت فهم الخالدون أي : أفهم الخالدون إن مت. والأصل عدم الحكم بزيادة الفاء. انظر الكتاب ٣ / ٨٢ ـ ٨٣ ، وشرح الكافية ٢ / ٣٩٤ ـ ٣٩٥. والتبيان ١ / ٢٩٦ ، والبحر المحيط ٦ / ٣١٠ ـ ٣١١.

(٤) انظر البيان ٢ / ١٦١ ، البحر المحيط ٦ / ٣١١.

(٥) تفسير ابن عطية ١٠ / ١٤٦ ، وفيه : (وقدمت في أول الجملة ، لأن الاستفهام له صدر الكلام ، والتقدير : أفهم الخالدون إن مت؟ والفاء في قوله تعالى «أفإن» عاطفة جملة على جملة).

(٦) في ب : قوله تعالى.

(٧) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٩.

(٨) [المائدة : ١١٦].

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٩.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٩.

٤٩٦

في (ذائِقَةُ الْمَوْتِ) في تقدير الانفصال ، لأنه لما يستقبل (١) ، كقوله (٢) : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ)(٣) و (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ)(٤).

قوله : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) «نبلوكم» نختبركم (بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) بالشدة والرخاء ، والصحة والسقم والغنى والفقر. وقيل : بما تحبون وما تكرهون (٥) لكي يشكر على المنح ويصبر على المحن ، فيعظم ثوابه إذا قام بما يلزم. وإنما سمي ذلك ابتلاء (٦) وهو عالم بما يكون من أعمال العالمين قبل وجودهم لأنه في صورة الاختبار (٧). قوله : «فتنة» في نصبه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مفعول من أجله (٨).

الثاني : أنه مصدر في موضع الحال ، أي فاتنين (٩).

الثالث : أنه مصدر من معنى العامل لا من لفظه ، لأن الابتلاء فتنة ، فكأنه قيل : نفتنكم فتنة (١٠). ثم قال : (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) أي : إلى حكمه ومحاسبته ومجازاته بيّن بذلك بطلان قولهم في نفي البعث والمعاد (١١). وقرأ العامة «ترجعون» بتاء الخطاب مبنيا للمفعول (١٢). وغيرهم بياء الغيبة على الالتفات(١٣).

__________________

(١) وتسمى هذه الإضافة بالإضافة اللفظية ، وبالإضافة غير المحضة ، وهي أن يكون المضاف وصفا يشبه الفعل المضارع وهو كل اسم فاعل أو مفعول بمعنى الحال أو الاستقبال أو صفة مشبهة ولا تكون إلا بمعنى الحال. فمثال اسم الفاعل هذا ضارب زيد الآن أو غدا. واسم المفعول هذا مضروب الأب. والصفة المشبهة هذا حسن الوجه. وهذه الإضافة لا تفيد تخصيصا ولا تعريفا ، والدليل على ذلك وصف النكرة في قوله تعالى : «هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ» [المائدة : ٩٥] وإنما تفيد التخفيف وهو حذف التنوين ونون الجمع والتثنية من المضاف ورفع القبح في نحو مررت بالرجل الحسن الوجه ففي رفع الوجه على الفاعلية قبح خلو الصفة عن ضمير يعود على الموصوف وفي نصبه على التشبيه بالمفعول به قبح إجراء الفعل القاصر مجرى وصف الفعل المتعدي ، وفي الجر تخلص منهما. انظر شرح التصريح ٢ / ٢٧ ـ ٢٩.

(٢) في ب : لقوله.

(٣) من قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ» [المائدة : ١] ف «محلي» اسم فاعل مضاف إلى مفعوله.

(٤) [المائدة : ٩٥]. ف «بالِغَ الْكَعْبَةِ» نعت ل «هديا» و«هديا» نكرة وهذا دليل على أن الإضافة غير المحضة لا تفيد تخصيصا ولا تعريفا.

(٥) انظر البغوي ٥ / ٤٨٦.

(٦) في الأصل : ابتداء وهو تحريف.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٩ ـ ١٧٠.

(٨) انظر التبيان ٢ / ٩١٨ ، والبحر المحيط ٦ / ٣١١.

(٩) المرجعان السابقان.

(١٠) انظر الكشاف ٣ / ١١ ، التبيان ٢ / ٩١٨ ، والبحر المحيط ٦ / ٣١١.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٧٠.

(١٢) في السبعة قال ابن مجاهد : (روى عباس عن أبي عمرو : «يرجعون» بالياء مضمومة وقرأ ابن عامر وحده «ترجعون» بنصب التاء ، والباقون «إلينا ترجعون» بضم التاء) ٤٢٩.

(١٣) قال أبو حيان : (وقرأت فرقة بضم الياء للغيبة مبنيا للمفعول على سبيل الالتفات) البحر المحيط ٦ / ٣١١.

٤٩٧

قوله : (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) المعنى : ما يتخذونك إلا هزوا ، وهذا رجوع إلى (١) تهجين كفرهم. قال السدي ومقاتل : نزلت في أبي جهل قربه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكان أبو سفيان مع أبي جهل ، فقال أبو جهل (٢) لأبي سفيان : هذا نبيّ عبد مناف ، فقال أبو سفيان : وما تنكر (٣) أن يكون نبيا في بني عبد مناف. فسمع (٤) رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قولهما فقال لأبي جهل «ما أراك (٥) تنتهي حتى ينزل بك (٦) ما نزل بعمك (٧) الوليد بن المغيرة ، وأما أنت يا أبا سفيان فإنما قلت ما قلته رحمة». فنزلت هذه الآية (٨). قوله : (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ) «إن» هنا نافية ، وهي وما في حيزها جواب الشرط بإذا (٩). و«إذا» مخالفة لأدوات الشرط في ذلك ، فإن أدوات الشرط متى أجيبت ب (إن) النافية أو ب (ما) النافية وجب الإتيان بالفاء تقول : إن أتيتني فإن أهنتك ، أو فما أهنتك ، وتقول : إذا أتيتني ما أهنتك بغير فاء يدل له قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا)(١٠) و«اتخذ» هنا متعد لاثنين و«هزوا» هو الثاني إما على حذف مضاف ، وإما على الوصف بالمصدر مبالغة ، وإما على وقوعه موقع اسم المفعول (١١).

وفي جواب «إذا» قولان :

أحدهما : أنه «إن» النافية وقد تقدم.

والثاني : أنه محذوف ، وهو القول الذي قد حكي به الجملة الاستفهامية في قوله (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) إذ التقدير : وإذا رآك الذين كفروا يقولون أهذا الذي ، وتكون الجملة المنفية معترضة بين الشرط وبين جوابه المقدر (١٢).

قوله : (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) «هم» (١٣) الأولى مبتدأ مخبر عنه ب «كافرون» ، و«بذكر» متعلق بالخبر ، والتقدير : وهم كافرون بذكر ، و«هم» الثانية (١٤) تأكيد (١٥) للأول تأكيدا لفظيا ، فوقع الفصل بين العامل ومعموله بالمؤكد ، وبين المؤكد والمؤكد بالمعمول. وفي هذه الجملة قولان :

أحدهما : أنها في محل نصب على الحال من فاعل القول المقدر ، أي (١٦) : يقولون ذلك وهم على هذه الحالة (١٧).

__________________

(١) في الأصل : لا. وهو تحريف.

(٢) في ب : أبي جهل. وهو تحريف.

(٣) في ب : نكر.

(٤) في ب : وسمع.

(٥) في ب : ما أدراك.

(٦) في الأصل : بعمك. وهو تحريف.

(٧) في ب : ما نزل بك بعمك.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٧٠ ، والبحر المحيط ٦ / ٣١١.

(٩) انظر البحر المحيط ٦ / ٣١١.

(١٠) [الجاثية : ٢٥].

(١١) انظر التبيان ٢ / ٩١٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣١٢.

(١٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٣١٢.

(١٣) هم : سقط من ب.

(١٤) في ب : الثاني.

(١٥) في ب : تأكيدا.

(١٦) في الأصل : و.

(١٧) واستظهره أبو حيان. البحر المحيط ٦ / ٣١٢.

٤٩٨

والثاني : أنها حال من فاعل «يتخذونك» ، وإليه نحا الزمخشري فإنه قال : والجملة في موضع الحال ، أي يتخذونك هزوا وهم على حال هي أصل الهزء والسخرية وهي الكفر بالله (١).

فصل (٢)

والمعنى : أنهم يعيبون عليه كونه يذكر آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بالسوء مع أنهم بذكر الرحمن المنعم عليهم الخالق المحيي المميت كافرون ، ولا فعل أقبح من ذلك فيكون الهزؤ واللعن والذم عليهم من حيث لا يشعرون (٣). ويحتمل أن يراد (بِذِكْرِ الرَّحْمنِ) القرآن. ومعنى إعادة «وهم» أن الأولى إشارة إلى القوم الذين كانوا يفعلون ذلك الفعل ، والثانية إبانة لاختصاصهم به ، وأيضا فإن في إعادتها تأكيدا وتعظيما لفعلهم.

قوله تعالى : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٤١)

قوله تعالى : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) الآية. في المراد بالإنسان قولان :

أحدهما : أنه النوع ، وذلك أنهم كانوا يستعجلون العذاب (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ)(٤). (والمعنى أن بنيته من العجلة وعليها طبع كما قال : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً)(٥)) (٦). فإن قيل : مقدمة الكلام لا بد وأن تكون مناسبة للكلام وكون الإنسان مخلوقا من العجل يناسب كونه معذورا فيه فلم رتب على هذه المقدمة قوله : (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ)؟

فالجواب أنه تعالى نبه بهذا على أن ترك الاستعجال حالة مرغوب فيها (٧).

القول الثاني : أن المراد بالإنسان شخص معين ، فقال ابن عباس في رواية عطاء : نزلت هذه الآية في النضر بن الحرث (٨).

__________________

(١) الكشاف ٣ / ١١.

(٢) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٧٠.

(٣) في ب زيادة بعد لا يشعرون : يقال : فلان يذكر فلانا ، أي يعينه ، وفلان يذكر الله أي يعظمه.

(٤) [الأنبياء : ٣٨].

(٥) من قوله تعالى : «وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً» [الإسراء : ١١] انظر البغوي ٥ / ٤٨٦.

(٦) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٧١.

(٨) الفخر الرازي ٢٢ / ١٧١.

٤٩٩

وقال مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي والكلبي ومقاتل والضحاك : المراد آدم عليه‌السلام (١). وروى ابن جريج وليث بن أبي سليم (٢) قال : خلق آدم بعد كل شيء من آخر نهار يوم الجمعة ، فلما دخل الروح رأسه ولم يبلغ أسفله نظر إلى ثمار الجنة ، فلما دخل الروح جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن يبلغ الروح إلى رجليه عجلان إلى ثمار الجنة فوقع فقيل (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ)(٣) والقول الأول أولى ، لأن الغرض ذم القوم ، وذلك لا يحصل إلا إذا حملنا لفظ الإنسان على النوع (٤). قوله : «من عجل» فيه قولان :

أحدهما : أنه من باب القلب ، والأصل : خلق العجل من الإنسان لشدة صدوره منه وملازمته له وإلى هذا ذهب أبو عمرو ، ويؤيده قراءة عبد الله : «خلق العجل من الإنسان» (٥). والقلب موجود في كلامهم قال الشاعر :

٣٧١٤ ـ حسرت كفّي عن السّربال آخذه (٦)

يريد : حسرت السربال عن كفي.

ومثله في الكلام : إذا طلعت الشّعرى (٧) استوى العود على الحرباء وقالوا : عرضت الناقة على الحوض (٨) ، وتقدم منه أمثلة إلا أن بعضهم يخصه بالضرورة (٩) وتقدم فيه ثلاثة مذاهب.

والثاني : أنه لا قلب فيه ، وفيه ثلاثة (١٠) تأويلات أحسنها أن ذلك على المبالغة

__________________

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام. انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٧١.

(٢) هو ليث بن أبي سليم القرشي ، أحد العلماء والنساك ، أخذ عن عكرمة ، وغيره ، وأخذ عنه شعبة ، والصوري ، وخلق ، مات سنة ١٤٣ ه‍. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ٣٢٣.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٧١ ، والقرطبي ١١ / ٢٨٨ ـ ٢٨٩.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٧١.

(٥) البحر المحيط ٦ / ٣١٢.

(٦) صدر بيت من بحر البسيط لتميم بن مقبل وعجزه :

فردا يجر على أيدي المفدّينا

وهو في ديوانه (٣٢٥) ، جمهرة أشعار العرب ٢ / ٨٦٢ وتفسير ابن عطية ١٠ / ١٥٠ البحر المحيط ٦ / ٣١٣ وهو في الجمهرة برواية : حسرت عن كفي السربال.

السربال : القميص والدرع. والشاهد فيه أنه من المقلوب ، فهو يريد أن يقول : حسرت السربال عن كفي.

(٧) الشعرى : كوكب نير يطلع عند شدة الحر.

(٨) هذا من المقلوب في كلام العرب ، والأصل : استوى الحرباء على العود ، وعرضت الحوض على الناقة. انظر البحر المحيط ٦ / ٣١٣.

(٩) قال أبو حيان ردا على من ادّعى القلب في الآية : (فليس قوله بجيد ، لأن القلب الصحيح فيه أن يكون في كلام فصيح وأن بابه الشعر) البحر المحيط ٦ / ٢١٣ ـ ٢١٤.

(١٠) ثلاثة : سقط من الأصل.

٥٠٠