أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي
المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦٤٠
فكذا النّخلة لا تثمر إلا باللّقاح ، ثم إنّه أظهر الرّطب من غير اللّقاح ؛ ليدلّ ذلك على جواز ظهور الولد من غير ذكر. (قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) تمنّت الموت.
فإن قيل : كيف تمنّت الموت مع أنها كنت تعلم أنّ الله تعالى بعث جبريل ـ صلوات الله عليه ـ ووعدها بأن يجعلها وولدها آية للعالمين.
فالجواب من وجوه :
الأول : تمنّت الموت استحياء من النّاس ، فأنساها الاستحياء بشارة الملائكة بعيسى ـ صلوات الله عليه ـ.
الثاني : أنّ عادة الصّالحين ـ رضي الله تعالى عنهم ـ إذا وقعوا في بلاء : أن يقولوا ذلك ، كما روي عن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ أنه [نظر إلى طائر](١) على شجرة ، فقال : طوبى لك ، يا طائر ؛ تقع على الشّجر ، وتأكل من الثّمر ، وددت أنّي ثمرة ينقرها الطّائر (٢).
وعن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنّه أخذ تبنة من الأرض ، فقال : يا ليتني هذه التّبنة ، يا ليتني لم أكن شيئا (٣).
وعن عليّ كرّم وجهه يوم الجمل : ليتني متّ قبل هذا اليوم بعشرين سنة (٤).
وعن بلال ـ رضي الله عنه ـ : ليت بلالا لم تلده أمه (٥).
فثبت أنّ هذا الكلام يذكره الصّالحون عند اشتداد الأمر عليهم.
الثالث : ـ لعلّها قالت ذلك ؛ لئلّا تقع المعصية ممن يتكلّم فيها ، وإلّا فهي راضية بما بشّرت به.
قوله تعالى : «نسيا» الجمهور على النون وسكون السين ، وبصريح الياء بعدها ، وقرأ (٦) حمزة وحفص وجماعة بفتح النون ، فالمكسور «فعل» بمعنى «مفعول» كالذّبح والطّحن ، ومعناه الشيء الحقير الذي من شأنه أن ينسى ؛ كالوتد ، والحبل ، وخرقة الطّمث ، ونحوها. تمنت لو كانت شيئا تافها لا يؤبه له من حقّه أن ينسى عادة.
قال ابن الأنباري ـ رحمهالله ـ : «من كسر فهو اسم لما ينسى ، كالنّقص ؛ اسم لما ينقص ، والمفتوح : مصدر يسدّ مسدّ الوصف» وقال الفرّاء : «هما لغتان ؛ كالوتر والوتر ، والكسر أحبّ إليّ».
__________________
(١) في ب : رأى طائرا.
(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢١ / ١٧٣).
(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢١ / ١٧٣ ، ١٧٤).
(٤) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢١ / ١٧٤).
(٥) ينظر : المصدر السابق.
(٦) ينظر : السبعة ٤٠٨ ، والنشر ٢ / ٣١٨ ، والحجة ٤٤١ ، والتيسير ١٤٨ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٩٦ ، وإعراب القراءات ٢ / ١٥ ، والإتحاف ٢ / ٢٣٥.
وقرأ محمد بن كعب القرظيّ «نسئا» بكسر (١) النون ، والهمزة بدل الياء ، وروي عنه أيضا ، وعن بكر بن حبيب السهميّ فتح النون مع الهمزة ، قالوا : وهو من نسأت اللّبن ، إذا صببت فيه ماء ، فاستهلك فيه ، فالمكسور أيضا كذلك الشيء المستهلك ، والمفتوح مصدر ؛ كما كان ذلك من النّسيان.
ونقل ابن عطيّة عن بكر بن حبيب (٢) «نسا» بفتح النون ، والسين ، والقصر ؛ ك «عصا» ، كأنه جعل فعلا بمعنى مفعول ؛ كالقبض بمعنى المقبوض.
و«منسيّا» نعت على المبالغة ، وأصله «منسوي» فأدغم ، وقرأ (٣) أبو جعفر ، والأعمش «منسيّا» بكسر الميم ؛ للإتباع لكسرة السين ، ولم يعتدّوا بالساكن ؛ لأنه حاجز غير حصين ؛ كقولهم : «منتن» و«منخر» ، والمقبرة والمحبرة.
قوله تعالى : (فَناداها مِنْ تَحْتِها) : قرأ (٤) الأخوان ، ونافع ، وحفص بكسر ميم «من» وجرّ «تحتها» على الجار والمجرور ، والباقون بفتحها ، ونصب «تحتها» فالقراءة الأولى تقتضي أن يكون الفاعل في «نادى» مضمرا ، وفيه تأويلان :
أحدهما : هو جبريل ، ومعنى كونه (مِنْ تَحْتِها) أنه في مكان أسفل منها ؛ ويدلّ على ذلك قراءة(٥) ابن عبّاس «فناداها ملك من تحتها» فصرّح به.
ومعنى كونه أسفل منها : إما أن يكونا معا في مكان مستو ، وهناك مبدأ معيّن ، وهو عند النّخلة ، وجبريل بعيد عنها ، فكل من كان أقرب ، كان فوق ، وكلّ من كان أبعد ، كان تحت ، وبهذا فسّر الكلبيّ قوله تعالى : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) [الأحزاب : ١٠].
ولهذا قال بعضهم : ناداها من أقصى الوادي.
وقيل : كانت مريم على أكمة عالية ، وجبريل أسفل ؛ قاله عكرمة.
وروي عن عكرمة : أنّ جبريل ناداها من تحت النخلة (٦).
و (مِنْ تَحْتِها) على هذا فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلق بالنداء ، أي : جاء النداء من هذه الجهة.
والثاني : أنه حال من الفاعل ، أي : فناداها ، وهو تحتها.
وثاني التأويلين : أنّ الضمير لعيسى ، أي : فناداها المولود من تحت ذيلها ، والجارّ
__________________
(١) ينظر : المحتسب ٢ / ٤٠ ، والقرطبي ١١ / ٦٣ ، والبحر ٦ / ١٧٢ ، والدر المصون ٤ / ٤٩٨.
(٢) ينظر : القرطبي ١١ / ٦٣ ، والبحر ٦ / ١٧٢ ، والدر المصون ٤ / ٤٩٨.
(٣) ينظر : الكشاف ٣ / ١٢ ، والبحر ٦ / ١٧٣ ، والدر المصون ٤ / ٤٩٨.
(٤) ينظر : السبعة ٤٠٨ ، والنشر ٢ / ٣١٨ ، والتيسير ١٤٨ ، والحجة ٤٤١ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٩٦ ، ١٩٧ ، وإعراب القراءات ٢ / ١٦ ، والإتحاف ٢ / ٢٣٥.
(٥) ينظر : البحر ٦ / ١٧٣ ، والدر المصون ٤ / ٥٨٣.
(٦) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٧٥.
فيه الوجهان : من كونه متعلّقا بالنداء ، أو بمحذوف على أنه حال ، والثاني أوضح.
والقراءة الثانية : تكون فيها «من» موصولة ، والظرف صلتها ، والمراد بالموصول : إمّا جبريل ، وإمّا عيسى.
وقرأ زرّ ، وعلقمة : «فخاطبها» مكان «فناداها».
فصل في اختلافهم في المنادي
قال الحسن وسعيد بن جبير : إنّ المنادي هو عيسى ـ صلوات الله عليه (١) ـ وقال ابن عبّاس والسديّ ، وقتادة ، والضحاك ، وجماعة : إنّه جبريل ـ صلوات الله عليه (٢) ـ وكانت مريم على أكمة [وجبريل](٣) وراء الأكمة تحتها.
وقال ابن عيينة ، وعاصم : المنادي على القراءة بالفتح هو عيسى ، وعلى القراءة بالكسر هو الملك ، والأوّل أقرب لوجوه :
الأول : أن قوله : (فَناداها مِنْ تَحْتِها) بفتح الميم إنّما يستعمل إذا كان قد علم قبل ذلك أنّ تحتها أحدا ، والذي علم كونه تحتها هو عيسى ـ صلوات الله عليه ـ فوجب حمل اللفظ عليه ، وأما قراءة كسر الميم ، فلا تقتضي كون المنادي «جبريل» صلوات الله عليه.
الثاني : أنّ ذلك الموضع موضع اللّوث والنّظر إلى العورة ، وذلك لا يليق بالملائكة.
الثالث : أن قوله «فناداها» فعل ، ولا بدّ أن يكون فاعله قد تقدّم ذكره ، والذي تقدّم ذكره هو جبرائيل ، وعيسى ـ صلوات الله عليهما ـ ، إلا أنّ ذكر عيسى أقرب ؛ لقوله عزوجل : (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ) والضمير عائد إلى المسيح ، فكان حمله عليه أولى.
الرابع : أنّ عيسى ـ صلوات الله عليه ـ لو لم يكن كلّمها ، لما علمت أنه ينطق ، ولما كانت تشير إلى عيسى بالكلام.
فصل في معنى الآية على القولين
من قال : المنادي : هو عيسى ، فالمعنى : أنّ الله تعالى أنطقه لها حين وضعته تطييبا لقلبها ، وإزالة للوحشة عنها ؛ حتى تشاهد في أوّل الأمر ما بشّرها به جبريل ـ صلوات الله عليه ـ من علوّ شأن ذلك الولد.
__________________
(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤٨٢) عن قتادة وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤٨٢) عن مجاهد وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤٨٢) عن سعيد بن جبير وعزاه إلى ابن أبي حاتم.
وعن الحسن وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
ومن قال : المنادي هو جبريل ـ صلوات الله عليه ـ قال : إنه أرسل إليها ؛ ليناديها بهذه الكلمات ؛ كما أرسل إليها في أوّل الأمر ؛ تذكيرا للبشارات المتقدمة.
قوله : (أَلَّا تَحْزَنِي) يجوز في «أن» أن تكون مفسرة ؛ لتقدّمها ما هو بمعنى القول ، و«لا» على هذا : ناهية ، وحذف النون للجزم ؛ وأن تكون الناصبة ، و«لا» حينئذ نافية ، وحذف النّون للنّصب ، ومحلّ «أن» : إمّا نصب ، أو جرّ ؛ لأنها على حذف حرف الجرّ ، أي : فناداها بكذا ، والضمير في «تحتها» : إمّا لمريم ـ صلوات الله عليها ـ وإمّا للنّخلة ، والأول أولى ؛ لتوافق الضميرين.
قوله تعالى : [«سريّا»] يجوز أن يكون مفعولا أوّل ، و«تحتك» مفعول ثان ؛ لأنها بمعنى «صيّر» ويجوز أن تكون بمعنى «خلق» فتكون «تحتك» لغوا.
والسّريّ : فيه قولان :
أحدهما : إنه الرّجل المرتفع القدر ، من «سرو يسرو» ك «شرف ، يشرف» فهو سريّ ، وأصله سريو ؛ فأعلّ إعلال سيّد ، فلامه واو ، والمراد به في الآية عيسى ابن مريم ـ صلوات الله عليه ـ ، ويجمع «سريّ» على «سراة» بفتح السين ، وسرواء ؛ كظرفاء ، وهما جمعان شاذّان ، بل قياس جمعه «أسرياء» كغنيّ ، وأغنياء ، وقيل : السّريّ : من «سروت الثّوب» أي : نزعته ، وسروت الجلّ عن الفرس ، أي : نزعته ؛ كأنّ السريّ سرى ثوبه ؛ بخلاف المدّثّر ، والمتزمّل ، قاله الراغب (١).
والثاني : أنه النّهر الصغير ، ويناسبه (فَكُلِي وَاشْرَبِي) واشتقاقه من «سرى ، يسري» لأن الماء يسري فيه ، فلامه على هذا ياء ؛ وأنشدوا للبيد : [الرجز]
٣٥٨٨ ـ فتوسّطا عرض السّريّ فصدّعا |
|
مسجورة متجاوزا قلّامها (٢) |
فصل
قال الحسن ، وابن زيد : السّريّ هو عيسى ، والسّريّ : هو النّبيل الجليل (٣).
يقال : فلان من سروات قومه ، أي : من أشرافهم ، وروي أن الحسن رجع عنه.
وروي عن قتادة وغيره : أن الحسن تلا هذه الآية وإلى جنبه حميد بن عبد الرّحمن الحميريّ ـ رضي الله عنه ـ : (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا).
فقال : إن كان لسريّا ، وإن كان لكريما ، فقال له حميد : يا أبا سعيد ، إنما هو
__________________
(١) ينظر : المفردات ٢٣١.
(٢) من معلقته ، ينظر : ديوانه ١٧٠ ، شرح القصائد العشر ٢٧٢ ، الطبري ١٦ / ٥٤ ، البحر المحيط ٦ / ١٦٢ ، القرطبي ١١ / ٦٤ ، روح المعاني ١٦ / ٨٣ ، اللسان «سجر» ، الدر المصون ٤ / ٤٩٩.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٣٣٠) عن الحسن وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤٨٢) وعزاه إلى ابن أبي حاتم.
الجدول ، فقال له الحسن «من ثمّ [تعجبني مجالستك» (١)](٢).
واحتجّ من قال : هو النّهر بأنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم سئل عن السّريّ ، فقال ـ صلوات الله عليه وسلامه (٣) ـ هو الجدول ، وبقوله سبحانه وتعالى : (فَكُلِي وَاشْرَبِي) فدلّ على أنّه النّهر ؛ حتى ينضاف الماء إلى الرّطب ، فتأكل وتشرب.
واحتجّ من قال : إنّه عيسى بأنّ النهر لا يكون تحتها ، بل إلى جنبها ، ولا يجوز أن يكون يجاب عنه بأن المراد أنّه جعل النّهر تحت أمرها يجري بأمرها ، ويقف بأمرها ؛ لقوله : (وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) [الزخرف : ٥١] لأنّ هذا حمل اللفظ على مجازه ، ولو حملناه على عيسى ، لم يحتج إلى هذا المجاز.
وأيضا : فإنّه موافق لقوله : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) [المؤمنون : ٥٠].
وأجيب (٤) : بما تقدّم أن المكان المستوي ، إذا كان فيه مبدأ معيّن ، فكلّ من كان أقرب منه ، كان فوق ، وكل من كان أبعد منه ، كان تحت.
فصل في التفريع على القول بأن السريّ النهر
إذا قيل : إنّ السّريّ : هو النّهر ، ففيه وجهان :
الأول : قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : إنّ جبرائيل ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ ضرب برجله الأرض (٥).
وقيل : عيسى ؛ فظهرت عين ماء عذب ، وجرى.
وقيل : كان هناك ماء جار ، والأول أقرب ؛ لأنّ قوله (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) يدلّ على الحدوث في ذلك الوقت ؛ ولأنّ الله تعالى ذكره تعظيما لشأنها ، وذلك لا يدلّ إلا على الوجه الذي قلناه.
وقيل : كان هناك نهر يابس أجرى الله فيه الماء ، وحيث النخلة اليابسة ، فأورقت ، وأثمرت ، وأرطبت.
__________________
(١) في ب : تعجبنا مجالسك.
(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤٨٣) وعزاه إلى عبد بن حميد.
(٣) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧ / ٥٧) عن البراء مرفوعا وعزاه إلى الطبراني في «الصغير» وقال : وفيه معاوية بن يحيى الصدفي وهو ضعيف.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤٨٣) وزاد نسبته إلى ابن مردويه.
وفي الباب عن ابن عمر : ذكره الهيثمي في «المجمع» (٧ / ٥٧ ـ ٥٨) وقال : رواه الطبراني وفيه يحيى ابن عبد الله البابلتي وهو ضعيف.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤٨٣) وزاد نسبته إلى ابن مردويه وابن النجار.
(٤) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٧٥.
(٥) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٩٣).
قال أبو عبيدة والفرّاء : السّريّ : هو النّهر مطلقا.
وقال الأخفش : هو النّهر الصّغير.
قوله تعالى : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) : يجوز أن تكون الباء في «بجذع» زائدة ، كهي في قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) [البقرة : ١٩٥] [وقوله] :
٣٥٨٩ ـ ........... |
|
... لا يقرأن بالسّور(١) |
وأنشد الطبريّ ـ رحمهالله تعالى ـ : [الطويل]
٣٥٩٠ ـ بواد يمان ينبت السّدر صدره |
|
وأسفله بالمرخ والشّبهان (٢) |
أي : ينبت المرخ أي : هزّي جذع النّخلة.
أو حركي جذع النّخلة. قال الفرّاء : العرب تقول : هزّه ، وهزّ به ، وأخذ الخطام وأخذ بالخطام ، وزوّجتك فلانة ، وبفلانة ويجوز أن يكون المفعول محذوفا ، والجارّ حال من ذلك المحذوف ، تقديره : وهزّي إليك رطبا كائنا بجذع النخلة ، ويجوز أن يكون هذا محمولا على المعنى ؛ إذ التقدير : هزّي الثمرة بسبب هزّ الجذع ، أي : انفضي الجذع ، وإليه نحا الزمخشريّ ؛ فإنه قال : «أو افعلي الهزّ» ؛ كقوله : [الطويل]
٣٥٩١ ـ .......... |
|
يجرح في عراقيبها نصلي (٣) |
قال أبو حيّان : وفي هذه الآية ، وفي قوله تعالى : (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ) [القصص : ٣٢] ما يردّ على القاعدة المقرّرة في علم النّحو : من أنّه لا يتعدّى فعل المضمر المتّصل إلى ضميره المتّصل ، إلّا في باب «ظنّ» وفي لفظتي «فقد ، وعدم» لا يقال : ضربتك ، ولا ضربتني ، أي : ضربت أنت نفسك ، وضربت أنا نفسي ، وإنما يؤتى في هذا بالنّفس ، وحكم المجرور بالحرف حكم المنصوب ؛ فلا يقال : هززت إليك ، ولا زيد هزّ إليه ؛ ولذلك جعل النحويّون «عن» و«على» اسمين في قول امرىء القيس : [الطويل]
٣٥٩٢ ـ دع عنك نهبا صيح في حجراته |
|
ولكن حديثا ما حديث الرّواحل (٤) |
وقول الآخر : [المتقارب]
٣٥٩٣ ـ هوّن عليك فإنّ الأمور |
|
بكفّ الإله مقاديرها (٥) |
وقد ثبت بذلك كونهما اسمين ؛ لدخول حرف الجرّ عليهما في قوله : [الطويل]
__________________
(١) تقدم.
(٢) البيت للأحول اليشكري وقيل لغيره ، ينظر : مجاز القرآن ٢ / ٤٨ ، البحر ٦ / ١٧٤ ، القرطبي ١٢ / ٢٥ ، التهذيب «شهم» ، اللسان «شبه» ، الدر المصون ٤ / ٥٠٠.
(٣) تقدم.
(٤) تقدم.
(٥) تقدم.
٣٥٩٤ ـ غدت من عليه بعدما تمّ ظمؤها |
|
تصلّ وعن قيض ببيداء مجهل (١) |
وقول الآخر : [البسيط]
٣٥٩٥ ـ فقلت للرّكب لمّا أن علا بهم |
|
من عن يمين الحبيّا نظرة قبل (٢) |
وأمّا «إلى» فحرف بلا خلاف ، فلا يمكن فيها أن تكون اسما ؛ ك «عن» و«على» ثم أجاب: بأنّ «إليك» في الآيتين لا تتعلق بالفعل قبله ، إنما تتعلّق بمحذوف على جهة البيان ، تقديره : «أعني إليك» قال : «كما تأولوا ذلك في قوله : (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف : ٢١] في أحد الأوجه».
قال شهاب الدين ـ رضي الله تعالى عنه ـ : وفي ذلك جوابان آخران :
أحدهما : أن الفعل الممنوع إلى الضمير المتصل ، إنما هو حيث يكون الفعل واقعا بذلك الضمير ، والضمير محلّ له ؛ نحو : «دع عنك» و«هوّن عليك» وأمّا الهزّ والضمّ ، فليسا واقعين بالكاف ، فلا محذور.
والثاني : أنّ الكلام على حذف مضاف ، تقديره : هزّي إلى جهتك ونحوك واضمم إلى جهتك ونحوك.
فصل في المراد بجذع النخلة
قال [القفال (٣)](٤) : الجذع من النّخلة : هو الأسفل ، وما دون الرّأس الذي عليه الثّمرة.
وقال قطرب : كلّ خشبة في أصل شجرة ، فهي جذع.
قوله : «تساقط» قرأ حمزة (٥) «تساقط» بفتح التاء ، وتخفيف السين ، وفتح القاف ، والباقون ـ غير حفص ـ كذلك إلا أنّهم شدّدوا السّين ، وحفص ، بضم التاء ، وتخفيف السين ، وكسر القاف.
فأصل قراءة غير حفص «تتساقط» بتاءين ، مضارع «تساقط» فحذف حمزة إحدى التاءين تخفيفا ؛ نحو : (تَنَزَّلُ) [القدر : ٤] و (تَذَكَّرُونَ) [الأنعام : ١٥٢] ، والباقون أدغموا التاء في السّين ، وقراءة حفص مضارع «ساقط».
__________________
(١) تقدم.
(٢) البيت للقطامي ينظر : ديوانه (٥) ، شرح المفصل لابن يعيش ٨ / ٤١ ، المقرب ١ / ١٩٥ ، اللسان «عنن» ، الدر المصون ٤ / ٥٠٠.
(٣) في ب : الفقهاء.
(٤) في أ : الفقهاء.
(٥) ينظر في قراءاتها : السبعة ٤٠٩ ، والتيسير ١٤٩ ، والنشر ٢ / ٣١٨ ، والحجة ٤٤٢ ، والمحتسب ٢ / ٤٠ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٩٧ ، ١٩٨ ، وإعراب القراءات ٢ / ١٦ ، ١٧ ، والإتحاف ٢ / ٢٣٥ ، والقرطبي ١١ / ٦٤ ، والبحر ٦ / ١٧٥.
وقرأ الأعمش ، والبراء [بن عازب] «يسّاقط» كالجماعة ، إلا أنه بالياء من تحت ، أدغم التاء في السّين ؛ إذ الأصل : «يتساقط» فهو مضارع «اسّاقط» وأصله «يتساقط» فأدغم ، واجتلبت همزة الوصل ؛ ك «ادّارأ» في «تدارأ».
ونقل عن أبي حيوة ثلاث قراءات :
وافقه مسروق في الأولى ، وهي «تسقط» بضم التاء ، وسكون السين ، وكسر القاف من «أسقط».
والثانية كذلك إلا أنه بالياء من تحت.
الثالثة كذلك إلّا أنه رفع (رُطَباً جَنِيًّا) بالفاعلية.
وقرىء (١) «تتساقط» بتاءين من فوق ، وهو أصل قراءة الجماعة ، وتسقط ويسقط ، بفتح التاء والياء ، وسكون السين ، وضمّ القاف ، فرفع الرطب بالفاعلية ، وتعطي من الأفعال ما يوافقه في القراءات المتقدمة ، ومن قرأ بالتاء من فوق ، فالفعل مسند : إمّا للنّخلة ، وإمّا للثمرة المفهومة من السياق ، وإمّا للجذع ، وجاز تأنيث فعله ؛ لإضافته إلى مؤنّث ؛ فهو كقوله : [الطويل]
٣٥٩٦ ـ ........... |
|
كما شرقت صدر القناة من الدّم (٢) |
وكقراءة تلتقطه (بَعْضُ السَّيَّارَةِ) [يوسف : ١٠] ومن قرأ بالياء من تحت ، فالضمير للجذع ، وقيل : للثّمر المدلول عليه بالسيّاق.
وأمّا نصب «رطبا» فلا يخرج عن كونه تمييزا ، أو حالا موطئة ، إن كان الفعل قبله لازما ، أو مفعولا به ، إن كان الفعل متعدّيا ، [والذّكيّ] يردّ كلّ شيء إلى ما يليق به من القراءات ، وجوّز المبرّد في نصبه وجها غريبا : وهو أن يكون مفعولا به ب «هزّي» وعلى هذا ، فتكون المسألة من باب التنازع في بعض القراءات : وهي أن يكون الفعل فيها متعدّيا ، وتكون المسألة من إعمال الثاني ، للحذف من الأوّل.
وقرأ (٣) طلحة بن سليمان «جنيّا» بكسر الجيم إتباعا لكسرة النون.
والرّطب : اسم جنس لرطبة ؛ بخلاف «تخم» فإنّه جمع لتخمة ، والفرق : أنهم لزموا تذكيره ، فقالوا : هو الرطب ، وتأنيث ذاك ، فقالوا : هي التّخم ، فذكّروا «الرّطب» باعتبار الجنس ، وأنّثوا «التّخم» باعتبار الجمعيّة ، وهو فرق لطيف ، ويجمع على «أرطاب» شذوذا كربع وأرباع ، والرّطب : ما قطع قبل يبسه وجفافه ، وخصّ الرّطب بالرّطب من التّمر ، وأرطب النّخل ؛ نحو : أتمر وأجنى.
__________________
(١) هي قراءة أبي السّمّال : ينظر : الشواذ ٨٤ ، والدر المصون ٤ / ٥٠١ ، والبحر ٦ / ١٧٥.
(٢) تقدم.
(٣) ينظر : المحتسب ٢ / ٤١ ، والبحر ٦ / ١٧٥ ، والدر المصون ٤ / ٥٠١ ، والكشاف ٣ / ١٤.
والجنيّ : ما طاب ، وصلح للاجتناء ، وهو «فعيل» بمعنى مفعول أي رطبا مجنيّا ، وقيل : بمعنى فاعل ، أي : طريّا ، والجنى والجنيّ أيضا : المجتنى من العسل ، وأجنى الشّجر : أدرك ثمره ، وأجنت الأرض : كثر جناها ، واستعير من ذلك «جنى فلان جناية» كما استعير «اجترم جريمة».
فصل في معنى الآية
المعنى جمعنا لك بين الشّرب والأكل.
قال عمرو بن ميمون : ليس شيء خير من الثّمر والرّطب ، ثم تلا هذه الآية.
وقال بعض العلماء : أكل الرّطب والثّمرة للمرأة الّتي ضربها الطّلق يسهّل عليها الولادة.
قال الرّبيع بن خيثم : ما للنّفساء عندي خير من الرّطب ، ولا للمرض خير من العسل(١).
قالت المعتزلة : هذه الأفعال الخارقة للعادة كانت معجزة لزكريّا وغيره من الأنبياء ؛ وهذا باطل ؛ لأنّ زكريّا ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ ما كان له علم بحالها ومكانها ، فكيف بتلك المعجزات؟ بل الحقّ أنها كانت كرامات لمريم ، أو إرهاصا لعيسى ـ صلوات الله عليهما ـ ، لأنّ النّخلة لم تكن مثمرة ، إذ ذاك ؛ لأن ميلاده كان في زمن الشتاء ، وليس ذاك وقت ثمر.
قوله تعالى : (وَقَرِّي عَيْناً) : نصب «عينا» على التمييز منقول من الفاعل ؛ إذ الأصل : لتقرّ عينك ، والعامّة على فتح القاف من «قرّي» أمرا من قرّت عينه تقرّ ، بكسر العين في الماضي ، وفتحها في المضارع.
وقرىء (٢) بكسر القاف ، وهي لغة نجد ؛ يقولون : قرّت عينه تقرّ ، بفتح العين في الماضي ، وكسرها في المضارع ، والمشهور : أن مكسور العين في الماضي ل «العين» ، والمفتوحها في «المكان» يقال : قررت بالمكان أقرّ به ، وقد يقال : قررت بالمكان بالكسر ، وسيأتي ذلك في قوله تعالى (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) [الأحزاب : ٣٣].
وفي وصف العين بذلك تأويلان :
أحدهما : أنّه مأخوذ من «القرّ» وهو البرد : وذلك أنّ العين ، إذا فرح صاحبها ، كان دمعها قارّا ، أي : باردا ، وإذا حزن ، كان حارّا ؛ ولذلك قالوا في الدعاء عليه : «أسخن الله عينه» وفي الدعاء له : «أقر الله عينه» وما أحلى قول أبي تمّام ـ رحمهالله تعالى ـ : [الطويل]
__________________
(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤٨٥) وعزاه إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.
(٢) ينظر : القرطبي ١١ / ٦٥ ، والبحر المحيط ١٦ / ١٧٥ والكشاف ٣ / ١٤ ، والدر المصون ٤ / ٥٠٢.
٣٥٩٧ ـ فأمّا عيون العاشقين فأسخنت |
|
وأمّا عيون الشّامتين فقرّت (١) |
والثاني : أنه مأخوذ من الاستقرار ، والمعنى : أعطاه الله ما يسكّن عينه فلا تطمح إلى غيره.
المعنى : فكلي من الرطب واشربي من النهر (وَقَرِّي عَيْناً) وطيبي (٢) نفسا ، وقدّم الأكل على الشرب ؛ لأن حاجة النّفساء إلى الرّطب أشدّ من احتياجها إلى شرب الماء ؛ لكثرة ما سال منها من الدّم ، قيل : (قَرِّي عَيْناً) بولدك عيسى ، وتقدّم معناه.
فإن قيل : إن مضرّة الخوف أشدّ من مضرّة الجوع والعطش ؛ لأنّ الخوف ألم الرّوح ، والجوع ألم البدن ، وألم الرّوح أقوى من ألم البدن ، يروى أنّه أجيعت شاة ، فقدّم إليها علف ، وعندها ذئب ، فبقيت الشّاة مدّة مديدة لا تتناول العلف ، مع جوعها ؛ خوفا من الذئب ، ثم كسر رجلها ، وقدم العلف إليها ، فتناولت العلف ، مع ألم البدن ؛ فدلّ ذلك على أنّ ألم الخوف أشدّ من ألم البدن ، وإذا كان كذلك ، فلم قدّم دفع ضرر الجوع والعطش على دفع ضرر الخوف؟.
فالجواب : لأنّ هذ الخوف كان قليلا ؛ لأنّ بشارة جبريل ـ صلوات الله عليه ـ كانت قد تقدّمت ، فما كانت تحتاج إلى التّذكرة مرّة أخرى.
قوله تعالى : (فَإِمَّا تَرَيِنَ) دخلت «إن» الشرطية على «ما» الزائدة للتوكيد ، فأدغمت فيها ، وكتبت متّصلة ، و«ترينّ» تقدّم تصريفه.
أي : «أن تري» ، فدخلت عليه نون التّوكيد ، فكسرت الياء ؛ لالتقاء الساكنين.
معناه : فإمّا ترينّ من البشر أحدا ، فسألك عن ولدك والعامّة على صريح الياء المكسورة ، وقرأ أبو عمرو في رواية «ترئنّ» بهمزة مكسورة بدل الياء ، وكذلك روي عنه (٣) «لترؤنّ» بإبدال الواو همزة ، قال الزمخشري : «هذا من لغة من يقول : لبأت بالحجّ ، وحلأت السّويق» ـ يعني بالهمز ـ وذلك لتآخ بين الهمز وحروف اللّين» وتجرّأ ابن خالويه على أبي عمرو ؛ فقال : «هو لحن عند أكثر النّحويّين».
وقرأ أبو جعفر قارىء المدينة ، وشيبة ، وطلحة (٤) «ترين» بياء ساكنة ، ونون خفيفة ، قال ابن جني : «وهي شاذّة». قال شهاب الدين : لأنّه كان ينبغي أن يؤثّر الجازم ، فيحذف نون الرفع ؛ كقوله الأفوه : [السريع]
٣٥٩٨ ـ إمّا تري رأسي أزرى به |
|
ماس زمان ذي انتكاث مئوس (٥) |
__________________
(١) ينظر البيت في ديوانه (٦١) ، والبحر المحيط ٦ / ١٦٢ ، والدر المصون ٤ / ٥٠٢.
(٢) سقط من أ.
(٣) ينظر في قراءاتها : الشواذ ٨٤ ، والمحتسب ٢ / ٤٢ ، والبحر ٦ / ١٧٥ والكشاف ٣ / ١٤ ، والدر المصون ٤ / ٥٠٢.
(٤) الآية رقم ٦ من التكاثر «لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ» ينظر : المحتسب ٢ / ٣٧١ ، والبحر ٦ / ١٧٥.
(٥) ينظر البيت في البحر ٦ / ١٧٥ ، القرطبي ١١ / ٦٦ ، روح المعاني ١٦ / ٨٦ ، الدر المصون ٤ / ٥٠٢.
ولم يؤثّر هنا شذوذا ، وهذا نظير قول الآخر : [البسيط]
٣٥٩٩ ـ لو لا فوارس من نعم وأسرتهم |
|
يوم الصّليفاء لم يوفون بالجار (١) |
فلم يعمل «لم» وأبقى نون الرّفع.
و«من البشر» حال من «أحدا» لأنه لو تأخّر ، لكان وصفا ، وقال أبو البقاء (٢) : «أو مفعول» يعني أنه متعلّق بنفس الفعل قبله.
قوله تعالى : «فقولي» بين هذا الجواب ، وشرطه جملة محذوفة ، تقديره : فإمّا ترينّ من البشر أحدا ، فسألك الكلام ، فقولي ، وبهذا المقدّر نخلص من إشكال : وهو أنّ قولها (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) كلام ؛ فيكون ذلك تناقضا ؛ لأنها قد كلّمت إنسيّا بهذا الكلام ، وجوابه ما تقدّم.
ولذلك قال بعضهم : إنّها ما نذرت في الحال ، بل صبرت ؛ حتّى أتاها القوم ، فذكرت لهم : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا).
وقيل : المراد بقوله «فقولي» إلى آخره ، أنه بالإشارة ، وليس بشيء ؛ بل المعنى : فلن أكلّم اليوم إنسيّا بعد هذا الكلام.
وقرأ (٣) زيد بن عليّ «صياما» بدل «صوما» ، وهما مصدران.
فصل في معنى صوما
معنى قوله تعالى : «صوما» : أي صمتا ، وكذلك كان يقرأ ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ ، والصّوم في اللّغة : الإمساك عن الطّعام والكلام.
قال السديّ : كان في بني إسرائيل (٤) من إذا أراد أن يجتهد ، صام عن الكلام ، كما يصوم عن الطّعام ، فلا يتكلّم حتّى يمسي.
قيل : كانت تكلّم الملائكة ، ولا تكلّم الإنس.
قيل : أمرها الله تعالى بنذر الصّمت ؛ لئلّا تشرع مع من اتّهمها في الكلام ؛ لمعنيين :
أحدهما : أن كلام عيسى ـ صلوات الله عليه ـ أقوى في إزالة التّهمة من كلامهما ، وفيه دلالة على أنّ تفويض (٥) [الأمر](٦) إلى الأفضل أولى.
__________________
(١) ينظر البيت في الخصائص ١ / ٣٨٨ ، والمحتسب ٢ / ٤٢ ، شرح المفصل لابن يعيش ٧ / ٨ ، المغني ٢ / ٣٣٩ ، التصريح ٢ / ٢٤٧ ، الهمع ٢ / ٥٦ ، الأشموني ٤ / ٦ ، الدرر ٢ / ٧٢ ، الخزانة ٩ / ٥ ، اللسان «صلف» ، الدر المصون ٤ / ٥٠٢.
(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ١١٣.
(٣) ينظر : البحر المحيط ٦ / ١٧٦ ، والكشاف ٣ / ١٤ والدر المصون ٤ / ٥٠٢.
(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٩٣) عن السدي.
(٥) في ب : الكلام.
(٦) في ب : الكلام.
الثاني : كراهة مجادلة السّفهاء ، وفيه أنّ السّكوت عن السّفيه واجب ، ومن أذلّ الناس سفيه لم يجد مسافها.
قوله تعالى : (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ) : «به» في محلّ نصب على الحال من فاعل «أتت» ، [أي : أتت] مصاحبة له ؛ نحو : جاء بثيابه ، أي : ملتبسا بها ، ويجوز أن تكون الباء متعلقة بالإتيان ، وأمّا «تحمله» فيجوز أن يكون حالا ثانية من فاعل «أتت» ويجوز أن يكون حالا من الهاء في «به» وظاهر كلام أبي (١) البقاء : أنّها حال من ضمير مريم وعيسى معا ؛ وفيه نظر.
قوله تعالى : «شيئا» مفعول به ، أي : فعلت شيئا ، أو مصدر ، أي : نوعا من المجيء غريبا (٢) ، والفريّ : العظيم من الأمر ؛ يقال في الخير والشرّ ، وقيل : الفريّ : العجيب ، وقيل : المفتعل ، ومن الأول ، الحديث في وصف عمر ـ رضي الله عنه ـ : «فلم أر عبقريّا يفري فريّه» والفري : قطع الجلد للخرز والإصلاح ، والإفراء : إفساده ، وفي المثل : جاء يفري الفريّ ، أي : يعمل العمل العظيم ؛ وقال : [الكامل]
٣٦٠٠ ـ فلأنت تفري ما خلقت وبع |
|
ض القوم يخلق ثمّ لا يفري (٣) |
وقرأ أبو (٤) حيوة فيما نقل عنه ابن خالويه «فريئا» بالهمز ، وفيما نقل ابن عطية «فريا» بسكون الراء.
وقرأ عمر بن لجأ (٥) «ما كان أباك امرؤ سوء» جعل النكرة الاسم ، والمعرفة الخبر ؛ كقوله : [الوافر]
٣٦٠١ ـ ........... |
|
يكون مزاجها عسل وماء (٦) |
وقوله : [الوافر]
٣٠٦٢ ـ ........... |
|
ولا يك موقف منك الوداعا (٧) |
وهنا أحسن لوجود الإضافة في الاسم.
فصل في كيفية ولادة مريم وكلام عيسى لها ولقومه
قيل : إنّها ولدته ثم حملته في الحال إلى قومها.
وقال ابن عباس ، والكلبيّ : احتمل يوسف النّجّار مريم ، [وابنها](٨) عيسى إلى
__________________
(١) ينظر : الإملاء ١ / ١١٣.
(٢) في أ : فريا.
(٣) تقدم.
(٤) ينظر : الشواذ ٨٤ ، والبحر المحيط ٦ / ١٧٦ ، والدر المصون ٤ / ٥٠٣.
(٥) ينظر : القرطبي ١١ / ٦٩ ، والبحر المحيط ٦ / ١٧٦ ، والدر المصون ٤ / ٥٠٣.
(٦) تقدم.
(٧) تقدم.
(٨) في ب : وولدها.
غار ، ومكث أربعين يوما ؛ حتّى طهرت من نفاسها ، ثم حملته مريم إلى قومها ، فكلّمها عيسى في الطّريق ؛ فقال : يا أمّاه ، أبشري ؛ فإنّي عبد الله ، ومسيحه ، فلما دخلت على أهلها ومعها الصّبيّ ، بكوا ، وحزنوا ، وكانوا أهل بيت صالحين ؛ فقالوا (يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) عظيما منكرا.
قال أبو عبيدة : كلّ أمر فائق من عجب ، أو عمل ، فهو فريّ ؛ وهذا منهم على وجه الذّمّ ، والتّوبيخ ؛ لقولهم بعده : (يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا).
قوله تعالى : (يا أُخْتَ هارُونَ) يريدون : يا شبيهة هارون ، قال قتادة ، وكعب ، وابن زيد ، والمغيرة بن شعبة ـ رضي الله عنهم ـ : كان هارون رجلا صالحا عابدا مقدّما في بني إسرائيل ، روي أنّه تبع جنازته يوم مات أربعون ألفا ، كلّهم يسمّى هارون من بني إسرائيل سوى سائر النّاس ، شبّهوها به على معنى أنّنا ظننّا أنّك مثله في الصّلاح ، وليس المراد منه الأخوّة في النّسب ؛ كقوله سبحانه وتعالى : (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ)(١) [الإسراء : ٢٧].
روى المغيرة بن شعبة ـ رضي الله عنه ـ قال : لما قدمت [خراسان](٢) سألوني ، فقالوا : إنّكم تقرءون : (يا أُخْتَ هارُونَ) وموسى قبل عيسى بكذا وكذا ، فلمّا قدمت على رسول اللهصلىاللهعليهوسلم سألته عن ذلك ، فقال : إنّهم كانوا يسمّون بأنبيائهم والصّالحين قبلهم (٣).
قال ابن كثير : وأخطأ محمّد بن كعب القرظيّ في زعمه أنّها أخت موسى وهارون نسبا ؛ فإنّ بينهما من الدّهور الطّويلة ما لا يخفى على من عنده أدنى علم ، وكأنّه غرّه أنّ في التّوراة أن مريم ـ أخت موسى ، وهارون ـ ضربت بالدّفّ يوم نجّى الله موسى وقومه ، وغرق فرعون وجنوده ، فاعتقد أنّ هذه هي تلك ، وهذا في غاية البطلان ومخالفة للحديث الصحيح المتقدّم.
وقال الكلبيّ : كان هارون أخا مريم من أبيها ، وكان أمثل رجل في بني إسرائيل (٤).
وقال السّديّ : إنّما عنوا به هارون أخا موسى (٥) ؛ لأنّها كانت من نسله ، كما يقال
__________________
(١) ينظر : تفسير الطبري (٨ / ٣٣٥) والماوردي (٣ / ٣٦٨ ـ ٣٦٩) والبغوي (٣ / ١٩٣ ـ ١٩٤) والقرطبي (١١ / ٦٨).
(٢) في ب : نجران.
(٣) أخرجه مسلم (٣ / ١٦٨٥) والترمذي (٢ / ١٤٤) وأحمد (٤ / ٢٥٢) والنسائي في «الكبرى» (٦ / ٣٩٣).
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤٨٦) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني وابن مردويه والبيهقي في «الدلائل».
(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٩٤).
(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤٨٦) وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن السدي وأخرجه الطبري (٨ / ٣٣٦) وينظر : المصدر السابق.
للتميميّ : يا أخا تميم ، ويا أخا همدان ، أي : يا واحدا منهم.
وقيل : كان هارون فاسقا في بني إسرائيل معلنا بالفسق ، فشبّهوها به. وقول الكلبيّ أقرب ؛ لوجهين:
الأول : أن الأصل في الكلام الحقيقة ؛ فيحمل الكلام على أخيها المسمّى ب «هارون».
الثاني : أنها أضيفت إليه ، ووصف أبواها بالصّلاح ؛ وحينئذ يصير التوبيخ أشدّ ؛ لأنّ من كان حال أبويه وأخيه هذا الحال ، يكون صدور الذّنب منه أفحش.
ثم قالوا : (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ).
قال ابن عبّاس ، أي : زانيا ، «وما كانت أمّك» حنّة «بغيّا» أي : زانية ، فمن أين لك هذا الولد (١).
قوله تعالى : (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) : الإشارة معروفة تكون باليد والعين وغير ذلك ، وألفها عن ياء ، وأنشدوا لكثير : [الطويل]
٣٦٠٣ ـ فقلت وفي الأحشاء داء مخامر |
|
ألا حبّذا يا عزّ ذاك التّشاير (٢) |
قوله تعالى : (مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) في «كان» هذه أقوال :
أحدها : أنها زائدة ، وهو قول أبي عبيد ، أي : كيف نكلّم من في المهد ، و«صبيّا» على هذا : نصب على الحال من الضمير المستتر في الجارّ والمجرور الواقع صلة ، وقد ردّ أبو بكر هذا القول ـ أعني كونها زائدة ـ بأنها لو كانت زائدة ، لما نصبت الخبر ، وهذه قد نصبت «صبيّا» وهذا الردّ مردود بما ذكرته من نصبه على الحال ، لا الخبر.
الثاني : أنها تامّة بمعنى حدث ووجد ، والتقدير : كيف نكلّم من وجد صبيّا ، و«صبيّا» حال من الضمير في «كان».
الثالث : أنها بمعنى صار ، أي : كيف نكلّم من صار في المهد صبيّا ، و«صبيّا» على هذا : خبرها ؛ فهو كقوله : [الطويل]
٣٦٠٤ ـ .......... |
|
قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها (٣) |
الرابع : أنها الناقصة على بابها من دلالتها على اقتران مضمون الجملة بالزمان الماضي ، من غير تعرّض للانقطاع ؛ كقوله تعالى : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ٩٦] ولذلك يعبّر عنها بأنّها ترادف «لم تزل» قال الزمخشريّ : «كان» لإيقاع مضمون الجملة في زمان ماض مبهم صالح للقريب والبعيد ، وهو هنا لقريبه خاصّة ، والدّالّ عليه معنى
__________________
(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٩٤).
(٢) ينظر : ديوانه ٥٠٢ ، البحر المحيط ٦ / ١٦٢ ، الدر المصون ٤ / ٥٠٣.
(٣) تقدم.
الكلام ، وأنه مسوق للتعجّب ، ووجه آخر : وهو أن يكون «نكلّم» حكاية حال ماضية ، أي : كيف عهد قبل عيسى أن يكلم النّاس في المهد حتى نكلمه نحن؟.
وأمّا «من» فالظاهر أنّها موصولة بعنى الذي ، وضعف جعلها نكرة موصوفة ، أي : كيف نكلّم شخصا ، أو مولودا ، وجوّز الفرّاء والزجاج (١) فيها أن تكون شرطيّة ، و«كان» بمعنى «يكن» وجواب الشرط : إمّا متقدّم ، وهو : (كَيْفَ نُكَلِّمُ) أو محذوف ؛ لدلالة هذا عليه ، أي : من يكن في المهد صبيا ، فكيف نكلّمه؟ فهي على هذا : مرفوعة المحلّ بالابتداء ، وعلى ما قبله : منصوبته ب «نكلّم» وإذا قيل بأنّ «كان» زائدة ؛ هل تتحمّل ضميرا ، أم لا؟ فيه خلاف ، ومن جوّز ، استدلّ بقوله : [الوافر]
٣٦٠٥ ـ فكيف إذا مررت بدار قوم |
|
وجيران لنا كانوا كرام (٢) |
فرفع بها الواو ، ومن منع ، تأوّل البيت ؛ بأنّها غير زائدة ، وأنّ خبرها هو «لنا» قدّم عليها ، وفصل بالجملة بين الصفة ، والموصوف.
وأبو عمرو يدغم الدال في الصاد ؛ والأكثرون على أنه إخفاء.
فصل في مناظرة مريم لقومها
لمّا بالغوا في توبيخ مريم سكتت ، وأشارت إلى عيسى ، أن كلّموه.
قال ابن مسعود : لمّا لم يكن لها حجّة ، أشارت إليه ؛ ليكون كلامه حجّة لها ، أي : هو الذي يجيبكم ، إذا ناطقتموه (٣).
قال السديّ : لما أشارت إليه ؛ ليكون كلامه حجّة ، غضبوا ، وقالوا : لسخريتها بنا أشدّ من زناها ، و (قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) ، والمهد : هو حجرها (٤).
وقيل : هو المهد بعينه.
والمعنى : كيف نكلّم صبيّا سبيله أن ينام في المهد؟!.
قال السديّ : فلما سمع عيسى ـ صلوات الله عليه ـ كلامهم ، وكان يرضع ، ترك الرّضاع ، وأقبل عليهم بوجهه ، واتّكأ على يساره ، وأشار بسبّابة يمينه ، فقال : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ)(٥).
وقيل : كلّمهم بذلك ، ثم لم يتكلّم ؛ حتى بلغ مبلغا يتكلّم فيه الصبيان ، وقال وهب : أتاها زكريّا ـ عليه الصلاة والسلام ـ عند مناظرتها اليهود ، فقال لعيسى : انطق بحجّتك ، إن كنت أمرت بها ، فقال عيسى عند ذلك وهو ابن أربعين يوما ـ وقال مقاتل : بل هو يوم ولد ـ : إنيّ عبد الله ، أقرّ على نفسه بالعبوديّة لله ـ عزوجل ـ أول ما تكلّم لئلا يتّخذ إلها ، وفيه فوائد :
__________________
(١) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٣ / ٣٢٨.
(٢) تقدم.
(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٩٤).
(٤) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢١ / ١٧٨).
(٥) ينظر : المصدر السابق.
الأولى : أن ذلك الكلام في ذلك الوقت ، كان سببا لإزالة الوهم الذي ذهب إليه النّصارى ؛ فلا جرم : أوّل ما تكلّم ، قال : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ).
الثانية : أنّ الحاجة في ذلك الوقت ، إنّما هو نفي تهمة الزّنا عن مريم ، ثم إنّ عيسى ـ صلوات الله عليه ـ لم ينصّ على ذلك ، وإنّما نصّ على إثبات عبوديّة نفسه ، كأنّه جعل إزالة التّهمة عن الله تعالى أولى من إزالة التّهمة عن الأمّ ؛ فلهذا : أوّل ما تكلّم إنما تكلّم بقوله : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ).
الثالثة : أنّ التكلّم بإزالة التّهمة عن [الله تعالى](١) يفيد إزالة التّهمة عن الأمّ ؛ لأنّ الله تعالى لا يخص الفاجرة بولد في هذه الدرجة العالية ، والمرتبة العظيمة ، أمّا التكلّم بإزالة التّهمة عن الأمّ ، فلا يفيد إزالة التّهمة عن [الله تعالى](٢) ، فكان الاشتغال بذلك هاهنا أولى.
فصل في إبطال قول النصارى
في إبطال قول النصارى وجوه (٣) :
الأول : أنّهم وافقونا على أنّ ذاته ـ سبحانه وتعالى ـ لم تحلّ في ناسوت عيسى ، بل قالوا : الكلمة حلّت فيه ، والمراد من الكلمة العلم ، فنقول : العلم ، لما حصل لعيسى ، ففي تلك الحالة : إمّا أن يقال : إنّه بقي في ذات الله تعالى ، أو ما بقي.
فإن كان الأوّل ، لزم حصول الصّفة الواحدة في محلّين ، وذلك غير معقول ، ولأنّه لو جاز أن يقال : العلم الحاصل في ذات عيسى هو العلم الحاصل في ذات الله بعينه ، فلم لا يجوز في حقّ كلّ واحد ذلك حتى يكون العلم الحاصل لكلّ واحد هو العلم الحاصل لذات الله تعالى؟ وإن كان الثاني ، لزم أن يقال : إنّ الله تعالى لا يبقى عالما بعد حلول علمه في عيسى ، وذلك ممّا لا يقوله عاقل.
قال ابن الخطيب (٤).
وثانيها : مناظرة جرت بيني وبين بعض النّصارى ، فقلت له : هل تسلّم أنّ عدم الدّليل لا يدلّ على عدم المدلول ، أم لا؟ فإن أنكرت ، لزمك ألا يكون الله قديما ؛ لأنّ دليل وجوده هو العالم ، فإذا لزم من عدم الدّليل عدم المدلول ، لزم من عدم العالم في الأزل عدم الصانع في الأزل ، وإن سلّمت أنّه لا يلزم من عدم الدّليل عدم المدلول ، فنقول : إذا جوّزت اتحاد كلمة الله بعيسى أو حلولها فيه ، فكيف عرفت أنّ كلمة الله تعالى ما حلّت في زيد وعمرو؟ بل كيف عرفت أنّها ما حلّت في هذه الهرّة ، وفي هذا الكلب؟ فقال : إنّ هذا السّؤال لا يليق بك ؛ لأنّا إنّما أثبتنا ذلك الاتحاد ، أو الحلول ، بناء على ما
__________________
(١) في ب : أبيه.
(٢) في ب : أبيه.
(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٨١.
(٤) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٨١.
ظهر على يد عيسى من إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه ، والأبرص ، فإذا لم نجد شيئا من ذلك ظهر على يد غيره ، فكيف نثبت الاتحاد ، أو الحلول؟ فقلت له : إنّي عرفت بهذا الكلام أنّك ما عرفت أوّل الكلام ؛ لأنّك سلّمت لي أنّ عدم الدليل لا يدلّ على عدم المدلول ، وإذا كان هذا الحلول غير ممتنع في الجملة ، فأكثر ما في هذا الباب أنّه وجد ما يدلّ على حصوله في حقّ عيسى ، ولم يوجد ذلك الدّليل في حقّ زيد وعمرو ، ولكن عدم الدليل لا يدلّ على عدم المدلول ؛ فلا يلزم من عدم ظهور هذه الخوارق على يد زيد وعمرو ، وعلى السّنّور والكلب عدم ذلك الحلول ، فثبت أنّك مهما جوّزت القول بالاتّحاد ، والحلول ، لزمك تجويز حصول ذلك الاتحاد ، والحلول في حقّ كلّ أحد ، بل في حق كل حيوان ونبات ، ولكنّ المذهب الذي يسوق [قائله](١) إلى مثل هذا [القول](٢) الركيك ، يكون باطلا قطعا ، ثم قلت [له] وكيف دلّ إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه ، والأبرص على ما قلت؟ أليس انقلاب العصا ثعبانا أبعد من انقلاب الميّت حيّا ، فإذا ظهر على يد موسى ، ولم يدلّ على إلهيته ، فبأن لا يدلّ هذا على إلهيّة عيسى أولى.
وثالثها : أن دلالة أحوال عيسى على العبوديّة أقوى من دلالتها على الربوبيّة ؛ لأنّه كان مجتهدا في العبادة ، والعبادة لا تليق إلا بالعبد ، وأنّه كان في نهاية البعد عن الدّنيا ، والاحتراز عن أهلها حتى قالت النصارى : إنّ اليهود قتلوه ، ومن كان في الضعف هكذا ، فكيف يليق به الرّبوبيّة؟.
ورابعها : أن المسيح : إمّا أن يكون قديما ، أو محدثا ، والقول بقدمه باطل ؛ لأنّه نعلم بالضّرورة أنّه ولد ، وكان طفلا ، ثم صار شابّا ، وكان يأكل ويشرب ، ويعرض له ما يعرض لسائر البشر ، وإن كان محدثا ، كان مخلوقا ، ولا معنى للعبوديّة إلّا ذلك.
فإن قيل : المعنيّ بالإلهيّة أنّه حلّت فيه صفة [الإلهيّة ، قلنا :](٣) هب أنّه كان كذلك ، لكنّ الحالّ هو صفة الإله ، والمسيح هو المحل ، والمحلّ محدث مخلوق ، فالمسيح عبد محدث ، فكيف يمكن وصفه بالإلهيّة؟.
وخامسها : أنّ الولد لا بدّ وأن يكون من جنس الوالد ، فإن كان لله تعالى ولد ، فلا بدّ أن يكون من جنسه ، فإذا قد اشتركا في بعض الوجوه ، فإن لم يتميّز أحدهما عن الآخر بأمر مّا ، فكلّ واحد منهما هو الآخر ، وإن حصل الامتياز ، فما به الامتياز غير ما به الاشتراك ؛ فيلزم وقوع التّركيب في ذات الله تعالى ، وكلّ مركّب ممكن ، [فالواجب](٤) ممكن ؛ هذا خلف ، هذا على الاتّحاد ، والحلول.
فإن قيل : قالوا : معنى كونه إلها أنّه سبحانه خصّ نفسه أو بدنه بالقدرة على خلق الأجسام ، والتصرّف في هذا العالم ، فهذا أيضا باطل ؛ لأنّ النصارى نقلوا عنه الضّعف
__________________
(١) في ب : تأويله.
(٢) في ب : التأويل.
(٣) في ب : الإله ، فالجواب.
(٤) في ب : فالجواب.
والعجز ، وأنّ اليهود قتلوه ، فلو كان قادرا على خلق الأجسام ، لما قدروا على قتله ، بل كان هو يقتلهم ويخلق لنفسه عسكرا يذبّون عنه.
فإن قيل : قالوا : معنى كونه إلها أنّه اتّخذه ابنا لنفسه ؛ على سبيل التشريف ، وهو قد قال به قوم من النصارى ، يقال لهم الآريوسية ، وليس فيه كثير خطأ إلّا في اللفظ.
قوله تعالى : (آتانِيَ الْكِتابَ) قيل : معناه : سيؤتيني الكتاب ، ويجعلني نبيّا.
روى عكرمة عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ أنّ هذا إخبار عمّا كتب له في اللّوح المحفوظ ؛ كما قيل للنبيّ صلىاللهعليهوسلم : متى كنت نبيّا؟ قال : «كنت نبيّا ، وآدم بين الرّوح والجسد» (١) وعن الحسن ـ رضي الله عنه ـ أنّه ألهم التوراة ، وهو في بطن أمّه.
وقال الأكثرون : إنه أوتي الإنجيل ، وهو صغير طفل ، وكان يعقل عقل الرّجال.
فمن قال : الكتاب : هو التّوراة ، قال : لأنّ الألف واللّام للعهد ، ولا معهود حينئذ إلّا التوراة ، ومن قال : الإنجيل ، قال : الألف واللّام للاستغراق ، وظاهر كلام عيسى ـ صلوات الله عليه ـ أنّ الله تعالى آتاه الكتاب ، وجعله نبيّا ، وأمره بالصّلاة والزّكاة ، وأن يدعو إلى الله تعالى ، وإلى دينه ، وشريعته من قبل أن يكلّمهم ، وأنه تكلّم مع أمّه وأخبرها بحاله ، وأخبرها بأنّه يكلّمهم بما يدلّ على براءتها ، فلهذا أشارت إليه بالكلام.
قال بعضهم : أخبر أنّه نبيّ ، ولكنّه ما كان رسولا ؛ لأنّه في ذلك الوقت ما جاء بالشّريعة ، ومعنى كونه نبيّا : رفيع القدر عالي الدرجة ؛ وهذا ضعيف لأنّ النبيّ في عرف الشّرع هو الذي خصّه الله بالنبوّة وبالرّسالة ، خصوصا إذا قرن إليه ذكر الشّرع ، وهو قوله : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) ثم قال : (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ).
وقال مجاهد ـ رضي الله عنه ـ معلّما للخير (٢).
وقال عطاء : أدعو إلى الله ، وإلى توحيده (٣) وعبادته.
وقيل : مباركا على من اتّبعني.
روى قتادة أنّ امرأة رأته ، وهو يحيي الموتى ، ويبرىء الأكمه والأبرص ، فقالت : طوبى لبطن حملك ، وثدي أرضعت به ، فقال عيسى مجيبا لها : طوبى لمن تلا كتاب الله واتبع ما فيه ، وعمل به ، ولم يكن جبّارا شقيّا.
قوله تعالى : (أَيْنَ ما كُنْتُ) يدلّ على أن حاله لم يتغيّر كما قيل : إنّه عاد إلى حال الصّغر ، وزوال التّكليف.
__________________
(١) تقدم تخريجه.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٣٣٩) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤٨٧) وعزاه إلى عبد الله بن أحمد في «زوائد الزهد» وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣٤ / ١٩٥) عن عطاء.
قوله : (أَيْنَ ما كُنْتُ) : هذه شرطية ، وجوابها : إمّا محذوف مدلول عليه بما تقدّم ، أي : أينما كنت ، جعلني مباركا ، وإمّا متقدّم عند من يرى ذلك ، ولا جائز أن تكون استفهامية ؛ لأنّه يلزم أن يعمل فيها ما قبلها ، وأسماء الاستفهام لها صدر الكلام ، فيتعيّن أن تكون شرطية ؛ لأنها منحصرة في هذين المعنيين.
ثم قال : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) ، أي : أمرني بهما.
فإن قيل : لم يكن لعيسى مال ، فكيف يؤمر بالزّكاة؟ قيل : معناه : بالزّكاة ، لو كان له مال.
فإن قيل : كيف يؤمر بالصّلاة والزّكاة ، مع أنّه كان طفلا صغيرا ، والقلم مرفوع عن الصّغير ؛ لقوله ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ : «رفع القلم عن ثلاث» (١) الحديث.
فالجواب من وجهين (٢) :
الأول : أنّ قوله : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) لا يدلّ على أنّه تعالى أوصاه بأدائهما في الحال ، بل بعد البلوغ ، فيكون المعنى على أنّه تعالى أوصاني بأدائهما في وقت وجوبهما عليّ ، وهو وقت البلوغ.
الثاني : لعلّ الله تعالى ، لمّا انفصل عيسى عن أمّه ـ صلوات الله عليه ـ صيّره بالغا ، عاقلا ، تامّ الخلقة ؛ ويدلّ عليه قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) [آل عمران : ٥٩] فكما أنّه تعالى خلق آدم ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ تامّا كاملا دفعة ، فكذا القول في عيسى صلوات الله عليه وهذا أقرب إلى ظاهر اللّفظ ؛ لقوله : (ما دُمْتُ حَيًّا) فإنّه يفيد أنّ هذا التّكليف متوجّه عليه في جميع زمان حياته ، ولكن لقائل أن يقول : لو كان الأمر كذلك ، لكان القوم حين رأوه ، فقد رأوه شخصا كامل الأعضاء ، تامّ الخلقة ، وصدور الكلام عن مثل هذا الشخص لا يكون عجبا ؛ فكان ينبغي ألّا يعجبوا.
والجواب (٣) أن يقال : إنّه تعالى جعله مع صغر جثّته قويّ التركيب ، كامل العقل ، بحيث كان يمكنه أداء الصّلاة والزّكاة ، والآية دالّة على أنّ تكليفه لم يتغيّر حين كان في الأرض ، وحين رفع إلى السّماء ، وحين ينزل مرّة أخرى ؛ لقوله (ما دُمْتُ حَيًّا).
قوله تعالى : (ما دُمْتُ حَيًّا) «ما» مصدرية ظرفية ، وتقدم «ما» على «دام» شرط في إعمالها ، والتقدير : مدّة دوامي حيّا ، ونقل ابن عطيّة (٤) عن عاصم ، وجماعة : أنهم قرءوا «دمت» بضم الدّال ، وعن ابن كثير ، وأبي عمرو ، وأهل المدينة : «دمت» بكسرها ، وهذا لم نره لغيره ، وليس هو موجودا في كتب القراءات المتواترة والشاذّة الموجودة الآن ، فيجوز أن يكون اطّلع عليه في مصنف غريب ، ولا شكّ أنّ في «دام» لغتين ، يقال : دمت
__________________
(١) تقدم.
(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٨٣ ـ ١٨٤.
(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٨٤.
(٤) ينظر : البحر ٦ / ١٧٧ ، الدر المصون ٤ / ٥٠٤.
تدوم ، وهي اللغة الغالبة ، ودمت تدام ؛ كخفت تخاف ، وتقدم نظير هذا في مات يموت ومات يمات.
قوله تعالى : (وَبَرًّا بِوالِدَتِي) : العامّة على فتح الباء ، وفيه تأويلان :
أحدهما : أنه منصوب نسقا على «مباركا» أي : وجعلني برّا.
والثاني : أنّه منصوب بإضمار فعل ، واختير هذا على الأوّل ؛ لأنّ فيه فصلا كثيرا بجملة الوصيّة ومتعلّقها.
قال الزمخشريّ : جعل ذاته برّا ؛ لفرط برّه ، ونصبه بفعل في معنى «أوصاني» وهو «كلّفني» لأنّ أوصاني بالصّلاة ، وكلّفني بها واحد.
وقرىء «برّا» بكسر الباء (١) : إمّا على حذف مضاف ، وإمّا على المبالغة في جعله نفس المصدر ، وقد تقدّم في البقرة : أنه يجوز أن يكون وصفا على فعل ، وحكى الزّهراويّ ، وأبو البقاء (٢) أنه قرىء بكسر الباء ، والراء ، وتوجيهه : أنه نسق على «الصّلاة» أي : وأوصاني بالصّلاة وبالزّكاة ، وبالبرّ ، و«بوالدتي» متعلق بالبرّ ، أو البرّ.
فصل فيما يشير إليه قوله (وَبَرًّا بِوالِدَتِي)
قوله : (وَبَرًّا بِوالِدَتِي) إشارة إلى تنزيه أمّه عن الزّنا ؛ إذ لو كانت زانية ، لما كان الرسول المعصوم مأمورا بتعظيمها وبرّها ؛ لأنه تأكّد حقّها عليه ؛ لتمحض إذ حقها لا والد له سواها.
قوله تعالى : (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) يدلّ على أنّ فعل العبد مخلوق لله تعالى ؛ لأنّه لما أخبر أنه تعالى ، جعله برّا ، وما جعله جبّارا ، إنما يحسن لو أنّ الله تعالى جعل غيره جبّارا ، وجعله [غير] برّ بأمّه ؛ فإن الله تعالى ، لو فعل ذلك بكلّ أحد ، لم يكن لعيسى مزيّة تخصيص بذلك ، ومعلوم أنه ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ إنما ذكر ذلك في معرض التخصيص ، ومعنى قوله : (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً) أي ما جعلني جبّارا متكبّرا ، بل أنا خاضع لأمّي ، متواضع لها ، ولو كنت جبّارا ، كنت عاصيا شقيّا.
قال بعض العلماء : لا تجد العاق إلا جبارا شقيا ، وتلا : (وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) ولا تجد سيّىء الملكة إلا مختالا فخورا ، وقرأ : (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) [النساء : ٣٦].
قوله تعالى : (وَالسَّلامُ عَلَيَّ) : الألف واللام في «السّلام» للعهد ؛ لأنه قد تقدم لفظه في قوله ـ عزوجل ـ : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ) [الآية : ١٥] فهو كقوله : (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً
__________________
(١) وهي قراءة الحسن وآخرين ، ينظر : الإتحاف ٢ / ٢٣٤ ، والمحتسب ٢ / ٤٢ ، والبحر ٦ / ١٧٧ ، والدر المصون ٤ / ٥٠٥.
(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ٦٢.