اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

وقيل : المعنى : لنحسنن إليهم في الدنيا. وقيل : الحسنة في الدنيا التوفيق والهداية.

قوله تعالى : (الَّذِينَ صَبَرُوا) محلّه رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هم الذين صبروا ، أو نصب على تقدير أمدح ، ويجوز أن يكون تابعا للموصول قبله نعتا ، أو بدلا ، أو بيانا فمحله محله.

والمعنى : أنّهم صبروا على العذاب ، وعلى مفارقة الوطن ، وعلى الجهاد ، وبذل الأموال ، والأنفس في سبيل الله.

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً) الآية هذه الآية شبهة خامسة لمنكري النبوة ، كانوا يقولون : الله أعلى ، وأجلّ من أن يكون رسوله واحدا من البشر ؛ بل لو أراد بعثة رسول إلينا كان يبعث ملكا ، وتقدم تقرير هذه الشبهة في سورة الأنعام ؛ فأجاب الله عن هذه الشبهة بقوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) والمعنى : أنّ عادة الله من أول زمان التكليف لم يبعث رسولا إلّا من البشر ، وهذه العادة مستمرة ، فلا يلتفت إلى طعن هؤلاء الجهال.

ودلت هذه الآية على أنه ما أرسل أحدا من النساء ، ودلت على أنه ـ تعالى ـ ما أرسل ملكا ، إلّا أن ظاهر قوله تعالى : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) يدل على أن الملائكة رسل الله إلى سائر الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ، ثم قال الله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ).

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : يريد أهل التوراة ، ويدل عليه قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) يعني التوراة (١). وقال الزجاج : معناه سلوا كلّ من يذكر بعلم وتحقيق.

واختلف الناس في أنه هل يجوز للمجتهد تقليد المجتهد؟ منهم من أجازه محتجا بهذه الآية ؛ فقال : لمّا لم يكن أحد المجتهدين عالما ، وجب عليه الرجوع إلى المجتهد العالم بالحكم ؛ لقوله تعالى: (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فإن لم يجب ؛ فلا أقل من الجواز.

واحتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا : المكلف إذا نزلت به واقعة ، فإن كان عالما بحكمها ، لم يجز له القياس ، وإن لم يكن عالما بحكمها ، وجب عليه سؤال من كان عالما بها ؛ لظاهر هذه الآية ، ولو كان القياس حجة ، لما وجب عليه سؤال العالم ؛ لأنه يمكنه استنباط ذلك الحكم بالقياس ، فثبت أن تجويز العمل بالقياس يوجب ترك العمل بظاهر هذه الآية ؛ فوجب أن لا يجوز.

والجواب : أنه ثبت جواز العمل بالقياس بإجماع الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فالإجماع أقوى من هذا الدليل.

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ٣٠).

٦١

قوله «بالبيّنات» فيه ثمانية أوجه :

أحدها : أنه متعلق بمحذوف على أنه صفة ل «رجالا» فيتعلق بمحذوف ، أي رجالا ملتبسين بالبينات ، أي : مصاحبين لها وهو وجه حسن لا محذور فيه ، ذكره الزمخشريّ.

الثاني : أنه متعلق ب «أرسلنا» ذكره الحوفي ، والزمخشريّ ، وغيرهما ، وبه بدأ الزمخشريّ ، فقال : «يتعلق ب «أرسلنا» داخلا تحت حكم الاستثناء مع «رجالا» أي : وما أرسلنا إلا رجالا بالبينات ، كقولك : ما ضربت إلّا زيدا بالسّوط ؛ لأن أصله : ضربت زيدا بالسّوط».

وضعفه أبو البقاء : بأن ما قبل «إلّا» لا يعمل فيما بعدها ، إذا تم الكلام على «إلا» وما يليها ، قال : إلا أنه قد جاء في الشعر : [البسيط]

٣٣١٠ ـ نبّئتهم عذّبوا بالنّار جارتهم

ولا يعذّب إلّا الله بالنّار (١)

وقال أبو حيّان (٢) : «وما أجازه الحوفي ، والزمخشري ، لا يجيزه البصريون ؛ إذ لا يجيزون أن يقع بعد «إلّا» إلّا مستثنى ، أو مستثنى منه ، أو تابع لذلك ، وما ظن بخلافه قدر له عامل ، وأجاز الكسائي أن يليها معمول ما بعدها مرفوعا ، أو منصوبا أو مخفوضا ، نحو : ما ضرب إلا عمرا زيد ، وما ضرب إلّا زيد عمرا ، وما مرّ إلّا زيد بعمرو».

ووافقه ابن الأنباري في المرفوع ، والأخفش ، في الظرف ، وعديله ؛ فما قالاه يتمشّى على قول الكسائي ، والأخفش.

الثالث : أنه يتعلق ب «أرسلنا» أيضا ؛ إلّا أنه على نية التقديم قبل أداة الاستثناء تقديره: وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالا ؛ حتى لا يكون ما بعد «إلّا» معمولين متأخرين لفظا ورتبة داخلين تحت الحصر لما قبل «إلّا» ، حكاه ابن عطية.

وأنكر الفراء ذلك وقال : «إنّ صلة ما قبل «إلّا» لا يتأخر إلى ما بعد «إلا» لأن المستثنى منه هو مجموع ما قبل «إلّا» مع صلته ، فلما لم يصر هذا المجموع مذكورا بتمامه ؛ امتنع إدخال الاستثناء عليه».

الرابع : أنه متعلق ب «نوحي» كما تقول : أوحى إليه بحق. ذكره الزمخشري ، وأبو البقاء.

الخامس : أنّ الباء مزيدة في «بالبيّنات» وعلى هذا ؛ فيكون «البيّنات» هو القائم مقام الفاعل ؛ لأنها هي الموحاة.

__________________

(١) ينظر : أوضح المسالك ٢ / ١٣٠ ، تذكرة النحاة ص ٣٣٥ ، شرح التصريح ١ / ٢٨٤ ، المقاصد النحوية ٢ / ٤٩٢ ، التبيان ٢ / ٧٩٦ ، معاني الفراء ٢ / ١٠١ ، الألوسي ١٤ / ١٤٩ ، زادة ٣ / ١٧٩ ، التصريح ١ / ٢٨٤ ، العيني ٢ / ٤٩٢ ، الطبري ١٤ / ١١٠ ، البحر المحيط ٥ / ٤٨٩ ، الدر المصون ٤ / ٣٢٨.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٧٩.

٦٢

السادس : أن الجارّ متعلق بمحذوف ؛ على أنّه حال من القائم مقام الفاعل ، وهو «إليهم» ذكرهما أبو البقاء. وهما ضعيفان جدّا.

السابع : أن يتعلّق ب (لا تَعْلَمُونَ) على أنّ الشرط في معنى : التبكيت والإلزام ؛ كقول الأجير : إن كنت عملت لك فأعطني حقّي.

قال الزمخشريّ (١) : وقوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) اعتراض على الوجوه المتقدمة ، ويعني بقوله : «فاسئلوا» الجزاء وشرطه ، وأما على الوجه الأخير ، فعدم الاعتراض واضح.

الثامن : أنه متعلق بمحذوف جوابا لسؤال مقدر ؛ كأنه قيل : بم أرسلوا؟ فقيل : أرسلوا بالبينات ، والزّبر ، كذا قدره الزمخشري. وهو أحسن من تقدير أبي البقاء : بعثوا لموافقته للدالّ عليه لفظا ومعنى.

فصل في تأويل «إلا»

قال البغوي (٢) ـ رحمه‌الله ـ : «إلّا» بمعنى «غير» ، أي : وما أرسلنا قبلك بالبينات ، والزبر ، غير رجال يوحى إليهم ، ولو لم نبعث إليهم ملائكة.

وقيل : تأويله : وما أرسلنا من قبلك إلّا رجالا يوحى إليهم بالبينات والزبر ، والبينات والزبر : كل ما يتكامل به الرسالة ؛ لأن مدارها على المعجزات الدالة على صدق مدعي الرسالة ، وهي البينات على التكاليف ، التي يبلغها الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إلى العباد ، وهي الزبر.

ثم قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) أراد بالذكر الوحي وكان ـ عليه الصلاة والسلام ـ مبينا للوحي ، وبيان الكتاب يطلب من السنة. انتهى.

فصل القرآن ليس كله مجملا بل منه المجمل والمبين

ظاهر هذه الآية يقتضي أن هذا الذكر مفتقر إلى بيان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمفتقر إلى [البيان](٣) مجمل ، فهذا النص يقتضي أنّ هذا القرآن كله مجمل ؛ فلهذا قال بعضهم : متى وقع التعارض بين القرآن والخبر وجب تقديم الخبر ؛ لأن القرآن مجمل بنص هذه الآية ، والخبر مبين لهذه الآية ، والمبين مقدم على المجمل. وأجيب : بأن القرآن منه محكم ، ومنه متشابه ، والمحكم يجب كونه مبينا ؛ فثبت أن القرآن كله ليس مجملا ، بل فيه المجمل.

فقوله : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) محمول على تلك المجملات.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٦٠٨.

(٢) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ٧٠.

(٣) في ب : السنة.

٦٣

فصل هل الرسول مبين لكل ما أنزل الله

ظاهر هذه الآية يقتضي أن يكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو المبين لكلّ ما أنزل الله على المكلفين ، وعند هذا قال نفاة القياس : لو كان القياس حجة ، لما وجب على الرسول بيان كلّ ما أنزل الله تعالى على المكلفين من الأحكام ؛ لاحتمال أن يبين المكلف ذلك الحكم بطريق القياس ، ولما دلت هذه الآية على أنّ المبين للتكاليف ، والأحكام ؛ هو الرسول ، علمنا أنّ القياس ليس بحجة.

وأجيب عنه : بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بين أنّ القياس حجة فمن رجع في تبيين الأحكام والتكاليف إلى القياس ؛ كان ذلك في الحقيقة رجوعا إلى بيان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قالوا : لو كان البيان بالقياس من بيان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما وقع فيه اختلاف.

قوله تعالى : (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ) الآية في «السّيئات» ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها نعت لمصدر محذوف ، أي : المكرات السيئات.

الثاني : أنه مفعول به على تضمين : «مكروا» عملوا وفعلوا ، وعلى هذين الوجهين ، فقوله (أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) مفعول ب «أمن».

الثالث : أنه منصوب ب «أمن» ، أي : أمنوا العقوبات السيئات ، وعلى هذا فقوله (أَنْ يَخْسِفَ اللهُ) بدل من «السّيّئات».

والمكر في اللغة : هو السعي بالفساد خفية ، ولا بد هنا من إضمار ، تقديره المكرات السيئات ، والمراد أهل مكة ، ومن حول المدينة.

قال الكلبيّ : المراد بهذا المكر : اشتغالهم بعبادة غير الله ـ تعالى (١) ـ والأقرب أن المراد سعيهم في إيذاء الرسول ، وأصحابه على سبيل الخفية ، أي : يخسف الله بهم الأرض ؛ كما خسف بالقرون الماضية.

قوله : (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) أي : يأتيهم العذاب من السماء من حيث يفجؤهم ؛ فيهلكهم بغتة ؛ كما فعل بالقرون الماضية.

(أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ) أي : أسفارهم (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) [آل عمران : ١٩٦].

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : في اختلافهم (٢). وقال ابن جريج : في إقبالهم ، وإدبارهم (٣).

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ٣٢).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٩٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٢٣) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.

وينظر : تفسير الماوردي (٣ / ١٩٠) والبغوي (٣ / ٧٠).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٩٠) وذكره الماوردي (٣ / ١٩٠) والبغوي (٣ / ٧٠).

٦٤

وقيل : في حال تقلّبهم في أمكارهم ، فيحول الله بينهم ، وبين إتمام تلك الحيل.

وحمل التقلّب على هذا المعنى ، مأخوذ من قوله تعالى : (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) [التوبة : ٤٨]. (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) هذا الجارّ متعلق بمحذوف ؛ فإنه حال ، إمّا من فاعل «يأخذهم» وإما من مفعوله ، ذكرهما أبو البقاء.

والظاهر كونه حالا من المفعول دون الفاعل.

والتّخوّف : تفعّل من الخوف ، يقال : خفت الشّيء ، وتخوّفته.

والتّخوّف : التّنقّص ، أي : نقص من أطرافهم ، ونواحيهم ، الشيء بعد الشيء حتّى يهلك جميعهم ، يقال : تخوّفته الدّهر ؛ وتخوفه ، إذا نقصه ، وأخذ ماله ، وحشمه ، ويقال : هذه لغة بني هذيل.

وقال ابن الأعرابيّ : تخوّفت الشّيء وتخيّفته إذا تنقّصته.

حكى الزمخشريّ أن عمر ـ رضي الله عنه ـ سألهم على المنبر عن هذه الآية فسكتوا ، فقام شيخ من هذيل ، فقال : هذه لغتنا ، التخوّف التنقّص ، فقال عمر : فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟.

قال : نعم ، قال شاعرنا : [البسيط]

٣٣١١ ـ تخوّف الرّحل منها تامكا قردا

كما تخوّف [عود] النّبعة السّفن (١)

فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ : أيّها الناس عليكم بديوانكم لا تضلّوا ، قالوا : وما ديواننا؟ قال : شعر الجاهلية ؛ فإنّ فيه تفسير كتابكم (٢) ، وكان الزمخشري نسب البيت قبل ذلك لزهير ، وكأنه سهو ؛ فإنه لأبي كبير الهذلي ؛ ويؤيد ذلك قول الرجل : قال شاعرنا ، وكان هذيليا كما حكاه هو ، فعلى هذا يكون المراد ما يقع في أطراف بلادهم ، كما قال تعالى : (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) [الأنبياء : ٤٤] أي : لا نعاجلهم بالعذاب ، ولكن ننقص من أطراف بلادهم حتى يصل إليهم فيهلكهم.

ويحتمل أن النّقص من أموالهم وأنفسهم يكون قليلا قليلا حتى يفنوا جميعهم.

وقال الضحاك ، والكلبيّ : من الخوف ، أي : لا يأخذهم بالعذاب ، أولا ؛ بل يخيفهم ، أو بأن يعذب طائفة ؛ فتخاف التي يليها.

__________________

(١) نسبه الجوهري لذي الرمة ورواه الزجاج والأزهري وابن منظور لابن مقبل وقال الصاغاني ليس لهما وروى صاحب الأغاني في ترجمة حماد الراوية أنه لابن مزاحم ، ويروى لعبد الله بن العجلان الهندي وينسب لزهير ، وغير موجود في ديوانه وقيل البيت لأبي كبير الهذلي ، ينظر : اللسان (خوف) ، ابن عقيل (سفن) ، الصحاح (سفن) ، روح المعاني ١٥٢٨٤ ، الكشاف ٢ / ٤٧٣ ، الطبري ١٤ / ١١٣ ، البحر المحيط ٥ / ٤٧٩ ، الدر المصون ٤ / ٣٢٩.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ٣٢).

اللّباب / ج ١٢ / م ٥

٦٥

ثم قال : (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي يمهل في أكثر الأمر ؛ لأنه رءوف رحيم ، فلا يعاجل بالعذاب.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠) وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)(٥٥)

قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) الآية قرأ الأخوان (١) : «تروا» بالخطاب جريا على قوله : (فَإِنَّ رَبَّكُمْ).

والباقون : بالياء جريا على قوله : (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا) [النحل : ٤٥].

وأما قوله (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ) [الملك : ١٩] فقراءة حمزة أيضا بالخطاب (٢) ، ووافقه ابن عامر فيه ؛ فحصل من مجموع الآيتين : أنّ حمزة بالخطاب فيهما ، والكسائي (٣) بالخطاب في الأولى ، والغيبة في الثانية ، وابن عامر بالعكس ، والباقون : بالغيبة فيهما.

وأما توجيه الأولى فقد تقدم ، وأما الخطاب في الثانية ؛ فجريا على قوله تعالى : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) [النحل : ٧٤] وأمّا الغيبة ؛ فجريا على قوله تعالى (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [النحل : ٧٣] إلى آخره ، وأمّا تفرقة الكسائي ، وابن عامر بين الموضعين ؛ فجمعا بين الاعتبارين ، وأنّ كلّا منهما صحيح.

فصل

لمّا خوّف المشركين بأنواع العذاب المتقدمة ، أردفه بما يدلّ على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي ، والسفلي ؛ ليظهر لهم أنّ مع كمال هذه القدرة القاهرة ، والقوة الغير متناهية ، كيف يعجز عن إيصال العذاب إليهم؟ وهذه الرؤية لما كانت بصرية وصلت ب «إلى» ؛ لأن المراد بها الاعتبار ، والاعتبار لا يكون بنفس الرؤية ، حتى يكون مع النظر إلى الشيء الكامل في أحواله.

__________________

(١) ينظر : الإتحاف ٢ / ١٨٤ ، التيسير ١٣٧ ، والحجة للفارسي ٥ / ٦٦ القرطبي ١٠ / ٧٤ والبحر ٥ / ٤٨٠ ، والدر المصون ٤ / ٣٢٩ ، وإعراب القراءات ١ / ٣٥٤.

(٢) ينظر : النشر ٢ / ٣٠٤ والحجة للفارسي ٥ / ٦٧ ، وإعراب القراءات ١ / ٣٥٤ ، والدر المصون ٤ / ٣٢٩.

(٣) ينظر : الدر المصون ٤ / ٣٢٩.

٦٦

قوله : (مِنْ شَيْءٍ) هذا بيان ل «ما» في قوله : (ما خَلَقَ اللهُ) فإنها موصولة بمعنى الذي.

فإن قيل : كيف يبين الموصول وهو مبهم ب «شيء» وهو مبهم ؛ بل أبهم ممّا قبله؟.

فالجواب : أن شيئا قد اتضح ، وظهر بوصفه بالجملة بعده ؛ وهي : (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ).

قال الزمخشري : و«ما» موصولة ب (خَلَقَ اللهُ) وهو مبهم ؛ بيانه في قوله (مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ).

وقال ابن عطية (١) : (مِنْ شَيْءٍ) لفظ عامّ في كل ما اقتضته الصفة من قوله : (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ).

فظاهر هاتين العبارتين : أن جملة (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) صفة ل «شيء» فأما غيرهما ؛ فإنه قد صرح بعدم كون الجملة صفة ؛ فإنه قال : والمعنى : من شيء له ظلّ من جبل ، وشجر ، وبناء ، وجسم قائم ، وقوله (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) إخبار من قوله (مِنْ شَيْءٍ) ليس بوصف له ، وهذا الإخبار يدلّ على ذلك الوصف المحذوف الذي تقديره : هو له ظل. وفيه تكلف لا حاجة إليه ، والصفة أبين و (مِنْ شَيْءٍ) في محل نصب على الحال من الموصول ، أو متعلق بمحذوف على جهة البيان ؛ أعني : من شيء.

والتّفيّؤ : تفعّل من فاء يفيء ، أي : رجع ، و«فاء» : قاصر فإذا أريد تعديته عدّي بالهمزة كقوله (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) [الحشر : ٧] أو بالتضعيف نحو : فيّأ الله الظّل فتفيّأ ، وتفيّأ : مطاوع فيأ ، فهو لازم ، ووقع في شعر أبي تمّام متعدّيا في قوله : [الكامل]

٣٣١٢ ـ ...........

وتفيّأت ظلّالها ممدودا (٢)

واختلف في الفيء ، فقيل : هو مطلق الظل ، سواء كان قبل الزوال ، أو بعده ، وهو الموافق لمعنى الآية ههنا.

وقيل : ما كان قبل الزوال فهو ظلّ فقط ، وما كان بعده فهو ظل وفيء ، فالظل أعم. يروى ذلك عن رؤبة بن العجّاج ، وأنكر بعضهم ذلك ، وأنشد أبو [زيد](٣) للنّابغة الجعدي : [الخفيف]

٣٣١٣ ـ فسلام الإله يغدو عليهم

وفيوء الفردوس ذات الظّلال (٤)

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٩٧.

(٢) عجز بيت وصدره : «طلبت ربيع ربيعة الممهى لها» ويروى الشطر الثاني : «فوردن ظل ربيعة الممدودا». ينظر : ديوانه ص ٨٠ ، الدر اللقيط ٥ / ٤٩٦ ، البحر المحيط ٥ / ٤٨٠ ، روح المعاني ١٤ / ١٥٣ ، الدر المصون ٤ / ٣٣٠.

(٣) في ب : ذؤيب.

(٤) ينظر : ديوانه ٢٣١ ، وروح المعاني ٧ / ١٥٤ ، اللسان (ظلل) والرازي ٢٠ / ٣٤.

٦٧

فأوقع لفظ «الفيء» على ما لم تنسخه الشمس ؛ لأن ظلّ الجنة ما حصل بعد أن كان زائلا بسبب ضوء الشمس.

وقيل : بل تختصّ الظلّ : بما قبل الزوال ، والفيء : بما بعده.

قال الأزهري (١) : تفيّؤ الظّلال : رجوعها بعد انتصاف النّهار ، فالتفيؤ : لا يكون إلا بالعشيّ بعد ما انصرفت عنه الشمس ، والظل ما يكون بالغداة ، وهو ما لم تنله الشمس ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٣٣١٤ ـ فلا الظّلّ من برد الضّحى تستطيعه

ولا الفيء من برد العشيّ تذوق (٢)

وقال امرؤ القيس : [الطويل]

٣٣١٥ ـ تيمّمت العين الّتي عند ضارج

يفيء عليها الظّلّ عرمضها طام (٣)

وقد خطأ ابن قتيبة الناس في إطلاقهم الفيء على ما قبل الزوال وقال : إنما يطلق على ما بعده ؛ واستدل بالاشتقاق ؛ فإن الفيء هو الرجوع ، وهو متحقق بما بعد الزّوال [قال : وإنما يطلق على ما بعده](٤) ، فإن الظل يرجع إلى جهة المشرق بعد الزوال بعد ما نسخته الشمس قبل الزوال.

وتقول العرب في جمع فيء : «أفياء» للقليل ، و«فيؤ» للكثير ؛ كالبيوت ، والعيون ، وقرأ أبو عمرو (٥) «تتفيّؤ» بالتاء من فوق مراعاة لتأنيث الجمع ، وبها قرأ يعقوب ، والباقون بالياء لأنه تأنيث مجازي.

وقرأ العامة : «ظلاله» جمع ظلّ ، وعيسى بن عمر (٦) «ظلله» جمع ظلة ؛ ك «غرفة ، وغرف».

قال صاحب اللّوامح في قراءة عيسى «ظلله» : والظّلّة : الغيم : وهو جسم ، وبالكسر : الفيء ، وهو عرض فرأى عيسى : أنّ التفيؤ الذي هو الرجوع بالأجسام أولى منه بالإعراض ، وأما في العامة فعلى الاستعارة.

__________________

(١) ينظر : تهذيب اللغة ١٥ / ٥٧٧.

(٢) البيت لحميد بن ثور ، ينظر : ديوانه (٤٠) ، البحر المحيط ٥ / ٤٨١ ، التهذيب ٥ / ٥٧٨ (فاء) ، الصحاح ١ / ٦٣ ، اللسان (فيأ) ، فصيح ثعلب ٩٥ ، المفضليات ١٨٧ ، إصلاح المنطق ٣٢٠ ، شواهد المغني للبغدادي ٣ / ٢٥٢ ، روح المعاني ١٤ / ١٥٣ ، الدر المصون ٤ / ٣٣٠.

(٣) ينظر : ديوانه (١٦٢) ، الشعر والشعراء ١ / ١١٢ ، اللسان والتاج والصحاح (عرمض) ، البحر المحيط ٥ / ٤٨١ ، المحرر الوجيز ٣ / ٦٦٩ الألوسي ١٤ / ١٥٣ ، الدر المصون ٤ / ٣٣٠.

(٤) زيادة من : أ.

(٥) ينظر : السبعة ٣٠٣ ، والحجة ٣٩١ ، والإتحاف ٢ / ١٨٥ ، والبحر ٥ / ٤٨٠ ، والقرطبي ١٠ / ٧٤ ، والدر المصون ٤ / ٣٣٠.

(٦) المحتسب ٢ / ١٠ ، والبحر ٥ / ٤٨٠ ، والدر المصون ٤ / ٣٣٠.

٦٨

قال الواحدي : «ظلاله» أضاف الظلال إلى مفرد ، ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال ، وإنما حسن هذا ؛ لأنّ الذي يرجع إليه الضمير ، وإن كان واحدا في اللفظ ، وهو قوله تعالى (إِلى ما خَلَقَ اللهُ) إلّا أنه كثير في المعنى ؛ كقوله تعالى (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) [الزخرف : ١٣] فأضاف الظّهور ، وهو جمع إلى ضمير مفرد ؛ لأنه يعود إلى واحد أريد به الكثرة في المعنى ، وهو قوله تعالى : (ما تَرْكَبُونَ) انتهى.

قوله تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يتعلق ب «يتفيّؤ» ومعناها المجاوزة أي : يتجاوز الظلال عن اليمين إلى الشمائل.

الثاني : أنها متعلقة بمحذوف على أنها حال من «ظلاله».

الثالث : أنها اسم بمعنى جانب ، فعلى هذا ينتصب «إلى» على الظرف.

وقوله : (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ) فيه سؤالان :

أحدهما : ما المراد باليمين والشمائل؟.

والثاني : كيف أفرد الأول ، وجمع الثاني؟.

وأجيب عن الأول بأجوبة :

أحدها : أنّ اليمين يمين الفلك ؛ وهو المشرق ، والشمائل شماله ، وهو المغرب ، وخصّ هذان الجانبان ؛ لأنّ أقوى الإنسان جانباه ؛ وهما يمينه وشماله ، وجعل المشرق يمينا ؛ لأن منه تظهر حركة الفلك اليومية.

الثاني : البلدة التي عرضها أقلّ من الميل تكون الشمس صيفا عن يمين البلد فيقع الظل عن يمينهم.

الثالث : أن المنصوب للعبرة كلّ جرم له ظلّ ، كالجبل ، والشجر ، والذي يترتب فيه الأيمان ، والشمائل ، إنما هو البشر فقط ، ولكن ذكر الأيمان ، والشمائل ، هنا على سبيل الاستعارة.

الرابع : قال الزمخشريّ (١) : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ) من الأجرام التي لها ظلال متفيئة عن أيمانها ، وشمائلها عن جانبي كل واحد منها وشقّيه استعارة من يمين الإنسان ، وشماله لجانبي الشيء ، أي : يرجع من جانب إلى جانب.

وهذا قريب ممّا قبله ، وأجيب عن الثاني بأجوبة :

أحدها : أن الابتداء يقع من اليمين ، وهو شيء واحد ؛ فلذلك وحد اليمين ، ثم ينتقص شيئا فشيئا وحالا بعد حال ، فهو بمعنى الجمع ، فصدق على كل حال لفظة الشمائل ؛ فتعدّد بتعدّد الحالات ، وإلى قريب منه نحا أبو البقاء ـ رحمه‌الله ـ.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٦٠٩.

٦٩

والثاني : قال الزمخشريّ : واليمين بمعنى الأيمان ، يعني أنّه مفرد قائم مقام الجمع ، وحينئذ فهما في المعنى جمعا ؛ كقوله تعالى (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [القمر : ٤٥] أي الأدبار.

الثالث : قال الفراء (١) : لأنه إذا وحّد ذهب إلى واحد من ذوات الظّلال ، وإذا جمع ذهب إلى كلّها ؛ لأن قوله تعالى (ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) لفظه واحد ، ومعناه الجمع ، فعبر عن أحدهما بلفظ الواحد ؛ كقوله تعالى (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١] وقولهعزوجل: (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) [البقرة : ٧].

الرابع : أنّا إذا فسّرنا اليمين بالمشرق ؛ كانت النقطة التي هي مشرق الشمس واحدة بعينها ، فكانت اليمين واحدة ، وأما الشمائل فهي عبارة عن الانحرافات الواقعة في تلك الظلال بعد وقوعها على الأرض ، وهي كثيرة ؛ فلذلك عبّر عنها بصيغة الجمع.

الخامس : قال الكرمانيّ : «يحتمل أن يراد بالشمائل الشمال ، والخلف ، والقدّام ؛ لأنّ الظل يفيء من الجهات كلها ، فبدأ باليمين ؛ لأنّ ابتداء الفيء منها ، أو تيمّنا بذكرها ، ثم جمع الباقي على لفظة الشمال ؛ لما بين اليمين ، والشمال من التضادّ ، ونزّل القدّام والخلف منزلة الشمال ؛ لما بينهما وبين اليمين من الخلاف».

السادس : قال ابن عطية (٢) : «وما قال بعض الناس من أنّ اليمين أول وقعة للظل بعد الزوال ، ثم الآخر إلى الغروب ، هي عن الشمائل ؛ ولذلك جمع الشمائل ، وأفرد اليمين ؛ فتخليط من القول ، ومبطل من جهات».

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : «إذا صليت الفجر كان ما بين مطلع الشمس ، ومغربها ظلّا ، ثم بعث الله عليه الشمس دليلا ؛ فقبض إليه الظلّ ؛ فعلى هذا فأول دورة الشمس فالظلّ عن يمين مستقبل الجنوب ، ثم يبدأ الانحراف ، فهو عن الشمائل ؛ لأنه حركات كثيرة ، وظلال منقطعة ، فهي شمائل كثيرة ؛ فكان الظل عن اليمين متصلا واحدا عامّا لكل شيء».

السابع : قال ابن الضائع رحمه‌الله : «وجمع بالنظر إلى الغايتين ؛ لأنّ ظل الغداة يضمحلّ حتى لا يبقى منه إلا اليسير ، فكأنه في جهة واحدة ، وهي بالعشيّ ـ على العكس ـ لاستيلائه على جميع الجهات ، فلحظت الغايتان في الآية ، هذا من جهة المعنى ، وأما من جهة اللفظ ، ففيه مطابقة ؛ لأنّ «سجّدا» جمع ، فطابقه جمع الشّمائل ؛ لاتصاله به ؛ فحصل في الآية مطابقة اللفظ للمعنى ، ولحظهما معا ؛ وتلك الغاية في الإعجاز».

قوله «سجّدا» حال من «ظلاله» ، وسجّدا جمع ساجد ، كشاهد وشهّد وراكع وركّع.

والسجود : الميل ، يقال : سجدت النّخلة إذا مالت ، وسجد البعير إذا طأطأ رأسه ؛ وقال الشاعر : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للفراء ٢ / ١٠٢.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٩٨.

٧٠

٣٣١٦ ـ ..........

ترى الأكم فيها سجّدا للحوافر (١)

فالمراد بهذا السجود التواضع.

واعلم أن انتقاص الظلّ بعد كماله إلى غاية محدودة ثمّ ازدياده بعد غاية نقصانه ، وتنقله من جهة إلى أخرى على وفق تدبير الله ، وتقديره بحسب الاختلافات اليوميّة الواقعة في شرق الأرض ، وغربها ، وبحسب الاختلافات الواقعة في طول السنة على وجه مخصوص ، وترتيب معيّن لا يكون إلا لكونها منقادة لله تعالى خاضعة لتقديره وتدبيره ؛ فكان السجود عبارة عن تلك الحال.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : اختلاف هذه الظلال معلّل باختلاف سير الشمس لا لأجل تقدير الله؟.

فالجواب : أنّا وإن سلمنا ذلك ، فمحرك الشمس بالحركة الخاصّة ليس إلّا الله ـ تعالى ـ فدل على أنّ اختلاف أحوال هذه الظلال لم يقع إلا بتدبير الله تعالى ، وقيل : هذا سجود حقيقة ؛ لأن هذه الظلال واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد ، قال أبو العلاء المعرّي ، في صفة واد : [الطويل]

٣٣١٧ ـ بخرق يطيل الجنح فيه سجوده

وللأرض زيّ الرّاهب المتعبّد (٢)

فلمّا كان شكل الأظلال يشبه شكل الساجدين ، أطلق عليه السجود ، وكان الحسن يقول: أما ظلّك ، فسجد لربّك ، وأما أنت ، فلا تسجد له ؛ بئسما صنعت.

وعن مجاهد : ظلّ الكافر يصلّي ، وهو لا يصلّي (٣) ، وقيل : ظلّ كلّ شيء يسجد لله ، سواء كان ذلك ساجدا لله ، أم لا.

قوله : (وَهُمْ داخِرُونَ) في هذه الجملة ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها حال من الهاء في «ظلاله». قال الزمخشريّ : «لأنه في معنى الجمع ، وهو ما خلق الله من كلّ شيء له ظل ، وجمع بالواو والنون ؛ لأنّ الدّخور من أوصاف العقلاء ، أو لأنّ في جملة ذلك من يعقل فغلب».

وقد ردّ أبو حيّان هذا بأن الجمهور لا يجيزون مجيء الحال من المضاف إليه ، وهو نظير جاءني غلام هند ضاحكة ، قال : «ومن أجاز مجيئها منه إذا كان المضاف جزءا ، أو كالجزء جوز الحالية منه هنا ؛ لأنّ الظل كالجزء ؛ إذ هو ناشيء عنه».

الثاني : أنها حال من الضمير المستتر في «سجّدا» فهي حال متداخلة.

الثالث : أنها حال من «ظلاله» فينتصب عنه حالان ، ثم لك في هذه الواو اعتباران :

__________________

(١) تقدم برقم : ٣٧٨.

(٢) ينظر : سقط الزند ٩٢ ، الرازي ٢٠ / ٤٤.

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ٣٦.

٧١

أحدهما : أن تجعلها عاطفة حالا على مثلها ، فهي عاطفة ، وليست بواو حال ، وإن كان خلو الجملة الاسميّة الواقعة حالا من الواو قليلا أو ممتنعا على رأي ، وممن صرح بأنها عاطفة : أبو البقاء.

والثاني : أنها واو الحال ، وعلى هذا فيقال : كيف يقتضي العامل حالين؟.

فالجواب : أنه جاز ذلك ؛ لأن الثانية بدل من الأولى ، فإن أريد بالسجود التّذلل والخضوع ، فهو بدل كل من كل ، وإن أريد به [حقيقته](١) ، فهو بدل اشتمال ، إذ السجود مشتمل على الدخور.

ونظير ما نحن فيه : «جاء زيد ضاحكا وهو شاك» فقولك : «وهو شاك» يحتمل الحاليّة من «زيد» أو ضمير «ضاحكا» ، والدّخور : التواضع ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٣٣١٨ ـ فلم يبق إلّا داخر في مخيّس

ومنجحر في غير أرضك في جحر (٢)

وقيل : هو القهر والغلبة ، ومعنى «داخرون» أذلّاء صاغرين.

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الآية قد تقدم أن السجود على نوعين :

سجود كسجود الصلاة بوضع الجبهة على الأرض ، وسجود هو انقياد وخضوع ؛ فلهذا قال بعضهم : المراد بالسجود ههنا : الانقياد والخضوع ؛ لأنه اللائق بالدابة.

وقيل : السجود حقيقة ؛ لأنه اللائق بالملائكة عليهم الصلاة والسلام.

وقيل : السجود لفظ مشترك بين المعنيين ، وحمل اللفظ المشترك [على إفادة مجموع معنيين جائز ، فيحمل لفظ السجود ههنا على المعنيين معا ، أما في حق الدابة فبمعنى التواضع ، وأما في حق الملائكة فبمعنى السجود الحقيقي ؛ وهذا ضعيف ؛ لأن استعمال اللفظ المشترك](٣) في جميع مفهوماته معا غير جائز.

قوله تعالى : (مِنْ دابَّةٍ) يجوز أن يكون بيانا ل (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ويكون لله تعالى في سمائه خلق ؛ يدبون كما يدبّ الخلق الذي في الأرض ، ويجوز أن يكون بيانا ل (ما فِي الْأَرْضِ) فقط.

قال الزمخشريّ : «فإن قلت : هلّا جيء ب «من» دون «ما» تغليبا للعقلاء على غيرهم؟.

__________________

(١) في ب : التواضع.

(٢) روي البيت بلفظ (مجلس) مكان (مخيس) ، وهو لذي الرمة. ينظر : الديوان ٣٦٤ ، اللسان والصحاح والتاج (خيس) ونسبوه للفرزدق وليس في ديوانه ، الطبري ١٤ / ١١٦ ، البحر المحيط ٥ / ٤٧٣ ، الدر المصون ٤ / ٣٣٢.

(٣) سقط من : ب.

٧٢

قلت : إنه لو جيء ب «من» لم يكن فيه دليل على التغليب ، بل كان متناولا للعقلاء خاصة ، فجيء بما هو صالح للعقلاء ، وغيرهم ؛ إرادة للعموم».

قال أبو حيّان (١) : «وظاهر السؤال تسليم أنّ من قد تشتمل العقلاء ، وغيرهم على جهة التغليب ، وظاهر الجواب تخصيص «من» بالعقلاء ، وأنّ الصالح للعقلاء ما دون «من» ، وهذا ليس بجواب لأنه أورد السؤال على التسليم ، ثمّ أورد الجواب على غير التسليم ، فصار المعنى أنّ من يغلب بها ؛ والجواب لا يغلب بها ، وهذا في الحقيقة ليس بجواب».

فصل

قال الأخفش : قوله : (مِنْ دابَّةٍ) يريد من الدّواب ، وأخبر بالواحد ؛ كما تقول : ما أتاني من رجل مثله ، وما أتاني من الرّجال مثله.

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : «يريد كل دابّة على الأرض» (٢).

فإن قيل : ما الوجه في تخصيص الملائكة ، والدواب بالذكر؟.

فالجواب من وجهين :

الأول : أنّه تعالى بيّن في آية الظلال أن الجمادات بأسرها منقادة لله ـ سبحانه وتعالى ـ وبين بهذه الآية أنّ الحيوانات بأسرها منقادة لله ـ تعالى ـ لأنّ أخسّها الدوابّ ، وأشرفها الملائكة ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فلما بين في أخسها ، وفي أشرفها كونها منقادة خاضعة لله ـ تعالى ـ كان ذلك دليلا على أنها بأسرها منقادة خاضعة لله تعالى.

الثاني : قال حكماء الإسلام : الدابّة : اشتقاقها من الدّبيب ، والدبيب عبارة عن الحركة الجسمانيّة ؛ فالدابة اسم لكلّ حيوان يتحرك ويدبّ ، فلما ميّز الله الملائكة عن الدابة ؛ علمنا أنّها ليست مما يدبّ ؛ بل هي أرواح محضة مجردة ، وأيضا فإن الطيران بالجناح مغاير للدبيب ؛ لقوله (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨].

(وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) يجوز أن تكون الجملة استئنافا أخبر عنهم بذلك ، وأن يكون حالا من فاعل «يسجد».

قوله «يخافون» فيها وجهان :

أن تكون مفسرة لعدم استكبارهم ، كأنه قيل : ما لهم يستكبرون؟ فأجيب بذلك ، ويحتمل أن يكون حالا من فاعل (لا يَسْتَكْبِرُونَ) ، ومعنى (يَخافُونَ رَبَّهُمْ) ، أي : عقابه.

قوله : (مِنْ فَوْقِهِمْ) يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أنه يتعلق ب «يخافون» ، أي : يخافون عذاب ربهم كائنا من فوقهم فقوله «من فوقهم» صفة للمضاف ، وهو عذاب ، وهي صفة كاشفة ؛ لأن العذاب إنّما ينزل من فوق.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٨٣.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ٣٦.

٧٣

الثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من «ربّهم» ، أي : يخافون ربّهم عاليا عليهم علوّ الرتبة والقدرة قاهرا لهم ، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) [الأنعام : ١٨].

فصل دلالة الآية على عصمة الملائكة

دلت الآية على عصمة الملائكة عن جميع الذنوب ؛ لأن قوله (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) يدلّ على أنهم منقادون لخالقهم ، وأنهم ما خالفوه في أمر من الأمور ، كقوله (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) [مريم : ٦٣] ، وقوله : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء : ٢٧] ، وكذلك قوله ـ جل وعز ـ : (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم : ٦] وذلك يدل على أنهم فعلوا كلّ ما أمروا به ، فدل على عصمتهم عن كل الذنوب.

فإن قيل : هب أن الآية دلت على أنّهم فعلوا كلّ ما أمروا به ، فلم قلتم : إنها تدلّ على أنهم تركوا كل ما نهوا عنه؟.

فالجواب : أنّ كلّ من نهى عن شيء ، فقد أمر بتركه ؛ وحينئذ يدخل في اللفظ ، فإذا ثبت بهذه الآية كون الملائكة معصومين من كلّ الذنوب ، وثبت أنّ إبليس ما كان معصوما من الذنوب ، بل كان كافرا ؛ لزم القطع بأنّ إبليس ما كان من الملائكة ، وأيضا : فإنه ـ تعالى ـ قال في صفة الملائكة : (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) ، ثم قال عزوجل لإبليس (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ (١) مِنَ الْعالِينَ) [ص : ٧٥] وقال : (فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) [الأعراف : ١٣] وثبت أنّ الملائكة لا يستكبرون ، وثبت أنّ إبليس تكبّر ، واستكبر ، فوجب أن لا يكون من الملائكة.

وللخصم أن يجيب بأنّ إبليس لو لم يكن من الملائكة ، لما ذمّ على تركه المعهود من ترك مخالفة الأمر ، ومن الاستكبار ، فلما خالف الأمر ، واستكبر ؛ خرج من حيّز الملائكة ، ولعن ، وطرد ؛ لأنه خالف المعهود من حاله.

قال ابن الخطيب ـ رحمه‌الله ـ «ولما ثبت بهذه الآية وجوب عصمة الملائكة ، ثبت أنّ القصة الخبيثة التي يذكرونها في حقّ هاروت وماروت باطلة ، فإن الله ـ تبارك وتعالى ـ وهو أصدق القائلين لما شهد في هذه الآية على عصمة الملائكة وبراءتهم من كل ذنب ؛ وجب القطع بأن تلك القصة باطلة كاذبة».

واحتجّ الطاعنون في عصمة الملائكة بهذه الآية فقالوا : إنّ الله ـ تعالى ـ وصفهم بالخوف ، ولو لا أنهم يجوّزون من أنفسهم الإقدام على الذنوب ، وإلّا لم يحصل الخوف.

والجواب من وجهين :

الأول : أنه ـ تعالى ـ حذّرهم من العقاب ؛ فقال (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٢٩] فللخوف من العذاب يتركون الذنب.

٧٤

الثاني : أن ذلك الخوف خوف الإجلال ؛ هكذا نقل عن ابن عباس ؛ كقوله تعالى (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] وكقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنّي لأخشاكم لله» حين قالوا له وقد بكى : أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟.

وهذا يدلّ على أنه كلّما كانت معرفة الله أتمّ ، كان الخوف منه أعظم. وهذا الخوف لا يكون إلا خوف الإجلال والكبرياء (١).

فصل في استدلال المشبهة بالآية والرد عليهم

استدل المشبهة بقوله تعالى : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) على أنه ـ تعالى ـ فوقهم بالذات.

والجواب : أن معناه : يخافون ربّهم ؛ من أن ينزل عليهم العذاب من فوقهم ، وإذا احتمل اللفظ هذا المعنى ؛ سقط استدلالهم ، وأيضا يجب حمل هذه الفوقية على الفوقية بالقدرة ، والقهر والغلبة ؛ لقوله تعالى : (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) [الأعراف : ١٢٧].

ويقوّي هذا الوجه أنه تعالى قال : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) فوجب أن يكون المقتضي لخوفهم هو كون ربّهم فوقهم ؛ لأنّ الحكم المرتب على وصف يشعر بكون ذلك الحكم معلّلا بذلك الوصف ، وهذا التعليل ، إنّما يصح إذا كان المراد بالفوقية ، القهر والقدرة ؛ لأنّها هي الموجبة للخوف ، وأما الفوقية بالجهة ، والمكان ، فلا توجب الخوف ؛ لأنّ حارس البيت فوق الملك بالمكان والجهة مع أنّه أخسّ عبيده.

فصل في أن الملك أفضل من البشر

تمسك قوم بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر من وجوه :

الأول : قوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ) وقد تقدم أنّ تخصيص هذين النوعين بالذكر ، إنّما يحسن إذا كان أحد الطرفين أخسّ المراتب ، وكان الطرف الثاني أشرفها ، حتّى يكون ذكر هذين الطرفين منبها على الباقي ، وإذا كان كذلك ، وجب أن يكون الملائكة أشرف خلق الله ـ عزوجل ـ.

الثاني : أن قوله (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) يدلّ على أنه ليس في قلوبهم تكبر ، وترفع ، وقوله تعالى : (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) يدل على أنّ أعمالهم خالية عن الذنب ، والمعصية ، فمجموع هذين الكلامين يدلّ على أنّ بواطنهم ، وظواهرهم ، مبرأة عن الأخلاق الفاسدة ، والأفعال الباطلة ، وأما البشر ، فليسوا كذلك ويدلّ عليه القرآن والخبر.

أما القرآن ، فقوله تعالى : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) [عبس : ٢١] وهذا الحكم عامّ في الإنسان ، وأقلّ مراتبه أن تكون طبيعة الإنسان مقتضية لهذه الأحوال الذّميمة.

__________________

(١) سقط من : ب.

٧٥

وأما الخبر ، فقوله عليه الصلاة والسلام ـ : «ما منّا إلّا وقد عصى أو همّ بمعصية غير يحيى بن زكريّا» (١).

ونعلم بالضرورة أن المبرّأ عن المعصية ، ومن لم يهمّ بها أفضل ممّن عصى ، أو همّ بها.

الثالث : أنّ الله ـ تعالى ـ خلق الملائكة ـ عليهم الصلاة والسلام ـ قبل البشر بأدوار متطاولة ، وأزمان ممتدة ، ثم إنه ـ تعالى ـ وصفهم بالطاعة ، والخضوع ، والخشوع طول هذه المدّة ، وطول العمر مع الطاعة يوجب مزيد الفضيلة لوجهين :

الأول : قوله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : «الشّيخ في قومه كالنّبيّ في أمّته» (٢) فضّل الشيخ على الشابّ ؛ وما ذاك إلّا لأنّه لما كان عمره أطول ، فالظاهر أنّ طاعته أكثر ؛ فكان أفضل.

والثاني : قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» (٣) فلما كان شروع الملائكة في الطاعات قبل شروع البشر فيها ، لزم أن يقال : إنهم هم الذين سنّوا هذه السنة ، وهي طاعة الخالق ، والبشر إنما جاءوا بعدهم ، واستنّوا بسنّتهم ؛ فوجب بمقتضى هذا الخبر أن كلّ ما حصل للبشر من الثواب ،

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ٣٨).

(٢) أخرجه ابن حبان في «المجروحين» (٢ / ٣٦) من طريق عبد الله بن عمر بن غانم الإفريقي عن مالك عن نافع عن ابن عمر به.

قال ابن حبان : عبد الله بن عمر يروي عن مالك ما لم يحدث به قط.

ومن هذا الوجه ذكره ابن الجوزي في «الموضوعات» (١ / ١٨٣) ونقل كلام ابن حبان وتعقبه السيوطي في «اللآلىء» (١ / ١٥٤) فقال : ابن غانم روى له أبو داود وقال الذهبي في «الكاشف» : مستقيم الحديث وهو قاضي إفريقية وقد ورد من حديث أبي رافع قال ابن أبي الفراتي في «جزئه» أنبأنا جدي أبو عمرو ثنا أحمد بن يعقوب القرشي الجرجاني الأموي ثنا عبد الله بن محمد بن سليمان السعدي المروزي ثنا أحمد بن عبد الملك القناطري ثنا إسماعيل بن إبراهيم شيخ لنا عن أبيه عن رافع بن أبي رافع عن أبيه به ، أخرجه الديلمي في «مسند الفردوس» وابن النجار في «تاريخه» وقال الحافظ أبو الفضل العراقي في «تخريج الإحياء» إسناده ضعيف.

وذكره ابن عراق في «تنزيه الشريعة» (١ / ٢٠٧) وقال عن عبد الله بن غانم : وقال الحافظ في «التقريب» وثقه ابن يونس وغيره ، ولم يعرفه أبو حاتم وأفرط ابن حبان في تضعيفه.

والحديث في «تخريج الإحياء» (١ / ٨٣) للحافظ العراقي وقال : أخرجه ابن حبان في «الضعفاء» من حديث ابن عمر وأبو منصور الديلمي في «مسند الفردوس» من حديث أبي رافع بسند ضعيف.

وذكره السخاوي في «المقاصد الحسنة» (٦٠٩) وقال : ولعل البلاء فيه من غير الإفريقي فهو جليل القدر ثقة لا ريب فيه وممن جزم بكونه موضوعا ـ أي الحديث ـ شيخنا ـ أي ابن حجر ـ ومن قبله التقي ابن تيمية.

(٣) أخرجه مسلم (٢ / ٧٠٤ ـ ٧٠٥) كتاب الزكاة : باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة (٦٩ / ١٠١٧) والنسائي (٥ / ٧٥) كتاب الزكاة : باب التحريض على الصدقة (٢٥٥٤).

٧٦

فقد حصل مثله للملائكة ، ولهم ثواب القدر الزائد من الطاعة ؛ فوجب كونهم أفضل.

قوله تعالى : (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) الآية لمّا بين أن كلّ ما سوى الله فهو منقاد لجلاله وكبريائه ، أتبعه في هذه الآية بالنهي عن الشرك ، وبأن كل ما سواه ، فهو ملكه ؛ وأنه غنيّ عن الكل.

قوله تعالى : «اثنين» فيه قولان :

أحدهما : أنه مؤكد ل «إلهين» وعليه أكثر الناس ، و«لا تتّخذوا» على هذا يحتمل أن تكون متعدية لواحد ، وأن تكون متعدية لاثنين ، والثاني منهما محذوف ، أي : لا تتخذوا اثنين إلهين ، وفيه بعد.

وقال أبو البقاء : «هو مفعول ثان». وهذا كالغلط ؛ إذ لا معنى لذلك ألبتة.

وكلام الزمخشريّ هنا يفهم أنّه ليس بتأكيد ؛ فإنه قال : «فإن قلت : إنّما جمعوا بين العدد ، والمعدود ؛ فيما وراء الواحد والاثنين ، فقالوا : عندي رجال ثلاثة ، وأفراس أربعة ؛ لأنّ المعدود عار عن الدّلالة عن العدد الخاص ، فأمّا رجل ورجلان ، وفرس وفرسان ؛ فمعدودان فيهما دلالة على العدد ؛ فلا حاجة إلى أن يقال : رجل واحد ، ورجلان اثنان ، فما وجه قوله تعالى : (إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ)؟.

قلت : الاسم الحامل لمعنى الإفراد ، والتثنية دال على شيئين ، على الجنسية ، والعدد المخصوص ، فإذا أريدت الدلالة على أنّ المعنيّ به منهما ، والذي يساق إليه الحديث هو العدد شفع بما يؤكد العدد ، فدلّ به على القصد إليه ، والعناية به ، ألا ترى أنك لو قلت : (إِنَّما هُوَ إِلهٌ) ، ولم تؤكده بواحد لم يحسن ، وخيّل أنك أثبت الإلهية ، لا الواحدانيّة».

وقال أبو حيّان (١) رحمه‌الله : «لما كان الاسم الموضوع للإفراد ، والتثنية قد يتجوّز فيه ؛ فيراد به [الجنس](٢) ؛ نحو : نعم الرّجل زيد ، ونعم الرّجلان الزيدان. وقول الشاعر : [الوافر]

٣٣١٩ ـ فإنّ النّار بالعودين تذكى

وإنّ الحرب أوّلها الكلام (٣)

أكد الموضوع لهما بالوصف ، فقيل : إلهين اثنين ، وقيل : إله واحد».

فصل

قال ابن الخطيب (٤) : الفائدة في قوله : «اثنين» : أن الشيء إذا كان مستنكرا

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٨٥.

(٢) في ب : التثنية.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٨٥ ، روح المعاني ١٤ / ١٦٢ ، الدر المصون ٤ / ٣٣٤.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ٣٩.

٧٧

مستقبحا ، فإذا أريد المبالغة في التنفير عنه عبر عنه بعبارات كثيرة ليصير توالي تلك العبارات سببا لوقوف العقل على قبحه ، والقول بوجود إلهين مستقبح في العقول ؛ فإنّ أحدا من العقلاء لم يقل بوجود إلهين متساويين في الوجود ، والعدم ، وصفات الكمال فالمقصود من تكرير «اثنين» تأكيد التنفير عنه ، وتوقيف العقل على ما فيه من القبح ، وأيضا فقوله «إلهين» لفظ واحد يدل على أمرين : ثبوت الإله ، وثبوت التعدد.

فإذا قيل : (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ) لم يفهم من هذا اللفظ أنّ النهي ، وقع عن إثبات الإله ، وعن إثبات التعدد ، وعن مجموعهما ، فلما قال : (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) ظهر أن قوله : (لا تَتَّخِذُوا) نهي عن إثبات التعدد فقط ، وأيضا فإنّ التثنية منافية للإلهية ، وتقريره من وجوه :

الأول : أنّا لو فرضنا موجودين ، يكون كل واحد منهما واجبا لذاته ؛ لكانا مشتركين في الوجوب الذاتي ، ومتباينين بالتعيين ، وما به المشاركة ، غير ما به المباينة ؛ فكلّ واحد منهما مركب من جزءين ، وكل مركّب فهو ممكن ؛ فثبت أنّ القول بأن واجب الوجود أكثر من واحد ينفي القول بكونهما واجبي الوجود.

الثاني : أنّا لو فرضنا إلهين ، وحاول أحدهما تحريك جسم ، والآخر تسكينه ؛ امتنع كون أحدهما أولى بالفعل من الثاني ؛ لأنّ الحركة الواحدة والسكون الواحد ، لا يقبل القسمة أصلا ، ولا التفاوت أصلا ؛ وإذا كان كذلك امتنع أن تكون القدرة على أحدهما أكمل من القدرة على الثاني ؛ وإذا ثبت هذا ، امتنع كون إحدى القدرتين أولى بالتأثير من الثانية ، وإذا ثبت هذا ، فإمّا أن يحصل مراد كل منهما ، وهو محال ، أو لا يحصل مراد كلّ واحد منهما ألبتّة ؛ وحينئذ يكون كل واحد منهما عاجزا ؛ والعاجز لا يكون إلها.

فثبت أن كونهما اثنين ينفي كون كل واحد منهما إلها.

الثالث : لو فرضنا إلهين اثنين ، لكان إمّا أن يقدر أحدهما على أن يستر ملكه عن الآخر ، أو لا يقدر ، فإن قدر ؛ فذلك الآخر ضعيف ، وإن لم يقدر ، فهو ضعيف.

الرابع : أن أحدهما : إمّا أن يقوى على مخالفة الآخر ، أو لا يقوى عليه ، فإن لم يقو عليه ، فهو ضعيف ، وإذا قوي عليه ، فالأول المغلوب ضعيف ؛ فثبت أنّ الاثنينيّة والإلهية متضادان.

فالمقصود من قوله (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) هو التنبيه على حصول المنافاة ، والمضادة بين الإلهية ، وبين الاثنينية.

ولما ذكر هذا الكلام قال : (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) ، أي : إنه لمّا دل الدليل على أنّه لا بد للعالم من الإله ، وثبت أنّ القول بوجود إلهين محال ؛ ثبت أنه لا إله إلا الواحد الأحد.

ثم قال (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) وهذا رجوع من الغيبة إلى حضور ، والتقدير : أنه لما ثبت

٧٨

أنّ الإله واحد ، وأنّ المتكلم بهذا الكلام إله ؛ ثبت حينئذ أنّه لا إله للعالم إلّا المتكلم بهذا الكلام ، فحينئذ يحسن منه أن يعدل من الغيبة إلى الحضور ؛ ويقول : (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ).

قوله تعالى : (فَإِيَّايَ) منصوب بفعل مضمر مقدّر بعده ، يفسره هذا الظاهر ، أي : إيّاي ارهبوا فارهبون ، وقدّره ابن عطيّة : ارهبوا إيّاي ، فارهبون.

قال أبو حيّان (١) : وهو ذهول عن القاعدة النحوية ؛ وهي أنّ المفعول إذا كان ضميرا متصلا ، والفعل متعدّ لواحد ، وجب تأخير الفعل ؛ نحو : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة : ٥] ولا يجوز أن يتقدم إلّا في ضرورة ؛ كقوله : [الرجز]

٣٣٢٠ ـ إليك حتّى بلغت إيّاكا (٢)

وقد مرّ تقريره أول البقرة.

وقد يجاب عن ابن عطيّة : بأنه لا يقبح في الأمور التقديريّة ما يقبح في اللفظيّة.

وفي قوله : «إيّاي» التفات من غيبة ؛ وهي قوله (وَقالَ اللهُ) إلى تكلم ، وهو قوله «فإيّاي» ثم التفت إلى الغيبة أيضا ، في قوله تعالى : (وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

فصل

قوله «فارهبون» يفيد الحصر ، وهو أنّه لا يرهب الخلق إلّا منه ، ثم قال : (وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

قال ابن عطية (٣) : «والواو في قوله : (وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) عاطفة على قوله (إِلهٌ واحِدٌ) ، ويجوز أن تكون واو ابتداء».

قال أبو حيّان (٤) : «ولا يقال : واو ابتداء إلّا لواو الحال ، ولا يظهر هنا الحال».

قال شهاب الدين (٥) : وقد يطلقون واو ابتداء ، ويريدون بها واو الاستئناف ؛ أي : التي لم يقصد بها عطف ولا تشريك ، وقد نصّوا على ذلك ؛ فقالوا : قد يؤتى بالواو أول الكلام ، من غير قصد إلى عطف ، واستدلوا على ذلك بإتيانهم بها في أول أشعارهم وهو كثير جدّا.

ومعنى قوله : «عاطفة على قوله : إله واحد» أي : أنها عطفت جملة على مفرد ، فيجب تأويلها بمفرد ؛ لأنها عطفت على الخبر ؛ فيكون خبرا ، ويجوز ـ على كونها عاطفة ـ أن تكون عاطفة على الجملة بأسرها ، وهي قوله تعالى : (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ).

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٨٥.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٤٠٠.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٨٦.

(٥) ينظر : الدر المصون ٤ / ٣٣٥.

٧٩

وكأن ابن عطية ـ رحمه‌الله ـ قصد بواو الابتداء هذا ؛ فإنّها استئنافية.

فصل

قال أهل السنة : هذه الآية تدل على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ؛ لأنّها من جملة ما في السماوات والأرض ، وليس المراد من كونها لله ، أنّها مفعولة لأجله ، ولطاعته ؛ لأنّ فيها المباحات ، والمحظورات التي يؤتى بها ، لغرض الشّهوة ، واللّذة ، لا لغرض الطاعة ؛ فوجب أن يكون المراد من كونها لله تعالى أنّها واقعة بتكوينه وتخليقه.

قوله : (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) حال من «الدّين» والعامل فيها الاستقرار المتضمن الجارّ الواقع خبرا ، والواصب : الدّائم ؛ قال حسّان : [المديد]

٣٣٢١ ـ غيّرته الرّيح تسفي به

وهزيم رعده واصب (١)

وقال أبو الأسود : [الكامل]

٣٣٢٢ ـ لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه

يوما بذمّ الدّهر أجمع واصبا (٢)

والواصب : العليل لمداومة السقم له ؛ قال تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) [الصافات: ٩] أي : دائم ، وقيل : من الوصب ، وهو التّعب ؛ ويكون حينئذ على النسب ، أي : ذا وصب ؛ لأنّ الدّين فيه تكاليف ، ومشاقّ على العباد ؛ فهو كقوله : [المتقارب]

٣٣٢٣ ـ ...........

أضحى فؤادي به فاتنا (٣)

أي : ذا فتون ، وقيل : الواصب : الخالص ، ويقال : وصب الشّيء ، يصب وصوبا ، إذا دام ، ويقال واظب على الشّيء ، وواصب عليه إذا دام ، ومفازة واصبة ، أي : بعيدة ، لا غاية لها.

وقال ابن قتيبة : ليس من أحد يدان له ، ويطاع إلّا انقطع ذلك بسبب في حال الحياة ، أو بالموت إلا الحقّ ـ سبحانه وتعالى ـ فإنّ طاعته دائمة لا تنقطع.

قال ابن الخطيب (٤) : وأقول : الدين قد يعنى به الانقياد ؛ يقال : يا من دانت له الرّقاب ، أي : انقادت لذاته ، أي : وله الدين واصبا ، أي : انقياد كل ما سواه له لازم أبدا ؛

__________________

(١) ينظر : ديوانه (٢٨١) ، البحر المحيط ٥ / ٤٨٤ ، الطبري ١٤ / ١١٨ ، الدر المصون ٤ / ٣٣٤.

(٢) ينظر : تفسير الطبري ١٤ / ٧٤ ، مجاز القرآن (٣٦١١) ، البحر المحيط ٥ / ٤٨٣ ، روح المعاني ١٤٥ / ١٦٤ ، الدر المصون ٤ / ٨٣٣٤

(٣) عجز بيت وصدره :

رخيم الكلام قطيع القيام أمسى فؤادي

وهو لعبد الرحمن بن الحكم بن العاص ، وقيل : لزياد الأعجم. ينظر : اللسان والتاج والصحاح (فتن) ، البحر المحيط ٥ / ٤٨٦ ، المحرر الوجيز ٤ / ١٩٦ ، ١٩٧ ، الدر المصون ٤ / ٣٣٥.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ٤١.

٨٠