اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

في هؤلاء ، كما قضى في أولئك ؛ من تعذيب الظالمين ، والإحسان إلى المؤمنين.

وقيل : تمّ الكلام عند قوله : (كَذلِكَ).

والمعنى : أنه تعالى قال : أمر هؤلاء القوم ، كما وجدهم عليه ذو القرنين ، ثم قال بعده : (وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً) أي : كنّا عالمين بأنّ الأمر كذلك.

قوله : (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) الآية.

و (بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) «بين» هنا يجوز أن يكون ظرفا ، والمفعول محذوف ، أي : بلغ غرضه ومقصوده ، وأن يكون مفعولا به على الاتّساع ، أي : بلغ المكان الحاجز بينهما.

وقرأ (١) ابن كثير ، وأبو عمرو ، بفتح سين «السّدّين» و«سدّا» في هذه السورة ، وحفص فتح الجميع ، أعني موضعي هذه السورة ، وموضعي سورة يس [الآية : ٩] ، وقرأ الأخوان بالفتح في «سدّا» في سورتيه ، وبالضمّ في «السّدّين» والباقون بالضمّ في الجميع ، فقيل : هما بمعنى واحد ، وقيل : المضموم : ما كان من فعل الله تعالى ، والمفتوح ما كان من فعل النّاس ، وهذا مرويّ عن عكرمة ، والكسائيّ ، وأبي عبيد وابن الأنباريّ.

قال الزمخشري : لأنّ السّدّ ، بالضمّ : «فعل» بمعنى «مفعول» أي : هو مما فعله الله ، وخلقه ، والسّدّ ، بالفتح : مصدر حدث يحدثه الناس. وهو مردود : بأنّ السدّين في هذه السورة جبلان ، سدّ ذو القرنين بينهما بسدّ ، فهما من فعل الله ، والسدّ الذي فعله ذو القرنين من فعل المخلوق ، و«سدّا» في يس من فعل الله تعالى ؛ لقوله : «وجعلنا» ومع ذلك قرىء في الجميع ، بالفتح ، والضمّ ، فعلم أنّهما لغتان ؛ كالضّعف ، والضّعف ، والفقر ، والفقر ، وقال الخليل : المضموم اسم ، والمفتوح مصدر ، وهذا هو الاختيار.

فصل في مكان السد

الأظهر : أنّ موضع السدّين في ناحية الشّمال ، وقيل : جبلان بين أرمينيّة ، وأذربيجان.

وقيل : هذا المكان في مقطع أرض التّرك.

وحكى محمد بن جرير الطبريّ في تاريخه : أنّ صاحب أذربيجان أيّام فتحها ، وجّه إنسانا إليه من ناحية الخزر ، فشاهده ، ووصف أنّه بنيان رفيع وراء خندق وثيق منيع ، وذكر ابن خرداذبة في كتابه «المسالك والممالك» أن الواثق بالله رأى في المنام كأنّه فتح هذا الردم ، فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه ، فخرجوا من باب الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه ، فوصفوا أنه بنيان من لبن من حديد مشدود بالنّحاس المذاب ، وعليه باب مقفل ، ثم إنّ ذلك

__________________

(١) ينظر : السبعة ٣٩٩ ، والنشر ٢ / ٣١٥ ، والتيسير ١٤٥ ، والحجة ٤٣١ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٧٠ ، ١٧١ ، وإعراب القراءات ١ / ٤١٧ ، والإتحاف ٢ / ٢٢٥.

٥٦١

الإنسان لمّا حاول الرّجوع ، أخرجهم الدليل إلى البقاع المحاذية لسمرقند.

فصل في مقتضى هذا الخبر

قال أبو الرّيحان (١) البيرونيّ : مقتضى هذا الخبر أنّ موضعه في الربع الشماليّ الغربيّ من المعمورة.

قوله : (يَفْقَهُونَ) : قرأ الأخوان (٢) بضمّ الياء ، وكسر القاف ، من أفقه غيره ، فالمفعول محذوف ، أي : لا يفقهون غيرهم قولا ، والباقون بفتحهما ، أي : لا يفهمون كلام غيرهم ، وهو بمعنى الأول ، وقيل : ليس بمتلازم ؛ إذ قد يفقه الإنسان كلام غيره ، ولا يفقه قوله غيره ، وبالعكس.

فصل في كيفية فهم ذي القرنين كلام أولئك القوم

لمّا بلغ ذو القرنين ما بين السّدين (وَجَدَ مِنْ دُونِهِما) [أي] من ورائهما مجاوزا عنهما «قوما» ، أي : أمّة من الناس (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً).

فإن قيل : كيف فهم ذو القرنين منهم هذا الكلام ، بعد أن وصفهم الله تعالى بقوله : (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً)؟.

فالجواب من وجوه :

أحدها : قيل : كلّم عنهم مترجم (٣) ؛ ويدل عليه قراءة ابن مسعود (٤) : لا يكادون يفقهون قولا ، قال الذين من دونهم : يا ذا القرنين (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ).

وثانيها (٥) : أن قوله : (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) يدلّ على أنّهم قد يفقهون بمشقّة وصعوبة [من إشارة ونحوها](٦).

وثالثها : أنّ «كاد» معناه المقاربة ؛ وعلى هذا ، فلا بدّ من إضمار ، تقديره : لا يكادون يفقهون إلّا بمشقة ؛ من إشارة ونحوها.

قوله : (يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) : قرأ عاصم (٧) بالهمزة الساكنة ، والباقون بألف صريحة ، واختلف في ذلك ؛ فقيل : هما أعجميّان ، لا اشتقاق لهما ، ومنعا من الصرف ؛ للعلميّة

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٤٤.

(٢) ينظر : السبعة ٣٩٩ ، والتيسير ١٤٥ ، والحجة ٤٣١ ، والنشر ٢ / ٣١٥ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٧٢ ، والإتحاف ٢ / ٢٢٥ ، وإعراب القراءات ١ / ٤١٧ ، والبحر ٦ / ١٥٤.

(٣) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٨٠.

(٤) ينظر : تفسير البغوي ٣ / ١٨٠.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٤٥.

(٦) سقط من أ.

(٧) ينظر : السبعة ٣٩٩ ، والنشر ١ / ٣٩٠ ، ٣٩٤ ، والتيسير ١٤٥ ، والحجة ٤٣٣ ، وإعراب القراءات ١ / ٤١٨ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٧٢ ، والإتحاف ٢ / ٢٢٥.

٥٦٢

والعجمة ، ويحتمل أن تكون الهمزة أصلا ، والألف بدلا منها ، أو بالعكس ؛ لأنّ العرب تتلاعب بالأسماء الأعجمية ، وقيل : بل هما عربيّان ، واختلف في اشتقاقهما.

فقال الكسائي : يأجوج : مأخوذ من تأجّج النار ، ولهبها أو شدّة توقّدها ؛ فلسرعتهم في الحركة سمّوا بذلك ، ومأجوج من موج البحر.

وقيل من الأجّ ، وهو الاختلاط أو شدّة الحرّ.

وقال القتيبيّ : من الأجّ ، وهو سرعة العدو ، ومنه قوله : [الطويل]

٣٥٦٦ ـ ...........

تؤجّ كما أجّ الظّليم المنفّر (١)

وقيل : من الأجاج ، وهو الماء المالح الزّعاق.

وقال الخليل : الأجّ : حبّ ؛ كالعدس ، والمجّ : مجّ الرّيق ، فيحتمل أن يكونا مأخوذين منهما ، ووزنهما يفعول ، ومفعول ، وهذا ظاهر على قراءة عاصم ، وأمّا قراءة الباقين ، فيحتمل أن تكون الألف بدلا من الهمزة الساكنة ، إلا أنّ فيه أنّ من هؤلاء من ليس أصله قلب الهمزة الساكنة ، وهم الأكثر ، ولا ضير في ذلك ، ويحتمل أن تكون ألفهما زائدتين ، ووزنهما «فاعول» من يجّ ، ومجّ.

ويحتمل أن يكون ماجوج من «ماج ، يموج» أي : اضطرب ، ومنه الموج ، فوزنه مفعول ، وأصله : موجوج ، قاله أبو حاتم ، وفيه نظر ؛ من حيث ادّعاء قلب حرف العلة ، وهو ساكن ، وشذوذه كشذوذ «طائي» في النّسب إلى طيّىء.

وعلى القول بكونهما عربيّين مشتقّين ، فمنع صرفهما ؛ للعلميّة والتأنيث ؛ بمعنى القبيلة ؛ كما تقدّم في سورة هود ، ومثل هذا الخلاف والتعليل جار في سورة الأنبياء [الآية : ٩٣] ـ عليهم‌السلام ـ والهمزة في يأجوج ومأجوج لغة بني أسد ، وقرأ رؤبة وأبوه (٢) العجاج «آجوج».

فصل في أصل يأجوج ومأجوج

اختلفوا في أنّهم من أيّ الأقوام ، فقال الضحاك (٣) : هم جيل من التّرك.

وقال السديّ : التّرك (٤) : سريّة من يأجوج ومأجوج ، خرجت ، فضرب ذو القرنين السدّ ، فبقيت خارجة ، فجميع الترك منهم.

وعن قتادة (٥) : أنّهم اثنان وعشرون قبيلة ، بنى ذو القرنين السدّ على إحدى وعشرين قبيلة ، وبقيت قبيلة واحدة ، وهم التّرك ، سمّوا بذلك ؛ لأنّهم [تركوا](٦) خارجين.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : البحر ٦ / ١٥٤ ، والدر المصون ٤ / ٤٨٢.

(٣) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٨٠.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) سقط من ب.

٥٦٣

فصل في أجناس البشر

قال أهل التّاريخ : أولاد نوح ثلاثة : سام ، وحام ، ويافث. فسام أبو العرب ، والعجم ، والرّوم.

وحام : أبو الحبشة ، والزّنج ، والنّوبة.

ويافث : أبو التّرك ، والخزر ، والصقالبة ، ويأجوج ومأجوج.

واختلفوا في صفاتهم (١) :

فمن النّاس من وصفهم بقصر القامة ، وصغر الجثّة بكون طول أحدهم شبرا ، ومنهم من يصفهم بطول القامة ، وكبر الجثّة ، فقيل : طول أحدهم مائة وعشرون ذراعا ، ومنهم من طوله وعرضه كذلك ، وأثبتوا لهم مخالب في الأظفار وأضراسا كأضراس السّباع ، ومنهم من يفترش إحدى أذنيه ، ويلتحف بالأخرى.

فصل في إفسادهم

واختلفوا في كيفية إفسادهم (٢) :

فقيل : كانوا يقتلون الناس.

وقيل : كانوا يأكلون لحوم النّاس ، وقيل : كانوا يخرجون أيّام الربيع ولا يتركون لهم شيئا أخضر.

وبالجملة : فلفظ الفساد يحتمل هذه الأقسام.

ثمّ إنّه تعالى حكى عن أهل ما بين السّدين أنّهم قالوا لذي القرنين : (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً) الآية.

قوله : «خرجا» قرأ ابن عامر (٣) «خرجا» هنا وفي المؤمنين [الآية : ٧٢] بسكون الراء ، والأخوان «خراجا» «فخراج» في السورتين بالألف ، والباقون كقراءة ابن عامر في هذه السورة ، والأول في المؤمنين ، وفي الثاني ، وهو «فخراج» كقراءة الأخوين ، فقيل : هما بمعنى واحد كالقول والقوال ، والنّول والنّوال ، وقيل : «الخراج» بالألف ما ضرب على الأرض من الإتاوة كلّ عام ، وبغير الألف بمعنى الجعل ، أي : نعطيك من أموالنا مرّة واحدة ما تستعين به على ذلك ، وقال أبو عمر : الخرج : ما تبرّعت به ، والخراج ما لزمك أداؤه.

__________________

(١) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٨٠ ـ ١٨١ ، والفخر الرازي ٢١ / ١٤٥.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٤٥.

(٣) ينظر : السبعة ٤٠٠ ، والحجة ٤٣٣ ، والنشر ٢ / ٣١٥ ، والتيسير ١٤٦ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٧٣ ، وإعراب القراءات ١ / ٤١٩ ، والإتحاف ٢ / ٢٢٥ ، ٢٢٦.

٥٦٤

قال مكيّ (١) ـ رحمه‌الله ـ : والاختيار ترك الألف ؛ لأنّهم إنما عرضوا عليه : أن يعطوه عطيّة واحدة على بنائه ، لا أن يضرب ذلك عليهم كلّ عام ، وقيل : الخرج : ما كان على الرءوس ، والخراج : ما كان على الأرض ، قاله قطرب يقال : أدّ خرج رأسك ، وخراج أرضك ، قاله ابن الأعرابيّ ، وقيل : الخرج أخصّ ، والخراج أعمّ ، قاله ثعلب ، وقيل : الخرج مصدر ، والخراج : اسم لما يعطى ، ثم قد يطلق على المفعول المصدر ؛ كالخلق ؛ بمعنى المخلوق.

ثم قال : (عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) أي : حاجزا ، فلا يصلون إلينا.

قوله : (ما مَكَّنِّي) : «ما» بمعنى «الذي» وقرأ (٢) ابن كثير : «مكّنني» بإظهار النون ، والباقون بإدغامها في نون الوقاية ؛ للتخفيف.

وهي مرسومة في مصاحف غير مكّة بنون واحدة ، وفي مصاحف مكّة بنونين ، فكلّ وافق مصحفه.

ومعنى الكلام : ما قوّاني عليه ربّي خير من جعلكم ، أي : ما جعلني مكينا من المال الكثير ، خير ممّا تبذلون لي من الخراج ؛ فلا حاجة بي إليه ، كقول سليمان ـ عليه‌السلام ـ : (فَمَا) آتان (اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) [النمل : ٣٦].

قوله : (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) أي : لا أريد المال ، ولكن أعينوني بأيديكم ، وقوّتكم (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً).

والرّدم : هو السدّ ، يقال : ردمت الباب ، أي : سددتّه ، وردمت الثوب : رقعته ؛ لأنه يسدّ موضع الخرق بالرّقع ، والرّدم أكثر من السدّ ؛ من قولهم : ثوب مردم ، أي : وضعت عليه رقاع.

قالوا : وما تلك القوة (٣)؟. قال : فعلة وصنّاع يحسنون البناء والعمل ، والآلة.

قالوا : وما تلك الآلة؟.

قال : (آتُونِي) : قرأ أبو بكر (٤) «ايتوني» بهمزة وصل ؛ من أتى يأتي في الموضعين من هذه السورة ؛ بخلاف عنه في الثاني ، ووافقه حمزة على الثاني ، من غير خلاف عنه ، والباقون بهمزة القطع فيهما.

ف «زبر» على قراءة همزة الوصل منصوبة على إسقاط الخافض ، أي : جيئوني بزبر

__________________

(١) ينظر : المشكل ٢ / ٧٨.

(٢) ينظر : السبعة ٤٠٠ ، والنشر ٢ / ٣١٥ ، والحجة ٤٣٤ ، والتيسير ١٤٦ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤١٩ ، والإتحاف ٢ / ٢٢٦ ، والحجة للقراء السبعة ٢ / ١٧٦.

(٣) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٨٢.

(٤) ينظر : النشر ٢ / ٣١٥ ، والإتحاف ٢ / ٢٢٦ ، والتيسير ١٤٦ ، وإعراب القراءات ١ / ٤٢١ ، والحجة ٤٣٤.

٥٦٥

الحديد ، وفي قراءة قطعها على المفعول الثاني ؛ لأنه يتعدّى بالهمزة إلى اثنين ، وعلى قراءة أبي بكر يحتاج إلى كسر التنوين من «ردما» لالتقاء الساكنين ؛ لأنّ همزة الوصل ، تسقط درجا ، فيقرأ له بكسر التنوين ، وبعده همزة ساكنة هي فاء الكلمة ، وإذا ابتدأت بكلمتي «ائتوني» في قراءته ، وقراءة حمزة ، تبدأ بهمزة مكسورة للوصل ، ثم ياء صريحة ، هي بدل من همزة فاء الكلمة ، وفي الدّرج تسقط همزة الوصل ، فتعود الهمزة ؛ لزوال موجب إبدالها.

والباقون يبتدئون ، ويصلون بهمزة مفتوحة ؛ لأنّها همزة قطع ، ويتركون تنوين «ردما» على حاله من السكون ، وهذا كله ظاهر لأهل النحو ، خفيّ على القراء.

والزّبر : جمع زبرة ، كغرفة وغرف.

و (زُبَرَ الْحَدِيدِ) قطعه.

قال الخليل : الزّبرة من الحديد : القطعة الضخمة.

وقرأ الحسن (١) بضمّ الباء.

قوله : «ساوى» هذه قراءة الجمهور ، وقتادة «سوّى» بالتضعيف ، وعاصم في رواية «سوّي» مبنيّا للمفعول.

وفيه إضمار ، أي : فأتوه بها ، فوضع تلك الزّبر بعضها على بعض (حَتَّى إِذا ساوى) أي سدت ما بين الجبلين إلى أعلاهما.

قوله : «الصّدفين» قرأ (٢) أبو بكر بضم الصاد ، وسكون الدّال ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر بضمهما ، والباقون بفتحهما ، وهذه لغات قرىء بها في السّبع ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وحميد بالفتح والإسكان ، والماجشون بالفتح والضمّ ، وعاصم في رواية بالعكس.

والصّدفان : ناحيتا الجبلين ، وقيل : أن يتقابل جبلان ، وبينهما طريق ، والناحيتان صدفان ؛ لتقابلهما ، وتصادفهما ، من صادفت الرجل ، أي : لاقيته وقابلته ، وقال أبو عبيد : «الصّدف : كل بناء مرتفع ، وقيل : ليس بمعروف ، والفتح لغة تميم ، والضمّ لغة حمير».

فصل في بناء السد

لما أتوه بزبر الحديد ، وضع بعضها على بعض ؛ حتى ساوت ، وسدّت ما بين الجبلين ، ووضع المنافخ عليها ، والحطب ، حتّى إذا صارت كالنّار ، صبّ النّحاس المذاب على الحديد المحمّى ، فالتصق بعضه ببعض ، فصار جبلا صلدا.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٦ / ١٥٥.

(٢) ينظر في قراءاتها : السبعة ٤٠١ ، والتيسير ١٤٦ ، والنشر ٢ / ٣١٥ ، والإتحاف ٢ / ٢٢٧ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٧٧ ، وإعراب القراءات ١ / ٤٢٠.

٥٦٦

وهذه معجزة تامّة ؛ لأنّ هذه الزّبر الكثيرة ، إذا نفخ عليها ؛ حتّى تصير كالنّار ، لم يقدر الحيوان على القرب منها ، والنّفخ عليها لا يكون إلا بالقرب منها ، فكأنّه تعالى صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النّافخين عليها.

قيل : إنّه وضع الحديد على الحطب ، والحطب على الحديد ؛ فصار الحطب في خلال الحديد ، ثمّ نفخوا عليه ؛ حتّى صار نارا ، أفرغ عليه النّحاس المذاب ؛ فدخل في خلال الحديد مكان الحطب ؛ لأنّ النّار أكلت الحطب ؛ فصار النحاس مكان الحطب ؛ حتّى لزم الحديد النّحاس.

قال قتادة (١) : صار كالبرد المحبّر طريقة سوداء وطريقة حمراء.

فصل فيما بين السدين

قال الزمخشريّ : قيل : بعد ما بين السّدين مائة فرسخ.

وروي : عرضه كان خمسين ذراعا ، وارتفاعه مائتي ذراع.

قوله : «قطرا» هو المتنازع فيه ، وهذه الآية أشهر أمثلة النحاة في باب التنازع ، وهي من إعمال الثاني ؛ للحذف من الأول ، والقطر : النّحاس ، أو الرّصاص المذاب ؛ لأنه يقطر.

قوله : (فَمَا اسْطاعُوا) : قرأ (٢) حمزة بتشديد الطاء ، والباقون بتخفيفها ، والوجه في الإدغام ، كما قال أبو عليّ : «لمّا لم يمكن إلقاء حركة [التّاء] على السّين ؛ لئلّا يحرّك ما لا يتحرّك» ـ يعني : أنّ سين «استفعل» لا تتحرّك ـ أدغم مع السّاكن ، وإن لم يكن حرف لين ، وقد قرأت القراء غير حرف من هذا النحو ؛ وقد أنشد سيبويه «ومسحي» يعني في قول الشاعر : [الرجز]

٣٥٦٧ ـ كأنّه بعد كلال الزّاجر

ومسحي مرّ عقاب كاسر (٣)

[يريد «ومسحه»] فأدغم الحاء في الهاء بعد أن قلب الهاء حاء ، وهو عكس قاعدة الإدغام في المتقاربين ، وهذه القراءة قد لحّنها بعض النّحاة ، قال الزجاج (٤) : «من قرأ بذلك ، فهو لاحن مخطىء» وقال أبو عليّ : «هي غير جائزة».

وقرأ الأعشى (٥) ، عن أبي بكر «اصطاعوا» بإبدال السّين صادا ، والأعمش «استطاعوا» كالثانية.

__________________

(١) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٨٢.

(٢) ينظر : السبعة ٤٠١ ، والبحر المحيط ٦ / ١٥٦ ، والتيسير ١٤٦ ، والحجة ٤٣٥ ، والنشر ٢ / ٢٧١.

(٣) ينظر البيت في الكتاب ٤ / ٤٥٠ ، المحتسب ١ / ٦٢ ، العمدة ١ / ١٣٧ ، المخصص ٨ / ١٣٩ ، سر الصناعة ١ / ٦٥ ، اللسان «كسر» ، الدر المصون ٤ / ٤٨٣.

(٤) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٣ / ٣١٢.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ٧٤٨ ، البحر ٦ / ١٥٦ ، الدر المصون ٤ / ٤٨٤.

٥٦٧

فصل

حذفت تاء «استطاعوا» للخفّة ؛ لأنّ التاء قريبة المخرج من الطّاء ، ومعنى «يظهروه» أي : يعلونه من فوق ظهره ؛ لطوله ، وملاسته ، وصلابته ، وثخانته ، ثم قال ذو القرنين : «هذا» إشارة إلى السدّ «رحمة» أي : نعمة من الله ، ورحمة على عباده (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي) أي: القيامة.

وقيل : وقت خروجهم (جَعَلَهُ دَكَّاءَ) أي : جعل السدّ مدكوكا مستويا ، مع وجه الأرض.

قوله : (جَعَلَهُ دَكَّاءَ) : الظاهر أنّ «الجعل» هنا بمعنى «التّصيير» فتكون «دكّاء» مفعولا ثانيا ، وجوّز ابن عطيّة : أن يكون حالا ، و«جعل» بمعنى «خلق» وفيه بعد ؛ لأنه إذ ذاك موجود ، وتقدّم خلاف القراء في «دكّاء» في الأعراف.

قوله : (وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) الوعد هنا مصدر بمعنى «الموعود» أو على بابه.

فصل فيما روي عن يأجوج ومأجوج

روى قتادة (١) ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة ، يرفعه : أنّ يأجوج ومأجوج يحفرونه كلّ يوم ، حتّى إذا كادوا يرون شعاع الشّمس ، قال الذي عليهم : ارجعوا ؛ فستحفرونه غدا ، فيعيده الله كما كان ، حتّى إذا بلغت مدّتهم ، حفروا ؛ حتّى كادوا يرون شعاع الشّمس ، قال الذي عليهم : ارجعوا ، فستحفرونه ، إن شاء الله تعالى غدا ، واستثنى ، فيعودون إليه ، وهو كهيئته حين تركوه ، فيحفرونه ، فيخرجون على النّاس [فيشربون](٢) المياه ، ويتحصّن النّاس في حصونهم ، فيرمون بسهامهم إلى السّماء ، فترجع فيها كهيئة الدّم ، فيقولون : قهرنا أهل الأرض ، وعلونا أهل السّماء ، فيبعث الله عليهم نغفا في أقفائهم ، فيهلكون ، وإنّ دوابّ الأرض لتسمن وتشكر من لحومهم(٣).

وعن النّواس بن سمعان ، قال : ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدّجّال ذات غداة ، فخفّض فيه ورفّع حتّى ظننّاه في طائفة النّخل ، فلمّا رحنا إليه ، عرف ذلك فينا ، فقال : ما شأنكم؟ قلنا : يا رسول الله ، ذكرت الدّجال الغداة ، فخفّضت ، ورفّعت ؛ حتّى ظننّاه في طائفة النّخل ؛ فقال : غير الدّجال أخوفني عليكم ، إن يخرج وأنا فيكم ، فأنا حجيجه دونكم ، وإن يخرج ، ولست فيكم ، فكلّ امرىء حجيج نفسه ، والله خليفتي على كلّ مسلم ؛ إنّه شابّ قطط ، عينه طافية ؛ كأنّي أشبّهه بعبد العزّى بن قطن ، فمن أدركه منكم ، فليقرأ عليه

__________________

(١) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٨٣.

(٢) في ب : فيستقون.

(٣) أخرجه أحمد (٢ / ٥١٠ ـ ٥١١) وابن ماجه (٤٠٨٠) والترمذي (٣١٥١) وابن حبان (١٩٠٨ ـ موارد) والحاكم (٤ / ٤٨٨) وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب إنّما نعرفه من هذا الوجه مثل هذا.

وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

٥٦٨

فواتح سورة الكهف ، إنّه خارج خلّة بين الشّام والعراق ، فعاث يمينا ، وعاث شمالا ؛ يا عباد الله فاثبتوا قلنا : يا رسول الله ، وما لبثه في الأرض؟ قال : أربعون يوما ؛ يوم كسنة ، ويوم كشهر ، ويوم كجمعة ، وسائر أيّامه كأيّامكم ، قلنا : يا رسول الله ، فذلك اليوم الذي كسنة ، يكفينا فيه صلاة يوم؟ قال : لا ، اقدروا له قدره ، قلنا : يا رسول الله ، وما إسراعه في الأرض؟ قال : كالغيث استدبرته الرّيح ، فيأتي على القوم ، فيدعوهم ، فيؤمنون به ، ويستجيبون له ، فيأمر السّماء ، فتمطر ، والأرض فتنبت ، وتروح عليهم سارحتهم ، أطول ما كانت ذرى ، وأسبغه ضروعا ، وأمدّه خواصر ، ثمّ يأتي القوم ، فيدعوهم ، فيردّون عليه قوله ، قال : فينصرف عنهم ، فيصبحون ممحلين ، ليس بأيديهم شيء من أموالهم ، ويمرّ بالخربة ، فيقول لها : أخرجي كنوزك ، فتتبعه كنوزها ؛ كيعاسيب النّحل ، ثمّ يدعو رجلا ممتلئا شبابا ، فيضربه بالسّيف ، فيقطعه جزلتين رمية الغرض ، ثمّ يدعوه ، فيقبل ، يتهلّل وجهه ؛ يضحك ، فبينما هو كذلك ؛ إذ بعث الله عيسى ابن مريم المسيح ـ عليه‌السلام ـ فينزل عند المنارة البيضاء شرقيّ دمشق ، بين مهرودتين واضعا كفّيه على أجنحة ملكين ، إذا طأطأ رأسه ، قطر ، وإذا رفعه ؛ تحدّر منه مثل جمان اللؤلؤ ، فلا يحلّ للكافر يجد ريح نفسه إلّا مات ، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه حتّى يدركه بباب لدّ ، فيقتله ، ثمّ يأتي عيسى قوم قد عصمهم الله منه ، فيمسح عن وجوههم ، ويحدّثهم بدرجاتهم في الجنّة ، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله تعالى إلى عيسى : إنّي قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم ، فحرّز عبادي إلى الطّور ، ويبعث الله يأجوج ومأجوج ، وهم من كلّ حدب ينسلون ، فيمرّ أوائلهم على بحيرة «طبريّة» فيشربون ما فيها ، ويمرّ آخرهم ، فيقولون : لقد كان بهذه مرّة ماء ، ويحصر نبي الله وأصحابه حتى يكون رأس الثّور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم ، فيرغب نبيّ الله عيسى وأصحابه إلى الله ، فيرسل الله تعالى عليهم النّغف في رقابهم ، فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ثمّ يهبط نبيّ الله وأصحابه إلى الأرض ، فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم ، فيرغب نبيّ الله عيسى وأصحابه إلى الله ، فيرسل الله عليهم طيرا ؛ كأعناق البخت ، فتحملهم ، فتطرحهم حيث شاء الله ، ثمّ يرسل الله مطرا ، لا يكنّ منه بيت مدر ، ولا وبر ، فيغسل الأرض ، حتّى يتركها كالزّلقة ، ثمّ يقال للأرض : أنبتي ثمرتك ، وردّي بركتك ، فيومئذ : تأكل العصابة الرّمانة ، ويستظلّون بقحفها ، ويبارك في الرّسل ، حتّى إنّ اللقحة من الإبل ، لتكفي الفئام من النّاس ، وبينما هم كذلك ؛ إذ بعث الله ريحا طيبة ، فتأخذهم تحت آباطهم ، فتقبض روح كلّ مؤمن ، وكلّ مسلم ، ويبقى شرار النّاس يتهارجون فيها تهارج الحمر ، فعليهم تقوم السّاعة (١).

__________________

(١) أخرجه مسلم ٤ / ٢٢٥٠ ـ ٢٢٥٢ ـ ٢٢٥٣ ـ ٢٢٥٤ ـ ٢٢٥٥ كتاب الفتن : باب ذكر الدجال (١١٠ ـ ٢٩٣٧) ، (١١١ ـ ٢٩٣٧).

٥٦٩

قوله : (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) الآية.

قيل : هذا عند فتح السّد ، وتركنا يأجوج ومأجوج يموج بعضهم في بعض ، أي : يزدحمون كموج الماء ، ويختلط بعضهم في بعض ؛ لكثرتهم.

وقيل : هذا عند قيام السّاعة يدخل الخلق بعضهم في بعض ، ويختلط إنسيّهم بجنّيّهم حيارى.

قوله : «يومئذ» التنوين عوض من جملة محذوفة ، تقديرها : يوم إذ جاء وعد ربّي ، أو إذ حجز السدّ بينهم.

قوله : (يَمُوجُ) : مفعول ثان ل «تركنا» والضمير في «بعضهم» يعود على (يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) أو على سائر الخلق.

قوله : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ). لأنّ خروج يأجوج ومأجوج من علامات قرب السّاعة ، وتقدّم الكلام في الصور ، (فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) في صعيد واحد.

«وعرضنا» : أبرزنا.

(جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً) حتّى يشاهدوها عيانا.

قوله : (الَّذِينَ كانَتْ) : يجوز أن يكون مجرورا بدلا من «للكافرين» أو بيانا ، أو نعتا ، وأن يكون منصوبا بإضمار «أذمّ» وأن يكون مرفوعا خبر ابتداء مضمر.

ومعنى (كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ) : أي : [غشاء] ، والغطاء : ما يغطّي الشيء ويستره (عَنْ ذِكْرِي) : عن الإيمان والقرآن ، والمراد منه : شدّة انصرافهم عن قبول الحقّ ، وعن الهدى والبيان ، وقيل : عن رؤية الدلائل : (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً).

أي : سمع الصّوت ، أي : القبول والإيمان ؛ لغلبة الشّقاء عليهم.

وقيل : لا يعقلون ، وهذا قوله : (فَعَمُوا وَصَمُّوا) [المائدة : ٧١].

أما العمى ، فهو قوله : (كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) وأما الصّمم فقوله : (لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً).

أي : لا يقدرون [أن يسمعوا] من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يتلوه عليهم ؛ لشدّة عداوتهم له.

قوله تعالى : (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً)(١٠٦)

قوله تعالى : (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية.

لمّا بيّن إعراض الكافرين عن الذّكر ، وعن سماع ما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتبعه بقوله : (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا).

٥٧٠

والمعنى : أفظنّ الذين كفروا أن ينتفعوا بما عبدوه.

والمراد بقوله : (أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ) : أربابا ، يريد بالعباد : عيسى ، والملائكة.

وقيل : هم الشياطين يتولّونهم ويطيعونهم.

وقيل : هم الأصنام ، سمّاها عبادا ؛ كقوله : (عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) [الأعراف : ١٩٤]. وهو استفهام توبيخ.

قوله : (أَفَحَسِبَ) : العامة على كسر السين ، وفتح الباء ؛ فعلا ماضيا ، و (أَنْ يَتَّخِذُوا) سادّ مسدّ المفعولين ، وقرأ (١) أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ، وزيد بن عليّ ، وابن كثير ، ويحيى بن يعمر في آخرين ، بسكون السين ، ورفع الباء على الابتداء ، والخبر «أن» وما في حيّزها.

والمعنى : أفكافيهم ، وحسيبهم أن يتّخذوا كذا وكذا.

وقال الزمخشريّ : «أو على الفعل والفاعل ؛ لأن اسم الفاعل ، إذا اعتمد على الهمزة ، ساوى الفعل في العمل ؛ كقولك : «أقائم الزّيدان» وهي قراءة محكيّة جيّدة».

قال أبو حيّان : «والذي يظهر أنّ هذا الإعراب لا يجوز ؛ لأنّ حسبا ليس باسم فاعل ، فيعمل ، ولا يلزم من تفسير شيء بشيء : أن يجرى عليه أحكامه ، وقد ذكر سيبويه (٢) أشياء من الصّفات (٣) التي تجري مجرى الأسماء ، وأنّ الوجه فيها الرفع ، ثم قال : وذلك نحو : مررت برجل خير منه أبوه ، ومررت برجل سواء عليه الخير والشر ، ومررت برجل أب له صاحبه ، ومررت برجل حسبك من رجل هو ، ومررت برجل أيّما رجل هو». ثم قال أبو حيّان : «ولا يبعد أن يرفع به الظاهر ، فقد أجازوا في «مررت برجل أبي عشرة أبوه» أن يرتفع «أبوه» ب «أبي عشرة» لأنه في معنى والد عشرة».

قوله : «نزلا» فيه أوجه :

أحدها : أنه منصوب على الحال ، جمع «نازل» نحو شارف ، وشرف.

الثاني : أنه اسم موضع النّزول. قال ابن عباس : «مثواهم» وهو قول الزجاج.

الثالث : أنّه اسم ما يعدّ للنازلين من الضّيوف ، أي : معدة لهم ؛ كالمنزل للضّيف ، ويكون على سبيل التهكّم بهم ، كقوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : ٢١] وقوله : [الوافر]

__________________

(١) ينظر : الإتحاف ٢ / ٢٢٨ ، والمحتسب ٢ / ٣٤ ، والقرطبي ١١ / ٤٤ والبحر ٦ / ١٥٧ ، والدر المصون ٤ / ٤٨٤.

(٢) ينظر : الكتاب ١ / ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

(٣) في ب : الأسماء.

٥٧١

٣٥٦٨ ـ ...........

تحيّة بينهم ضرب وجيع (١)

ونصبه على هذين الوجهين مفعولا به ، أي : صيّرنا.

وأبو حيوة (٢) «نزلا» بسكون الزاي ، وهو تخفيف الشّهيرة.

قوله : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً).

يعني : الّذين أتبعوا أنفسهم في عمل يرجون به فضلا ونوالا ، فنالوا هلاكا وبوارا.

قال ابن عبّاس ، وسعد بن أبي وقّاص : هم اليهود والنّصارى (٣).

وهو قول مجاهد.

وقيل : هم الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في الصّوامع (٤) ؛ كقوله تعالى : (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) [الغاشية : ٣].

وقال عليّ بن أبي طالب : هم أهل حروراء (٥).

قوله : (أَعْمالاً) : تمييز للأخسرين ؛ وجمع لاختلاف الأنواع.

قوله : (الَّذِينَ ضَلَ) : يجوز فيه الجر نعتا ، وبدلا ، وبيانا ، والنصب على الذمّ ، والرفع على خبر ابتداء مضمر.

ومعنى خسرانهم أن مثلهم كمن يشتري سلعة يرجو منها ربحا ، فخسر وخاب سعيه ، كذلك أعمال هؤلاء الذين أتبعوا أنفسهم مع ضلالهم ، فبطل جدّهم واجتهادهم في الحياة الدنيا ، (وَهُمْ يَحْسَبُونَ) يظنون (أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) أي : عملا.

قوله : (يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ) يسمّى في البديع «تجنيس التّصحيف» وتجنيس الخطّ ، وهذا من أحسنه ، وقال البحتريّ : [الطويل]

٣٥٦٩ ـ ولم يكن المغترّ بالله إذ شرى

ليعجز والمعتزّ بالله طالبه (٦)

فالأول : من الغرور ، والثاني : من العزّ ، ومن أحسن ما جاء في تجنيس التصحيف (٧) قوله : [السريع]

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٦ / ١٥٧ ، والدر المصون ٤ / ٤٨٥.

(٣) أخرجه البخاري (٨ / ٢٧٨) كتاب التفسير : باب قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا رقم (٤٧٢٨) والطبري (٨ / ٢٩٤) وآخرون.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢٩٣). أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢٩٤).

(٥) ينظر : ديوانه ١ / ٨٧ ، والبحر المحيط ٦ / ١٥٨ ، وروح المعاني ١٦ / ٤٨ ، والدر المصون ٤ / ٤٨٥.

(٦) جناس التصحيف أن يتفقا لفظا ويختلفا نطقا كالعذل والعدل :

وسمي بذلك لتشابه اللفظين في الخط من التصحيف وهو التشابه خطا ، وبعضهم يسميه جناس الخط ومثله أيضا نحو التخلي ثم التحلي ثم التجلي ؛ الأول بالخاء المعجمة من الخلو والثاني بالمهملة من الحلي بمعنى الزينة والثالث بالجيم بمعنى الكشف عن بعض الخفايا وتلقين بعض الأسرار لمن هم أهل لها والتصحيف عند أهل التحقيق كما هو عند علماء العربية عامة وعلماء البلاغة خاصة : تغيير اللفظ ـ

٥٧٢

٣٥٧٠ ـ سقينني ريّي وغنّينني

بحت بحبّي حين بنّ الخرد (١)

يصحف بنحو : [السريع]

شقيتني ربّي وعنّيتني

بحبّ يحيى ختن ابن الجرد

وفي بعض رسائل الفصحاء :

قيل قبل نداك ثراك ، عبد عند رجاك رجاك ، آمل أمّك.

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ).

لقاء الله عبارة عن رؤيته ؛ لأنّه يقال : لقيت فلانا ، أي : رأيته.

فإن قيل : اللّقيا عبارة عن الوصول ؛ قال الله تعالى : (فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) [القمر : ١٢].

وذلك في حقّ الله محال ؛ فوجب حمله على ثواب الله.

فالجواب : أن لفظ اللقاء ، وإن كان في الأصل عبارة عن الوصول (٢) إلّا أنّ استعماله في الرؤية مجاز ظاهر مشهور ، ومن قال بأنّ المراد منه : لقاء ثواب الله ، فذلك لا يتمّ إلا بالإضمار ، وحمل اللفظ على المجاز المتعارف المشهور أولى من حمله على ما يحتاج إلى الإضمار.

واستدلّت المعتزلة بقوله تعالى : (فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) على أن الإحباط حقّ ، وقد تقدّم ذلك في البقرة وقرأ ابن عباس (٣) «فحبطت» بفتح الباء والعامة بكسرها.

قوله : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً).

قرأ العامة «نقيم» بنون العظمة ، من «أقام» ومجاهد وعبيد بن عمير : «فلا يقيم» بياء الغيبة ، لتقدّم قوله : (بِآياتِ رَبِّهِمْ) فالضمير يعود عليه ، ومجاهد أيض ا «فلا يقوم لهم» مضارع «قام» متعدّ ، كذا قال أبو حيّان ، والأحسن من هذا : أن تعرب هذه القراءة على ما قاله أبو البقاء (٤) : أن يجعل فاعل «يقوم» «صنيعهم» أو «سعيهم» وينتصب حينئذ

__________________

ـ حتى يغير المعنى المراد من الموضع ، أما التحريف فهو العدول بالكلام عن جهته. وقد ورد عن بعض العلماء قوله : لا تأخذوا القرآن من مصحفي ولا العلم من صحفي. والصحفي هو الذي يتلقى العلم من الكتب أو ممن تعلّم منها دون الرجوع إلى مرشد أمين وهو العالم الذي يقرؤه ويلقنه.

انظر : عقود الجمان ص ١٥٤ ، حواشي التلخيص ص ٤ و ٤٦٢ حسن الصنيع ص ٢١٢ ، شرح السعد ص ٣ و ١٢٩ الفوائد المشوق ص ٢٣٣.

(١) ينظر البيت في البحر ٦ / ١٥٨ ، الدر المصون ٤ / ٤٨٥.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٤٨.

(٣) ينظر في قراءاتها : الشواذ ٨ ، والكشاف ٢ / ٢٤٩ ، والقرطبي ١١ / ٤٥ ، والبحر ٦ / ١٥٨ ، والدر المصون ٤ / ٤٨٥.

(٤) ينظر : الإملاء ٢ / ١٠٩.

٥٧٣

«وزنا» على أحد وجهين : إمّا على الحال ، وإمّا على التّمييز.

فصل في معنى الآية

المعنى : أنّا نزدري بهم ، وليس لهم عندنا وزن ومقدار ، تقول العرب : ما لفلان عندي وزن ، أي : قدر ؛ لخسّته ، وروى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّه ليأتي يوم القيامة الرّجل العظيم السّمين ، فلا يزن عند الله جناح بعوضة» وقال : «اقرءوا : فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا».

وقيل : المعنى : فلا نقيم لهم يوم القيامة ميزانا ؛ لأنّ الميزان إنما يوضع ؛ لأجل الحسنات والسّيئات من الموحّدين ؛ لتمييز مقدار الطّاعات ، ومقدار السّيئات.

قال أبو سعيد الخدريّ (١) : يأتي ناس بأعمال يوم القيامة من عندهم في التّعظيم كجبال تهامة ، فإذا وزنوها ، لم تزن شيئا ، فذلك قوله : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً).

وقال القاضي (٢) : إنّ من غلبت معاصيه ، صارت طاعاته (٣) كأن لم تكن ، فلم يدخل في الوزن شيء من طاعته ، وهذا التفسير بناه على قول الإحباط والتكفير.

قوله : (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ) : فيه أوجه كثيرة :

الأول : أن يكون «ذلك» خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر ذلك والمعنى : الذي ذكرت من حبوط أعمالهم وخسّة أقدارهم و (جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ) جملة برأسها.

الثاني : أن يكون «ذلك» مبتدأ أوّل ، و«جزاؤهم» مبتدأ ثان ، و«جهنّم» خبره ، وهو [وخبره] خبر الأول ، والعائد محذوف ، أي : جزاؤهم به ، كذا قال أبو البقاء (٤) ، فالهاء في «به» تعود على «ذلك» و«ذلك» مشار به إلى عدم إقامة الوزن.

قال أبو حيّان : «ويحتاج هذا التّوجيه إلى نظر» قال شهاب الدين : إن عنى النّظر من حيث الصّناعة ، فمسلّم ، ووجه النظر : أن العائد حذف من غير مسوّغ إلّا بتكلف ؛ فإنّ العائد على المبتدأ ، إذا كان مجرورا ، لا يحذف إلّا إذا جر بحرف تبعيض ، أو ظرفية ، أو يجرّ عائدا جرّ قبله بحرف ، جرّ به المحذوف ؛ كقوله : [الطويل]

٣٥٧١ ـ أصخ فالّذي تدعى به أنت مفلح

 ........... (٥)

أي : مفلح به ، وإن عنى من حيث المعنى ، فهو معنى جيد.

الثالث : أن يكون «ذلك» مبتدأ ، و«جزاؤهم» بدل ، أو بيان ، و«جهنّم» خبره.

__________________

(١) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٨٦.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٤٨.

(٣) في ب : ما فعله من الطاعات.

(٤) ينظر : الإملاء ٢ / ١٠٩.

(٥) ينظر البيت في روح المعاني ١٦ / ٤٥ ، حاشية الشهاب ٦ / ١٣٦ ، الدر المصون ٤ / ٤٨٦.

٥٧٤

الرابع : أن يكون «ذلك» مبتدأ أيضا ، و«جزاؤهم» خبره ، و«جهنّم» بدل ، أو بيان ، أو خبر ابتداء مضمر.

الخامس : أن يجعل «ذلك» مبتدأ ، و«جزاؤهم» بدل ، أو بيان ، و«جهنّم» خبر ابتداء مضمر ، و (بِما كَفَرُوا) خبر الأول ، والجملة اعتراض.

السادس : أن يكون «ذلك» مبتدأ ، والجارّ : الخبر ، و (جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ) جملة معترضة ، وفيه بعد.

السابع : أن يكون «ذلك» إشارة إلى جماعة ، وهم مذكورون في قوله : «بالأخسرين» ، وأشير إلى الجمع ؛ كإشارة الواحد ؛ كأنه قيل : أولئك جزاؤهم جهنّم ، والإعراب المتقدم يعود على هذا التقدير.

ومعنى الكلام : أنّ ذلك الجزاء جزاء على مجموع أمرين : كفرهم ، واتّخاذهم آيات الله ورسله هزوا ، فلم يقتصروا على الردّ عليهم وتكذيبهم ، حتّى استهزءوا بهم.

قوله : «واتّخذوا» فيه وجهان :

أحدهما : أنه عطف على «كفروا» فيكون محلّه الرفع ؛ لعطفه على خبر «إنّ».

الثاني : أنه مستأنف ، فلا محلّ له ، والباء في قوله : (بِما كَفَرُوا) لا يجوز تعلّقها ب «جزاؤهم» للفصل بين المصدر ومعموله.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)(١١٠)

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الآية.

لما ذكر وعيد الكفّار ، ونزلهم ، أتبعه بوعيد المؤمنين ونزلهم. قال قتادة : الفردوس : وسط الجنّة ، وأفضلها.

وعن كعب : ليس في الجنان أعلى من جنّة الفردوس ، وفيها الآمرون بالمعروف ، والنّاهون عن المنكر.

وعن مجاهد : الفردوس : هو البستان ، بالرومية.

وقال عكرمة : هو الجنّة بلسان الحبش.

وقال الزجاج : هو بالروميّة منقول إلى لفظ العربيّة.

وقال الضحاك : هي الجنّة الملتفّة الأشجار (١).

وقيل : هي التي تنبت ضروبا من النّبات.

__________________

(١) ذكر هذه الآثار البغوي في تفسيره ٣ / ١٨٦.

٥٧٥

وقيل : الفردوس : الجنّة من الكرم خاصّة.

وقيل : ما كان عاليها كرما.

وقيل : كلّ ما حوّط عليه ، فهو فردوس.

وقال المبرّد : الفردوس فيما سمعت من العرب : الشّجر الملتفّ ، والأغلب عليه : أن يكون من العنب ، واختلفوا فيه :

فقيل : هو عربيّ ، وقيل : هو أعجميّ ، وقيل : هو روميّ ، أو فارسيّ ، أو سريانيّ ، قيل: ولم يسمع في كلام العرب إلّا في قول (١) حسّان : [الطويل]

٣٥٧٢ ـ وإنّ ثواب الله كلّ موحّد

جنان من الفردوس فيها يخلّد (٢)

وهذا ليس بصحيح ؛ لأنّه سمع في شعر أميّة بن أبي الصّلت : [البسيط]

٣٥٧٣ ـ كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة

فيها الفراديس ثمّ الثّوم والبصل (٣)

ويقال : كرم مفردس ، أي : معرّش ، ولهذا سمّيت الروضة التي دون اليمامة فردوسا.

وإضافة جنّات إلى الفردوس إضافة تبيين ، وجمعه فراديس ؛ قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «في الجنّة مائة درجة ما بين كلّ درجة مسيرة مائة عام ، والفردوس أعلاها درجة ، وفيها الأنهار الأربعة ، والفردوس من فوقها ، فإذا سألتم الله تعالى ، فاسألوه الفردوس ؛ فإنّ فوقها عرش الرّحمن ، ومنها تفجّر أنهار الجنّة» (٤).

قوله : «نزلا» : فيه ما تقدّم : من كونه اسم مكان النزول ، أو ما يعدّ للضّيف ، وفي نصبه وجهان :

أحدهما : أنه خبر «كانت» و«لهم» متعلّق بمحذوف على أنّه حال من «نزلا» أو على البيان ، أو ب «كانت» عند من يرى ذلك.

والثاني : أنه حال من «جنّات» أي : ذوات نزل ، والخبر الجارّ.

وإذا قلنا بأنّ النّزل هو ما يهيّأ للنّازل ، فالمعنى : كانت لهم ثمار جنّات الفردوس ، ونعيمها نزلا ، ومعنى (كانَتْ لَهُمْ) أي : في علم الله قبل أن يخلقوا.

__________________

(١) في ب : بيت.

(٢) ينظر البيت في البحر المحيط ٦ / ١٥٩ ، الأشموني ٢ / ٢٨٨ ، الشذور ١٣٤ ، الهمع ٢ / ٩٥ ، الدرر ٢ / ١٢٨ ، الدر المصون ٤ / ٤٨٨.

(٣) ينظر : ديوانه (٦١) ، والبحر المحيط ٦ / ١٥٩ ، والطبري ١٦ / ٢٩ ، والقرطبي ١١ / ٣٦ ، وروح المعاني ١٦ / ٥٠ ، والدر المصون ٤ / ٤٨٨.

(٤) أخرجه البخاري (٦ / ١٤) كتاب الجهاد : باب درجات المجاهدين حديث (٢٧٩٠) والترمذي (٤ / ٥٨٣) كتاب صفة الجنة باب ما جاء في صفات درجات الجنة حديث (٢٥٣١) من حديث أبي هريرة.

٥٧٦

قوله : (لا يَبْغُونَ) : الجملة حال : إمّا من صاحب «خالدين» وإمّا من الضمير في «خالدين» فتكون حالا متداخلة.

والحول : قيل : مصدر بمعنى «التّحوّل» يقال : حال عن مكانه حولا ؛ فهو مصدر ؛ كالعوج ، والعود ، والصّغر ؛ قال : [الرجز]

٣٥٧٤ ـ لكلّ دولة أجل

ثم يتاح لها حول (١)

والمعنى : لا يطلبون عنها تحوّلا إلى غيرها.

وقال الزجاج (٢) : «هو عند قوم بمعنى الحيلة في التنقّل» وقال ابن عطيّة : «والحول : بمعنى التّحول ؛ قال مجاهد : متحوّلا» وأنشد الرّجز المتقدم ، ثم قال : «وكأنّه اسم جمع ، وكأنّ واحده حوالة» قال شهاب الدين : وهذا غريب ، والمشهور الأول ، والتصحيح في «فعل» هو الكثير ، إن كان مفردا ؛ نحو : «الحول» وإن كان جمعا ، فالعكس ؛ نحو : «ثيرة» و«كبرة».

قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) الآية.

لما ذكر في هذه السورة أنواع الدّلائل والبيّنات ، وشرح فيها أقاصيص الأوّلين ، نبّه على كمال حال القرآن ، فقال : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي).

قال ابن عباس (٣) : قالت اليهود : يا محمد ، تزعم أنّك قد أوتينا الحكمة ، وفي كتابك (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [البقرة : ٢٦٩].

ثم تقول : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٨٥].

فأنزل الله هذه الآية.

وقيل : لمّا نزلت : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) قالت اليهود : أوتينا التوراة ، وفيها علم كلّ شيء ، فأنزل الله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي).

والمداد : اسم لما تمدّ به الدّواة من الحبر ، ولما يمدّ به السّراج من السّليط ، وسمي المداد مدادا ؛ لإمداده الكاتب ، وأصله من الزيادة.

وقال مجاهد : لو كان البحر مدادا للقلم والقلم يكتب «لنفد البحر» أي : ماؤه.

قوله : «تنفد» : قرأ (٤) الأخوان «ينفد» بالياء من تحت ؛ لأنّ التأنيث مجازي ،

__________________

(١) ينظر البيت في البحر ٦ / ١٥٩ ، الدر المصون ٤ / ٤٨٧.

(٢) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٣ / ٣١٥.

(٣) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٨٦.

(٤) ينظر في قراءاتها : السبعة ٤٠٢ ، والحجة ٤٣٦ ، والنشر ٢ / ٣١٦ ، والتيسير ١٤٦ ، والإتحاف ٢ / ٢٢٨ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٨٣ ، وإعراب القراءات ١ / ٤٢٣.

٥٧٧

والباقون بالتاء من فوق ؛ لتأنيث اللفظ ، وقرأ السلميّ ـ ورويت عن أبي عمرو وعاصم ـ «تنفّد» بتشديد الفاء ، وهو مطاوع «نفّد» بالتشديد ؛ نحو : كسّرته ، فتكسّر ، وقراءة الباقين مطاوع «أنفدتّه».

قوله : (وَلَوْ جِئْنا) جوابها محذوف لفهم المعنى ، تقديره : لنفد ، والعامة على «مددا» بفتح الميم ، والأعمش (١) قرأ بكسرها ، ونصبه على التمييز كقوله : [الطويل]

٣٥٧٥ ـ ...........

فإنّ الهوى يكفيكه مثله صبرا (٢)

وقرأ (٣) ابن مسعود ، وابن عبّاس «مدادا» كالأول ، ونصبه على التّمييز أيضا عند أبي البقاء (٤) ، وقال غيره ـ كأبي الفضل الرازيّ ـ : إنه منصوب على المصدر ، بمعنى الإمداد ؛ نحو : (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] قال : والمعنى : ولو أمددناه بمثله إمدادا.

فصل في معنى الآية

المعنى : ولو كان الخلائق يكتبون ، والبحر يمدّهم ، لنفد ما في البحر ، ولم تنفد كلمات ربّي (وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ) أي بمثل ماء البحر في كثرته.

قوله : (مَدَداً) نظيره قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [لقمان : ٢٧].

واستدلّوا بهذه الآية على أنّها صريحة في إثبات كلمات كثيرة لله تعالى.

قال ابن الخطيب (٥) : وأصحابنا حملوا الكلمات على متعلّقات علم الله تعالى.

قال الجبائيّ : وأيضا قوله : (قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) يدلّ على أنّ كلمات الله تعالى ، قد تنفد في الجملة ، وما ثبت عدمه ، امتنع قدمه.

وأيضا قال : (وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً).

وهذا يدلّ على أنه تعالى قادر على أن يجيء بمثل كلامه ، والذي يجيء به يكون محدثا ، والذي يكون المحدث كلامه فهو أيضا محدث.

فالجواب : بأنّ المراد به الألفاظ الدّالّة على تعلّقات تلك الصّفات الأزليّة.

ولمّا بيّن تعالى تمام كلامه أمر محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يسلك طريقة التّواضع ، فقال :

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ).

__________________

(١) ينظر : البحر ٦ / ١٦٠ ، ونسبها إلى الأعرج ، والدر المصون ٤ / ٤٨٧.

(٢) ينظر البيت في البحر المحيط ٦ / ١٦٠ ، روح المعاني ١٦ / ٥٢ والدر المصون ٤ / ٤٨٧.

(٣) ينظر : الإتحاف ٢ / ٢٢٩ ، والمحتسب ٢ / ٣٥ ، والقرطبي ١١ / ٤٦ ، والبحر ١٦٠ ، والدر المصون ٤ / ٤٨٧.

(٤) ينظر : الإملاء ٢ / ١٠٩.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٥٠.

٥٧٨

أي : لا امتياز بيني وبينكم في شيء من الصفات إلّا في أنّ الله تعالى ، أوحى إليّ أنّه لا إله إلّا هو الواحد الأحد.

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : علّم الله ـ عزوجل ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التواضع ، فأمره أن يقرّ ، فيقول : أنا آدميّ مثلكم إلّا أنّي خصصت بالوحي.

قوله : (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) وهو يدلّ على مطلوبين :

أحدهما : أن كلمة «أنّما» تفيد الحصر.

والثاني : كون الإله واحدا.

قوله : (أَنَّما إِلهُكُمْ) : «أنّ» هذه مصدرية ، وإن كانت مكفوفة ب «ما» وهذا المصدر قائم مقام الفاعل ؛ كأنّه قيل : إنّما يوحى إليّ التوحيد.

قوله : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ).

الرّجاء : هو ظنّ المنافع الواصلة ، والخوف : ظنّ المضارّ الواصلة إليه ، فالرّجاء هو الأمل.

وقيل : معنى (يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) أي : يخاف المصير إليه ، فالرجاء يكون بمعنى الخوف ، والأمل جميعا ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٣٥٧٦ ـ فلا كلّ ما ترجو من الخير كائن

ولا كلّ ما ترجو من الشّر واقع

فجمع بين المعنيين ، وأهل السّنة حملوا لقاء الربّ على رؤيته. والمعتزلة حملوه على لقاء ثواب الله.

قوله تعالى : (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً).

قرأ العامة (١) : «ولا يشرك» بالياء من تحت ، عطف نهي على أمر ، وروي عن أبي عمرو «ولا تشرك» بالتاء من فوق ؛ خطابا على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، ثم التفت في قوله (بِعِبادَةِ رَبِّهِ) إلى الأول ، ولو جيء على الالتفات الثاني ، لقيل : «ربّك» والباء سببية ، أي : بسبب. وقيل : بمعنى «في».

فصل في ورود لفظ الشرك ف ي «القرآن الكريم»

قال أبو العبّاس المقري : ورد لفظ «الشّرك» في القرآن بإزاء معنيين :

الأول : بمعنى الشّرك في العمل ؛ كهذه الآية.

الثاني : بمعنى العدل ؛ قال تعالى : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) [النساء : ٣٦] أي : ولا تعدلوا به شيئا.

__________________

(١) ينظر : البحر ٦ / ١٦٠ ، والدر المصون ٤ / ٤٨٧.

٥٧٩

فصل في بيان الشرك الأصغر

قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «أخوف ما أخاف عليكم الشّرك الأصغر ، قالوا : وما الشّرك الأصغر؟ قال : الرّياء» (١).

وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «إنّ الله تعالى يقول : أنا أغنى الشّركاء عن الشّرك ، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري ، فأنا منه بريء ، وهو للّذي عمله» (٢).

وعن أبي الدّرداء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من حفظ عشر آيات من أوّل سورة الكهف ، عصم من فتنة الدّجال» (٣).

وعن أبي الدرداء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ أوّل سورة الكهف ، كانت له نورا من قدميه إلى رأسه ، ومن قرأها ، كانت له نورا من الأرض إلى السّماء» (٤).

وعن سمرة بن جندب ، عن أبيه قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ عشر آيات من الكهف حفظا ، لم يضرّه فتنة الدّجال ، ومن قرأ السّورة كلّها ، دخل الجنّة» (٥).

وعن عبد الله بن أبي فروة ، قال : إنّ رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا أدلّكم على سورة شيّعها سبعون ألف ملك ، حين نزلت ، ملأ عظمها ما بين السّماء والأرض ، ولتاليها مثل ذلك؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : سورة الكهف من قرأها يوم الجمعة ، غفر له إلى الجمعة الأخرى ، وزيادة ثلاثة أيّام ، وأعطي نورا يبلغ السّماء ، ووقي فتنة الدّجال» (٦).

تمّ الجزء الثّاني عشر ، ويليه الجزء الثالث عشر

وأوّله : تفسير سورة مريم

__________________

(١) تقدم. تقدم.

(٢) أخرجه مسلم ١ / ٥٥٥ ، في صلاة المسافرين : باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي (٢٥٧ / ٨٠٩) ، وأخرجه أبو داود (٤٣٢٣) ، وأحمد في المسند ٦ / ٤٤٩ والبيهقي في السنن الكبرى ٣ / ٢٤٩ ، وابن السني في عمل اليوم والليلة (٦٧٠).

(٣) أخرجه في المسند ٣ / ٤٣٩ ، وإسناده ضعيف لضعف زياد بن فائد ، وعزاه الهيثمي في المجمع لأحمد والطبراني ٧ / ٥٢.

(٤) ينظر : تخريج الحديث السابق.

(٥) ذكره القرطبي في تفسيره ١٠ / ٢٢٥. وثبت في أ:

وقد كتبت هذا الجزء من هذا التّفسير العظيم على كتاب الله الكريم المنسوب لابن العادل للوزير ابن الوزير والبحر ابن البحر الهمام العادل مفخر الوزراء الكرام ، عمدة أولي المجد والاحترام ، وأمير الحجّ إلى بيت الله الحرام ، جناب أسعد باشا ، جمع الله من الخيرات ما يشاء ، برسم خزانته الّتي أنشأها بمدرسة والده المرحوم إسماعيل باشا بدمشق الشّام لا زالت وجنابه في حراسة الله الملك السّلام. بجاه محمّد وآله الكرام ، وأصحابه الفخام ، آمين على يد الفقير المعترف بالتقصير عبد القادر بن عمر ، غفر الله له ولوالديه ؛ آمين. في سنة ١١٢٦ أحسن الله ختامها.

٥٨٠