اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

قال قتادة : شرّ القرى التي لا تضيّف الضّيف (١).

وروي عن أبي هريرة : «أطعمتهما امرأة من أهل بربر بعد أن طلبا من الرّجال ، فلم يطعموهما ؛ فدعوا لنسائهم ، ولعنا رجالهم» (٢).

قوله : (اسْتَطْعَما أَهْلَها) : جواب «إذا» أي : سألاهم الطعام ، وفي تكرير «أهلها» وجهان :

أحدهما : أنه توكيد من باب إقامة الظاهر مقام المضمر ؛ كقوله : [الخفيف]

٣٥٥٢ ـ لا أرى الموت يسبق الموت شيء

نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا (٣)

وقول الآخر : [الكامل]

٣٥٥٣ ـ ليت الغراب غداة ينعب دائما

كان الغراب مقطّع الأوداج (٤)

والثاني : أنّه للتأسيس ؛ وذلك أنّ الأهل المأتيّين ليسوا جميع الأهل ، إنما هم البعض ؛ إذ لا يمكن أن يأتينا جميع الأهل في العادة في وقت واحد ، فلما ذكر الاستطعام ، ذكره بالنسبة إلى جميع الأهل ، كأنهما تتبعا الأهل واحدا واحدا ، فلو قيل : استطعماهم ، لاحتمل أنّ الضمير يعود على ذلك البعض المأتيّ ، دون غيره ، فكرّر الأهل لذلك.

فإن قيل : الاستطعام ليس من عادة الكرام ، فكيف أقدم عليه موسى ، مع أنّ موسى كان من عادته طلب الطعام من الله تعالى ، كما حكى عنه قوله : (إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص : ٢٤].

فالجواب (٥) : أنّ إقدام الجائع على الاستطعام أمر مباح في كلّ الشرائع ، بل ربّما وجب عند خوف الضّرر الشديد.

فإن قيل : إنّ الضيافة من المندوبات ، فتركها ترك المندوب ، وذلك أمر غير منكر ، فكيف يجوز من موسى ـ عليه‌السلام ـ مع علوّ منصبه أن يغضب عليهم الغضب الشديد الذي لأجله ترك العهد الذي التزمه مع ذلك العالم في قوله : (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي).

وأيضا مثل هذا الغضب لأجل ترك الأكل في ليلة واحدة ، لا يليق بأدون الناس فضلا عن كليم الله؟.

فالجواب : أنّ الضيافة قد تكون من الواجبات ، بأن كان الضيف قد بلغ في الجوع إلى حيث لو لم يأكل ، لهلك ، وإذا كان كذلك ، لم يكن الغضب الشديد لأجل ترك

__________________

(١) ينظر : البغوي (٣ / ١٧٥).

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٧٥).

(٣) تقدم.

(٤) تقدم برقم ٥١٩.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٣٣.

٥٤١

الأكل [ليلة](١) ، بل كان لأجل تركهم الواجب عليهم.

فإن قيل : إنه ما بلغ في الجوع إلى حدّ الهلاك ؛ بدليل أنّه قال : (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) ، ولو كان بلغ في الجوع إلى حدّ الهلاك ، لما قدر على ذلك العمل ، فكيف يصحّ منه طلب الأجرة؟.

فالجواب : لعلّ ذلك الجوع كان شديدا ، إلّا أنّه ما بلغ حدّ الهلاك.

قوله : «أن يضيفوهما» مفعول به لقوله «أبوا» والعامة على التشديد من ضيّفه يضيّفه.

والحسن (٢) وأبو رجاء وأبو رزين بالتخفيف من : أضافه يضيفه وهما مثل : ميّله وأماله.

روي أنّ أهل تلك القرية ، لمّا سمعوا نزول هذه الآية ، استحيوا ، وجاءوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بحمل من الذّهب ، وقالوا : يا رسول الله ، نشتري بهذا الذّهب أن تجعل الباء تاء ؛ حتى تصير القراءة «فأتوا أن يضيفوهما» ، أي : أتوا [لأجل أن](٣) يضيّفوهما ، أي كان إتيانهم لأجل الضّيافة ، وقالوا : غرضنا منه أن يندفع عنّا هذا اللّؤم ، فامتنع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «تغير هذه النّقطة يوجب دخول الكذب في كلام الله تعالى ، وذلك يوجب القدح في الإلهيّة» (٤).

قوله : (فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) أي : فرأيا في القرية حائطا مائلا.

وقوله : (أَنْ يَنْقَضَّ) مفعول للإرادة ، و«انقضّ» يحتمل أن يكون وزنه «انفعل» من انقضاض الطائر ، أو من القضّة ، وهي الحصى الصّغار ، والمعنى : يريد أن يتفتّت ، كالحصى ، ومنه طعام قضض ، إذا كان فيه حصى صغار ، وأن يكون وزنه «افعل» ك «احمرّ» من النقض ، يقال : نقض البناء ينقضه ، إذا هدمه ، ويؤيد هذا ما في حرف عبد الله وقراءة (٥) الأعمش «يريد لينقض» مبنيّا للمفعول ؛ واللام كهي في قوله (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) [النساء : ٢٨]. وما قرأ به أبيّ «يريد أن ينقض» بغير لام كي.

وقرأ الزهريّ «أن ينقاض» بألف بعد القاف. قال الفارسي : «هو من قولهم قضته فانقاض» أي : هدمته ، فانهدم. قال شهاب الدين : فعلى هذا يكون وزنه ينفعل ، والأصل : «انقيض» فأبدلت الياء ألفا ، ولمّا نقل أبو البقاء (٦) هذه القراءة قال : «مثل :

__________________

(١) في ب : يوما.

(٢) ينظر : الإتحاف ٢ / ٢٢٢ ، والبحر ٦ / ١٤٣ ، والدر المصون ٤ / ٤٧٥.

(٣) في ب : لأن.

(٤) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢١ / ١٣٤).

(٥) ينظر في قراءاتها : المحتسب ٢ / ٣١ ، والإتحاف ٢ / ٢٢٢ ، والشواذ ٨١ ، والبحر ٦ / ١٤٣ ، والدر المصون ٤ / ٤٧٦.

(٦) ينظر : الإملاء ٢ / ١٠٧.

٥٤٢

يحمارّ» ومقتضى هذا التشبيه : أن يكون وزنه «يفعالّ» ونقل أبو البقاء : أنه قرىء كذلك بتخفيف الضاد ، قال : «هو من قولك : انقاض البناء ، إذا تهدّم».

وقرأ عليّ أمير المؤمنين ـ كرّم الله وجهه ـ ، وعكرمة في آخرين «ينقاص» بالصاد مهملة ، وهو من قاصه يقيصه ، أي : كسره ، قال ابن خالويه : «وتقول العرب : انقاصت السّنّ : إذا انشقّت طولا» وأنشد لذي الرّمّة :

٣٥٥٤ ـ ...........

 ... منقاص ومنكثب(١)

وقيل : إذا تصدّعت ، كيف كان وأنشد لأبي ذؤيب : [الطويل]

٣٥٥٥ ـ فراق كقيص السنّ ، فالصّبر إنّه

لكلّ أناس عثرة وجبور (٢)

ونسبة الإرادة إلى الجدار مجاز ، وهو شائع جدّا.

وقد ورد في النّثر والنّظم ، قال الشاعر : [الوافر]

٣٥٥٦ ـ يريد الرّمح صدر أبي براء

ويرغب عن دماء بني عقيل (٣)

والآية من هذا القبيل.

وكذا قوله : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) [الأعراف : ١٥٤] وقوله : (أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] ومن أنكر [المجاز](٤) مطلقا أو في القرآن خاصة ، تأوّل ذلك على أنه خلق للجدار حياة وإرادة ؛ كالحيوانات ، أو أنّ الإرادة صدرت من الخضر ؛ ليحصل له ، ولموسى ما ذكره من العجب.

وهو تعسف كبير ، وقد أنحى الزمخشري على هذا القائل إنحاء بليغا جدّا.

قوله : «فأقامه» قيل : [نقضه](٥) ، ثم بناه ، قاله ابن عبّاس (٦).

وقيل : مسحه بيده ، فقام ، واستوى ، وذلك من معجزاته ، هكذا ورد في الحديث. وهو قول سعيد بن جبير.

واعلم أن ذلك العالم ، لمّا فعل ذلك ، كانت الحالة حالة اضطرار إلى الطعام ، فلذلك نسي موسى قوله : (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي) فلا جرم قال : (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) ، أي : طلبت على إصلاحك الجدار جعلا ، أي لصرفه في تحصيل المطعوم ؛ فإنّك قد علمت أنّا جياع ، وأنّ أهل القرية لم يطعمونا ، فعند ذلك قال الخضر : «هذا فراق بيني وبينك».

__________________

(١) جزء من عجز بيت وهو :

يغشى الكناس بروقيه ويهدمه

من هائل الرمل ..........

ينظر : ديوانه ٢٩ ، البحر المحيط ٦ / ١٤٣ ، الدر المصون ٤ / ٤٧٦.

(٢) ينظر : ديوانه ١ / ١٣٨ ، واللسان (قيص) ، والدر المصون ٤ / ٤٧٦.

(٣) ينظر : الرازي ٢١ / ١٣٤.

(٤) في ب : الجواز.

(٥) في أ: هدمه.

(٦) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٧٥.

٥٤٣

قوله : (لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) قرأ ابن (١) كثير ، وأبو عمرو «لتخذت» بفتح التاء ، وكسر الخاء من تخذ يتخذ ك «تعب يتعب». والباقون «لاتّخذت» بهمزة الوصل ، وتشديد التاء ، وفتح الخاء من الاتّخاذ ، واختلف : هل هما من الأخذ ، والتاء بدل من الهمزة ، ثم تخذف التاء الأولى فيقال : تخذ ، كتقي من «اتّقى» نحو قوله : [الطويل]

٣٥٥٧ ـ ...........

تق الله فينا والكتاب الّذي تتلو (٢)

أم هما من تخذ ، والتاء أصيلة ، ووزنهما فعل وافتعل؟ قولان تقدّم تحقيقهما في هذا الموضوع ، والفعل هنا على القراءتين متعدّ لواحد ؛ لأنّه بمعنى الكسب.

قوله : (فِراقُ بَيْنِي) : العامة على الإضافة ؛ اتّساعا في الظرف ، وقيل : هو بمعنى الوصل. كقوله : [الطويل]

٣٥٥٨ ـ ...........

وجلدة بين العين والأنف سالم (٣)

وحكى القفال (٤) عن بعض أهل العربيّة أنّ البين هو الوصل ؛ لقوله (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الأنعام : ٩٤] ، فيكون المعنى هذا فراق اتصالنا ، كقول القائل : أخزى الله الكاذب بيني وبينك ، أي : أحدنا هكذا. قاله الزجاج.

وقرأ ابن أبي (٥) عبلة «فراق» بالتنوين على الأصل ، وتكرير المضاف إليه عطفا بالواو هو الذي سوّغ إضافة «بين» إلى غير متعدد ؛ ألا ترى أنّك لو اقتصرت على قولك : «المال بيني» لم يكن كلاما ؛ حتى تقول : بيننا أو بيني وبين فلان.

وقوله : «هذا» أي : هذا الإنكار على ترك الأجر هو المفرّق بيننا.

وقيل : إنّ موسى ـ عليه‌السلام ـ لمّا شرط أنّه إن سأله بعد ذلك سؤالا آخر ، حصل الفراق بقوله : [«إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني» فلما ذكر هذا السؤال فارقه ذلك العالم ، وقال](٦) : (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) أي : هذا الفراق [الموعود](٧) ، ثم قال : (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً).

قرأ (٨) ابن وثّاب «سأنبيك» بإخلاص الياء بدل الهمزة.

قوله تعالى : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ) : العامة على تخفيف السين ، جمع

__________________

(١) ينظر : السبعة ٣٩٦ ، والنشر ٢ / ٣١٤ ، والتيسير ١٣٥ ، والحجة ٤٢٥ ، وإعراب القراءات ١ / ٤٠٨ ، والحجة للقراء السبعة ١ / ١٦٣ ، والقرطبي ١١ / ٢٣ ، والبحر ٦ / ٤٤ ، والدر المصون ٤ / ٤٧٦.

(٢) ينظر : روح المعاني ٦ / ١٧ ، الدر المصون ٤ / ٤٧٦.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٣٤.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ٧٤٠ ، والبحر ٦ / ١٤٤ ، والدر المصون ٤ / ٤٧٧.

(٦) سقط من أ.

(٧) في أ: المعهود.

(٨) ينظر : البحر ٦ / ١٤٤ ، والدر المصون ٤ / ٤٧٧.

٥٤٤

«مسكين». وقرأ (١) عليّ أمير المؤمنين ـ كرّم الله وجهه ـ بتشديدها جمع «مسّاك» وفيه قولان :

أحدهما : أنه الذي يمسك سكّان السفينة ، وفيه بعض مناسبة.

والثاني : أنّه الذي يدبغ المسوك جمع «مسك» بفتح الميم ، وهي الجلود ، وهذا بعيد ؛ لقوله : (يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) قال شهاب الدين ولا أظنّها إلا تحريفا على أمير المؤمنين ، و«يعملون» صفة لمساكين.

قوله : (وَراءَهُمْ مَلِكٌ) «وراء» هنا بمعنى المكان.

وقيل : «وراءهم» بمعنى «أمامهم» ؛ كقوله : (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) [إبراهيم : ١٦] وقيل : «وراءهم» خلفهم ، وكان رجوعهم في طريقهم عليه. والأول أصحّ ؛ لقوله : (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) [إبراهيم : ١٦] ويؤيّده قراءة ابن عباس : وكان أمامهم ملك يأخذ كلّ سفينة غصبا وقال سوار بن المضرّب السعديّ : [الطويل]

٣٥٥٩ ـ أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي

وقومي تميم والفلاة ورائيا (٢)

وقال تعالى : (وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) [الإنسان : ٢٧] وتحقيقه : أنّ كلّ ما غاب عنك ، فقد توارى عنك وتواريت عنه ، وقيل : إنّ تحقيقه أنّ ما غاب عنك ، فقد توارى عنك ، وأنت متوار عنه ، فكلّ ما غاب عنك ، فهو وراءك ، وأمام الشيء وقدامه ، إذا كان غائبا عنك ، متواريا عنك ، فلم يبعد إطلاق لفظة «وراء» عليه ، ويراد بها الزّمان ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٣٥٦٠ ـ أليس ورائي أن أدبّ على العصا

فيأمن أعدائي ويسأمني أهلي (٣)

وقال لبيد : [الطويل]

٣٥٦١ ـ أليس ورائي إن تراخت منيّتي

لزوم العصا تحنى عليها الأصابع (٤)

قوله : «غصبا» فيه أوجه :

الأول : أنه مصدر في موضع الحال ، أو منصوب على المصدر المبين لنوع الأخذ ، أو منصوب على المفعول له ، وهو بعيد عن المعنى ، وادّعى الزمخشريّ أنّ في الكلام تقديما وتأخيرا ، فقال : «فإن قلت : قوله : (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) مسبّب عن خوفه الغصب عليها ، فكان حقه أن يتأخّر عن السبب ؛ فلم قدّم عليه؟ قلت : النية به التأخير ؛ وإنما قدّم للعناية به ، ولأنّ خوف الغصب ليس هو السبب وحده ، ولكن مع كونها للمساكين ، فكان بمنزلة قولك : زيد ظنّي مقيم».

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١١ / ٢٤ ، البحر ٦ / ١٤٥ ، والدر المصون ٤ / ٤٧٧.

(٢) تقدم.

(٣) البيت لابن ميادة. ينظر : البحر المحيط ٦ / ١٤٥ ، روح المعاني ١٦ / ٦ ، الدر المصون ٤ / ٤٧٧.

(٤) تقدم.

٥٤٥

قوله : (فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ) : التثنية للتغليب ، يريد : أباه وأمّه ، فغلّب المذكّر ، وهو شائع ، ومثله : القمران والعمران ، وقد تقدّم [في يوسف] : أنّ الأبوين يراد بهما الأب والخالة ، فهذا أقرب.

والعامة على «مؤمنين» بالياء (١) ، وأبو سعيد الخدريّ ، والجحدريّ «مؤمنان» بالألف ، وفيه ثلاثة أوجه :

الأول : أنه على لغة بني الحارث ، وغيرهم.

الثاني : أن في «كان» ضمير الشّأن ، و«أبواه مؤمنان» مبتدأ وخبر في محل النصب ؛ كقوله : [الطويل]

٣٥٦٢ ـ إذا متّ كان النّاس صنفان شامت

 ........... (٢)

فهذا أيضا محتمل للوجهين.

الثالث : أن في «كان» ضمير الغلام ، أي : فكان الغلام ، والجملة بعده الخبر ، وهو أحسن الوجوه.

قوله : (فَخَشِينا) أي : فعلمنا (أَنْ يُرْهِقَهُما) يفتنهما.

وقال الكلبيّ : يكلّفهما طغيانا وكفرا.

وقال سعيد بن جبير (٣) : فخشينا أن يحملهما حبّه على أن يتابعاه على دينه.

قيل : إنّ ذلك الغلام كان بالغا ، وكان يقطع الطريق ، ويقدم على الأفعال المنكرة ، وكان يصير ذلك سببا لوقوعهما في الفسق ، وربما يؤدّي ذلك الفسق إلى الكفر.

وقيل : كان صبيّا إلا أن الله تعالى علم منه أنّه لو صار بالغا ، لحصلت منه تلك المفاسد.

وقيل : الخشية بمعنى الخوف ، وغلبة الظنّ ، والله تعالى قد أباح له قتل من غلب على ظنّه تولّد تلك المفاسد منه.

فإن قيل : هل يجوز الإقدام على قتل الإنسان لمثل هذا الظنّ؟.

فالجواب (٤) : أنّه إذا تأكّد ذلك الظنّ بوحي الله تعالى إليه ، جاز.

قوله : (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما) : قرأ (٥) نافع ، وأبو عمرو بفتح الباء ، وتشديد الدال من

__________________

(١) ينظر : المحتسب ٢ / ٣٣ ، البحر ٦ / ١٤٦ ، الدر المصون ٤ / ٤٧٨.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٧٦.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٣٧.

(٥) ينظر : السبعة ٣٩٧ ، والنشر ٢ / ٣١٤ ، والحجة ٤٢٧ ، والتيسير ١٤٥ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٦٤ ، وإعراب القراءات ١ / ٤٠٩ ، والكشاف ٢ / ٧٤١ ، والقرطبي ١١ / ٢٦ ، والبحر ٦ / ١٤٧ ، والدر المصون ٤ / ٤٧٨.

٥٤٦

«بدّل» هنا ، وفي التحريم [الآية : ٥] (أَنْ يُبْدِلَهُ) وفي القلم [الآية : ٣٢] (أَنْ يُبْدِلَنا) والباقون بسكون الباء ، وتخفيف الدال من «أبدل» في المواضع الثلاثة ، فقيل : هما لغتان بمعنى واحد ، وقال ثعلب : الإبدال تنحية جوهرة ، واستئناف أخرى ؛ وأنشد : [الرجز]

٣٥٦٣ ـ عزل الأمير للأمير المبدل (١)

قال : ألا تراه نحّى جسما ، وجعل مكانه آخر ، والتبديل : تغيير الصورة إلى غيرها ، والجوهرة باقية بعينها ؛ واحتجّ الفراء بقوله تعالى : (يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [الفرقان : ٨٠] قال : والذي قال ثعلب حسن ، إلّا أنّهم يجعلون «أبدلت» بمعنى «بدّلت» قال شهاب الدين : ومن ثم ، اختلف الناس في قوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ) [إبراهيم : ٤٨] : هل يتغير الجسم والصفة ، أو الصفة دون الجسم؟.

قوله : (يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً) أي : يرزقهما الله ولدا خيرا من هذا الغلام «زكاة» أي : دينا ، وصلاحا.

وقيل : ذكر الزكاة تنبيها على مقابلة قول موسى ـ عليه‌السلام ـ (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) فقال العالم : أردنا أن يرزق الله هذين الأبوين خيرا ، بدلا عن ابنهما هذا ولدا يكون خيرا منه بما ذكره من الزّكاة ، ويكون المراد من الزّكاة الطهارة ، وكان قول موسى : (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً) ، أي : طاهرة ، لأنّها ما وصلت إلى حدّ البلوغ ، فكانت زاكية طاهرة من المعاصي ، فقال العالم : إن تلك النفس ، وإن كانت طاهرة زاكية في الحال ، إلّا أنّه تعالى علم منها أنّها إذا بلغت ، أقدمت على الطغيان ، والكفر ، فأردنا أن يحصل لهما ولد عظيم ، أي : أعظم زكاة وطهارة منه ، وهو الذي يعلم الله منه أنّه عند البلوغ لا يقدم على شيء من هذه المحظورات.

ومن قال : إنّ ذلك الغلام كان بالغا ، قال : المراد من وصف نفسه بكونها زاكية أنه لم يظهر عليه ما يوجب قتله.

قوله : «رحما» قرأ ابن عامر (٢) «رحما» بضمتين ، والباقون بضمة وسكون ، وهما بمعنى الرحمة ؛ قال رؤبة : [الرجز]

٣٥٦٤ ـ يا منزل الرّحم على إدريسا

ومنزل اللّعن على إبليسا (٣)

وقيل : الرّحم بمعنى الرّحم ، وهو لائق هنا من أجل القرابة بالولادة ؛ ويؤيّده قراءة

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : السبعة ٣٩٧ ، والنشر ٢ / ١٦ ، والتيسير ١٤٥ ، والحجة ٤٢٧ ، والإتحاف ٢ / ٢٢٣ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٦٥ ، وإعراب القراءات ١ / ٤١٠ ، والقرطبي ١١ / ٢٦ ، والبحر ٦ / ١٤٧ والدر المصون ٤ / ٤٧٨.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٦ / ١٤٧ ، روح المعاني ١٦ / ١٢ ، الدر المصون ٤ / ٤٧٨.

٥٤٧

ابن (١) عباس «رحما» بفتح الراء ، وكسر الحاء ، و«زكاة ورحما» منصوبان على التمييز.

والمعنى : هذا البدل يكون [أقرب](٢) عطفا ورحمة بأبويه ، وأشفق عليهما.

فصل في المبدل به

قال الكلبيّ : أبدلهما الله جارية تزوّجها نبيّ من الأنبياء ، فولدت له نبيّا ، فهدى الله على يديه أمّة من الأمم (٣).

قوله : (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) وكان اسمهما «أصرم» و«صريم».

واعلم أنه سمّى القرية في قوله : (أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ) وسمّى القرية هنا مدينة بقوله : (يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ) فدلّ على جواز [تسمية] إحداهما بالأخرى ، ثم قال : (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما).

روى أبو الدرداء (٤) عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كان ذهبا ، وفضّة».

وقال عكرمة : كان مالا (٥) ، ويدلّ على ذلك أنّ المفهوم من لفظ الكنز هو المال.

وعن ابن عباس (٦) قال : «كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه : عجبا لمن أيقن بالموت ، كيف يفرح ، عجبا لمن أيقن بالقدر كيف ينصب ، عجبا لمن أيقن بالرزق كيف يتعب ، عجبا لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل ، عجبا لمن أيقن بزوال الدّنيا ، وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ، لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، وفي الخطاب الجانب الاخر : أنا الله ، لا إله إلا أنا ، وحدي لا شريك لي ، خلقت الخير والشرّ فطوبى [لمن] خلقته للخير ، وأجريته على يديه ، والويل لمن خلقته للشرّ ، وأجريته على يديه».

وهذا قول أكثر المفسّرين وروي أيضا مرفوعا ، قال الزجاج : والكنز إذا أطلق إنما ينصرف إلى كنز المال ، ويجوز عند التّقييد لكنز العلم ، يقال : عنده كنز علم. وهذا اللوح كان جامعا لهما.

(وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) قيل : كان [اسمه] «كاشح» وكان من الأنبياء ، قال ابن عباس : حفظا بصلاح أبيهما ، ولهذا قيل : إنّ الرّجل الصالح يكون كنزه العلم لا المال ، قيل : كان بينهما وبين الأب الصّالح سبعة آباء وهذا يدل على أنّ صلاح الإنسان يفيد العناية بأحوال أبنائه ، فإن قيل : اليتيمان ، هل أحد منهما عرف حصول الكنز تحت ذلك الجدار ، أو ما عرف أحد منهما ذلك؟ فإن كان الأول امتنع أن يتركوا سقوط ذلك الجدار ، وإن كان الثاني فكيف

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٦ / ١٤٧ ، الدر المصون ٤ / ٤٧٩.

(٢) في أ: أعظم.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٧٧.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٧٧.

(٦) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٧٧.

٥٤٨

يمكنه بعد البلوغ استخراج ذلك الكنز ومعرفته والانتفاع به؟.

الجواب : لعل اليتيمين كانا جاهلين به إلّا أن وصيّهما كان عالما به ، إما أن ذلك الوصيّ غاب ، وأشرف ذلك الجدار في غيبته على السّقوط ، ثم قال : (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما) أي : يبلغا ويعقلا ، وقيل : يدركا شدّتهما وقوتهما.

وقيل : ثماني عشرة سنة ، ويستخرجا حينئذ كنزهما (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي : نعمة من ربّك.

وفي نصب «رحمة» ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنه مفعول له.

الثاني : أن يكون في موضع الحال من الفاعل ، أي : أراد ذلك راحما ، وهي حال لازمة.

الثالث : أن ينتصب انتصاب المصدر ؛ لأنّ معنى (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا) معنى : «فرحمهما» ثم قال : «وما فعلته عن أمري» أي : ما فعلته باختياري ورأيي ، بل فعلته بأمر الله وإلهامه ، بأنّ الإقدام على تنقيص أموال النّاس وإراقة دمائهم ، لا يجوز إلّا بالوحي والنفي القاطع ، «وذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا» أي : لم تطق عليه صبرا.

قوله : «تسطع» قيل أصله «استطاع» فحذفت تاء الافتعال ، وقيل : المحذوف الطاء الأصلية ، ثم أبدلت تاء الافتعال طاء بعد السّين ، وهذا تكلف بعيد.

وقيل : السّين مزيدة عوضا من قلب الواو ألفا ، والأصل : أطاع ، ولتحقيق القول فيه موضع غير هذا ، ويقال : استتاع ـ بتاءين ، واستاع ـ بتاء واحدة ، فهذه أربع لغات حكاها ابن السّكيت.

فصل

اعلم أنّ أحكام الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ مبنيّة على الظواهر ؛ كما قال ـ عليه‌السلام ـ : «نحن نحكم بالظّاهر والله يتولّى السّرائر» (١) وهذا العالم ما كانت أحكامه مبنية على ظواهر

__________________

(١) اشتهر بين الأصوليين والفقهاء ، بل وقع في شرح مسلم للنووي في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّي لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ، ولا أشق بطونهم ، ما نصه معناه : إنّي أمرت بالحكم الظاهر ، والله يتولى السرائر ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهى ، ولا وجود له في كتب الحديث المشهورة ، ولا الأجزاء المنثورة ، وجزم العراقي بأنه لا أصل له ، وكذا أنكره المزي وغيره ، نعم في صحيح البخاري عن عمر إنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم ، بل وفي الصحيح من حديث أبي سعيد رفعه : إنّي لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ، وفي المتفق عليه من حديث أم سلمة : إنكم تختصمون إلى فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع ، قمن قضيت له بشيء من حق أخيه ، فلا يأخذ منه شيئا ، قال ابن كثير : إنه يؤخذ معناه منه ، وقد ترجم له النسائي في سننه ، باب الحكم بالظاهر ، وقال إمامنا ناصر السنة أبو عبد الله الشافعي رحمه‌الله عقب إيراده في كتاب الأم : فأخبرهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه إنما ـ

٥٤٩

الأمور ، بل كانت مبنية على الأسباب الحقيقية الواقعة في نفس الأمر ، وذلك لأنّ الظاهر في أموال النّاس ، وفي أرواحهم في المسألة الأولى والثانية من غير سبب ظاهر لا يبيح ذلك التصرف ؛ لأنّ تخريق السفينة تنقيص لملك الغير من غير سبب ظاهر يبيح ذلك التصرّف ، والإقدام على قتل الغلام إلحاق بضرر القتل به من غير سبب ظاهر ، والإقدام على إقامة الجدار المائل تحمل للتّعب والمشقّة من غير سبب ظاهر ، فهذه المسائل الثلاثة ليس حكم ذلك العالم فيها مبنيّا على الأسباب الظاهرة ، بل كان مبنيّا على أسباب معتبرة في نفس الأمر ، وهذا يدلّ على أنّ ذلك العالم كان قد آتاه الله قوة عقلية يقدر بها أن يشرف على بواطن الأمور ، ويطّلع بها على حقائق الأشياء ، فكانت مرتبة موسى ـ عليه‌السلام ـ في معرفة شرائع الأحكام بناء على الظواهر ، وهذا العالم مرتبته الوقوف على بواطن الأشياء وحقائقها ، فلهذا كانت مرتبته في العلم فوق مرتبة موسى. إذا عرف هذا ؛ فنقول : هذه المسائل الثلاثة مبنية على حرف واحد ، وهو أنه : إذا تعارض ضرران يجب تحمل الأولى ، لدفع الأعلى ، فهذا هو الأصل المعتبر في المسائل الثلاثة ، أمّا الأولى : فلأنّ ذلك العالم علم أنّه لو لم يعب السفينة بالتخريق ، لغصبها ذلك الملك ، وفاتت منافعها بالكلّية على ملّاكها ، فوقع التعارض بين أن يخرقها ويعيبها ، ويبقى مع ذلك العيب على ملّاكها وبين ألّا يخرقها ، فيغصبها الملك ، وتفوت منافعها على ملاكها بالكلّية ، ولا شكّ أن الضرر الأوّل أقلّ ؛ فوجب تحمّله ؛ لدفع الضرر الثاني ؛ لكونه أعظم ضررا.

وأمّا المسألة الثانية فكذلك ؛ لأنّ بقاء ذلك الغلام كان مفسدة للوالدين في دينهم ، وفي أبنائهم ، ولعلّه علم بالوحي أن المضار الناشئة من قتل ذلك الغلام أقل من المضار الناشئة بسبب حصول تلك المفاسد للأبوين ؛ فلهذا السّبب أقدم على قتله.

والمسألة الثالثة ـ أيضا ـ كذلك ؛ لأنّ المشقة الحاصلة بسبب الإقدام على بناء الجدار المائل أسهل من المضارّ الحاصلة بسبب ترك إقامته ، لأنّ ذلك الجدار لو سقط ، لضاع مال أولئك الأيتام ، وفيه ضرر شديد ، فالحاصل أنّ ذلك العالم كان مخصوصا

__________________

ـ يقضي بالظاهر ، وأن أمر السرائر إلى الله ، والظاهر كما قال شيخنا رحمه‌الله ، أن بعض من لا يميز ظن هذا حديثا آخر منفصلا عن حديث أمّ سلمة فنقله كذلك ثم قلده من بعده ، ولأجل هذا يوجد في كتب كثير من أصحاب الشافعي دون غيرهم ، حتى أورده الرافعي في القضاء ، ثم رأيت في الأم بعد ذلك ، قال الشافعي : روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : تولى الله منكم السرائر ، ودرأ عنكم بالبينات ، وكذا قال ابن عبد البر في التمهيد : أجمعوا أن أحكام الدنيا على الظاهر وأن أمر السرائر إلى الله. وأغرب إسماعيل بن علي بن إبراهيم بن أبي القاسم الجنزوي في كتابه إدارة الأحكام ، فقال ـ فيما نقل عنه مغلطاي مما وقف عليه ـ : إن هذا الحديث ورد في قصة الكندي والحضرمي اللذين اختصما في الأرض ؛ فقال المقضي عليه قضيت عليّ والحق لي ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنما أقضي بالظاهر والله يتولى السرائر ، قال الحافظ ابن حجر : ولم أقف على هذا الكتاب ولا أدري أساق له إسماعيل المذكور إسنادا أم لا. المقاصد [٩٦ ـ ٩٧].

٥٥٠

بالوقوف على حقائق الأشياء وببناء الأحكام على حقائقها ، وأنّ موسى ـ عليه‌السلام ـ كانت أحكامه مبنية على ظواهر الأمور ، فبهذا ظهر التفاوت بينهما في علمه.

فإن قيل : فحاصل الكلام أنّه تعالى أطلعه على حقائق الأشياء ، وهذا النّوع من العلم ما يمكن تعلّمه ، وموسى ـ عليه‌السلام ـ إنما ذهب إليه ليتعلم منه العلم ، فكان الواجب على ذلك العالم أن يظهر له علما يمكن تعلّمه ، وهذه المسائل علمها لا يمكن تقاسمه ، فما الفائدة في إظهارها؟

فالجواب : أنّ العلم بظواهر الأشياء يمكن تحصيله بناء على معرفة الشرائع الظاهرة ، وأمّا العلم بحقائق الأشياء ، فإنّه لا يمكن تحصيله إلّا بناء على تصفية الباطن ، وتطهير القلب عن العلائق الجسمانية ، ولهذا قال تعالى في صفة علم ذلك العالم : (وَعَلَّمْناهُ مِنْ (١) لَدُنَّا عِلْماً) ثم إنّ موسى ـ عليه‌السلام ـ لمّا كملت مرتبته في علم الشريعة بعثه الله تعالى إلى ذلك العالم ، ليعلّم موسى أنّ كمال الدرجة في أن ينتقل الإنسان من علوم الشريعة المبنية على الظّواهر إلى علوم البواطن المبنية على الإشراف على حقيقة الأمور.

فصل

احتجّوا بهذه الآية على أن الفقير أشدّ حاجة من المسكين ؛ لأنّه تعالى سمّاهم مساكين مع أنهم كانوا يملكون السفينة.

واعلم أنّ العالم بيّن مراده من تخريق السفينة ، وأنه لم يكن مقصوده تغريق أهلها ؛ بل كان مقصوده تعييبها ، لئلّا يأخذها ذلك الملك الظّالم ؛ لأنّه كان من عادته أخذ السفن الخالية من العيوب ، وضرر هذا التخريق أسهل من ضرر الغصب.

فإن قيل : هل يجوز للأجنبيّ أن يتصرّف في ملك الغير لمثل هذا الغرض؟.

فالجواب : هذا مما تختلف أحواله بسبب اختلاف الشرائع ، فلعلّ هذا كان جائزا في تلك الشريعة ، وأما في شريعتنا فهذا الحكم غير بعيد ، فإنّا إذا علمنا أنّ الذين يقطعون الطريق يأخذون جميع مال الإنسان ، فإن دفعنا إلى قاطع الطّريق بعض ذلك المال سلم الباقي ، فحينئذ يحسن منّا أن ندفع بعض مال ذلك الإنسان إلى قاطع الطريق ؛ ليسلم الباقي ، وكان هذا إحسانا منا لذلك المالك.

كذلك قيل في السفينة المشحونة إذا خيف عليها الغرق ، وأنه إذا ألقي منها شيء في البحر خفّت وسلم ما فيها جاز الإلقاء ، بل يجب كذلك ، وكذلك مسألة التترّس بالمسلمين.

واعلم بأنّ هذا التخريق يجب أن يكون على وجه لا يبطل منافع تلك السفينة بالكلّية ، إذ لو كان كذلك ، لم يكن الضّرر الحاصل من غصبها أعظم من الضّرر الحاصل من تخريقها ، وحينئذ لم يكن تخريقها جائزا.

٥٥١

فصل

اعلم أنّه قال : (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) وقال : (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ) ، وقال : (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما) فاختلفت الإضافة في هذه الإرادات الثلاثة ، وهي كلها قضيّة واحدة ، وفائدة ذلك أنّه لما ذكر العيب أضافه إلى إرادة نفسه ، فقال : (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) ولمّا ذكر القتل ، عبّر عن نفسه بلفظ الجمع تنبيها على أنّه من العظماء في علوم الحكمة ، فلم يقدم على هذا القتل إلّا لحكمة عالية ، ولمّا ذكر رعاية صالح اليتيمين لأجل صلاح أبيهما أضافه إلى الله تعالى ، لأنّ المتكفّل بمصالح الأبناء برعاية حقّ الآباء ليس إلّا الله تعالى.

فصل

اختلفوا : هل الخضر حيّ أم لا؟ فقيل : إنّ الخضر وإلياس حيّان يلتقيان كلّ سنة بالموسم ، قيل : وسبب حياته أنّ ذا القرنين دخل الظلمات ، لطلب عين الحياة ، وكان الخضر على مقدّمته ، فوقع الخضر على عين الحياة ، فنزل ، واغتسل ، وشرب ، وقيل : وأخطأ ذو القرنين الطريق ، فعاد.

وقيل : إنه ميت ، لقول الله تعالى : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) [الأنبياء : ٣٤] وقال عليه الصلاة والسلام بعد ما صلى العشاء ليلة : «أرأيتكم ليلتكم هذه ، فإنه على رأس مائة سنة لا يبقى ممّن هو اليوم على ظهر الأرض أحد» (١) ولو كان الخضر حيّا ، لكان لا يعيش بعده.

روي أنّ موسى لمّا أراد أن يفارقه قال : أوصني ، قال : لا تطلب العلم لتحدّث به ، واطلبه لتعمل به.

قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى

__________________

(١) أخرجه البخاري (٢٧٨) كتاب مواقيت الصلاة : باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء حديث (٦٠١) ومسلم (٤ / ١٩٦٥) كتاب فضائل الصحابة حديث (٢١٧ / ٢٥٣٧) من حديث ابن عمر.

٥٥٢

أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً)(١٠١)

قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) الآية.

قد تقدّم في أوّل هذه السورة أن اليهود أمروا المشركين أن يسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أصحاب الكهف ، وعن ذي القرنين ، وعن الرّوح ، فقوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) هو ذلك السؤال ، واختلفوا في ذي القرنين ، فقيل : هو الإسكندر بن فيلبوس اليونانيّ ، وقيل : كان اسمه مرزبان بن مرزبة من ولد يونان بن يافث بن نوح ، وكان أسود ، قال بعضهم : كان نبيّا ، لقوله تعالى : (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) والأولى حمله على التمكين في الدّين ، والتّمكين الكامل في الدّين هو النبوة ، ولقوله تعالى : (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) ومن جملة الأسباب النبوة ، فمقتضى العموم أنه آتاه من النبوة سببا ، ولقوله تعالى : (يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) والذي يتكلّم الله معه لا بد وأن يكون نبيا. قال أبو الطفيل ، وسئل عن ذي القرنين : أكان نبيّا أم ملكا؟ قال : لم يكن نبيا ، ولا ملكا ، ولكن كان عبدا أحبّ الله ، فأحبّه الله ، وناصح الله فناصحه.

روي أنّ عمر ـ رضي الله عنه ـ سمع رجلا يقول لآخر : (يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) فقال : تسمّيتم بأسماء النبيين ، فلم ترضوا حتى تسمّيتم بأسماء الملائكة. والأكثرون على أنه كان ملكا عادلا صالحا ، واختلفوا في سبب تسميته بذي القرنين قيل : لأنه بلغ قرني الشمس : مشرقها ومغربها ، وأيضا : بلغ ملكه أقصى الشمال ، لأنّ (يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) قوم من الترك يسكنون في أقصى الشمال ، فهذا المسمّى بذي القرنين قد دلّ القرآن على أنّ ملكه بلغ أقصى المغرب والمشرق والشمال ، وهذا نهاية المعمور من الأرض ، ومثل هذا الملك البسيط على خلاف العادات ، فيجب أن يبقى ذكره مخلّدا على وجه الدهر لا يخفى ، والذي اشتهر في كتب التواريخ أن الذي بلغ ملكه إلى هذا الحد ليس إلا الإسكندر ، وذلك أنه لمّا مات أبوه جمع ملك الروم بعد أن كان طوائف ، ثم قصد ملوك العرب وقهرهم ، وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ، ثم عاد إلى مصر ، فبنى الإسكندرية ، وسمّاها باسم نفسه ، ثم دخل الشّام ، وقصد بني إسرائيل ، وور د «بيت المقدس» ، وذبح في مذبحه ، ثم انعطف إلى «أرمينيّة» و«باب الأبواب» ودان له العراقيّون ، والقبط ، والبربر ، ثم توجه نحو دارا بن دارا ، وهزمه مرات إلى أن قتله صاحب حرسه ، واستولى

٥٥٣

الإسكندر على ممالك الفرس ، وقصد الهند والصّين ، وغزا الأمم البعيدة ، ورجع إلى «خراسان» وبنى المدن الكثيرة ، ورجع إلى العراق ، ومرض ب «شهرزور» ومات ، فلما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين كان رجلا ملك الأرض أو ما يقرب منها ، وثبت من التّواريخ أن من هذا شأنه ما كان إلّا الإسكندر وجب القطع بأنّ المراد بذي القرنين هو الإسكندر بن فيلبوس اليوناني.

قيل : وسمّي بذي القرنين ، لأنه ملك الرّوم وفارس ، وقيل : لأنه دخل النور والظلمة ، وقيل : لأنه رأى في المنام كأنه أخذ بقرني الشّمس ، وقيل : لأنه كانت له ذؤابتان حسنتان ، وقيل: لأنه كان له قرنان تواليهما العمامة.

وروى أبو الفضل عن عليّ أنه أمر قومه بتقوى الله ، فضربوه على قرنه الأيمن ، فمات ، فبعثه الله ، فأمرهم بتقوى الله ، فضربوه على قرنه الأيسر ، فمات فأحياه الله.

وقيل : كان لتاجه قرنان ، وقيل : لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس ، وقيل : لأن الله سخر له النّور والظلمة ، فإذا سرى يهديه النور من أمامه ، وتمتد الظلمة من ورائه.

فروي أن ذا القرنين أمر ببناء مدن كثيرة منها : «الدبوسية» و«حمدان» و«برج الحجارة» ، ولما بلغ «الهند» بنى مدينة «سرنديب» وأن أرباب الحساب قالوا له : إنّك لا تموت إلا على أرض من حديد ، وسماء من خشب ، وكان يدفن كنوز كلّ بلد فيها ، ويكتب ذلك معه بصفته وموضعه ، فبلغ «بابل» ، فرعف ، فسقط عن دابّته ، فبسطت له دروع فنام عليها ، فآذته الشمس ، فأظلوه بترس ، فنظر وقال : هذه أرض من حديد وسماء من خشب ، فأيقن بالموت ، فمات وهو ابن ألف سنة وثلاثمائة سنة.

وقال أبو الرّيحان البيروني في كتابه المسمّى ب «الآثار الباقية عن القرون الخالية» : قيل : إنّ ذا القرنين هو أبو كرب سميّ بن عبرين بن أقريقيش الحميريّ ، وأنّ ملكه بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، وهو الذي افتخر به أحد الشعراء من حمير : [الكامل]

قد كان ذو القرنين قبلي مسلما

ملكا علا في الأرض غير مفنّد

بلغ المشارق والمغارب يبتغي

أسباب ملك من كريم سيّد (١)

ثم قال أبو الريحان : ويشبه أن يكون هذا القول أقرب ، لأن الأذواء كانوا من اليمن ، وهم الذين لا يخلون أساميهم من «ذي كذا» المنار ، و«ذي نواس» ، و«ذي النّون» ، و«ذي رعين» والقول الأول أظهر ، لما تقدم من الدليل ، ولأنّه روي عن النبي

__________________

(١) ينظر : الرازي ٢١ / ١٤٠.

وذكر لهما القرطبي ١١ / ٣٤ بيتا ثالثا :

فرأى مغيب الشمس عند غروبها

في عين ذي خلب وثأط حرمد

٥٥٤

صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «سمّي ذا القرنين لأنّه طاف قرني الدّنيا شرقها وغربها» (١).

قال ابن الخطيب : إلّا أنّ فيه إشكالا قويّا ، وهو أن الإسكندر كان تلميذ أرسطاطاليس الحكيم ، وكان على مذهبه ، فتعظيم الله إيّاه يوجب الحكم بأنّ مذهب أرسطاطاليس حقّ وصدق ، وذلك ممّا لا سبيل إليه.

قال ابن كثير : روي عن ابن عباس : أنّ اسم ذي القرنين عبد الله بن الضحاك.

وقيل : مصعب بن عبد الله بن قينان بن منصور بن عبد الله بن الآزر بن عون بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن قحطان.

وروي أنّه كان من حمير ، وأمّه روميّة ، وأنه كان يقال له الفيلسوف ؛ لعقله.

وقال السهيليّ (٢) : قيل : كان اسمه مرزبي بن مرذبة ذكره ابن هشام ، وهو أول التّبابعة.

وقيل : إنه أفريدون بن أثفيان الذي قتل الضحاك ويروى في خطبة قيس بن ساعدة التي خطبها بسوق عكاظ ، أنه قال فيها يا معشر إياد أين الصعب ذو القرنين ملك الخافقين ، وأوّل المسلمين ، وعمر ألفين ، ثم كان ذلك كطرفة عين ، وأنشد ابن هشام : [الكامل]

والصّعب ذو القرنين أصبح ثاويا

بالحنو حيث أميم مقيم (٣)

أمّا ذو القرنين الثاني فهو الإسكندر بن فيلبس بن مصريم بن هرمس بن هردوس ابن ميطون بن رومي بن نويط بن نوفيل بن ليطى بن يونان بن يافث بن نوح بن سرحون بن رومي بن قريط بن نوفيل بن رومي بن الأصفر بن اليغز بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل ـ عليه‌السلام ـ كذا نسبه ابن عساكر المقدوني اليوناني المصري باني الإسكندرية الذي يؤرّخ بأيّامه الروم ، وكان متأخّرا عن الأول بدهر طويل ، وكان هذا قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة ، وكان وزيره أرسطاطاليس الفيلسوف ، وهو قتل دارا بن دارا [ملك] ملوك الفرس.

وإنما نبهنا على هذا ؛ لأنّ كثيرا من الناس يعتقد أنهما واحد ، وأن المذكور في القرآن هو الذي كان أرسطاطاليس وزيره ، فيقع بذلك خطأ كثير ؛ فإنّ الأول كان مؤمنا عبدا صالحا ، وملكا عادلا ، وكان وزيره الخضر ـ عليهما‌السلام ـ وكان نبيّا ، وأمّا الثاني فكان مشركا ، وكان وزيره فيلسوفا ، وكان بين زمانيهما أزيد من ألفي [سنة] فأين هذا من هذا؟.

قوله : «سأتلو» : دخلت السين ها هنا ؛ لأنّ المعنى أني سأفعل هذا إن وفّقني الله عليه ، وأنزل عليّ وحيا ، وأخبرني عن كيفية تلك الحال.

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ٢١ / ١٤٠.

(٢) ينظر : الروض الأنف ٢ / ٥٩.

(٣) البيت أنشده ابن هشام للأعشى وهو في الروض الأنف ٢ / ٥٩.

٥٥٥

قوله «منه ذكرا» : أي : من أخباره وقصصه.

قوله : (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ).

ومعنى (مَكَّنَّا لَهُ) : أوطأنا ، والتمكين : تمهيد الأسباب قال عليّ : سخّر له السّحاب ، فحمله عليه ، ومدّ له في الأسباب ، وبسط له في النّور ، وكان اللّيل والنهار عليه سواء ، فهذا معنى تمكينه في الأرض ؛ وأنه سهّل عليه السير فيها ، وذلل له طريقها.

وهذا التّمكين بسبب النبوة ، ويحتمل أن يكون المراد التمكين بسبب الملك من حيث إنه ملك مشارق العالم ومغاربه ، والأول أولى ؛ لأنّ التمكين بسبب النبوّة أعلى من التمكين بسبب الملك ، وحمل كلام الله تعالى على الوجه الأكمل الأفضل أولى ، ثم قال : (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) قالوا : السبب في أصل اللغة عبارة عن الحبل ، ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى المقصود ، وهو يتناول العلم والقدرة والآلة ، فلذلك قيل : (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ما يستعين به الملوك على فتح المدن ، ومحاربة الأعداء «سببا» أي : علما يتسبب به إلى كل ما يريد ويسير به في أقطار الأرض ، وقيل : قرّبنا له أقطار الأرض.

واستدلوا بعموم قوله : (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) على أنه كان نبيّا كما تقدّم ، ومن أنكر نبوته قال : المعنى : وآتيناه من كلّ شيء يحتاج إلى إصلاح ملكه إلّا أن تخصيص العموم خلاف الظاهر ، فلا يصار إليه إلّا بدليل.

قوله : (فَأَتْبَعَ سَبَباً).

قرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو «فاتّبع» و«ثمّ اتّبع» في الموضعين بهمزة وصل ، وتشديد التاء. والباقون بهمزة القطع في المواضع الثلاثة وسكون التاء.

فقيل : هما بمعنى واحد فيتعدّيان لمفعول واحد.

وقيل : «أتبع» بالقطع متعدّ لاثنين حذف أحدهما تقديره : فأتبع سببا سببا آخر ، أو فأتبع أمره سببا آخر ، ومنه «وأتبعناهم في هذه الدّنيا لعنة» فعدّاه لاثنين ومن حذف أحد المفعولين : قوله تعالى : (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) ، أي : أتبعوهم جنودهم. واختار أبو عبيد «اتّبع» بالوصل ، قال : «لأنّه من المسير» قال : تقول : تبعت القوم واتّبعتهم. فأمّا الإتباع بالقطع فمعناه اللحاق ، كقوله تعالى : (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ).

وقال يونس ، وأبو زيد : «أتبع» بالقطع عبارة عن المجدّ المسرع الحثيث الطلب. وبالوصل إنّما يتضمّن الاقتفاء دون هذه الصفات.

قال البغويّ : والصحيح الفرق بينهما ، فمن قطع الألف ، فمعناه : أدرك ولحق ، ومن قرأ بالتشديد فمعناه : سار ، يقال : ما زلت أتّبعه حتى اتبعته ، أي : ما زلت أسير خلفه حتى لحقته ، ومعنى الآية : أنه تعالى لمّا أعطاه من كل شيء سببه ، فإذا أراد سببا أتبع سببا يوصله إليه «حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة».

٥٥٦

عن أبي ذرّ قال : كنت رديف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جمل ، فرأى الشمس حين غابت ، فقال : أتدري يا أبا ذرّ ، أتدري أين تغرب هذه؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : «فإنّها تغرب في عين حامية» وهي قراءة ابن مسعود ، وطلحة ، وابن عمر ، واختارها أبو عبيدة ، قال : لأنّ عليها جماعة من الصحابة.

وأما القراءة الثانية ، فهي من الحمأة ، وهي الطّين ، وهي قراءة ابن عبّاس.

فصل

ثبت بالدّليل أنّ الأرض كرة ، وأنّ السماء محيطة ، وأنّ الشمس في الفلك الرابع ، وكيف يعقل دخولها في عين؟ وأيضا قال : «وجد عندها قوما» ومعلوم أن جلوس القوم قرب الشّمس غير موجود ، وأيضا فالشمس أكبر من الأرض بمرات كثيرة ، فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض؟ وإذا ثبت هذا فنقول : تأويل قوله تعالى : (تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) من وجوه :

الأول : أنّ ذا القرنين لما بلغ موضعا من المغرب ، لم يبق بعده شيء من العمارات ، وجد الشّمس كأنّها تغرب في عين مظلمة ، وإن لم يكن كذلك في الحقيقة كما أنّ راكب البحر يرى الشمس كأنّها تغيب في البحر إذا لم ير الشطّ ، وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر ، ذكر هذا التأويل الجبائيّ في تفسيره.

الثاني : أنّ للجانب الغربيّ من الأرض مساكن يحيط البحر بها ، فالناظر إلى الشّمس يتخيل كأنّها تغيب في تلك البحار ، ولا شكّ أنّ البحار الغربية قوية السخونة ، فهي حامية ، وهي أيضا حمئة لكثرة ما فيها من الماء ومن الحمأة السّوداء ، فقوله : (تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) إشارة إلى أن الجانب الغربي من الأرض قد أحاط البحر به ، وهو موضع شديد السخونة ، قال أهل الأخبار : إنّ الشّمس تغيب في عين كثيرة الماء والحمأة ، وهذا في غاية البعد ؛ وذلك لأنّا إذا رصدنا كسوفا قمريّا ، فإذا اعتبرناه ، ورأينا أنّ المغربيين قالوا : حصل هذا الكسوف في أوّل الليل ، ورأينا المشرقيين ، قالوا : حصل في أوّل النّهار علمنا أن أول الليل عند أهل المغرب هو أول النهار الثاني عند أهل المشرق ، بل ذلك الوقت الذي هو أول الليل عندنا هو وقت العصر في بلد ، ووقت الظّهر في بلد آخر ، ووقت الضّحوة في بلد ثالث ، ووقت طلوع الشمس في بلد رابع ، ونصف الليل في بلد خامس ، وإذا كانت هذه الأحوال معلومة بالاستقراء والأخبار وعلمنا أن الشمس طالعة ظاهرة في كل هذه الأوقات كان الذي يقال : إنّها تغيب في الطين والحمأة كلاما على خلاف اليقين ؛ وكلام الله تعالى مبرّأ عن هذه التهمة ، فلم يبق إلّا أن يصار إلى التّأويل المذكور.

ثم قال : (وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً) أي : عند العين أمة ، وقيل : الضمير [عائد] إلى الشمس.

٥٥٧

قال ابن جريج : مدينة لها اثنا عشر ألف باب ، لولا ضجيج أهلها لسمعت وجبة الشمس حين تجب.

قوله : (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) يدل على أنه تعالى كلمه من غير واسطة ، وذلك يدل على أنه كان نبيّا ، فإن قيل : خوطب على ألسنة بعض الأنبياء ، فهو عدول عن الظاهر.

وقال بعضهم : المراد منه الإلهام.

قوله : (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ).

يجوز فيه الرفع على الابتداء ، والخبر محذوف ، أي : إمّا تعذيبك واقع ، والرفع على خبر مضمر ، أي : هو تعذيبك ، والنصب أي : إمّا أن تفعل أن تعذّب.

وهذا يدلّ على أنّ سكّان آخر المغرب ، كانوا كفارا ، فخيّر الله ذا القرنين فيهم بين التعذيب ، إن أقاموا على الكفر ، وبين المنّ عليهم ، والعفو عنهم ، وهذا التخيير على معنى الاجتهاد في أصلح الأمرين ، كما خيّر نبيه ـ محمدا عليه الصلاة والسلام ـ بين المنّ على المشركين ، وبين قتلهم.

وقال الأكثرون : هذا التعذيب هو القتل ، وأمّا اتّخاذ الحسنى فيهم ، فهو تركهم أحياء.

ثم قال ذو القرنين : (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ) أي : ظلم نفسه ؛ بمعنى «كفر» لأنّه ذكر في مقابلته : (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ) ثم قال : (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) أي بقتله (ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ) في الآخرة (عَذاباً نُكْراً) أي : منكرا فظيعا. وهو النار ، والنار أنكر من القتل.

قوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً).

(وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) الآية.

قوله : (جَزاءً الْحُسْنى) قرأ (١) الأخوان ، وحفص بنصب «جزاء» وتنوينه ، والباقون برفعه مضافا ، فالنصب على المصدر المؤكّد لمضون الجملة ، أو بنصب بمضمر ، أو مؤكد لعامل من لفظه مقدّر ، أي : يجزي جزاء ، وتكون الجملة معترضة بين المبتدأ وخبره المقدّم عليه ، وقد يعترض على الأول : بأنّ المصدر المؤكّد لمضمون جملة لا يتقدّم عليها ، فكذا لا يتوسّط ، وفيه نظر يحتمل الجواز والمنع ، وهو إلى الجواز أقرب.

الثالث : أنه في موضع الحال.

الرابع : نصبه على التفسير ، قاله الفراء (٢) ؛ يعني التمييز ، وهو بعيد.

وقرأ (٣) ابن عباس ، ومسروق بالنصب والإضافة ، وفيها تخريجان :

__________________

(١) ينظر : السبعة ٣٩٨ ، والنشر ٢ / ٣١٥ ، والتيسير ١٤٥ ، والحجة ٤٣٠ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٧٠ ، وإعراب القراءات ١ / ٤١٦ ، والقرطبي ١١ / ٣٦ ، والبحر ٦ / ١٥٢.

(٢) ينظر : معاني القرآن للفراء ٢ / ١٥٩.

(٣) ينظر : البحر ٦ / ١٥٢ ، والدر المصون ٤ / ٤٨٠.

٥٥٨

أحدهما : أن المبتدأ محذوف ، وهو العامل في (جَزاءً الْحُسْنى) التقدير : فله الجزاء جزاء الحسنى.

والثاني : أنه حذف التنوين لالتقاء الساكنين ؛ كقوله : [المتقارب]

٣٥٦٥ ـ ...........

ولا ذاكر الله إلّا قليلا (١)

ذكره المهدويّ.

والقراءة الثانية رفعه فيها على الابتداء ، والخبر الجار قبله ، و«الحسنى» مضاف إليها ، والمراد بالحسنى الجنّة ، وقيل : الفعلة الحسنى.

وقرأ عبد الله ، وابن أبي إسحاق (٢) «جزاء» مرفوعا منونا على الابتداء ، و«الحسنى» بدلّ ، أو بيان ، أو منصوبة بإضمار «أعني» أو خبر مبتدأ مضمر.

و«يسرا» نعت مصدر محذوف ، أي : قولا ذا يسر ، وقرأ أبو جعفر بضم السين في اليسر حيث ورد.

فصل في اختلاف معنى الآية باختلاف القراءة

قال المفسرون : المعنى على قراءة النصب : فله الحسنى جزاء ؛ كما يقال : لك هذا الثوب هبة.

وعلى قراءة الرفع ، فيه وجهان :

أحدهما : فله الجزاء الحسنى ، والفعلة الحسنى : هي الإيمان ، والعمل الصّالح.

والثاني : فله جزاء المثوبة الحسنى ، وإضافة الموصوف إلى الصّفة مشهورة ؛ كقوله : (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) [يوسف : ١٠٩]. و (حَقُّ الْيَقِينِ) [الواقعة : ٩٥].

وقوله : (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) الآية ، أي : لا نأمره بالصّعب الشّاق ، ولكن بالسّهل الميسّر من الزّكاة ، والخراج وغيرهما ، وتقديره : ذا يسر ؛ كقوله : (قَوْلاً مَيْسُوراً) [الإسراء : ٢٨].

قوله : (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ).

أي : سلك طرقا ومنازل (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ) أي : موضع طلوعها (وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً).

قال الحسن وقتادة (٣) : لم يكن بينهم وبين الشمس سترا ، وليس هناك شجر ، ولا

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : القرطبي ١١ / ٣٦ ، والبحر ٦ / ١٥٢ ، والدر المصون ٤ / ٤٨٠.

(٣) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٧٩.

٥٥٩

جبل ، ولا أبنية ، تمنع [طلوع](١) الشمس عليهم ؛ لأنّهم كانوا في مكان لا يستقرّ عليهم بناء ، وكانوا يكونون في أسراب لهم ، حتّى إذا زالت الشمس عنهم ، خرجوا إلى معايشهم وحروثهم.

وقال الحسن (٢) : كانوا إذا طلعت الشمس ، يدخلون الماء ، فإذا ارتفعت عنهم ، خرجوا فرعوا ؛ كأنّهم بهائم.

قال الكلبيّ (٣) : هم قوم عراة ؛ كسائر الحيوان ، يفترش أحدهم أذنيه ؛ أحدهما : تحته ، ويلتحف بالأخرى.

فصل فيما يروى عن السد

ذكروا في بعض كتب التفسير : أن بعضهم ، قال (٤) : سافرت ، حتّى جاوزت الصّين ، فسألت عن هؤلاء القوم ، فقيل : بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة ، فبلغتهم ، فإذا أحدهم يفترش إحدى أذنيه ، ويلبس الأخرى ، فلما قرب طلوع الشمس ، سمعت صوتا كهيئة الصّلصلة ، فغشي عليّ ، ثم أفقت ، فلمّا طلعت الشمس ؛ إذ هي فوق الماء ؛ كهيئة الزيت ، فأدخلونا سربا لهم ، فلما ارتفع النّهار ، جعلوا يصطادون السّمك فيطرحونه في الشمس ؛ فينضج.

قوله : (مَطْلِعَ الشَّمْسِ).

العامّة على كسر اللام من «مطلع» والمضارع «يطلع» بالضم ، فكان القياس فتح اللام في المفعل مطلقا ، ولكنّها مع أخوات لها سمع فيها الكسر ، وقياسها الفتح ، وقد قرأ (٥) به الحسن ، وعيسى ، وابن محيصن ، ورويت عن ابن كثير ، وأهل مكة ، قال الكسائي : «هذه اللغة قد ماتت» يعني : أي : بكسر اللام من المضارع ، والمفعل ، وهذا يشعر أنّ من العرب من كان يقول : طلع يطلع ، بالكسر في المضارع.

قوله : (كَذلِكَ) : الكاف : إمّا مرفوعة المحلّ ، أي : الأمر كذلك ، أو منصوبته ، أي: فعلنا مثل ذلك.

ومعنى الكلام : كذلك فعل ذو القرنين ، أتبع هذه الأسباب ، حتى بلغ ، وقد علمنا حين ملّكناه ما عنده من الصلاحية لذلك الملك.

وقيل : كذلك جعل الله أمر هؤلاء القوم على ما قد أعلم رسول الله ـ عليه‌السلام ـ في هذا الذّكر.

وقيل : كذلك كانت حاله مع أهل المطلع ؛ كما كانت حاله مع أهل المغرب ، قضى

__________________

(١) في ب : وقوع.

(٢) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٧٩.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٤٣.

(٥) ينظر : الإتحاف ٢ / ٢٢٤ ، والقرطبي ١١ / ٣٦ ، والبحر ٦ / ١٥٢ ، والدر المصون ٤ / ٤٨١.

٥٦٠