اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

ليؤمن البعض الآخر ، فمن أين أن ذلك الكتاب قيم لا عوج فيه؟ لأنه لو كان فيه عوج لما زاد على ذلك.

والثالث : قوله : «لينذر» وفيه دلالة على أنّه تعالى أراد منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنذار الكلّ وتبشير الكلّ ، وبتقدير أن يكون خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى لم يبق للإنذار والتبشير فائدة ؛ لأنّه تعالى إذا خلق الإيمان حصل شاء العبد أو لم يشأ ، وإذا خلق الكفر [حصل](١) شاء العبد أو لم يشأ ، فيصير الإنذار والتبشير على الكفر والإيمان جاريا مجرى الإنذار والتبشير على كونه طويلا وقصيرا وأبيض وأسود ممّا لا قدرة للعبد عليه.

الرابع : وصفه المفسرون بأنّ المؤمنين يعملون الصالحات فإن كان خلقا لله تعالى ، فلا علم لهم به ألبتة.

الخامس : إيجابه لهم الأجر الحسن على ما عملوا ؛ فإن الله تعالى قادر بخلق ذلك فيهم ، فلا إيجاب ولا استحقاق.

المسألة الثالثة (٢) : دلّت الآية على أنّه تعالى يفعل أفعاله لأغراض صحيحة ، وذلك يبطل قول من يقول : إنّ فعله غير معلّل بالغرض (٣).

فصل

واعلم أن هذه الكلمات قد تكررت في هذا الكتاب فلا فائدة في الإعادة.

قوله تعالى : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً)(٥)

اعلم أنّ قوله : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) معطوف على قوله : (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) ، والمعطوف يجب كونه مغايرا للمعطوف عليه ، فالأول عام في حقّ كلّ من استحقّ العذاب ، والثاني خاصّ بمن قال : إنّ الله اتّخذ ولدا ، والقرآن جار بأنه إذا ذكر الله قضية كلية عطف عليها بعض جزئياتها ؛ تنبيها على كون ذلك البعض المعطوف أعظم جزئيات ذلك الكلي [أيضا] ، كقوله تعالى : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨] فكذا هاهنا يدل على أن أعظم أنواع الكفر والمعصية إثبات الولد لله تعالى.

فصل

واعلم أنّ المثبتين لله تعالى الولد ثلاث طوائف :

الأولى : كفار العرب الذين قالوا : الملائكة بنات الله.

الثانية : النصارى قالوا : المسيح ابن الله.

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) في الرازي : الرابعة ، وهو خطأ.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٦٥.

٤٢١

الثالثة : اليهود ، [حيث](١) قالوا : العزير ابن الله.

واعلم أنّ إثبات الولد لله كفر عظيم ، وتقدّم الكلام على ذلك في سورة الأنعام في قوله : (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام : ١٠٠] وسيأتي تمامه ـ إن شاء الله تعالى ـ في سورة مريم ؛ لأنّه تعالى أنكر على القائلين بإثبات الولد من وجهين :

الأول : قوله : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ).

فإن قيل : اتخاذ الله تعالى الولد محال في نفسه ، فكيف قيل : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ)؟.

فالجواب أنّ انتفاء العلم بالشيء قد يكون للجهل بالطريق الموصل إليه ؛ وقد يكون لأنّه في نفسه محال ، لا يمكن تعلق العلم به ، ونظيره قوله : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) [المؤمنون : ١١٧].

فصل

تمسّك نفاة القياس بهذه الآية ، فقالوا : دلّت هذه الآية على أن القول في الدّين بغير علم باطل ، والقول بالقياس الظنيّ قول في الدّين بغير علم ، فيكون باطلا.

وجوابه تقدم عند قوله : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء : ٣٦].

وقوله : (وَلا لِآبائِهِمْ) أي أحدا من أسلافهم ، وهذه مبالغة في كون تلك المقالة فاسدة باطلاة جدّا.

قوله : (ما لَهُمْ بِهِ) : أي : بالولد ، أو باتخاذه ، أو بالقول المدلول عليه ب «اتّخذ» وب «قالوا» ، وبالله.

وهذه الجملة المنفية فيها ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنها مستأنفة ، سيقت للإخبار بذلك.

والثاني : أنها صفة للولد ، قاله المهدويّ ، وردّه ابن عطية : بأنه لا يصفه بذلك إلّا القائلون ، وهم لم يقصدوا وصفه بذلك.

الثالث : أنها حال من فاعل «قالوا» ، أي : قالوه جاهلين.

و (مِنْ عِلْمٍ) يجوز أن يكون فاعلا ، وأن يكون مبتدأ ، والجارّ هو الرافع لاعتماده أو الخبر ، و«من» مزيدة على كلا القولين.

قوله : «كبرت كلمة» في فاعل «كبرت» وجهان :

أحدهما : أنه مضمر عائد على مقالتهم المفهومة من قوله : (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ) أي : كبر مقالهم ، و«كلمة» نصب على التمييز ، ومعنى الكلام على التعجّب ، أي : ما أكبرها

__________________

(١) زيادة من أ.

٤٢٢

كلمة ، و«تخرج» الجملة صفة ل «كلمة» ويؤذن باستعظامها لأنّ بعض ما يهجس في الخاطر لا يجسر الإنسان على إظهاره باللفظ.

والثاني : أن الفاعل مضمر مفسر بالنكرة بعده المنصوبة على التمييز ، ومعناها الذمّ ؛ ك «بئس رجلا» فعلى هذا : المخصوص بالذمّ محذوف ، تقديره : كبرت هي الكلمة كلمة خارجة من أفواههم تلك المقالة الشنعاء.

وقرأ العامة «كلمة» بالنصب ، وفيها وجهان :

النصب على التمييز تقديره كبرت الكلمة.

قال الواحديّ (١) : ومعنى التمييز : أنّك إذا قلت : كبرت المقالة أو الكلمة ، جاز أن يتوهم أنّها كبرت كذبا ، أو جهلا ، أو افتراء ، فلما قلت : «كلمة» فقد ميّزتها من محتملاتها ، فانتصبت على التّمييز ، والتقدير : كبرت الكلمة كلمة ، فحصل فيه الإضمار.

وأمّا من رفع «كلمة» فلا يضمر شيئا.

قال النحويّون : النصب أقوى وأبلغ.

وقد تقدّم تحقيقه في الوجهين السابقين.

والثاني : النصب على الحال ، وليس بظاهر وقيل : نصبا على حذف حرف الجرّ ، والتقدير : «من كلمة» فحذف «من» فانتصب.

قوله : «تخرج» في الجملة وجهان :

أحدهما : هي صفة لكلمة.

والثاني : أنها صفة للمخصوص بالذّم المقدر ، تقديره : كبرت كلمة خارجة كلمة.

وقرأ (٢) الحسن ، وابن محيصن ، وابن يعمر ، وابن كثير ـ في رواية القوّاس عنه ـ «كلمة» بالرفع على الفاعلية ، و«تخرج» صفة لها أيضا ، وقرىء (٣) «كبرت» بسكون الباء ، وهي لغة تميم.

قوله : «كذبا» فيه وجهان :

أحدهما : هو مفعول به ؛ لأنه يتضمّن معنى جملة.

والثاني : هو نعت مصدر محذوف ، أي : قولا كذبا.

فصل في المراد من الكلمة

المراد من هذه الكلمة هو قولهم : (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) فصارت مضمرة في «كبرت» ، وسمّيت : «كلمة» كما يسمّون القصيدة كلمة.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٦٦.

(٢) ينظر : الإتحاف ٢ / ٢٠٩ ، والبحر ٦ / ٠٥ ، ٩٦ ، والدر المصون ٤ / ٤٣٣.

(٣) ينظر : البحر ٦ / ٩٥ ، والدر المصون ٤ / ٤٣٣.

٤٢٣

وقوله : (تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) أي : هذا الذي يقولونه ، لا يحكم به عقلهم وفكرهم ألبتّة ؛ لكونه في غاية الفساد والبطلان ، فكأنّه يجري على لسانهم على سبيل التقليد (إِنْ يَقُولُونَ) ، أي : ما يقولون إلّا كذبا.

واختلف النّاس في حقيقة (١) الكذب ، فقيل : هو الخبر الذي لا يطابق المخبر عنه.

وقيل : قال بعضهم : يشترط علم قائله بأنّه غير مطابق.

قال ابن الخطيب (٢) : وهذا القيد (٣) عندنا باطل ؛ لأنّه تعالى وصف قولهم بإثبات الولد لله بكونه كذبا مع أن الكثير منهم يقول ذلك ، ولا يعلم كونه كذبا باطلا ، فعلمنا أن كلّ خبر لا يطابق المخبر عنه ، فهو كذب ، سواء علم القائل بكونه كذبا ، أو لم يعلم.

ويمكن أن يجاب بأنّ الله تعالى ، إنما وصف علماءهم المحرّفين للكلم عن مواضعه ، ودخل المقلّدون على سبيل التّبع عليه.

فصل في الرد على النظّام

احتجّ النظّام على أنّ الكلام جسم بهذه (٤) الآية ، قال : لأنّه تعالى وصف الكلمة بأنّها تخرج من أفواههم ، والخروج عبارة عن الحركة ، والحركة لا تصحّ إلّا على الأجسام ، وأجيب : بأنّ الحروف والأصوات إنّما تحدث بسبب خروج النفس من الحلق ، فلما كان خروج النّفس سببا لحدوث الكلمة ، أطلق لفظ الخروج على الكلمة.

قوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (٦)

والمقصود منه أنّه قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا يعظم حزنك وأسفك (٥) ؛ بسبب كفرهم ؛ فإنّا بعثناك منذرا ومبشّرا ، فأما تحصيل الإيمان في قلوبهم ، فلا قدرة لك عليه ، والغرض منه تسلية الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومعنى : (باخِعٌ نَفْسَكَ) أي : قاتل نفسك.

قال الليث : بخع الرّجل نفسه إذا قتلها غيظا من شدّة وجده ، والفاء في قوله : (فلعلّك) قيل : جواب الشرط ، وهو قوله : (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا) قدم عليه ، ومعناه التأخير.

وقال الجمهور : جواب الشرط محذوف لدلالة قوله : «فلعلّك».

و«لعلّك» قيل : للإشفاق على بابها. وقيل : للاستفهام ، وهو رأي الكوفيّين. وقيل : للنّهي ، أي : لا تبخع.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٦٧.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) في أ: القول.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٦٦.

(٥) في أ: إساءتك.

٤٢٤

والبخع : الإهلاك ، يقال : بخع الرجل نفسه يبخعها بخعا وبخوعا ، أهلكها وجدا. قال ذو الرمة : [الطويل]

٣٤٨٣ ـ ألا أيّهذا الباخع الوجد نفسه

لشيء نحته عن يديه المقادر (١)

يريد : نحّته بالتشديد ، فخفف ، قال الأصمعي : كان ينشده : «الوجد» بالنصب على المفعول له ، وأبو عبيدة رواه بالرّفع على الفاعلية ب «الباخع».

وقيل : البخع : أن تضعف الأرض بالزّراعة ، قاله الكسائي ، وقيل : هو جهد الأرض وعلى هذا معنى (باخِعٌ نَفْسَكَ) أي ناهكها وجاهدها ؛ حتّى تهلكها ، وقيل : هو جهد الأرض في حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن عمر : «بخع (٢) الأرض» تعني جهدها ؛ حتّى أخذ ما فيها من أموال ملوكها ، وهذا استعارة ، ولم يفسّره الزمخشريّ هنا بغير القتل والإهلاك ، وقال في سورة الشعراء : «البخع» : أن يبلغ بالذّبح البخاع بالباء وهو عرق مستبطن الفقار ، وذلك أقصى حدّ الذابح. قال شهاب الدين : وسمعت شيخنا علاء الدين القونيّ يقول : «تتبّعت كتب الطبّ والتشريح ، فلم أجد لهذا أصلا».

فصل

يحتمل أنه لما ذكروه ، سمّوه باسم آخر ؛ لكونه أشهر فيما بينهم.

وقال الرّاغب (٣) : «البخع : قتل النفس غمّا» ثم قال : «وبخع فلان بالطاعة ، وبما عليه من الحق : إذا أقرّ به ، وأذعن مع كراهة شديدة ، تجري مجرى بخع نفسه في شدّته».

قوله : (عَلى آثارِهِمْ) متعلّق ب «باخع» أي : من بعد هلاكهم.

يقال : مات فلان على أثر فلان ، أي بعده ، وأصل هذا أنّ الإنسان ، إذا مات ، بقيت علاماته ، وآثاره بعد موته مدّة ، ثمّ إنّها تنمحي وتبطل بالكليّة ، فإذا كان موته قريبا من [موت](٤) الأول ، كان موته حاصلا حال بقاء آثار الأول ، فصحّ أن يقال : مات فلان على أثر فلان.

قوله : (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ) يعني القرآن.

قال القاضي (٥) : وهذا يقتضي وصف القرآن بأنه حديث ، وذلك يدلّ على فساد قول من يقول : إنه قديم.

وأجيب بأنه محمول على الألفاظ ، وهي حادثة.

قوله : (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا) : قرأ العامة بكسر «إن» على أنها شرطية ، والجواب محذوف

__________________

(١) ينظر : ديوانه (٢٥١) ، المقتضب ٤ / ٢٥٩ ، شرح المفصل لابن يعيش ٢ / ٧ ، مجاز القرآن ١ / ٣٩٣ ، التّاج واللسان «بخع» ، الدر المصون ٤ / ٣٣٤ ، الراغب [بخع].

(٢) ينظر : تفسير الرازي (٢١ / ٦٧).

(٣) ينظر : المفردات ٤٨.

(٤) سقط من ب.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٦٧.

٤٢٥

عند الجمهور ؛ لدلالة قوله : «فلعلّك» ، وعند غيرهم هو جواب متقدّم ، وقرىء (١) : «أن لم» بالفتح ؛ على حذف الجارّ ، أي : لأن لم يؤمنوا.

وقرىء (٢) «باخع نفسك» بالإضافة ، والأصل النصب ، وقال الزمخشريّ (٣) : «وقرىء «باخع نفسك» على الأصل ، وعلى الإضافة. أي : قاتلها ومهلكها ، وهو للاستقبال فيمن قرأ (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا) ، وللمضيّ فيمن قرأ (إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا) بمعنى : لأن لم تؤمنوا» يعني أنّ باخعا للاستقبال في قراءة كسر «إن» فإنها شرطية ، وللمضيّ في قراءة فتحها ، وذلك لا يأتي إلا في قراءة الإضافة ؛ إذ لا يتصوّر المضيّ مع النصب عند البصريين ، وعلى هذا يلزم ألّا يقرأ بالفتح ، إلا من قرأ بإضافة «باخع» ، ويحتاج في ذلك إلى نقل وتوقيف.

قوله : «أسفا» يجوز أن يكون مفعولا من أجله ، والعامل فيه «باخع» وأن يكون مصدرا في موضع الحال من الضمير في «باخع».

والأسف : الحزن ، وقيل : الغضب ، وقد تقدّم في الأعراف عند قوله : (غَضْبانَ أَسِفاً) [الأعراف : ١٥٠] وفي يوسف عند قوله : (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ) [يوسف : ٨٤].

قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً)(٨)

قوله : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها) الآية.

قال القاضي (٤) : وجه النّظم كأنه يقول : يا محمد ، إنّي خلقت الأرض ، وزينتها ، وأخرجت منها أنواع المنافع والمصالح ، وأيضا ، فالمقصود من خلقها بما فيها من المصالح ابتلاء الخلق بهذه التكاليف ، ثم إنّهم يكفرون ويتمرّدون ، ومع ذلك ، فلا أقطع عنهم موادّ هذه النّعم ، فأنت أيضا يا محمد لا يهمّك الحزن ؛ بسبب كفرهم إلى أن تترك الاشتغال بدعوتهم إلى الدّين.

قوله : (زِينَةً) : يجوز أن ينتصب على المفعول له ، وأن ينتصب على الحال ، إن جعلت «جعلنا» بمعنى «خلقنا» ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا ، إن كانت «جعل» تصييرية ، و«لها» متعلق ب «زينة» على العلّة ، ويجوز أن تكون اللام زائدة في المفعول ، ويجوز أن تتعلق بمحذوف صفة ل «زينة».

وقوله : «لنبلوهم» متعلق ب «جعلنا» بمعنييه.

__________________

(١) ذكره الفراء للأعشى عن أبي بكر عن عاصم ينظر : الشواذ ص ٨١.

(٢) نسبها في الشواذ ٨٢ ، إلى قتادة ، ينظر : البحر ٦ / ٩٦ ، والدر المصون ٤ / ٤٣٤.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٧٠٤.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٦٨.

٤٢٦

قوله : (أَيُّهُمْ أَحْسَنُ) يجوز في «أيّهم» وجهان :

أحدهما : أن تكون استفهامية مرفوعة بالابتداء ، و«أحسن» خبرها ، والجملة في محلّ نصب متعلقة ب «نبلوهم» لأنه سبب العلم ، والسؤال ، والنظر.

والثاني : أنّها موصولة بمعنى الذي و«أحسن» خبر مبتدأ مضمر ، والجملة صلة ل «أيّهم» ويكون هذا الموصول في محلّ نصب بدلا من مفعول «لنبلوهم» تقديره لنبلو الذي هو أحسن ؛ وحينئذ تحتمل الضمة في «أيّهم» أن تكون للبناء ، كهي في قوله تعالى : (لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ) [مريم : ٦٩] على أحد الأقوال ، وفي قوله : [المتقارب]

٣٤٨٤ ـ إذا ما أتيت بني مالك

فسلّم على أيّهم أفضل (١)

وشرط البناء موجود ، وهو الإضافة لفظا ، وحذف صدر الصلة ، وهذا مذهب سيبويه (٢) ، وأن تكون للإعراب ؛ لأنّ البناء جائز لا واجب ، ومن الإعراب ما قرىء به شاذّا (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ) [مريم : ٦٩] وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه في مريم.

والضمير في «لنبلوهم» و«أيّهم» عائد على ما يفهم من السّياق ، وهم سكان الأرض. وقيل : يعود على ما على الأرض ، إذا أريد بها العقلاء ، وفي التفسير : المراد بذلك الرّعاة (٣). وقيل : العلماء والصلحاء والخلفاء (٤).

فصل في المقصود بالزينة

اختلفوا في تفسير هذه الزينة ، فقيل (٥) : النّبات ، والشجر ، والأنهار.

كما قال تعالى : (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ) [يونس : ٢٤] وضمّ بعضهم إليه الذّهب ، والفضّة ، والمعادن ، وضمّ بعضهم إلى ذلك جميع الحيوان ، فإن قيل : أي زينة في الحيّات والعقارب [والشياطين](٦).

فالجواب : فيها زينة ؛ بمعنى أنّها تدلّ على وحدانيّة الله تعالى.

وقال مجاهد (٧) : أراد الرجال خاصّة هم زينة الأرض.

وقيل : أراد به العلماء والصلحاء.

وقيل : أراد به الناس.

__________________

(١) البيت لغسان بن وعلة. ينظر : شرح المفصل لابن يعيش ٣ / ١٤٧ ، المغني ١ / ٧٨ ، أوضح المسالك ١ / ٧٥ ، الإنصاف ٢ / ٣٨٢ ، التصريح ١ / ١٣٥ ، الهمع ١ / ٨٤ ، شواهد المغني ٨١ ، الأشموني / ١٦٦ ، الخزانة ٦ / ٦١ ، الدرر ١ / ٦٠ ، حاشية يس ١ / ١٣٥ ، الدر المصون ٤ / ٤٣٥.

(٢) ينظر : الكتاب ١ / ٣٩٧ ـ ٣٩٨.

(٣) في ب : الرجال.

(٤) سقط من أ.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٦٨.

(٦) في أ: وأشياء.

(٧) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٤٤.

٤٢٧

وبالجملة ، فليس في الأرض إلّا المواليد الثلاثة ، وهي المعادن ، والنبات ، والحيوان ، وأشرف أنواع الحيوان الإنسان.

قال القاضي (١) : الأولى ألّا يدخل المكلّف في هذه الزّينة ؛ لأنّ الله تعالى قال : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ) فمن يبلوهم يجب ألّا يدخل في ذلك.

وأجيب بأن قوله : (زِينَةً لَها) أي للأرض ، ولا يمتنع أن يكون ما تحسن به الأرض زينة لها ، كما جعل الله السّماء مزينة بالكواكب.

وقوله : (لِنَبْلُوَهُمْ) لنختبرهم (أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ، أي : أصلح عملا.

وقيل : أيّهم أترك للدّنيا.

فصل

ذهب هشام بن الحكم إلى أنّه تعالى لا يعلم الحوادث إلّا عند دخولها في الوجود ، فعلى هذا : الابتلاء والامتحان على الله جائز ؛ واحتجّ بأنه تعالى لو كان عالما بالجزئيّات قبل وقوعها ، لكان كلّ ما علم وقوعه واجب الوقوع ، وكل ما علم عدمه ممتنع الوقوع ، وإلّا لزم انقلاب علمه جهلا ، وذلك محال ، والمفضي إلى المحال محال ، ولو كان ذلك واجبا ، فالذي علم وقوعه يجب كونه فاعلا له ، ولا قدرة له على التّرك ، والذي علم عدمه يكون ممتنع الوقوع ، ولا قدرة له على الفعل ، وعلى هذا يلزم ألّا يكون الله قادرا على شيء أصلا ، بل يكون موجبا بالذّات.

وأيضا ، فيلزم ألا يكون للعبد قدرة على الفعل ، ولا على الترك ؛ لأنّ ما علم الله وقوعه ، امتنع من العبد تركه ، وما علم عدمه ، امتنع منه فعله ، فالقول بكونه تعالى عالما بالأشياء قبل وقوعها ، يقدح في الربوبيّة ، وفي العبوديّة ، وذلك باطل ؛ فثبت أنّه تعالى إنما يعلم الأشياء عند وقوعها ، أي عند ذلك ، وعلى هذا التقدير ، فالابتلاء والامتحان والاختبار غير جائز عليه ، وعند هذا قال : يجرى قوله : (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) على ظاهره.

وأمّا جمهور علماء الإسلام ، فقد استبعدوا هذا القول ، وقالوا : إنه تعالى من الأزل إلى الأبد عالم بجميع الجزئيّات ، والابتلاء والامتحان عليه محال ، وأيتما وردت هذه الألفاظ فالمراد أنّه تعالى يعاملهم معاملة ، لو صدرت عن غيره ، لكانت على سبيل الابتلاء والامتحان.

فصل في تعليل أفعال الله تعالى

قالت المعتزلة : دلّت هذه الآية ظاهرا على أنّ أفعال الله تعالى معلّلة بالأغراض.

وقال أهل السنة : هذا محال ؛ لأنّ التعليل بالغرض إنّما يصحّ في حقّ من لا يصحّ منه

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٦٨.

٤٢٨

تحصيل ذلك الغرض ، إلّا بتلك الواسطة ، وهذا يقتضي العجز ، وهو على الله تعالى محال.

قوله : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً).

والمعنى أنّه تعالى إنما زيّن الأرض ؛ لأجل الامتحان والابتلاء ، لا لأجل أن يبقى الإنسان فيها متنّعما بها لا زاهدا فيها أي : لجاعلون ما عليها من هذه الزّينة (صَعِيداً جُرُزاً).

ونظيره : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) [الرحمن : ٢٦].

وقوله : (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٦ ، ١٠٧].

وقوله : (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) [الانشقاق : ٣ ، ٤].

والمعنى أنّه لا بدّ من المجازاة بعد إفناء ما على الأرض ، وتخصيص الإهلاك بما على الأرض يوهم بقاء الأرض ، إلا أنّ سائر الآيات دلّت أيضا على أنّ الأرض لا تبقى ، وهو قوله : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) [إبراهيم : ٤٨].

قوله : (صَعِيداً) : مفعول ثان ؛ لأنّ الجعل هنا تصيير ليس إلّا ، والصعيد : التراب.

وقال أبو عبيدة : الصعيد المستوي من الأرض.

وقال الزجاج : هو الطّريق الذي لا طين له ، أو لا نبات فيه. وقد تقدّم في آية التيمم. والجرز : الذي لا نبات به ، يقال : سنة جرز ، وسنون أجراز : لا مطر فيها ، وأرض جرز ، وأرضون أجراز : لا نبات فيها قال الفراء : جرزت الأرض ؛ فهي مجروزة إذا ذهب نباتها بقحط أو جراز يقال جرزها الجراد والشياة والإبل إذا أكل ما عليها وامرأة مجروز : إذا كانت أكولة. قال الشاعر : [الرجز]

٣٤٨٥ ـ إنّ العجوز خبّة جروزا

تأكل كلّ ليلة قفيزا (١)

وسيف جراز ، إذا كان مستأصلا.

ونظيره قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) [السجدة : ٢٧].

قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً)(١٢)

قوله : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) الآية.

معناها : أظننت ، يا محمد ، أنّ أصحاب الكهف والرّقيم كانوا من آياتنا عجبا.

__________________

(١) تقدم.

٤٢٩

وقيل : معناه أنّهم ليسوا بأعجب من آياتنا ؛ فإنّ ما خلقت من السموات والأرض وما فيهن من العجائب أعجب منهم ، فكيف يستبعد من قدرته ورحمته حفظ طائفة مدة ثلاثمائة سنة وأكثر؟ هذا وجه النظم.

وقد تقدّم سبب نزول قصّة أصحاب الكهف عند قوله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) [الإسراء : ٨٥].

والكهف هو الغار في الجبل وقيل : مطلق الغار ، وقيل : هو ما اتسع في الجبل ، فإن لم يتّسع ، فهو غار ، والجمع «كهوف» في الكثرة ، و«أكهف» في القلّة.

والرّقيم : قيل : بمعنى مرقوم.

وعلى هذا قال أهل المعاني (١) : الرّقيم الكتاب.

ومنه قوله : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) [المطففين : ٩] أي : مكتوب.

قال الفراء : الرقيم لوح كان فيه أسماؤهم وصفاتهم ، وسمّي رقيما ؛ لأنّ أسماءهم كانت مرقومة فيه.

قال سعيد بن جبير ، ومجاهد : كان لوحا من حجارة (٢) ، وقيل : من رصاص ، كتبنا فيه أسماءهم وصفاتهم ، وشدّ ذلك اللّوح على باب الكهف ، وهو أظهر الأقوال.

وقيل : بمعنى راقم ، وقيل : هو اسم الكلب الذي لأصحاب الكهف ، وأنشدوا لأمية بن أبي الصّلت : [الطّويل]

٣٤٨٦ ـ وليس بها إلّا الرّقيم مجاورا

وصيدهم ، والقوم بالكهف همّد (٣)

وروى عكرمة عن ابن عبّاس أنّه قال : كلّ القرآن معلوم إلا أربعة : غسلين ، وحنانا ، والأوّاه ، والرّقيم (٤).

وروى عكرمة عن ابن عبّاس أنه سئل عن الرّقيم فقال : زعم كعب أنّها القرية التي خرجوا منها (٥) ، وهو قول السديّ.

وحكي عن ابن عباس : أنّه اسم للوادي الذي فيه أصحاب الكهف ، وعلى هذا هو من رقمة الوادي ، وهو جانبه (٦).

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٧٠.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٨٤) عن سعيد بن جبير وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) ينظر البيت في البحر ٦ / ٩١ ، الدر المصون ٤ / ٤٣٥.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٨٤) وعزاه إلى عبد الرزاق.

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٨٤) وعزاه إلى سعيد بن منصور وعبد الرزاق والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم والزجاج في «أماليه» وابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس.

(٦) ينظر : تفسير القرطبي (١٠ / ٢٣٢) والبغوي (٣ / ١٤٥).

٤٣٠

وقيل : اسم للجبل الذي فيه الكهف.

قوله : (أَمْ حَسِبْتَ) : «أم» هذه منقطعة ، فتقدّر ب «بل» التي للانتقال ، لا للإبطال ، وبهمزة الاستفهام عند جمهور النحاة ، و«بل» وحدها أو بالهمزة وحدها عند غيرهم ، وتقدّم تحقيق القول فيها.

و«أنّ» وما في حيّزها سادّة مسدّ المفعولين ، أو أحدهما ، على الخلاف المشهور.

قوله : «عجبا» يجوز أن تكون خبرا ، و (مِنْ آياتِنا) حال منه ، وأن يكون خبرا ثانيا ، و (مِنْ آياتِنا) خبرا أوّل ، وأن يكون «عجبا» حالا من الضمير المستتر في (مِنْ آياتِنا) لوقوعه خبرا ، ووحّد ، وإن كان صفة في المعنى لجماعة ؛ لأن أصله المصدر قال ابن الخطيب : عجبا ، و«العجب» ها هنا مصدر ، سمّي المفعول به ، والتقدير : «كانوا معجوبا منهم» فسمّوا بالمصدر. وقالوا : «عجبا» في الأصل صفة لمحذوف ، تقديره : آية عجبا ، وقيل : على حذف مضاف ، أي : آية ذات عجب.

قوله : (إِذْ أَوَى) : يجوز أن ينتصب ب «عجبا» وأن ينتصب ب «اذكر» ؛ لأنه لا يجوز أن يكون «إذ» ههنا متعلقا بما قبله على تقدير (أَمْ حَسِبْتَ) ؛ لأنّه كان بين النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وبينهم مدة طويلة ، فلم يتعلق الحسبان بذلك الوقت الذي أووا فيه إلى الكهف ، بل يتعلق بمحذوف.

والتقدير : اذكر إذ أوى الفتية إلى الكهف ، والمعنى صاروا إليه ، وجعلوه مأواهم ، فقالوا : (رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي من خزائن رحمتك.

قوله : «وهيّىء» : العامة على همزة بعد الياء المشددة (١) ، وأبو جعفر وشيبة والزهريّ بياءين : الثانية خفيفة ، وكأنّه أبدل الهمزة ياء ، وإن كان سكونها عارضا ، وروي عن عاصم «وهيّ» بياء مشددة فقط ، فيحتمل أن يكون حذف الهمزة من أول وهلة تخفيفا ، وأن يكون أبدلها ؛ كما فعل أبو جعفر ، ثم أجرى الياء مجرى حرف العلّة الأصليّ ، فحذفه ، وإن كان الكثير خلافه ، ومنه :

٣٤٨٧ ـ جريء متى يظلم يعاقب بظلمه

سريعا وإلّا يبد بالظّلم يظلم (٢)

معنى (هَيِّئْ لَنا) أصلح من قولك «هيّأت الأمر ، فتهيّأ».

وقرأ أبو رجاء (٣) «رشدا» ها هنا بضم الراء وسكون الشين ، وتقدم تحقيق ذلك في الأعراف ، وقراءة العامة هنا أليق ؛ لتوافق الفواصل.

والتقدير : هيّىء لنا أمرا ذا رشد ؛ حتّى نكون بسببه راشدين مهتدين.

وقيل : اجعل أمرنا رشدا كلّه ؛ كقولك : رأيت منه رشدا.

__________________

(١) ينظر : البحر ٦ / ٩٩ ، والنشر ١ / ٣٩٠ ، والإتحاف ٢ / ٢١١ ، والدر المصون ٤ / ٤٣٦.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : البحر ٦ / ٩٩ ، والدر المصون ٤ / ٤٣٦.

٤٣١

قوله : (فَضَرَبْنا) : مفعوله محذوف ، أي : ضربنا الحجاب المانع ، و (عَلَى آذانِهِمْ) استعارة للزوم النوم ؛ كقول الأسود : [الكامل]

٣٤٨٨ ـ ومن الحوادث لا أبا لك أنّني

ضربت عليّ الأرض بالأسداد (١)

وقال الفرزدق : [الكامل]

٣٤٨٩ ـ ضربت عليك العنكبوت بنسجها

وقضى عليك به الكتاب المنزل (٢)

ونصّ على الآذان ؛ لأنّ بالضّرب عليها خصوصا يحصل النّوم. وأمال «آذانهم».

قوله : (فِي الْكَهْفِ) وهو ظرف المكان ، ومعنى الكلام : إنّما هم في الكهف ، واسمه خيرم ، واسم الجبل الذي هو فيه [مخلوس](٣).

وقوله «سنين» ظرف «زمان» ل «ضربنا» و«عددا» يجوز فيه أن يكون مصدرا ، وأن يكون «فعلا» بمعنى مفعول ، أي من باب تسمية المفعول باسم المصدر ، كالقبض والنّقض.

فعلى الأول : يجوز نصبه من وجهين :

أحدهما : النعت ل «سنين» على حذف مضاف ، أي : ذوات عدد ، أو على المبالغة على سبيل التأكيد والنصب بفعل مقدر ، أي : تعدّ عددا.

وعلى الثاني : نعت ليس إلّا ، أي : معدودة.

فصل

[ذكر العدد هنا على سبيل التأكيد](٤) قال الزجاج : ذكر العدد هاهنا يفيد كثرة السّنين ، وكذلك كل شيء ممّا يعدّ إذا ذكر فيه العدد ، ووصف به ، أريد كثرته ؛ لأنّه إذا قلّ ، فهم مقداره بدون التعديد ، أمّا إذا كثر فهناك يحتاج إلى التعديد ، فإذا قلت : أقمت أيّاما عددا ، أردتّ به الكثرة.

قوله : (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ).

اللام لام الغرض ؛ فيدل على أن أفعال الله تعالى معلّلة بالأغراض ، وقد تقدم الكلام فيه ، ونظير هذه الآية في القرآن كثير ، منها ما سبق في هذه السورة ، وفي سورة البقرة : (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ) [البقرة : ١٤٣] وفي آل عمران : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) [آل عمران : ١٤٢] وقوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ) [محمد : ٣١].

فصل

وقال بعض العلماء : «لنعلم» أي : علم المشاهدة.

وقوله : (لِنَعْلَمَ) : متعلق بالبعث ، والعامة على نون العظمة ؛ جريا على ما تقدم

__________________

(١) ينظر : المفضليات ٢ / ١٦ ، البحر ٦ / ٧٩٩ ، القرطبي ١٥ / ٩ ، الدر المصون ٤ / ٤٣٦.

(٢) تقدم.

(٣) في ب : بجلوس.

(٤) سقط من أ.

٤٣٢

وقرأ (١) الزهريّ «ليعلم» بياء الغيبة ، والفاعل الله تعالى ، وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة ، ويجوز أن يكون الفاعل (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) إذا جعلناها موصولة ، كما سيأتي.

وقرىء (٢) «ليعلم» مبنيّا للمفعول ، والقائم مقام الفاعل ، قال الزمخشريّ : «مضمون الجملة ، كما أنه مفعول العلم». وردّه أبو حيان بأنه ليس مذهب البصريين ، وتقدم تحقيق هذا أول البقرة.

وللكوفيين في قيام الجملة مقام الفاعل أو المفعول الذي لم يسمّ فاعله : الجواز مطلقا ، والتفصيل بين ما تعلق به ؛ كهذه الآية فيجوز ، فالزمخشريّ نحا نحوهم على قوليهم ، وإذا جعلنا (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) موصولة ، جاز أن يكون الفعل مسندا إليه في هذه القراءة أيضا ؛ كما جاز إسناده إليه في القراءة قبلها.

وقرىء (٣) «ليعلم» بضم الياء ، والفاعل الله تعالى ، والمفعول الأول محذوف ، تقديره : ليعلم الله الناس ، و (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) في موضع الثاني فقط ، إن كانت عرفانية ، وفي موضع المفعولين إن كانت يقينيّة.

وفي هذه القراءة فائدتان :

إحداهما : أنّ على هذا التقدير : لا يلزم إثبات العلم المتجدّد لله ، بل المقصود أنّا بعثناهم ؛ ليحصل هذا العلم لبعض الخلق.

والثانية : أنّ على هذا التقدير : يجب ظهور النّصب في قوله «أيّ» لكن لقائل أن يقول الإشكال باق ؛ لأنّ ارتفاع لفظة «أيّ» بالابتداء لا بإسناده «ليعلم» إليه.

ولمجيب بأن يجيب ؛ فيقول : لا يمتنع اجتماع عاملين على معمول واحد ؛ لأنّ العوامل النحوية علامات ومعرفات ، ولا يمتنع اجتماع معرفات كثيرة على شيء واحد.

قوله : «أحصى» يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أنه أفعل تفضيل ، وهو خبر ل «أيّهم» و«أيّهم» استفهامية ، وهذه الجملة معلقة للعلم قبلها ، و (لِما لَبِثُوا) حال من «أمدا» ، لأنه لو تأخّر عنه ، لكان نعتا له ، ويجوز أن تكون اللام على بابها من العلّة ، أي : لأجل ، قاله أبو البقاء (٤) ، ويجوز أن تكون زائدة ، و«ما» مفعولة : إمّا ب «أحصى» على رأي من يعمل أفعل التفضيل في المفعول به ، وإما بإضمار فعل ، و«أمدا» مفعول «لبثوا» أو منصوب بفعل مقدر يدلّ عليه أفعل عند الجمهور ، أو منصوب بنفس أفعل عند من يرى ذلك.

__________________

(١) ينظر : البحر ٦ / ١٠٠ ، والدر المصون ٤ / ٤٣٧.

(٢) ينظر : الشواذ ٧٨ ، والبحر ٦ / ١٠٠ ، والدر المصون ٤ / ٤٣٧. وقال في الشواذ : حكاه الأخفش.

(٣) ينظر : البحر ٦ / ١٠٠ ، والدر المصون ٤ / ٤٣٧.

(٤) ينظر : الإملاء ٢ / ٩٩.

٤٣٣

والوجه الثاني : أن يكون «أحصى» فعلا ماضيا [أي : أيهم ضبط أمدا لأوقات لبثهم](١) و«أمدا» مفعوله ، و (لِما لَبِثُوا) متعلق به ، أو حال من «أمدا» أو اللام فيه مزيدة ، وعلى هذا : ف «أمدا» منصوب ب «لبثوا» و«ما» مصدريّة ، أو بمعنى «الذي» واختار الأول ـ أعني كون «أحصى» للتفضيل ـ الزجاج (٢) والتبريزيّ ، واختار الثاني أبو عليّ والزمخشريّ وابن عطيّة ، قال الزمخشري : «فإن قلت : فما تقول فيمن جعله من أفعل التفضيل؟ قلت : ليس بالوجه السديد ، وذلك أن بناءه من غير الثلاثيّ ليس بقياس ، ونحو «أعدى من الجرب» و«أفلس من ابن المذلّق» شاذّ ، والقياس على الشاذّ في غير القرآن ممتنع ، فكيف به؟ ولأنّ «أمدا» : إمّا أن ينتصب بأفعل ، وأفعل لا يعمل ، وإمّا أن ينتصب ب «لبثوا» فلا يسدّ عليه المعنى ، فإن زعمت أني أنصبه بفعل مضمر ، كما أضمر في قوله :

٣٤٩٠ ـ ...........

وأضرب منّا بالسّيوف القوانسا (٣)

فقد أبعدتّ المتناول ؛ حيث أبيت أن يكون «أحصى» فعلا ، ثم رجعت مضطرا إلى تقديره».

وناقشه أبو حيان فقال : «أمّا دعواه أنّه شاذّ ، فمذهب سيبويه خلافه ، وذلك أنّ أفعل فيه ثلاثة مذاهب : الجواز مطلقا ، ويعزى لسيبويه (٤) ، والمنع مطلقا ، وهو مذهب الفارسيّ ، والتفصيل : بين أن يكون همزته للتعدية ، فيمتنع ، وبين ألّا تكون ، فيجوز ، وهذا ليست الهمزة فيه للتعدية ، وأما قوله : «أفعل لا يعمل» فليس بصحيح ؛ لأنه يعمل في التمييز ، و«أمدا» تمييز لا مفعول به ، كما تقول : زيد أقطع النّاس سيفا ، وزيد أقطع للهام سيفا».

فصل

قال شهاب الدين : الذي أحوج الزمخشريّ إلى عدم جعله تمييزا ، مع ظهوره في بادىء الرأي عدم صحّة معناه ، وذلك : أنّ التمييز شرطه في هذا الباب : أن تصحّ نسبة ذلك الوصف الذي قبله إليه ، ويتّصف به ؛ ألا ترى إلى مثاله في قوله : «زيد أقطع النّاس سيفا» كيف يصحّ أن يسند إليه ، فيقال : زيد قطع سيفه ، وسيفه قاطع ، إلى غير ذلك ، وهنا ليس الإحصاء من صفة الأمد ، ولا تصحّ نسبته إليه ، وإنّما هو من صفات الحزبين ، وهو دقيق.

وكان أبو حيان نقل عن أبي البقاء نصبه على التمييز ، وأبو البقاء لم يذكر نصبه على التمييز حال جعله «أحصى» أفعل تفضيل ، وإنما ذكر ذلك حين ذكر أنه فعل ماض ، قال أبو البقاء (٥) : في أحصى وجهان :

__________________

(١) زيادة من ب.

(٢) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٣ / ٢٧.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : الكتاب ١ / ٣٧.

(٥) ينظر : الإملاء ٢ / ٩٩.

٤٣٤

أحدهما : هو فعل ماض ، و«أمدا» مفعوله. و (لِما لَبِثُوا) نعت له ، قدّم ، فصار حالا ، أو مفعولا له ، أي : لأجل لبثهم ، وقيل : اللام زائدة و«ما» بمعنى «الذي» و«أمدا» مفعول «لبثوا» وهو خطأ ، وإنما الوجه أن يكون تمييزا ، والتقدير : لما لبثوه.

والوجه الثاني : هو اسم ، و«أمدا» منصوب بفعل دلّ عليه الاسم انتهى ، فهذا تصريح بأنّ «أمدا» حال جعله «أحصى» اسما ، ليس بتمييز بل مفعول به بفعل مقدر ، وأنه جعله تمييزا عن «لبثوا» كما رأيت.

ثم قال أبو حيّان : «وأمّا قوله «وإمّا أن ينصب ب «لبثوا» فلا يسدّ عليه المعنى ، أي: لا يكون معناه سديدا ، فقد ذهب الطبريّ إلى أنه منصوب ب «لبثوا» قال ابن عطيّة : «وهو غير متّجه» انتهى ، وقد يتّجه : وذلك أنّ الأمد هو الغاية ، ويكون عبارة عن المدّة من حيث إنّ المدّة غاية هي أمد المدّة على الحقيقة ، و«ما» بمعنى «الذي» و«أمدا» منصوب على إسقاط الحرف ، وتقديره : لما لبثوا من أمد ، أي : من مدة ، ويصير «من أمد» تفسيرا لما أبهم من لفظ «ما» كقوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) [البقرة : ١٠٦] (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) [فاطر : ٢] ولمّا سقط الحرف ، وصل إليه الفعل».

قال شهاب الدين : يكفيه أنّ مثل ابن عطيّة جعله غير متّجه ، وعلى تقدير ذلك ، فلا نسلّم أنّ الطبري عنى نصبه ب «لبثوا» مفعولا به ، بل يجوز أن يكون عنى نصبه تمييزا ؛ كما قاله أبو البقاء.

ثم قال : وأمّا قوله : فإن زعمت إلى آخره ، فنقول : لا يحتاج إلى ذلك ؛ لأنّ لقائل ذلك أن يذهب مذهب الكوفيين في أنّه ينصب «القوانس» بنفس «أضرب» ولذلك جعل بعض النحاة أنّ «أعلم» ناصب ل «من» في قوله : (أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُ) [الأنعام : ١١٧] ، وذلك لأنّ أفعل مضمّن لمعنى المصدر ؛ إذ التقدير : «يزيد ضربنا القوانس على ضرب غيرنا».

قال شهاب الدين : هذا مذهب مرجوح ، وأفعل التفضيل ضعيف ، ولذلك قصر عن الصفة المشبهة باسم الفاعل ؛ حيث لم يؤنّث ، ولم يثنّ ، ولم يجمع.

وإذا جعلنا «أحصى» اسما فجوّز أبو حيان في «أي» أن تكون الموصولة ، و«أحصى» خبر لمبتدأ محذوف ، هو عائدها ، وأنّ الضمة للبناء على مذهب سيبويه (١) لوجود شرط البناء ، وهو إضافتها لفظا ، وحذف صدر صلتها ، وهذا إنما يكون على جعل العلم بمعنى العرفان ؛ لأنّه ليس في الكلام إلا مفعول واحد ، وتقدير آخر لا حاجة إليه ، إلا أنّ في إسناد «علم» بمعنى عرف إلى الله تعالى إشكالا تقدّم تحريره في الأنفال وغيرها ، وإذا جعلناه فعلا ، امتنع أن تكون موصولة ؛ إذ لا وجه لبنائها حينئذ ، وهو حسن.

__________________

(١) ينظر : الكتاب ١ / ٣٩٧ ـ ٣٩٨.

٤٣٥

فصل في المراد بالحزبين

روى عطاء عن ابن عبّاس أنّ المراد بالحزبين الملوك الذين تداولوا المدينة ملكا بعد ملك (١) ، فأصحاب الكهف حزب ، والملوك حزب.

وقال مجاهد : «الحزبين» من قوم الفتية (٢) ؛ لأنّهم لما انتبهوا ، اختلفوا في أنّهم كم ناموا ؛ لقوله تعالى : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) [الكهف : ١٩].

وكأنّ الذين قالوا : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) هم الذين علموا بطول مكثهم.

وقال الفراء : هم طائفتان من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدّة لبثهم.

وقولهم : (أَحْصى لِما لَبِثُوا) أي أحفظ لما مكثوا في كهفهم نياما (أَمَداً) أي : غاية.

وقال مجاهد (٣) : عددا (٤).

قوله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً)(١٦)

قوله : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ) [أي : نقص عليك نبأهم](٥) على وجه الصدق.

قوله : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ) شبّان (آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) إيمانا وبصيرة.

وقوله : (آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) : فيه التفات من التكلم إلى الغيبة ؛ إذ لو جاء على نسق الكلام ، لقيل : إنّهم فتية آمنوا بنا ، وقوله : «وزدناهم» التفات من هذه الغيبة إلى التكلم أيضا.

ومعنى قوله : «وربطنا» وشددنا (عَلى قُلُوبِهِمْ) بالصّبر والتثبت ، وقوّيناهم بنور الإيمان ، حتّى صبروا على هجران ديار قومهم ، ومفارقة ما كانوا فيه من خفض العيش ،

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢١ / ٧١) من طريق عطاء عن ابن عباس.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٨٩) وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٥٣.

(٤) في أ: مدادا.

(٥) زيادة من ب.

٤٣٦

وفرّوا بدينهم إلى الكهف ، والرّبط : استعارة لتقوية كلمة في ذلك المكان الدّحض.

قوله : (إِذْ قامُوا) : منصوب ب «ربطنا». وفي هذا القيام أقوال (١) :

أحدها : قال مجاهد : كانوا عظماء مدينتهم ، فخرجوا ، فاجتمعوا وراء المدينة من غير ميعاد ، فقال أكبرهم : إنّي لأجد في نفسي شيئا ، إنّ ربّي ربّ السموات والأرض ، فقالوا : نحن كذلك نجد في أنفسنا ، فقاموا جميعا ، فقالوا : (رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٢).

والثاني : أنّهم قاموا بين يدي ملكهم دقيانوس ، حين عاتبهم على ترك عبادة الصّنم ، (فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً) فثبت الله هؤلاء الفتية وعصمهم ، حتّى عصوا ذلك الجبّار ، وأقرّوا بربوبيّة الله تعالى.

الثالث : قال عطاء ومقاتل : إنهم قالوا ذلك عند قيامهم من النّوم ، وهذا بعيد ؛ لأنّ الله تعالى استأنف قصّتهم (٣) فقال : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ).

قوله : (لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً).

«إذن» جواب وجزاء ، أي : لقد قلنا قولا شططا ، إن دعونا من دونه إلها ، و«شططا» في الأصل مصدر ، يقال : شطّ شططا وشطوطا ، أي : جار وتجاوز حدّه ، ومنه : شطّ في السّوم ، وأشطّ ، أي : جاوز القدر حكاه الزجاج وغيره ، ومن قوله (وَلا تُشْطِطْ) وشطّ المنزل: أي بعد ، [من ذلك] وشطّت الجارية شطاطا أي : طالت ، من ذلك.

فصل

قال الفراء : ولم أسمع إلا «أشطّ يشطّ إشطاطا» فالشطّ البعد عن الحقّ.

قال ابن عباس : «شططا» أي : جورا (٤).

وقال قتادة : كذبا (٥). وفي انتصابه ثلاثة أوجه :

الأول : مذهب سيبويه (٦) النصب على الحال ، من ضمير مصدر «قلنا».

الثاني : نعت لمصدر ، أي : قولا ذا شطط ، أو هو الشّطط نفسه ؛ مبالغة.

الثالث : أنه مفعول ب «قلنا» لتضمّنه معنى الجملة.

قوله : (هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا) : يجوز في «قومنا» أن يكون بدلا ، أو بيانا ، و«اتّخذوا» هو خبر «هؤلاء» ويجوز أن يكون «قومنا» هو الخبر ، و«اتّخذوا» حالا ،

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٨٣.

(٢) ذكره القرطبي (١٠ / ٢٣٨).

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢١ / ٨٣).

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٥٣).

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٩٠) وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن قتادة. وينظر : المصدر السابق.

(٦) ينظر : الكتاب ١ / ١١٦.

٤٣٧

و«اتّخذ» يجوز أن يتعدى لواحد ؛ بمعنى «عملوا» لأنهم نحتوها بأيديهم ، ويجوز أن تكون متعدية لاثنين ؛ بمعنى «صيّروا» و (مِنْ دُونِهِ) هو الثاني قدّم ، و«آلهة» هو الأول ، وعلى الوجه الأول يجوز في (مِنْ دُونِهِ) أن يتعلق ب «اتّخذوا» وأن يتعلق بمحذوف حالا من «آلهة» إذ لو تأخّر ، لجاز أن يكون صفة ل «آلهة».

قوله : (لَوْ لا يَأْتُونَ) تحضيض فيه معنى الإنكار ، و«عليهم» أي : على عبادتهم ، أو على اتخاذهم ، فحذف المضاف للعلم به ، ولا يجوز أن تكون هذه الجملة التحضيضية صفة ل «آلهة» لفساده ؛ معنى وصناعة ؛ لأنها جملة طلبية.

فإن قلت : أضمر قولا ؛ كقوله : [الرجز]

٣٤٩١ ـ جاءوا بمذق هل رأيت الذّئب قط (١)

فالجواب لم يساعد المعنى لفساده عليه.

فصل في المعني بقوله تعالى : (هؤُلاءِ قَوْمُنَا)

هذا قول أصحاب الكهف يعنون أهل بلدهم هم الذين كانوا في زمن دقيانوس ، عبدوا الأصنام (لَوْ لا يَأْتُونَ) هلا يأتون «عليهم» على عبادتهم «بسلطان» بحجّة بينة واضحة ، ومعنى الكلام أن عدم البينة (٢) بعدم الدّليل لا يدلّ (٣) على عدم المدلول ، وهذه الآية تدلّ على صحّة هذه الطريقة ؛ لأنّه تعالى استدلّ على عدم الشركاء والأضداد ؛ لعدم الدّليل عليه ، ثم قال : ومن (أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) فزعم أنّ له شريكا ، وولدا ، يعني أنّ الحكم بثبوت الشيء مع عدم الدليل عليه ظلم وافتراء على الله وكذب ، وهذا من أعظم الدلائل على فساد القول بالتّقليد.

قوله : (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) : «إذ» منصوب بمحذوف ، أي : وقال بعضهم لبعض وقت اعتزالهم ، وجوّز بعضهم أن تكون «إذ» للتعليل ، أي : فأووا إلى الكهف ؛ لاعتزالكم إيّاهم ، ولا يصحّ.

قوله : «وما يعبدون» يجوز في «ما» ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون بمعنى «الذي» والعائد مقدر ، أي : واعتزلتم الذي يعبدونه وهذا واضح. و (إِلَّا اللهَ) يجوز فيه أن يكون استثناء متصلا ، فقد روي أنّهم كانوا يعبدون الله

__________________

(١) عجز بيت لرؤبة وصدره :

حتى إذا جن الظلام واختلط

ينظر البيت في أمالي الزجاجي ٢٣٧ ، المغني ١ / ٢٤٦ ، شرح المفصل لابن يعيش ٣ / ٥٣ ، شرح ديوان الحماسة ١ / ٢١٤ ، المقرب ١ / ٢٢٠ ، الخزانة ٢ / ١٠٩ ، التهذيب واللسان «خضر» ، الدر المصون ٤ / ٤٣٩.

(٢) في أ: التنبيه.

(٣) في أ: على.

٤٣٨

ويشركون به غيره ، ومنقطعا ؛ فقد روي أنهم كانوا يعبدون الأصنام فقط ، والمستثنى منه يجوز أن يكون الموصول ، وأن يكون عائده ، والمعنى واحد.

والثاني : أن تكون مصدرية ، أي : واعتزلتم عبادتهم ، أي : تركتموها ، و (إِلَّا اللهَ) على حذف مضاف ، أي : إلّا عبادة الله ، وفي الاستثناء الوجهان المتقدمان.

الثالث : أنها نافية ، وأنه من كلام الله تعالى ، وعلى هذا ، فهذه الجملة معترضة بين أثناء القصّة ، وإليه ذهب الزمخشريّ ، و (إِلَّا اللهَ) استثناء مفرّغ ، أخبر الله عن الفتية أنهم لا يعبدون غيره ، وقال أبو البقاء (١) : «والثالث : أنها حرف نفي ، فيخرج في الاستثناء وجهان :

أحدهما : هو منقطع ، والثاني : هو متصل ، والمعنى : وإذ اعتزلتموهم إلا الله وما يعبدون إلا الله».

فظاهر هذا الكلام : أن الانقطاع والاتصال في الاستثناء مترتّبان على القول بكون «ما» نافية ، وليس الأمر كذلك.

فصل في كلام أهل الكهف

قال المفسّرون : إنّ أهل الكهف قال بعضهم لبعض : (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) يعني قومكم (وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) ، أي : اعتزلتموهم ، وجميع ما يعبدون إلا الله ، فإنّكم لم تعتزلوا عبادته ، فإنّهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه الأوثان.

وقرأ أبو مسعود (٢) : «وما يعبدون (٣) من دون الله ، فأووا إلى الكهف».

قال الفراء : هو جواب «إذ» كما تقول : إذ فعلت كذا فافعل كذا ، والمعنى اذهبوا إليه ، واجعلوه مأواكم.

(يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) أي يبسطها عليكم ، (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ) يسهّل لكم (مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) ما يعود إليه رفقكم.

قوله : «مرفقا» قرأ الجمهور بكسر الميم ، وفتح الفاء.

وقرأ نافع (٤) وابن عامر وعاصم في رواية البرجمي وأبو جعفر بالعكس ، وفيها خلاف عند أهل اللغة ؛ فقيل : هما بمعنى واحد ، وهو ما يرتفق به ، وليس بمصدر ، وقيل : هو بكسر الميم لليد ، وبفتحها للأمر ، وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر ، حكاه الأزهريّ عن ثعلب ، وأنشد الفراء جمعا بين اللغتين في الجارحة : [الرجز]

٣٤٩٢ ـ بتّ أجافي مرفقا عن مرفق (٥)

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٩٩.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٦ / ١٠٣.

(٣) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٥٣.

(٤) ينظر : السبعة ٣٨٨ ، والحجة ٤١٢ ، والنشر ٢ / ٣١٠ ، والإتحاف ٢ / ٢١٠ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٣٠ ، والبحر ٦ / ١٠٣ ، والدر المصون ٤ / ٤٤٠.

(٥) ينظر البيت في تفسير الطبري ١٥ / ١٣٩ ، الدر المصون ٤ / ٤٤٠.

٤٣٩

و[قد](١) يستعملان معا في الأمر ، وفي الجارحة ، حكاه الزجاج (٢).

وحكى مكيّ ، عن الفرّاء (٣) أنه قال : «لا أعرف في الأمر ، ولا في اليد ، ولا في كلّ شيء إلّا كسر الميم».

قلت : وتواتر قراءة نافع والشاميين يردّ عليه ، وأنكر الكسائي كسر الميم في الجارحة ، وقال : لا أعرف فيه إلّا الفتح ، وهو عكس قول تلميذه ، ولكن خالفه أبو حاتم ، وقال : «هو بفتح الميم : الموضع كالمسجد ، وقال أبو زيد : هو بفتح الميم مصدر جاء على مفعل» وقال بعضهم : هما لغتان فيما يرتفق به ، فأمّا الجارحة ، فبكسر الميم فقط ، وحكي عن الفراء أنه قال : «أهل الحجاز يقولون : «مرفقا» بفتح الميم وكسر الفاء فيما ارتفقت به ، ويكسرون مرفق الإنسان ، والعرب بعد يكسرون الميم منهما جميعا» وأجاز معاذ فتح الميم والفاء ، وهو مصدر كالمضرب والمقتل.

و (مِنْ أَمْرِكُمْ) متعلق بالفعل قبله ، و«من» لابتداء الغاية ، أو للتبعيض.

وقيل : هي بمعنى بدل ، قاله ابن الأنباري ، وأنشد : [الطويل]

٣٤٩٣ ـ فليت لنا من ماء زمزم شربة

مبرّدة باتت على طهيان (٤)

أي : بدلا. ويجوز أن يكون حالا من «مرفقا» فيتعلق بمحذوف.

قوله تعالى : (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً)(١٧)

قوله : (وَتَرَى الشَّمْسَ) أي : أنت أيّها المخاطب ، وليس المراد أنّ من خوطب بهذا يرى هذا المعنى ، ولكنّ العادة في المخاطبة تكون على هذا النحو.

قوله : (إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ).

قرأ (٥) ابن عامر ويعقوب «تزور» بسكون الزاي بزنة تحمرّ.

والكوفيون «تزاور» بتخفيف الزاي ، والباقون بتثقيلها ، ف «تزورّ» بمعنى «تميل» من الزّور ، وهو الميل ، و«زاره» بمعنى «مال إليه» وقول الزّور : ميل عن الحق ، ومنه الأزور ، وهو المائل بعينه وبغيرها ، قال عمر بن أبي ربيعة : [الطويل]

٣٤٩٤ ـ ...........

وجنبي خيفة القوم أزور (٦)

__________________

(١) في ب : وقيل.

(٢) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٣ / ٢٧٤.

(٣) ينظر : معاني القرآن للفراء ٢ / ١٣٦.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر في قراءاتها السبعة ٣٨٨ والحجة ٤١٣ ، والنشر ٢ / ٣١٠ ، والإتحاف ٢ / ٢١١ ، والتيسير ١٤٢ ، والشواذ ٧٨ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٣١ ، وإعراب القراءات ١ / ٣٨٧.

(٦) عجز بيت وهو في ديوانه برواية :

٤٤٠