اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

فصل

يقال : قفوت أثر فلان أقفو قفوا ، إذا تتبّعت أثره ، وسمّيت قافية الشّعر قافية ؛ لأنّ البيت يقفو البيت ، وسمّيت القبيلة المشهورة بالقافة ؛ لأنّهم يتّبعون آثار أقدام النّاس ، ويستدلّون بها على أحوال الإنسان.

وقال تعالى : (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا) [الحديد : ٢٧].

وسمّي القفا قفا ؛ لأنّه مؤخر بدن الإنسان ووراءه ، كأنه شيء يتبعه ويقفوه.

فقوله : (وَلا تَقْفُ) أي : لا تتّبع ما لا علم لك به ، من قول أو فعل ، فهو نهي عن الحكم بما لا يكون معلوما ، وهذه قضية كلية يندرج تحتها أنواع كثيرة ، وكل واحد من المفسّرين حمله على واحد من تلك الأنواع ، فقيل : المراد نهي المشركين عن اعتقاداتهم وتقليد أسلافهم ؛ لأنّه تعالى نسبهم في تلك العقائد إلى اتّباع الهوى ، فقال تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ).

(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) [النجم : ٢٣].

وقال في إنكارهم البعث (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) [النمل : ٦٦].

وحكى عنهم أنّهم قالوا : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) [الجاثية : ٣٢].

وقال : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) [القصص : ٥٠].

وقال عزوجل : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) [النحل : ١١٦].

وقال : (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) [الأنعام : ١٤٨].

وقال محمد ابن الحنفيّة : المراد منه شهادة الزّور (١).

وقال ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ : لا تشهد إلّا بما رأته عيناك ، وسمعته أذناك ، ووعاه قلبك (٢).

وقيل : المراد النّهي عن القذف ، وقيل : المراد النهي عن الكذب.

قال قتادة : لا تقل : سمعت ، ولم تسمع ، ورأيت ، ولم تر ، وعلمت ، ولم تعلم (٣).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٨٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٢٩) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١٦٦) عن ابن عباس.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٨٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٢٩) وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

٢٨١

وقيل : القفو : هو البهت ، وأصله من القفا ؛ كأنه يقال : خلفه ، وهو في معنى الغيبة. واللفظ عامّ يتناول الكلّ ، فلا معنى للتقييد.

فصل في الرد على نفاة القياس

احتجّ نفاة القياس بهذه الآية ، قالوا : القياس لا يفيد إلّا الظنّ ، والظّن مغاير للعلم ، فالحكم في دين الله تعالى بالقياس حكم بغير العلم ؛ فوجب ألا يجوز لقوله تعالى (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ).

وأجيب عنه بوجوه :

الأول : أن الحكم في الدّين بمجرّد الظنّ جائز بإجماع الأمّة في صور كثيرة :

منها : العمل بالفتوى عمل بالظنّ.

ومنها : العمل بالشهادة عمل بالظّنّ.

ومنها : الاجتهاد في القبلة عمل بالظنّ.

ومنها : قيم المتلفات ، وأروش الجنايات عمل بالظنّ.

ومنها : الفصد ، والحجامة ، وسائر المعالجات ؛ بناء على الظنّ.

ومنها : كون هذه الذّبيحة ذبيحة مسلم مظنون.

ومنها : الحكم على الشّخص المعيّن بكونه مؤمنا مظنون ، ثم يبنى على هذا الظنّ أحكام كثيرة ، كالتوارث والدفن في مقابر المسلمين وغيرهما.

ومنها : الأعمال المعتبرة في الدنيا من الأسفار ، وطلب الأرباح ، والمعاملات إلى الآجال المخصوصة ، والاعتماد على صداقة الأصدقاء ، وعداوة الأعداء كلّها مظنونة ، وبناء الأمر على هذه الظنون جائز ، وقال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : «نحن نحكم بالظّاهر والله يتولّى السّرائر» (١).

__________________

(١) ذكره الحافظ السخاوي في «المقاصد الحسنة» ص (٩١) رقم (١٧٨) وقال : اشتهر بين الأصوليين والفقهاء ، بل وقع في شرح مسلم للنووي في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّي لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ، ولا أشق بطونهم ، ما نصه معناه : إني أمرت بالحكم الظاهر ، والله يتولى السرائر ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهى ، ولا وجود له في كتب الحديث المشهورة ، ولا الأجزاء المنثورة ، وجزم العراقي بأنه لا أصل له ، وكذا أنكره المزي وغيره ، نعم في صحيح البخاري عن عمر إنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم ، بل وفي الصحيح من حديث أبي سعيد رفعه : إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ، وفي المتفق عليه من حديث أم سلمة إنكم تختصمون إليّ فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه ، فلا يأخذ منه شيئا ، قال ابن كثير : إنه يؤخذ معناه منه ، وقد ترجم له النسائي في سننه ، باب الحكم بالظاهر ، وقال إمامنا ناصر السنة أبو عبد الله الشافعي رحمه‌الله عقب إيراده في كتاب الأم : فأخبرهمصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه إنما يقضي بالظاهر ، وأن أمر السرائر إلى الله ، والظاهر كما قال شيخنا رحمه‌الله ، أن بعض من لا يميز ظن هذا حديثا آخر منفصلا عن ـ

٢٨٢

وذلك تصريح بأنّ الظنّ معتبر في هذه الأنواع ، فبطل القول بأنه لا يجوز العمل بالظنّ.

الثاني : أنّ الظنّ قد يسمّى بالعلم ؛ قال تعالى : (إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) [الممتحنة : ١٠].

ومن المعلوم أنّه إنما يمكن العلم بإيمانهنّ ؛ بناء على إقرارهن ، وهذا لا يفيد إلّا الظنّ ، وقد سمّى الله تعالى الظنّ هاهنا علما.

الثالث : أنّ الدليل القاطع ، لما دلّ على وجوب العمل بالقياس ، كان ذلك الدليل دليلا على أنّه متى حصل ظنّ أنّ حكم الله في هذه الصّورة يساوي حكمه في محلّ النصّ ، فأنتم مكلّفون بالعمل على وفق ذلك الظنّ ، فها هنا الظن وقع في طريق الحكم ، فأمّا الحكم ، فهو معلوم متيقّن.

أجاب نفاة القياس عن الأول ؛ فقالوا :

قوله عزّ وعلا : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) دخله التخصيص في الصّور العشرة المذكورة ، فيبقى العموم حجة فيما وراءها ، ثم نقول : الفرق بين هذه الصور وبين محلّ النّزاع أنّ هذه الصور العشر مشتركة في أنّ تلك الأحكام مختصّة بأشخاص معينين في أوقات معيّنة ؛ فإنّ الواقعة التي يرجع فيها الإنسان المعيّن إلى الفتى المعيّن واقعة متعلقة بذلك الشخص المعيّن ، وكذا القول في الشّهادة وفي طلب القبلة ، وفي سائر الصور ؛ والتنصيص على وقائع الأشخاص المعنيين في الأوقات المعينة يجري مجرى التنصيص على ما لا نهاية له ، فلهذه الضرورة ؛ اكتفينا بالظنّ ، أما الأحكام المثبتة ، فهي أحكام كلية معتبرة في وقائع كلية ، وهي مضبوطة ، والتنصيص عليها ممكن ، ولذلك فإنّ الفقهاء الذين استخرجوا تلك الأحكام بطريق القياس ضبطوها ، وذكروها في كتبهم.

إذا عرف هذا ، فنقول : التنصيص على الأحكام في الصّور العشر التي ذكرتموها غير ممكن ، فلا جرم : اكتفى الشّارع فيها بالظنّ ، أما المسائل المثبتة بالطرق القياسيّة ، فالتنصيص عليها ممكن ، فلا يجوز الاكتفاء فيها بالظنّ ، فظهر الفرق.

__________________

حديث أم سلمة فنقله كذلك ، ثم قلده من بعده ، ولأجل هذا يوجد في كتب كثير من أصحاب الشافعي دون غيرهم ، حتى أورده الرافعي في القضاء ، ثم رأيت في الأم بعد ذلك ، قال الشافعي روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : تولى الله منكم السرائر ودرأ عنكم بالبينات ، وكذا قال ابن عبد البر في التمهيد : أجمعوا أن أحكام الدنيا على الظاهر وأن أمر السرائر إلى الله. وأغرب إسماعيل بن علي بن إبراهيم بن أبي القاسم الجنزوي في كتابه إدارة الأحكام ، فقال فيما نقل عنه مغلطاي ـ مما وقف عليه ـ إن هذا الحديث ورد في قصة الكندي والحضرمي اللذين اختصما في الأرض ؛ فقال المقضي عليه قضيت عليّ والحق لي ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنما أقضي بالظاهر والله يتولى السرائر ، قال شيخنا : ولم أقف على هذا الكتاب ولا أدري أساق له إسماعيل المذكور إسنادا أم لا ، قلبت : وسيأتي في : المسلمون عدول. من قول عمر : إن الله تعالى تولى عنكم السرائر ، ودفع عنكم بالبينات.

٢٨٣

وقولهم : الظنّ قد يسمّى علما ، فهذا باطل ؛ فإنّه يصحّ أن يقال : هذا مظنون ، وغير معلوم ، وهذا معلوم ، وغير مظنون ، فدلّ على حصول المغايرة ، فيدلّ عليه قوله تعالى : (هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) [الأنعام : ١٤٨] نفى العلم ، وأثبت الظنّ ، وذلك يدلّ على المغايرة.

وأما قوله تعالى : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) [الممتحنة : ١٠] فالمؤمن هو المقر ، وذلك الإقرار معلوم.

وأمّا الجواب عن الثالث ، فنقول : الكلام إنّما يتمّ لو ثبت أن القياس حجّة بدليل قاطع ، وذلك باطل ؛ لأنّ القياس وهو الذي يفيد الظنّ لا يجب عقلا أن يكون حجة ؛ لأنه لا نزاع أنّه يصحّ من الشّرع أن يقول : نهيتكم عن الرجوع إلى القياس ، ولو كان كونه حجّة أمرا عقليا ، لامتنع ذلك.

والثاني أيضا باطل ؛ لأنّ الدليل النقليّ في كون القياس حجّة ، إنما يكون قطعيّا ؛ إذ لو كان منقولا نقلا متواترا ، كانت دلالته على ثبوت هذا المطلوب دلالة قطعيّة غير محتملة للتخصيص ، ولو حصل مثل هذا الدليل ، لوصل إلى الكلّ ، ولعرفه الكلّ ، ولارتفع الخلاف ، وحيث لم يكن كذلك ، علمنا أنّه لم يحصل في هذه المسألة دليل سمعيّ قاطع ، فثبت أنّه لم يوجد في إثبات كون القياس حجة دليل قاطع ألبتة ، فبطل قولكم : كون الحكم المثبت بالقياس حجّة (١) معلوم لا مظنون.

قال ابن الخطيب (٢) : وأحسن ما يمكن أن يجاب عنه أن يقال : التمسّك بهذه الآية الّتي عولتم عليها تمسّك بعامّ مخصوص ، والتمسّك بالعامّ المخصوص لا يفيد إلّا الظنّ ، فلو دلّت هذه الآية على أنّ التمسّك بالظنّ غير جائز ، لدلّت على أن التمسّك بهذه الآية غير جائز ، فالقول بكون هذه الآية حجّة يفضي ثبوته إلى نفيه ، فكان تناقضا (٣) ، فسقط الاستدلال به.

وللمجيب أن يجيب عنه ، فيقول : نعلم بالتواتر الظّاهر من دين محمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أنّ التمسّك بآيات القرآن حجّة في الشريعة ، ويمكن أن يجاب عن هذا الجواب بأن كون العامّ المخصوص حجّة غير معلوم بالتواتر.

قوله تعالى : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً).

قوله تعالى : «أولئك» إشارة إلى ما تقدّم من السمع ، والبصر ، والفؤاد ؛ كقوله : [الكامل]

٣٤٢٠ ـ ذمّ المنازل بعد منزلة اللّوى

والعيش بعد أولئك الأيّام (٤)

__________________

(١) سقط من : أ.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٦٨.

(٣) في ب : متناقصا.

(٤) البيت لجرير ينظر : ديوانه ص ٩٩٠ وفيه الأقوام مكان الأيام وتخليص الشواهد ص ١٢٣ وخزانة ـ

٢٨٤

ف «أولئك» يشار به إلى العقلاء وغيرهم من الجموع ، واعتذر ابن عطيّة عن الإشارة به لغير العقلاء ، فقال : وعبّر عن السّمع ، والبصر ، والفؤاد ب «أولئك» لأنها حواسّ لها إدراك ، وجعلها في هذه الآية مسئولة ؛ فهي حالة من يعقل ؛ ولذلك عبّر عنها بكناية من يعقل ، وقد قال سيبويه (١) ـ رحمه‌الله ـ في قوله تعالى : (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) [يوسف : ٤] إنما قال «رأيتهم» في نجوم ؛ لأن لمّا وصفها بالسجود ـ وهو فعل من يعقل ـ عبّر عنها بكناية من يعقل ، وحكى الزجاج أنّ العرب تعبّر عمّن يعقل وعمّن لا يعقل ب «أولئك» وأنشد هو والطبريّ : الكامل]

٣٤٢١ ـ ذمّ المنازل بعد منزلة اللّوى

والعيش بعد أولئك الأيّام (٢)

وأمّا حكاية أبي إسحاق عن اللغة فأمر يوقف عنده ، وأمّا البيت فالرواية فيه «الأقوام» ولا حاجة إلى هذا الاعتذار لما عرفت ، وأما قوله : «إنّ الرواية : الأقوام» فغير معروفة والمعروف إنما هو «الأيّام».

قوله : (كُلُّ أُولئِكَ) مبتدأ ، والجملة من «كان» خبره ، وفي اسم «كان» وجهان :

أحدهما : أنه ضمير عائد على «كلّ» باعتبار لفظها ، وكذا الضمير في «عنه» و«عنه» متعلق ب «مسئولا» و«مسئولا» خبرها.

والثاني : أنّ اسمها ضمير يعود على القافي ، وفي «عنه» يعود على «كلّ» وهو من الالتفات ؛ إذ لو جرى على ما تقدّم ، لقيل : كنت عنه مسئولا ، وقال الزمخشري : و«عنه» في موضع الرفع بالفاعلية ، أي : كل واحد كان مسئولا عنه ، فمسئول مسند إلى الجار والمجرور ؛ كالمغضوب في قوله (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة : ٧] انتهى. وفي تسميته مفعول ما لم يسمّ فاعله فاعلا خلاف الاصطلاح.

وقد ردّ أبو حيّان عليه قوله : بأنّ القائم مقام الفاعل حكمه حكمه ، فلا يتقدّم على رافعه كأصله ، وليس لقائل أن يقول : يجوز على رأي الكوفيّين ؛ فإنهم يجيزون تقديم الفاعل ؛ لأن النحّاس حكى الإجماع على عدم جواز تقديم القائم مقام الفاعل ، إذا كان جارّا أو مجرورا ، فليس هو نظير قوله (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) فحينئذ يكون القائم مقام الفاعل الضمير المستكنّ العائد على «كلّ» أو على القافي.

فصل في ظاهر الآية

ظاهر الآية يدلّ على أنّ الجوارح مسئولة ، وفيه وجوه :

__________________

ـ الأدب ٥ / ٤٣٠ ، وشرح التصريح ١ / ١٢٨ ، وشرح شواهد الشافية ص ١٦٧ ، وشرح المفصل ٩ / ١٢٩ ، والمقاصد النحوية ١ / ٤٠٨ ، وأوضح المسالك ١ / ١٣٤ ، وشرح الأشموني ١ / ٦٣ ، وشرح ابن عقيل ص ٧٢ ، والمقتضب ١ / ١٨٥ والدر المصون ٤ / ٣٩٠.

(١) ينظر : الكتاب ١ / ٢٤٠.

(٢) تقدم.

٢٨٥

الأول : معناه أنّ صاحب السّمع ، والبصر ، والفؤاد هو المسئول ؛ لأنّ السؤال لا يصحّ إلّا من العاقل ، وهذه الجوارح ليست كذلك ، بل العاقل الفاهم هو الإنسان ، فهو كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] والمراد أهلها ، والمعنى أن يقال للإنسان : لم سمعت ما لا يحلّ سماعه ، ولم نظرت إلى ما لا يحلّ لك نظره ، ولم عزمت على ما لا يحلّ لك العزم عليه.

والثاني : أن أولئك الأقوام كلهم مسئولون عن السمع ، والبصر ، والفؤاد ، فيقال لهم : استعملتم السمع فيماذا ، أفي الطاعة ، أو في المعصية؟ وكذلك القول في بقيّة الأعضاء ، وذلك ؛ لأنّ الحواسّ آلات النّفس ، والنّفس كالأمير لها ، والمستعمل لها في مصالحها ، فإن استعملها في الخيرات ، استوجب الثواب ، وإذا استعملها في المعاصي ، استحقّ العقاب.

والثالث : أنه تعالى يخلق الحياة في الأعضاء ، ثمّ إنها تسأل ؛ لقوله تعالى : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النور : ٢٤] فكذلك لا يبعد أن يخلق العقل ، والحياة ، والنطق في هذه الأعضاء ، ثمّ إنّها تسأل.

روي عن شكل بن حميد ـ رحمه‌الله ـ قال : أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله ، علّمني تعويذا ، أتعوّذ به ، فأخذ بيدي ، ثم قال : «قل اللهمّ ؛ أعوذ بك من شرّ سمعي ، وشرّ بصري ، وشرّ لساني ، وشرّ قلبي ، وشرّ منيّي» قال فحفظتها (١).

قال سعيد : والمنيّ ماؤه.

قوله تعالى : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً)(٣٧)

وهذا هو النهي الثاني.

قوله تعالى : «مرحا» : العامة على فتح الراء ، وفيه أوجه :

أحدها : أنه مصدر واقع موقع الحال ، أي : مرحا بكسر الراء ، ويدل عليه قراءة (٢) بعضهم فيما حكاه يعقوب «مرحا» بالكسر.

قال الزجاج : «مرحا» مصدر ، ومرحا : اسم الفاعل ، وكلاهما جائز ، إلا أن المصدر هنا أحسن وأوكد ، تقول : جاء زيد ركضا وراكضا ، وآكد ؛ لأنه يدل على توكيد الفعل.

الثاني : أنه على حذف مضاف ، أي : ذا مرح.

__________________

(١) أخرجه أبو داود ٢ / ٩٢ ، كتاب الصلاة : باب الاستعاذة (١٥٥١) ، والترمذي ٥ / ٤٨٩ ، كتاب الدعوات : حديث (٣٤٩٢) ، والنسائي ٨ / ٢٥٩ كتاب الاستعاذة : باب من شر السمع والبصر (٥٤٥٥).

فائدة : شكل بن حميد العبسي صحابي جليل ليس له سوى هذا الحديث كذا جزم الحافظ المزي في تحفة الأشراف ٤ / ١٥٦.

(٢) نسبها في الشواذ ٧٦ إلى يحيى بن يعمر ، وينظر : القرطبي ١٠ / ١٧٠ ، والكشاف ٢ / ٦٦٧ ، والبحر ٦ / ٣٤ ، والدر المصون ٤ / ٣٩١.

٢٨٦

الثالث : أنه مفعول من أجله.

والمرح : شدّة السرور والفرح ؛ مرح يمرح مرحا ، فهو مرح ؛ كفرح يفرح فرحا ، فهو فرح.

قوله : (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) الآية.

قرأ أبو الجرّاح «لن تخرق» بضم الراء ، وأنكرها أبو حاتم وقال : لا نعرفها لغة ألبتّة.

والمراد من الخرق هاهنا نقب الأرض ، وذكروا فيه وجوها :

الأول : أنّ الشيء إنما يتمّ بالارتفاع والانخفاض ، فكأنه قال إنّك حال الانخفاض لا تقدر على خرق الأرض ونقبها ، وحال الارتفاع لا تقدر على أن تصل إلى رءوس الجبال ، والمعنى : أن الإنسان لا ينال بكبره وبطره شيئا ، كمن يريد خرق الأرض ، ومطاولة الجبال لا يحصل على شيء.

والمراد التنبيه على كونه ضعيفا عاجزا ، فلا يليق به التكبّر.

الثاني : أنّ تحتك الأرض التي لا تقدر على خرقها ، وفوقك الجبال التي لا تقدر على الوصول إليها ، فأنت محاط بك من فوقك ، ومن تحتك بنوعين من الجماد ، وأنت أضعف منهما بكثير ، والضعيف المحصور لا يليق به التكبّر ، فكأنه قيل له : تواضع ، ولا تتكبّر ؛ فإنّك خلق ضعيف من خلق الله ، محصور بين حجارة وتراب ، فلا تفعل فعل القويّ المقتدر.

الثالث : أنّ من يمشي مختالا يمشي مرّة على عقبيه ، ومرّة على صدور قدميه ، فقيل له : إنّك لن تنقب الأرض ، إن مشيت على عقبيك ، ولن تبلغ الجبال طولا ، إن مشيت على صدور قدميك.

قال عليّ ـ كرّم الله وجهه ـ : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا مشى تكفّأ تكفّؤا ؛ كأنّما ينحطّ من صبب (١).

وروى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : «ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنّ الشّمس تجري في وجهه ، وما رأيت أحدا أسرع مشية من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنّما الأرض تطوى له ، إنّا لنجهد أنفسنا وهو غير مكترث» (٢).

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٥ / ٥٥٩) كتاب المناقب : باب ما جاء في صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث (٣٦٣٧) وفي الشمائل رقم (٥ ، ٦) وأحمد (١ / ٩٦ ، ١٢٧) وأبو الشيخ ص (٩٤) والحاكم (٢ / ٦٠٦) وصححه ووافقه الذهبي والبيهقي في «الدلائل» (١ / ٢٦٨ ـ ٢٦٩) والبغوي في «شرح السنة» (٧ / ٦٢ ـ ٦٣) من حديث علي بن أبي طالب.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

(٢) أخرجه الترمذي رقم (٣٦٥٠) وفي «الشمائل» (ص ١١٢) وأحمد (٢ / ٣٥٠ ، ٣٨٠) وابن سعد (١ / ٤١٥) وأبو الشيخ (ص ٢٤٨) من حديث أبي هريرة. وقال الترمذي : هذا حديث غريب.

٢٨٧

قوله تعالى : «طولا» يجوز أن يكون حالا من فاعل «تبلغ» أو من مفعوله ، أو مصدرا من معنى «تبلغ» أو تمييزا ، أو مفعولا له ، وهذان ضعيفان جدّا ؛ لعدم المعنى.

قوله تعالى : (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً).

قرأ ابن عامر والكوفيّون (١) بضمّ الهمزة والهاء ، والتذكير ، وترك التنوين ، والباقون بفتح الهمزة ، وتاء التأنيث منصوبة منونة ، فالقراءة الأولى أشير فيها بذلك إلى جميع ما تقدم ، ومنه السّيىء والحسن ، فأضاف السيّىء إلى ضمير ما تقدّم ، ويؤيّدها ما قرأ به عبد الله : «كلّ ذلك كان سيّآته» بالجمع ، مضافا للضمير ، وقراءة أبيّ «خبيثه» والمعنى : كل ما تقدم ذكره ممّا أمرتم به ونهيتم عنه كان سيّئه ـ وهو ما نهيتم عنه خاصة ـ أمرا مكروها ، هذا أحسن ما يقدّر في هذا المكان.

وأمّا ما استشكله بعضهم من أنّه يصير المعنى : كل ما ذكر كان سيئة ، ومن جملة كلّ ما ذكر : المأمور به ، فيلزم أن يكون فيه سيّىء ، فهو استشكال واه ؛ لما تقدم من تقرير معناه.

و«مكروها» خبر «كان» وحمل الكلام كله على لفظ «كلّ» فلذلك ذكّر الضمير في «سيّئه» والخبر ، وهو : مكروه.

وأمّا قراءة الباقين : فيحتمل أن تقع الإشارة فيها ب «ذلك» إلى مصدري النّهيين المتقدّمين قريبا ، وهما :

قفو ما ليس به علم ، والمشي في الأرض مرحا.

والثاني : أنه أشير به إلى جميع ما تقدّم من المناهي.

و«سيّئة» خبر «كان» وأنّث ؛ حملا على معنى «كلّ» ثم قال «مكروها» حملا على لفظها.

وقال الزمخشريّ كلاما حسنا ، وهو : أنّ «السّيّئة في حكم الأسماء ؛ بمنزلة الذّنب والإثم ، زال عنه حكم الصفات ، فلا اعتبار بتأنيثه ، ولا فرق بين من قرأ «سيئة» ومن قرأ «سيّئا» ألا ترى أنّك تقول : الزّنى سيّئة ، كما تقول : السّرقة سيّئة ، فلا تفرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث».

وفي نصب «مكروها» أربعة أوجه :

أحدها : أنه خبر ثان ل «كان» وتعداد خبرها جائز على الصّحيح.

الثاني : أنه بدل من «سيّئة» وضعف هذا ؛ بأنّ البدل بالمشتقّ قليل.

الثالث : أنه حال من الضمير المستتر في (عِنْدَ رَبِّكَ) لوقوعه صفة ل «سيئة».

__________________

(١) ينظر في قراءاتها : السبعة ٣٨٠ ، والنشر ٢ / ٣٠٧ ، والحجة ٤٠٣ ، والتيسير ١٤٠ ، والإتحاف ٢ / ١٩٧ ، والحجة للفارسي ٥ / ١٠٢ ، والقرطبي ١٠ / ١٠٧ ، والكشاف ٤ / ٦٦٨ والبحر ٦ / ٣٥ ، والدر المصون ٤ / ٣٩١ والوسيط ٣ / ١٠٨.

٢٨٨

الرابع : أنه نعت ل «سيّئة» ، وإنما ذكر لأن «سيّئة» تأنيث موصوفه مجازي ؛ وقد ردّ هذا ؛ بأن ذلك إنّما يجوز حيث أسند إلى المؤنث المجازيّ ، أمّا إذا أسند إلى ضميره ، فلا ؛ نحو : «الشّمس طالعة» لا يجوز : «طالع» إلا في ضرورة كقوله :

٣٤٢٢ ـ ...........

ولا أرض أبقل إبقالها (١)

وهذا عند غير ابن كيسان ، وأمّا ابن كيسان فيجيز في الكلام : «الشّمس طلع ، وطالع».

وقيل : إنما ذكّر سيّئة وهي الذنب ، وهو مذكر [لأن التقدير : كل ذلك كان مكروها وسيّئة عند ربك](٢) وقيل فيه تقديم وتأخير ، أي كل ذلك كان مكروها سيّئة.

فصل

وأمّا قراءة عبد الله فهي ممّا أخبر فيها عن الجمع إخبار الواحد ؛ لسدّ الواحد مسدّه ؛ كقوله :

٣٤٢٣ ـ فإمّا تريني ولي لمّة

فإنّ الحوادث أودى بها (٣)

لو قال : فإنّ الحدثان ، لصحّ من حيث المعنى ، فعدل عنه ؛ ليصحّ الوزن.

وقرأ عبد الله أيضا «كان سيّئات» بالجمع من غير إضافة ، وهو خبر «كان» وهي تؤيّد قراءة الحرميّين ، وأبي عمرو.

فصل

قال القاضي (٤) ـ رحمه‌الله ـ : دلّت هذه الآية على أنّ هذه الأعمال مكروهة عند الله تعالى ، والمكروه لا يكون مرادا ، فهذه الأعمال غير مراد الله ، فبطل قول من يقول : كل ما دخل في الوجود ، فهو مراد الله تعالى ، وإذا ثبت أنها ليست بإرادة الله تعالى ، وجب ألّا تكون مخلوقة ـ لله تعالى ـ ؛ لأنّها لو كانت مخلوقة لله تعالى ، لكانت مرادة ، لا يقال : المراد من كونها مكروهة : أنّ الله تعالى نهى عنها.

وأيضا : معنى كونها مكروهة أنّ الله تعالى كره وقوعها ، وعلى هذا التقدير : فهذا لا يمنع أنّ الله تعالى أراد وجودها ، لأنّ الجواب أنه عدول عن الظاهر.

وأيضا : فكونها سيّئة عند ربّك يدلّ على كونها منهيّا عنها ، فلو حملت المكروه على النّهي ، لزم التّكرار.

والجواب عن الثاني أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية في معرض الزجر عن هذه الأفعال ، ولا يليق بهذا الموضع أن يقال : إنه تعالى يكره وقوعها.

__________________

(١) تقدم.

(٢) زيادة من «الرازي» يستقيم بها النص.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٧٠.

٢٨٩

وأجيب بأنّ المراد من المكروه المنهيّ عنه ، ولا بأس بالتّكرير ، لأجل التأكيد.

فصل

قال القاضي (١) دلّت هذه الآية على أنه تعالى كما أنّه موصوف بكونه مريدا ، فكذلك أيضا موصوف بكونه كارها.

وأجيب بأنّ الكراهية في حقّه تعالى محمولة إمّا على النهي ، [وإمّا هي](٢) إرادة العدم.

قوله تعالى : (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً)(٣٩)

قوله تعالى : (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) : [مبتدأ أو خبر] ، اعلم أن قوله «ذلك» إشارة إلى ما تقدّم من التكاليف ، وهي خمسة وعشرون نوعا ، أولها قوله تعالى : (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) [الإسراء : ٢٢].

وقوله : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣].

وهذا مشتمل على تكليفين :

الأمر بعبادة الله تعالى ، والنهي عن عبادة غير الله ، فكان المجموع [ثلاثة].

والرابع : قوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) وقوله : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) وقوله (وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) وقوله : (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) وقوله : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ) وقوله : (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) وقوله : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) فهذه خمسة وعشرون تكليفا ، بعضها أوامر وبعضها نواه ، جمعها الله تعالى في هذه الآيات ، وجعل فاتحتها قوله : (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً) ، وخاتمتها (٣) قوله : (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً) وإنّما سمّاها حكمة ؛ لوجوه :

الأول : أن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتّوحيد ، وأنواع الطّاعات والخيرات والإعراض عن الدنيا ، والإقبال على الآخرة ، والعقول تدلّ على صحّتها ، فالآتي بمثل هذه الشريعة لا يكون داعيا إلى دين الشيطان ، بل الفطرة الأصليّة تشهد بأنّه يكون داعيا إلى دين الرّحمن.

الثاني : أنّ هذه الأحكام المذكورة في هذه الآيات شرائع واجبة الرعاية في جميع

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٧٠.

(٢) في ب : أو على.

(٣) سقط من : أ.

٢٩٠

الأديان والملل ، ولا تقبل النّسخ والإبطال ، فكانت محكمة وحكمة من هذه الاعتبارات.

الثالث : أنّ الحكمة عبارة عن معرفة الحقّ لذاته ، والخير لأجل العمل به ؛ فالأمر بالتوحيد عبارة عن القسم الأوّل ، وسائر التكاليف عبارة عن تعلّم الخيرات ؛ لأجل العمل بها.

روي عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ أنّ هذه التكاليف المذكورة كانت في ألواح موسى ـ صلوات الله عليه ـ أولها (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ)(١).

قال تعالى : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً) [الأعراف : ١٤٥].

فكلّ ما أمر الله به أو نهى عنه ، فهو حكمة.

قوله تعالى : (مِنَ الْحِكْمَةِ) يجوز فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون حالا من عائد الموصول المحذوف ، تقديره : من الذي أوحاه حال كونه من الحكمة ، أو حال من نفس الموصول.

الثاني : أنه متعلق ب «أوحى» ، و«من» إمّا تبعيضية ؛ لأنّ ذلك بعض الحكمة ، وإمّا للابتداء ، وإما للبيان. وحينئذ تتعلق بمحذوف.

الثالث : أنها مع مجرورها بدل من (مِمَّا أَوْحى).

فصل

ذكر في الآية أنّ المشرك يكون مذموما مخذولا.

وذكر هاهنا أنّ المشرك يلقى في جهنّم ملوما مدحورا ، فاللّوم والخذلان يحصل في الدنيا ، وإلقاؤه في جهنّم يحصل يوم القيامة ، والفرق بين الملوم والمدحور ، وبين المذموم والمخذول : أنّ معنى كونه مذموما : أن يذكر له أنّ الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر ، وإذا ذكر له ذلك ، فعند ذلك يقال له : لم فعلت هذا الفعل؟ وما الذي حملك عليه؟ وما استفدت من هذا العمل ، إلّا إلحاق الضّرر بنفسك؟ وهذا هو اللّوم.

وأما الفرق بين المخذول وبين المدحور ، فهو أنّ المخذول هو الضعيف ، يقال : تخاذلت أعضاؤه ، أي : ضعفت ، والمدحور هو المطرود ، والطّرد عبارة عن الاستخفاف والإهانة ، فكونه مخذولا عبارة عن ترك إعانته ، وتفويضه إلى نفسه ، وكونه مدحورا عبارة عن إهانته ، فيصير أوّل الأمر مخذولا وآخره يصير مدحورا.

قوله تعالى : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً)(٤٠)

قوله تعالى : (أَفَأَصْفاكُمْ) : ألف «أصفى» عن واو ؛ لأنه من «صفا يصفو» وهو استفهام إنكار وتوبيخ.

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٣٠) وعزاه إلى الطبري.

٢٩١

ويقال : أصفاه بالشّيء ، إذا آثره به ، ويقال للضّياع التي يستخصّها السلطان لخاصّته الصّوافي.

قال أبو عبيدة ـ رحمه‌الله ـ في قوله تعالى : (أَفَأَصْفاكُمْ) : أفخصّكم وقال المفضل : أخلصكم.

قال النحويون : هذه الهمزة همزة تدلّ على الإنكار على صيغة السؤال عن مذهب ظاهر الفساد ، لا جواب لصاحبه ، إلّا بما فيه أعظم الفضيحة.

واعلم أنّه تعالى ، لما نبّه على فساد طريقة من أثبت لله شريكا ، أتبعه بفساد طريقة من أثبت الولد لله تعالى ، ثم نبه على كمال جهل هذه الفرقة وهو أنّ الولد على قسمين ، فأشرف القسمين : البنون ، وأخسّها : البنات ، ثمّ إنّهم أثبتوا البنين لأنفسهم ، مع علمهم بنهاية عجزهم ، وأثبتوا البنات لله تعالى مع علمهم بأنّ الله تعالى هو الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له ، وذلك يدلّ على نهاية جهل القائلين بهذا القول ؛ ونظيره قوله تعالى : (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) [الطور : ٣٩] وقوله جلّ ذكره : (وَلَهُ الْأُنْثى) [النجم : ٢١].

ومعنى الآية أنه اختاركم ، فجعل لكم الصّفوة ، ولنفسه ما ليس بصفوة ، يعني اختاركم (بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً) ؛ لأنّهم كانوا يقولون : إنّ الملائكة بنات الله تعالى.

قوله تعالى : «واتّخذ» يجوز أن يكون معطوفا على «أصفاكم» فيكون داخلا في حيّز الإنكار ، ويجوز أن تكون الواو للحال ، و«قد» مقدّرة عند قوم.

و«اتّخذ» يجوز أن تكون المتعدية لاثنين ، فقال أبو البقاء (١) : «إنّ ثانيهما محذوف ، أي : أولادا ، والمفعول الأوّل هو إناثا» وهذا ليس بشيء ، بل المفعول الثاني هو (مِنَ الْمَلائِكَةِ) قدّم على الأوّل ، ولو لا ذلك لزم أن يبتدأ بالنّكرة من غير مسوغ ؛ لأنّ ما صلح أن يكون مبتدأ صلح أن يكون مفعولا أوّل في هذا الباب ، وما لا ، فلا ، ويجوز أن تكون متعدية لواحد ، كقوله : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) [البقرة : ١١٦] ، و (مِنَ الْمَلائِكَةِ) متعلق ب «اتّخذ» أو بمحذوف على أنه حال من النّكرة بعده.

ثم قال تعالى : (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) وهذا خطاب لمشركي «مكّة» وبيان كون هذا القول عظيما : أنّ إثبات الولد يقتضي كونه تعالى مركّبا من الأجزاء والأبعاض ، وذلك يقدح في كونه قديما واجب الوجوب لذاته ، وذلك عظيم من القول ، وأيضا : فبتقدير ثبوت الولد ، فقد جعلوا أشرف القسمين لأنفسهم ، وأخسّ القسمين لله تعالى ، وهذا جهل عظيم.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً)(٤١)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) : العامة على تشديد الراء ، وفي مفعول «صرّفنا» وجهان:

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٩٢.

٢٩٢

أحدهما : أنه مذكور ، و«في» مزيدة فيه ، أي : ولقد صرفنا هذا القرآن ؛ كقوله : (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ) [الفرقان : ٥٠] ، ومثله : [الطويل]

٣٤٢٤ ـ ...........

يجرح في عراقيبها نصلي (١)

وقوله تعالى : (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) [الأحقاف : ١٥] أي : يجرح عراقيبها ، وأصلح لي ذرّيتي ، وردّ هذا بأنّ «في» لا تزاد ، وما ذكر متأوّل ، وسيأتي إن شاء الله تعالى في الأحقاف.

الثاني : أنه محذوف تقديره : ولقد صرّفنا أمثاله ، ومواعظه ، وقصصه ، وأخباره ، وأوامره.

وقال الزمخشريّ في تقدير ذلك : «ويجوز أن يراد ب «هذا القرآن» إبطال إضافتهم إلى الله البنات ؛ لأنّه ممّا صرفه ، وكرّر ذكره ، والمعنى : ولقد صرّفنا القول في هذا المعنى ، وأوقعنا التصريف فيه ، وجعلناه مكانا للتكرير ، ويجوز أن يريد ب «هذا القرآن» التنزيل ، ويريد : ولقد صرّفناه ، يعني هذا المعنى في مواضع من التنزيل ، فترك الضمير ؛ لأنّه معلوم» ، وهذا التقدير الذي قدّره الزمخشري أحسن ؛ لأنه مناسب لما دلّت عليه الآية وسيقت لأجله ، فقدّر المفعول خاصّا ، وهو : إمّا القول ، وإمّا المعنى ، وهو الضمير الذي قدّره في «صرّفناه» بخلاف تقدير غيره ، فإنه جعله عامّا.

وقيل : المعنى : لم ننزّله مرة واحدة ، بل نجوما ، والمعنى : أكثرنا صرف جبريل إليك ، فالمفعول جبريل ـ عليه‌السلام ـ.

وقرأ (٢) الحسن بتخفيف الرّاء ، فقيل : هي بمعنى القراءة الأولى ، وفعل وفعّل قد يشتركان ، وقال ابن عطيّة : «أي : صرفنا النّاس فيه إلى الهدى».

والصّرف في اللغة : عبارة عن صرف الشيء من جهة إلى جهة ؛ نحو : تصريف الرياح ، وتصريف الأمور ، هذا هو الأصل في اللغة ، ثم جعل لفظ التّصريف كناية عن التّبيين ؛ لأنّ من حاول بيان شيء فإنه يصرف كلامه من نوع إلى نوع آخر ، ومن مثال إلى مثال آخر ؛ ليكمل الإيضاح ، ويقوي البيان ، فقوله تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) أي : بيّنّا.

قوله : «ليذّكّروا» متعلق ب «صرّفنا» وقرأ (٣) الأخوان هنا ، وفي الفرقان بسكون

__________________

(١) جزء من عجز بيت لذي الرمة وهو :

وأن تعتذر بالمحل من ذي جذوعها

إلى الضيف ...

ينظر : ديوانه ٥٧٥ ، شرح المفصل لابن يعيش ٢ / ٣٩ ، المغني ٢ / ٥٢١ ، روح المعاني ١٥ / ٨١ ، الدر المصون ٤ / ٣٩٣.

(٢) ينظر : المحتسب ٢ / ٢١ ، والإتحاف ٢ / ١٩٨ ، والقرطبي ١٠ / ١٧٢ والكشاف ٢ / ٦٦٩ ، والبحر ٦ / ٣٧ ، والدر المصون ٤ / ٣٩٣.

(٣) ينظر : السبعة ٣٨١ ، والحجة ٤٠٤ ، والنشر ٢ / ٣٠٧ ، والتيسير ١٤٠ ، والإتحاف ٢ / ١٩٨ ، والحجة للفارسي ٥ / ١٠٤ ، والقرطبي ١٠ / ١٧٢ ، والبحر ٦ / ٣٧ ، والدر المصون ٤ / ٣٩٣ والوسيط ٣ / ١٠٨.

٢٩٣

الذّال ، وضمّ الكاف مخففة مضارع «ذكر» من الذّكر أو الذّكر ، والباقون بفتح الذال ، والكاف مشددة ، والأصل : يتذكّروا ، فأدغم التاء في الذّال لقرب المخرج وهو من الاعتبار والتّدبّر.

قال الواحديّ (١) : والتذكّر هنا أشبه من الذّكر ؛ لأنّ المراد منه التدبّر والتفكّر ، وليس المراد منه الذّكر الذي يحصل بعد النسيان ، ثم قال : وأمّا قراءة حمزة والكسائي ، ففيها وجهان :

الأول : أنّ الذكر قد جاء بمعنى التّأمّل والتدبّر ؛ كقوله سبحانه جلّ ذكره : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) [البقرة : ٦٣]. والمعنى : وافهموا ما فيه.

والثاني : أن يكون المعنى : صرفنا هذه الدلائل في هذا القرآن ؛ لتذكروه بألسنتكم ؛ فإنّ الذكر بألسنتكم قد يؤدّي إلى تأثر القلب بمعناه.

فصل

قال الجبائيّ (٢) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : قوله عزوجل : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا) يدل على أنّه تعالى يفعل أفعاله لأغراض حكمية ، ويدلّ على أنّه تعالى أراد الإيمان من الناس ، سواء آمنوا ، أو كفروا.

قوله : (وَما يَزِيدُهُمْ) ، أي : التصريف ، و«نفورا» مفعول ثان وهذه الآية تدلّ على أنّه تعالى ما أراد الإيمان من الكفّار ؛ لأنّه تعالى عالم بأن تصريف القرآن لا يزيدهم إلا نفورا ، فلو أراد الإيمان منهم ، لما أنزل عليهم ما يزيدهم نفرة عنه ؛ لأنّ الحكيم ، إذا أراد تحصيل أمر من الأمور ، وعلم أنّ الفعل الفلانيّ يصير سببا للعسر والتعذّر والنفرة ؛ فإنّه عند محاولة تحصيل ذلك المقصود يحترز عما يوجب النّفرة ، فلمّا أخبر تعالى أنّ هذا التصرّف يزيدهم نفورا ، علمنا أنّه ما أراد الإيمان منهم.

قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً)(٤٣)

قوله تعالى : (كَما يَقُولُونَ) : الكاف في موضع نصب ، وفيها وجهان :

أحدهما : أنها متعلقة بما تعلّقت به «مع» من الاستقرار ، قاله الحوفيّ.

والثاني : أنها نعت لمصدر محذوف ، أي : كونا كقولكم ؛ قاله أبو البقاء (٣).

وقرأ (٤) ابن كثير وحفص «يقولون» بالياء من تحت ، والباقون بالتاء من فوق ، وكذا

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٧٣.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٧٣.

(٣) ينظر : الإملاء ٢ / ٩٢.

(٤) ينظر : السبعة ٣٨١ ، والحجة ٤٠٤ ، والنشر ٢ / ٣٠٧ ، والتيسير ١٤٠ ، والإتحاف ٢ / ١٩٩ ، والحجة للفارسي ٥ / ١٠٦ ، والوسيط ٣ / ٢٠٩ ، والبحر ٦ / ٣٧ ، والدر المصون ٤ / ٣٩٤.

٢٩٤

قوله بعد هذا (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ) [الإسراء : ٤٣] ، قرأه بالخطاب الأخوان ، والباقون بالغيبة فتحصّل من مجموع الأمر : أنّ ابن كثير وحفصا يقرآنهما بالغيبة ، وأن الأخوين قرءوا بالخطاب فيهما ، وأن الباقين قرءوا بالغيبة في الأول ، وبالخطاب في الثاني.

فوجه قراءة الغيب فيهما أنه : حمل الأوّل على قوله : (وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً) [الإسراء : ٤١] ، وحمل الثاني عليه ، ووجه الخطاب فيهما : أنه حمل الأوّل على معنى : قل لهم يا محمد لو كان معه آلهة كما تقولون ، وحمل الثاني عليه.

ووجه الغيب في الأول : أنه حمله على قوله (وَما يَزِيدُهُمْ) والثاني التفت فيه إلى خطابهم.

قوله : «إذن» حرف جواب وجزاء ، قال الزمخشريّ : وإذن دالّة على أنّ ما بعدها ، وهو «لابتغوا» جواب لمقالة المشركين ، وجزاء ل «لو».

وأدغم أبو عمرو الشين في السين ، واستضعفها النحاة ؛ لقوّة الشّين.

فصل في معنى الآية

المعنى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : (لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا) لطلبوا ـ يعني الآلهة ـ (إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) بالمغالبة والقهر ؛ ليزيلوا ملكه ؛ كفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض ، وهذا يرجع إلى دليل التمانع ، وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ عند قوله ـ عزوجل ـ في سورة الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] وقيل : المعنى : لطلبوا ـ يعني الآلهة ـ (إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) بالتقرّب إليه ، لأنّ الكفار كانوا يقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣].

فقال تعالى : لو كانت هذه الأصنام تقربكم إلى الله زلفى ، لطلبت لأنفسها أيضا القرب إلى الله تعالى ، فكيف يعقل أن تقربكم إلى الله ، ثم نزّه نفسه فقال : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً).

قوله تعالى : (وَتَعالى) : عطف على ما تضمّنه المصدر ، تقديره : تنزّه وتعالى. و«عن» متعلقة به ، أو ب «سبحان» على الإعمال لأنّ «عن» تعلقت به في قوله (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الصافات : ١٨٠] و«علوّا» مصدر واقع موقع التعالي ؛ لأنّه كان يجب أن يقال : تعاليا كبيرا ، فهو على غير المصدر كقوله : (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] [في كونه على غير الصدر]. والتّسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى عمّا لا يليق به.

والفائدة في وصف ذلك العلوّ بالكبر : أنّ المنافاة بين ذاته وصفاته سبحانه وبين ثبوت الصّاحبة ، والولد ، والشّركاء ، والأضداد ، والأنداد ، منافاة بلغت في القوّة والكمال إلى حيث لا تعقل الزيادة عليها ؛ لأنّ المنافاة بين الواجب لذاته ، والممكن لذاته ، وبين القديم والمحدث ، وبين الغنيّ والمحتاج منافاة لا يعقل الزيادة عليها ، فلهذا السبب وصف الله تعالى ذلك العلو بالكبر.

٢٩٥

قوله تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً)(٤٤)

قوله تعالى : (تُسَبِّحُ) قرأ (١) أبو عمرو والأخوان ، وحفص «تسبّح» بالتاء ، والباقون بالياء من تحت ، وهما واضحتان ؛ لأنّ التأنيث مجازي ، ولوجود الفصل أيضا بين الفعل والتأنيث.

وقال ابن عطيّة : «ثم أعاد على السّموات والأرض ضمير من يعقل ، لمّا أسند إليها فعل العاقل ، وهو التسبيح» وهذا بناء على أنّ «هنّ» مختصّ بالعاقلات ، وليس كما زعم ، وهذا نظير اعتذاره عن الإشارة ب أولئك» في قوله (كُلُّ أُولئِكَ) وقد تقدّم. وقرأ (٢) عبد الله والأعمش «سبّحت» ماضيا بتاء التأنيث.

فصل

قال ابن عطيّة : يقال : فقه ، وفقه ، وفقه ؛ بكسر القاف ، وفتحها ، وضمها ، فالكسر إذا فهم ، وبالفتح إذا سبق غيره للفهم ، وبالضمّ إذا صار الفقه له سجيّة ، فيكون على وزن «فعل» بالضمّ ؛ لأنّه شأن أفعال السجايا الماضية نحو : ظرف فهو ظريف ، وشرف فهو شريف ، وكرم فهو كريم ، واسم الفاعل من الأوليين فاعل ؛ نحو : سمع ، فهو سامع ، وغلب فهو غالب ، ومن الثالث : فعيل ؛ فلذلك تقول فقه فهو فقيه.

فصل

روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : وإن من شيء حيّ إلا يسبح بحمده (٣).

وقال قتادة ـ رضي الله عنه ـ يعني الحيوانات والنّاميات (٤).

وقال عكرمة : الشجرة تسبّح ، والأسطوانة تسبّح (٥).

وعن المقدام بن معدي كرب ، قال : «إنّ التّراب يسبّح ما لم يبتلّ ، فإذا ابتلّ ترك التّسبيح ، وإنّ الخرزة تسبّح ، ما لم ترفع من موضعها ، فإذا رفعت تركت التّسبيح ، وإنّ الورقة تسبّح ما دامت على الشّجرة ، فإذا سقطت ، تركت التّسبيح ، وإنّ الماء يسبّح ما دام جاريا ، فإذا أركد ، ترك التّسبيح ، وإنّ الثوب يسبّح ما دام جديدا ، فإذا وسخ ، ترك

__________________

(١) ينظر : السبعة ٣٨١ ، والنشر ٢ / ٣٠٧ ، والإتحاف ٢ / ١٩٩ ، والحجة ٤٠٥ ، والحجة للفارسي ٥ / ١٠٦ ، والبحر ٦ / ٣٨ ، والدر المصون ٤ / ٣٩٤.

(٢) ينظر : البحر ٦ / ٣٨ ، والدر المصون ٦ / ٣٩٤ ، والإتحاف ٢ / ١٩٩ منسوبة إلى المطوعي.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١١٦.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٨٥) عن عكرمة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٣٢ ـ ٣٣٣) وعزاه إلى ابن أبي حاتم.

٢٩٦

التسبيح ، وإن الطير والوحش تسبّح ، إذا صاحت ، فإذا سكنت ، تركت التّسبيح (١).

وقال إبراهيم النخعيّ : وإن من شيء جماد وحيّ إلا يسبّح بحمده ، حتّى صرير الباب ، ونقيض السقف (٢).

وقال مجاهد : كل الأشياء تسبّح لله ، حيّا كان أو ميتا ، أو جمادا ، وتسبيحها : سبحان الله وبحمده (٣).

قال أهل المعاني : تسبيح الحيّ المكلّف بالقول ، كقول اللسان : سبحان الله ، وتسبيح غير المكلّف كالبهائم ، ومن لا يكون حيّا ، كالجمادات ما دلّت بلطيف تركيبها ، وعجيب هيئتها على خالقها ؛ لأنّ التسبيح باللسان لا يحصل إلّا مع الفهم ، والعلم ، والإدراك ، والنّطق ، وكل ذلك في الجمادات محال.

قالوا : فلو جوّزنا في الجماد أن يكون عالما متكلّما ، لعجزنا عن الاستدلال بكونه تعالى قادرا عالما على كونه حيّا ، وحينئذ : يفسد علينا باب العلم بكونه حيّا ، وذلك كفر ؛ فإنّه إذا جاز للجمادات أن تكون عالمة بذات الله وصفاته ، وتسبيحه ، مع أنّها ليست بأحياء ؛ فحينئذ : لا يلزم من كون الشيء عالما قادرا متكلما أن يكون حيّا ، فلم يلزم من كونه تعالى عالما قادرا كونه حيّا ، وذلك جهل وكفر ، ومن المعلوم بالضّرورة أنّ من ليس بحيّ لم يكن عالما قادرا متكلّما.

واحتج القائلون بأنّ الجمادات وأنواع النبات والحيوان كلّها تسبّح لله تعالى بهذه الآية ، ولا يمكن تفسير هذا التسبيح بكونها دلائل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته ؛ لأنّه تعالى قال : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) وهذا يقتضي أن تسبيح هذه الأشياء غير معلوم لنا ، ودلالتها على وجود قدرة الله تعالى وحكمته معلومة لنا ، فوجب أن يكون التسبيح المذكور في هذه الآية مغايرا لكونها دالة على وجود قدرة الله تعالى وحكمته سبحانه.

فأجاب أهل المعاني بوجوه :

أولها : أنّك إذا أخذت تفاحة واحدة ، فتلك التفاحة مركبة من أشياء كثيرة ، لا تتجزّأ ، وكلّ واحد من تلك الأجزاء دليل تامّ مستقلّ على وجود الإله ، ولكلّ واحد من تلك الأجزاء صفات مخصوصة من الطّبع ، والطّعم ، واللّون ، والرائحة ، واختصاص ذلك الجوهر الفرد بتلك الصفة المعينة من الجائزات ، ولا يحصل ذلك إلا بتخصيص مخصّص قادر حكيم.

إذا عرف هذا ظهر أنّ كلّ واحد من أجزاء تلك التفاحة دليل تامّ على وجود الإله ، وكل صفة من تلك الصفات القائمة بذلك الجزء الواحد أيضا دليل تامّ على وجود الإله ،

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١١٧.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

٢٩٧

ثم عدد تلك الأجزاء غير معلوم ، وأحوال تلك الصفات غير معلومة ، فلهذا قال تعالى : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ).

وثانيها : أنّ الكفّار ، وإن كانوا يقرّون بإثبات إله العالم إلّا أنهم ما كانوا يتفكّرون في أنواع الدّلائل ، كما قال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها ، وَهُمْ (١) عَنْها مُعْرِضُونَ) [يوسف : ١٠٥].

فكان المراد من قوله : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) هذا المعنى.

وثالثها : أنّ القوم ، وإن كانوا مقرّين بألسنتهم بإثبات إله العالم ، إلّا أنّهم ما كانوا عالمين بكمال قدرته ، ولذلك استبعدوا كونه قادرا على الحشر والنشر ، فكان المراد ذلك.

ورابعها : قوله لمحمد : «قل» لهم : (لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) ، فهم ما كانوا عالمين بهذه الدلائل ، فلما قال : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) بصحّة هذا الدليل وقوّته ، وأنتم لا تفقهون هذا الدليل ، ولا تعرفونه ، بل القوم كانوا غافلين عن أكثر دلائل التوحيد والنبوّة والمعاد ، فقال تعالى : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) ، فذكر الحليم الغفور هاهنا يدلّ على كونهم لا يفقهون ذلك التّسبيح ، وذلك جرم عظيم صدر عنهم ، وهذا إنما يكون جرما ، إذا كان المراد من ذلك التسبيح كونها دالّة على كمال قدرة الله وحكمته ، ثم إنهم لغفلتهم وجهلهم ، ما عرفوا وجه تلك الدلائل ، ولو حملنا هذا التسبيح على تسبيح الجمادات بأنواعها ، لم يكن عدم الفقه لذلك التسبيح جرما ، ولا ذنبا ، وإذا لم يكن جرما ، ولا ذنبا ، لم يكن قوله : (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) لائقا بهذا الموضع. واعلم أنّ القائلين بأن الجمادات والحيوانات غير الناطقة تسبّح بألفاظها ، أضافوا إلى كلّ حيوان نوعا من التسبيح ، وقالوا : إنّها إذا ذبحت لم تسبّح ، مع قولهم بأنّ الجمادات تسبّح ، فإذا كان كونه جمادا لا يمنع من كونه مسبّحا ، فكيف صار ذبح الحيوان مانعا له من التّسبيح؟!.

وقالوا : إن عصا الشّجرة إذا كسرت ، لم تسبّح ، وإذا كان كونه جمادا ، لم يمتنع من كونه مسبّحا ، فكيف يمنع ذلك من تسبيحها بعد الكسر؟ وهذه كلمات ضعيفة.

فصل في تسبيح السماوات والأرض

دلّت هذه الآية على أنّ السماوات والأرض ومن فيهن يسبّح الله تعالى ، فتسبيح السماوات والأرض ليس إلّا بمعنى تنزيه الله ، وإطلاق لفظ التسبيح على هذا المعنى مجاز ، وأما تسبيح المكلّفين فهو قول : (سُبْحانَ اللهِ) ، وهذا حقيقة ، فيلزم أن يكون قوله «تسبّح» لفظا واحدا قد استعمل في الحقيقة والمجاز معا ، وهو باطل لم يثبت في أصول الفقه ، فالأولى أن يحمل هذا التسبيح على المجاز في حقّ العقلاء وغيرهم ؛ لئلّا يلزم هذا المحذور.

قوله تعالى : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً

٢٩٨

مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً)(٤٦)

لمّا تكلّم في الآية المتقدمة في إثبات الإلهيّة ، تكلّم في هذه الآية في تقرير النبوّة ، وفيها قولان :

الأول : أنّ هذه الآية نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قرأ القرآن على الناس. روي أنه ـ عليه‌السلام ـ كان كلما قرأ القرآن قام عن يمينه وعن يساره أحزاب من ولد قصيّ يصفقون ، ويصفّرون ، ويخلطون عليه بالأشعار.

وروى سعيد بن جبير عن أسماء رضي الله عنها قالت : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا ، ومعه أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ ، فنزلت سورة (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) فجاءت امرأة أبي لهب ، ومعها حجر ، تريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي تقول : [الرجز]

٣٤٢٥ ـ مذمّما أبينا

ودينة قلينا

وأمره عصينا (١)

ولم تره فقال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ يا رسول الله معها حجر ، أخشى عليك ، فتلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية ، فقالت لأبي بكر : قد علمت أنّي ابنة سيّد قريش ، وأنّ صاحبك هجاني ، فقال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ : والله ، ما ينطق بالشّعر ، ولا يقوله ، فرجعت ، وهي تقول : قد كنت جئت بهذا الحجر ؛ لأرضخ رأسه. فقال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ : ما رأتك يا رسول الله؟ قال : لا ، لم يزل ملك بيني وبينها يسترني» (٢).

وروى ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ أنّ أبا سفيان والنضر بن الحارث وأبا جهل وغيرهم ، كانوا يجالسون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويستمعون إلى حديثه ، فقال النّضر يوما : ما أدري ما يقول محمّد ، غير أنّي أرى شفتيه تتحركان بشيء ، فقال أبو سفيان : إنّي أرى بعض ما يقوله حقّا.

وقال أبو جهل : هو مجنون.

وقال أبو لهب : كاهن ، وقال حويطب بن عبد العزّى : هو شاعر ، فنزلت هذه الآية ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أراد تلاوة القرآن ، قرأ قبلها ثلاث آيات ، وهي قوله في سورة الكهف (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) [الأنعام : ٢٥].

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٠ / ١٧٥ ، والفخر الرازي ٢٠ / ١٧٧ ، والدر المنثور ٤ / ١٧٥ ، وروح المعاني ٨ / ٧٧.

(٢) أخرجه الحميدي (٣٢٣) وأبو يعلى (١ / ٥٣ ـ ٥٤) رقم (٥٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٣٦) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي وأبي نعيم كلاهما في «الدلائل».

وله شاهد من حديث ابن عباس :

أخرجه أبو يعلى (١ / ٣٣) رقم (٢٥) والبزار كما في «مجمع الزوائد» (٧ / ١٤٧) وقال الهيثمي : رواه أبو يعلى والبزار وقال البزار : إنه حسن الإسناد قلت ـ أي الهيثمي ـ ولكن فيه عطاء بن السائب وقد اختلط.

٢٩٩

وفي النحل : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) [النحل : ١٠٨].

وفي الجاثية : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) الآية [الجاثية : ٢٣].

فكان الله تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات ، عن عيون المشركين ، فكانوا يمرّون به ، ولا يرونه (١).

قوله تعالى : (مَسْتُوراً) أنّ الله تعالى يخلق حجابا في عيونهم يمنعهم ذلك الحجاب عن رؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو شيء لا يرى ، فكان مستورا من هذا الوجه.

واحتجّوا بهذه الآية على أنّه يجوز أن تكون الحاسّة سليمة ، ويكون المرئيّ حاضرا ، مع أنّه لا يراه الإنسان ؛ لأنّ الله تعالى يخلق في عينه مانعا يمنعه عن رؤيته ، قالوا : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان حاضرا ، وكانت حواس الكفّار سليمة ، ثمّ إنهم كانوا لا يرونه ، وأخبر الله تعالى أن ذلك إنما كان لأجل أن جعل بينه وبينهم حجابا مستورا ، ولا معنى للحجاب المستور إلّا ما يخلقه الله في عيونهم بمنعهم من رؤيته.

وقيل : مستور على النسب ، أي : ذو ستر ، كقولهم : مكان مهول ، وجارية مغنوجة ، أي : ذو هول ، وذات غنج ، ولا يقال فيهما : هلت المكان ، ولا غنجت الجارية. وقيل : وكذلك قولهم : رجل مرطوب : أي ذو رطوبة ، ولا يقال : رطبة ، هو وصف على جهة المبالغة ؛ كقولهم : «شعر شاعر» ورد هذا : بأنّ ذلك إنّما يكون في اسم الفاعل ، ومن لفظ الأول.

وقال الأخفش وآخرون : المستور هاهنا بمعنى السّاتر والمفعول قد يرد بمعنى الفاعل ؛ كقولهم: مشئوم وميمون بمعنى : شائم ويامن ، وهذا كما جاء اسم الفاعل بمعنى مفعول كماء دافق.

القول الثاني (٢) : أنّ الحجاب هو الطّبع الذي على قلوبهم والطبع المنع الذي منعهم عن أن يدركوا لطائف القرآن ومحاسنه وفوائده ، فالمراد من الحجاب المستور ذلك الطبع الذي خلقه في قلوبهم.

ثم قال تعالى : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) وهذه الآية مذكورة بعينها في سورة الأنعام.

قوله : «وحده» فيه وجهان :

أحدهما : أنه منصوب على الحال ، وإن كان معرفة لفظا ، لأنه في قوة النكرة إذ هو في معنى منفردا ، وهل هو مصدر ، أو اسم موضوع موضع المصدر الموضوع موضع الحال ، فوحده وضع موضع إيحاد ، وإيحاد وضع موضع موحد. وهو مذهب سيبويه ، أو هو مصدر على حذف الزوائد ، إذ يقال : أوحده يوحده إيحادا ، أو هو مصدر بنفسه ل «وحد» «ثلاثيا».

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١٧٧).

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٧٧.

٣٠٠