اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

الأفعال ، بل أضاف إليه تعليم الأقوال ، وهو أن يدعو لهما بالرّحمة ، فيقول : ربّ ارحمهما ، ولفظة الرحمة جامعة لكلّ الخيرات في الدّين والدنيا ، ثم يقول : (كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) يعني : ربّ افعل بهما هذا النوع من الإحسان ، كما أحسنا إليّ في تربيتهما ، والتربية هي التّنمية من قولهم: ربا الشّيء ، إذا انتفخ قال تعالى : (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) [الحج : ٥].

واختلف المفسرون في هذه الآية ، فقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : إنها منسوخة بقوله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ١١٣] فلا ينبغي للمسلم أن يستغفر لوالديه إذا كانا مشركين ، ولا يقول : ربّ ارحمهما (١).

وقيل : إنها مخصوصة بالمسلمين غير منسوخة ، وهذا أولى من القول الأول ؛ لأنّ التخصيص أولى من النّسخ.

وقيل : لا نسخ ، ولا تخصيص ؛ لأنّ الوالدين ، إذا كانا كافرين ، فله أن يدعو لهما بالهداية والإرشاد ، وأن يطلب الرحمة لهما بعد حصول الإيمان.

فصل في أنّ الأمر يفيد التكرار أم لا؟

قوله جلّ ذكره : (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما) أمر ، وظاهر الأمر لا يفيد التّكرار ، فيكفي في العمل بمقتضى هذه الآية ذكر هذا القول مرّة واحدة.

سئل سفيان : كم يدعو الإنسان لوالديه؟ أفي اليوم مرة ، أو في الشهر ، أو في السّنة؟ فقال : نرجو أن يجزئه إذا دعا لهما في أواخر التشهدات ؛ كم قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ)(٢) [الأحزاب : ٥٦] فكانوا يرون أن التشهد يجزي عن الصلاة على النبيّ ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ.

وكقوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) [البقرة : ٢٠٣] فهم يكرّرون في أدبار الصلاة.

قوله تعالى : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً)(٢٥)

ثم قال تعالى : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ) من برّ الوالدين وعقوقهما (إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) ، أي : إنّا قد أمرناكم في هذه الآية بإخلاص العبادة لله ، وبالإحسان بالوالدين ،

__________________

(١) أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» ص ١٦ رقم (٢٣) والطبري في «تفسيره» (٨ / ٦٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣١١) وزاد نسبته إلى أبي داود في ناسخه وابن المنذر من طرق عن ابن عباس.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١٥٣).

٢٦١

ولا يخفى على الله ما تضمرونه في أنفسكم من الإخلاص وعدم الإخلاص ، فالله تعالى مطلع على ما في نفوسكم.

(إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) أي : إن كنتم برآء عن جهة الفساد في أحوال قلوبكم ، وكنتم أوّابين ، أي : راجعين إلى الله ، فإنّ حكم الله في الأوّابين أنّه غفور لهم ، يكفّر عنهم سيئاتهم.

والأوّاب : على وزن فعّال ، وهو يفيد المداومة والكثرة ؛ كقولهم : قتّال ، وضرّاب.

قال سعيد بن المسيّب ـ رحمه‌الله ـ : الأوّاب الذي يذنب ، ثم يتوب (١). وقال سعيد بن جبير : هو الرجّاع إلى الخير (٢).

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : هو الرجّاع إلى الله تعالى فيما ينوبه (٣). وعنه أيضا قال : هم المسبّحون ؛ لقوله تعالى : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ)(٤) [سبأ : ١٠].

وقال قتادة : المصلّون (٥).

وقيل : هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه ، لا يريد بذلك الخير ، فإنّه لا يؤخذ به.

وقال عون العقيلي : هم الذين يصلّون صلاة الضحى (٦) ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج إلى أهل قباء ، وهم يصلّون الضحى ، فقال : صلاة الأوّابين إذا رمضت الفصال من الضحى (٧).

وروي عن ابن عبّاس أنه قال : إنّ الملائكة لتحفّ بالذين يصلّون بين المغرب والعشاء ، وهي صلاة الأوّابين (٨).

قوله تعالى : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً)(٢٧)

قيل : هذا خطاب للرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بأن يؤتي أقاربه الحقوق التي وجبت لهم في الفيء والغنيمة ، وإخراج حقّ المساكين وأبناء السّبيل من هذين المثالين.

وقال الأكثرون : إنه عامّ ، لأنه عطفه على قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٦٥).

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣١١) وعزاه إلى ابن أبي الدنيا والبيهقي في «شعب الإيمان».

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١١١).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٦٤) وينظر : المصدر السابق.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٦٤).

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٦٤).

(٧) أخرجه مسلم (١ / ١٥٦) كتاب صلاة المسافرين : باب صلاة الأوابين حين ترمض الفصال حديث (١٤٤٠ / ٧٤٨) من حديث زيد بن أرقم.

(٨) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١١٢).

٢٦٢

إِيَّاهُ) والمعنى أنّك بعد فراغك من برّ الوالدين يجب عليك أن تشتغل ببرّ سائر الأقارب ، الأقرب فالأقرب ، ثم بإصلاح أحوال المساكين ، وأبناء السّبيل ، واعلم أنّ قوله تعالى : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) مجمل ، ليس فيه بيان أنّ ذلك الحقّ ما هو ، فذهب الشافعيّ ـ رضي الله عنه ـ إلى أنّه لا يجب الإنفاق إلّا على الولد والوالدين ، وقال غيره : يجب الإنفاق على المحارم بقدر الحاجة ، واتفقوا على أنّ من لم يكن من المحارم كأبناء العمّ ، فلا حقّ لهم إلّا الموادّة والمؤالفة في السّراء والضّراء ، وأما المسكين وابن السّبيل ، فتقدّم وصفهما في سورة التوبة في آية الزّكاة.

قوله تعالى : (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) : التّبذير : التفريق ومنه «البذر» لأنه يفرق في الأرض للزّراعة ، قال : [الوافر]

٣٤٠٨ ـ ترائب يستضيء الحلي فيها

كجمر النّار بذّر بالظّلام (١)

ثم غلب في الإسراف في النّفقة.

قال مجاهد : لو أنفق الإنسان ماله كلّه في الحقّ ، ما كان تبذيرا (٢).

وسئل ابن مسعود عن التبذير ، فقال : إنفاق المال في غير حقّه (٣) وأنشد بعضهم : [الوافر]

٣٤٠٩ ـ ذهاب المال في حمد وأجر

ذهاب لايقال له ذهاب (٤)

وقال عثمان (٥) بن الأسود : كنت أطوف مع مجاهد حول الكعبة ، فرفع رأسه إلى أبي قبيس ، وقال : لو أنّ رجلا أنفق مثل هذا في طاعة الله ، لم يكن من المسرفين ، ولو أنفق درهما واحدا في معصية الله ، كان من المسرفين (٦).

وعن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسعد ـ رضي الله عنه ـ وهو يتوضّأ ، فقال : ما هذا السّرف يا سعد؟ فقال : أفي الوضوء سرف؟ قال : «نعم ، وإن كنت على نهر جار» (٧).

__________________

(١) ينظر : البحر ٦ / ٢٢ ، والدر المصون ٤ / ٣٨٦.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١١٢).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٦٨) والحاكم (٢ / ٣٦١) عن ابن مسعود وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وذكره الهيثمي في «المجمع» (٧ / ٥٣) وقال : رواه الطبراني ورجاله ثقات.

والأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٢٠) وزاد نسبته إلى الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبخاري في «الأدب المفرد» وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في «الشعب».

(٤) تقدم.

(٥) في ب : عمر.

(٦) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١٥٥).

(٧) أخرجه ابن ماجه (١ / ١٤٧) رقم (٤٢٥) ، وقال البوصيري في «الزوائد» (١ / ١٧٣) : هذا إسناد ضعيف لضعف حيي بن عبد الله وعبد الله بن لهيعة.

٢٦٣

ثم نبه تعالى على قبح التبذير بإضافته إيّاه إلى أفعال الشياطين ، فقال ـ جلّ ذكره ـ : (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) والمراد من هذه الأخوة التشبيه بهم في هذا الفعل القبيح ؛ لأنّ العرب يسمّون الملازم للشيء أخا له ، فيقولون : فلان أخو الكرم والجود ، وأخو السّفر ، إذا كان مواظبا على هذه الأفعال.

وقيل : قوله : (إِخْوانَ الشَّياطِينِ) أي : قرناءهم في الدنيا والآخرة كقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف : ٣٦].

وقال تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) [الصافات : ٢٢] أي : قرناءهم من الشياطين ، ثم قال تعالى : (وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) أي : جحودا للنّعمة ؛ لأنّه يستعمل بدنه في المعاصي والإفساد في الأرض ، والإضلال للنّاس ، وكذلك من رزقه الله مالا أو جاها ، فصرفه إلى غير مرضاة الله ، كان كفورا لنعمة الله ؛ لأنّه موافق للشياطين في الصّفة والفعل ، ثم إن الشياطين كفورون بربهم ، فكذلك المبذّر أيضا كفور بربه.

قال بعض العلماء : خرجت هذه الآية على وفق عادة العرب ؛ لأنّهم كانوا يجمعون الأموال بالنّهب والغارة ، ثم ينفقونها في طلب الخيلاء والتفاخر ، وكان المشركون من قريش وغيرهم ينفقون أموالهم ليصدّوا عن الإسلام وتوهين أهله وإعانة أعدائه ، فنزلت هذه الآية تنبيها على قبح أفعالهم.

قوله تعالى : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً)(٢٨)

نزلت في مهجع ، وبلال ، وصهيب ، وسالم ، وخبّاب ، وكانوا يسألون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأحايين ما يحتاجون إليه ، ولا يجد ، فيعرض عنهم حياء منهم ، ويمسك عن القول ، فنزلت : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ) أي : وإن أعرضت عنهم عن هؤلاء الذين أمرتك أن تؤتيهم (ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها) انتظار رزق من الله ترجوه ، أي : يأتيك (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) ليّنا ، وهو العدة ، أي : عدهم وعدا جميلا (١).

قوله تعالى : (ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ) : يجوز أن يكون مفعولا من أجله ، ناصبه «تعرضنّ» وهو من وضع المسبّب موضع السبب ، وذلك أنّ الأصل : وإمّا تعرضنّ عنهم لإعسارك ، وجعله الزمخشريّ منصوبا بجواب الشرط ، أي : فقل لهم قولا سهلا ؛ ابتغاء رحمة ، وردّ عليه أبو حيّان : بأنّ ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها ؛ نحو : «إن يقم زيد عمرا فاضرب» فإن حذفت الفاء جاز عند سيبويه والكسائيّ ؛ نحو : «إن يقم زيد عمرا يضرب» فإن كان الاسم مرفوعا ؛ نحو «إن تقم زيد يقم» جاز ذلك عند سيبويه على أنّه مرفوع بفعل مقدّر يفسّره الظاهر بعده ، أي : إن تقم ، يقم زيد يقم. ومنع من ذلك الفراء وشيخه.

وفي الردّ نظر ؛ لأنّه قد ثبت ذلك ؛ لقوله تعالى : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) [الضحى : ٩]

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١١٢).

٢٦٤

الآية ؛ لأنّ «اليتيم» وما بعده منصوبان بما بعد فاء الجواب.

وقيل : إنه في موضع الحال من فاعل «تعرضنّ».

قوله تعالى : (مِنْ) ربكم يجوز أن يكون صفة ل «رحمة» ، وأن يكون متعلقا ب «ترجوها» أي : ترجوها من جهة ربّك ، على المجاز.

وقوله : «ترجوها» يجوز أن يكون حالا من فاعل «تعرضنّ» ، وأن يكون صفة ل «رحمة».

قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً)(٣٠)

قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً) الآية.

لمّا أمره بالإنفاق في الآية المتقدمة ، علّمه في هذه الآية أدب الإنفاق.

واعلم أنه تعالى وصف عباده المؤمنين ، فقال تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) [الفرقان : ٦٧].

فها هنا أمر رسوله بمثل ذلك الوصف ، فقال تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) أي لا تمسك عن الإنفاق ، بحيث تضيق على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرّحم ، أ: لا تجعل يدك في انقباضها كالمغلولة الممنوعة من الانبساط ، (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) أي : ولا تتوسّع في الإنفاق توسّعا مفرطا بحيث لا يبقى في يدك شيء.

والحكماء ذكروا في كتب الأخلاق أنّ لكلّ خلق طرفي إفراط وتفريط ، وهما مذمومان ، والخلق الفاضل (١) هو العدل والوسط ، فالبخل إفراط في الإمساك ، والتبذير إفراط في الإنفاق ، وهما مذمومان ، والمعتدل الوسط.

روى جابر ـ رضي الله عنه ـ قال : أتى صبي فقال : يا رسول الله ، إنّ أمّي تستكسيك درعا ، ولم يكن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا قميصه ، فقال للصبيّ : من ساعة إلى ساعة يظهر كذا فعدّ وقتا آخر ، فعاد إلى أمّه فقالت : قل له : إنّ أمّي تستكسيك الدّرع الذي عليك ، فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم داره ، ونزع قميصه ، فأعطاه ، فقعد عريانا ، فأذّن بلال بالصّلاة ، فانتظره ، فلم يخرج ، فشغل قلوب أصحابه ، فدخل عليه بعضهم فرآه عريانا ، فأنزل الله تعالى (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ)(٢) يعني : لا تمسك يدك عن النفقة في الحقّ كالمغلولة يده ، ولا يقدر على مدّها ، (وَلا تَبْسُطْها) بالعطاء (كُلَّ الْبَسْطِ) فتعطي جميع ما عندك.

و (كُلَّ الْبَسْطِ) : نصب على المصدر ؛ لإضافتها إليه ، و«فتقعد» نصب على جواب

__________________

(١) في أ: العادل.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١١٢).

٢٦٥

النهي وتقدّم الكلام عليه ، و«ملوما» : إمّا حال ، وإمّا خبر كما تقدّم ؛ ومعنى كونه ملوما : أنه يلوم نفسه ، وأصحابه أيضا يلومونه على تضييع المال وإبقاء الأهل في الضّرر والمحنة ، أو يلومونه بالإمساك إذا سألوه ولم يعطهم ، وأمّا كونه محسورا ، فقال الفراء : العرب تقول للبعير : محسور ، إذا انقطع سيره ، وحسرت الدابّة ، إذا سيّرتها حتى ينقطع سيرها ، ومنه قوله تعالى : (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) [الملك : ٤].

وقال قتادة ـ رحمه‌الله ـ : محسورا نادما على ما فرط منك (١) ويجمع الحسير على حسرى ، مثل : قتلى وصرعى.

قال الشاعر : [الطويل]

٣٤١٠ ـ بها جيف الحسرى ، فأمّا عظامها

فبيض وأمّا جلدها فصليب (٢)

وحسر عن كذا ، كشف عنه كقوله [الطويل]

٣٤١١ ـ ... يحسر الماء تارة

 ........... (٣)

والمحسور : المنقطع السّير ، ومنه حسرت الدّابة ، قطعت سيرها ، وحسير أي : كالّ : تعبان بمعنى : محسور.

قال القفال (٤) : شبّه حال من أنفق كلّ ماله بمن انقطع في سفره بسبب انقطاع مطيته ؛ لأنّ ذلك المقدار من المال ، كأنّه مطيّة تحمل الإنسان إلى آخر السّفر ، كما أن ذلك البعير يحمله إلى آخر منزله ، فإذا انقطع ذلك البعير بقي في وسط الطّريق عاجزا متحيّرا ، فكذلك إذا أنفق الإنسان مقدار ما يحتاج إليه في مدّة شهر ، بقي في وسط ذلك الشهر عاجزا متحيرا ، ومن فعل هذا ، لحقه اللّوم من أهله والمحتاجين إلى إنفاقه عليهم بسبب سوء تدبيره ، وترك الحزم في مهمّات معاشه. ثم قال تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) أي يوسّعه على البعض «ويقدر» ، أي : يضيّق على البعض بحسب ما يعلم من المصالح.

قال تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) [الشورى : ٢٧] والقدر في اللغة التّضييق. قال تعالى : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) [الطلاق : ٧]. (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) [الفجر : ١٦] أي: ضيّق.

قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً)(٣١)

قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) الآية في تقرير النظم وجوه :

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٧٢).

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٥٦.

٢٦٦

الأول : أنه لما بيّن في الآية الأولى : أنّه المتكفّل بأرزاق العباد ؛ حيث قال : (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) قال عزوجل : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ).

الثاني : أنه تعالى ، لمّا علم كيفية البرّ بالوالدين في الآية المتقدمة ، علم في هذه الآية كيفية البرّ بالأولاد ، ولهذا قيل : إنّ الأبرار إنما سمّوا بذلك ؛ لأنهم برّوا الآباء والأبناء ؛ فوجب برّ الآباء مكافأة على ما صدر منهم من أنواع البرّ ؛ ووجب برّ الأولاد ، لأنّهم في غاية الضعف والاحتياج ولا كافل لهم غير الوالدين.

الثالث : أنّ امتناع الأولاد من برّ الآباء يوجب خراب العالم ؛ لأنّ الآباء ، إذا علموا ذلك ، قلت رغبتهم في تربية الأولاد ؛ فيلزم خراب العالم ، وامتناع الآباء من البرّ أيضا كذلك.

الرابع : أنّ قتل الأولاد ، إن كان لخوف الفقر ، فهو سوء الظنّ بالله تعالى ، وإن كان لأجل الغيرة على البنات فهو سعي في تخريب العالم ، فالأوّل ضدّ التعظيم لأمر الله تعالى ، والثاني ضدّ الشفقة على خلق الله ، وكلاهما مذمومان.

الخامس : أنّ قرابة الأولاد قرابة الجزئيّة والبعضيّة ، وهي من أعظم الموجبات للمحبّة ، فلو لم تحصل المحبّة دلّ ذلك على غلظ شديد في الرّوح ، وقسوة في القلب ، وذلك من أعظم الأخلاق الذميمة ، فرغّب الله في الإحسان إلى الأولاد ؛ إزالة لهذه الخصلة الذميمة.

فصل

قرأ العامة «تقتلوا» بالتخفيف ، وقرأ (١) ابن وثاب والأعمش «تقتّلوا» بالتشديد و«خشية» بكسر الخاء.

قال المفسّرون : إنّ العرب كانوا يقتلون البنات ؛ لعجز البنات عن الكسب ، وقدرة البنين عليه ؛ بسبب إقدامهم على النّهب والغارة ، وأيضا : كانوا يخافون أن ينفر الأكفاء عنها ، وعن الرغبة فيها ، فيحتاجون إلى إنكاحها من غير الأكفاء ، وفي ذلك عار شديد.

واعلم أن قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ) عامّ في الذكور والإناث ، أي : أنّ الموجب للشّفقة والرحمة هو كونه ولدا ، وهذا الوصف يشترك فيه الذكور والإناث ، وأما ما يخاف من الفقر في البنات ، فقد يخاف أيضا في العاجز من البنين ، ثم قال تعالى : (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) أي أنّ الأرزاق بيد الله ، فكما يفتح أبواب الرّزق على الرّجال ، فكذلك يفتح أبواب الرزق على النّساء.

قوله تعالى : (إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً).

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٦ / ٢٩.

٢٦٧

قرأ (١) ابن ذكوان : «خطأ» بفتح الخاء والطاء من غير مدّ ، وابن كثير بكسر الخاء والمدّ ، ويلزم منه فتح الطاء ، والباقون بكسر الخاء وسكون الطاء.

فأمّا قراءة ابن ذكوان ، فخرّجها الزجاج (٢) على وجهين :

أحدهما : أن يكون اسم مصدر ؛ من أخطأ يخطىء خطأ ، أي : إخطاء ، إذا لم يصب.

والثاني : أن يكون مصدر خطىء يخطأ خطأ ، إذا لم يصب أيضا ، وأنشد : [الكامل]

٣٤١٢ ـ والنّاس يلحون الأمير إذا هم

خطئوا الصّواب ولا يلام المرشد (٣)

والمعنى على هذين الوجهين : أنّ قتلهم كان غير صواب ، واستبعد قوم هذه القراءة قالوا : لأنّ الخطأ ما لم يتعمّد ، فلا يصحّ معناه.

وخفي عنهم : أنه يكون بمعنى أخطأ ، أو أنه يقال : «خطىء» إذا لم يصب.

وأمّا قراءة ابن كثير ، فهي مصدر : خاطأ يخاطىء خطاء ؛ مثل : قاتل يقاتل قتالا ، قال أبو عليّ : «هي مصدر خاطأ يخاطىء ، وإن كنّا لم نجد «خاطأ» ولكن وجدنا تخاطأ ، وهو مطاوع «خاطأ» فدلّنا عليه ، ومنه قول الشاعر : [المتقارب]

٣٤١٣ ـ تخاطأت النّبل أحشاءه

وأخّر يومي فلم يعجل (٤)

وقال الآخر : [الطويل]

٣٤١٤ ـ تخاطأه القنّاص حتّى وجدته

وخرطومه في منقع الماء راسب (٥)

فكأنّ هؤلاء الذين يقتلون أولادهم يخاطئون الحقّ والعدل».

وقد طعن قوم على هذه القراءة حتّى قال أبو جعفر ـ رحمه‌الله ـ : «لا أعرف لهذه القراءة وجها» ولذلك جعلها أبو حاتم غلطا.

قال شهاب الدين : قد عرفه غيرهما ، ولله الحمد.

وأما قراءة الباقين فواضحة ؛ لأنّها من قولهم : خطىء يخطأ خطئا ، كأثم يأثم إثما ، إذا تعمّد الكذب.

__________________

(١) ينظر في قراءاتها : السبعة ٣٧٩ ، والحجة ٤٠٠ ، والنشر ٢ / ٣٠٧ ، والإتحاف ٢ / ١٩٧ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ٩٦ ، والشواذ ٧٦ ، والكشاف ٢ / ٦٦٤ ، والقرطبي ١٠ / ١٦٥ ، والبحر ٦ / ٢٩ ، والدر المصون ٤ / ٣٨٧.

(٢) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٣ / ٢٣٦.

(٣) البيت للبيد بن ربيعة ينظر : ملحقات ديوانه ٢٣٣ ، المحتسب ٢ / ٢٠ ، اللسان «أمر» الدر المصون ٤ / ٣٨٧.

(٤) البيت لأوفى المازني ينظر : مجاز القرآن ٢ / ٥ ، البحر ٦ / ٢٩ ، القرطبي ١٠ / ١٦٥ ، اللسان «خطا» ، الدر المصون ٤ / ٣٨٨.

(٥) ينظر : البحر ٦ / ٢٩ ، القرطبي ١٠ / ١٦٥ ، روح المعاني ١٥ / ٦٧ ، الدر المصون ٤ / ٣٨٨.

٢٦٨

وقرأ الحسن : «خطاء» بفتح الخاء والمدّ ، وهو اسم مصدر «أخطأ» كالعطاء اسم للإعطاء.

وقرأ أيضا «خطا» بالقصر ، وأصله «خطأ» كقراءة ابن ذكوان ، إلّا أنّه سهّل الهمزة بإبدالها ألفا ، فحذفت كعصا.

وأبو رجاء والزهريّ كذلك ، إلّا أنهما كسرا الخاء ك «زنى» وكلاهما من خطىء في الدين ، وأخطأ في الرّأي ، وقد يقام كلّ منهما مقام الآخر.

وقرأ ابن عامر في رواية «خطئا» بالفتح والسكون والهمز ، مصدر «خطىء» بالكسر.

قال المفسّرون : معنى الكلّ واحد ، أي : إثما كبيرا.

فصل

قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً).

لمّا أمره بالأشياء الخمسة المتقدّم ذكرها ، وحاصلها يرجع إلى شيئين : التعظيم لأمر الله تعالى ، والشّفقة على خلق الله سبحانه ـ جلّ ذكره ـ لا إله إلّا هو ، أتبعها بالنّهي عن أشياء أخر.

أولها : أنه تعالى نهى عن الزّنا.

والعامة على قصره ، وهي اللغة الفاشية ، وقرىء بالمدّ ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنه لغة في المقصور.

والثاني : أنه مصدر زانى يزاني ؛ كقاتل يقاتل قتالا ؛ لأنه يكون بين اثنين ، وعلى المدّ قول الفرزدق : [الطويل]

٣٤١٥ ـ أبا خالد من يزن يعرف زناؤه

ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكّرا (١)

وقول الآخر : [الكامل]

٣٤١٦ ـ كانت فريضة ما تقول كما

كان الزّناء فريضة الرّجم (٢)

وليس ذلك على باب الضرورة ؛ لثبوته قراءة في الجملة.

وقوله تعالى : (وَساءَ سَبِيلاً). قال ابن عطيّة : «وسبيلا : نصب على التمييز ، أي : وساء سبيلا سبيله». وردّ أبو حيّان (٣) هذا : بأنّ قوله «نصب على التّمييز» يقتضي أن يكون

__________________

(١) ينظر البيت في البحر ٦ / ٣٠ ، مجاز القرآن ١ / ٣٧٧ ، الصحاح [زنى] واللسان [زنى] ، الجمهرة ٣ / ٢٥٥ ، الدر المصون ٤ / ٣٨٨.

(٢) البيت للنابغة الجعدي ينظر : اللسان «زنى» ، معاني الفراء ١ / ٩٩ ، أمالي المرتضى ١ / ٢١٦ ، تأويل المشكل ١٩٩ ، الإنصاف ١ / ٣٧٣ ، مجاز القرآن ١ / ٣٧٧ ، الخزانة ٩ / ٢٠٣ ، البحر المحيط ٦ / ٣٠ ، الدر المصون ٤ / ٣٨٨ الصاحبي (١٧٢) سر الفصاحة (١٠٦).

(٣) ينظر : البحر المحيط ٦ / ٣٠.

٢٦٩

الفاعل ضميرا مفسّرا بما بعده من التمييز ، فلا يصح تقديره : ساء سبيله سبيلا ؛ لأنه ليس بمضمر لاسم الجنس.

فصل

قال القفال (١) : إذا قيل للإنسان : لا تقرب هذا ، فهو آكد من أن تقول : لا تفعله ، ثم علّل هذا النّهي بكونه (فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً).

واعلم أنّ الزّنا اشتمل على أنواع من المفاسد :

أولها : اختلاط الأنساب واشتباهها ، فلا يعرف الإنسان أنّ الولد الذي أتت به الزانية منه أو من غيره ، فلا يقوم بتربيته ، وذلك يوجب ضياع الأولاد ، وانقطاع النّسل ، وخراب العالم.

وثانيها : أنه إذا لم يوجد سبب شرعيّ يوجب اختصاص هذا الرجل بهذه المرأة ، لم يبق إلّا التواثب والتقاتل ، وقد وجد وقوع القتل الذّريع بسبب زنا المرأة الواحدة.

وثالثها : أنّ المرأة ، إذا زنت وتمرّنت عليه ، يستقذرها كل ذي عقل سليم ، وحينئذ : لا تحصل الألفة والمحبّة ، ولا يتم السّكن والازدواج ، وينفر طباع أكثر الخلق عن مقاربتها.

ورابعها : أنّه إذا انفتح باب الزّنا ، لا يبقى لرجل اختصاص بامرأة ، بل كل رجل يمكنه التواثب على أيّ امرأة أرادت ، وحينئذ : لايبقى بين نوع الإنسان وسائر البهائم فرق في هذا.

وخامسها : أنه ليس المقصود من المرأة مجرّد قضاء الشهوة ، بل أن تصير شريكة للرّجل في ترتيب المنزل وإعداد مهمّاته من المطعوم والمشروب والملبوس ، وحفظ البيت ، والقيام بأمور الأولاد والخدم ، وهذه المهمات لا تتم إلّا إذا كانت المرأة مقصورة الهمّة على هذا الرجل الواحد ، منقطعة الطّمع عن سائر الرّجال ، وذلك لا يحصل إلّا بتحريم الزّنا ، وسدّ هذا الباب.

وسادسها : أنّ الوطء يوجب الذلّ الشديد ، ويدلّ على ذلك وجوه :

الأول : أن أعظم أنواع الشّتم عند النّاس ذكر ألفاظ الوقاع ، ولولا أن الوطء يوجب الذلّ وإلّا لما كان الأمر كذلك.

الثاني : أنّ جميع العقلاء يستنكفون من ذكر أزواج بناتهم وأخواتهم وأمهاتهم ، ولولا أنّ الوطء ذلّ ، وإلّا لما كان كذلك.

الثالث : أن جميع العقلاء لا يقدمون على الوطء إلا خفية في الأوقات التي لا يطّلع

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٥٨.

٢٧٠

عليهم أحد ، ولولا أنه موجب للذلّ ، وإلا لما كان الأمر كذلك ، فلما كان الوطء ذلّا ، كان السّعي في تقليله موافقا للعقول ، فاقتصار المرأة الواحدة على الرجل الواحد سعي في تقليل ذلك العمل ، وما فيه من الذلّ يجبر بالمنافع الحاصلة.

وأمّا الزّنا ، فإنه فتح لباب العمل القبيح ، ولا يجبر بشيء من المنافع ، فيبقى على أصل المنع.

وإذا ثبت ذلك ، فنقول : إنه تعالى وصف الزّنا بصفات ثلاثة : كونه (فاحِشَةً وَمَقْتاً) في آية أخرى (وَساءَ سَبِيلاً) أما كونه فاحشة ؛ فلاشتماله على الأمور المذكورة ، وأمّا المقت فلأنّ الزانية تصير ممقوتة مكروهة ؛ لما ذكرنا.

وأما كونه ساء سبيلا : فهو ما ذكرنا من أنّه لا يبقى فرق بين الإنسان وبين البهائم في عدم اختصاص الذكران بالإناث ، وبقاء الذلّ والعيب والعار على المرأة من غير أن يجبر بشيء من المنافع.

فصل

قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً)(٣٣)

فقوله جلّ ذكره : (إِلَّا بِالْحَقِ) أي : إلا بسبب الحقّ ، فيتعلق ب (لا تَقْتُلُوا) ويجوز أن يكون حالا من فاعل (لا تَقْتُلُوا) أو من مفعوله ، أي : لا تقتلوا إلا ملتبسين بالحقّ أو إلّا ملتبسة بالحقّ ، ويجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف ، أي : إلّا قتلا ملتبسا بالحقّ.

فصل

والحقّ المبيح للقتل هو قوله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : «لا يحلّ دم امرىء مسلم إلّا بإحدى ثلاث : رجل كفر بالله بعد إيمانه ، أو زنى بعد إحصانه ، أو قتل نفسا بغير نفس» (١).

فإن قيل : إنّ أكبر الكبائر بعد الكفر بالله سبحانه وتعالى هو القتل ، فما السبب في أنه تعالى بدأ بالنّهي عن الزنا ، ثم نهى بعده عن القتل.

فالجواب (٢) : أنّا بيّنا أنّ فتح باب الزّنا يمنع دخول الإنسان في الوجود ، والقتل يدلّ على إعدامه ، ودخوله في الوجود مقدّم على إعدامه بعد وجوده ؛ فلهذا ذكر الزّنا أولا ، ثم ذكر بعده القتل.

__________________

(١) أخرجه البخاري ١٢ / ٢٠٩ ، كتاب الديات : باب قول الله تعالى : أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ (٦٨٧٨) ، ومسلم ٣ / ١٣٠٢ ، كتاب القسامة : باب ما يباح به دم المسلم.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٥٩.

٢٧١

واعلم أنّ الأصل في القتل هو التحريم ، والحلّ إنّما ثبت بسبب عارض ؛ فذلك نهى عن القتل بناء على حكم الأصل ، ثم استثنى منه الحالة التي يباح فيها القتل ، وهو عند حصول الأسباب العرضيّة ، فقال : (إِلَّا بِالْحَقِ) ويدل على أنّ الأصل في القتل التحريم وجوه :

أحدها : أن القتل ضرر ، والأصل في المضارّ الحرمة ، قال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : «لا ضرر ، ولا ضرار» (١).

وثانيها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الآدميّ بنيان الربّ ، ملعون من هدم بنيان الربّ» (٢).

وثالثها : أن الآدميّ خلق للعبادة ، لقوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] والعبادة لا تتمّ إلّا بعدم القتل.

ورابعها : أنّ القتل إفساد ، فحرم ؛ لقوله تعالى : (وَلا تُفْسِدُوا) [الأعراف : ٥٦].

وخامسها : إذا تعارض دليل تحريم القتل ، ودليل إباحته ، فالإجماع على أنّ جانب الحرمة راجح ، ولولا أنّ مقتضى الأصل هو التحريم ، وإلّا لكان ذلك ترجيحا لا لمرجح ، وهو محال.

وإذا علم أنّ الأصل في القتل هو التحريم ، فقوله : (وَلا تَقْتُلُوا) نهي وتحريم. وقوله : (حَرَّمَ اللهُ) إعادة لذكر التحريم على سبيل التأكيد ، ثم استثنى عنه الأسباب العرضيّة ، فقال : إلّا بالحقّ ، وهاهنا طريقان :

الطريق الأول : أن قوله (إِلَّا بِالْحَقِّ) مجمل ليس فيه بيان أن ذلك الحقّ ما هو ، ثم قال تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) أي : في حقّ استيفاء القصاص ؛ فوجب أن يكون المراد من الحقّ هذه الصورة فقط ، فتكون الآية نصّا صريحا في تحريم القتل ، إلا بهذا السبب الواحد.

الطريق الثاني : أن نقول : دلّت السنة على أنّ ذلك الحقّ هو أحد الأمور الثلاثة المتقدّمة في الخبر.

واعلم أن الخبر من باب الآحاد ، فإن قلنا : إنّ قوله تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) بيان لذلك الحقّ ، كانت الآية صريحة في أنه لا يحلّ القتل إلّا بهذا السبب الواحد ، وحينئذ : يصير الخبر مخصّصا للآية ، ويصير فرعا لقولنا (٣) بصحّة تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد ، وإن قلنا بأن قوله تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) ليس بيانا لذلك الحقّ ، فحينئذ يصير الخبر مفسّرا للحقّ المذكور في الآية ، وعلى هذا لا يصير فرعا على جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد ، وهو تنبيه حسن.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١٦٠).

(٣) في أ: لقوله.

٢٧٢

فصل في ظاهر الآية

ظاهر الآية يقتضي أنّه لا سبيل لحلّ القتل إلّا قتل المظلوم ، وظاهر الخبر يقتضي ضمّ شيئين آخرين إليه ، وهو الكفر بعد الإيمان ، والزّنا بعد الإحصان ، ودلّت آية أخرى على حصول سبب رابع ، وهو قوله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ) [المائدة : ٣٣] ودلّت آية أخرى على سبب خامس ، وهو الكفر الأصلي ، قال الله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ٢٩].

وقال تعالى : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [النساء : ٨٩].

واختلف الفقهاء في أشياء أخرى :

منها : تارك الصلاة ، فعند أبي حنيفة ـ رضي الله عنه ـ لا يقتل ، وعند الشافعي وأحمد ـ رضي الله عنهما ـ : يقتل.

وثانيها : اللّائط : فعند الشافعيّ : يقتل ، وعند بعضهم : لا يقتل.

وثالثها : السّاحر ، إذا قال : قتلت بسحري فلانا ، فعند أبي حنيفة : لا يقتل ، وعند بعضهم : يقتل.

ورابعها : القتل بالمثقّل عند الشافعيّ : يوجب القصاص ، وعند أبي حنيفة : لا يوجب.

وخامسها : الامتناع من أداء الزّكاة ، اختلفوا فيه في زمان أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ.

وسادسها : إتيان البهيمة أوجب فيه بعضهم القتل (١) ، ولم يوجبه الباقون ، وحجّة القائلين بعدم وجوب القتل في هذه الصورة هو أنّ هذه الآية صريحة في تحريم القتل على الإطلاق إلّا لسبب واحد ، وهو قتل المظلوم ، ففيما عداه يجب البقاء على أصل التحريم.

__________________

(١) وقد اختلف أهل العلم فيمن وقع على بهيمة ؛ فأخرج البيهقي عن جابر بن زيد أنه قال : «من أتى البهيمة أقيم عليه الحدّ». وأخرج أيضا عن الحسن بن عليّ رضي الله عنهما أنه قال : إن كان محصنا رجم. وروي أيضا عن الحسن البصري أنه قال : هو بمنزلة الزاني. قال الحاكم : أرى أن يجلد ولا يبلغ به الحدّ ، وهو مجمع على تحريم إتيان البهيمة ، كما حكى ذلك صاحب البحر. وقد ذهب إلى أنه يوجب الحدّ كالزنا الشافعي في قول له والهادوية وأبو يوسف ، وذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي في قوله له والمرتضى والمؤيد بالله والناصر والإمام يحيى إلى أنه يوجب التعزير فقط إذ ليس بزنا ، وردّ بأنّه فرج محرّم شرعا مشتهى طبعا فأوجب الحدّ كالقبل. وذهب الشافعي في قول له إلى أنه يقتل وقد ذهب إلى تحريم لحم البهيمة المفعول بها وإلى أنها تذبح عليّ عليه‌السلام والشافعي في قول له ، وذهبت القاسمية والشافعي في قوله له وأبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنه يكره أكلها تنزيها فقط. قال في البحر : إنها تذبح البهيمة ولو كانت غير مأكولة لئلا تأتي بولد مشوّه كما روي أن راعيا أتى بهيمة فأتت بولد مشوّه انتهى.

ينظر : نيل الأوطار ٧ / ١٢٥ ـ ١٢٦.

٢٧٣

وأيضا : فالخبر المذكور يوجب حصر أسباب الحلّ في تلك الثلاثة ، ففيما عداها يجب البقاء على أصل الحرمة ، ثم قالوا : وبهذا النصّ قد تأكّد بالدلائل الكثيرة الموجبة لحرمة الدّم على الإطلاق ، فترك العمل بهذه الدلائل لا يكون إلا لمعارض ، وذلك المعارض : إمّا أن يكون نصّا متواترا أو نصّا من باب الآحاد ، أو قياسا ، والنص المتواتر مفقود ، وإلّا لما بقي الخلاف.

وأما النصّ من باب الآحاد ، فهو مرجوح بالنسبة إلى هذه النصوص الكثيرة ؛ لأنّ الظنّ المستفاد من النصوص الكثيرة أعظم من الظنّ المستفاد من خبر واحد.

وأما القياس : فلا يعارض النصّ ، فثبت بمقتضى هذا الأصل القويّ : أنّ الأصل في الدماء الحرمة إلّا في الصور المعدودة.

قوله سبحانه وتعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) فيه بحثان :

البحث الأول : هذه الآية تدلّ على أنّه أثبت لوليّ الدم سلطانا.

فأمّا بيان هذه السلطنة فيماذا ، فليس في قوله : (فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) دلالة عنه ، ثم هاهنا طريقان :

الأول : أنّ قوله تعالى بعده : (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) يدل على أن تلك السلطنة هي في استيفاء القتل ، وهذا ضعيف ؛ لاحتمال أن يكون المراد : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) فلا ينبغي أن يسرف ذلك القاتل الظالم في ذلك القتل ؛ لأنّ ذلك المقتول منصور ؛ لثبوت السّلطنة لوليه.

والطريق الثاني : أن تلك السلطنة مجملة ، ثم فسّرت بالآية والخبر.

أما الآية : فقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) إلى قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) [البقرة : ١٧٨].

وقد بينّا على أنّها تدل على أن الواجب تخيير الوليّ بين القصاص والدية.

وأمّا الخبر : فقوله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يوم الفتح «من قتل له قتيل ، فهو بخير النّظرين : إمّا أن يقتل ، وإمّا أن يفدى» (١).

فعلى هذا : فمعنى قوله : (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) أنه لما حصلت له سلطنة استيفاء القصاص ، وسلطنة استيفاء الدّية ، إن شاء ، قال بعده (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) أي أنّ الأولى ألّا يقتصّ ، ويكتفي بأخذ الدية أو يعفو ، كقوله تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [البقرة: ٢٣٧].

__________________

(١) أخرجه أبو داود ٤ / ١٧٢ ، كتاب الديات : باب ولي العمد يرضى بالدية (٤ / ٤٥٠) ، والترمذي ٤ / ١٤ ، كتاب الديات : باب ما جاء في حكم ولي القتيل (١٤٠٦) ، والحديث في الصحيحين أخرجه البخاري ١ / ٢٣٨ ، كتاب العلم : باب ليبلغ العلم (١٠٤) ، وطرفاه (١٨٣٢) ـ (٤٢٩٥) كتاب الحج : باب تحريم مكة (٤٤٨ ـ ٣٥٥) من حديث أبي هريرة.

٢٧٤

والبحث الثاني : ذكر كونه مظلوما بصيغة التنكير ، والتنكير يدلّ على الكمال ، فما لم يكن المقتول كاملا في وصف المظلوميّة لم يدخل تحت هذا النصّ ، فالمسلم إذا قتل الذميّ ، لم يدخل تحت هذه الآية ؛ لأنّ الذميّ مشرك ، والمشرك يحلّ دمه.

ويدلّ على أن الذمّي مشرك قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) [النساء : ٤٨].

حكم بأنّ ما سوى الشّرك يغفر في حقّ البعض ، فلو كان كفر اليهوديّ والنصرانيّ مغايرا للشّرك ، وجب أن يغفر في حقّ بعض الناس لهذه الآية ، فلما لم يغفر في حقّ أحد ، دلّ على أنّ كفرهم شرك ، ولأنه تعالى قال : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) [المائدة : ٧٣] فهذا التثليث الذي قال به هؤلاء : إمّا أن يكون تثليثا في الصفات ، وهو باطل ؛ لأنّ ذلك هو الحقّ ، وهو مذهب أهل السنة والجماعة ، فلا يمكن جعله سببا للكفر ، وإمّا أن يكون تثليثا في الذّوات ، وذلك هو الشرك ؛ فثبت أن الذميّ مشرك ، والمشرك يجب قتله ؛ لقوله تعالى : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ) فاقتضى هذا الدليل إباحة دم الذميّ ، فإن لم تثبت الإباحة ، فلا أقلّ من حصول شبهة الإباحة.

وإذا ثبت هذا ، ثبت أنه ليس كاملا في المظلوميّة ، فلم يندرج تحت قوله : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً).

وأما الحرّ ، إذا قتل عبدا ، فيدخل تحت هذا ، إلّا أنّا بيّنا أن قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) [البقرة : ١٧٨] يدلّ على المنع من قتل الحرّ بالعبد ، وتلك الآية أخص من قوله تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) والخاصّ مقدّم على العام ؛ فثبت أن هذه الآية لا يجوز التمسّك بها في مسألة أنّ موجب العمد هو القصاص ، ولا في وجوب قتل المسلم بالذميّ ، ولا في وجوب قتل الحرّ بالعبد.

فصل في المراد بالإسراف

في معنى الإسراف وجوه :

الأول : أن يقتل القاتل وغير القاتل ، وذلك أنّ أولياء المقتول كانوا إذا قتل واحد من قبيلة شريفة ، قتلوا خلقا من القبيلة الدنيئة ، فنهى الله عنه وحكم بقتل القاتل وحده.

الثاني : أنّ الإسراف هو ألا يرضى بقتل القاتل ؛ فإنّ أهل الجاهلية كانوا يقصدون أشرف القبائل ، ثمّ يقتلون منهم قوما معيّنين ، ويتركون القاتل.

والثالث : الإسراف هو ألّا يكتفي بقتل القاتل ، بل يقتله ثم يمثّل به ، ويقطع أعضاءه.

قال القفّال ـ رحمه‌الله (١) ـ : ولا يبعد حمله على الكلّ ؛ لأنّ جملة هذه المعاني مشتركة في كونها إسرافا.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٦٢.

٢٧٥

فصل

قرأ حمزة والكسائي : «تسرف» (١) بالخطاب ، وهي تحتمل وجهين :

أحدهما : الخطاب للوليّ ، أي : لا تقتل الجماعة بالواحد ، أو السلطان ، رجع إلى مخاطبته بعد أن أتى به عامّا.

والثاني : أن يكون الخطاب للمبتدىء القتل ، أي : لا تسرف أيّها الإنسان ؛ لأنّ إقدامه على ذلك القتل ظلم محض ، وهو إسراف.

والباقون بالغيبة ، وهي تحتمل ما تقدم في قراءة الخطاب.

وقرأ أبو مسلم (٢) برفع الفعل على أنّه خبر في معنى النهي ؛ كقوله تعالى : (فَلا رَفَثَ) [البقرة : ١٩٧]. وقيل : «في» بمعنى الباء ، أي : بسبب القتل.

قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً).

قال مجاهد (٣) : الهاء راجعة إلى المقتول في قوله : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً) أي : أنّ المقتول منصور في الدنيا بإيجاب القود على قاتله ، وفي الآخرة بتكفير خطاياه ، وإيجاب النّار لقاتله (٤).

وقال قتادة : الهاء راجعة إلى وليّ المقتول ، أو إلى السلطان ، أي أنّه منصور على القاتل باستيفاء القصاص ، أو الدّية ، فليكتف بهذا القدر ، ولا يطمع في الزيادة (٥).

وقيل : الهاء راجعة إلى القاتل الظالم ، أي أنّ القاتل يكتفى منه باستيفاء القصاص ، ولا يطلب منه زيادة ؛ لأنّه منصور من الله تعالى في تحريم طلب الزيادة منه ، أو أنّه إذا عوقب في الدنيا ، نصر في الآخرة.

وقيل : الهاء راجعة إلى الذّم ، أو قيل : إلى الحقّ ، روى ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : قلت لعليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ : وايم الله ليظهرنّ عليكم ابن أبي سفيان ؛ لأنّ الله تعالى يقول : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) فقال الحسن : والله ، ما نصر معاوية على عليّ إلّا بقول الله تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً)(٦).

قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ

__________________

(١) ينظر في قراءاتها : السبعة ٣٨٠ ، والتيسير ١٤٠ ، والحجة ٤٠٢ ، والمحتسب ٢ / ٢٠ ، والنشر ٢ / ٣٠٧ ، والإتحاف ٢ / ١٩٧ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ٩٨ ، ٩٩ ، والكشاف ٢ / ٦١٤ ، والقرطبي ١٠ / ١٦٦ ، والبحر ٦ / ٣١ ، والدر المصون ٤ / ٣٨٩.

(٢) ينظر : المحتسب ٢ / ٢٠.

(٣) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١١٤.

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١١٤).

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١٦٣).

٢٧٦

إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)(٣٥)

قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الآية.

اعلم أنه تعالى نهى عن الزّنا ، وقد ذكرنا أنه يوجب اختلاط الأنساب ، وذلك يوجب منع تربية الأولاد ، ويوجب انقطاع النّسل ، وذلك مانع من دخول الناس في الوجود ، فالنّهي عن الزّنا وعن القتل يرجع حاصله إلى النّهي عن إتلاف النفوس ، فلمّا ذكره تعالى أتبعه بالنّهي عن إتلاف الأموال ؛ لأنّ أعزّ الأشياء بعد النفوس الأموال ، وأحق الناس بالنّهي عن إتلاف أموالهم هو اليتيم ؛ لأنّه لصغره ، وضعفه ، وكمال عجزه يعظم ضرره بإتلاف ماله ؛ فلهذا خصّهم الله تعالى بالنهي عن إتلاف أموالهم ، فقال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) نظيره قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء : ٦].

المراد بقوله : (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي : إلّا بالتصرّف الذي ينمّيه ويكثّره.

وروى مجاهد عن ابن عبّاس ، قال : إذا احتاج أكل بالمعروف ، وإذا أيسر قضاه ، فإن لم يوسر ، فلا شيء عليه (١).

واعلم أنّ الوليّ ، إنّما تبقى ولايته على اليتيم إلى أن يبلغ أشدّه ، وهو بلوغ النّكاح ، كما بيّنه الله تعالى في قوله : (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) [النساء : ٦].

المراد بالأشدّ هاهنا بلوغه إلى حيث يمكنه بسبب عقله ورشده القيام بمصالح ماله ، فحينئذ تزول ولاية غيره عنه ، فإن بلغ غير كامل العقل ، لم تزل الولاية عنه.

قوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) الآية.

اعلم أنّه تعالى أمر بخمسة أشياء أوّلا ، ثم نهى عن ثلاثة أشياء ، وهي الزّنا ، والقتل ، وأكل مال اليتيم ، ثمّ أتبعه بهذه الأوامر الثلاثة ، فالأول قوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ).

واعلم أنّ كلّ عقد يعقد لتوثيق أمر وتوكيده ، فهو عهد ؛ كعقد البيع والشّركة ، وعقد اليمين والنّذر ، وعقد الصلح ، وعقد النّكاح ، فمقتضى هذه الآية أنّ كلّ عهد وعقد يجري بين إنسانين ، فإنّه يجب عليهما الوفاء بذلك العقد والعهد ، إلّا إذا دلّ دليل منفصل على أنه لا يجب الوفاء به ، فمقتضاه الحكم بصحّة كل بيع وقع التراضي عليه ، وتأكّد هذا النصّ بسائر الآيات الدالة على الوفاء بالعهود والعقود ؛ كقوله عزوجل : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) [البقرة : ١٧٧] (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) [المؤمنون : ٨]

__________________

(١) تقدم في سورة النساء.

٢٧٧

(وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) [البقرة : ٢٧٥] و (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) [النساء : ٢٩] (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) [البقرة : ٢٨٢]. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة : ١].

وقوله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : «لا يحلّ مال امرىء مسلم إلّا بطيب نفس منه»(١).

وقوله : «إذا اختلف الجنسان ، فبيعوا كيف شئتم يدا بيد» (٢).

وقوله : «من اشترى ما لم يره ، فله الخيار إذا رآه» (٣).

فجميع هذه الآيات والأخبار دالة على أنّ الأصل في البياعات والعهود والعقود الصحة ووجوب الالتزام.

فإذا وجدنا نصّا أخصّ من هذه النصوص يدلّ على البطلان والفساد ، قضينا به ؛ تقديما للخاصّ على العام ، وإلا قضينا بالصحة على الكلّ ، وأما تخصيص النصّ بالقياس ، فباطل ، وبهذا الطريق تصير أبواب المعاملات جميعها (٤) مضبوطة معلومة بهذه الآية الواحدة ، ويكون المكلّف مطمئن القلب والنّفس في العمل ؛ لأنّ هذه النصوص دلّت على الصحّة ، وليس بعد بيان الله تعالى بيان.

قوله تعالى : (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) عن الوفاء بعهده ؛ كقوله عزوجل : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢].

والثاني : أنّ الضمير يعود على العهد ، ونسب السؤال إليه مجازا ؛ كقوله تعالى : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) [التكوير : ٨ ، ٩].

أي : يقال للعهد عن صاحب العهد : لم نقضت ، وهلّا وفّى بك ؛ تبكيتا للنّاكث كقوله : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي) [المائدة : ١١٦] ، فالمخاطبة لعيسى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ والإنكار على غيره.

وقال السديّ : (كانَ مَسْؤُلاً) ، أي مطلوبا يطلب من المعاهد ألا يضيّعه ويفي به (٥).

__________________

(١) أخرجه أحمد (٥ / ٧٢ ـ ٧٣) والدارمي (٢ / ٢٤٦) كتاب البيوع : باب في الربا الذي كان في الجاهلية وأبو يعلى (٣ / ١٣٩) رقم (١٥٧٠) والدار قطني (٣ / ٢٦) والبيهقي (٦ / ١٠٠) من حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه.

(٢) أخرجه الربيع بن حبيب في مسنده (٢ / ٤٣ ، ٤٥) وذكره القرطبي في «تفسيره» (١٠ / ٨٦).

(٣) ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (٢ / ٣٢١) وقال : رواه القضاعي والبيهقي والديلمي عن أبي هريرة وفي سنده عمر بن إبراهيم الكردي وضاع.

(٤) في ب : كلها.

(٥) ذكره الرازي في «تفسيره» (٣ / ١١٤).

٢٧٨

وقيل : المراد بوفاء العهد : الإتيان بما أمر الله ـ تعالى ـ به ، والانتهاء عمّا نهى الله عنه.

قوله تعالى : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ) الآية ، لما أمر تعالى بإتمام الكيل ، ذكر الوعيد الشديد في نقصانه كما في قوله تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطففين : ١ ـ ٣].

ثم قال تعالى : (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ).

وهذا هو النوع الثالث من الأوامر المذكورة ها هنا ، فالآية المتقدمة في إتمام الكيل ، وهذه في إتمام الوزن ، ونظيره قوله عزوجل : (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) [الرحمن : ٩] (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) [هود : ٨٥].

قرأ الأخوان (١) وحفص بكسر القاف هاهنا وفي سورة الشعراء ، والباقون بضمها فيهما ، وهما لغتان مشهورتان ، فقيل : القسطاس في معنى الميزان ، إلّا أنّه في العرف أكبر منه ، ولهذا اشتهر في ألسنة العامة أنّه القبّان ، وقيل : إنه بلسان الرّوم أو السرياني ، والأصح أنه لغة العرب ، وقيل أيضا القرسطون. وقيل : هو كل ميزان ، صغر أم كبر ، أي : بميزان العدل.

قال ابن عطيّة ـ رحمه‌الله ـ : هو عربيّ مأخوذ من القسط ، وهو العدل ، أي : زنوا بالعدل المستقيم ، واللفظة للمبالغة من القسط ، وردّه أبو حيّان باختلاف المادّتين ، ثم قال : «إلّا أن يدّعي زيادة السّين آخرا كقدموس ، وليس من مواضع زيادتها» ويقال بالسّين والصّاد.

فصل

اعلم أنّ التفاوت الحاصل بنقصان الكيل والوزن قليل ، والوعيد عليه شديد عظيم ، فيجب على العاقل الاحتراز منه ، وإنّما عظم الوعيد فيه ؛ لأنّ جميع الناس محتاجون إلى المعاوضات والبيع والشراء ، فبالغ الشّرع في المنع من التطفيف والنقصان ؛ لأجل إبقاء الأموال ؛ ومنعا من تلطيخ النفس بسرقة ذلك المقدار الحقير ، ثم قال : (ذلِكَ خَيْرٌ) ، أي الإيفاء بالتّمام والكمال خير من التطفيف بالقليل ؛ لأنّ الإنسان يتخلّص بالإيفاء عن ذكر القبيح في الدنيا ، والعقاب الشديد في الآخرة.

(وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) منصوب على التفسير ، والتأويل ما يئول إليه الأمر ؛ كقوله تعالى : (وَخَيْرٌ مَرَدًّا) [مريم : ٧٦] ، (وَخَيْرٌ أَمَلاً) [الكهف : ٤٦] (وَخَيْرٌ عُقْباً) [الكهف : ٤٤] ، وإنما حكم الله تعالى بأنّ عاقبة هذا الأمر أحسن العواقب ؛ لأنه إذا اشتهر في الدنيا بالاحتراز عن التطفيف ، أحبّه الناس ، ومالت القلوب إليه ، واستغنى في الزّمن القليل.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٣٨٠ ، والنشر ٢ / ٣٠٧ ، والتيسير ١٤٠ ، والإتحاف ٢ / ١٩٧ ، والحجة للقراء السبعة للفارسي ٥ / ١٠٦ ، والقرطبي ١٠ / ١٦٧ ، والبحر ٦ / ٣١ ، والحجة ٤٠٢ ، والدر المصون ٤ / ٣٨٩.

٢٧٩

وأمّا في الآخرة : فيفوز بالجنّة والثواب العظيم ، والخلاص من العقاب الأليم.

قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً)(٣٦)

لمّا شرح الأوامر الثلاثة ، عاد بعده إلى ذكر النّواهي ، فنهى عن ثلاثة أشياء ، أولها : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) العامّة على هذه القراءة ، أي : لا تتّبع ، من قفاه يقفوه إذا تتبّع أثره ، قال النابغة : [الطويل]

٣٤١٧ ـ ومثل الدّمى شمّ العرانين ساكن

بهنّ الحياء لا يشعن التّقافيا (١)

وقال الكميت : [الوافر]

٣٤١٨ ـ فلا أرمي البريء بغير ذنب

ولا أقفو الحواصن إن قفينا (٢)

وقرأ زيد (٣) بن عليّ : «ولا تقفو» بإثبات الواو ، وقد تقدّم في قراءة قنبل في قوله تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ) [يوسف : ٩٠] أن إثبات حرف العلّة جزما لغة قوم ، وضرورة عند غيرهم ، كقوله :

٣٤١٩ ـ ...........

من هجو زبّان لم تهجو ولم تدع (٤)

وقرأ (٥) معاذ القارىء «ولا تقف» بزنة تقل ، من قاف يقوف ، أي : تتبّع أيضا ، وفيه قولان :

أحدهما : أنه مقلوب ؛ من قفا يقفو.

والثاني ـ وهو الأظهر ـ : أنّه لغة مستقلة جيدة ؛ كجبذ وجذب ؛ لكثرة الاستعمالين ؛ ومثله : قعا الفحل الناقة وقاعها.

والباء في «به» متعلقة بما تعلّق به «لك» ولا تتعلق ب «علم» لأنه مصدر ، إلا عند من يتوسّع في الجارّ.

قوله تعالى : (وَالْفُؤادَ) قرأ (٦) الجرّاح العقيلي بفتح الفاء وواو خالصة ، وتوجيهها : أنه أبدل الهمزة واوا بعد الضمة في القراءة المشهورة ، ثم فتح فاء الكلمة بعد البدل ، لأنّها لغة في الفؤاد ، يقال : فؤاد وفآد ، وأنكر أبو حاتم هذه القراءة ، وهو معذور.

__________________

(١) ينظر : مجاز القرآن ١ / ٣٧٩ ، الطبري ١٥ / ٩٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٢ ، الدر المصون ٤ / ٣٨٩.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٦ / ٣٢ ، القرطبي ١٠ / ١٦٧ ، روح المعاني ١٥ / ٧٣ ، الدر المصون ٤ / ٣٨٩.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٦ / ٣٢ ، الدر المصون ٤ / ٣٩٠.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٦ / ٣٣ ، معاني القرآن للفراء ٢ / ١٢٣.

(٦) ينظر : القرطبي ١٠ / ١٦٨ ، والمحتسب ٢ / ٢١ ، والبحر المحيط ٦ / ٣٣.

٢٨٠